تفسير سورة آل عمران

فتح البيان
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة آل عمران
مدنية وهي مائتا آية هي مدنية قال القرطبي بإجماع. ومما يدل على ذلك ان صدرها الى ثلاث وثمانين آية نزل في وفد نجران. و كان قدومهم في سنة تسع من الهجرة واسمها في التوراة طيبة حكاه النقاش.

(الم) الله أعلم بمراده بذلك، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما يغني عن الإعادة
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم) الجملة مستأنفة أي هو المستحق للعبودية لا يستحقها أحد سواه، والحي هو الدائم الباقي الذي لا يصح عليه الموت، والقيوم هو القائم بذاته وبتدبير الخلق ومصالحهم فيما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم، وهو فيعول من قام، وقد تقدم تفسير الحي القيوم.
(نزّل) فيه أن وقت نزول هذه الآية لم يكن القرآن تكامل نزوله لأن صيغة التفعيل للدلالة على التنجيم (عليك الكتاب) الكتاب القرآن، وقدم الظرف على المفعول للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، والمراد في الماضي والمستقبل (بالحق) أي متلبساً به في أخباره، والحق الصدق وقيل الحجة.
(مصدقاً) حال آخر من الكتاب مؤكدة، وبهذا قال الجمهور، وجوز بعضهم أن تكون الحال منتقلة على معنى أنه مصدق لنفسه ولغيره (لما بين يديه) أي من الكتب المنزلة وهو من مجاز الكلام لأن ما بين يديه هو ما أمامه فسمى ما مضى بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره، واللام في " لما " دعامة لتقوية العامل.
171
(وأنزل التوراة والإنجيل) إنما قال هنا أنزل وفيما تقدم نزل لأن القرآن نزل منجماً مفصلاً في أوقات كثيرة، والكتابان نزلا دفعة واحدة ولم يذكر في الكتابين من أنزلا عليه، وذكر فيما تقدم أن الكتاب نزل على رسول الله - ﷺ - لأن القصد هنا ليس إلا ذكر الكتابين لا ذكر من نزلا عليه وهما اسمان عبرانيان، وقيل سريانيان كالزبور، وقيل التوراة مشتقة من قولهم ورى الزند إذا قدح فظهر منه نار، وقيل من وريت في كلامي من التورية وهي التعريض، والإنجيل مشتق من النجل وهو التوسعة، والأول أولى.
172
(من قبل) أي قبل تنزيل الكتاب يعني القرآن (هدى) حال أو مفعول له (للناس) والمراد بالناس أهل الكتابين أو ما هو أعم لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع، قال ابن فورك للناس المتقين (وأنزل الفرقان) الفارق بين الحق والباطل وهو القرآن، وكرر ذكره تشريفاً له مع ما يشتمل عليه هذا الذكر الآخر من الوصف له بأنه يفرق بين الحق والباطل.
قال قتادة فأحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه وحد فيه حدوده وفرض فيه فرائضه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته ونهى عن معصيته.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير أي الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره، وذكر التنزيل أولاً والإنزال ثانياً لكونه جامعاً بين الوصفين فإنه أنزل إلى سماء الدنيا جملة ثم نزل منها إلى النبي - ﷺ - مفرقاً منجماً على حسب الحوادث كما سبق، وقيل إنهما لمجرد التعدية والجمع بينهما للتفنن وهو الأولى، وقيل أراد بالفرقان جميع الكتب المنزله من الله تعالى على رسله وقيل الزبور لاشتماله على المواعظ الحسنة والأول أولى.
(إن الذين كفروا) قيل أراد بهم نصارى وفد نجران كفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل إن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ فهو يتناول كل من كفر بشيء من آيات الله (بآيات الله) أي بما يصدق
172
عليه أنه آية من الكتب المنزلة وغيرها أو بما في الكتب المنزلة المذكورة على وضع آيات الله موضع الضمير العائد إليها، وفيه بيان الأمر الذي استحقوا به الكفر.
(لهم) بسبب هذا الكفر (عذاب شديد) أي عظيم في الدنيا بالسيف وفي الآخرة بالخلود في النار (والله عزيز) لا يغالبه مغالب (ذو انتقام) عظيم النقمة والسطوة، يقال انتقم منه إذا عاقبه بسبب ذنب قد تقدم منه، وقال محمد بن جعفر بن الزبير أي إن الله ينتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ومعرفته بما جاء منه فيها. (١)
_________
(١) وحين قدم وفد نجران إلى رسول الله ﷺ في ستين راكباً فيهم العاقب والسيد وخاصموه في عيسى عليه السلام.
فقالوا: إن لم يكن ولد الله فمن أبوه؟.
فنزلت فيهم هذه الآيات.
173
(إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) هذه الجملة استئنافية لبيان سعة علمه وإحاطته بالمعلومات لعلمه بما يقع في العالم من كلي وجزئي، وفيه رد على الحكماء في قولهم إنه لا يعلم الجزئيات إلا بوجه كلي لأنه في الحقيقة نفي للعلم بالجزئي، وعبر عن معلوماته بما في الأرض والسماء مع كونها أوسع من ذلك لقصور عباده عن العلم بما سواهما من أمكنة مخلوقاته وسائر معلوماته.
ومن جملة ما لا يخفى عليه إيمان من آمن من خلقه وكفر من كفر.
وقال محمد بن جعفر أي قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى إذ جعلوه رباً وإلهاً وعندهم من علمه غير ذلك عزة بالله وكفراً به لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء، وعيسى يخفى عليه بعض الأشياء باعترافهم فلا يصلح أن يكون إلهاً ففيه رد على النصارى في دعواهم ألوهية عيسى (١).
173
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧)
174
(هو الذي يصوركم في الأرحام) أصل اشتقاق الصورة من صاره على كذا أي أماله إليه فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة، والتصوير جعل الشيء على صورة، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف، والأرحام جمع رحم، وأصل الرحم من الرحمة لأنه مما يتراحم به، وهذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان إحاطة علمه وإن من جملة معلوماته ما لا يدخل تحت الوجود وهو تصوير عباده في أرحام أمهاتهم من نطف آبائهم.
(كيف يشاء) من حسن وقبيح وأسود وأبيض وطويل وقصير وذكر وأنثى وكامل وناقص، قيل وقد كان عيسى ممن صور في الأرحام لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه كما صور غيره من بني آدم، فكيف يكون إلهاً وقد كان بذلك المنزل، والمعنى أنه الذي يصوركم في ظلمات الأرحام صوراً مختلفة في الشكل والطبع واللون، متفاوتة في الخلقة وذلك من نطفة.
وعن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قالوا إذا وقعت النطفة في الأرحام صارت في الجسد أربعين يوماً ثم تكون علقة أربعين يوماً ثم تكون مضغة أربعين، يوماً، فإذا بلغ أن يخلق بعث الله ملكاً يصورها فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه فيخلط منه المضغة ثم يعجنه بها ثم يصورها كما يؤمر فيقول أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد وما رزقه وما عمره وما أثره وما مصائبه، فيقول الله ويكتب الملك، فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب، قيل هذا
174
أيضاً في الرد على النصارى حيث قالوا عيسى ولد الله وكيف يكون ولداً له وقد صوره الله في الرحم بل هو عبد مخلوق كغيره وأنه يخفى عليه ما لا يخفى على الله.
(لا إله إلا هو العزيز الحكيم
175
هو الذي أنزل عليك الكتاب) أي القرآن واللام للعهد وقدم الظرف وهو عليك لما يفيده من الاختصاص (منه آيات محكمات) أي بينات مفصلات أحكمت عبارتها من احتمال التأويل والاشتباه، كأنه تعالى أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها.
(هن أم الكتاب) أي أصله الذي يعول عليه في الأحكام ويعمل به في الحلال والحرام ويرد ما خالفه إليه، وهذه الجملة صفة لما قبلها، ولم يقل أمهات لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة أو لأنه واقع موقع الجمع أو لأنه بمعنى أصل الكتب والأصل يوحد.
(وأخر متشابهات) لا تفهم معانيها يعني أن لفظه يشبه لفظ غيره، ومعناه يخالف معناه، كأوائل السور، وأُخر جمع أخرى وإنما لم تنصرف لأنه عدل بها عن الآخر لأن أصلها أن يكون كذلك، وقال أبو عبيد لم تنصرف لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة وأنكر ذلك المبرد.
وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات والمتشابهات على أقوال، فقيل أن المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله والشعبي وسفيان الثوري، قالوا وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقيل المحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً، فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً.
وقيل إن المحكم ناسخه وحرامه وحلاله وفرائضه وما يؤمن به ويعمل عليه، والمتشابه منسوخه وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل عليه روي هذا عن ابن عباس.
175
وقيل المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ، روي هذا عن ابن مسعود وقتادة والربيع والضحاك.
وقيل المحكم الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له، والمتشابه ما فيه تصريف وتحريف وتأويل، قاله مجاهد وابن إسحق، قال ابن عطية وهذا أحسن الأقوال.
وقيل المحكم ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره، والمتشابه ما يرجع فيه إلى غيره، قال النحاس وهذا أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات.
قال القرطبي ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية وهو الجاري على وضع اللسان وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم والإحكام الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، واتقان تركيبها، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال.
وقال ابن خوازمنداد: للمتشابه وجوه ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى كما في الحامل المتوفى عنها زوجها فإن من الصحابة من قال: إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر والعشر. ومنهم من قال بالعكس، وكاختلافهم في الوصية للوارث وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه، وكتعارض الأخبار وتعارض الأقيسة، هذا معنى كلامه.
والأولى أن يقال إن المحكم هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه أو لا يظهر دلالته لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره.
وإذا عرفت أن الاختلاف الذي قدمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها.
176
وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى علمه سبيل.
والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه، ولا شك أن مفهوم المحكم والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه، فإن مجرد الخفاء أو عدم الظهور أو الاحتمال أو التردد يوجب التشابه.
وأهل القول الثاني خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال، والمتشابه بما فيه احتمال، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم والمتشابه لا كلها.
وهكذا أهل القول الثالث فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها.
وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث، والأمر أوسع مما قالوه جميعاً.
وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف والتحريف، وجعلوا المتشابه مقابله، وأهملوا ما هو أهم من ذلك مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف وتحريف كفواتح السور المقطعة.
وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه، والمتشابه بما لا يقوم بها، وأن هذا هو بعض أوصافهما.
وصاحب القول السابع وهو ابن خوازمنداد عمد إلى صورة الوفاق فجعلها محكماً، وإلى صورة الخلاف والتعارض فجعلها متشابهاً فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى أو غير مفهوم.
وعن ابن عباس قال المحكمات ثلاث آيات من آخر سورة الأنعام (قل تعالوا) والآيتان بعدها، وفي رواية عنه قال: من هنا (قل تعالوا) إلى ثلاث آيات، ومن هنا (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) إلى ثلاث آيات بعدها.
وأقول: رحم الله ابن عباس ما أقل جدوى هذا الكلام المنقول عنه، فإن تعيين ثلاث آيات أو عشر أو مائة من جميع آيات القرآن ووصفها بأنها محكمة ليس تحته من الفائدة شيء فالمحكمات هي أكثر القرآن على جميع الأقوال حتى
177
على قوله المنقول عنه قريباً من أن المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به، والمتشابه ما يقابله، فما معنى تعيين تلك الآيات من آخر سورة الأنعام.
وقيل المحكمات ما أطلع الله عباده على معناه، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، فلا سبيل لأحد إلى معرفته نحو الخبر عن أشراط الساعة.
وقيل المحكم سائر القرآن، والمتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور، وقيل إن المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، والمتشابه ما تكررت ألفاظه، وقيل غير ذلك وللسلف أقوال كثيرة هي راجعة إلى ما قدمنا في أول هذا البحث.
(فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ميل عن الحق كوفد نجران وغيرهم، والزيغ الميل ومنه زاغت الشمس وزاغت الأبصار. ويقال زاغ يزيغ زيغاً إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وزاغ وزال ومال متقاربة لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل، وقال الراغب: الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين.
(فيتبعون ما تشابه منه) أي يحيلون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، وهذه الآية تعم كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق، وسبب النزول نصارى نجران فيتعلقون بالمتشابه من الكتاب فيشككون به على المؤمنين ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء.
(ابتغاء الفتنة) أي طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبس عليهم وإفساد ذوات بينهم لا تحرياً للحق (وابتغاء تأويله) أي تفسيره على الوجه الذي يريدونه ويوافق مذاهبهم الفاسدة.
178
قال الزجاج المعنى أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله، الدليل على ذلك قوله (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب (يقول الذين نسوه) أي تركوه (قد جاءت رسل ربنا بالحق) أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله أولوا الألباب) قالت قال " إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم " وفي لفظ " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك سماهم الله فاحذروهم " هذا لفظ البخاري (١).
ولفظ ابن جرير وغيره فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله فلا تجالسوهم وأخرج الطبراني وأحمد والبيهقي وغيرهم عن أبي أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: هم الخوارج (٢).
وقال ابن القيم في الإعلام إذا سئل أحد عن تفسير آية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة لموافقة نحلته وهواه، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الكلام قديماً وحديثاً.
وقال أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية ذهب أئمة السلف إلى الإنكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً وندين لله به إتباع سلف الأمة. وقد درج صحابة
_________
(١) مسلم ٢٦٦٥ البخاري ٩٨٥.
(٢) ابن كثير ١/ ٣٤٦.
179
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمثقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، ولو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محبوباً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى.
وقال الغزالي: الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع وبعد البلوغ بقرائن يتعذر التعبير عنها، وقد اتفقت كلمة الأئمة الأربعة على ذم الكلام وأهله.
وقال بعض أهل العلم كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله - ﷺ - من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية، وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله فيهم (ولكم الويل مما تصفون) انتهى.
ولو علم المتأولون كلام الله ورسوله - ﷺ - بالتأويلات التي لم يردها ولم يدل عليها كلامه، أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة وأي بناء للإسلام هدموا بها وأي معاقل وحصون استباحوها، كان أحدهم لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه أن يتعاطى شيئاً من ذلك، فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذراً له فيما تأوله هو وقال ما الذي حرم على التأويل وأباحه لكم؟
فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد، وكان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين، وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة، وكذلك
180
القدرية في نصوص القدر، وكذلك الحرورية وغيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم وكذلك القرامطة والباطنية والمتصوفة طردت الباب وحملت الوادي على القرى وتأولت الدين كله.
فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلف الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل، وهل وقعت في الأمة فتنة صغيرة أو كبيرة إلا بالتأويل، فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط بل سائر أديان الرسل لم تزل على الإستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد.
وقد تواترت البشارات بصحة نبوة محمد - ﷺ - في الكتب المتقدمة ولكن سلطوا عليها التأويلات فافسدوها كما أخبر سبحانه عنهم من التحريف والتبديل والكتمان، والتحريف: تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يردها المتكلم، والتبديل تبديل لفظه بلفظ آخر والكتمان جحده، وهذه الأودات الثلاثة منها غيرت الأديان والملل.
وإذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى فساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد مثله في شيء من الأديان. ودخلوا إلى ذلك من باب التأويل، وكذلك زنادقة الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى فساد ديانات الرسل بالتأويل، ومن بابه دخلوا وعلى أساسه بنوا وعلى نقطه حطوا.
والمتأولون أصناف عديدة بحسب الباعث لهم على التأويل وبحسب قصور أفهامهم ورقودها وأعظمهم توغلاً في التأويل الباطل من قصد قصده وفهمه كما شاء قصده وقصر فهمه كان تأويله أشد إنحرافاً.
وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء السلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن
181
الزبير وهلم جرا بالتأويل، وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والإسماعيلية والنصرية من باب التأويل.
فما امتحن الإسلام بمحنة إلا وسببها التأويل، فإن محنته إما من المتأولين وإما أن تسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل أو خالفوا في ظاهر التنزيل، وتعللوا بالأباطيل.
وما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل حتى رفع رسول الله - ﷺ - يديه فتبرأ إلى الله من فعل المتأول لقتلهم وأخذ أموالهم.
وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله - ﷺ - غير التأويل حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل؟.
وما الذي سفك في دم أمير المؤمنين عثمان ظلماً وعدواناً، وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل؟.
وما الذي سفك دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل.
وما الذي أراق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟.
وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل.
وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها غير التأويل؟.
وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقاً من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟.
وما الذي سلط سوق التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟.
وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟.
182
وهل فتح باب التأويل إلا مضادة ومناقضة لحكم الله في تعليمه عباده البيان الذي امتن في كتابه على الإنسان بتعليمه إياه، فالتأويل بالألغاز والأحاجي والأغلوطات أولى منه بالبيان، وهو فرق بين دفع حقائق ما أخبرت به الرسل عن الله وأمرت به بالتأويلات الباطلة المخالفة له، وبين رده وعدم قبوله، ولكن هذا رد جحود ومعاندة وذاك رد خداع ومصانعة.
قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى بالكشف عن مناهج الأدلة وقد ذكر التأويل وجنايته على الشريعة إلى أن قال:
(وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) وهؤلاء أهل الجدل والكلام وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيراً مما ظنوه ليس على ظاهره وقالوا إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أمر الله به في صورة المتشابه إبتلاء لعباده واختباراً لهم، ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول إن كتاب العزيز إنما جاء معجزاً من جهة الوضوح والبيان فما أبعد من مقصد الشارع من ْقال فيما ليس بمتشابه أنه متشابه، ثم أول ذلك المتشابه بزعمه، وقال لجميع الناس إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه.
قال فهذه هي حالة الفرق الحادثة في هذه الشريعة وذلك أن كل فرقة منهم تأولت غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه هو الذي قصده الشرع حتى تمزق الشرع كل ممزق، وبعد جداً عن موضوعه الأول.
ولما علم صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال - ﷺ - " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (١) " يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله.
وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد
_________
(١) أبو داوود السنن ١، ابن ماجه كتاب الفتن باب ١٧.
183
والعارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح، وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى، هذا كلامه بلفظه.
ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين وما نال الأمم قديماً وحديثاً بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدة أسفار والله المستعان.
(وما يعلم تأويله إلا الله) التأويل يكون بمعنى التفسير كقولهم تأويل هذه الكلمة على كذا أي تفسيرها ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه، واشتقاقه من آل الأمر إلا كذا يؤول إليه أي صار وأولته تأويلاً أي صيرته، وهذه الجملة حالية أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أنه ما يعلم تأويله إلا الله.
وقد اختلف أهل العلم في قوله (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) هل هو كلام مقطوع عما قبله أو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله وأن الكلام تم عند قوله: (إلا الله) وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والفراء والأخفش وأبي عبيد وحكاه ابن جرير الطبري عن مالك، واختاره، وحكاه الخطابي عن ابن مسعود وأبي بن كعب.
قال: وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله وزعم أنهم يعملونه، قال واحتج له بعض أهل اللغة فقال معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا به، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكباً يعني أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله عبد الله يتكلم يصلح بين الناس فكان يصلح حالاً، فقول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده.
184
وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق وينسبه لنفسه فيكون له في ذلك شريك ألا ترى قوله عز وجل (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) وقوله: (لا يجليها لوقتها إلا هو) وقوله: (كل شيء هالك إلا وجهه) فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره وكذلك قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله) ولو كانت الواو في قوله (والراسخون) للنسق لم يكن لقوله (كل من عند ربنا) فائدة انتهى.
قال القرطبي ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم ويقولون على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين.
ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله (يقولون آمنا به) حالاً من أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا، وليس الأمر كذلك فالفعل مذكور وهو قوله (وما يعلم تأويله) ولكنه جاء الحال من المعطوف وهو قوله (الراسخون) دون المعطوف عليه وهو قوله (إلا الله) وذلك جائز في اللغة العربية وقد جاء مثله في الكتاب العزيز، ومنه قوله تعالى (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) إلى قوله (والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا) الآية وكقوله (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) أي وجاءت الملائكة صفاً صفاً.
ولكن ههنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الاسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال إلا في هذه الحالة الخاصة، فاقتضى هذا أن جعل قوله (يقولون آمنا به) حالاً غير
185
صحيح، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله (والراسخون في العلم) مبتدأ خبره يقولون.
قال البغوي وهذا أقيس بالعربية وأشبه بظاهر الآية.
ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك، ويجاب عن هذا بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلاً هو من رسوخهم، لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه، وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ، وناهيك بهذا من رسوخ.
وأصل الرسوخ في لغة العرب الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض، فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم من الله من ترك اتباع المتشابه وإرجاع علمه إلى الله سبحانه.
ومن أهل العلم من توسط بين المقالين فقال التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان (أحدهما) التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤل أمره إليه ومنه قوله (هذا تأويل رؤياي) ومنه قوله (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمها إلا الله عز وجل، ويكون قوله (والراسخون في العلم) مبتدأ، ويقولون آمنا به خبره.
وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله (نبئنا بتأويله) أي تفسيره فالوقف على (والراسخون في العلم) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون (يقولون آمنا به) حالاً منهم.
ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله، وأطنب في ذلك، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك.
186
قال القرطبي: قال شيخنا أحمد بن عمرو هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بعلمه وهذا لا يتعاطى علمه أحد، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم التشابه، فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم انتهى.
وقال الرازي: لو كان الراسخون في العلم عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه فإنهم لما عرفوه بالدلائل صار الإيمان به كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به بخصوصه مزيد مدح.
وأقول هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم والمتشابه، وقد قدمنا ما هو الصواب في تحقيقهما ونزيدك ههنا إيضاحاً وبياناً فنقول:
إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه فواتح السور فإنها، غير متضحة المعنى ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ويعرف عرف الشرع ما معنى (الم، المر، حم، طس طسم) ونحوها لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ولا من كلام الشرع فهي غير متضحة المعنى لا باعتبارها في نفسها ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم والألفاظ العربية التي لا يوجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح وما في قوله (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) إلى آخر الآية ونحو ذلك.
وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره كورود
187
الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر باعتبار نفسه ولا باعتبار أمر آخر يرجحه.
وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب أو في عرف الشرع أو باعتبار غيره وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانهما في موضع آخر في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة، والأمور التي تعارضت دلالتها ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك ولا ريب أن هذه من الحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب.
فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ومزالق وقعت للناس في هذا المقام، حتى صارت كل طائفة تسمى ما دلّ على ما تذهب إليه محكماً، وما دلّ على ما يذهب إليه ما يخالفها متشابها، سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا فعليه بمؤلفاتهم.
واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم، لكن لا بهذا المعنى الوارد في الآية هذه بل بمعنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى (كتاب أحكمت آياته) وقوله (تلك آيات الكتاب الحكيم) والمراد بالمحكم بهذا المعنى أنه صحيح الألفاظ قويم المعنى، فائق في البلاغة والفصاحة على كل كلام.
وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، بل بمعنى آخر، ومنه قوله (كتاباً متشابهاً) والمراد بالمتشابه بهذا المعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة والفصاحة والحسن والبلاغة
188
وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد منها أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ومشقة، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق وهم الأئمة المجتهدون.
وقد ذكر الزمخشري والرازي وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها، وبقيتها لا تستحق الذكر ههنا.
وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا (١).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر، ما عرفتم فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلا عالمه " (٢)، وإسناده صحيح.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: تفسير القرآن على أربعة وجوه، تفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعذر الناس بجهالته من حلال أو حرام، وتفسير تعرفه العرب بلغتها، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله، من ادعى علمه فهى كاذب.
وأخرج الدارمي في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له ضبيع قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال من أنت فقال أنا ضبيع فقال وأنا عبد الله عمر، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى دمي رأسه فقال
_________
(١) رواه الحاكم ٢/ ٢٨٩.
(٢) أحمد بن حنبل ٢/ ٣٣٠.
189
يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي، وأخرجه الدارمي أيضاً من وجه آخر وفيه أنه ضربه ثلاث مرات يتركه في كل مرة حتى يبرأ ثم يضربه وأصل القصة أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن أنس.
وأخرج الدارمي وابن عساكر أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوا ضبيعاً. وقد أخرج هذه القصة جماعة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة وواثلة ابن الأسقع وأبي الدرداء أن رسول الله - ﷺ - سئل عن الراسخين في العلم فقال: " من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم " (١).
وأخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " الجدال في القرآن كفر " (٢).
وأخرج نصر المقدسي في الحجة عن ابن عمر قال: خرج رسول الله - ﷺ - ومن وراء حجرته قوم يتجادلون في القرآن فخرج محمرة وجنتاه كأنما تقطران دماً فقال: " يا قوم لا تجادلوا بالقرآن فإنما ضل من كان قبلكم بجدالهم. إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً فما كان من محكمه فاعملوا به، وما كان متشابهه فآمنوا به " (٣).
(كل من عند ربنا) فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم والمتشابه أي كله أو المحذوف غير ضمير أي كل واحد منهما، وهذا من تمام المقول المذكور قبله (وما يذَّكر إلا أولوا الألباب) أي العقول الخالصة وهم الراسخون في العلم الواقفون عند متشابهه العاملون بمحكمه بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣٤٧.
(٢) أحمد بن حنبل ٢، ٢٥٨، ٤٧٨، ٤٩٨.
(٣) ابن كثير ١/ ٣٤٦ - ٣٤٧.
190
(٨) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١)
191
(ربنا لا تزغ قلوبنا) قال ابن كيسان سألوا أن لا يزيغوا فتزيغ قلوبهم نحو قوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) كأنهم لما سمعوا قوله تعالى (وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) قالوا ربنا لا تزغ قلوبنا باتباع المتشابه (بعد إذ هديتنا) إلى الحق بما أذنت لنا من العمل بالآيات المحكمات.
(وهب لنا من لدنك رحمة) أي كائنة من عندك، ومن لابتداء الغاية ولدن بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وفيه لغات أخر هذه أفصحها، وهو ظرف مكان وقد يضاف إلى الزمان، وتنكير رحمة للتعظيم أي رحمة عظيمة واسعة تزلفنا إليك ونفوز بها عندك، أو توفيقاً للثبات على الحق أو مغفرة للذنوب (إنك أنت الوهاب) لكل مسؤول تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤول.
وهذا العموم مفهوم من عدم ذكر الموهوب، فالتخصيص بموهوب مسؤول دون آخر تخصيص بلا مخصص، وفيه دليل على أن الهدى والضلال من الله وأنه متفضل بما ينعم به على عباده لا يجب عليه شيء لأنه وهاب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم أن النبي - ﷺ - كان يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ثم قرأ (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) (١) الآية " وقد ورد نحوه من طرق أخر.
_________
(١) أحمد ٤/ ١٨٢، ابن ماجه مقدمة ١٣.
(ربنا إنك جامع الناس) أي باعثهم ومحييهم بعد تفريقهم وهو من إضافة الفاعل إلى المفعول (ليوم) هو يوم القيامة أي لحساب يوم أو لجزاء يوم على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه (لا ريب فيه) أي في وقوعه ووقوع ما فيه من الحساب والجزاء، وقد تقدم تفسير الريب (إن الله لا يخلف الميعاد) تعليل لمضمون ما قبلها أي أن الوفاء بالوعد شأن الإله سبحانه، وخُلفُه يخالف الألوهية كما أنها تنافيه، وإظهار الاسم الجليل لإبراز كمال التعظيم والإجلال الناشىء من ذكر اليوم المهيب الهائل بخلاف ما في آخر هذه السورة فإنه مقام طلب الإنعام.
والميعاد مِفعال من الوعد بمعنى المصدر لا الزمان والمكان. قاله أبو البقاء، وإليه أشار في التقرير، وفيه التفات من الخطاب ويحتمل أن يكون من كلامه تعالى، والغرض من الدعاء بذلك بيان أن همهم أمر الآخرة ولذلك سألوا الثبات على الهداية لينالوا ثوابها.
[أخرج ابن النجار في تاريخه عن جعفر بن محمد الخلدي قال روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه رده الله عليه ويقول بعد قراءتها يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين مالي إنك على كل شيء قدير].
(إن الذين كفروا) المراد بالذين كفروا جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف، وقيل وفد نجران، وقيل قريظة، وقيل النضير، وقيل مشركو العرب (لن تغني) أي لن تنفع ولن تدفع (عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله) أي من عذابه (شيئاً) أي شيئاً من الإغناء، ومن لابتداء الغاية مجازاً، وقيل إن كلمة من بمعنى عند أي لها تغني عند الله شيئاً قاله أبو عبيد وقيل هي بمعنى بدل، والمعنى من رحمة الله، قاله القاضي وهو بعيد، قال أبو حيان أنكره أكثر النحاة بل هي لابتداء الغاية كما قاله المبرد.
192
(وأولئك هم وقود النار) الوقود اسم للحطب. وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة أي هم حطب جهنم الذي تُسَعَّر به، والجملة مستأنفة مقررة لقوله: (لن تغنى عنهم أموالهم) الآية، وقرىء وقود بضم الواو وهو مصدر أي هم أهل وقود.
193
(كدأب آل فرعون) الدأب الاجتهاد، يقال دأب الرجل في عمله يدأب دأباً ودؤباً إذا جد واجتهد، والدائبان الليل والنهار، والدأب الحال والعادة والشأن. والمراد هنا كعادة آل فرعون وشأنهم وحالهم، وقال ابن عباس كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر. وقيل كسنة آل فرعون.
واختلفوا في الكاف فقيل دأبهم كدأب آل فرعون مع موسى. وقال الفراء كفرت العرب ككفر آل فرعون، وأنكره النحاس. وقيل أخذهم أخذة كما أخذ آل فرعون. وقيل لم تغن عنهم غناء كما لم تغن عن آل فرعون.
وقيل العامل فعل مقدر من لفظ الوقود ويكون التشبيه في نفس الإحراق قالوا ويؤيده قوله تعالى (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً) والقول الأول هو الذي قاله جمهور المحققين ومنهم الأزهري.
(والذين من قبلهم) أي من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة الماضية مثل عاد وثمود وغيرهم أي وكدأب الذين من قبلهم (كذبوا بآياتنا) لما جاءتهم بها الرسل يحتمل أن يراد بالآيات المتلوة. ويحتمل أن يراد بها الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية ويصح إرادة الجميع. وقال في الأنفال (كذبوا) وفي موضع آخر منها (كفروا) تفننا جريا على عادة العرب في تفننهم في الكلام.
(فأخذهم الله بذنوبهم) أي فعاقبهم بسبب تكذيبهم. أو المراد سائر ذنوبهم التي من جملتها تكذيبهم (والله شديد العقاب) أي شديد عقابه.
فالإضافة غير محضة، وقيل المعنى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الماضية فأخذناهم فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم.
193
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣)
194
(قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم) قيل هم اليهود.
وقيل هم مشركو مكة وقد صدق الله وعده بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وفتح خيبر، وضرب الجزية على سائر اليهود ولله الحمد.
وقرىء الفعلان بالتاء والياء فعلى الأولى معناه قل لهم ستغلبون وتحشرون. وعلى الثانية معناه بلغهم يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم سيغلبون ويحشرون (وبئس المهاد) يحتمل أن يكون من تمام القول الذي أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله لهم، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة تهويلاً وتفظيعاً أي بئس ما مهد لهم في النار، والمهاد الفراش.
(قد كان لكم آية) أي علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم.
وهذه الجملة من تمام القول المأمول به لتقرير مضمون ما قبله. والخطاب لليهود وقيل لجميع الكفار. وقيل للمؤمنين وعلى الأخيرين تكون الآية مستأنفة غير مرتبطة بما قبلها.
ولم يقل (كانت) لأن التأنيث غير حقيقي، وقيل إنه رد المعنى إلى البيان فمعناه قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى وترك اللفظ، وقال الفراء إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والإسم المؤنث فذكر الفعل، وكل ما جاء من هذا فهذا وجهه، ومعنى الآية قد كان لكم عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون.
(في فئتين) أي فرقتين، وأصلها فيء الحرب لأن بعضهم يفيء إلى
194
بعض، أي يرجع، والفئة الجماعة ولا واحد لها من لفظتها وجمعها فئات، وقد تجمع بالواو والنون جبراً لما نقص، وسميت الجماعة من الناس فئة لأنه يفاء إليها أي يرجع في وقت الشدة قاله القرطبي، وقال الزجاج الفئة الفرقة مأخوذ من فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته.
(التقتا) لا خلاف في أن المراد بالفئتين هما المقتتلتان يوم بدر، وإنما وقع الخلاف في المخاطب بهذا الخطاب، فقيل المخاطب به المؤمنون وبه قال ابن مسعود والحسن، وقيل اليهود، وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت نفوسهم وتشجيعها، وفائدته إذا كان مع اليهود عكس الفائدة المقصودة بخطاب المسلمين، وقيل هو خطاب لكفار مكة.
(فئة تقاتل في سبيل الله) أي في طاعة الله وهم رسول الله - ﷺ - وأصحابه، وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار، وكان صاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان، وكان من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف وأكثرهم رجالة.
(وأخرى كافرة) وهم مشركو مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة، وكان رأسهم عتبة بن ربيعة، وكان فيها مائة فرس، وكانت وقعة بدر أول مشهد شهده رسول الله - ﷺ - بعد الهجرة.
وفي الكلام شبه احتباك تقديره فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الشيطان، فحذف من الأول ما يفهم من الثاني، ومن الثاني ما يفهم من الأول.
(يرونهم مثليهم رأي العين) قال أبو علي الفارسي: الرؤية في هذه الآية رؤية العين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد، ويدل عليه قوله (رأي العين) والمراد أنه يرى المشركون المؤمنون مثلى عدد المشركين أو مثلي عدد المسلمين.
195
وقد ذهب الجمهور إلى أن فاعل يرون هم المؤمنون، والمفعول هم الكفار، والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين أي يرى المسلمون المشركين مثلَي ما هم عليه من العدد، وفيه بُعد، إذ يلزم أن يكثر الله المشركين في أعين المسلمين، وقد أخبرنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، وأن يكون للمسلمين فيكون المعنى يرى السلمون المشركين مثلي المسلمين ليطمعوا فيهم، وقد كانوا علموا من قوله تعالى (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) أن الواحد يغلب الأثنين، وهذا على قراءة الجمهور بالياء التحتية.
وأما على قراءة نافع بالفوقية ففيها وجهان (الأول) أن يكون الخطاب في ترونهم للمسلمين والضمير المنصوب فيه للكافرين، والضمير المجرور في مثليهم أيضاً للمسلمين بطريق الالتفات فيكون المعنى ترون أيها المسلمون المشركين مثليكم في العدد، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عِدتهم لتقوى أنفسهم.
(والثاني) أن يكون الضمير المنصوب أيضاً للمسلمين أي ترون أيها المسلمون أنفسكم مثلي ما أنتم عليه من العدد لتقوى بذلك أنفسكم.
وقد قال من ذهب إلى التفسير الأول أعني أن فاعل الرؤية المشركون، وأنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم، أنه لا يناقض هذا ما في سورة الأنفال من قوله تعالى (ويقللكم في أعينهم) بل قللوا أولا في أعينهم ليلاقوهم ويجترؤا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ورأي العين مصدر مؤكد لقوله (يرونهم) أي رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها.
(والله يؤيد بنصره من يشاء) أي يقوي من يشاء أن يقويه ولو بدون الأسباب العادية، ومن جملة ذلك تأييد أهل بدر بتلك الرؤية.
(إن في ذلك) أي في رؤية القليل كثيراً (لعبرة) فعلة من العبور كالجلسة من الجلوس، والمراد الاتعاظ، والتنكير للتعظيم أي عبرة عظيمة وموعظة جسيمة (لأولي الأبصار).
196
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (١٤) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥)
عن الربيع يقول قد كان لكم في هؤلاء عبرة وتفكُّر، أيدهم الله ونصرهم على عدوهم يوم بدر كان المشركون تسعمائة وخمسين رجلاً وكان أصحاب محمد - ﷺ - ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
وعن ابن مسعود قال هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً، وعن ابن عباس قال أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً وكان المشركون مثليهم ستمائة وستة وعشرين فأيد الله المؤمنين.
197
(زين للناس حب الشهوات) كلام مستأنف لبيان حقارة ما تستلذه الأنفس في هذه الدار، وتزهيد الناس فيها وتوجيه رغباتهم إلى ما عند الله، والمزين قيل هو الله سبحانه وبه قال عمر كما حكاه عنه البخاري وغيره، ويؤيده قوله تعالى (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم) ويؤيده قراءة مجاهد (زين) على البناء للفاعل، وقيل المزين هو الشيطان وبه قال الحسن وقد جاء صريحاً في قوله (وزين لهم الشيطان أعمالهم) والآية في معرض الذم وهو قول طائفة من المعتزلة والأول أولى.
والمراد بالناس الجنس، والشهوات جمع شهوة وهي نزوع النفس إلى ما تريده وتوقان النفس إلى الشيء المشتهى، والمراد هنا المشتهيات عبر عنها
197
بالشهوات مبالغة في كونها مرغوباً فيها أو تحقيراً لها لكونها مسترذلة عند العقلاء من صفات الطبائع البهيمية، والشهوة إما كاذبة كقوله تعالى (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) أو صادقة كقوله (فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين).
قاله الكرخي، ووجه تزيين الله سبحانه لها ابتلاء عباده كما صرح به في الآية الاخرى.
(من النساء) بدأ بالنساء لكثرة تشوق النفوس إليهن والإستئناس والإلتذاذ بهن لأنهن حبائل الشيطان، وأقرب إلى الافتتان (والبنين) خصهم دون البنات لعدم الاطراد في محبتهن ولأن حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى.
(والقناطير المقنطرة) جمع قنطار، وهو اسم للكثير من المال، قال الزجاج القنطار مأخوذ من عند الشيء وإحكامه تقول العرب قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقد اختلف في تقديره على أقوال للسلف.
أخرج أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله - ﷺ -: " القنطار اثنا عشر ألف أوقية " (١).
وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال سئل رسول الله - ﷺ - عن القناطير المقنطرة فقال: " القنطار ألف أوقية " (٢)، ورواه ابن أبي حاتم عنه مرفوعاً بلفظ ألف دينار.
وأخرج ابن جرير عن أبي كعب قال: قال رسول الله - ﷺ - " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية " وبه قال معاذ بن جبل وابن عمر وأبو هريرة وجماعة من
_________
(١) ابن ماجة كتاب الآداب الباب الأول، الإمام أحمد ٢/ ٣٦٣.
(٢) كتاب النكاح ٢/ ١٧٨.
198
العلماء، قال ابن عطية وهو أصح الأقوال ولكن يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية.
وعن أبي سعيد الخدري قال القنطار ملء مسك الثور ذهباً، وعن ابن عمر سبعون ألفاً، وعن سعيد بن المسيب ثمانون ألفاً، وعن أبي صالح مائة رطل، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقالاً والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً وعن الضحاك قال هو المال الكثير من الذهب والفضة وعن السدى أن المقنطرة المضروبة، وقال ابن جرير الطبري معناها المضعفة، وقال القناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة.
وقال الفراء القناطير جمع القناطر، والمقنطرة جمع الجمع، فيكون تسعة قناطير، وقيل المقنطرة المكملة كما يقال بدرة مبدرة وألوف مؤلفة، وبه قال مكي وحكاه الهروي، وقال ابن كيسان لا يكون القنطرة أقل من سبع قناطير، وفي نونه قولان (أحدهما) وهو قول جماعة أنها أصلية وأن وزنه فِعلال كقرطاس (والثاني) أنها زائدة ووزنه فنعال.
(من الذهب والفضة) من بيانية وإنما بدأ بالذهب والفضة من بين سائر أصناف الأموال لأنهما قيم الأشياء قيل سمي الذهب ذهباً لأنه يذهب ولا يبقى، والفضة لأنها تنفض أي تتفرق.
(والخيل المسومة) عطف على النساء لا على الذهب لأنها لا تسمى قناطير قاله أبو البقاء وتوهم مثل هذا بعيد جداً فلا حاجة إلى التنبيه عليه، قيل هي جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط بل مفرده فرس، وسميت الأفراس خيلاً لاختيالها في مشيتها وقيل لأن الخيل لا يركبها أحد إلا وجد في نفسه مخيلة أي عجباً.
وقيل واحده خائل كراكب وركب وتاجر وتجر وطائر وطير، وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش، فسيبويه يجعله اسم جمع والأخفش يجعله جمع تكسير.
199
واختلفوا في معنى المسومة فقيل هي المرعية في المروج والمسارح يقال سامت الدابة والشاة إذا سرحت، وقيل هي المعدة للجهاد، وقيل المعلمة من السومة وهي العلامة أي التي يجعل عليها علامة لتتميز عن غيرها، قال ابن فارس في المجمل المسومة المرسلة وعليها ركبانها، قال ابن عباس هي الراعية والمطهمة الحسان وبه قال مجاهد، وقال عكرمة تسويمها حسنها أي الغرة والتحجيل، وقال ابن كيسان البلق.
(والأنعام) هي الإبل والبقر والغنم، فإذا قلت نعم فهي الإبل خاصة قاله الفراء وابن كيسان (والحرث) اسم لكل ما يحرث وهو مصدر سمي به المحروث تقول حرث الرجل حرثاً إذا أثار الأرض فيقع على الأرض والحرث والزرع، قال ابن الإعرابي الحرث التفتيش.
(ذلك) المذكور (متاع الحياة الدنيا) أي ما يتمتع به ثم يذهب ولا يبقى، وفيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة (والله عنده حسن المآب) أي المرجع وهو الجنة، يقال آب يؤب إياباً إذا رجع وفيه إشارة إلى أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها فيما يكون فيه صلاحه في الآخرة لأنها السعادة القصوى.
200
(قل أؤنبئكم) أي أخبركم استفهام تقرير وليس في القرآن همزة مضمومة بعد مفتوحة إلا ما هنا وما في (ص) (أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) وما في اقتربت (أأُلقي الذكر عليه) (بخير من ذلكم) أي بما هو خير لكم من تلك المستلذات ومتاع الدنيا وإبهام الخير للتفخيم.
ثم بينه بقوله (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار) خص المتقين لأنهم المنتفعون بذلك، ويدخل في هذا الخطاب كل من اتقى الشرك، وقال ابن عباس يريد المهاجرين والأنصار، والأول أولى.
200
(خالدين) أي مقدرين الخلود (فيها) إذا دخلوها (وأزواج مطهرة) من الحيض والنفاس والمنى والبزاق وغيرها مما يستقذر (ورضوان) بكسر أوله وضمه لغتان، وقد قرىء بهما في السبع في جميع القرآن إلا في المائدة فإنه بالكسر باتفاق السبعة، وهو قوله (من اتبع رضوانه) وهما بمعنى واحد وإن كان الثاني سماعياً والأول قياسياً والتنوين للتكثير أي رضاً كثيراً (من الله).
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً. أخرجه البخاري ومسلم (١)، والعبد إذا علم أن الله قد رضي عنه كان أتم لسروره وأعظم لفرحه.
(والله بصير بالعباد) أي عالم بمن يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا فيجازى كُلاَّ على عمله فيثيب ويعاقب على قدر الأعمال، وقيل بصير بالذين اتقوا فلذلك أعد لهم الجنات.
_________
(١) وفي حديث آخر رواه مسلم (٢٨٣٧) في نعيم الجنة. عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: " ينادي منادٍ: آن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وآن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وآن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وآن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً ".
201
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
202
(الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) في ترتيب هذا السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة وفيه رد على أهل الاعتزال لأنهم يقولون إن استحقاق المغفرة لا يكون بمجرد الإيمان، قاله الكرخي.
(الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين) قد تقدم تفسير الصبر والصدق والقنوت والإنفاق، عن قتادة قال هم قوم صبروا على طاعته وصبروا عن محارمه وصدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم وصدقوا في السر والعلانية والقانتون هم المطيعون (والمستغفرين) هم السائلون للمغفرة وقيل أهل الصلاة وقيل هم الذين يشهدون صلاة الصبح.
وعن ابن عباس قال أمرنا رسول- الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة، وعن سعيد الجريري قال بلغنا أن داود عليه السلام سأل جبريل أي الليل أفضل قال يا داود ما أدرى إلا أن العرش يهتز في السحر.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة أن رسول الله - ﷺ - قال: " ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من
202
مستغفر فاغفر له (١) " وفي الباب أحاديث وفيه وفي أمثاله مذهب السلف الإيمان به وإجراؤه على ظاهره ونفى الكيفية عنه وهو الحق.
(بالأسحار) جمع سحر بفتح الحاء وسكونها قال الزجاج هو من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر، وقال الراغب السحر اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار، ثم جعل ذلك اسماً لذلك الوقت، وقيل السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر، وقيل السحر عند العرب من آخر الليل ثم يستمر حكمه إلى الأسفار كله يقال له سحر، والسحر بفتح فسكون منتهى قصبة الحلقوم، وخص الأسحار لأنها من أوقات الإجابة أو لأنها وقت الغفلة ولذة النوم.
_________
(١) مسلم ١٦٨ البخاري ١٥٩٩. صحيح أبي داود/١١١٧ والدارمي والآجري وابن خزيمة باختلافات في الرواية. وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول يا نافع هل جاء السحر فإذا قال نعم أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح.. رواه الطبري.
203
(شهد الله) أي بين الله وأعلم، قال الزجاج الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبين، وقال أبو عبيدة شهد الله بمعنى قضى أي أعلم قال ابن عطية وهذا مردود من جهات، وقيل إنها شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة.
(أنه لا إله إلا هو) سئل بعض الإعراب ما الدليل على وجود الصانع فقال إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على وجود الصانع الخبير، وفي القرآن من دلائل التوحيد كثير طيب، وهو دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله.
(والملائكة) عطف على الاسم الشريف وشهادتهم إقرارهم بأنه لا إله إلا هو (وأولوا العلم) معطوف أيضاً على ما قبله وشهادتهم بمعنى الإيمان منهم
203
وما يقع من البيان للناس على ألسنتهم، وعلى هذا لا بد من حمل الشهادة على معنى يشمل شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم (١).
وقد اختُلف في أولي العلم هؤلاء من هم فقيل هم الأنبياء وقيل المهاجرون والأنصار، قاله ابن كيسان وقيل مؤمنو أهل الكتاب، قاله مقاتل، وقيل المؤمنون كلهم قاله السدى والكلبي وهو الحق إذ لا وجه للتخصيص، وفي ذلك فضيلة لأهل العلم جليلة ومنقبة نبيلة لقرنهم باسمه واسم ملائكته.
والمراد بأولي العلم هنا علماء الكتاب والسنة وما يتوصل به إلى معرفتهما إذ لا اعتداد بعلم لا مدخل له في العلم الذي اشتمل عليه الكتاب العزيز والسنة المطهرة.
(قائماً بالقسط) بالعدل في جميع أموره أو مقيماً له، وانتصاب قائماً على الحال من الاسم الشريف، قال جعفر الصادق: الأولى وصف وتوحيد والآتية رسم وتعليم أي قولوا (لا إله إلا هو) وقيل كرره للتأكيد، وفائدة تكريرها الاعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه، ففيه حث للعباد على تكريرها والاشتغال بها فإنه من اشتغل بها فقد اشتغل بأفضل العبادات، وقوله (العزيز الحكيم) لتقرير معنى الوحدانية (١).
_________
(١) وروى ابن السائب أن حبرين من أحبار الشام قدما النبي ﷺ فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي ﷺ عرفاه بالصفة.
فقالا: أنت محمد.
قال نعم.
قالا: وأحمد.
قال: نعم.
قالا: نسألك عن الشهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك.
فقال: سلاني.
فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتب الله.... فنزلت هذه الآية. فأسلما.
204
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠)
205
(إن الدين عند الله) جملة مستأنفة وآية مستقلة على قراءة كسر " إن " وأما على قراءة فتحها فهو من بقية الآية السابقة (الإسلام) يعني الدين المرضي هو الإسلام المبني على التوحيد كما قال تعالى (ورضيت لكم الإسلام دينا) قال الزجاج الدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه، والإسلام هو الدخول في السلم، وهو الإنقياد في الطاعة.
وقد ذهب الجمهور إلا أن الإسلام هنا بمعنى الإيمان وإن كانا في الأصل متغايرين كما في حديث جبريل الذي بين فيه النبي - ﷺ - معنى الإسلام والإيمان وصدقه جبريل وهو في الصحيحين وغيرهما، ولكن قد يسمى كل واحد منهما باسم الآخر وقد ورد ذلك في الكتاب والسنة.
قال قتادة الإسلام شهادة أن لا اله إلا الله والإقرار بما جاء به الرسول من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه لا يقبل غيره، وعن الضحاك قال لم يبعث الله رسولاً إلا بالإسلام، وعن الأعمش قال أنا أشهد بما شهد الله به واستودع الله هذه الشهادة وهي لي وديعة عند الله، وقرأ (إن الدين عند الله الإسلام، قالها مراراً).
قلت وأنا أيضاً أشهد كما شهد الأعمش وبالله التوفيق.
205
(وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) فيه الإخبار بأن اختلاف اليهود والنصارى كان لمجرد البغي بعد أن علموا بأنه يجب عليهم الدخول في دين الإسلام بما تضمنته كتبهم المنزلة إليهم، قال الأخفش وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى ما اختلف الذين أوتوا الكتاب أي بنو إسرائيل بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.
وفي التعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وقوله (إلا من بعد) زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد العلم أزيد في القباحة، وقوله بغياً بينهم زيادة ثالثة لأنه في حيز الحصر فيكون أزيد في القبح.
والكتاب هو التوراة والإنجيل، والمراد بهذا الخلاف الواقع بينهم هو خلافهم في كون نبينا - ﷺ - نبياً أم لا، وقيل في دين الإسلام فقال قوم إنه حق وقال قوم إنه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقاً، وقيل في التوحيد، فثلثت النصارى، وقالت اليهود عزير ابن الله. وقيل اختلافهم في نبوة عيسى، وقيل اختلافهم في ذات بينهم حتى قالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء.
قال أبو العالية بغياً على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها فقتل بعضهم بعضاً على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس وسلط الله عليهم الجبابرة.
(ومن يكفر بآيات الله) الدالة على أن الدين عند الله الإسلام أو بأي آية كانت، على أن يدخل فيها ما نحن فيه دخولاً أولياً (فإن الله سريع الحساب) يجازيه ويعاقبه على كفره بآياته، والإظهار في قوله (فإن الله) مع كونه مقام الإضمار للتهويل عليهم والتهديد لهم.
206
(فإن حاجوك) يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي خاصموك وجادلوك اليهود والنصارى بالشبه الباطلة: والأقوال المحرفة بعد قيام الحجة عليهم في أن الدين عند الله هو الإسلام (فقل أسلمت وجهي لله) أي أخلصت ذاتي لله وانقدت له بقلبي ولساني وجميع جوارحي، وعبر بالوجه عن سائر الذات لكونه أشرف أعضاء الإنسان وأجمعها للحواس، وقيل الوجه هنا بمعنى القصد (ومن اتبعن) عطف على فاعل أسلمت وجاز للفصل، وقال الزمخشري الواو بمعنى مع.
(وقل للذين أوتوا الكتاب) يعني اليهود والنصارى (والأميين) أي الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب، وقال ابن عباس هم الذين لا يكتبون (أأسلمتم) استفهام تقريري يتضمن الأمر أي أسلموا، كذا قال ابن جرير وغيره، وقال الزجاج أسلمتم تهديد، والمعنى أنه قد أتاكم من البراهين ما يوجب الإسلام فهل عملتم بموجب ذلك أم لا، تبكيتاً لهم وتصغيراً لشأنهم في قلة الإنصاف وقبول الحق لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف في إذعانه للحق (١).
(فإن أسلموا فقد) دخلت قد على الماضي مبالغة في تحقق وقوع الفعل وكأنه قرب من الوقوع (اهتدوا) أي ظفروا بالهداية التي هي الحظ الأكبر وفازوا بخيري الدنيا والآخرة (وإن تولوا) أي أعرضوا عن قبول الحجة ولم يعملوا بموجبها (فإنما عليك البلاغ) أي إنما عليك أن تبلغهم ما أنزل إليك ولست عليهم بمسيطر فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والبلاغ مصدر بمعنى التبليغ قيل الآية محكمة والمراد بها تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل منسوخة بآية السيف (والله بصير بالعباد) فيه وعد ووعيد لتضمنه أنه عالم بجميع أحوالهم.
_________
(١) ذكر ابن كثير: وهذه الآية وأمثالها من: أصرح الدلالات على عموم بعثته صلّى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق.
207
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
208
(إن الذين يكفرون بآيات الله) ظاهره عدم الفرق بين آية وآية وهم اليهود والنصارى (ويقتلون النبيين) يعني اليهود قتلوا الأنبياء (بغير حق) إنما قيد بذلك للإشارة إلا أنه كان بغير حق في اعتقادهم أيضاً فهو أبلغ في التشنيع عليهم (ويقتلون الذين يأمرون) بالمعروف وينهون عن المنكر (بالقسط) أي العدل (من الناس) قال المبرد كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون فدعوهم إلى الله فقتلوهم فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم ففيهم أنزلت الآية (فبشرهم بعذاب أليم) خبر لقوله (إن الذين يكفرون) وذهب بعض النحاة إلى أن الخبر قوله
(أولئك الذين حبطت أعمالهم) ومنهم سيبويه والأخفش، وذكر البشارة تهكم بهم.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيده بن الجراح قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة قال: رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية إلى قوله (وما لهم من ناصرين) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم
208
بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله في كتابه وأنزل الآية فيهم (١).
وعن ابن عباس بسند صحيح قال: بعث عيسى يحيى بن زكريا في اثني عشر رجلاً من الحواريين يعلمون الناس، فكان ينهى عن نكاح بنت الأخ وكان ملك له بنت أخ تعجبه فأرادها وجعل يقضي لها كل يوم حاجة فقالت لها أمها: إذا سألك عن حاجة فقولي: حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا فقال: سلي غير هذا فقالت: لا أسألك غير هذا، فلما أبت أمر به فذبح في طست فبدرت قطرة من دمه فلم يزل يغلي حتى بعث الله بختنصر، فدلت عجوز عليه فألقى في نفسه أن لا يزال يقتل حتى يسكن هذا الدم فقتل في يوم واحد من ضرب واحد وسن واحد سبعين ألفاً فسكن.
(أولئك الذين حبطت) أي بطلت (أعمالهم) كصدقة وصلة رحم (في الدنيا والآخرة) أي أنه لم يبق لحسناتهم أثر في الدنيا حتى يعاملوا فيها معاملة أهل الحسنات لعدم الإسلام بل عوملوا معاملة أهل السيئات فلعنوا وحل بهم الخزي والصغار، ولهم في الآخرة عذاب النار (وما لهم من ناصرين) يمنعونهم من العذاب.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣٥٥.
209
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من تصح منه الرؤية من حال هؤلاء وهم أحبار اليهود، والكتاب التوراة. وتنكير النصيب للتعظيم أي نصيباً عظيماً كما يفيده مقام المبالغة، والمراد بذلك النصيب ما بين لهم في التوراة من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقية الإسلام والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصه بهم، ومن قال إن التنكير
209
للتحقير فلم يصب، وفيه أن اختلافهم إنما كان بعد ما جاءهم العلم فلم ينتفعوا بذلك، وذلك بأنهم.
(يدعون إلى كتاب الله) الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة (ليحكم بينهم) إضافة الحكم إلى الكتاب هو على سبيل المجاز (ثم يتولى) عن مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وثم للاستبعاد لا للتراخي في الزمان (فريق منهم) يعني الرؤساء والعلماء (وهم معرضون) أي والحال أنهم معرضون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه مع علمهم به واعترافهم بوجوب الإجابة إليه.
قال السيوطي نزلت في اليهود، زنى منهم اثنان فتحاكموا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فحكم عليهما بالرجم، فأبوا فجيء بالتوراة فوجد فيها، فرجما فغضبوا (١).
_________
(١) زاد المسير/٣٦٦.
210
(ذلك) أي ما مرّ من التولي والإعراض (بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات) أي أربعين يوماً وهي مقدار عبادتهم العجل، وقد تقدم تفسير ذلك في البقرة، وقال مجاهد يعنون الأيام التي خلق الله فيها آدم (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) من الأكاذيب التي من جملتها هذا القول. أو قالوا إن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، أو أنه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذَّب أولادُه إلا تحلة القسم.
وقال قتادة: حين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل: قولهم نحن على الحق وأنتم على الباطل، معنى يفترون يكذبون ويحلفون.
210
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)
211
(فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) هو رد عليهم وإبطال لما غرهم من الأكاذيب باستعظام ما سيقع لهم وتهويل لما يحيق بهم من الأهوال، أي فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم الجزاء الذي لا يرتاب مرتاب في وقوعه فإنهم يقعون لا محالة فيه، ويعجزون عن دفعه بالحيل والأكاذيب.
قال الكسائي اللام في قوله ليوم بمعنى " في " وقال البصريون والمعنى لحساب يوم، وقال ابن جرير الطبري المعنى لما يحدث في يوم.
" (ووفيت كل نفس) " من أهل الكتاب وغيرهم (ما كسبت) أي جزاء ما كسبت من خير وشر على حذف المضاف (وهم لا يظلمون) بزيادة سيئة ولا ولا نقص حسنة من أعمالهم، والمراد كل الناس المدلول عليهم بكل نفس.
" (قل اللهم) " قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين أن أصل " اللهم " يا الله وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل فيه يا الله آمنا، قال النحاس هذا عند البصريين من الخطأ العظيم والقول في هذا ما قاله الأولون قال النضر ابن شميل من قال " اللهم " فقد دعا الله بجميع أسمائه.
(مالك) جنس (الملك) على الإطلاق، ومالك العباد وما ملكوا، وقيل المعنى مالك الدنيا والآخرة، وقيل الملك هنا النبوة، وقيل الغلبة، وقيل المال والعبيد، والظاهر شموله لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص.
(تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) المراد بما يؤتيه من الملك
211
وينزعه هو نوع من آنواع ذلك الملك العام، قيل نزل لما وعد - ﷺ - أمته ملك فارس والروم.
عن ابن عباس قال اسم الله الأعظم (قل اللهم مالك الملك -إلى قوله- بغير حساب).
وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني عن معاذ: " أنه شكا إلى النبي - ﷺ - دَيناً عليه فعلمه أن يتلو هذه الآية ثم يقول رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك اللهم أغنني من الفقر واقض عني الدين " وأخرجه الطبراني في الصغير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: " ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً لأداء الله عنك "، فذكره وإسناده جيد (١).
(وتعز من تشاء وتذل من تشاء) أي في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، يقال عز إذا غلب ومنه (وعزني في الخطاب) ويقال ذل يذل ذلاً إذا غلب وقهر.
(بيدك الخير) أي النصر والغنيمة، وقيل الألف واللام تفيد العموم، والمعنى بيدك كل الخيرات، وتقديم الخبر للتخصيص أي بيدك الخير لا بيد غيرك، وذكر الخير دون الشر لأن الخير تفضل محض بخلاف الشر فإنه قد يكون جزاء لعمل من وصل إليه، وقيل لأن كل شر من حيث كونه من قضائه سبحانه هو متضمن للخير، فأفعاله كلها خير، قاله القاضي كالكشاف، وقيل أنه حذف كما حذف في قوله: (سرابيل تقيكم الحر) قاله البغوي وأصله بيدك الخير والشر، وقيل خص الخير لأن المقام مقام دعاء (إنك على كل شيء قدير) تعليل لما سبق وتحقيق له.
_________
(١) الترمذي كتاب الدعوات باب ١١٠.
212
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
213
(تولج الليل في النهار) وهو أن تجعل الليل قصيراً وما نقص منه زائداً في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة، وذلك غاية طول النهار، ويكون الليل تسع ساعات وذلك غاية قصر الليل، وفيه دلالة على أن من قدر على أمثال هذه الأمور العظام المحيرة للعقول والأفهام، فقدرته على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم أهون عليه من كل هين، يقال ولج يلج من باب وعد ولوجاً ولجة كعدة والولوج الدخول والإيلاج الإدخال.
(وتولج النهار في الليل) أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة وذلك غاية طوله، ويكون النهار تسع ساعات وذلك غاية قصره، وقيل المعنى تعاقب بينهما ويكون زوال أحدهما ولوجاً في الآخر والأول أولى، قال ابن مسعود تأخذ الصيف من الشتاء وتأخذ الشتاء من الصيف.
(وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) قيل المراد إخراج الحيوان وهو حي من النطفة وهي ميتة، وإخراج النطفة وهي ميتة من الحيوان وهو حي، وقيل المراد إخراج الطائر وهو حي من البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية، وقال عكرمة النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة والسنبلة من الحبة.
وعن الحسن قال المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والمؤمن عبد حي الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد.
213
قلت ويدل له قوله تعالى (أو من كان ميتاً فأحييناه) وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن حاتم وابن مردويه عن عبيد الله بن عبد الله: أن خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث دخلت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: من هذه قيل: خالدة بنت الأسود، قال: سبحان الذي يخرج الحي من الميت، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافراً، وأخرج ابن سعد عن عائشة مثله.
(وترزق من تشاء بغير حساب) أي بغير تضييق ولا تقتير بل تبسط الرزق لمن تشاء وتوسعه عليه كما تقول فلان يعطى بغير حساب إذ المحسوب يقال للقليل.
قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه، بمعنى التعب قال تعالى (وترزق من تشاء بغير حساب) وبمعنى العدد قال تعالى (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب) وبمعنى المطالبة قال تعالى (فامنن أو امسك بغير حساب).
214
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء) فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار بسبب من أسباب المصادقة والمعاشرة كقرابة أو صداقة جاهلية ونحوهما، وعن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية ومثله قوله تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم) الآية وقوله (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وقوله (لا تجد قوماً يؤمنون بالله) الآية وقوله (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) وقوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء).
(من دون المؤمنين) أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالاً أو اشتراكاً (ومن يفعل ذلك) الاتخاذ المدلول عليه بقوله لا يتخذ (فليس من الله) أي من ولايته وقيل من دينه وقيل التقدير ليس كائناً من الله (في شيء) من الأشياء هو منسلخ عنه بكل حال، وبريء الله منه، وهذا أمر معقول إذ موالاة الله وموالاة الكفار ضدان لا يجتمعان.
214
(إلا أن تتقوا منم تقاة) على صيغة الخطاب بطريق الالتفات أي إلا أن تخافوا منهم أمراً يجب اتقاؤه وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال وتقاة مصدر واقع موقع المفعول به، وهو ظاهر قول الزمخشري وزنه فُعلة ويجمع على تُقى كرطبة ورطب، وأصله وقيه لأنه من الوقاية، والتقوى والتقى واحد، والتقاة التقية يقال أتقي تقيه وتقاة.
وفي القاموس تقيت الشيء اتقيه من باب ضرب، وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً، وخالف في ذلك قوم من السلف فقالوا لا تقيه بعد أن أعز الله الإسلام.
عن ابن عباس قال التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية الله فيتكلم به مخافة الناس، وقلبه مطمئن بالإيمان فإن ذلك لا يضره، إنما التقية باللسان، وعنه قال التقاة التكلم باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان ولا يبسط يده فيقتل ولا إلى إثم فإنه لا عذر له.
وعن أبي العالية قال: التقية باللن وليس بالعمل، وقال قتادة إلا أن تكون بينك وبينه قرابة فتصله لذلك.
وأخرج عبد بن حميد والبخاري عن الحسن قال التقية جائزة إلى يوم القيامة. وحكى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال إنا لنكشر (١) في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم.
ويدل على جواز التقية قوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) ومن القائلين بجواز التقية باللسان أبو الشعثاء والضحاك والربيع ابن أنس.
وعن ابن عباس قال نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين إلا إن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم
_________
(١) أي نبتسم.
215
اللطف ويخالفونهم في الدين، وذلك قوله تعالى (إلا أن تتقوا منهم تقاة).
ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكونوا غالبين أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من مخير أن يستحل دماً أو مالاً حراماً أو غير ذلك من المحرمات أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النية.
ثم هذه التقية رخصة فلو صبرعلى إظهار إيمانه حتى قتل كان له بذلك أجر عظيم.
وقال سعيد بن جبير ليس في الأمان التقية إنما التقية في الحرب، وقيل إنما تجوز التقية لصون النفس عن الضرر لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان.
(ويحذركم الله نفسه) أي ذاته المقدسة أن تعصوه بأن ترتكبوا النهي عنه أو تخالفوا المأمور به، أو توالوا الكفار فتستحقوا عقابه على ذلك كله، وإطلاق النفس عليه سبحانه جائز في المشاكلة كقوله (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) وفي غيرها.
وذهب بعض المتأخرين إلى منع ذلك إلا مشاكلة، وقال الزجاج معناه يحذركم الله إياه، ثم استغنوا عن ذلك بهذا وصار المستعمل، قال: وأما قوله (تعلم ما في نفسي، إلخ فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك).
وقال بعض أهل العلم معناه ويحذركم الله عقابه، مثل (واسأل القرية) فجعلت النفس في موضع الإضمار، والنفس عبارة عن وجود الشيء وذاته، وذكر النفس للإيذان بأن له عقاباً هائلاً لا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة (وإلى الله المصير) في هذه الآية تهديد شديد وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه.
216
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)
217
(قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) فيه إن كل ما يضمره العبد ويخفيه أو يظهره ويبديه فهو معلوم لله سبحانه لا يخفى عليه منه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة (ويعلم ما في السموات وما في الأرض) مما هو أعم من الأمور التي يخفونها أو يبدونها فلا يخفى عليه ما هو أخص من ذلك (والله على كل شيء قدير) فيكون قادراً على عقوبتكم.
(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً) يوم القيامة ولم يبخس منه شيء قال قتادة محضراً موفراً (وما عملت من سوء) محضراً (تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً) الأمد الغاية وجمعه آماد، قال السدى أي مكاناً بعيداً، وعن ابن جريج أمداً أي أجلاً وعن الحسن قال يسر أحدكم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً يكون ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئة يستلذها.
وفي السمين الأمد غاية الشيء ومنتهاه، والفرق بين الأمد والأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول، والفرق بين الأمد والزمان أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عام في المبدأ والغاية انتهى، قال السيوطي أي غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها: اهـ، وهو أعم من المكان والزمان وعبارة الخازن أي مكاناً بعيداً، كما بين المشرق والمغرب.
217
(ويحذركم الله نفسه) كرر للتأكيد وللاستحضار ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر منهم لا يغفلون عنه، قيل والأحسن ما قاله التفتازاني أن ذكره أولاً للمنع من موالاة الكافرين وثانياً للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشر (والله رؤوف بالعباد) ومن رأفته بهم أنه حذرهم نفسه، قاله الحسن وفيه دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه سبحانه لعباده لطفاً بهم، وما أحسن ما يحكى عن بعض العرب أنه قيل له إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله فقال أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه.
218
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) الحب والمحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، يقال أحبه فهو محب وحبه يحبه بالكسر فهو محبوب، قال ابن الدهان في حب لغتان حب وأحب، وقد فسرت المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته، قال الأزهري محبة العبد لله ولرسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران.
قيل: العبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله، وإن كل ما يراه كمالاً من نفسه أو من غيره فهو من الله وبالله لم يكن حبه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عبادته والحث على مطاوعته قاله القاضي.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن من طرق قال: قال أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا محمد إنا لنحب ربنا فأنزل الله هذه الآية، وعن أبي الدرداء قال على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت: " قال رسول الله - ﷺ - " الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن تحب على شيء من الجور وتبغض على شيء من العدل، وهل الدين
218
إلا الحب والبغض في الله (١)، قال الله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله) الآية.
قيل نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل نزلت في قريش قالوا نعبدها أي الأصنام حباً لله لتقربنا إلى الله زلفى.
والمعنى قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله فكونوا منقادين لأوامره وأوامو رسوله مطيعين لهما فإن اتباع الرسول من محبة الله وطاعته، وفيه حث على اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم وإشارة إلى ترك التقليد عند وضوح النص من الكتاب والسنة.
(ويغفر لكم ذنوبكم) يعني أن من غفر له أزال عنه العذاب (والله غفور رحيم) يغفر ذنوب من أحبه ويرحمه بفضله وكرمه، وهذا تذييل مقرر لما قبله.
_________
(١) المستدرك للحاكم. كتاب التفسير ٢/ ٢٩١.
219
(قل) لقريش (أطيعوا الله والرسول) حذف المتعلق مشعر بالتعميم أي في جميع الأوامر والنواهي، والمقلد غير مطيع لله وللرسول بل مشاقق لهما حيث ترك إطاعة الله ورسوله وأطاع غيرهما من غير حجة نيرة وبرهان جلي.
(فإن تولوا) يحتمل أن يكون من تمام مقول القول فيكون مضارعاً أي تتولوا، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى فيكون ماضياً من باب الالتفات (فإن الله لا يحب الكافرين) أي لا يرضى بفعلهم ولا يغفر لهم، ونفي المحبة كناية عن البغض والسخط، ووجه الإظهار في قوله (فإن الله الخ) مع كون المقام مقام إضمار لقصد التعظيم أو التعميم.
ولا فرغ سبحانه من أن الدين المرضي هو الإسلام وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول الذي لا يصح لأحد أن يحب الله إلا باتباعه، وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو لمجرد البغي عليه والحسد له، شرع في تقرير رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أنه من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة فقال:
219
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
220
(إن الله اصطفى آدم ونوحاً) الإصطفاء الإختيار من الصفوة وهي الخالص من كل شيء، قال الزجاج اختارهم بالنبوة على عالمي زمانهم، وقيل إن الكلام على حذف مضاف أي اصطفى دين آدم، وتخصيص آدم بالذكر لأنه أبو البشر، وكذلك نوح فإنه آدم الثاني.
وحكى ابن الجوزي عن أبي سليمان الدمشقي أن اسم نوح السكن وإنما سمى نوحاً لكثرة نوحه، وعمر آدم تسعمائة وستون سنة، ونوح من نسل إدريس بينه وبينه إثنان لأنه ابن لملك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس، وعمر نوح ألف سنة وخمسون، ونوح اسم عجمي لا اشتقاق له عند محققي النحاة.
(وآل إبراهيم) قيل يعني نفسه، وقيل اسمعيل وإسحق ويعقوب، وقيل من كان على دينه، والثاني أولى، وذلك أن الله جعل إبراهيم أصلاً لشعبتين، فجعل إسمعيل أصلاً للعرب، ومحمد - ﷺ - منهم فهو داخل في الاصطفاء، وجعل إسحق أصلاً لبني إسرائيل وجعل فيهم النبوة والملك إلى زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم جعل له ولأمته النبوة والملك إلى يوم القيامة، وعمر إبراهيم مائة وسبعون سنة.
220
(وآل عمران) قيل هو والمد موسى وهارون، وقيل هو من ولد سليمان وهو والد مريم، والظاهر الثاني بدليل القصة الآتية في عيسى ومريم، وبين العمرانين من الزمن ألف وثمانمائة سنة، وبين الأول وبين يعقوب ثلاثة أجداد، وبين الثاني وبين يعقوب ثلاثون جداً، وعمران اسم أعجمي، وقيل عربي مشتق من العمر، وعل كلا القولين ممنوع من الصرف إما للعلمية والعجمه أو لزيادة الألف والنون، قاله السمين.
فلما كان عيسى عليه السلام منهم كان لتخصيصهم بالذكر وجه، يعني خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل من نسلهم (على العالمين) قد تقدم الكلام على تفسيره أي اختارهم واصطفاهم على العالمين بما خصهم به من النبوة والرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية.
221
(ذرية) قد تقدم تفسير الذرية قيل مشتق من الذرء وهو الخلق فعلى هذا يطلق على الأصول حتى على آدم كما يطلق على الفروع، وقيل منسوب إلى الذر لأن الله أخرجهم من ظهر آدم كالذر أي صغار النمل، ويكون هذا من النسب السماعي إذ كان القياس فتح الذال والنصب على البدل من آدم أو من نوح وإليه نحا أبو البقاء أو من الآلين وإليه نحا الزمخشري أو النصب على الحال.
(بعضها من بعض) معناه متناسلة متشعبة أو متناصرة متعاضدة في الدين، قال قتادة في النية والعمل والإخلاص والتوحيد، أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد- ﷺ - (والله سميع عليم) إنما يصطفى لنبوته ورسالته من يعلم استقامته قولاً وفعلاً.
(إذ قالت) قال أبو عمرو إذ زائدة وقال محمد بن زيد تقديره اذكر إذ قالت، وقال الزجاج متعلق بقوله (اصطفى) وقيل بقوله سميع عليم.
221
(امرأة عمران) اسمها حنة بالحاء المهملة والنون المشددة بنت فاقوذ أم مريم فهي جدة عيسى، وعمران هو ابن ماثان جد عيسى وليس نبياً.
(رب إني نذرت لك) هذا النذر كان جائزاً في شريعتهم، وتقديم الجار والمجرور لكمال العناية ومعز ذلك أي لعبادتك (ما في بطني محرراً) أي عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة، والمراد هنا الحرية التي هي ضد العبودية، وقيل المراد بالمحرر هنا الخالص لله سبحانه الذي لا يشوبه شيء من أمر الدنيا، ورجح هذا بأنه لا خلاف أن عمران وامرأته حران وهلك عمران وهي حامل.
(فتقبل مني) التقبل أخذ الشيء على وجه الرضا أي تقبل مني نذري بما في بطني، عن ابن عباس قال كانت نذرت أن تجعله في الكنيسة يتعبد بها، وقال مجاهد خادماً للبيعة (إنك أنت السميع) لتضرعي ودعائي (العليم) بنيتي وما في ضميري.
222
(فلما وضعتها) التأنيث باعتبار ما علم من المقام أن الذي في بطنها أنثى أو لكونه أنثى في علم الله أو بتأويل ما في بطنها بالنفس أو النسمة أو نحو ذلك (قالت) يعني حنة (رب إني وضعتها أنثى) إنما قالت هذه المقالة لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكر دون الأنثى فكأنها تحسرت وتحزنت لما فاتها من ذلك الذي كانت ترجوه وتقدره.
(والله أعلم بما وضعت) بضم التاء فيكون من جملة كلامها ويكون متصلاً بما قبله وفيه معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفي عليه شيء، وقرأ الجمهور وضعت بسكون التاء فيكون من كلام الله سبحانه على جهة التعظيم لما وضعته والتفخيم لشأنه والتجهيل لها حيث وقع منها التحسر والتحزن، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين وعبرة للمعتبرين ويختصها بما لم يختص به أحداً.
222
وقرأ ابن عباس وضعت بكسر التاء على أنه خطاب من الله سبحانه لها أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام، وتصاغر عندها العقول، وإن له شأناً عظيماً.
(وليس الذكر كالأنثى) أي ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت، فإن غاية ما أرادت من كونه ذكراً أن يكون نذراً خادماً للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم وشأنها فخيم، فهي خير منه وإن لم تصلح للسدانه فإن فيها مزايا أخر لا توجد في الذكر، وعلى هذا: الكلام على ظاهره ولا قلب فيه، وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع ورفع شأنه وعلو منزلته، واللام في الذكر والأنثى للعهد.
هذا على قراءة الجمهور، وأما على قراءة أبي بكر وابن عامر فيكون قوله (وليس الذكر كالأنثى) من جملة كلامها ومن تمام تحسرها وتحزنها أي ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادماً ويصلح للنذر كالأنثى التي لا تصلح لذلك، بل هو خير منها لأنه يصلح لمقصودي دونها، وكأنها اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت، وعلى هذا في الكلام قلب، وكانت مريم من أجمل النساء وأفضلهن في وقتها.
(وإني سميتها مريم) تعني العابدة مقصودها من هذا الإخبار بالتسمية التقرب إلى الله سبحانه، وأن يكون فعلها مطابقاً لمعنى اسمها فإن معنى مريم خادم الرب بلغتهم، فهي وإن لم تكن صالحة لخدمة الكنيسة، فذلك لا يمنع أن تكون من العابدات (١).
(وإني أعيذها) أي أمنعها وأجيرها (بك وذريتها من الشيطان الرجيم).
_________
(١) وقال ابن إسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت، فرأت طائراً يطعم فرخاً -[٢٢٤]-
له، فدعت الله أن يهب لها ولداً، وقالت: اللهم لك علي إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس، فحملت بمريم، وهلك عمران، وهي حامل.
223
عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " ما من بني آدم من مولود إلا نخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من نخسه إياه إلا مريم وابنها متفق عليه (١) وللبخاري عنه " كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب " وللحديث ألفاظ عنه وعن غيره.
والرجيم المردود، وذكر في القاموس الطرد من معاني الرجم، وأصله المرمي بالحجارة، طلبت الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وإغوائه.
وفي المقام إشكال قوي لم أر من نبه عليه من المفسرين، وحاصله أن قولها وإني أعيذها بك معطوف على ما قبله الواقع في حيز لما وضعتها، فيقتضي أن طلب هذه الإعاذة إنما وقع بعد الوضع، فلا يترتب عليه حفظ مريم من طعن الشيطان وقت نزولها وخروجها من بطن أمها فلا يتلاقى الحديث مع الآية، بل مقتضى ظاهر الآية أن إعاذتها من الشيطان إنما كان بعد وضعها وهذا لا ينافي تسلط الشيطان عليها بطعنها ونخسها وقت ولادتها الذي هو عادته فإن عادته طعن المولود وقت خروجه من بطن أمه، تأمل، قاله سليمان الجمل.
_________
(١) مسلم ٢٣٦٦، البخاري ١٥٥٠. صحيح الجامع/٥٦٦١.
224
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)
225
(فتقبلها ربها بقبول حسن) أي رضي بها في النذر وسلك بها مسلك السعداء، وقال قوم معنى التقبل التكفل والتربية والقيام بشأنها، وليست صيغة التفعل للتكلف كما هو أصلها بل بمعنى الفعل كتعجب بمعنى عجب وتبرأ بمعنى برىء، والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق، والباء زائدة أو هي على حالها.
(وأنبتها نباتاً حسناً) المعنى أنه سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، قيل إنها كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام وفيه بعد، وقيل هو مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها.
(وكفلها) أي ضمها إليه بالقرعة لا بالوحي، وقال أبو عبيدة ضمن القيام بها، وقال الكوفيون أي جعله الله كافلاً لها وملتزماً بمصالحها، وفي معناه في مصحف أبي (وأكفلها) وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناه ما تقدم من كونه ضمها إليه، وقرأ مجاهد فتقبلها وأنبتها بإسكان اللام والتاء وكفلها على المسألة والطلب.
(زكريا) وكان من ذرية سليمان بن داود، وروى عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وناس من الصحابة أن مريم كانت ابنة سيدهم وإمامهم فتشاح عليها أحبارهم فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها، وكان زكريا زوج أختها فكفلها أي جعلها معه في محرابه، وكانت عنده وحضنها.
225
(كلما دخل عليها زكريا المحراب) يعني الغرفة، والمحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس، قاله القرطبي وسميت محراباً لأنها محل محاربة الشيطان لأن المتعبد فيها يحاربه، وكذلك هو في المسجد وكذلك يقال لكل من محال العبادة محراب، وقيل إن زكريا جعل لها محراباً لا ترتقي إليه إلا بسلم وكان يغلق عليها حتى كبرت.
(وجد عندها) أي أصاب وصادف ولقي فيتعدى لواحد (رزقاً) أي نوعاً من أنواع الرزق، أي كان إذا دخل عليها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، قال ابن عباس عنباً في مكتل في غير حينه.
(قال يا مريم أنى لك هذا) أي من أين يجيء لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا (قالت هو من عند الله) فليس ذلك بعجيب ولا مستنكر (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) جملة تعليلية لما قبلها وهو من تمام كلامها، ومن قال أنه من كلام زكريا فتكون الجملة مستأنفة وهذا دليل على جواز الكرامة لأولياء الله تعالى.
226
(هنالك) ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان، وقيل إنه للزمان خاصة (وهناك) للمكان، وقيل يجوز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر، واللام للدلالة على البعد والكاف للخطاب.
(دعا زكريا ربه) يعني أنه دعا في ذلك المكان الذي هو قائم فيه عند مريم، أو في ذلك الزمان أن يهب الله له ذرية طيبة.
والذي بعثه على ذلك ما رآه من ولادة حنة لمريم وقد كانت عاقراً، فحصل له رجاء الولد وإن كان كبيراً، وامرأته عاقراً أو بعثه على ذلك ما رآه من فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء عند مريم، لأن من
226
أوجد ذلك في غير وقته يقدر على إيجاد الولد من العاقر، وكان أهل بيته انقرضوا.
وعلى هذا يكون هذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من قوة الارتباط.
(قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) الذرية النسل يكون للواحد ويكون للجمع ويدل على أنها هنا للواحد قوله (فهب لي من لدنك ولياً) ولم يقل (أولياء) وتأنيث طيبة لكون لفظ الذرية مؤنثاً، والمعنى أعطني يا رب من عندك ولداً مباركاً تقياً صالحاً رضياً كهبتك لحنة العجوز العاقر مريم (إنك سميع الدعاء) أي سامعه ومجيبه.
227
(فنادته الملائكة) قيل المراد هنا جبريل، والتعبير بلفظ الجمع عن الواحد جائز في العربية، ومنه (الذين قال لهم الناس) وقيل ناداه جميع الملائكة وهو الظاهر من إسناد الفعل إلى الجمع والمعنى الحقيقي مقدم فلا يصار إلى المجاز إلا لقرينة (وهو قائم يصلي في المحراب) أي في المسجد قال السدى المحراب المصلى.
وقد أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن النبي - ﷺ - قال اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب (١).
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن موسى الجهني قال: قال رسول الله - ﷺ - " لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى (٢) " وقد رويت كراهة ذلك عن جماعة من الصحابة.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٩.
(٢) الإمام أحمد ٢/ ٢٢٩.
227
(إن الله يبشرك بيحيى) هو ممتنع من الصرف لكونه أعجمياً أو لكون وزن الفعل فيه مع العلمية كيعمر ويعيش ويزيد ويشكر وتغلب، وقيل أعجمي لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهر فامتناعه للعلمية والعجمة الشخصية.
قال القرطبي حاكياً عن النقاش كان اسمه في الكتاب الأول حنا انتهى، والذي رأيناه في مواضع من الإنجيل أنه يوحنا قيل سمى بذلك لأن الله أحياه بالإيمان والنبوة، وقيل إن الله أحيا به الناس بالهدى، والمراد هنا التبشير بولادته أي يبشرك بولادة يحيى.
(مصدقاً بكلمة من الله) أي بعيسى عليه السلام، وسمى كلمة الله لأنه كان بقوله سبحانه (كن) وقيل لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله، وقيل لأن الله بشر به مريم على لسان جبريل، وقيل لأن الله أخبر في كتبه المنزلة على الأنبياء أنه يخلق نبياً من غير واسطة أب فلما جاء قيل هذا هو تلك الكلمة يعني الوعد الذي وعد.
وقال أبو عبيد " بكلمة " أي بكتاب من الله، قال والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة.
ويحيى أول من آمن بعيسى وصدقه وكان أكبر من عيسى بثلاث سنين، وقيل بستة أشهر، قال ابن عباس كان يحيى وعيسى ابني الخالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى في بطن أمه، وهو أول من صدق بعيسى، وقتل يحيى قبل أن يرفع عيسى.
(وسيداً وحصوراً) السيد الذي يسود قومه، قال الزجاج السيد الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير، ويا لها من سيادة ما أسناها، والحصور أصله من الحصر وهو الحبس تقول حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسك، والحصور
228
الذي لا يأتي النساء كأنه تحجم عنهن كما يقال رجل حصور وحصير إذا حبس رفده ولم يخرجه.
فيحيى عليه السلام كان حصورًا عن إتيان النساء أي محصوراً لا يأتيهن كغيره من الرجال إما لعدم القدرة على ذلك أو لكونه يكف عنهن منعاً لنفسه عن الشهوة مع القدرة، وقال السمين الحصور فعول محول عن فاعل للمبالغة والضروب محول من ضارب، وهو الذي لا يأتي النساء إما لطبعه على ذلك وإما لمخالفة نفسه.
وفي القاموس الحصور من لا يأتي النساء وهو قادر على ذلك، والممنوع منهن أو من لا يشتهيهن ولا يقربهن انتهى.
وقد رجح الثاني بأن المقام مقام مدح وهو لا يكون إلا على أمر مكتسب يقدر فاعله على خلافه لا على ما كان من أصل الخلقة وفي نفس الجبلة.
قال ابن عباس سيداً حليماً تقياً، وقال مجاهد السيد الكريم على الله، وقال ابن المسيب: السيد الفقيه العالم، وعن ابن عمر عن النبي - ﷺ - قال كان ذكره مثل هدبة الثوب، وأخرجه أحمد في الزهد من وجه آخر عنه موقوفاً وهو أقوى وكان اسم أم يحيى اسيع.
(ونبياً من الصالحين) أي ناشئاً من الصالحين لكونه من نسل الأنبياء وأصلابهم أو كائناً من جملة الصالحين كما في قوله (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) قال الزجاج الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم، وقيل المراد بالصلاح ما فوق الصلاح الذي لابد منه في منصب النبوة قطعاً من أقاصي مراتبه وعليه مبني دعاء سليمان (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) وفيه بعد، لأنه لا صلاح فوق صلاح النبوة.
229
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢)
230
(قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) ظاهر هذا أن الخطاب منه لله سبحانه، وإن كان الخطاب الواصل إليه هو بواسطة الملائكة، وذلك لمزيد التضرع والجهد في طلب الجواب عن سؤاله، وقيل إنه أراد بالرب جبريل أي يا سيدي.
وقيل في معنى هذا الاستفهام وجهان (أحدهما) أنه سأل هل يرزق هذا الولد من امرأته العاقر أو من غيرها، وقيل معناه بأي سبب أستوجب هذا وأنا وامرأتي على هذه الحال.
والحاصل أنه استبعد حدوث الولد منهما مع كون العادة قاضية بأنه لا يحدث من مثلهما لأنه كان يوم التبشير كبيراً قيل في تسعين سنة، وقيل في عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته في ثمان وتسعين سنة، ولذلك جعل الكبر كالطلب له لكونه طليعة من طلائع الموت، فأسند الفعل إليه، والعاقر التي لا تلد أي ذات عقر على النسب، ولو كان على الفعل لقال عقيرة أي بها عقر يمنعها من الولد.
وإنما وقع منه هذا الاستفهام بعد دعائه بأن يهب الله له ذرية طيبة ومشاهدته لتلك الآية الكبرى في مريم، استعظاماً لقدرة الله سبحانه، لا لمحض الاستبعاد وقيل أنه قد مر بعد دعائه إلى وقت بشارتها أربعون سنة، وقيل عشرون سنة فكان الاستبعاد من هذه الحيثية.
230
(قال كذلك الله يفعل ما يشاء) من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو إيجاد الولد من الشيخ الكبير والمرأة العاقر.
231
(قال رب اجعل لي آية) أي علامة أعرف بها صحة الحبل فأتلقى هذه النعمة بالشكر، والجعل هنا بمعنى التصيير أو بمعنى الخلق والإيجاد، وإنما سأل الآية لأن العلوق أمر خفي، فأراد أن يطلع عليه ليتلقى تلك النعمة بالشكر من حين حصولها ولا يؤخره إلى ظهورها المعتاد.
ولعل هذا السؤال وقع بعد البشارة بزمان مديد إذ به يظهر ما ذكر من كون التفاوت بين سن يحيى وعيسى ستة أشهر لأن ظهور العلامة كان عقب طلبها لقوله في سورة مريم (فخرج على قومه من المحراب) الآية قاله أبو السعود.
(قال آيتك أن لا تكلم الناس) أي علامتك أن تحبس لسانك عن تكليم الناس ثلاثة أيام لا عن غيره من الأذكار، وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكر الله سبحانه شكراً على ما أنعم به عليه، وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال، وقيل كان ذلك عقوبة من الله سبحانه له بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه، حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين.
وقيل أن لا تقدر على تكليمهم وتمنع من كلامهم قهراً بحيث لو حاولت الكلام لم تقدر عليه (ثلاثة أيام) بلياليها لقوله تعالى في سورة مريم (ثلاث ليال سوياً) (إلا رمزاً) أي إشارة، والرمز في اللغة الإيماء بالشفتين أو العينين أو الحاجبين أو اليدين وأصله الحركة وهو استثناء منقطع لكون الرمز من غير جنس الكلام ورجحه القاضي.
وقيل هو متصل على معنى أن الكلام ما حصل به الإفهام من لفظ أو إشارة أو كتابة وهو بعيد، والصواب الأول وبه قال الأخفش والكسائي وقيل
231
أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا، والأول أولى لموافقة أهل اللغة عليه.
(واذكر ربك) أي في مدة الحبسة وعند اللسان عن كلامهم شكراً لهذه النعمة (كثيراً وسبح بالعشي) هو جمع عشية وهي آخر النهار قاله الواحدي، وقيل هو واحد وهو المشهور وهو من حين زوال الشمس إلى أن تغيب، ومنه سميت صلاة الظهر والعصر صلاتي العشاء، وقيل من العصر إلى ذهاب صدر الليل وهو ضعيف (والإبكار) بالكسر مصدر استعمل اسماً للوقت الذي هو البكرة وهو من طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وقيل المراد بالتسبيح الصلاة.
232
(وإذ قالت الملائكة) عطف على إذ قالت امرأة عمران عطفاً لقصة البنت على قصة أمها لما بينهما من كمال المناسبة، وقصة زكريا وقعت فاصلة بينهما لمناسبة، والمعنى إذ قالت الملائكة مشافهة لها بالكلام. وهذا من باب التربية الروحانية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها بعد التربية الجسمانية اللائقة بحال صغرها.
(يا مريم إن الله اصطفاك) اختارك أولاً حيث قبلك من أمك وقبل تحريرك ولم يسبق ذلك لغيرك من الإناث ورباك في حجر زكريا ورزقك من الجنة (وطهرك) من مسيس الرجال أو الكفر أو من الذنوب أو من الأدناس على عمومها، وكانت مريم لا تحيض أي خلقك مطهرة مما للنساء وبه جزم القاضي كالكشاف، وسيأتي في سورة مريم حاضت قبل حملها بعيسى مرتين.
(واصطفاك) قيل هذا الاصطفاء الأخير غير الاصطفاء الاول، فالأول هو حيث تقبلها بقبول حسن، والأخير لولادة عيسى من غير أب، واصطفاها أيضاً بأن أسمعها كلام الملائكة مشافهة ولم يقع لغيرها ذلك، وقيل الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول والمراد بهما جميعاً واحد (على نساء العالمين) المراد بهن هنا قيل نساء عالم زمانهم وهو الحق، وقيل نساء جميع العالم إلى يوم القيامة واختاره الزجاج.
232
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)
233
(يا مريم اقنتي لربك) أي أطيلي القيام في الصلاة أو ادعيه ودومي على طاعته بأنواع الطاعات، وقد تقدم الكلام في معاني القنوت (واسجدي واركعي مع الراكعين) أي صلي مع المصلين، أطلق الجزء وأراد الكل وقدم السجود على الركوع لكونه أفضل أو لكون صلاتهم لا ترتيب فيها مع كون الواو لمجرد الجمع بلا ترتيب، والظاهر أن ركوعها مع ركوعهم فيدل على مشروعية صلاة الجماعة، وقيل المعنى أنها تفعل كفعلهم وإن لم تصل معهم، قال الأوزاعي لما قالت الملائكة لها ذلك شفاها قامت حتى تورمت قدماها وسالت دماً وقيحاً، وحكي عن مجاهد نحوه.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث علي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد (١) " وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون (٢) ".
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت
_________
(١) مسلم ٢٤٣٠، البخاري ١٦٠٢.
(٢) كتاب التاريخ ٢/ ٥٩٤.
233
عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام (١).
وفي المعنى أحاديث كثيرة تفيد أن مريم عليها السلام سيدة نساء عالمها لا نساء العالم، ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال أربع نسوة سادات نساء عالمهن مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد - ﷺ -، وأفضلهن عالما فاطمة.
_________
(١) مسلم ٢٤٣١، البخاري ١٦٠٦.
234
(ذلك من أنباء الغيب) أي أخبار ما غاب عنك، فالإشارة إلى ما سبق من الأمور التي أخبره الله بها (نوحيه إليك) هو أي الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ونظهرك على قصص من تقدم مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في (نوحيه) وهذا أحسن من عوده على (ذلك)، وقال أبو السعود: صيغة الاستقبال للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد،
انتهى، والوحي في اللغة الإعلام في خفاء، يقال وحى وأوحى بمعنى، قال ابن فارس: الوحي الإشارة والكتابة والرسالة وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه.
(وما كنت لديهم) أي بحضرتهم يعني المتنازعين في تربية مريم، وإنما نفى حضوره عندهم مع كونه معلوماً لأنهم أنكروا الوحي، فلو كان ذلك الإنكار صحيحاً لم يبق طريق للعلم به إلا المشاهدة والحضور وهم لا يدعون ذلك، فثبت كونه وحياً مع تسليمهم أنه ليس ممن يقرأ التوراة ولا من يلابس أهلها.
(إذ يلقون أقلامهم) في الماء يقترعون، والأقلام جمع قلم من قلمه إذا قطعه وهو فعل بمعنى مفعول أي مقلوم، والقلم القطع ومنه قلمت ظفري أي
234
قطعته وسويته، ومثله القبض والنقض بمعنى المقبوض والمنقوض، أي أقلامهم التي يكتبون بها، وقيل قداحهم ليعلموا (أيهم يكفل مريم) أي يربي، وذلك عند اختصامهم في كفالتها كما قال تعالى (وما كنت لديهم إذ يختصمون) كفالتها، فقال زكريا هو أحق بها لكون خالتها عنده، فاقترعوا وجعلوا أقلامهم في الماء الجاري على أن من وقف قلمه ولم يجر مع الماء فهو صاحبها، فجرت أقلامهم، ووقف قلم زكريا.
وقد استدل بهذا من أثبت القرعة، والخلاف في ذلك معروف وقد ثبتت أحاديث صحيحة في اعتبارها، وذكر الشوكاني في نيل الأوطار أن القرعة وردت في خمسة مواضع ثم عددها.
235
( ذلك من أنباء الغيب ) أي ما غاب عنك، فالإشارة إلى ما سبق من الأمور التي أخبره الله بها ( نوحيه إليك ) أي الأمر والشأن انا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ونظهرك على قصص من تقدم مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في ( نوحيه ) وهذا أحسن من عوده على ( ذلك ) وقال أبو السعود صيغة الاستقبال للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد، انتهى، والوحي في اللغة الإعلام في خفاء، يقال وحى وأوحى بمعنى، قال ابن فارس الوحي الإشارة والكتابة والرسالة وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه.
( وما كنت لديهم ) أي بحضرتهم يعني المتنازعين في تربية مريم، وإنما نفى حضوره عندهم مع كونه معلوما لأنهم أنكروا الوحي، فلو كان ذلك الإنكار صحيحا لم يبق طريق للعلم به إلا المشاهدة والحضور وهم لا يدعون ذلك فثبت كونه وحيا مع تسليمهم أنه ليس ممن يقرأ التوراة ولا من يلابس أهلها.
( إذ يلقون أقلامهم ) في الماء يقترعون، والأقلام جمع قلم من قلمه إذا قطعه وهو فعل بمعنى مفعول أي مقلوم، والقلم القطع ومنه قلمت ظفري أي قطعته وسويته، ومثله القبض والنقض بمعنى المقبوض والمنقوض، أي أقلامهم التي يكتبون بها، وقيل قداحهم ليعلموا ( أيهم يكفل مريم ) أي يربي، وذلك عند اختصاصهم في كفالتها كما قال تعالى ( وما كنت لديهم إذ يختصمون ) في كفالتها، فقال زكريا هو أحق بها لكون خالتها عنده، فاقترعوا وجعلوا أقلامهم في الماء الجاري على أن من وقف قلمه ولم يجر مع الماء فهو صاحبها، فجرت أقلامهم، ووقف قلم زكريا.
وقد استدل بهذا من أثبت القرعة، والخلاف في ذلك معروف وقد ثبتت أحاديث صحيحة في اعتبارها، وذكر الشوكاني في نيل الأوطار أن القرعة وردت في خمسة مواضع ثم عددها.
(إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) أي كائنة من عنده وناشئة منه من غير واسطة الأسباب العادية وهي ولد يولد لك من غير بعل ولا فحل، وسمى كلمة لأنه وجد بكلمة (كن) فهو من باب إطلاق السبب على المسبب.
وفي أبي السعود في سورة النساء: يحكى أن طبيباً حاذقاً نصرانياً جاء للرشيد فناظر علي بن الحسين الواقدي ذات يوم فقال له إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى جزء من الله وتلا هذه الآية أي قوله (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) وقال إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءاً منه سبحانه، فانقطع النصراني وأسلم، وفرح الرشيد فرحاً شديداً، وأعطى للواقدي صلة فاخرة.
وذلك الولد (اسمه المسيح عيسى ابن مريم) المسيح اختلف فيه من ماذا أخذ فقيل من المسح لأنه مسح الأرض أي ذهب فيها فلم يستكن بكن، وقيل إنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء فسمي مسيحاً، فهو على هذين فعيل بمعنى فاعل، وقيل لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به، وقيل إنه كان ممسوح الأخمصين، وقيل لأن الجمال مسحه وقيل لأنه مسح بالتطهير من
235
الذنوب، وهو على هذه الأربعة الأقوال فعيل بمعنى مفعول.
وقال أبو الهيثم المسح ضد المسخ بالخاء المعجمة، وقال ابن الأعرابي المسيح الصديق، وقال أبو عبيد أصله بالعبرانية مشيخاً بالمعجمتين فعرب كما عرب موشى بموسى، وقال في الكشاف هو لقب من الألقاب المشرفة ومعناه باللغة العبرية المبارك.
وأما الدجال فسمى مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينين، وقيل لأنه يمسح الأرض أي يطوف بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس.
وعيسى هو اسم أعجمي مأخوذ من العيس وهو بياض تعلوه حمرة، وقيل هو عربي مشتق من عاسه يعوسه إذا ساسه، وقال في الكشاف هو معرب من ايشوع انتهى.
والذي رأيناه في الإنجيل في مواضع أن اسمه يشوع بدون همزة، وإنما قيل إن مريم مع أن الخطاب معها تنبيهاً على أنه يولد من غير أب فنسب إلى أمه.
فإن قلت هذه ثلاثة أشياء الاسم والكنية واللقب، قلت المراد اسمه الذي يتميز به عن غيره وهو لا يتميز إلا بمجموع الثلاثة، وبهذا تعلم أن الخبر عن اسمه إنما هو مجموع الثلاثة من حيث المعنى لا كل واحد منهما على حياله، فهذا على حد: الرمان حلو حامض.
وقال " ابن مريم " ولم يقل ابنك كما هو الظاهر إشارة إلى أنه يكنى بهذه الكنية المشتملة على الإضافة للظاهر وخاطبها بنسبته إليها تنبيهاً على أنها تلده بلا أب إذ عادة الناس نسبتهم إلى آبائهم، فأعلمت من نسبته إليها أنه لا ينسب إلا إلى أمه.
(وجيهاً في الدنيا والآخرة) الوجيه ذو الوجاهة وهي القوة والمنعة ووجاهته في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة (ومن المقربين) عند الله يوم القيامة، وفيه تنبيه على علو منزلته وأنه رفعه إلى السماء.
236
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
237
(ويكلم الناس في المهد وكهلاً) المهد مضجع الصبي في رضاعه، قاله ابن عباس ومهدت الأمر هيأته ووطأته، والكهل هو من كان بين سن الشباب والشيخوخة أي يكلم الناس حال كونه رضيعاً في المهد قبل وقت الكلام، وحال كونه كهلاً بالوحي والرسالة، قاله الزجاج.
وقد ثبت في الصحيح أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة منهم عيسى، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتكلم في المهد إلا عيسى وشاهد يوسف وصاحب جريج وابن ماشطة فرعون (١).
وقال الخفاجي: الذين تكلموا في المهد أحد عشر نظمهم الجلال السيوطي في قوله:
تكلم في المهد النبي محمد (٢) ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخذوذ يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها تزنى ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم
انتهى، وقال قتادة في المهد وكهلاً يعني يكلمهم صغيراً وكبيراً، قال ابن عباس الكهل هو من في سن الكهولة، وعن مجاهد قال الكهل الحليم.
_________
(١) مسلم ٢٥٥٠، البخاري ٦٥٣.
(٢) هذا وأكثر ما يذكر في هذه الأبيات لا يصح.
237
وعن ابن عباس قال تكلم عيسى ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق والذي تكلم به هو قوله (إني عبد الله آتاني الكتاب) الآية وتكلم ببراءة أمه عما رماها به أهل القرية من القذف.
قال ابن قتيبة لما كان لعيسى ثلاثون سنة أرسله الله فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله، وقال وهب مكث ثلاث سنين.
قيل وفي الآية بشارة لمريم بأنه يبقى حتى يكتهل، وفيه أنه يتغير من حال إلى حال، ولو كان إلهاً لم يدخل عليه التغير، ففيه رد على النصارى، وقال الحسن ابن الفضل يكلم الناس كهلاً بعد نزوله من السماء، وفيه نص على أنه سينزل من السماء إلى الأرض.
(ومن) العباد (الصالحين) مثل إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب وموسى وغيرهم من الأنبياء، وإنما ختم أوصافه بالصلاح لأنه لا يسمى المرء صالحاً حتى يكون مواظباً على النهج الأصلح والطريق الأكمل في جميع أحواله، وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح، ولهذا قال سليمان بعد النبوة وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
238
(قالت) على طريقة الاستبعاد العادي (رب أنىّ) كيف (يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) أي والحال أنه على حالة منافيه للحالة المعتادة من كون له أب ولم يصبني رجل بتزوج ولا غيره.
(قال كذلك الله يخلق ما يشاء) يعني هكذا يخلق الله منك ولداً من غير أن يمسك بشر، وعبر هنا بالخلق وفي قصة يحيى بالفعل لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ، فكان الخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل.
(إذا قضى أمراً) هو من كلام الله سبحانه وأصل القضاء الأحكام وقد تقدم وهو هنا الإرادة أي إذا أراد أمراً من الأمور (فإنما يقول له كن فيكون) من غير عمل ولا مزاولة وهو تمثيل لكمال قدرته.
238
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
239
(ويعلمه) بالنون والياء وعلى كلتا القراءتين هو كلام مستأنف لأن النحاة وأهل البيان نصوا على أن الواو تكون للاستئناف أو عطف على يبشرك أو وجيهاً، وقال التفتازاني إنما يحسنان بعض الحسن على قراءة الياء، وأما على قراءة النون فلا يحسن إلا بتقدير القول أي إن الله يبشرك بعيسى ويقول نعلمه أو وجيهاً، ومقولاً فيه نعلمه.
(الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) الكتاب الكتابة أو جنس الكتب الإلهية قال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، وكان أحسن الناس خطاً، والحكمة العمل، وقيل تهذيب الأخلاق.
(ورسولاً إلى بني إسرائيل) أي ويجعله رسولاً أو يكلمهم رسولاً أو أرسلت رسولاً إليهم في الصبا أو بعد البلوغ، وفي حديث أبي ذر الطويل " وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى ".
(أني قد جئتكم بآية من ربكم) يعني بعلامة على صدق قولي، ولما قال ذلك لهم قالوا وما هذه الآية قال (أني أخلق) أي أصور وأقدر (لكم) خلقاً أو شيئاً (من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه) أي في ذلك الخلق أو ذلك الشيء أو في الطين، قيل: إنه لم يخلق غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة فإن له ناباً وأسناناً وأذناً، والأنثى منه له ثدي، وتحيض وتطهر وتطير.
قيل: إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة، ولكونه
239
يطير بغير ريش ويلد كما يلد سائر الحيوان مع كونه من الطير ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة، وهو يضحك كما يضحك الإنسان.
وقيل: إن سؤالهم له كان على وجه التعنت، قيل كان يطير ما دام الناس ينظرونه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الله من فعل غيره، قال ابن عباس " إنما خلق عيسى طائراً واحداً وهو الخفاش ".
وقال هنا (فأنفخ فيه) وفي المائدة (فتنفخ فيها) بإعادة الضمير هنا إلى الطير أو الطين وفي المائدة إلى هيئة الطير جرياً على عادة العرب في تقنتهم في الكلام.
وخص ما هنا بتوحيد الضمير مذكراً وما في المائدة بجمعه مؤنثاً لأن ما هنا إخبار من عيسى قبل الفعل فوحده، وما في المائدة خطاب من الله له في القيامة، وقد سبق من عيسى الفعل مرات فجمعه، قاله الكرخي.
(فيكون طيراً) اسم جنس يقع على الواحد والاثنين والجمع، وقرىء طائراً على التوحيد (بإذن الله) فيه دليل على أنه لولا الإذن من الله عز وجل لم يقدر على ذلك، وإن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه أجراه على يد عيسى عليه السلام، قيل كانت تسوية الطين والنفخ من عيسى، والخلق من الله عز وجل.
(وأبرىء الأكمه والأبرص) الأكمه هو يولد أعمى كذا قال أبو عبيدة، وقال ابن فارس: الكمه العمى يولد به الإنسان، وقد يعرض، يقال كمه يكمه كمهاً إذا عمي وكمهت عينه إذا أعميتها وقيل الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل وقيل الأعمش وقيل هو الممسوح العين.
والبرص معروف وهو بياض يظهر في الجلد، ولم تكن العرب تنفر من شيء نفرتها منه، يقال برص يبرص برصاً أصابه ذلك ويقال له الوضح، وفي الحديث " وكان بها وضح " والوضاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له
240
الأبرص، ويقال للقمر أبرص لشدة بياضه وللوزغ سام أبرص لبياضه، والبريص الذي يلمع لمعان البرص ويقارب البصيص.
وقد كان عيسى عليه السلام يبريء من أمراض عدة كما اشتمل عليه الإنجيل، وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر لأنهما لا يبرآن في الغالب بالمداواة، وقال السيوطي: لأنهما داءان أعْيَا الأطباء وكان بعثه في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفاً بالدعاء بشرط الإيمان.
ولم يقل في هذين بإذن الله، لأنهما ليس فيهما كبير غرابة بالنسبة إلى الآخرين، فتوهم الألوهية فيهما بعيد، فلا يحتاج إلى التنبيه على نفيه خصوصاً وكان فيهم أطباء كثيرون.
(وأحيي الموتى) أي وكذلك إحياء الموتى، قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك، قال ابن عباس: قد أحيى أربعة أنفس: عازر وابن العجوز وابنه العاشر وسام ابن نوح، وكلهم بقي وولد له إلا سام، قيل وكان دعاؤه بإحيائهم يا حي يا قيوم (بإذن الله) كرره لنفي توهم الألوهية فيه لأن الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية فهو رد على النصارى.
(وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) أي بما أكلتم البارحة من طعام وما خبأتم منه، عن عمار بن ياسر قال: بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فأكلوا وادخروا وخانوا، فجعلوا قردة وخنازير، وفي هذا دليل قاطع على صحة نبوة عيسى معجزة عظيمة له.
وهذا إخبار من المغيَّبات مع ما تقدم له من الآيات الباهرات وإخباره عن الغيوب بإعلام الله إياه بذلك، وهذا مما لا سبيل لأحد من البشر إليه إلا الأنبياء عليهم السلام، وأما أخبار المنجم والكاهن فلا بد لكل واحد منهما من مقدمات يرجع إليها ويعتمد في اخباره عليها، وقد يخطىء في كثير مما يخبر به.
(إن في ذلك) المذكور من خلق الطير وغيره (لآية لكم) أي عبرة ودلالة على صدقي (إن كنتم مؤمنين) يعني مصدقين بذلك انتفعتم بهذه الآية.
241
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
242
(ومصدقاً) أي وجئتكم مصدقاً (لما بين يديّ من التوراة) وذلك لأن الأنبياء يصدق بعضهم بعضاً وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة وخمس وسبعون سنة (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) أي لأجل أحل لكم بعض الذي حرم عليكم من الأطعمة في التوراة كالشحوم وكل ذي ظفر كما في قوله تعالى (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) الآية، وقوله (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) وقيل إنما أحل لهم ما حرمته عليهم الأحبار ولم تحرمه التوراة.
وقال أبو عبيدة يجوز أن يكون بعض بمعنى كل، قال القرطبي: وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل، ولأن عيسى لم يحلل لهم جميع ما حرمته عليهم التوراة فإنه لم يحلل القتل ولا السرقة ولا الفاحشة وغير ذلك من المحرمات الثابتة في الإنجيل مع كونها ثابتة في التوراة وهي كثيرة يعرف ذلك من يعرف الكتابين.
ولكنه قد يقع البعض موقع الكل مع القرينة، وعن وهب أن عيسى كان على شريعة موسى وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس. وقال لبني إسرائيل إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأضع عنكم الآصار.
242
وعن الربيع قال كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرم عليهم الشحوم فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل.
(وجئتكم بآية من ربكم) هي قوله
243
(إن الله ربي وربكم) وإنما كان ذلك آية لأن من قبله من الرسل كانوا يقولون ذلك فمجيئه بما جاءت به الرسل يكون علامة على نبوته، ويحتمل أن تكون هذه الآية هي الآية المتقدمة فيكون تكريراً لقوله (إني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) الآية، وقيل هذه الجملة تأكيد للأولى، وقيل تأسيس لا توكيد.
(فاتقوا الله) يا معشر بني إسرائيل فيما أمركم به ونهاكم عنه (وأطيعون) فيما أدعوكم إليه لأن طاعة الرسول من توابع تقوى الله (إن الله ربي وربكم فاعبدوه) وجميع الرسل كانوا على دين واحد وهو التوحيد، ولم يختلفوا في الله، وفيه حجة بالغة على نصارى وفد نجران ومن قال بقولهم (هذا صراط مستقيم) يعني التوحيد، فكذبوه ولم يؤمنوا به.
(فلما أحس عيسى منهم الكفر) أحس علم ووجد، قاله الزجاج، وقال أبو عبيدة: معنى أحس عرف، وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة، والإحساس العلم بالشيء، قال تعالى (هل تحس منهم من أحد) والمراد بالإحساس هنا الإدراك القوي الجاري مجرى المشاهدة وبالكفر إصرارهم عليه، وقيل سمع منهم كلمة الكفر، وقال الفراء أرادوا قتله.
وعلى هذا فمعنى الآية فلما أدرك منهم عيسى إرادة قتله التي هي كفر، والذين أرادوا قتله هم اليهود وذلك أنهم كانوا عارفين من التوراة بأنه المسيح المبشر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم، فلما أظهر عيسى الدعوة اشتد ذلك عليهم
243
وأخذوا في أذاه وطلبوا قتله وكفروا به فاستنصر عليهم كما أخبر الله عنه بقوله.
(قال من أنصاري) الأنصار جمع نصير (إلى الله) أي متوجهاً إلى الله وملتجئاً إليه أو ذاهباً إليه، وقيل إلى بمعنى مع كقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) وقيل المعنى من أنصاري في السبيل إلى الله، وقيل المعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله.
وقيل لما بعث الله عيسى وأمره بإظهار رسالته والدعاء إليه نفوه وأخرجوه من بينهم، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض يقول من أنصاري إلى الله.
(قال الحواريون) جمع حواري، وحواري الرجل صفوته وخلاصته وهو مأخوذ من الحور وهو البياض عند أهل اللغة حورت الثياب بيضتها، والحواري من طعام ما حوري أي بيض، والحواري الناصر، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لكل نبي حواري، وحواري الزبير، وهو في البخاري وغيره، قال ابن عباس كانوا صيادين، وقال الضحاك هم قصارون مر بهم عيسى فآمنوا به.
وعن قتادة قال: الحواريون هم الذين تصلح لهم الخلافة، وقيل هم أصفياء الأنبياء، وقيل الحواري الوزير.
وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك فقيل لبياض ثيابهم، وقيل لخلوص نياتهم، وقيل لأنهم خاصة الأنبياء وكانوا اثني عشر رجلاً وهم أول من آمن به.
(نحن أنصار الله) أي أنصار دينه ورسله (آمنا بالله) استئناف جار مجرى العلة لما قبله فإن الإيمان يبعث على النصرة (واشهد) أنت يا عيسى لنا يوم القيامة (بأنا مسلمون) أي مخلصون لإيماننا منقادون لما تريد منا إيذاناً بأن غرضهم السعادة الأخروية.
244
رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤)
245
(ربنا آمنا بما أنزلت) في كتبك، تضرع إلى الله سبحانه وعرض لحالهم عليه بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم (واتبعنا الرسول) أي عيسى وحذف المتعلق مشعر بالتعميم أي اتبعناه في كل ما يأتي به (فاكتبنا مع الشاهدين) لك بالوحدانية ولرسولك بالرسالة فأثبت أسماءنا بأسمائهم، واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به، أو اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم وقيل مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته أنهم شهدوا له أنه قد بلغ وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا.
(ومكروا) أي الذين أحس عيسى منهم الكفر وهم كفار بني إسرائيل إذ وكلوا به من يقتله غيلة أي خفية (ومكر الله) هو استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون، قاله الفراء وغيره، وقال الزجاج مكر الله مجازاتهم على مكرهم.
فسمى الجزاء باسم الإبتداء كقوله تعالى (الله يستهزيء بهم) وهو خادعهم.
وأصل المكر في اللغة الاغتيال والخدع. حكاه ابن فارس. وعلى هذا فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة، وقيل مكر الله هنا إلقاء شبه عيسى على غيره ورفع عيسى إليه.
أخرج ابن جرير عن السدى قال إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إلى السماء فذلك قوله
(ومكروا ومكر الله) (والله خير الماكرين) أي أقواهم مكراً وأنفذهم كيداً وأقدرهم على إيصال الضرر بمن يريد ايصاله من حيث لا يحتسب.
245
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦)
246
(إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ) قال الفراء إن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره إني رافعك ومطهرك بعد إنزالك من السماء، قال أبو زيد: متوفيك قابضك، وقيل الكلام على حاله من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه، والمعنى كما قال في الكشاف: مستوفى أجلك، ومعناه أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم، عن مطر الوراق قال متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت.
وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر لأن الصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبرى.
ووجه ذلك أنه قد صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزوله وقتله الدجال، وقيل إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء وفيه ضعف، وقيل المراد بالوفاة هنا النوم ومثله (هو الذي يتوفاكم بالليل) أي ينيمكم وبه قال كثيرون.
وقيل الواو في قوله (ورافعك) لا تفيد الترتيب لأنها لمطلق الجمع فلا فرق بين التقديم والتأخير قاله أبو البقاء، وقال أبو بكر الواسطي: المعنى إني متوفيك عن شهواتك وحظوظ نفسك، وهذا بالتحريف أشبه منه بالتفسير.
246
وعن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة رفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من رمضان وحملت به أمه ولها ثلاث عشرة سنة، وولدته بمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل وعاشت بعد رفعه ست سنين.
وأورد على هذا عبارة المواهب مع شرحها للزرقاني وإنما يكون الوصف بالنبوة بعد بلوغ الموصوف بها أربعين سنة إذ هو سن الكمال ولها تبعث الرسل، ومفاد هذا الحصر الشامل لجميع الأنبياء حتى يحيى وعيسى هو الصحيح، ففي زاد المعاد للحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى ما يذكر: أن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه، قال الشامي وهو كما قال، فإن ذلك إنما يروى عن النصارى، والمصرح به في الأحاديث النبوية أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة.
ثم قال الزرقاني: وقع للحافظ الجلال السيوطي في تكملة تفسير المحلى وشرح النقاية وغيرهما من كتبه الجزم بأن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ويمكث بعد نزوله سبع سنين، وما زلت أتعجب منه مع مزيد حفظه وإتقانه وجمعه للمعقول والمنقول حتى رأيته في (مرقاة الصعود) رجع عن ذلك انتهى.
قلت: وفي حديث أبي داود الطيالسي بدل سبع سنين أربعين سنة ويتوفى ويصلى عليه، قال السيوطي: فيحتمل أن المراد مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده انتهى، وفيه ما تقدم.
وأورد على قوله " ليلة القدر " أنها من خصائص هذه الأمة وربما يقال في الجواب لعل الخصوصية على الوجه الذي هي عليه الآن من كون العمل فيها خيراً من العمل في ألف شهر، ومن كون الدعاء فيها مجاباً حالاً بعين المطلوب
247
وغير ذلك فلا ينافي أنها كانت موجودة في الأمم السابقة لكن على مزية وفضل أقل مما هي عليه الآن.
(ومطهرك) أي مبعدك ومخرجك (من الذين كفروا) أي من خبث جوارهم وسوء صحبتهم ودنس معاشرتهم برفعك إلى السماء وبعدك عنهم. قال الحسن: طهره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه، لأن كونه في جملتهم بمنزلة التنجيس له بهم، قاله الكرخي.
(وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا) أي الذين اتبعوا ما جئت به وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلو فيه إلى ما بلغ من جعله إلها، ومنهم المسلمون فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلو فلم يفرطوا في وصفه كما فرطت اليهود، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم.
وقيل المراد بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين علي اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة، وقيل هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين، وقيل هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح. وقيل هم المسلمون والنصارى.
وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين لطوائف المسلمين كما يفيده الآيات الكثيرة بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل قاهرة لها مستعلية عليها.
وقد أفرد الشوكاني هذه الآية بمؤلف سماه (وبل الغمامة في تفسير) (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) فمن أراد استيفاء ما في المقام فليرجع إلى ذلك.
248
وحاصل ما ذكره أن صيغة الذين اتبعوك من صيغ العموم، وكذلك صيغة الذين كفروا من صيغ العموم، والواجب العمل بما دل عليه النظم القرآني، وإذا ورد ما يقتضي تخصيصه أو تقييده أو صرفه عن ظاهره وجب العمل به، وإن لم يرد ما يقتضي ذلك وجب البقاء على معنى العموم، وظاهره شمول كل متبع، وأنه مجعول فوق كل كافر، وسواء كان الاتباع بالحجة أو بالسيف أو بهما. وفي كل الدين أو بعضه، وفي جميع الأزمنة والأمكنة والأحوال أو في بعضها.
والمراد بالكافر الذي جعل المتبع فوقه كل كافر سواء كان كفره بالستر لما يعرفه من نبوة عيسى أو بالمكر به، أو بالمخالفة لدينه، إما بعدم التمسك بدين من الأديان قط كعبدة الأوثان والنار والشمس والقمر والجاحدين لله والمنكرين للشرائع، وإما مع التمسك بدين يخالف دين عيسى قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كاليهود وسائر الملل الكفرية.
فالمتبعون لعيسى بأي وجه من تلك الوجوه هم المجعولون فوق من كان كافراً بأي تلك الأنواع.
ثم بعد البعثة المحمدية لا شك أن المسلمين هم المتبعون لعيسى لإقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبشيره بها كما في القرآن الكريم والإنجيل، بل في الإنجيل الأمر لأتباع عيسى باتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فالمتبعون لعيسى بعد البعثة المحمدية هم المسلمون في أمر الدين، ومن بقي على النصرانية بعد البعثة المحمدية فهو وإن لم يكن متبعاً لعيسى في أمر الدين ومعظمه، لكنه متبع له في الصورة وفي الإسم وفي جزئيات من أجزاء الشريعة العيسوية، فقد صدق عليهم أنهم متبعون له في الصورة وفي الإسم، وفي شيء
249
مما جاء به، وإن كانوا على ضلال ووبال وكفر، فذلك لا يوجب خروجهم عن العموم المذكور في القرآن الكريم.
ولا يستلزم اندراجهم تحت هذا العموم أنهم على شيء، بل هم هالكون في الآخرة وإن كانوا مجعولين فوق الذين كفروا، فذلك إنما هو في هذه الدار، ولهذا يقول الله جل وعلا بعد قوله (وجاعل الذين اتبعوك) الآية (ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) إلى قوله (لا يحب الظالمين).
فالحاصل أن المجعولين فوق الذين كفروا هم أتباع عيسى قبل النبوة المحمدية، وهم النصارى والحواريون، وبعد النبوة المحمدية هم المسلمون والنصارى والحواريون، والأولون هم الأتباع حقيقة، وغيرهم هم الأتباع في الصورة، وقد جعل الله الجميع فوق الذين كفروا من اليهود وسائر الطوائف الكفرية.
وقد كان الواقع هكذا فإن الملة النصرانية قبل البعثه المحمدية كانت قاهرة لجميع الملل الكفرية ظاهرة عليها، غالبة لها، وبعد البعثة المحمدية صارت جميع الأمم الكفرية نهبى بين الملة الإسلامية والملة النصرانية ما بين قتيل وأسير ومسلم للجزية وهذا يعرفه كل من له إلمام بأخبار العالم.
ولكن الله تعالى جعل الملة الإسلامية قاهرة للملة النصرانية مستظهرة عليها. وفاء بوعده في كتابه العزيز كما في الآيات المشتملة على الأخبار بأن جنده هم الغالبون، وحزبه هم المنصورون، ومن ذلك قوله تعالى (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً).
وقد أخبر الصادق المصدوق بظهور أمته على جميع الأمم وقهر ملته لجميع الأمم. وبالجملة إنا إذا جردنا النظر إلى الملة الإسلامية والملة النصرانية فقد ثبت
250
في الكتاب والسنة ما يدل على استظهار الملة الإسلامية على الملة النصرانية، وإن نظرنا إلى جميع الملل فالملة الإسلامية والملة النصرانية هما فوق سائر الملل الكفرية لهذه الآية.
ولا ملجىء إلى جعل الضمير المذكور في الآية وهو الكاف لنبينا محمد - ﷺ - كما تكلفه جماعة من المفسرين، لأن جعله لعيسى كما يدل عليه السياق، بل هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه، لا يستلزم إخراج الملة المحمدية بعد البعثة، إذ هم متبعون لعيسى كما عرفت سابقاً.
ولا خلاف بين أهل الإسلام أن الملة النصرانية كانت قبل البعثة المحمدية هي القاهرة لجميع الملل الكفرية، فلم يبق في تحويل الضمير عن مرجعه الذي لا يحتمل السياق غيره فائدة إلا تفكيك النظم القرآني والإخراج له عن الأساليب البالغة في البلاغة إلى حد الإعجاز.
ومن تدبر هذا الوجه الذي حررناه علم أنه قد أعطى التركيب القرآني ما يليق ببلاغته من بقاء عموم الموصول الأول والموصول الثاني وعدم التعرض لتخصيصه بما ليس بمخصص، وتقييده بما ليس بمقيد، وعدم الخروج عن مقتضى الظاهر في مرجع الضمائر وعدم ظن التعارض بين ما هو متحد الدلالة: انتهى.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية، ويكون المسلمون أنصاره وأتباعه إذ ذاك، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة (١).
(إلى يوم القيامة) غاية للجعل أو للاستقرار المقدر في الظرف لا على معنى أن ذلهم ينتهي يوم القيامة، بل على معنى أن المسلمين يعلونهم إلى تلك
_________
(١) مسلم/٢٩٤٠.
251
الغاية، فأما بعدها فيفعل الله بهم ما يريد كما ذكره بقوله (فأما الذين كفروا) الخ.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله - ﷺ - يقول " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يبالون بمن خالفهم حتى يأتي أمر الله (١) " قال النعمان من قال إني أقول على رسول الله - ﷺ - ما لم يقل فإن تصديق ذلك في كتاب الله (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة).
وأخرج ابن عساكر عن معاوية مرفوعاً نحوه، ثم قرأ معاوية الآية.
عن ابن زيد قال النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة ليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق ولا غرب، وهم في البلدان كلها مستذلون.
(ثم إليّ مرجعكم) أي مرجع الفريقين: الذين اتبعوا عيسى والذين كفروا به، والمرجع الرجوع، وتقديم الظرف للقصر (فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) أي من أمور الدين.
_________
(١) مسلم ١٩٢٠، ابن ماجه المقدمة.
252
(فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة) تفسير للحكم الواقع بين الفريقين إلى آخر الآية (١)، وتعذيبهم في الدنيا بالقتل والسبي والجزية والصغار، وأما في الآخرة فبعذاب النار (وما لهم من ناصرين) يمنعونهم من عذابنا من مقابلة الجمع بالجمع.
_________
(١) قيل المراد بهم هم اليهود والنصارى.
252
وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
253
(وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم) بالياء والنون (أجورهم) أي يعطيهم إياها كاملة موفرة (والله لا يحب الظالمين) نفي الحب كناية عن بغضهم، واستعمال عدم محبة الله في هذا المعنى شائع في جميع اللغات جار مجرى الحقيقة، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها.
(ذلك) إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى وغيره (نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) المشتمل على الحكم أو المحكم الذي لا خلل فيه.
(إن مثل عيسى عند الله) أي شأنه الغريب، والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها تعلقاً صناعياً بل تعلقاً معنوياً، وزعم بعضهم أنها جواب قسم، وذلك القسم هو قوله (والذكر الحكيم) فالواو حرف جر لا حرف عطف وهذا بعيد أو ممتنع إذ فيه تفكيك لنظم القرآن وإذهاب لرونقه وفصاحته.
(كمثل آدم) في الخلق والإنشاء تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقاً بغير أب كآدم ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة وهو كونه لا أم له كما أنه لا أب له، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه وأعظم عجباً وأغرب أسلوباً، وعبارة الكرخي هو تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس، وبه قال السيوطي.
(خلقه من تراب) جملة مفسرة لما أبهم في المثل وخبر مستأنف على جهة التفسير لحال خلق آدم أي أن آدم لم يكن له أب ولا أم بل خلقه الله من تراب، وقدره جسداً من طين، وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من
253
غير أب مع اعترافه بأن آدم خلق من غير أب وأم.
(ثم قال له كن) بشراً أي أنشأه خلقاً بالكلمة، وكذلك عيسى أنشأه خلقاً بالكلمة وقيل الضمير يرجع إلى عيسى (فيكون) أي فكان بشراً، أريد بالمستقبل الماضي أي حكاية حال ماضية.
عن ابن عباس أن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيهم السيد والعاقب فقالوا ما شأنك تذكر صاحبنا. قال من هو قالوا عيسى تزعم أنه عبد الله، قالوا فهل رأيت مثل عيسى وأنبئت به، فخرجوا من عنده، فجاء جبريل فقال قل لهم إذا أتوك (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) الآية (١).
وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة من الصحابة والتابعين، وأصلها عند البخاري ومسلم، وحكى أن بعض العلماء أسر في بعض بلاد الروم فقال لهم لم تعبدون عيسى؟ قالوا لأنه لا أب له، قال فآدم أولى لأنه لا أب له ولا أم، قالوا وكان يحيي الموتى فقال حزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وأحيا حزقيل أربعة آلاف، قالوا وكان يبرىء الأكمه والأبرص، قال فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليماً.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣٦٨.
254
(الحق من ربك) أي جاءك الحق من ربك يعني الذي أخبرتك به من تمثيل عيسى بآدم هو الحق، والجملة على هذا خبر مبتدأ محذوف، وقيل مستأنفة برأسها، والمعنى أن الحق الثابت الذي لا يضمحل هو من ربك، ومن جملة ما جاء من ربك قصة عيسى وأمه فهو حق ثابت.
(فلا تكن من الممترين) الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس أي لا يكن أحد منهم ممترياً أو للرسول - ﷺ -، ويكون النهي له لزيادة التثبيت لأنه لا يكون منه شك في ذلك.
254
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢)
255
(فمن) شرطية وهو الظاهر أو موصولة (حاجّك فيه) أي في عيسى وهو الأظهر، وقيل في الحق وهو الأقرب، والحاجة مفاعلة وهي من الاثنين وكان الأمر كذلك.
(من بعد ما جاءك من العلم) بأن عيسى عبد الله ورسوله ومن للتبعيض أو لبيان الجنس (فقل تعالوا) العامة على فتح اللام لأنه أمر من تعالى يتعالى كترامى بترامى، وأصل ألفه ياء وأصل هذه الياء واو لأنه مشتق من العلو وهو الإرتفاع، تقول في الواحد تعال يا زيد، وفي الجمع المذكور تعالوا، وتقول يا زيدان تعاليا، ويا هندان تعاليا ويا نسوة تعالين، قال تعالى (فتعالين أمتّعكن).
وقرأ الحسن (تعالوا) بضم اللام، وتعال فعل أمر صريح وليس باسم فعل لاتصال الضمائر المرفوعة البارزة به، قيل وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع تفاؤلاً بذلك وإذناً للمدعو لأنه من العلو والرفعة، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء حتى تقول ذلك لمن تريد إهانته كقولك للعدو " تعال " ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها، وقيل هو الدعاء لمكان مرتفع ثم توسع فيه حتى استعمل في طلب الإقبال إلى كل مكان حتى المنخفض.
(ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) هذا وإن كان عاماً فالمراد الخاص وهم النصارى الذين وفدوا إليه - ﷺ - من نجران كما أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال قدم على النبي - ﷺ - العاقب والسيد فدعاهما إلى الإسلام فقالا أسلمنا يا محمد - ﷺ -
255
فقال كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام، قالا فهات، قال حب الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير (١).
قال جابر فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على ذلك الغد فغدا رسول الله - ﷺ - وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له فقال " والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً " قال جابر فيهم نزلت (قل تعالوا ندع أبناءنا) الآية.
قال جابر " أنفسنا وأنفسكم " رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي، وأبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة، ورواه الحاكم من وجه آخر عن جابر وصححه وفيه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هل لك أن نلاعنك.
وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن اسعد بن أبي وقاص قال لما نزلت هذه الآية (قل تعالوا) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال اللهم هؤلاء أهلي (٢).
وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه (تعالوا ندع أبناءنا) الآية قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده.
وممكن أن يقال هو على عمومه لجماعة أهل الدين وإن كان السبب خاصاً، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وآله وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام، وأمته أسوته.
وضمير " فيه " لعيسى كما تقدم، والمراد بمجيء العلم هنا مجيء سببه وهو الآيات البينات، والمحاجة المخاصمة والمجادلة وتعالوا أي هلموا وأقبلوا، وأصله الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأى إذا كان المخاطب حاضراً، كما تقول لمن هو حاضر عندك تعال ننظر في هذا الأمر.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣٦٨.
(٢) ابن كثير ١/ ٣٧١.
256
واكتفى بذكر البنين عن البنات إما لدخولهن في النساء أو لكونهم الذين يحضرون مواقف الخصام دونهن.
ومعنى الآية ليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة، وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وآله وسلم أراد بالأبناء الحسنين كما تقدم.
وإنما خص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل، وإنما قدمهم في الذكر على نفسه لينبه بذلك على لطف مكانهم وقرب منزلتهم.
إن قلت القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهذا يختص به وبمن يباهله فلم ضم إليه الأبناء والنساء في المباهلة.
قلت ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث تجرأ على تعريض أعزته، وفي الدلالة على ثقته بكذب خصمه ولأجل أن يهلك خصمه مع أعزته جميعاً لو تمت المباهلة.
(ثم نبتهل) نتضرع إلى الله، وأصل الإبتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره يقال بهله الله أي لعنه والبهل اللعن.
قال أبو عبيد والكسائي نبتهل نلتعن، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك قال في الكشاف: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن إلتعاناً.
أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " هذه الإخلاص، يشير بأصبعه التي تلي الأبهام، وهذا الدعاء فرفع يديه حذو منكبيه، وهذا الابتهال فرفع يديه مداً ".
قال في الجمل: وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار وكلام الأئمة، وحاصل كلامه فيها أنها لا تجوز إلا في أمر مهمّ شرعاً وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة
257
فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة، وتقديم النصح والإنذار، وعدم نفع ذلك ومساس الضرورة إليها انتهى من تفسير الكازروني انتهى.
(قلت) وقد دعا الحافظ ابن القيم رحمه الله من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل إلى المباهلة بين الركن والمقام، فلم يجبه إلى ذلك وخاف سوء العاقبة، وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بالنونية (١).
وأتى سبحانه وتعالى هنا بثم تنبيهاً لهم على خطيئتهم في مباهلته كأنه يقول لهم لا تعجلوا وتأنوا لعله أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) يعني منا ومنكم بأن نقول اللهم العن الكاذب في شأن عيسى أي الذي يقول إنه ابن الله ويقول إنه إله، هذه جملة مبينة لمعناه.
وفي الآية دليل قاطع وبرهان ساطع على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ومخالف أنهم أجابوا إلى المباهلة، لأنهم عرفوا صحة نبوته وما يدل عليها في كتبهم.
_________
(١) القصيدة النونية للإمام ابن القيم تبلغ أكثر من ستة آلاف بيت ذكر فيها جميع الفرق الإسلامية. السلفية والخلفية، وانتصر فيها للسلف وبين زيغ الخلف، وقد شرحها العلامة خليل الهراس من علماء الأزهر في جزأين وطبعها بمطبعة الإمام ١٣ شارع قرقول المنشية بالقلعة بمصر.
258
(إن هذا) أي الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى (لهو القصص الحق) القصص التتابع يقال فلان يقص أثر فلان أي يتبعه، فأطلق على الكلام الذي يتبع بعضه بعضاً، وضمير الفصل للحصر ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده، وزيادة من في قوله (وما من إله) لتأكيد العموم والاستغراق (إلا الله) وهو رد على من " قال " بالتثليت من النصارى (وإن الله لهو العزيز) أي الغالب المنتقم ممن عصاه وخالف أمره، وادعى معه إلهاً آخر (الحكيم) أي في تدبيره، وفيه رد على النصارى لأن عيسى لم يكن كذلك.
258
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
259
(فإن تولوا) أي أعرضوا عن الإيمان ولم يقبلوه (فإن الله عليم بالمفسدين) أي الذين يعبدون غير الله ويدعون الناس إلى عبادة غيره وفيه وعيد وتهديد لهم شديد.
(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلا كلمة سواء بيننا وبينكم) قيل الخطاب لأهل نجران بدليل ما تقدم قبل هذه الآية، وقيل ليهود المدينة، وقيل لليهود والنصارى جميعاً، وهو ظاهر النظم القرآني، ولا وجه لتخصيصه بالبعض، لأن هذه دعوة عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله - ﷺ -، بالسواء العدل.
قال الفراء يقال في معنى العدل سوى وسواء. فإذا فتحت السين مددت وإذا ضممت أو كسرت قصرت، وفي قراءة ابن مسعود (إلى كلمة عدل) فالمعنى أقبلوا إلى ما دعيتم إليه وهي الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، والعرب تسمى كل قصة أو قصيدة لها أول وآخر وشرح " كلمة " وقد فسرها بقوله (أن لا نعبد إلا الله) أي هي أن لا نعبد (ولا نشرك به شيئاً) وذلك أن النصارى عبدوا غير الله وهو المسيح وأشركوا به وهو قولهم أب وابن وروح القدس، فجعلوا الواحد ثلاثة.
وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرىء فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم
259
يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (١) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلى قوله بأنا مسلمون (٢) ".
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكفار (تعالوا إلى كلمة) الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا يهود المدينة إلى ما في هذه الآية فأبوا عليه فجاهدهم حتى أقروا بالجزية، وعن قتادة قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء.
(ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر، وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلل ما حللوه وحرم ما حرموه عليه، فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده رباً، ومنه (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).
قال ابن جريج لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، ويقال إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة وإن لم يصلوا لهم، وعن عكرمة قال سجود بعضهم بعضاً.
(فإن تولوا) أعرضوا عن التوحيد، قال أبو البقاء هو ماض ولا يجوز أن يكون التقدير فإن تتولوا لفساد العنى. وهذا الذي قاله ظاهر جداً قاله السمين (فقولوا) أي أنت والمؤمنون (اشهدوا بأنا مسلمون) موحدون لما لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم.
_________
(١) الأريسين: هم العامة.
(٢) صحيح مسلم ١٧٧٣. البخاري ٧.
260
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦)
261
(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) لما ادعت كل طائفة من طائفتي اليهود والنصارى أن إبراهيم عليه السلام كان على دينهم، رد الله سبحانه ذلك عليهم وأبان بأن الملة اليهودية والملة النصرانية إنما كانتا من بعده.
قال الزجاج هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى أن التوراة والإنجيل نزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، وإسم الإسلام في كل كتاب، وفيه نظر فإن الإنجيل مشحون بالآيات من التوراة وذكر شريعة موسى والاحتجاج بها على اليهود، وكذلك الزبور فيه مواضع ذكر شريعة موسى، وفي أوائله التبشير بعيسى، ثم في التوراة ذكر كثير من الشرائع المتقدمة، يعرف كل هذا من يعرف هذه الكتب المنزلة.
وقد اختلف في قدر المدة التي بين إبراهيم وموسى. والمدة التي بين موسى وعيسى، قال القرطبي يقال كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة، وكذا في الكشاف وقيل كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وستمائة وإثنان وثلاثون سنة.
وقيل كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة وعشرون سنة.
عن ابن عباس قال اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى
261
الله عليه وآله وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانياً فنزل فيهم (يا أهل الكتاب لم تحاجون) الآية (١)، وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف (أفلا تعقلون) أي تتفكرون في دحوض حجتكم وبطلان قولكم حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣٧٢. وقد توسع ابن الجوزي في هذه المسألة في كتابه القيم زاد المسير ١/ ٤٠٢.
262
(ها أنتم) يا (هؤلاء) الرجال الحمقى (حاججتم) ها للتنبيه وهو موضع النداء والمراد بهم أهل الكتابين، والمعنى جادلتم وخاصمتم، وفي (هؤلاء) لغتان المد والقصر (فيما لكم به علم) المراد هو ما كان في التوراة وإن خالفوا مقتضاه وجادلوا فيه بالباطل (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) وهو زعمهم أن إبراهيم كان على دينهم بجهلهم بالزمن الذي كان فيه.
وفي الآية دليل على منع الجدال بالباطل، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحق كما في حديث " من ترك المراء ولو محقاً فأنا ضمينه على الله ببيت في ربض الجنة " وقد ورد تسويغ الجدال بالتي هي أحسن كقوله تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن) (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) ونحو ذلك فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة.
(والله يعلم) أي كل شيء فيدخل في ذلك ما حاججتم به دخولاً أولياً (وأنتم لا تعلمون) أي محل النزاع أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها ذلك.
262
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)
263
(ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً) يعني مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين المستقيم وهو الإسلام، وقيل الحنيف الذي يوحد ويختتن ويضحي ويستقبل الكعبة في صلاته وهو أحسن الأديان وأسهلها وأحبها إلى الله عز وجل.
قال الشعبي: أكذبهم الله وأدحض حجتهم في هذه الآية (وما كان من المشركين) فيه تعريض بكون النصارى مشركين لقولهم بأن المسيح ابن الله، وكذلك اليهود حيث قالوا عزيز ابن الله.
(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) أي أحقهم به وأخصهم الذين اتبعوا ملته واقتدوا بدينه (وهذا النبي) يعني محمداً - ﷺ -، أفرده بالذكر تعظيماً له وتشريفاً وأولويته - ﷺ - بإبراهيم من جهة كونه من ذريته ومن جهة موافقته لدينه في كثير من الشريعة المحمدية.
(والذين آمنوا) معه من أمة محمد - ﷺ - (والله ولي المؤمنين) بالنصر والمعونة.
أخرج الترمذي والحاكم وصححه وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أن رسول الله - ﷺ - قال: " إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي خليل ربي " ثم قرأ هذه الآية (١).
_________
(١) كتاب التفسير ٢/ ٢٩٢.
263
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن ميناء أن رسول الله - ﷺ - قال: يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبي المتقون فكونوا أنتم سبيل ذلك فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا تحملونها فأصد عنكم بوجهي ثم قرأ إن أولى الناس بإبراهيم الآية، وقال الحسن كل مؤمن ولي إبراهيم ممن مضى وممن بقى.
264
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) الطائفة هم يهود بني النضير وقريظة وبني قينقاع حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم، وقيل هم جميع أهل الكتاب فتكون (من) لبيان الجنس ولو مصدرية أي تمنت وأحبت إضلالكم أو حرف امتناع لامتناع والجواب محذوف أي لسروا بذلك وفرحوا؛ قاله السمين (وما يضلون إلا أنفسهم) جملة حالية للدلالة على ثبوت قدم المسلمين في الإيمان فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه (وما يشعرون) أن وبال الإضلال يعود عليهم.
عن سفيان كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى، ويدفع هذا أن كثيراً من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصح حملها على النصارى البتة، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، فإن الطائفة التي ودت إضلال المسلمين وكذلك الطائفة التي قالت آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار كما سيأتي من اليهود خاصة.
(يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) المراد بآيات الله ما في كتبهم من دلائل نبوة محمد - ﷺ - (وأنتم تشهدون) ما في كتبكم من ذلك ثم تكفرون به وتنكرونه، ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمي، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرون بنبوتهم، أو المراد كتم كل الآيات عناداً وأنتم تعلمون أنها حق، وعن ابن جريج قال وأنتم تشهدون على أن الدين عند الله الإسلام، ليس لله دين غيره.
264
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)
265
(يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) لبس الحق بالباطل خلطه بما يتعمدونه من التحريف، قال الربيع لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام (وتكتمون الحق) شأن محمد - ﷺ - (وأنتم تعلمون) أي تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، وعن قتادة مثله.
(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) هم رؤساؤهم وأشرافهم قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة، ووجه النهار أوله، وسمي وجهاً لأنه أحسنه، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم واعتراه الشك، وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين ومكن أقدامهم فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله ولا تحركهم ريح المعاندين.
عن ابن عباس قال: قال عبد الله ابن الصيف وعدي بن زيد والحرث بن عوف بعضهم لبعض تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله عليهم هذه الآية إلى قوله (واسع عليم) وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.
265
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
266
(ولا تؤمنوا) هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض أي قال الرؤساء للسفلة لا تصدقوا تصديقاً صحيحاً (إلا لمن تبع دينكم) من أهل الملة التي أنتم عليها، وأما غيرهم ممن أسلم فأظهروا لهم ذلك خداعاً وجه النهار، واكفروا آخره ليفتتنوا.
والمعنى أن ما بكم من الحسد والبغي، أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، أولا تؤمنوا إيماناً صحيحاً وتقروا بما في صدوركم إقراراً صادقاً لغير من تبع دينكم، فعلتم ذلك ودبرتموه وإن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق.
وقال الأخفش المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجوكم، وقيل المراد لا تؤمنوا وجه النهار وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم أي لمن دخل في الإسلام وكان من أهل دينكم قبل إسلامه، لأن إسلام من كان منهم هو الذي قتلهم غيظاً وأماتهم حسرة وأسفاً.
وقيل لا تؤمنوا أي لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا لإتباع دينكم.
وقيل المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم بالمد على الاستفهام تأكيداً للإنكار الذي قالوه لا يؤتى أحد مثل ما أوتوه.
وقال ابن جريج المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهة أن يؤتى،
266
وقيل المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد- ﷺ - إلا لمن تبع دينكم لئلا يكون ذلك سبباً لإيمان غيركم بمحمد - ﷺ -.
واختلف الناس المفسرون والمعربون في هذه الآية على أوجه، وذكروا منها تسعة أوضحها وأقربها ما ذكرناه، وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله إلا لمن تبع دينكم، ثم قال الله سبحانه لمحمد - ﷺ - (قل إن الهدى هدى الله) أي إن البيان الحق بيان الله بين (أن) لا (يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) على تقدير لا كقوله تعالى (يبين الله لكم أن تضلوا) أي لئلا تضلوا.
(أو يحاجوكم عند ربكم) " أو " بمعنى حتى، كذلك قال الكسائي: وهي عند الأخفش عاطفة، وقد قيل إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالاً وذلك صحيح.
قال الواحدي: وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيراً وإعراباً، ولقد تدبرت أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية فلم أجد قولاً يطرد في الآية من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى وصحة النظم انتهى، وقد لخصه من كلام الناس الشيخ سليمان الجمل مع اختلافه فمن شاء فليرجع إليه.
(قل إن الفضل) يعني التوفيق للإيمان والهداية للإسلام (بيد الله يؤتيه من يشاء) أي من أرادة من خلقه وفيه تكذيب اليهود في قولهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم (والله واسع) أي ذو سعة يتفضل على من يشاء (عليم) بمن هو أهله.
267
(يختص برحمته من يشاء) قيل هي الإسلام وقيل هي القرآن وقيل هي النبوة، وقيل أعم منها، وهو رد عليهم ودفع لما قالوه ودبروه، وفيه دليل على أن النبوة لا تحصل إلا بالاختصاص والتفضل لا بالاستحقاق (والله ذو الفضل العظيم) أصل الفضل في اللغة الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير.
267
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
268
(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين، وقد تقدم تفسير القنطار، والدينار معروف، قالوا ولم يختلف وزنه أصلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً، كل قيراط ثلاث شعيرات معتدلات فالمجموع اثنتان وسبعون شعيرة.
ومعنى الآية أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته، وإن كانت كثيرة (١)، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة، ومن كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائناً في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى، وقال عكرمة: المؤدي النصارى، والذي لا يؤدي اليهود (إلا ما دمت عليه قائماً) استثناء مفرع أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت مطالباً له مضيقاً عليه متقاضياً لرده.
(ذلك) أي ترك الأداء المدلول عليه بقوله لا يؤده (بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) الأميون هم العرب الذين ليسوا بأهل كتاب أي ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل، قاله قتادة وعن السدى نحوه، أو ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا، وادعوا، لعنهم الله، أن ذلك في
_________
(١) هذا من إنصاف القرآن حيث يشهد بالخير لبعض الطوائف الأخرى.
268
كتابهم، فرد الله سبحانه عليهم بقوله (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).
عن سعيد بن جبير عن النبي - ﷺ - قال: كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر (١)، أخرجه الطبراني وغيره مرسلاً.
_________
(١) أبو داود الباب ٥٦ من كتاب المناسك، ابن ماجه باب ٧٦ كتاب المناسك.
قال القرطبي ٤/ ١١٧: الأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جنبتي الصراط؛ كما في صحيح مسلم. فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما. وروى مسلم عن حذيفة قال حدثنا النبي ﷺ عن رفع الأمانة، قال: " ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه " الحديث. وقد تقدم بكماله أول البقرة. وروى ابن ماجه حدثنا محمد ابن المصفى حدثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة كثير ابن مرة عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: " إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً فإذا لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائناً مخوناً.
269
(بلى) عليهم سبيل بكذبهم واستحلالهم أموال العرب، فقوله " بلى " إثبات لما نفوه من السبيل، قال الزجاج تم الكلام بقوله بلى ثم قال (من أوفى بعهده) الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد - ﷺ - وبالقرآن وبأداء الأمانة إلى من ائتمنه، وقيل الضمير راجع إلى الموفي، وقيل إلى من، أو إلى الله تعالى (واتقى) الشرك أي فليس هو من الكاذبين (فإن الله يحب المتقين) الذين يتقون الشرك، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى " من " أي فإن الله يحبه، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للإعتناء بشأنهم وإشارة إلى عمومه لكل متق.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
(إن الذين يشترون) أي يستبدلون كما تقدم تحقيقه غير مرة (بعهد الله) هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبي - ﷺ - (وأيمانهم) هي التي كانوا يحلفون إنهم يؤمنون به وينصرونه (ثمناً قليلاً) أي شيئاً يسيراً من حطام الدنيا وذلك أن المشتري يأخذ شيئاً ويعطي شيئاً فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر فهذا معنى الشراء.
قال عكرمة: نزلت في أحبار اليهود ورؤسائهم، وقيل الأقرب حمل الآية على الكل ويدخل فيه جميع ما أمر الله به وجميع العهود والمواثيق المأخوذة من جهة الرسل وما يلزم الرجل نفسه من عهد وميثاق، فكل ذلك يجب الوفاء به وهو الأولى.
(أولئك) الموصوفون بهذه الصفة (لا خلاق) نصيب (لهم في) نعيم (الآخرة ولا يكلمهم الله) بشيء أصلاً كما يفيده حذف المتعلق من التعميم أو لا يكلمهم الله بما يسرهم وقيل هو بمعنى الغضب (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) نظر رحمة (ولا يزكيهم) يطهرهم من دنس الذنوب بالعذاب المنقطع ولا يثني عليهم بجميل، بل يسخط عليهم ويعذبهم بذنوبهم كما يفيده قوله (ولهم عذاب أليم) مؤلم.
أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " فقال الأشعث بن قيس في نزلت، وقد روى أن سبب نزول الآية أن رجلاً كان يحلف بالسوق لقد أعطى ما لم يعط بها أخرجه البخاري وغيره (١)، وقيل غير ذلك، وقد ورد في وعيد الأيمان الكاذبة أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن لا نطول بذكرها.
_________
(١) مسلم ١٣٨ - البخاري ١١٧٦، ١١٧٧.
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
(وإن منهم لفريقاً) أي طائفة من اليهود (يلوون ألسنتهم بالكتاب) أصل اللي الميل والفتل، تقول لوى برأسه إذا أماله، ولويت عنقه أي فتلته، والمصدر اللي والليان ثم يطلق اللي على المراوغة في الحجج والخصومة تشبيهاً للمعاني بالإجرام، قاله السمين أي يميلون ويحرفون ويعدلون به عن القصد، ويعطفون، وتحريف الكلام تقليبه عن وجهه لأن المحرف يلوي لسانه عن سنن الصواب بما يأتي به من عند نفسه.
والألسنة جمع لسان، وهذا على لغة من يذكره، وأما على لغة من يؤنثه فيقول هذه لسان فإنه يجمع على ألسن، وقال الفراء لم نسمعه من العرب إلا مذكراً، ويعبر باللسان عن الكلام لأنه ينشأ منه وفيه ويجري فيه أيضاً التذكير والتأنيث.
(لتحسبوه) أي لتظنوا أن المحرف الذي جاؤوا به (من الكتاب) الذي أنزله الله على أنبيائه (وما هو) أي الذي حرفوه وبدلوه (من الكتاب) في الواقع وفي اعتقادهم أيضاً، والجملة حالية (ويقولون) على طريقة التصريح لا بالتورية والتعريض مع ما ذكر من اللي والتحريف (هو) أي المحرف (من عند الله) الحال أنه (ما هو من عند الله) إنما كرر هذا بلفظين مختلفين مع اتحاد المعنى لأجل التأكيد (ويقولون على الله الكذب) أي الأعم مما ذكر من التحريف واللي (وهم يعلمون) أنهم كاذبون مفترون.
قال ابن عباس نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا في كتاب الله ما ليس منه.
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
(ما كان) أي ما ينبغي ولا يستقيم (لبشر) أي جميع بني آدم ولا واحد للفظ بشر كالقوم والرهط، بيان لافترائهم على الأنبياء إثر بيان افترائهم على الله، وإنما قيل " لبشر " إشعاراً بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي تقوّلوه عليه (أن يؤتيه الله الكتاب) الناطق بالحق (والحكم) يعني الفهم والعلم وقيل هو إمضاء الحكم من الله، والأول أولى (والنبوة) يعني المنزلة الرفيعة (ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله) أي هذه المقالة وهو متصف بتلك الصفة وفيه بيان من الله سبحانه لعباده أن النصارى افتروا على عيسى ما لا يصح عنه، ولا ينبغي أن يقوله.
(ولكن) يقول (كونوا ربانيين) قال سيبويه: الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة كما يقال لعظيم اللحية لحياني ولعظيم الجمة جماني ولغليظ الرقبة رقباني.
وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، فكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور، وقال المبرد الربانيون أرباب العلم واحدهم رباني، من قوله ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه، والياء للنسب، فمعنى الرباني العالم بدين الرب القوي التمسك بطاعة الله، وقيل العالم الحكيم أي كونوا ربانيين بسب كونكم عالمين فإن حصول العلم للإنسان والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم وقوة التمسك بطاعة الله، قال ابن عباس معناه: حكماء علماء.
272
وقيل الرباني العالم الذي يعمل بعلمه، وقيل العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، وقيل الجامع بين علم البصيرة والسياسة.
ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية اليوم مات رباني هذه الأمة، وقيل هو ولاة الأمر والعلماء، وقال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية.
(بما كنتم تعلمون الكتاب) بالتخفيف والتشديد، قال مكي التشديد أبلغ لأن العالم قد يكون عالماً غير معلّم فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط، ويؤيد الأولى (وبما كنتم تدرسون) بالتخفيف.
والحاصل إن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم والتعليم، هو أن يكون مع ذلك مخلصاً أو حكيما أو حليماً حتى تظهر السببية، ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلّم الناس، فيكون المعنى كونوا معلمين بسبب كونكم علماء، وبسبب كونكم تدرسون العلم.
وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه، والدراسة مذاكرة العلم والفقه، فدلت الآية على أنّ العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً فمن اشتغل بها لا لهذا المقصود فقد ضاع علمه وخاب سعيه (١).
_________
(١) روي عن النبي ﷺ أنه قال: " ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حرّ ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه -ثم تلا هذه الآية- ولكن كونوا ربانيين " الآية.
رواه ابن عباس.
273
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
274
(ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) أي ليس له أن يأمر بعبادة نفسه ولا أن يأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً بل ينهى عنه، والمعنى يقول ويأمر، وقيل ولا أن يأمركم وقرىء على الاستئناف برفع الراء أي لا يأمركم الله أو محمد أو عيسى أو الأنبياء.
(أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) قاله على طريق التعجب والإنكار يعني لا يقول هذا ولا يفعله، وقد استدل من قال إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن النبي - ﷺ - من المسلمين في أن يسجدوا له.
(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما) بفتح اللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق وبكسرها متعلقة بأخذ، وما موصولة على الوجهين أي للذي (آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) وجواب القسم لتؤمنن به ولتنصرنه.
قد اختلف في تفسير هذه الآية فقال سعيد بن جبير وقتادة وطاوس والحسن والسدى أنه أخذ الله ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً بالإيمان، ويأمر بعضهم بعضاً بذلك، فهذا معنى النصرة له والإيمان به وهو ظاهر الآية.
فحاصله أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر
274
وينصره إن أدركه، وإن لم يدركه يأمر قومه بنصرته إن أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد - ﷺ -.
وقال الكسائي يجوز أن يكون معناها وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين، ويؤيده قراءة ابن مسعود (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) وقيل في الكلام حذف والمعنى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ليعلّمنّ الناس ما جاءهم من كتاب وحكمة وليأخذنّ على الناس أن يؤمنوا، ودل على هذا الحذف قوله (وأخذتم على ذلكم إصري) قيل إنما أخذ الميثاق في أمر محمد - ﷺ - خاصة وبه قال علي وابن عباس وقتادة والسدى.
وقيل أخذ الميثاق على الأنبياء وأممهم جميعاً في أمره - ﷺ -، فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الأتباع، وبه قال علي بن أبي طالب والأول أولى وبه قال كثير من المفسرين، والرسول محمد- ﷺ - الذي ذكر في التوراة والإنجيل وصفه وشرح فيهما أحواله.
قال البغوي: أخذ الله هذا الميثاق منهم حين استخرج الذرية من صلب آدم، وقال الرازي: هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لله واجب والأول أولى وهو الظاهر من الآية.
(قال) الله تعالى للنبيين (أأقررتم) بالإيمان به والنصر له أو قال كل نبي لأمته أأقررتم، والأول أولى (وأخذتم على ذلك إصري) أي عهدي، والإصر في اللغة الثقل، سمي العهد إصراً لما فيه من التشديد (قالوا أقررنا) بما ألزمتنا من الإيمان برسلك.
(قال) الله تعالى (فاشهدوا) أي أنتم على أنفسكم أو ليشهد بعضكم على بعض، وقيل الخطاب للملائكة، والأول أولى (وأنا معكم) أي على إقراركم وشهادة بعضكم على بعض (من الشاهدين) هذا هو الخبر لأنه محط الفائدة.
275
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
276
(فمن تولى) أي أعرض عما ذكر (بعد ذلك) الميثاق (فأولئك هم الفاسقون) أي الخارجون عن الطاعة والغائصون في الكفر، وأعاد الضمير في (تولى) مفرداً على لفظ (من) وجمع أولئك حملاً على المعنى.
(أفغير دين الله يبغون) عطف على مقدر أي تتولون فتبغون غير دين الله، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار، وقرأ أبو عمرو وحده يبغون بالتحتية، وترجعون بالفوقية قال لأن للأول خاص، والثاني عام، ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى، وكيف يبغون غير دينه (و) الحال أنّ (له أسلم) أي خضع وانقاد (من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً) أي طائعين ومكرهين والطوع الانقياد والاتباع بسهولة، والكره ما فيه مشقة وهو من أسلم مخافة القتل، وإسلامه استسلام منه.
أخرج الطبراني بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وله أسلم) قال أما من في السموات فالملائكة، وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام، وأما كرهاً فمن أتى به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون (١).
وأخرج الديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الآية الملائكة أطاعوه في السماء، والأنصار وعبد القيس أطاعوه في الأرض.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣٧٨.
276
قال ابن عباس: أسلم من في السموات والأرض حين أخذ عليهم الميثاق، وعن قتادة قال أما المؤمن فأسلم طائعاً فنفعه ذلك وقبل منه، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأس الله فلم ينفعه ولم يقبل منه فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ساء خلقه من الرقيق والدواب والصبيان فاقرؤا في أذنه أفغير دين الله يبغون (١).
وأخرج ابن السني في (عمل يوم وليلة) عن يونس بن عبيد قال ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقرأ في أذنها أفغير دين الله يبغون الآية إلا ذلت (٢) بإذن الله عز وجل (وإليه يرجعون) أي مرجع الخلق كلهم إلى الله يوم القيامة، ففيه وعيد عظيم لمن خالفه في الدنيا.
_________
(١) هذا والذي قبله في النفس منه شيء.
(٢) هذا والذي قبله في النفس منه شيء.
277
(قل آمنا بالله وما أنزل على إبراهيم واسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم) إخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه وعن أمته، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بوجودهم ولم يختلفوا في نبوتهم، وعدّى الإنزال هنا بعلى، وفي البقرة بإلى، لأنه يصح تعديته بكل، فله جهة علو باعتبار ابتدائه وانتهائه باعتبار آخره، وهو باعتبار ابتدائه متعلق بالنبي، وباعتبار انتهائه متعلق بالمكلفين، ولما خص الخطاب هنا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ناسب الاستعلاء، ولما عم هناك جميع المؤمنين ناسبه الانتهاء، والأسباط كانوا اثني عشر وهم أولاد يعقوب وهم بالنسبة لإبراهيم أحفاده لأنهم أولاد ولده، فالمراد بالأسباط هنا الأحفاد لا المعنى اللغوي وهم أولاد البنات.
(لا نفرق بين أحد منهم) كما فرقت اليهود والنصارى فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وقد تقدم تفسير هذه الآية (ونحن له مسلمون) أي منقادون مخلصون موحدون.
277
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
278
(ومن يبتغ غير الإسلام) العامة على إظهار هذين المثلين لأن بينهما فاصلاً، وهو الياء فلم يلتقيا في الحقيقة، وروي الإدغام مراعاة للفظ، وليس هذا مخصوصاً بهذه الآية بل كلما التقى فيه مثلان يجري فيه الوجهان نحو (يخل لكم، وإن يك كاذباً)، وقد استشكل على هذا نحو (يا قوم مالي، ويا قوم من ينصرني) فإنه لم يرو عن أبي عمرو خلاف في إدغامهما، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديراً، قاله السمين.
(ديناً فلن يقبل منه) يعني أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام، وأن كل دين سواه غير مقبول لأن الدين الصحيح ما يرضي الله عن فاعله ويثيبه عليه (وهو في الآخرة من الخاسرين) أي الواقعين في الخسران يوم القيامة وهو حرمان الثواب وحصول العقاب.
أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول يا رب أنا الصلاة فيقول إنك على خير، وتجيء الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول إنك على خير، ويجيء الصيام فيقول أنا الصيام، فيقول إنك على خير، ثم تجيء الأعمال، كل ذلك يقول الله إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول يا رب أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول إنك على خير، بك اليوم آخذ وبك أعطي، قال الله تعالى في كتابه، يعني هذه الآية (١).
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣٧٩.
(كيف يهدي الله) هذا الاستفهام معناه الجحد أي لا يهدي الله، ونظيره قوله تعالى (كيف يكون للمشركين عهد عند الله) أي لا عهد لهم، ويجوز أن يكون الاستفهام للتعجب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان أو للاستبعاد والتوبيخ فإن الجاحد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد، فليس للإنكار حتى يستدل به على عدم توبه المرتد، وإن كان إنكاراً فالاستثناء يمنعه، قاله الكرخي.
(قوماً) إلى الحق (كفروا بعد إيمانهم و) بعدما (شهدوا أن الرسول حق و) بعدما (جاءهم البينات) من كتاب الله سبحانه ومعجزات رسول الله - ﷺ - (والله لا يهدي القوم الظالمين) أي كيف يهدى المرتدين والحال أنه لا يهدي من حصل منهم مجرد الظلم لأنفسهم ومنهم الباقون على الكفر، ولا ريب أن ذنب المرتد أشد من ذنب من هو باق على الكفر لأن المرتد قد عرف الحق ثم أعرض عنه عناداً وتمرداً.
عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل لي من توبه فنزلت هذه الآية إلى قوله (غفور رحيم) فأرسل إليه قومه وأسلم (١)، وروى هذا من طرق، وعنه أيضاً هم أهل الكتاب من اليهود عرفوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ثم كفروا به، وروى نحوه عن الحسن.
_________
(١) رواه النسائى وابن حبان وابن أبي حاتم والطبري والبيهقي والحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي ورواه ايضاً وإسناده صحيح.
279
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
280
(أولئك) أي المتصفون بتلك الصفات السابقة (جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة أجمعين خالدين فيها) أي اللعنة أو النار المدلول بها عليها، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة
(لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون) يؤخرون ويمهلون.
ثم استثنى التائبين فقال
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك) الارتداد (وأصلحوا) بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردة، وفيه دليل على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام مخلصاً، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ وقيل ضمّوا إلى التوبة الأعمال الصالحة لأن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح، وقيل أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات والطاعات، والأول ألصق بظاهر الآية (فإن الله غفور) لقبائحهم في الدنيا بالستر وقيل بإزالة العذاب (رحيم) في الآخرة بالعفو، وقيل بإعطاء الثواب.
(إن الذين كفروا) بعيسى (بعد إيمانهم) بموسى (ثم ازدادوا كفراً) بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال قتادة وعطاء الخرساني والحسن: نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته، ثم ازدادوا بإقامتهم على كفرهم كفراً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل ازدادوا كفراً بالذنوب التي اكتسبوها ورجحه ابن جرير الطبري وجعلها في اليهود خاصة.
280
وقيل نزلت في جميع الكفار، وذلك أنهم أشركوا بالله بعد إقرارهم بأن الله خلقهم، ثم ازدادوا كفراً يعني بإقامتهم على الكفر حتى هلكوا، وقيل زيادة كفرهم هو قولهم نتربص بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ريب المنون، وقيل نزلت في أحد عشر رجلاً من أصحاب الحارث بن سويد الذين ارتدوا عن الإسلام، فلما رجع الحارث أقاموا على كفرهم بمكة.
وقد استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى (لن تقبل توبتهم) مع كون التوبة مقبولة كما في الآية الأولى وكما في قوله تعالى (هو الذي يقبل التوبة عن عباده) وغير ذلك فقيل المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت، قال النحاس وهذا قول حسن كما قال تعالى (وليست التوبة للذين يعملون السيآت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) وبه قال الحسن وقتادة وعطاء والسدي، ومنه حديث: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (١) ".
وقيل المعنى لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا لأن الكفر أحبطها، وقيل لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفر إلى كفر آخر، وقال ابن عباس إنهم الذين ارتدوا وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم.
وقال أبو العالية: هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال الشرك، ولم يتوبوا من الشرك، وقال مجاهد: لن تقبل توبتهم إذا ماتوا على الكفر، وقال ابن جرير: هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل الله منه توبة ما أقام على كفره.
(وأولئك هم الضالون) أي هم الذين ضلوا عن سبيل الحق وأخطئوا منهاجه والمراد هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً، والأولى أن يحمل عدم قبول التوبة في هذه الآية على من مات كافراً غير تائب، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٨٩٩.
281
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
ويكون قوله
282
(إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) في حكم البيان لها، قال ابن عباس: نزلت فيمن مات من أصحاب الحارث على الكفر، وقيل نزلت فيمن مات كافراً من جميع أصناف الكفار من أهل الكتاب وعبدة الأصنام، فالآية عامة فيهم (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً) الملء بالكسر مقدار ما يملأ الشيء، والملء بالفتح مصدر ملأت الشيء والمعنى مقدار ما يملأ الأرض مشرقها ومغربها ذهباً، مع أنه أعز الأشياء وقيمة كل شيء.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً فيقول نعم فيقال له لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فذلك قوله تعالى (إن الذين كفروا) الآية (١).
(ولو افتدى به) قيل الواو زائدة مقحمة. وقيل الواو للعطف، والمعنى وكذلك لو افتدى من العذاب في الآخرة بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه، وهذا آكد في التغليظ لأنه تصريح بنفي القبول في جميع الوجوه، أو المراد بالواو التعميم في الأحوال كأنه قيل لن يقبل منهم في جميع الأحوال ولو في حال افتدائه نفسه في الآخرة.
(أولئك) إشارة إلى من مات على الكفر (لهم) أي استقر لهم (عذاب أليم) مؤلم (وما لهم) أي ما استقر لهم (من ناصرين) يمنعونهم من العذاب، وأتى بناصرين جمعاً لتوافق الفواصل.
_________
(١) مسلم ٢٨٠٥ - البخاري ١٥٧٤.
282
عن أنس بن مالك عن النبي - ﷺ - قال: يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدى به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم عليه السلام أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك، هذا لفظ مسلم (١).
_________
(١) مسلم ٢٨٠٥.
283
(لن تنالوا البر) هذا كلام مستأنف خطاب للمؤمنين عقب ذكر ما لا ينفع الكفار، والنيل إدراك الشيء ولحوقه يقال نالني من فلان معروف ينالني أي وصل إلي والنوال العطاء من قولك نولته تنويلاً أي أعطيته.
وقيل هو تناول الشيء باليد يقال نلته أناله نيلاً، قال تعالى (ولا ينالون من عدو نيلاً) وأما النول بالواو فمعناه التناول يقال نلته أنوله أي تناولته وأنلته زيداً أنيله إياه أي ناولته إياه.
والبر فعل الخيرات والعمل الصالح، ففي الآية حذف المضاف أي ثوابه وهو الجنة، وقال ابن مسعود ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون والسدى: هو الجنة.
فمعنى الآية لن تنالوا العمل الصالح أو الجنة، وقيل التقوى وقيل الطاعة، وقيل الثواب، وأصل البر التوسع في فعل الخير، وقد يستعمل في الصدق وحسن الخلق.
وعن النواس بن سمعان قال سألت رسول الله - ﷺ - عن البر والإثم فقال " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " أخرجه مسلم (١).
والمعنى لن تصلوا ثواب البر المؤدي إلى الجنة (حتى تنفقوا) أي تصدقوا
_________
(١) مسلم ٢٥٥٣.
283
وحتى بمعنى إلى (مما تحبون) أي حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها، ومن تبعيضية؛ وقيل بيانية، وما موصولة أو موصوفة والمراد النفقة في سبل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات، وقيل المراد الزكاة المفروضة.
قال البيضاوي: أي من المال أو مما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس، والبدن في طاعة الله، والمهجة في سبيله انتهى وكتعليم العلم.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن أبا طلحة لما نزلت هذه الآية أتى رسول الله - ﷺ - فقال يا رسول الله إن أحب أموالي إليّ بير حاء وأنها صدقة، الحديث وقد روي بألفاظ (١).
وعن ابن عمر لم أجد شيئاً أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله، الحديث أخرجه البزار وعبد بن حميد، وكذلك أعتق عمر جارية من سبي جلولاء، وجاء زيد بن حارثة بفرس له يقال له سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هي صدقة (٢).
(وما تنفقوا من شيء) بيان لقوله ما تنفقوا أي ما تنفقوا من أي شيء سواء كان طيباً أو خبيثاً جيداً أو رديئاً فيجازيكم بحسبه، وما شرطية جازمة (فإن الله به عليم) تعليل لجواب الشرط واقع موقعه. وفيه من الترغيب في إنفاق الجيد، والتحذير عن إنفاق الرديء ما لا يخفى.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣٨١. زاد المسير ٤٢١.
(٢) روى البخاري، ومسلم في " الصحيحين " من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي - ﷺ - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله إن الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها حيث أراك الله، فقال - ﷺ -: " بخ بخ، ذاك مال رابح أو رائح [شك الراوي] وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين " فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه.
284
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣)
(كل الطعام) أي المطعوم (كان حلاً) الحل مصدر يستوي فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وهو الحلال كما أن الحرم لغة في الحرام (لبني إسرائيل) هو يعقوب كما تقدم تحقيقه، يعني أن كل المطعومات كانت حلالاً لبني يعقوب لم يحرم عليهم شيء منها (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) مستثنى من اسم كان.
وجوز أبو البقاء أن يكون مستثنى من ضمير مستتر في " حلاً " وفيه قولان (أحدهما) أنه متصل والتقدير إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه فحرّم عليهم في التوراة فليس منها ما زادوه من محرمات وادّعوا صحة ذلك (والثاني) أنه منقطع والتقدير لكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم، والأول هو الصحيح قاله السمين.
أخرج الترمذي وحسّنه عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي - ﷺ - أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه قال: كان يسكن البدو فاشتكى عرق النّسا فلم يجد شيئاً يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها فلذلك حرمها قالوا صدقت وذكر الحديث، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي (١).
وفي رواية عنه الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما كان على الظهر.
وعرق النسا بفتح النون والقصر عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ، قاله الكرخي ودواؤه ما ذكره القرطبي ونصه أخرج الثعلبي في تفسيره من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله - ﷺ - في عرق النسا تؤخذ إلية كبش
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣٨٢.
285
عربي لا صغير ولا كبير فتقطع قطعاً صغاراً وتسلأ على النار ويؤخذ دهنها فيجعل ثلاثة أقسام يشرب المريض بذلك الداء على الريق كل يوم ثلثاً.
قال أنس فوصفته لأكثر من مائة كلهم يبرأ بإذن الله تعالى.
وفيه رد على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله - ﷺ - من أن سبب ما حرّمه عليهم هو ظلمهم وبغيهم كما في قوله: (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلّت لهم) الآية وقوله (وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما، إلا قوله، ذلك جزيناهم ببغيهم) وقالوا إنها محرمة على من قبلهم من الأنبياء نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا كما حرمت على من قبلنا، يريدون بذلك تكذيب ما قصه الله سبحانه على نبينا - ﷺ - في كتابه العزيز.
(من قبل أن تنزّل التوراة) فإنها ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب إسرائيل وذلك بعد إبراهيم بألف سنة ولم يكن على عهده حراماً كما زعموا، وإنما قال " من قبل " لأن بعد نزولها حرم الله عليهم أشياء من أنواع الطعام.
ثم أمر الله سبحانه بأن يحاجّهم بكتابهم ويجعل بينه وبينهم حكماً ما أنزله الله عليهم لا ما أنزل عليه فقال: (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها) حتى تعلموا صدق ما قصّه الله في القرآن من أنه لم يحرم على بني إسرائيل شيء من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه (إن كنتم صادقين) في دعواكم أنه تحريم قديم.
روى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فلم يأتوا بها وخافوا الفضيحة وبهتوا، وفي هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره ولا تبلغ مداه، وفيه من الحجة النيرة على صدق النبي وجواز النسخ الذي يجحدونه ما لا يخفى.
286
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦)
287
(فمن افترى) الافتراء اختلاق الكذب والقذف والإفساد أصله من فرى الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود، وقال البيضاوي: افترى أي ابتدع، والجملة استئنافية أو منصوبة المحل، ومن شرطية أو موصولة (على الله الكذب من بعد ذلك) أي إحضار التوراة وتلاوتها متعلق بافترى، وهذا هو الظاهر أو بالكذب وجوزه أبو البقاء (فأولئك) فيه مراعاة معنى " من " كما في افترى مراعاة لفظها (هم الظالمون) أي المفرطون في الظلم المتبالغون فيه، فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه وما يعتقده شرعاً صحيحاً ثم جادل من بعد ذلك مفترياً على الله الكذب.
ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلاً مدفوعاً، وكان ما قصه الله سبحانه في القرآن وصدّقته التوراة صحيحاً صادقاً، وكان ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه، أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينادي لصدق الله بعد أن سجّل عليهم بالكذب فقال.
(قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم) أي ملة الإسلام التي أنا عليها (حنيفاً) قد تقدم معنى الحنيف كأنه قال لهم إذا تبين لكم صدقي وصدق ما جئت به فادخلوا في ديني فإن من جملة ما أنزله الله علي (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه).
(وما كان) في أمر من أمور دينه أصلاً وفرعاً (من المشركين) الذين يدعون من الله إله آخر، ويعبدون سواه.
287
وفيه تعريض بإشراك اليهود، تصريح بأنه - ﷺ - ليس بينه وبينهم علاقة دينية قطعاً، والغرض بيان أن النبي - ﷺ - على دين إبراهيم في الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد، والبراءة عن كل معبود سبحانه وتعالى قاله الكرخي.
288
(إن أول بيت) هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل، وذلك أنهم قالوا إن بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لكونه مهاجر الأنبياء وأرض المحشر، وفي الأرض المقدسة وقبلتهم فرد الله ذلك عليهم، ونبّه تعالى بكونه أول متعبّد على أنه أفضل من غيره - والأول هو الفرد السابق المتقدم على ما سواه، وقيل هو اسم للشيء الذي يوجد ابتداء سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل.
قال علي كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله قبل خلق آدم بألفي عام، ووضع بعده الأقصى وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين، وهذا يقتضي أن الأقصى، بنته الملائكة أيضاً.. وقد اختلف في الباني له في الابتداء فقيل الملائكة، وقيل آدم، وقيل إبراهيم، ويجمع بين ذلك بأن أول من بناه الملائكة ثم جدده آدم ثم إبراهيم.
(وضِع للناس) أي جميعهم كما قال (سواء العاكف فيه والباد) وضعه الله موضعاً للطاعات والعبادات، وقبلة للصلاة ومقصداً للحج والعمرة، ومكاناً للطواف تزداد فيه الخيرات وثواب الحسنات وأجر الطاعات.
(للّذي ببكّة) بكة علم للبلد الحرام وكذا مكة وهما لغتان، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كلازب ولازم، ونبيت ونميت، اسم موضع، وراتب وراتم، وقيل أن بكة اسم لموضع البيت، ومكة اسم للبلد الحرام، وقيل بكة للمسجد ومكة للحرم كله، قيل سميت بذلك لأنها كانت تبك أي تدق أعناق الجبابرة.
288
وأما تسميتها بمكة فقيل سميت بذلك لقلة مائها. وقيل لأنها تمكّ المخ من العظم بما ينال سكانها من المشقة، ومنه مككت العظم إذا أخرجت ما فيه، ومكّ الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتصّه، وقيل سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها أي تهلكه، وقيل لأنها تمك الذنوب أي تزيلها وتمحوها.
(مباركاً) يعني ذا بركة، وأصل البركة النمو والزيادة، والبركة هنا كثرة الخير الحاصل لمن استقر فيه أو يقصده أي الثواب المتضاعف. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام " أخرجه البخاري ومسلم (١).
(وهدى للعالمين) أي لأنه قبلة للمؤمنين يهتدون به إلى جهة صلاتهم، وقيل لأن فيه دلالة على وجود الصانع المختار لما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره، وقيل هدى لهم إلى الجنة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول، قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي قال المسجد الأقصى، قلت كم بينهما قال أربعون سنة (٢).
وعن ابن عمر قال خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، " وكان إذ كان عرشه على الماء زبدة بيضاء وكانت الأرض تحته كأنها حشفة فدحيت الأرض من تحته " أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب وابن جرير وابن المنذر.
_________
(١) مسلم ١٣٩٤ البخاري ٦٤٦.
(٢) مسلم ٥٢٠ البخاري ١٥٨٩.
289
فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧)
(فيه آيات بينات) أي دلالات واضحات على حرمته ومزيد فضله واحترامه، منها الصفا والمروة ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء، ومنها أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن؟ وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب في الشام، وإذا عم البيت في جميع البلدان، ومنها انحراف الطيور عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان، ومنها إهلاك من يقصده من الجبابرة؛ ومنها الحجر الأسود والملتزم وزمزم ومشاعر الحج.
ومنها أن الآمر ببناء هذا البيت هو الله الجليل، والمهندس له جبريل، والباني هو إبراهيم الخليل، والمساعد في بنيانه هو اسمعيل، وهذه فضيلة عظيمة له، وغير ذلك من الآيات، وقد أوضحتها في كتابي (رحلة الصديق إلى البيت العتيق) فليرجع إليه، وهذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
(مقام إبراهيم) يعني الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وكان فيه أثر قدمي إبراهيم فاندرس من كثرة المسح بالأيدي.
وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات وهي جمع، بالمقام وهو فرد، وأجاب بأن المقام جعل وحده بمنزله آيات لقوة شأنه أو بأنه مشتمل على آيات، قال ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأن الإثنين نوع من الجمع، وقال ابن عطية والراجح عندي أن المقام وأمن الداخلين جعلا مثالاً لما في حرم الله تعالى من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم.
290
(ومن دخله كان آمناً) جمله مستأنفة من حيث اللفظ لبيان حكم من أحكام الحرم وهو أن من دخله كان آمناً، ومن حيث المعنى معطوفة على مقام إبراهيم الذي هو مبتدأ محذوف الخبر أي ومنها أمن داخله، ومن شرطية أو موصولة، وبه استدل من قال أن من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه حد من الحدود فإنه لا يقام عليه حتى لا يخرج منه، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه، وخالفه الجمهور، وقالوا تقام عليه الحدود من الحرم، وبه قال الشافعي.
وقد قال جماعة إن الآية خبر في معنى الأمر أي ومن دخله فأمنوه كقوله: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا.
أخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال كان هذا في الجاهلية كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يطلب، فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد، ومن قتل فيه قتل.
وعن عمر بن الخطاب قال لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه، وعن ابن عباس من عاذ بالبيت أعاذه البيت ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى، فإذا خرج أخذ بذنبه، وروى عنه هذا المعنى من طرق، أخرجه ابن جرير وغيره.
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي شريح العدوى قال قام النبي - ﷺ - الغد من يوم الفتح فقال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لإمرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - ﷺ - فقولوا إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي في ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس (١).
_________
(١) مسلم ١٣٥٤ البخاري ٨٩.
291
وقيل المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان آمناً. وقيل من دخله معظماً له متقرباً بذلك إلى الله كان آمناً من العذاب يوم القيامة.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً (١). وعنه: الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة ذكرهما أبو السعود ولم يخرجهما، وقيل آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك، والأول أولى.
(ولله على الناس حج البيت) اللام في قوله (لله) هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف " على " فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب، كما إذا قال القائل لفلان علي كذا، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته.
وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد، والمعنى ولله على الناس فرض حج البيت، والناس عام مخصوص بالمستطيع قد خصص ببدل البعض وهو قوله (من استطاع) لأنه من المخصصات عند الأصوليين.
والحج بكسر الحاء وفتحها لغتان سبعيتان في مصدر حج بمعنى قصد، والحج أحد أركان الإسلام، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة. وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان " أخرجه البخاري ومسلم (٢)، فعد النبي ﷺ الحج من أركان الإسلام الخمسة.
_________
(١) الترمذي الباب ١٠٢ من كتاب الحج والنسائي الباب ٤١ من كتاب الجنائز.
(٢) مسلم ١٦ - البخاري ٨.
292
وقد ورد في فضله وفضل البيت والعمرة أحاديث منها عن أبي سعيد الخدري قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى ". أخرجه الشيخان (١).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " أخرجه البخاري ومسلم (٢)، وفي الباب أحاديث لا نطيل بذكرها، وقد ذكرنا طرفاً منها في كتابنا رحلة الصديق.
(من استطاع إليه سبيلاً) يعني من وجد السبيل إلى حج البيت الحرام من أهل التكليف لأنه المحدث عنه، وإن كان يحتمل رجوع الضمير للبيت.
لكن الأول أولى.
وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي، فقيل الزاد والراحلة، وبه فسره - ﷺ -، رواه الحاكم وغيره، وإليه ذهب جماعة من الصحابة، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم (٣)، وهو الحق، وقال مالك إن الرجل إذا وثق بقوته لزمه الحج وإن لم يكن له زاد ولا راحلة إذا كان يقدر على الكسب. وبه قال ابن الزبير والشعبي وعكرمة، وقال الضحاك إن كان شاباً قوياً صحيحاً وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه.
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أولياً أن تكون الطريق إلى الحج آمنة بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زاداً غيره، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة لأن الله سبحانه يقول: (من استطاع إليه سبيلاً) وهذا الخائف على نفسه وماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك وشبهة.
_________
(١) مسلم ١٣٩٧ - البخاري ٦٤٥.
(٢) مسلم ١٣٤٩ - البخاري ٩٠٥.
(٣) ابن كثير ١/ ٣٨٦.
293
وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج فقال الشافعي لا يعطي حبة ويسقط عنه فرض الحج، ووافقه جماعة، وخالفه آخرون، والظاهر أن من تمكن من الزاد والراحلة وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ولو بمصانعة بعض الظلمة بدفع شيء من المال يتمكن منه الحاج ولا ينقص من زاده ولا يجحف به فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه، لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال.
ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما يتوقف عليه الاستطاعة، فلو وجد الرجل زاداً وراحلة، ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق، لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلاً، وهذا لا بد منه، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون.
ولعل وجه قول الشافعي أنه يسقط الحج أن أخذ هذا المكس منكر فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر، وأنه بذلك غير مستطيع.
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب، فلو كان زمناً بحيث لا يقدر على المشي ولا على الركوب فهذا وإن وجد الزاد والراحلة فهو لم يستطع السبيل.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير الاستطاعة أنها الزاد والراحلة بطرق كثيرة عن جماعة من الصحابة عند أهل السنن وغيرهم.
وأقل أحوال هذا الحديث أن يكون حسناً لغيره فلا يضره ما وقع الكلام على بعض طرقه كما هو معروف.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم النهي للمرأة أن تسافر بغير ذي
294
رحم محرم، واختلفت الأحاديث في قدر المدة، ففي لفظ ثلاثة أيام وفي لفظ يوم وليلة وفي لفظ بريد، وقد ذكر بعض المفسرين ههنا أحكاماً تتعلق بالحج وأطال في ذكرها، ومحلها كتب الفروع فلا نذكرها.
(ومن كفر) " من " شرطية وهو الظاهر أو موصولة قيل إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه، وقيل المعنى ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً، وقيل أن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر، وعن ابن عمر: من كفر بالله واليوم الآخر، وعن ابن زيد من كفر بهذه الآيات.
وعن ابن مسعود ومن كفر فلم يؤمن فهو الكافر، وقيل هو الذي إن حج لم يره براً، وإن قعد لم يره إثماً، وقيل نزلت في اليهود وغيرهم من أصحاب الملل. قالوا الحج غير واجب وكفروا به، وعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها، وقيل إنه كلام مستأنف كما تقدم عن ابن عمر.
(فإن الله غني عن العالمين) الإنس والجن والملائكة وعن عبادتهم، وبالجملة في قوله هذا من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة وخذلانه وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم، وهو تعالى شأنه وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع.
وقد وردت أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زاداً وراحلة ولم يحج فأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج بيت الله فلا عليه بأن يموت يهودياً أو
نصرانياً (١)؛ وذلك بأن الله يقول (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٥٨٧٢. تخريج مشكاة المصابيح/٢٥٢١.
295
سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).
وفي إسناده هلال الخراساني أبو هاشم، قال البخاري منكر الحديث، وقيل هو مجهول، وقال ابن عدي هذا الحديث ليس بمحفوظ، وفي إسناده أيضاً الحارث الأعور وفيه ضعف.
وقد ذكره الشوكاني في الموضوعات ثم قال: وقد حكم ابن الجوزي بضعفه ودفعه الحافظ ابن حجر بما هو معروف.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في كتاب الإيمان وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً (١) ".
وأخرج سعيد ابن منصور قال السيوطي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم، ما هم بمسلمين.
وأخرج الإسماعيلي عنه يقول من أطاق ولم يحج فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً، قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده: وهذا إسناد صحيح (٢).
وعن ابن عمر من مات وهو موسر ولم يحج جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب كافر، وعنه من وجد إلى الحج سبيلاً سنة ثم سنة ثم سنة ثم مات ولم يحج لم يصل عليه ولا يدري مات يهودياً أو نصرانياً.
وعن عمر بن الخطاب قال لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة، ومن شاء استيفاء مسائله فليرجع إلى كتابي (رحلة الصديق إلى البيت العتيق).
_________
(١) الدارمي كتاب المناسك الباب الثاني.
(٢) ابن كثير ١/ ٣٨٦.
296
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
297
(قل يا أهل الكتاب) خطاب لليهود والنصارى، وقيل لعلمائهم الذين علموا صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتخصيصهم بالخطاب دليل على أن كفرهم أوضح وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما.
(لم تكفرون بآيات الله) الدالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، وقيل المراد بها القرآن، وقيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والاستفهام للإنكار والتوبيخ لأن يكون لكفرهم بها سبب من الأسباب (والله شهيد على ما تعملون) هذه الجملة الحالية مؤكدة للتوبيخ والإنكار؛ وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في " شهيد " يفيد مزيد التشديد والتهويل.
(قل يا أهل الكتاب) أمر بتوبيخهم بإضلال غيرهم بعد توبيخهم بضلالهم (لم تصدون عن سبيل الله) الاستفهام يفيد ما أفاده الاستفهام الأول وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون في صدهم عن الإسلام، ويقولون إن صفة محمد ليست في كتابنا ولا تقدمت به بشارة، وصد وأصد لغتان بمعنى تغير وأنتن، وسبيل الله دينه الذي ارتضاه لعباده وهو دين الإسلام.
(من آمن) منهم بالفعل أو من أراد الإيمان من الكفار (تبغونهما عوجاً) بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه ميلاً إلى الحق بنفي النسخ وتغيير صفة الرسول عن وجهها وغير ذلك، أي تبغون لأجلها عوجاً، والعوج الميل
297
والزيغ، يقال عوج بالكسر إذا كان في الدين والقول والعمل، وبالفتح في الأجسام كالجدار ونحوه، روى ذلك عن أبي عبيدة وغيره.
والمعنى تطلبون لها اعوجاجاً وميلاً عن القصد والإستقامة بإيهامكم على الناس بأنها كذلك تنفيقاً لتحريفكم، وتقويماً لدعاويكم الباطلة، والهاء في تبغونها عائدة على السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث، ومن التأنيث هذه الآية وقوله تعالى (هذه سبيلي).
(وأنتم شهداء) جملة حالية أي والحال أنكم عالمون بأن الدين المرضي القيم هو دين الإسلام كما في كتابكم، يعني كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره، وأن فيها نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المراد وأنتم العقلاء، وقيل المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم، وقيل وأنتم تشهدون المعجزات التي تظهر على يد محمد - ﷺ - الدالة على نبوته.
(وما الله بغافل عما تعملون) فيه وعيد شديد وتهديد لهم، وذلك أنهم لما كانوا يجتهدون ويحتالون بإلقاء الشبهة في قلوب الناس ليصدوهم عن سبيل الله والتصديق بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الخفية، ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حيلتهم من إحاطة علمه تعالى بأعمالهم، كما أن كفرهم بآيات الله لما كان بطريق العلانية ختمت الآية السابقة بشهادته تعالى على ما يعملون.
298
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
ثم توعدهم سبحانه بقوله
299
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) خاطب سبحانه المؤمنين محذراً لهم عن طاعة اليهود والنصارى مبيناً لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردوهم ويصيروهم بعد إيمانهم كافرين، والكفر يوجب الهلاك في الدنيا بوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة والحرب وسفك الدماء، وفي الآخرة النار.
(وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) الاستفهام للإنكار والاستبعاد أي من أين يأتيكم ذلك ولديكم ما يمنع منه، ويقطع أثره، وهو تلاوة آيات الله عليكم أي القرآن الذي فيه بيان الحق والباطل، وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يبين الحق ويدفع الشبهة بين أظهركم.
وقيل (كيف) كلمة تعجب وتوبيخ والمراد منه المنع والتغليظ، قال قتادة في هذه الآية علمان بينان كتاب الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فأما النبي - ﷺ - فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة.
وقال الزجاج يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد - ﷺ - خاصة لأن رسول الله - ﷺ -كان فيهم وهم يشاهدونه، ويجوز أن يكون الخطاب لجميع
299
الأمة لأن آثاره وعلامته والقرآن الذي أوتيه فينا فكأن رسول الله - ﷺ - فينا وإن لم نشاهده أ- هـ.
ثم أرشدهم إلى الإعتصام بالله ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هو الإسلام فقال.
(ومن يعتصم بالله) أي ممتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته، وقيل بالقرآن، وأصل العصمة الامتناع من الوقوع في آفة يقال اعتصم به واستعصم وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره، وعصمه الطعام منع الجوع منه، وفيه حث لهم في الإلتجاء إلى الله في دفع شر الكفار عنهم (فقد هدي إلى صراط مستقيم) أي طريق واضح وهو طريق الحق المؤدي إلى الجنة، وفي وصف الصراط بالاستقامة رد على ما ادعوه من العوج.
300
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) أي التقوى التي تحق له وهي أن لا يترك العبد شيئاً مما يلزمه فعله، ولا يفعل شيئاً مما يلزمه تركه، ويبذل في ذلك جهده ومستطاعه.
قال القرطبي ذكر المفسرون أنها لما نزلت هذه الآية قالوا يا رسول الله - ﷺ - من يقوى على هذا، وشق عليهم ذلك فأنزل الله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) فنسخت هذه الآية روي ذلك عن قتادة والربيع وابن زيد، قال مقاتل وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا.
وقيل إن قوله اتقوا الله مبين لقوله (فاتقوا الله ما استطعتم) والمعنى اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، قال وهذا أصوب لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن فهو أولى.
قال ابن عباس في الآية هو أن يطاع فلا يعصى؛ ويشكر فلا يكفر ويذكر
300
فلا ينسى؟ وقال مجاهد هو أن تجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم. وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم.
قال أنس لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه؛ وقيل (حق تقاته) واجب تقواه وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم؛ وقيل غير ذلك؛ وتقاة مصدر وهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها إذ الأصل اتقوا الله التقاة الحق أي الثابتة.
(ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تكونوا على حال سوى حال الإسلام؛ وجاءت الحال جملة اسمية لأنها ابلغ وآكد؛ ولو قيل إلا مسلمين لم يفد هذا التأكيد.
قال السيوطي في التحبير: من عجيب ما اشتهر في تفسير (مسلمون) قول العوام أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عمدة عليه انتهى.
وقد تقدم في البقرة مثل هذه الآية وهو نهي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة، والمراد دوامهم على الإسلام وذلك أن الموت لا بد منه فكأنه قيل دوموا على الإسلام إلى الموت، وقريب منه ما حكى عن سيبويه " لا أرينك ههنا أي لا تكن بالحضرة فيقع عليك رؤيتي ".
عن ابن عباس أن رسول الله - ﷺ - قرأ هذه الآية فقال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (١).
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣٨٨. صحيح الجامع/٥١٢٦.
301
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
(واعتصموا بحبل الله جميعاً) الحبل لفظ مشترك وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية، وهو إما تمثيل أو استعارة مصرحة أصلية تحقيقية، أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن.
وقد وردت أحاديث بأن كتاب الله هو حبل الله، وأن القرآن هو حبل الله المتين (١)، قال أبو العالية: بالإخلاص لله وحده. وعن الحسن بطاعته، وعن قتادة بعهده وأمره، وعن ابن زيد بالإسلام.
(ولا تفرقوا) بعد الإسلام كما تفرقت اليهود والنصارى أو كما كنتم في الجاهلية متدابرين. وقيل لا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الإجتماع، والمعنى نهاهم عن التفرق الناشىء عن الاختلاف في الدين، وعن الفرقة، لأن كل ذلك عادة أهل الجاهلية.
(واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخواناً) أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم؛ لأن الشكر على الفعل أبلغ من الشكر على أثره، وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخواناً في الدين، والولاية، ومعنى أصبحتم صرتم وليس المراد به معناه الأصلي وهو الدخول في وقت الصباح.
_________
(١) رواه الطبري وإسناده صحيح ولفظه: " إن الصراط تحضره الشياطين ينادون يا عبد الله هلم هذا الطريق ليصدوا في سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله هو كتاب الله.
302
وعن ابن جريج في الآية قال: ما كان بين الأوس والخزرج في شأن عائشة، قال ابن عباس كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة حتى قام الإسلام وأطفأ الله ذلك وألف بينهم.
(وكنتم) يا معشر الأوس والخزرج (على شفا) طرف (حفرة من النار) يعني ليس بينكم وبين الوقوع في النار إلا أن تموتوا على كفركم، ففي الكلام تشبيه، وشفا كل شيء حرفه وهو مقصور من ذوات الواو وجمعه أشفاء ويثنى بالواو نحو شفوان، ويستعمل مضافاً إلى أعلا الشيء وأسفله، فمن الأول شفا جرف، ومن الثاني هذه الآية، وأشفى على كذا أي قاربه، ومنه أشفى المريض على الموت.
قال يعقوب: يقال للرجل عند موته، وللقمر عند انمحاقه، وللشمس عند غروبها ما بقي منه أو منها إلا شفا أي إلا قليل.
(فأنقذكم منها) أي من هذه الحفرة بالإسلام، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية، قال السدي: يقول كنتم على طرف النار من مات منكم وقع في النار، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم واستنقذكم به من تلك الحفرة، وقيل منها أي من الشفا لأنه المحدث عنه، وتأنيث الضمير لاكتساب المضاف التأنيث من المضاف إليه.
(كذلك) إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي مثل ذلك البيان البليغ (يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى والإزدياد منه.
303
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
304
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) كلمة " من " للتبعيض وقيل لبيان الجنس، وقيل للتبيين، وقيل زائدة ورجح القرطبي الأول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون ما يأمرون به معروفاً، وما ينهون عنه منكراً، وقد عينهم الله سبحانه بقوله: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة) الآية.
وروى ابن مردويه عن أبي جعفر الباقر عنه صلى الله عليه وآله وسلم الخير اتباع القرآن وسنتي.
وعن أبي العالية قال: كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف فهو الإسلام، والنهي عن المنكر، فهو عبادة الأوثان والشيطان انتهى، وهو تخصيص بغير مخصص، فليس في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يدل على ذلك.
وقال مقاتل بن حيان يدعون إلى الإسلام، ويأمرون بطاعة ربهم، وينهون عن معصية ربهم، وعن الضحاك في الآية قال هم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وهم الرواة انتهى.
ولا أدري ما وجه هذا التخصيص، فالخطاب في هذه الآية كالخطاب بسائر الأمور التي شرعها الله لعباده وكلفهم بها.
وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم
304
من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها.
(ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) هذا من باب عطف الخاص على العام إظهاراً لشرفهما وإنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله به عباده بالدعاء إليه، كما قيل في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وحذف متعلق الأفعال الثلاثة أي يدعون ويأمرون وينهون لقصد التعميم أي كل من وقع منه سب يقتضي ذلك، والمعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل والشرع حسنه، والمنكر ضد ذلك، وهو ما عرف بالعقل والشرع قبحه.
(وأولئك) إشارة إلى الأمة باعتبار اتصافها بما ذكر بعدها (هم المفلحون) أي المختصون بالفلاح الكاملون فيه الفائزون، وتعريف المفلحين للعهد أو للحقيقة التي يعرفها كل أحد.
305
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) هم اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين فقد تفرق كل منهما فرقاً، واختلف كل منهما باستخراج التأويلات الزائغة وكتم الآيات النافعة وتحريفها لما أخلدوا إليه من حطام الدنيا، وقيل هم المبتدعة من هذه الأمة، وقيل الحرورية، والظاهر الأول.
وقيل وهذا النهي عن التفرق والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية فالاختلاف فيها جائز، وما زال الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم مختلفين في أحكام الحوادث. وفيه نظر، فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجوداً، وتخصيص بعض المسائل بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب، فالمسائل الشرعيه متساوية الأقدام في انتسابها إلى الشرع.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت
305
النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاوية مرفوعاً نحوه، وزاد: كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وأخرج الحاكم عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً وزاد: كلهم في النار إلا ملة واحدة فقيل له ما الواحدة قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي (١).
وأخرج ابن ماجة عن عوف بن مالك مرفوعاً نحوه وفيه فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار قيل يا رسول الله فمن هم قال الجماعة، وأخرجه أحمد من حديث أنس، وفيه قيل يا رسول الله من تلك الفرقة قال الجماعة.
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الأمر بالكون في الجماعة والنهي عن الفرقة.
(من بعد ما جاءهم البينات) يعني الحجج الواضحات المبينات للحق الموجبات لعدم الاختلاف والفرقة فعلموها ثم خالفوها، ولم يقل (جاءتهم) لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل في التقديم تشبيهاً بعلامة التثنية والجمع (وأولئك لهم) أي لهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا (عذاب عظيم) في الآخرة، فيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرق والاختلاف.
عن أبي ذر قال: قال رسول الله - ﷺ - " من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من " عنقه " أخرجه أبو داود (٢)، وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله - ﷺ - قال: " من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة، فإن الشيطان مع الفذ وهو من الإثنين أبعد "، رواه البغوي بسنده.
_________
(١) المستدرك كتاب الإيمان ١/ ٦.
(٢) صحيح الجامع الصغير ٦٢٨٦. المشكاة/١٨٥.
306
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧)
307
(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) أي اذكر يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة، يقال إن ذلك عند قراءة الكتاب إذا قرأ المؤمن كتابه رأى حسناته فاستبشر وابيض وجهه.
وإذا قرأ الكافر كتابه رأى سيآته فحزن واسود وجهه، والتنكير في وجوه للتكثير أي وجوه كثيرة.
عن ابن عباس قال تبيض وجوه أهل السنة والجماعة. وتسود وجوه أهل البدعة والضلالة، وروي نحوه عن ابن عمر وأبي سعيد، قيل إن البياض كناية عن الفرح والسرور، والسواد كناية عن الغم والحزن، وقيل هما حقيقة تحصلان في الوجه.
(فأما الذين اسودت وجوههم) تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالاً وتقديم بيان حال الكفار لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيل، والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين كما بدأ بذلك عند الإجمال، ففي الآية حسن ابتداء وحسن اختتام، قيل هم أهل الكتاب، وقيل المرتدون، وقيل المبتدعون، وقيل الكافرون فيلقون في النار ويقال لهم:
(أكفرتم) الهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم (بعد إيمانكم) قال أبو السعود والظاهر أن المخاطبين بهذا القول أهل الكتابين، وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول الله ﷺ بعد إيمان أسلافهم، أو إيمان أنفسهم
307
به قبل مبعثه، أو جميع الكفرة حيث كفروا بعدما أقروا بالتوحيد يوم أخذ الميثاق في عالم الذر، أو بعدما تمكنوا من الإيمان بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة انتهى.
وقال الحسن هم المنافقون، وقال عكرمة هم أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به. وقيل الذين ارتدوا زمن أبي بكر (فذوقوا العذاب) أمر إهانة وهو من باب الاستعارة ففي (فذوقوا) استعارة تبعية تخييلية وفي العذاب استعارة مكنية حيث شبه العذاب بشيٍء يدرك بحاسة الأكل والذوق تصوراً بصورة ما يذاق، وأثبت له الذوق تخييلاً، قاله الكرخي.
(بما كنتم تكفرون) صريح في أن نفس الذوق معلل بذلك، فهو مسبب عنه، بخلاف دخول الجة الآتي فلم يذكر له سبب إشارة أنه بمحض فضل الله.
308
(وأما الذين ابيضت وجوههم) يعني المؤمنين المطيعين لله عز وجل (ففي رحمة الله) أي فهم مستقرون في جنته ودار كرامته، عبر عن ذلك بالرحمة إشارة إلى أن العمل لا يستقل بدخول صاحبه الجنة، بل لا بد من الرحمة، ومنه حديث لن يدخل أحد الجنة بعمله وهو في الصحيح (هم فيها خالدون) جملة استئنافية بيانية كأنه قيل فما حالهم فيها.
عن أبي بن كعب قال صاروا فرقتين يوم القيامة يقال لمن اسود وجهه أكفرتم بعد إيمانكم فهو الإيمان الذي كان في صلب آدم حيث كانوا أمة واحدة. وأما الذين ابيضت وجوههم فهم الذين استقاموا على إيمانهم وأخلصوا له الدين فبيض الله وجوههم وأدخلهم في رضوانه وجنته. وقد روي غير ذلك.
308
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
309
(تلك آيات الله) أي القرآن المشتمل على نعيم الأبرار وتعذيب الكفار أو التي تقدمت (نتلوها عليك) يا محمد متلبسة (بالحق) وهو العدل جملة حالية (وما الله يريد ظلماً للعالمين) جملة تذييلية مقررة لمضمون ما قبلها.
وفي توجه النفي إلى الإرادة الواقعة على النكرة دليل على أنه سبحانه لا يريد فرداً من أفراد الظلم الواقعة على فرد من أفراد العالم فضلاً أن يفعله، وفاعله محذوف أي ظلمه للعالمين، وأما ظلم بعضهم بعضاً فواقع كثيراً وكل واقع فهو بإرادته، واللام في " للعالمين " زائدة لا تعلق لها بشيء.
(ولله) وحده (ما في السموات وما في الأرض) أي مخلوقاته سبحانه يتصرف فيها كيف يشاء وعلى ما يريد، وعبر " بما " تغليباً لغير العقلاء على العقلاء لكثرتها أو لتنزيل العقلاء منزلة غيرهم إظهاراً لحقارتهم في بيان مقام عظمته تعالى.
قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلماً للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات والأرض في قبضته، وقيل هو ابتداء كلام يتضمن البيان لعباده بأن جميع ما في السموات والأرض له ملكاً وخلقاً وعبيداً حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.
(وإلى الله) أي إلى حكمه وقضائه لا إلى غيره لا شركة ولا استقلالاً (ترجع) أي تصير (الأمور) أي أموركم.
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠)
(كنتم خير أمة) هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم، سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلا الخير و (كان) قيل هي التامة أي وجدتم وخلقتم خير أمة. ومنه قوله تعالى (كيف تكلم من كان في المهد صبياً) وقوله (واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم) وقيل ناقصة.
قال الأخفش: أهل ملة أي خير أهل دين، وقيل معناه كنتم في اللوح المحفوظ. وقيل كنتم منذ آمنتم. وقيل كنتم في علم الله خير أمة، وقيل كنتم مذكورين في الأمم الماضية بأنكم خير أمة، وقيل كنتم بمعنى أنتم، وقيل يقال لهم عند دخول الجنة كنتم خير أمة، وقيل المعنى صرتم خير أمة.
وفيه دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق، وأن هذه الخيرية مشتركة بين أول هذه الأمة وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم، وإن كانت متفاضلة في ذات بينها كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم.
(أخرجت) أي أظهرت (للناس) أي لنفعهم ومصالحهم في جميع الأعصار حتى تميزت وعرفت (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) كلام مستأنف يتضمن بيان كونهم خير أمة مع ما يشتمل عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك واتصفوا به فإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال عنهم ذلك. ولهذا قال مجاهد إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية.
310
وهذا يقتضي أن يكون (تأمرون) وما بعده في محل النصب على الحال أي كنتم خير أمة حال كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر مؤمنين بالله وبما يجب عليكم الإيمان به من كتابه ورسوله وما شرعه لعباده. فإنه لا يتم الإيمان بالله سبحانه إلا بالإيمان بهذه الأمور.
قال ابن عباس في الآية: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عمر بن الخطاب لو شاء الله لقال أنتم فكنا كلنا، ولكن قال كنتم في خاصة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن صنع مثل صنعهم كانوا خير أمة، وفي لفظ عنه يكون لأولنا ولا يكون لآخرنا وأيضاً قال يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله منها.
وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل، وقال أبو هريرة خير الناس: الناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام، أخرجه البخاري وغيره (١).
وعن معاوية بن حيدة أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الآية أنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها، رواه الترمذي وحسنه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه والطبراني وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وروي من حديث معاذ وأبي سعيد ونحوه.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما أنه يدخل من هذه الأمة الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب، وهذا من فوائد كونها خير الأمم (٢).
_________
(١) أخرجه البخاري ٨/ ١٦٩ موقوفاً وهو في حكم المرفوع: عجب الله عز وجل من قوم يدخلون الجنة في سلاسل.
(٢) من هذه الأحاديث ما روي عن أبي هريرة: -[٣١٢]- يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر وفي رواية: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذي لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون.
311
(ولو آمن أهل الكتاب) أي اليهود والنصارى إيماناً كإيمان المسلمين بالله ورسله وكتبه (لكان خيراً لهم) من الرياسة التي هم عليها؛ وقيل من الكفر الذي هم عليه، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل قالوا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؛ وإنما حملهم على ذلك حب الرياسة واستتباع العوام، فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم، وفيه ضرب تهكم بهم، ولم يتعرض للمؤمن به إشعاراً بشهرته قاله أبو السعود.
وقال الكرخي: لكان هذا الإيمان خيراً لهم من الإيمان بموسى وعيسى فقط وحينئذ فأفعل التفضيل على بابه، أو هو لبيان أن الإيمان فاضل كما في قوله تعالى: (أفمن يلقى في النار خير).
ثم بين حال أهل الكتاب بقوله (منهم المؤمنون) وهم الذين آمنوا برسول الله - ﷺ - منهم، فإنهم آمنوا بما أنزل عليه وما أنزل قبله كابن سلام وأصحابه من اليهود، والنجاشي وأصحابه من النصارى (وأكثرهم الفاسقون) أي الخارجون عن طريق الحق المتمردون في باطلهم، المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولما جاء به، فيكون هذا التفصيل على هذا كلاماً مستانفاً جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل هل منهم من آمن واستحق ما وعده الله، وعبر عن كفرهم بالفسق إشارة إلى أنهم فسقوا في دينهم أيضاً فليسوا عدولاً فيه فخرجوا عن الإسلام وعن دينهم.
312
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
313
(لن يضروكم) أي اليهود يا معشر المسلمين بنوع من أنواع الضرر (إلا) بنوع (أذى) وهو الكذب والتحريف والبهت، ولا يقدرون على الضرر الذي هو الضرر في الحقيقة بالحرب والنهب ونحوهما، فالاستثناء مفرغ، قال الحسن: تسمعون منهم كذباً على الله يدعونكم إلى الضلالة.
وهذا وعد من الله لرسوله وللمؤمنين أن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم، وقيل الاستثناء منقطع، والمعنى لن يضروكم البتة لكن يؤذونكم يعني باللسان من طعنهم في دينكم أو تهديد أو إلقاء شبهة وتشكيك في القلوب، وكل ذلك يوجب الأذى والغم.
ثم بين سبحانه ما نفاه من الضرر بقوله (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار) أي ينهزمون ولا يقدرون على مقاومتكم فضلاً عن أن يضروكم (ثم لا ينصرون) أي لا يوجد لهم نصر ولا يثبت لهم غلب في حال من الأحوال، بل شأنهم الخذلان ما داموا، ولكن النصر عليهم.
وقد وجدنا ما وعدنا سبحانه حقاً، فإن اليهود لم يخفق لهم راية نصر ولا اجتمع لهم جيش غلب بعد نزول هذه الآية فهي من معجزات النبوة.
(ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا) قد تقدم في البقرة معنى هذا التركيب والمعنى صارت الذلة محيطة بهم في كل حال وعلى كل تقدير، في أي مكان وجدوا، كالشيء يضرب على الشيء فيلتصق به، والمراد بالذلة قتلهم وسبيهم وغنيمة أموالهم، وقيل الذلة ضرب الجزية عليهم لأنها ذلة وصغار،
313
وقيل ذل التمسك بالباطل، وقيل ذلتهم أنك لا ترى في اليهود ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً بل هم مستضعفون بين المسلمين والنصارى في جميع البلاد.
(إلا) أن يعتصموا (بحبل من الله) قاله الفراء أي بذمة الله أو بكتابه، قال الزجاج: هو استثناء منقطع، وقيل هو استثناء مفرغ من الأحوال العامة، قال الزمخشري: هو استثناء من أعم الأحوال والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله انتهى، أي بعهد من الله وهو أن يسلموا فتزول عنهم الذلة.
(وحبل) أي بذمة (من الناس) وهم المسلمون ببذل الجزية، وقيل المراد بالناس النبي - ﷺ - خاصة (وباؤا) رجعوا وقيل احتملوا، وأصل معناه في اللغة اللزوم والاستحقاق (بغضب) أي لزمهم غضب (من الله) وهم مستحقون له (وضربت عليهم المسكنة) أحاطت بهم من جميع الجوانب، قال الحسن: المسكنة هي الجزية، وعن قتادة والحسن قالا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وعن الضحاك نحوه.
وقيل المعنى أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان موسراً، وهكذا حال اليهود فإنهم تحت الفقر المدقع والمسكنة الشديدة إلا النادر الشاذ منهم.
(ذلك) أي ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة والغضب وقع عليهم (بأنهم) أي بسبب أنهم (كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء) إسناد القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم لرضاهم به كما أن التحريف مع كونه فعل أحبارهم ينسب إلى كل من يسير بسيرتهم (بغير حق) أي في اعتقادهم أيضاً.
(ذلك) أي الكفر وقتل الأنبياء (بما عصوا وكانوا يعتدون) أي بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده، ومعنى الآية أن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة والبواء بالغضب منه لكونهم كفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه، بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله على الاستمرار، فإن الإصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر، وهي تفضي إلى الكفر، عن ابن جريج قال: إشراكهم في عزير وعيسى والصليب.
314
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)
315
(ليسوا سواء) أي هم غير مستوين بل مختلفون، والجملة مستأنفة سيقت لبيان التفاوت بين أهل الكتاب، وقوله (من أهل الكتاب أمة قائمة) هو استئناف أيضاً يتضمن بيان الجهة التي تفاوتوا فيها من كون بعضهم أمة قائمة إلى قوله (من الصالحين).
قال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة أي ذو طريقة حسنة، وبه قال الزجاج، وقيل في الكلام حذف والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة فترك الأخرى اكتفاء بالأولى، وقال الفراء التقدير ليس تستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة، وقال النحاس: هذا القول خطأ انتهى.
وعندي أن ما قاله الفراء قوي قويم، وحاصله أن معنى الآية لا تستوي أمة من أهل الكتاب شأنها كذا وأمة أخرى شأنها كذا، والقائمة المستقيمة العادلة من قولهم أقمت العود فقام أي استقام، عن ابن عباس يقول: مهتدية قائمة من أمر الله لم تنزع عنه ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيعوه، وقيل قائمة على كتاب الله وحدوده، وقيل قائمة في الصلاة.
(يتلون آيات الله) أي يقرؤن كتابه (آناء الليل) أي ساعاته، وقال ابن عباس جوف الليل، واحدها أنى بفتح الهمزة والنون بزنة عصا أو إني بكسر الهمزة وفتح النون بوزن معي أو أنى بالفتح والسكون بوزن ظبي، أو أني بوزن حمل أو أنو بزنة جرو، وكل واحد من هذه المفردات الخمس يطلق على الساعة من الزمان كما يؤخذ من القاموس.
315
(وهم يسجدون) ظاهره أن التلاوة كائنة منهم في حال السجود، ولا يصح ذلك إذا كان المراد بهذه الأمة الموصوفة في الآية هم من قد أسلم من أهل الكتاب، لأنه قد صح عن النبي - ﷺ - النهي عن قراءة القرآن في السجود، فلا بد من تأويل هذا الظاهر بأن المراد بقوله وهم يسجدون وهم يصلون كما قاله الفراء والزجاج، وإنما عبر بالسجود عن مجموع الصلاة لا فيه من الخضوع والتذلل (١).
وظاهر هذا أنهم يتلون آيات الله في صلاتهم من غير تخصيص لتلك الصلاة بصلاة معينة، وقيل المراد بها الصلاة بين العشاءين، وقيل صلاة الليل مطلقاً.
_________
(١) زاد المسير ١/ ٤٤٢.
316
(يؤمنون بالله) وكتبه ورسله، ورأس ذلك الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم " (واليوم الآخر) " والإيمان به يستلزم الحذر من فعل المعاصي، وهم لا يحترزون منها فلم يحصل الإيمان الخالص بالله وباليوم الآخر " (ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) " صفتان أيضاً لأمة أي أن هذا من شأنهم وصفتهم، وظاهره يفيد أنهم يأمرون وينهون على العموم، وقيل المراد أمرهم باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونهيهم عن مخالفته.
(ويسارعون في الخيرات) أي يبادرون بها غير متثاقلين عن تأديتها لمعرفتهم بقدر ثوابها، والسرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه، وإن العجلة ليست مذمومة على الإطلاق، قال الله تعالى (وعجلت إليك رب لترضى) (وأولئك) أي الأمة الموصوفة بتلك الصفات (من الصالحين) أي من جملتهم، وقيل من بمعنى (مع) وهم الصحابة والظاهر أن المراد كل صالح.
316
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦)
317
(وما يفعلوا من خير) أيّ خير كان (فلن يكفروه) أي لن تعدموا ثوابه كأنه قيل فلن تحرموه كما قاله الزمخشري، بل يشكره لكم ويجازيكم به، وفيه تعريض بكفرانهم نعمته وأنه تعالى لا يفعل مثل فعلهم، وجيء به على لفظ المبني للمفعول لتنزيهه عن إسناد الكفر إليه، وقرىء بالياء التحتيه في الفعلين.
(والله عليم بالمتقين) أي كل من ثبتت له صفة التقوى؛ وقيل المراد من تقدم ذكره وهم الأمة الموصوفة بتلك الصفات، ووضع الظاهر موضع المضمر مدحاً لهم، ورفعاً من شأنهم، وفيه بشارة لهم بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل الإيمان والتقوى.
(إن الذين كفروا) قيل هم بنو قريظة والنضير، قالى مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم في هذه الآية، وقيل نزلت في مشركي قريش فإن أبا جهل كثير الإفتخار بالأموال، وأنفق أبو سفيان مالاً كثيراً في يومي بدر وأحد على المشركين، والظاهر أن المراد بذلك كل من كفر بما يجب الإيمان به لأن اللفظ عام، ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراء اللفظ على عمومه.
(لن تغني) أي لن تدفع (عنهم أموالهم) بالفدية ولو افتدوا بها من عذاب الله (ولا أولادهم) بالنصر، وإنما خص الأولاد لأنهم أحب القرابة وأرجاهم لدفع ما ينوبهم (من الله شيئاً) أي لا ينفعهم شيء من ذلك في الآخرة ولا مخلص لهم من عذاب الله، وخصهما بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال، وتارة بالاستعانة بالأولاد (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لا يخرجون منها ولا يفارقونها.
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
(مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا) بيان لكيفية عدم إغناء أموالهم التي كانوا يعولون عليها في جلب المنافع ودفع المضار، قيل أراد نفقة أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد في معاداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل أراد نفقة اليهود على علمائهم ورؤسائهم، وقيل أراد نفقات جميع الكفار وصدقاتهم في الدنيا، وقيل أراد نفقة المرائي الذي لا يريد بها وجه الله.
(كمثل ريح فيها صرّ) الصرّ البرد الشديد، وهو قول أكثر المفسرين، وبه قال ابن عباس وقتادة والسدى وابن زيد، وأصله من الصرير الذي هو الصوت فهو صوت الريح الشديد البارد، وقال الزجاج: الصر صوت لهب النار التي في تلك الريح وبه قال ابن الأنباري من أهل اللغة، وقيل هو الحر الشديد المحرق، فظرفية الريح له واضحة والتشبيه على الوجهين صحيح، والمقصود منه حاصل لأنها سواء كان فيها برد فهي مهلكة، أو حر فهي محرقة.
(أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم) بالكفر والمعاصي (فأهلكته) أي الريح الزرع، ومعنى الآية مثل نفقة الكافرين في بطلانها وذهابها وقت الحاجة إليها وعدم منفعتها كمثل زرع أصابه ريح باردة أو نار حارة فأحرقته أو أهلكته فلم ينتفع أصحابه بشيء منه بعد أن كانوا على طمع من نفعه وفائدته، وعلى هذا فلا بد من تقدير في جانب المشبه به فيقال كمثل زرع أصابته ريح أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح.
(وما ظلمهم الله) بأن لم يقبل نفقاتهم (ولكن أنفسهم يظلمون) أي بالكفر المانع من قبول النفقة التي أنفقوها، وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص، لأن الكلام في الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل لا بالمفعول، وهذا في جانب المشبّه وهم الكفار، وقوله سابقاً (ظلموا أنفسهم) في جانب المشبه به وهم أصحاب الزرع فلا تكرار.
318
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩)
319
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة) البطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله البطن الذي هو خلاف الظهر، وبطن فلان يبطن بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به.
(من دونكم) أي سواكم قاله الفراء أي من دون المسلمين وهم الكفار أي بطانة كائنة من دونكم أي من غيركم، وقدّره الزمخشري من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون وقيل من زائدة أي دونكم في العمل والإيمان.
قال ابن عباس: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم لخوف الفتنة عليهم منهم هذه الآية، وعنه قال هم المنافقون.
وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال هم الخوارج، قال السيوطي وسنده جيد وقيل المراد بهذه جميع أصناف الكفار وهو الأولى ويدخل فيه من هو سبب النزول دخولاً أولياً.
(لا يألونكم خبالاً) مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى الاجتناب عنهم. أو صفة لبطانة أي لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد،
319
يقال لا آلوك جهداً أي لا أقصر والمراد لا يمنعونكم خبالاً، والخبال والخبل الفساد في الأفعال والأبدان والعقول.
(ودّوا ما عنتّم) أي ما يشق عليكم من الضرر والشرر والهلاك، والعنت المشقة وشدة الضرر، قال الراغب هنا المعاندة والمعانتة متقاربان لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة هي أن يتحرى مع الممانعة المشقة، والجملة مستأنفة مؤكدة للنهي.
(قد بدت البغضاء) هي شدة البغض كالضرّاء لشدة الضر (من أفواههم) الأفواه جمع فم والمعنى أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم، لأنهم لما خامرهم من شدة البغض والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم، فتركوا التقية وصرحوا بالتكذيب، أما اليهود فالأمر في ذلك واضح، وأما المنافقون فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن خبث طويتهم، وهذه الجملة مستأنفة لبيان حالهم.
(وما تخفي صدورهم) من العداوة والغيظ (أكبر) مما يظهرونه لأن فلتات اللسان أقل مما تجنّه الصدور، بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جداً.
ثم إنه سبحانه امتنّ عليهم ببيان الآيات الدالة على وجوب الإخلاص إن كانوا من أهل العقول المدركة لذلك البيان فقال (قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) أي تتّعظون به.
320
(ها أنتم أولاء) الخاطئون في موالاتهم ثم بينّ خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية فقال (تحبونهم ولا يحبونكم) قيل تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان أو لما بينكم وبينهم من القرابة ولا يحبونكم لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد.
320
(وتؤمنون بالكتاب كله) أي جنس الكتاب جميعاً أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتب الله سبحانه التي من جملتها كتابهم، فما بالكم تحبونهم ولا يؤمنون بكتابكم، وفيه توبيخ لهم شديد، لأن من بيده الحق أحق بالصلابة والشدة ممن هو على الباطل.
(وإذا لقوكم قالوا) نفاقاً وتقية (آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم) أي لأجلكم، والعض الإمساك بالأسنان أي تحامل الأسنان بعضها على بعض والعض كله بالضاد إلا في قولهم عظ الزمان أي اشتد وعظت الحرب أي اشتدت فإنهما بالظاء أخت الطاء (الأنامل) جمع أنملة وهي طرف الأصبع (من الغيظ) أي تأسفاً وتحسراً حيث عجزوا عن الإنتقام منكم، والعرب تصف النادم والمغتاظ مجازاً بعضّ الأنامل والبنان. ومن لابتداء الغاية أو بمعنى اللام أي من أجل الغيظ والغيظ مصدر غاظه يغيظه أي أغضبه والتغيظ إظهار الغيظ، وقد يكون مع ذلك صوت، قال تعالى: (سمعوا لها تغيظاً وزفيراً) قاله السمين.
ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم فقال (قل موتوا بغيظكم) وهو دعاء يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يأتيهم الموت وهم عليه، والباء للملابسة أي متلبسين بغيظكم (إن الله عليم بذات الصدور) أي الخواطر القائمة بها والدواعي والصوارف الموجودة فيها. وهو كلام داخل تحت قوله (قل) فهو من جملة المقول أو مستأنفة أخبر الله بذلك لأنهم كانوا يخفون غيظهم ما أمكنوا فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد، وذات هنا تأنيث ذي بمعنى صاحبة الصدور، وجعلت صاحبة لها لملازمتها لها وعدم انفكاكها نحو أصحاب الجنة وأصحاب النار، والمراد بها المضمرات.
321
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)
322
(إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم إلى كل حسنة، وأصل المس الجس باليد ثم يطلق على كل ما يصل إلى الشيء على سبيل التشبيه كما يقال مسه نصب وتعب، قاله الخازن وحسنة وسيئة تعمّان كل ما يحسن وما يسوء، وعبر بالمس في الحسنة وبالإصابة في السيئة للدلالة على أن مجرد مس الحسنة تحصل به المساءة ولا يفرحون إلا بإصالة السيئة، وقيل أن المس مستعار لمعنى الإصابة.
قال مقاتل: الحسنة النصر على العدو والرزق والخير ومنافع الدنيا، والسيئة القتل والهزيمة والجهد والجدب، ومعنى الآية أن من كانت هذه حالته لم يكن أهلاً لأن يتخذ بطانة.
(وأن تصبروا) على عداوتهم وأذاهم أو على التكاليف الشاقة (وتتقوا) الله في موالاتهم أو ما حرّمه الله عليكم (لا يضركم) وقرىء بكسر الضاد وسكون الراء يقال ضارّه يضيره ويضوره ضيراً بمعنى ضره يضره (كيدهم شيئاً) والكيد احتيالك لتوقع غيرك في مكروه، والمعنى لا يضركم شيئاً من الضرر بفضل الله وحفظه.
(إن الله بما يعملون) من الكيد، على قراءة الياء وعليها اتفق العشرة أو من الصبر والتقوى على قراءة التاء وهي شاذة للحسن البصري (محيط) أي حافظ له لا يعزب عنه شيء منه.
(و) اذكر (إذ غدوت من أهلك) أي من المنزل الذي فيه أهلك يعني عائشة، وفيه منقبة عظيمة لها رضي الله عنها لقوله (من أهلك) فنصّ الله تعالى على أنها من أهله، قد ذهب الجمهور إلى أنّ هذه الآية نزلت في غزوة أحد، وقالى الحسن: في يوم بدر وفي رواية عنه يوم الأحزاب، قالى ابن جرير الطبري الأول الأصح للآية الآتية.
وقد اتفق العلماء على أن ذلك كان يوم أحد وبه قال عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس والزهري وقتادة والسدي والربيع وابن اسحق، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي في غزوة الخندق.
(تبوّىء المؤمنين) أي تنزلهم أو تهيىء وتسوي لهم (مقاعد للقتال) وأصل التبوّء اتخاذ المنزل يقال بوأته منزلاً إذا أسكنته أياه، ومعنى الآية واذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مراكز وأماكن يقعدون ويقفون فيها للقتال.
وعبّر عن الخروج بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كونه - ﷺ - خرج بعد صلاة الجمعة لأنه قد يعبر بالغدو والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما، كما يقال أضحى وإن لم يكن في وقت الضحى.
وقد ورد في كتب التاريخ والسير كيفية الاختلاف في المشورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم أحد، فمن قائل نخرج إليهم، ومن قائل نبقى في المدينة فخرج، وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومه ذلك، ومعاتبة من عاتب منهم يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم (وإذ غدوت من أهلك) أي يوم أحد (والله سميع) لأقوالكم (عليم) بنيّاتكم وما في ضمائركم.
323
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)
324
(إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا) أي تجبنا وتضعفا عن القتال، والطائفتان بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد، والفشل الجبن، وقيل هو في الرأي العجز وفي البدن الإعياء وعدم النهوض، وفي الحرب الجبن والخور، والفعل منه بكسر العين من باب تعب، وتفاشل الماء إذا سال.
والهمّ من الطائفتين كان بعد الخروج، والمراد بالهم هنا حديث النفس، والله تعالى لا يؤاخذ به ويعضده قول ابن عباس: أنهم أضمروا أن يرجعوا لما رجع عبد الله بن أبي بمن معه من المنافقين، فحفظ الله قلوب المؤمنين فلم يرجعوا، وذلك قوله (والله وليهما) أي ناصرهما وحافظهما ومتولي أمرهما بالتوفيق والعصمة.
(وعلى الله فليتوكل المؤمنون) التوكل التفعّل من وكل أمره إلى غيره إذا اعتمد عليه في كفايته والقيام به، وقيل التوكل هو العجز والاعتماد على الغير، وقيل هو تفويض الأمر إلى الله بحسن تدبيره، فأمرهم الله أن لا يفوضوا أمرهم إلا إليه، وتقديم الظرف للاختصاص ولتناسب رؤوس الآي.
(ولقد نصركم الله ببدر) جملة مستأنفة سيقت لتصبيرهم بتذكير ما يترتب على الصبر من النصر وهو العون، وبدر اسم لماء كان في موضع الوقعة، وقيل هو اسم الموضع نفسه، وقيل موضع بين مكة والمدينة وكانت وقعتها في السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية، وسيأتي سياق قصة بدر في الأنفال إن شاء الله تعالى.
324
(وأنتم أذلة) جمع قلة ومعناه أنهم كانوا بسب قلتهم أذلة وهو جمع ذليل، استعير للقلة إذ لم يكونوا في أنفسهم أذلة بل كانوا أعزة، قال الحسن: وأنتم قليل وهم يومئذ بضعة عشر وثلاثمائة، وكان عدوهم من كفار قريش زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس، وكان معهم السلاح والشوكة، وكان المؤمنون في ضعف الحال وقلة السلاح والمركوب وقلة المال، خرجوا على نواضح وكان أكثرهم رجّالة، ولم يكن معهم إلا فرس، وكان النفر منهم يتعقب على البعير الواحد.
وقد شرح أهل التاريخ والسير غزوة بدر وأحد بأتم شرح فلا حاجة لنا في سياق ذلك ههنا.
(فاتقوا الله) في الثبات مع رسول الله - ﷺ - (لعلكم تشكرون) ما أنعم عليكم من نصرته.
325
(إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) هذا للإنكار منه صلى الله عليه وآله وسلم عليهم عدم اكتفائهم بذلك المدد من الملائكة، وجيء بلن دون " لا " لأنها أبلغ في النفي، ومعنى الكفاية سد الخلة والقيام بالأمر، والإمداد في الأصل إعطاء الشيء حالاً بعد حال.
قال قتادة هذا كان يوم بدر أمدّهم الله بألف ملائكة ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف، وقيل كان هذا يوم أحد، وهو قول عكرمة والضحاك ومقاتل، والأول أولى وهو الراجح (١).
_________
(١) وسيأتي تفصيل ذلك في تفسيره سورة براءة إن شاء الله.
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
(بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا) أصل الفور القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد وهو من قولهم فارت القدر تفور فوراً إذا غلت، والفور الغليان، وفاز غضبه إذا جاش وفعله من فوره أي قبل أن يسكن، والفوارة ما يفور من القدر استعير للسرعة أي إن يأتوكم من ساعتهم هذه (يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة) في حال إتيانهم لا يتأخر عن ذلك (مسوّمين) أي معلمين بعلامات أو معلمين أنفسهم بعلامة على المبني المفعول أو الفاعل ورجح ابن جرير الأخير.
والتسويم إظهار سيما الشيء قال كثير من المفسرين مسوّمين أي مرسلين خيلهم في الغارة، وقيل إن الملائكة اعتمت بعمائم بيض، وقيل حمر، وقيل خضر، وقيل صفر، فهذه هي العلامة التي علموا بها أنفسهم حكي ذلك عن الزجاج.
وقيل كانوا على خيل بلق، وقيل غير ذلك، وفي بيان التسويم عن السلف اختلاف كثير لا يتعلق به كثير فائدة.
قال ابن عباس لم تقاتل الملائكة في معركة إلا يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً ومدداً. قال الحسن هؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة.
وقد سئل السبكي عن الحكمة في قتال الملائكة مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه.
وأجاب: بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبي وأصحابه وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده، والله فاعل الجميع انتهى.
326
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨)
327
(وما جعله الله) أي الإمداد أو التسويم أو الانزال، ورجح الأول صاحب الكشاف (إلا بشرى لكم) استثناء مفرغ من أعم العام والبشرى اسم من البشارة وهي الإخبار بما يسر (ولتطمئن قلوبكم به) أي لتسكن، واللام لام كي، جعل الله ذلك الإمداد بشرى بالنصر، وطمأنينة للقلوب وفي قصر الإمداد عليهما إشارة إلى عدم مباشرة الملائكة للقتال يومئذ.
(وما النصر إلا من عند الله) لا من عند غيره فلا ينفع كثرة القاتلة وجودة العدة، والغرض أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة الذين أمدوا بهم، وفيه تنبيه على الأعراض عن الأسباب والإقبال على مسببها (العزيز الحكيم) فاستعينوا به وتوكلوا عليه.
(ليقطع طرفاً من الذين كفروا) الطرف الطائفة والمعنى نصركم الله ببدر ليقطع ويهلك طائفة من الكفار ويهدم ركناً من أركان الشرك بالقتل والأسر.
فقتل يوم بدر من قادتهم وسادتهم سبعون، وأسر سبعون.
ومن حمل الآية على غزوة أحد قال قد قتل منهم ستة عشر، وكان النصر فيه للمسلمين حتى خالفوا أمر رسول الله - ﷺ -.
(أو يكبتهم) يحزنهم والمكبوت المحزون، وقال الكرخي: يذلهم، أشار به إلى أن الكبت من الذلة يقال كبت الله العدو كبتاً أي أذله وصرفه.
وقال بعض أهل اللغة: معناه يكبدهم أي يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم وهو غير صحيح فإن معنى كبت أحزن وأغاظ وأذل، ومعنى كبد أصاب الكبد وأصل الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه، والمراد منه القتل والهزيمة والإهلاك أو اللعن أو الخزي (فينقلبوا خائبين) أي غير ظافرين بمطلبهم.
327
عن قتادة قال قطع الله يوم بدر طرفاً من الكفار وقتل صناديدهم ورؤوسهم وقادتهم بالبشر، وعنه قال هذا يوم بدر قطع الله طائفة منهم وبقيت طائفة، وعن السدي ذكر الله قتلى المشركين بأحد وكانوا ثمانية عشر رجلاً فقال " ليقطع طرفاً " ثم ذكر الشهداء فقال " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن النبي - ﷺ - كسرت رباعيّته يوم أحد وشجّ في وجهه حتى سال الدم، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم (١)، فأنزل الله
_________
(١) مسلم ١٧٩١.
328
(ليس لك في الأمر شيء) أي لست تملك إصلاحهم ولا تعذيبهم بل ذلك ملك الله فاصبر (أو يتوب عليهم) بالإسلام (أو يعذبهم) بالقتل والأسر والنهب (فإنهم ظالمون) بالكفر وقد روى هذا المعنى في روايات كثيرة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ - يوم أحد اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل ابن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية، وللحديث ألفاظ وطرق (١).
ومعنى الآية أن الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك أو الهزيمة أو التوبة إن أسلموا، أو العذاب إن أصروا على الكفر، وقال الفراء (أو) بمعنى إلا. والمعنى إلا أن يتوب عليهم فتفرح بذلك أو يعذبهم فتشتفي بهم.
وقال السيوطي أو بمعنى (إلى أن) يعني غاية في الصبر، أي إلى أن يتوب عليهم، قيل نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلاً من الغزاة بعثهم رسول الله - ﷺ - ليعلموا الناس القرآن فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد (٢) من ذلك وجداً شديداً وقنت شهراً الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن، وفي الباب أحاديث في الصحيحين لا نطول بذكرها.
_________
(١) مسلم ١٧٩٤ - البخاري ١٧٩.
(٢) أي حزن رسول الله (- ﷺ -).
328
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)
329
(ولله ما في السموات وما في الأرض) هذا كالدليل على قوله ليس لك من الأمر شيء الخ (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) كلام مستأنف لبيان سعة ملكه أي يفعل في ملكه ما يشاء من المغفرة والعذاب، ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وفي قوله (والله غفور رحيم) إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه وتبشير لعباده بأنه المتصف بالمغفرة والرحمة على وجه المبالغة، وما أوقع هذا التذييل الجليل وأحبّه إلى قلوب العارفين بأسرار التنزيل.
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا) قيل هو كلام مبتدأ للترهيب والترغيب فيما ذكر، وقيل هو اعتراض بين أثناء قصة أحد.
وقوله (أضعافاً مضاعفة) ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريمه على كل حال ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا فإنهم كانوا يربون إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في المال مقداراً يتراضون عليه ثم يزيدون في أجل الدين فكانوا يفعلون ذلك مرة بعد مرة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء، وفيه إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام، والمبالغة في هذه العبارة تفيد تأكيد التوبيخ، وفي السمين (أضعافاً) جمع ضعف ولما كان جمع قلة والمقصود الكثرة أتبعه بما يدل على ذلك وهو الوصف بمضاعفة.
329
(واتقوا الله) في أكل الربا ومضاعفته فلا تأكلوه ولا تضعفوه (لعلكم تفلحون) أي لكي تسعدوا، وفيه دليل على أن أكل الربا من الكبائر ولهذا عقبه بقوله:
330
(واتقوا النار التي أعدت للكافرين) فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم (١).
قال كثير من المفسرين وفيه أنه يكفر من استحل الربا، وقيل معناه اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار، وإنما خص الربا في هذه الآية لأنه الذي توعد إليه بالحرب منه لفاعله.
قال ابن عباس هذا تهديد للمؤمنين أن يستحلوا ما حرم الله عليهم من الربا وغيره مما أوجب الله فيه النار، قال بعضهم إن هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه ويجتنبوا محارمه.
وقال الواحدي في هذه الآية تقوية لرجاء المؤمنين رحمة من الله لأنه قال " أعدت للكافرين " فجعلها معدّة لهم دون المؤمنين.
_________
(١) قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في " عمدة التفسير " ج/٣/ ٣٨ تعليقاً على هذه الآية: والمتلاعبون بالدين من أهل عصرنا، وأولياؤهم من عابدي التشريع الوثني الأجنبي، بل التشريع اليهودي في الربا يلعبون بالقرآن ويزعمون أن هذه الآية تدل على أن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة، ليجيزوا ما بقي من أنواع الربا، على ما ترضى أهواؤهم وأهواء سادتهم، ويتركوا الآية الصريحة: ْ (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُون) فكانوا في تلاعبهم بتأول هذه الآية الصريحة أسوأ حالاً ممن:. (يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)، (فأولئك الذي سمى الله فاحذروهم).
(وأطيعوا الله والرسول) حذف المتعلق مشعر بالتعميم أي في كل أمر ونهي، قال محمد بن إسحق في هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله - ﷺ - يوم أحد (لعلكم ترحمون) أي راجين الرحمة من الله عز وجل.
330
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
331
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) أي بادروا وسابقوا إلى ما يوجب المغفرة من ربكم وهي الطاعات، قرىء سارعوا بغير واو وبالواو، قال أبو علي كلا الأمرين سائغ مستقيم والمسارعة المبادرة، قال ابن عباس: إلى الإسلام وعنه إلى التوبة، وقال علي بن أبي طالب إلى أداء الفرائض، وعن أنس بن مالك وسعيد بن جبير أنها التكبيرة الأولى، وقيل إلى الإخلاص في الأعمال.
وقيل إلى الهجرة، وقيل إلى الجهاد واللفظ مطلق فيعمّ الكل ولا وجه لتخصيص نوع دون نوع، وهذا وجه من قال إلى جميع الطاعات والأعمال الصالحات.
(وجنة) أي وسارعوا إلى جنة، وإنما فصل بين المغفرة والجنة لأن المغفرة هي إزالة العقاب والجنة هي حصول الثواب فجمع بينهما للإشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين، وتقديم المغفرة على الجنة كما أن التخلية متقدمة على التحلية.
(عرضها) أي عرض الجنة (السموات والأرض) يعني كعرضهما لأن نفس السموات والأرض ليس عرضاً للجنة والمراد سعتها، وإنما خص العرض للمبالغة لأن الطول في العادة يكون أكثر من العرض يقول هذه صفة عرضها فكيف طولها، ومثله الآية الأخرى (عرضها كعرض السماء والأرض).
وقد اختلف في معنى ذلك فذهب الجمهور إلى أنها تقرن السموات بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض فذلك عرض الجنة، وقيل إن هذا الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة وذلك أنها لما كانت الجنة من الإتساع والإنفساح في غاية قصوى، حسن التعبير
331
عنها بعرض السموات والأرض مبالغة لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده، ولم يقصد بذلك التحديد كما تقول العرب: بلاد عريضة أي واسعة طويلة عظيمة، فجعل العرض كناية عن السّعة.
قال الزهري: إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله، هذا على سبيل التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير بل معناه كعرضهما عند ظنكم كقوله تعالى (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) أي عند ظنكم وإلا فهما زائلتان.
وسأل ناس من اليهود عمر بن الخطاب إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين تكون النار فقال لهم أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار، وإذا جاء النهار فأين يكون الليل، فقالوا إن مثلها في التوراة ومعناه أنه حيث شاء الله.
وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي السماء أم في الأرض فقال وأي أرض وسماء تسع الجنة، قيل فأين هي قال فوق السموات السمبع تحت العرش.
وقال قتادة: كانوا يرون الجنة فوق السموات السبع، وجهنم تحت الأرضين السبع.
(أعدت للمتقين) أي هيئت لهم، وفيه دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وهو الحق خلافاً للمعتزلة. أخرج عبد بن حميد وغيره عن عطاء ابن أبي رباح قال: قال المسلمون يا رسول الله أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم ذنباً أصبح كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه، اجدع أنفك، اجدع أذنك افعل كذا وكذا فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت (وسارعوا) الآية.
332
(الذين ينفقون في السراء والضراء) السراء اليسر والضراء العسر، وقد تقدم تفسيرهما، وقيل السراء الرخاء والضراء الشدة وهو مثل الأول، وقيل السراء في الحياة والضراء بعد الموت، والمعنى لا يتركون الإنفاق في كلتي الحالتين في الغنى والفقر والرخاء والشدة ولا في حال فرح وسرور، ولا في حال محنة
332
وبلاء، سواء كان الواحد منهم في عرس أو حبس، فأول ما ذكر الله من أخلاقهم الموجبة للجنة السخاء لأنه أشق على النفوس، وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح المنفق وذم البخيل والممسك في الصحيحين وغيرهما.
(والكاظمين الغيظ) أي الجارعين إياه عند امتلاء نفوسهم عنه والكافّين عن إمضائه مع القدرة، والكظم حبس الشيء عند امتلائه يقال كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره ومنه كظمت السّقاء أي ملأته والكظامة ما يسد به مجرى الماء وكظم البعير جرّته إذا ردها في جوفه.
وقد وردت أحاديث كثيرة في ثواب كظم الغيظ منها عن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء أخرجه الترمذي وأبو داود (١).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب رواه الشيخان (٢)، وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت لله درّ التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء.
(والعافين عن الناس) أي التاركين عقوبة من أذنب إليهم واستحق المؤاخذة، وذلك من أجل ضروب الخير، وظاهره العموم سواء كان من المماليك أم لا، وقال الزجاج وغيره المراد بهم المماليك (والله يحب المحسنين) اللام يجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء وغيرهم. ويجوز أن تكون للعهد فيختص بهؤلاء، والأول أولى اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السياق فيدخل فيه كل من صدر منه مسمى الإحسان أي إحسان كان.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٦٣٩٨. المشكاة/٥٠٨٨.
(٢) مسلم ٢٦٠٩ - البخاري ٢٣٤٦.
333
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦)
334
(والذين إذا فعلوا فاحشة) أي فعلة فاحشة وهي تطلق على كل معصية وقد كثر إختصاصها بالزنا وأصل الفحش القبح والخروج عن الحدّ (أو ظلموا أنفسهم) باقتراف ذنب من الذنوب قيل هو ما دون الزنا مثل القبلة والمعانقة واللمس والنظر، وقيل أو بمعنى الواو والمراد ما ذكر، وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة، وقيل غير ذلك، قال النخعي الظلم من الفاحشة والفاحشة من الظلم.
(ذكروا الله) أي بألسنتهم عند الذنوب أو أخطروه في قلوبهم أو ذكروا وعده ووعيده أو جلاله الوجب للحياء منه (فاستغفروا لذنوبهم) أي طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه، وتفسيره بالتوبة خلاف لمعناه لغة.
وفي الاستفهام بقوله: (ومن يغفر الذنوب) من الإنكار مع ما تضمنه من الدلالة على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره ما لا يخفى، أي لا يغفر جنس الذنوب أحد (إلا الله) وفيه ترغيب لطلب المغفرة من الله سبحانه وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل.
(ولم يصروا على ما فعلوا) أي لم يقيموا على قبيح فعلهم ولكن استغفروا وقد تقدم تفسير الإصرار والمراد به هنا العزم على معاودة الذنب وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه، قال السدّي في الآية: فيسكتون ولا يستغفرون.
334
(وهم يعلمون) جملة حالية أي عالمين بقبحه وأنها معصية وأن لهم ربّاً يغفرها، وقيل يعلمون أن الإصرار ضار، وقيل يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنب، وقيل يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت، وقيل يعلمون أنهم إن استغفروه غفر لهم، وقيل يعلمون أن الله يتوب على من تاب قاله مجاهد، وقيل يعلمون أن تركه أولى قاله الحسن، وقيل يعلمون المؤاخذة بها أو عفو الله عنها، والمعاني متقاربة.
عن ابن مسعود قال إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنباً فقرأهما فاستغفر الله إلا غفر له (والذين إذا فعلوا فاحشة) الآية، وقوله (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) الآية.
عن ثابت البناني قال بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى، وعن عطاف بن خالد قال بلغني أنه لما نزلت هذه الآية صاح إبليس بجنده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر فقالوا مالك يا سيدنا قال آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحداً من بني آدم ذنب، قالوا وما هي؟ فأخبرهم قالوا نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق فرضي منهم بذلك.
وعن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله من ذنبه ذلك إلا غفر الله له ثم قرأ " والذين إذا فعلوا فاحشة " الآية رواه أحمد وأهل السنن الأربع وحسّنه النسائي (١).
وأخرج الترمذي وأبو داود والبيهقي في الشعب عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله - ﷺ -ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة (٢)، وقد
_________
(١) الترمذي الباب ١٨١ من كتاب الصلاة، الإمام أحمد ١/ ٢.
(٢) الترمذي الباب ١٠٦ من كتاب الدعوات - أبو داوود الباب ٢٦ من كتاب الوتر.
335
وردت أحاديث كثيرة في فضل الاستغفار.
336
(أولئك) المذكورون بقوله (والذين إذا فعلوا فاحشة) على ما هو الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب في سلك الجزاء (جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار) أي ذلك ذخر لهم لا يبخس وأجر لا يوكس، وقد تقدم تفسير الجنات وكيفية جري الأنهار من تحتها (خالدين فيها) أي مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها (ونعم أجر العاملين) بطاعة الله، والمخصوص بالمدح محذوف أي الجنة على ما قاله مقاتل أو أجرهم أو ذلك المذكور (١).
_________
(١) قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة) في سبب نزولها ثلاثة أقوال.
أحدها: أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمراً فضمها، وقبلها، ثم ندم، فأتى النبي فذكر ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. أخرجه الإمام أحمد في " المسند " وابن ماجه عن ابن عمر، ونقل السُّدِّي عن " زوائد البوصيري " قال: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وذكره المنذري في " الترغيب والترهيب " وقال: رواه ابن ماجه، ورواته محتج بهم في الصحيح.
والثاني: أن أنصارياً وثقفياً آخى النبي - ﷺ - بينهما، فخرج الثقفي مع النبي - ﷺ - في بعض مغازيه، فكان الأنصاري يتعهد أهل الثقفي، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي شعرها، فدخل ولم يستأذن؛ فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبله ثم ندم، فأبر راجعاً، فقالت: سبحان الله خنت أمانتك، وعصيت ربك، ولم تصب حاجتك، قال: فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله من ذنبه. فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه، فندم على صنيعه فوافقه ساجداً يقول: ذنبي ذنبي، قد خنت أخي. فقال له: يا فلان انطلق إلى رسول الله - ﷺ - فاسأله عن ذنبك، لعل الله أن يجعل لك منه مخرجاً، فرجع إلى المدينة، فنزلت هذه الآية بتوبته، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وذكره مقاتل.
والثالث: أن المسلمين قالوا للنبي - ﷺ -: بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كان أحدهم إذا أذنب، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه، فنزلت هذه الآية، فقال النبي - ﷺ -: " ألا أخبركم بخير من ذلك " فقرأ هذه الآية، والتي قبلها، هذا قول عطاء ".
336
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
337
(قد خلت من قبلكم سنن) هذا رجوع إلى وصف باقي قصة أحد بعد تمهيد مبادىء الرشد والصلاح تسلية للمؤمنين على ما أصابهم من الحزن والكآبة، وأصل الخلو في اللغة الإنفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن فيه ويستعمل أيضاً في الزمان بمعنى المضي، لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه. وكذا الأمم الخالية.
والمراد بالسنن ما سنّه الله في الأمم الماضية من وقائعه أي قد خلت من قبل في زمانكم وقائع سنها الله في الأمم المكذبة بالهلاك والاستئصال لأجل مخالفتهم الأنبياء. وأصل السنن جمع السنة وهي الطريقة المستقيمة والعادة، والسنة الإمام المتبع المؤتم به، والسنة الأمة والسنن الأمم قاله المفضل الضبي، وقال الزجاج: أهل سنن فحذف المضاف، قال مجاهد: قد خلت سنن تداول من الكفار والمؤمنين في الخير والشر.
ْ (فسيروا) أيها المؤمنون (في الأرض) والمطلوب من هذا السير المأمور به هو حصول المعرفة بذلك فإن حصلت بدونه فقد حصل المقصود، وإن كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها، والأمر للندب لا على سبيل الوجوب (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا ثم انقرضوا فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر.
337
هذا قول أكثر المفسرين، والعاقبة آخر الأمور، رغبهم في تأمل أحوال الأمم الماضية ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإعراض عن الدنيا ولذاتها لأن النظر إلى آثار المتقدمين له أثر في النفس، وفي هذه الآية تسلية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما جرى لهم في غزوة أحد.
338
(هذا بيان للناس) الإشارة إلى قوله (قد خلت) الخ وقال الحسن إلى القرآن ولا يخفى بعده. والبيان التبيين، وقيل هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة. وتعريف الناس للعهد، وهم المكذبون أو للجنس أي للمكذبين وغيرهم وفيه حث على النظر في سوء عاقبة المكذبين وما انتهى إليه أمرهم.
(و) هذا النظر مع كونه بياناً فيه (هدى وموعظة) فعطف الهدى والموعظة على البيان يدل على التغاير ولو باعتبار المتعلق وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد فالبيان للمكذبين والهدى والموعظة للمؤمنين، وإن كانت للجنس فالبيان لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، والهدى والوعظ (للمتقين) من المؤمنين وحدهم، والهدى بيان طريق الرشد المأمور بسلوكه دون طريق الغي، والموعظة هي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين.
فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان (أحدهما) الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى (والثاني) الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة وإنما خص المتقين بالهدى والموعظة لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم قال سعيد بن جبير: أول ما نزل من آل عمران هذا بيان للناس ثم أنزل بقيتها من يوم أحد.
(ولا تهنوا ولا تحزنوا) عزاهم وسلاهم لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم. ونهاهم عن العجز والفشل، والمعنى لا تضعفوا عن الجهاد ولا تحزنوا على من قتل منكم لأنهم في الجنة.
338
ثم بين لهم أنهم الأعلون على عدوهم بالنصر والظفر فقال: (وأنتم الأعلون) جمع أعلى والأصل أعليون هي جملة حالية أي والحال أنكم الأعلون عليهم وعلى غيرهم بعد هذه الوقعة، وقد صدق الله وعده فإن النبي - ﷺ - بعد وقعة أحد ظفر بعدوه في جميع وقعاته، وقيل المعنى وأنتم الأعلون عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر فإنه أكثر مما أصابوا منكم اليوم.
أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج قال انهزم أصحاب رسول الله - ﷺ - في الشعب يوم أحد فسألوا ما فعل النبي - ﷺ - وما فعل فلان فنعى بعضهم لبعض وتحدثوا أن النبي - ﷺ - قد قتل، فكانوا في همّ وحزن، فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل وكانوا على إحدى جنبتي المشركين وهم أسفل من الشعب، فلما رأوا النبي - ﷺ - فرحوا فقال النبي - ﷺ - اللهم لا قوة لنا إلا بك وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء فلا تهلكهم، وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله.
وعلا المسلمون الجبل فذلك قوله (وأنتم الأعلون) وقال الضحاك أنتم الغالبون (إن كنتم مؤمنين) أي مصدقين بأن ناصركم هو الله تعالى فصدقوا بذلك فإنه حق وصدق.
339
(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) القرح بالضم والفتح الجرح وهما لغتان فيه قاله الكسائي والأخفش ومعناهما واحد، وقال الفراء: هو بالفتح الجرح وبالضم ألمه، وقرىء قرح على المصدر. والآية خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحد مع الحزن والكآبة إن يمسسكم أيها المسلمون قرح ونالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم، وأنتم أولى بالصبر منهم.
وقيل المراد ما أصاب المسلمين والكافرين في هذا اليوم، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء فأصابوا منهم جماعة ثم انتصر الله عليهم فأصابوا
339
منهم والأول أولى لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه، وكذا ما أصابه المشركون في يوم أحد لم يكن مثل ما أصابه المسلمون منهم يوم بدر بل ضعفه كما قال تعالى: (قد أصبتم مثليها) فيمكن أن يكون المماثلة في القتلى من دون نظر إلى الأسرى، ويكون القول الأول أرجح كما سلف.
(وتلك الأيام) الكائنة بين الأمم في حروبها والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوة تارة تغلب هذه الطائفة وتارة تغلب الأخرى كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر وأحد وهو معنى قوله (نداولها بين الناس) فقوله لك مبتدأ والأيام صفته والخبر نداولها أي نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقول من قال:
فيوماً علينا ويوماً لنا... ويوماً نُساء ُويوماً نسر
وكقول حسان الهند السيد ازاد البلجرامي رحمه الله تعالى:
ورأيت معالم دارسة... رسمته مزاولة السبل
وسألت رسوم الأربع ما... فعلت بك سابقة الأزل
فأجابت قال الله لنا... وسؤالك من جهة الغفل
تلك الأيام نداولها... لأمكث لهن على رجل
وأصل المداولة المعاورة وأدلته بينهم عاورته، والدولة الكرة يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر، ويقال الدنيا دول أي تنقل من قوم إلى آخرين، ثم منهم إلى غيرهم، وقيل المداولة المناوبة على الشيء والمعاودة وتعهده مرة بعد أخرى، قاله السمين.
والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس فيوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء، فكانت الدولة للمسلمين على المشركين في يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين رجلاً
340
وأسروا سبعين وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين، والقصة في البخاري بطولها عن البراء بن عازب وفي الباب أحاديث.
والمعنى نداولها ليظهر أمركم. قال ابن عباس أدال المشركون على النبي صلى الله عليه وآله وسلمٍ يوم أحد، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلا عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين وكان عدد الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلاً أخرجه ابن جرير وغيره.
(وليعلم الله) علم ظهور (الذين آمنوا) أي إنما جعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة وشدة، وهو من باب التمثيل أي فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالماً، أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علماً يقع عليه الجزاء كما علمه علماً أزلياً، وقيل ليعرفهم بأعيانهم، وقيل ليعلم أولياء الله فأضاف علمهم إلى نفسه تفخيماً وقيل غير ذلك.
(ويتخذ منكم شهداء) يعني ويكرمكم بالشهادة، والشهداء جمع شهيد وهو من قتل من المسلمين بسيف الكفار في المعركة سمي بذلك لكونه مشهوداً له بالجنة أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة، ومن للتبعيض وهم شهداء أحد.
وقال ابن عباس إن المسلمين كانوا يسألون ربهم: اللهم ربّنا أرنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيراً ونلتمس فيه الشهادة فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ منهم شهداء.
(والله لا يحب الظالمين) يعني المشركين، جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله، وقيل هم الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي، قيل هم المنافقون، والأول أولى، ونفي المحبة كناية عن البغض، وفي إيقاعه على الظالمين تعريض بمحبته تعالى لمقابليهم.
341
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
342
(وليمحّص الله الذين آمنوا) التمحيص الإبتلاء والاختبار، وقيل التطهير والتنقية على حذف مضاف أي ليمحص ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء، وقيل يمحص يخلّص، قاله الخليل والزجاج أي ليخلّص المؤمنين من ذنوبهم ويزيلها عنهم.
وفي القاموس ومحصّ الذهب بالنار من باب منع أخلصه مما يشوبه والتمحيص التصفية (ويمحق الكافرين) أي يستأصلهم بالهلاك ويفنيهم، وأصل التمحيق محو الآثار والمحق نقصها قليلاً قليلا، وقال ابن عباس: يمحص يبتليهم، ويمحق ينقصهم.
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز، وأم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة للإنكار، والمعنى لا تحسبوا أيها المؤمنون أن تنالوا كرامتي وثوابي (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) قال الرازي: أي ولما يصدر الجهاد عنكم، وهذا ظاهر الآية والمراد أن العلم متعلق بالعلوم.
وقال الواحدي: المعنى على الجهاد دون العلم أي لما يكن العلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم وقال الطبري: ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهد منكم على ما أمرته به، وقال أبو السعود: نفي العلم كناية عن نفي العلوم لما بينهما من اللزوم المبني على لزوم تحقق الأول لتحقق الثاني ضرورة استحالة شيء بدون علمه تعالى به.
وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف فقط وكان
342
يكفي أن يقال ولا يعلم الله جهادكم كناية عن معنى ولا تجاهدوا للمبالغة في بيان انتفاء الوصف وعدم تحققه أصلاً انتهى، ولما بمعنى لم عند الجمهور، وفرق سيبويه بينهما فجعل لم لنفي الماضي، ولما لنفي الماضي والمتوقع، ففيه إيذان بأن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل إلا أنه غير معتبر في تأكيد الإنكار.
ْ (ويعلم الصابرين) الواو للجمع قاله الخليل وغيره، وقال الزجاج بمعنى حتى، وقال الزمخشري للحال، والمعنى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما وفي الآية معاتبة لمن انهزم يوم أحد.
والخطاب في قوله
343
(ولقد كنتم تمنّون الموت) لمن كان يتمنى القتال والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر فإنهم كانوا يتمنّون يوماً يكون فيه قتال، فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحّوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج ولم يصبر منهم إلا نفر يسير مثل أنس ابن النضر عم أنس بن مالك.
وقد ورد النهي عن تمني الموت فلا بد من حمله هنا على الشهادة يعني حالة الشهداء من رفع المنزلة في الجنة وغير ذلك، ويكون المراد بالموت هنا ما يؤول إليه لا نفس الشهادة لأنها مستلزمة لتمني الموت وغلبة الكفار.
وعلى هذا التأويل يزول الإشكال لأن من طلب الجنة لا يقال أنه تمنى الموت، قال القرطبي: وتمنّي الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم لأنه معصية وكفر، ولا يجوز إرادة المعصية وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدى إلى القتل.
(من قبل أن تلقوه) أي القتال أو الشهادة التي هي سبب الموت أو العود على العدو، والجمهور على كسر لام من قبل لأنها معربة لإضافتها إلى أن
343
أي من قبل لقائه وقرىء تلاقوه ومعناه معنى تلقوه لأن لقي يستدعي أن يكون بين اثنين بمادته وإن لم يكن على المفاعلة.
(فقد رأيتموه) أي القتال أو ما هو سبب للموت يوم أحد، والظاهر أن الرؤية بصرية، وقيل علمية أي فقد علموا الموت حاضراً (وأنتم تنظرون) قيّد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة أي قد رأيتموه معاينين له حين قتل دونكم من قتل منكم.
قال الأخفش: إن التكرير بمعنى التأكيد مثل قوله (ولا طائر يطير بجناحيه) وقيل معناه بصراء ليس في أعينكم علل تتأملون الحال كيف هي فلم انهزمتم، وقيل معناه وأنتم تنظرون إلى محمد - ﷺ -.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجالاً من أصحاب رسول الله - ﷺ - كانوا يقولون ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر، ونستشهد، أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبلي فيه خيراً ونلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق فأشهدهم الله أحداً فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم، فقال الله (ولقد كنتم تمنّون الموت) الآية وفيه توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب. وتسببوا فيها ثم جبنوا وانهزموا عنها، أو توبيخ لهم على الشهادة فإن في تمنيها تمنّي غلبة الكافرين (١).
_________
(١) وقد ورد في سيرة ابن هشام أنهم بعد أن دخل رسول الله ﷺ للبس لأمته لاموا أنفسهم إذ اختاروا عكس رأي النبي فطلبوا عنه عدم الخروج فرفض ذلك عليه الصلاة والسلام.
وخرج بهم إلى أحد وكان ما كان من حوادث وفرار وتخلف ومعصية أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام.
344
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
345
(وما محمد إلا رسول) سبب نزول هذه الآية أن النبي - ﷺ - لما أصيب يوم أحد صاح الشيطان قائلاً قد قتل محمد - ﷺ - ففشل بعض المسلمين حتى قال قائل قد أصيب محمد فأعطوا بأيديكم فإنما هم إخوانكم (١)، وقال آخر لو كان رسولاً ما قتل فرد الله عليهم ذلك وأخبرهم بأنه رسول (قد خلت من قبله الرسل) وسيخلو كما خلوا فهذه الجملة صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقصر قصر أفراد كأنهم استبعدوا هلاكه فأثبتوا له صفتين الرسالة وكونه لا يهلك فرد الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك، وقيل هو قصر قلب.
ثم أنكر الله عليهم بقوله (أفإن مات) الهمزة للاستفهام الإنكاري أي كيف ترتدون وتكفرون دينه إذا مات (أو قتل) مع علمكم أن الرسل تخلو ويتمسك أتباعهم بدينهم وإن فقدوا بموت أو قتل، وقيل الإنكار لجعلهم خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم بموته أو قتله، وإنما ذكر القتل سبحانه مع علمه أنه لا يقتل لكونه مجوزاً عند المخاطبين.
(انقلبتم على أعقابكم) أي ترجعون إلى دينكم الأول يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه نكص على عقبيه ورجع وراءه. والحاصل أن موته - ﷺ -
_________
(١) ابن جرير ٧/ ٢٥٧.
345
أو قتله لا يوجب ضعفاً في دينه ولا الرجوع عنه بدليل موت سائر الأنبياء قبله، وأن اتباعهم ثبتوا على دين أنبيائهم بعد موتهم، فلا ينبغي منكم الانقلاب والارتداد حينئذ، لأن محمداً عبد مبلّغ لا معبود، وقد بلغكم والعبود باق فلا وجه لرجوعكم عن الدين الحق ولو مات من بلغكم إياه.
(ومن ينقلب على عقبيه) بإدباره عن القتال أو بارتداده عن الإسلام (فلن يضر الله شيئاً) وإنما يضر نفسه (وسيجزي الله الشاكرين) أي الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام ومن امتثل ما أمر به فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها عليه.
وقال علي: الشاكرين الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه فكان علي رضي الله عنه يقول: كان أبو بكر رضي الله عنه أمير الشاكرين وكان أشكرهم وأحبّهم إلى الله تعالى، وعنه أنه كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت (١).
_________
(١) القرطبي ٤/ ٢٢٢.
346
(وما كان لنفس أن تموت) هذا كلام مستأنف يتضمن الحث على الجهاد والإعلام بأن الموت لا بد منه (إلا بإذن الله) أي ما كان لها أن تموت إلا مأذوناً لها فالاستثناء مفرغ والباء للمصاحبة يعني بقضاء الله وقدره وأمره، وقيل هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلى الله عليه وآله وسلم فبين لهم أن الموت بالقتل أو بغيره منوط بإذن الله، وإسناده إلى النفس مع كونها غير مختارة له للإيذان بأنه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا باذنه.
346
وفيه تحريض المؤمنين على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم بأن الجبن لا ينفع وإن الحذر لا يدفع، والثبات لا يقطع الحياة وأن أحداً لا يموت إلا بأجله وإن خاض المهالك، واقتحم المعارك، وإذا جاء الأجل لم يدفع الموت بحيلة فلا فائدة في الجبن والخوف.
وفيه أيضاً ذكر حفظ الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عند غلبة العدو وتخليصه منهم عند التفافهم عليه وإسلام أصحابه له فأنجاه الله من عدوه سالماً مسلماً لم يضره شيء.
(كتاباً مؤجلاً) معناه كتب الله الموت كتاباً، والمؤجل المؤقت الذي لا يتقدم على أجله ولا يتأخر، يعني مؤقتاً له أجل معلوم وقيل الكتاب هو اللوح المحفوظ لأن فيه آجال جميع الخلائق، والأول أولى، والغرض من هذا السياق توبيخ المنهزمين يوم أحد.
(ومن يرد) بعمله (ثواب الدنيا) كالغنيمة ونحوها، نزلت في الذين تركوا المركز وطلبوا الغنيمة، واللفظ يعم كل ما يسمى ثواب الدنيا وإن كان السبب خاصاً (نؤته منها) أي من ثوابها ما نشاء على ما قدرنا له، فهو على حذف المضاف.
(ومن يرد) بعمله (ثواب الآخرة) وهو الجنة، نزلت في الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنها عامة في جميع الأعمال (نؤته منها) أي من ثوابها ونضاعف له الحسنات أضعافاً كثيرة (وسنجزي الشاكرين) أي نجزيهم بامتثال ما أمرناهم به كالقتال ونهيناهم عنه كالفرار وقبول الإرجاف، والمراد بهم إما المجاهدون المعهودون من الشهداء وغيرهم، وإما جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولاً أولياً، وإلى الأول أشار في التقرير، والثاني أولى.
347
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧)
348
(وكأيّن) قال الخليل وسيبويه: هي أي الاستفهامية وكاف التشبيه بمعنى كم التكثيرية وهي كناية عن عدد مبهم. و (من نبي) تمييز لها، وفي كأيّن خمس لغات ذكرها في الجمل واختار الشيخ أن كأيّن كلمة بسيطة غير مركبة وأن آخرها نون هي من نفس الكلمة لا تنوين لأن هذه الدعاوي لا يقوم عليها دليل. والشيخ سلك في ذلك الطريق الأسهل، والنحويون ذكروا هذه الأشياء محافظة على أصولهم مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد وتشحيذ الذهن وتمرينه، وأطال في الجمل الكلام على كأيّن من حيث الأفراد والتركيب ليس في ذكره هنا كثير فائدة.
وقرىء (قتل) على البناء للمجهول واختارها أبو حاتم ولها وجهان (أحدهما) أن يكون في قتل الضمير يعود إلى النبي - ﷺ - وحينئذ يكون قوله (معه ربّيون) جملة حالية، والثاني أن يكون القتل واقعاً على (ربيّون) فلا يكون في قتل ضمير، والمعنى قتل بعض أصحابه وهم الربّيون، ورجح الزمخشري هذا بقراءة قتادة قتل بالتشديد.
وقرىء (قاتل) واختارها أبو عبيد وقال إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل ولم يقتل، فقاتل أعم وأمدح، ويرجح هذه القراءة الأخرى.
348
والوجه الثاني من القراءة الأولى قول الحسن ما قتل نبي في حرب قطّ، وقيل قتل فارغ من الضمير مسند إلى ربيون، والربّيون بكسر الراء قراءة الجمهور، وقرأ علي بضمها وابن عباس بفتحها، قال ابن جني والفتح لغة تميم وواحدة ربي منسوب إلى الرب، والربي بضمم الراء وكسرها منسوب إلى الربة بكسر الراء وضمها وهي الجماعة ولهذا فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة، وقيل هم الأتباع.
قال الخليل الربيّ الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية، وقال الزجاج الربيون بالضم الجماعات، وقال النقاش هم المكثرون العلم من قولهم ربا يربو إذا كثر، وقال ابن مسعود ربيون ألوف، عن الضحاك الربة الواحدة ألف، وعن ابن عباس قال جموع وعلماء.
(كثير) والمعنى أن كثيراً من الأنبياء قتلوا (فما وهنوا) قرىء بفتح الهاء وبكسرها وهما لغتان والوهن انكسار الجسد بالخوف وهن الشيء يهن وهناً كوعد يعد، ووهن يوهن كوجل يوجل ضعف أي ما جبنوا عن الجهاد (لما أصابهم) أي نالهم (في سبيل الله) من ألم الجروح وقتل الأنبياء والأصحاب والقروح (وما ضعفوا) أي عن عدوهم بل استمروا على جهادهم، لأن الذي أصابهم هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة نبيه، فكان ينبغي لكم يا أمة محمد - ﷺ - أن تفعلوا مثل ذلك، قرىء ضعفوا بضم العين وفتحها وحكاها الكسائي لغة.
(وما استكانوا) لما أصابهم في الجهاد والاستكانة الذلة والخضوع، وقال ابن عباس الخشوع، وعبارة السمين فيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه استفعل من الكون والكون والذل وأصله ستكون، وقال الزهري وأبو علي: الأصل استكين وقال الفراء: وزنه افتعل من السكون انتهى، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم
349
أحد وذل واستكان وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان ولم يصنع كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل (والله يحب الصابرين) في الجهاد على تحمل الشدائد.
350
(وما كان قولهم) أي قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء، والاستثناء مفرغ أي ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون أو قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم عند لقاء العدو، واقتحام مضايق الحرب، وإصابة ما أصابهم من فنون الشدائد والأهوال شيء من الأشياء (إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) قيل هي الصغائر.
(وإسرافنا في أمرنا) قيل هي الكبائر والظاهر أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنباً من صغيرة أو كبيرة، والإسراف ما فيه مجاوزة للحد فهو من عطف الخاص على العام، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين هضماً لأنفسهم واستقصاراً لها وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم، وبراءة من التفريط في جنب الله، وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم:
(وثبت أقدامنا) أي في مواضع القتال ومواطن الحرب بالتقوية والتأييد من عندك أو ثبتنا على دينك الحق (وانصرنا على القوم الكافرين) تقريباً له إلى حين القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة، والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والتزلزل في مواقف الحرب، ومراصد الدين، وفيه من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى.
350
فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
351
(فآتاهم الله) بسبب ذلك الدعاء (ثواب الدنيا) من النصر والغنيمة والعزة وقهر الأعداء والثناء الجميل وغفران الذنوب والخطايا ونحوها (وحسن ثواب الآخرة) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ثواب الآخرة الحسن وهو نعيم الجنة، جعلنا الله تعالى من أهلها، والفضل فوق الاستحقاق (والله يحب المحسنين) الذين يفعلون ما فعل هؤلاء، وهذا تعليم من الله سبحانه لعباده المؤمنين أن يقولوا مثل هذا عند لقاء العدو، وفيه دقيقة لطيفة وهي أنهم لما اعترفوا بذنوبهم وكونهم مسيئين سماهم الله تعالى محسنين.
ثم لما أمر سبحانه بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار وقال
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) وهم مشركو العرب، وقيل اليهود والنصارى، وقيل المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى دين آبائكم، وقيل عامة في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم فإنه يستجرّ إلى موافقتهم (يردوكم على أعقابكم) أي يخرجونكم من دين الإسلام إلى الكفر (فتنقلبوا) ترجعوا (خاسرين) مغبونين فيهما أما خسران الدنيا فلان أشق الأشياء على العقلاء الانقياد إلى العدو وإظهار الحاجة إليه، وأما خسران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد.
(بل الله مولاكم) إضراب عن مفهوم الجملة الأولى أي إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم دون غيره (وهو خير الناصرين) فاستعينوا به وأطيعوه دونهم.
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
(سنلقي) بنون العظمة وهو التفات عن الغيبة في قوله (وهو خير الناصرين) وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه تعالى، وقرىء بالياء جرياً على الأصل (في قلوب الذين كفروا) قدم المجرور على المفعول به اهتماماً بذكر المحل قبل ذكر الحال (الرعب) بضم الراء والعين وسكونها وهما لغتان، ويجوز أن يكون مصدراً والرعب بالضم وبضم العين للاتباع، وأصله الملء يقال سيل راعب أي يملأ الوادي ورعبت الحوض ملأته فالمعنى سنملأ قلوب الكافرين رعباً أي خوفاً وفزعاً والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام ومجازاً في غيرها كهذه الآية. وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا وقالوا بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم. ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به.
(بما أشركوا بالله) أي بسبب إشراكهم به تعالى (ما لم ينزل به) أي يجعله شريكاً له (سلطانا) حجة وبياناً وبرهاناً سميت الحجة سلطاناً لقوتها على دفع الباطل أو لوضوحها وإنارتها أو لحدّتها ونفوذها، والنفي يتوجه إلى القيد والمقيد أي لا حجة ولا إنزال، والمعنى أن الاشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل (ومأواهم) مسكنهم (النار) بيان لأحوالهم في الآخرة بعد بيان أحوالهم في الدنيا (وبئس مثوى الظالمين) أي المسكن الذي يستقرون فيه.
وكلمة بئس تستعمل في جميع المذامّ وفي جعلها مثواهم بعد جعلها مأواهم رمز إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث، والمأوى المكان الذي يأوي إليه الإنسان، وقدم المأوى على المثوى لأنه على الترتيب الوجودي يأوي ثم يثوي، قاله الكرخي.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
(ولقد صدقكم الله وعده) نزلت لما قاله بعض المسلمين من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر، وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء حتى قتلوا صاحب لواء المشركين وتسعة نفر بعده، فلما اشتغلوا بالغنيمة وترك الرماة مركزهم طلباً للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة.
(إذ تحسونهم) والحس الاستئصال بالقتل أي تستأصلوهم قتلاً، يقال جراد محسوس إذا قتله البرد. وسنة حسوس أي جدبة تأكل كل شيء، قيل وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة فمعنى حسّه أذهب حسه بالقتل.
قال الكرخي: المراد به هنا البصر ثم وضع موضع العلم والوجود ومنه قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر) أي علم، ومنه قوله (هل تحس منهم من أحد) أي ترى وبمعنى الطلب، ومنه قوله (فتحسّسوا من يوسف) أي اطلبوا خبره انتهى.
(بإذنه) أي بعلمه أو بقضائه (حتى إذا فشلتم) أي جبنتم وضعفتم، قيل جوابه مقدر امتحنتم، وقال الفراء جوابه (وتنازعتم) والواو مقحمة زائدة كقوله: (فلما أسلما وتلّه للجبين) وقال أبو علي: جوابه صرفكم عنهم الآتي.
وقيل فيه تقديم وتأخير أي حتى إذا تنازعتم (في الأمر وعصيتم) فشلتم.
353
وقيل إن الجواب وعصيتم والواو مقحمة، وقد جوز الأخفش مثله في قوله تعالى (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم)، وقيل حتى بمعنى إلى وحينئذ لا جواب لها، وإذا هذه على بابها، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم نلحق الغنائم، وقال بعضهم نثبت في مكاننا كما أمرنا رسول الله - ﷺ -.
ومعنى (من بعد ما أراكم) ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد كما تقدم، قال ابن عباس: من بعد ما أراكم يعني الغنائم وهزيمة القوم، قال عروة: كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتركوا مصافّهم وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وقصة أحد مستوفاة في كتب السير والتواريخ فلا حاجة لإطالة الشرح هنا.
(ما تحبون) من النصر والظفر يا معشر المسلمين (منكم من يريد الدنيا) يعني الغنيمة فترك المركز لها (ومنكم من يريد الآخرة) أي الأجر بالبقاء في مركزه امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فثبت به حتى قتل كعبد الله بن جبير وأصحابه.
(ثم صرفكم عنهم) أي ردكم عن المشركين بالهزيمة بعد أن استوليتم عليهم (ليبتليكم) أي ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره، وقيل لينزل عليكم البلاء لتتوبوا إليه وتستغفروه، والأول أولى.
(ولقد عفا عنكم) ما ارتكبتموه تفضلاً لما علم من ندمكم فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، والخطاب لجميع المنهزمين وقيل للرماة فقط (والله ذو فضل على المؤمنين) بالعفو، وفي الآية دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن.
354
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣)
(إذ تصعدون) متعلق بقول. صرفكم أو بقوله ولقد عفا عنكم أو بقوله ليبتليكم، قاله الزمخشري، وقال أبو البقاء: بقوله لعصيتم أو تنازعتم أو فشلتم، وكل هذه الوجوه سائغة، وكونه ظرفاً لصرفكم جيد من جهة المعنى، ولعفا جيد من جهة القرب، وعلى بعض هذه الأقوال تكون المسألة من باب التنازع، وتكون على إعمال الأخير منها لعدم الإضمار في الأول، ويكون التنازع في أكثر من عاملين.
قال أبو حاتم: يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل، فالإصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدرج، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي.
وقال القتيبي: أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه، وقال الفراء الإصعاد الإبتداء في السفر، والإنحدار الرجوع منه يقال أصعدنا من بغداد إلا مكة وإلا خراسان وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا إذا رجعنا.
وقال المفضل: صعد وأصعد بمعنى واحد، وقرىء تصعدون بالتشديد وأصلها تتصعدون بتاء الخطاب، وقرىء بياء الغيبة على الالتفات وهو حسن والضمير يعود على المؤمنين.
(ولا تلوون) وقرىء بضم التاء من ألوي وهي لغة ففعل وأفعل بمعنى، وقرىء بواو واحدة أي لا تعرجون من التعريج وهو الإقامة على الشىء فإن المعرّج إلا الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته، وكذا شأن المنتظر، والمعنى لا تقيمون (على أحد) ممن معكم، وقيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
355
ولا يلتفت بعضكم إلى بعض ولا يقف واحد منكم لواحد ولا ينتظره هرباً.
(والرسول يدعوكم في أخراكم) في الطائفة المتأخرة منكم، يقال جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس وأخرى الناس وأخريات الناس، وقيل من ورائكم وقال أبو السعود في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، فكان دعاء النبي - ﷺ - إليّ عباد الله أي ارجعوا.
(فأثابكم) أي فجازاكم الله (غماً) حين صرفكم عنهم بسبب غمّ أذقتموه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعصيانكم أو غماً موصولاً (بغم) بسبب ذلك الإرجاف والجرح والقتل وظفر المشركين، والباء على هذا بمعنى على أي مضاعفاً على غمّ فوت الغنيمة.
والغم في الأصل التغطية، غمّيت الشيء غطيته ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين، ومنه غم الهلال، وقيل الغم الأول الهزيمة، والثاني إشراف أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم في الجبل، وقيل الغم الأول هو ما فاتهم من الظفر، والثاني ما نالهم من الهزيمة، وقيل الأول ما أصابهم من القتل والجراح، والثاني ما سمعوا بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل، وقيل الأول بسبب إشراف خالد بن الوليد مع خيل المشركين، والثاني حين أشرف أبو سفيان.
وسميت العقوبة التي نزلت بهم ثواباً على سبيل المجاز لأن لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، وقد يجوز استعماله في الشر لأنه مأخوذ من ثاب إذا رجع، فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيراً أو شراً، فمتى حملنا لفظ الثواب على أصل اللغة كان حقيقة، ومتى حملناه على الأغلب كان مجازاً.
(لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) من الغنيمة (ولا ما أصابكم) من الهزيمة تمريناً لكم على المصائب وتدريباً لاحتمال الشدائد، وقال المفضل: لكي تحزنوا ولا زائدة كقوله أن لا تسجد وقوله (لئلا يعلم) أي أن تسجد وليعلم (والله خبير بما تعملون) من الأعمال خيرها وشرها فيجازيكم عليها.
356
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
(ثم أنزل عليكم) يا معشر المسلمين (من بعد الغم) التصريح بالبعدية مع دلالة ثم عليها وعلى التراخي لزيادة البيان وتذكير عظم النعمة (أمنة) الأمنة والأمن سواء، وقيل الأمنة إنما تكون مع بقاء أسباب الخوف والأمن مع عدمه وكان سبب الخوف بعد باقياً (نعاساً) وهو أخفّ من النوم بدل كل أو اشتمال، واختاره السمين.
(يغشى طائفة منكم) قال ابن عباس إنما ينعس من يأمن، والخائف لا ينام، والطائفة تطلق على الواحد والجماعة، وهذه الطائفة هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلباً للأجر، والطائفة الآتية هم معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة وجعلوا يتأسفون على الحضور، ويقولون الأقاويل.
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن أبا طلحة قال غشينا ونحن في مصافّنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه فذلك قوله يعني هذه الآية (١).
_________
(١) ابن كثير ١/ ٤١٨.
357
(وعن الزبير بن العوام قال رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس وتلا هذه الآية (١).
(وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) حملتهم على الهم، أهمني الأمر أقلقني وجاز الإبتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال أو مستأنفة، وقيل إن المعنى صارت أنفسهم همهم لا هم لهم غيرها فلا رغبة لهم إلا نجاتها دون النبي وأصحابه فلم يناموا وهم المنافقون، وفي إلقاء النعاس على المؤمنين دون المنافقين آية عظيمة ومعجزة باهرة لأن النعاس كان سبب أمن المؤمنين وعدم النعاس عن المنافقين كان سبب خوفهم.
(يظنون بالله) أي في الله أي في حكمه والجملة استئناف على وجه البيان لما قبله ظناً (غير الحق) الذي يجب أن يظن به وهو ظنهم أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باطل، وأنه لا ينصر ولا يتم ما دعا إليه من دين الحق (ظن الجاهلية) بدل من غير الحق وهو الظن المختص بملة الجاهلية، قاله القاضي فهو من إضافة الموصوف إلى مصدر الصفة أو من إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي ظن أهل الجاهلية وأهل الشرك قاله التفتازاني.
(يقولون) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هل لنا من الأمر من شيء) أي من أمر الله نصيب، وهذا الاستفهام معناه الجحد أي ما لنا شيء من الأمر وهو النصر والاستظهار على العدو. وقيل هو الخروج أي إنما خرجنا
358
مكرهين فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله.
(قل إن الأمر كله لله) وليس لكم ولا لغيركم منه شيء فالنصر بيده والظفر منه (يخفون) أي يضمرون (في أنفسهم) ويقولون فيما بينهم بطريق الخفية (ما لا يبدون لك) من الكفر والشرك والشك في وعد الله، وقيل يخفون الندم على خروجهم مع المسلمين، وقيل النفاق، بل يسألونك سؤال المسترشدين. والجملة حال.
(يقولون لو كان لنا من الأمر شيء) استئناف على وجه البيان له، أو بدل من يخفون والأول أجود كما في الكشاف (ما قتلنا ههنا) أي ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله (قل لو كنتم) قاعدين (في بيوتكم) بالمدينة كما تقولون (لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) أي لم يكن بد من خروج من كتب عليه القتل في اللوح المحفوظ بسبب من الأسباب الداعية إلى البروز إلى هذه المصارع التي صرعوا فيها فإن قضاء الله لا يردّ وحكمه لا يعقب.
وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل بل عين مكانه أيضاً، ولا ريب في تعين زمانه أيضاً لقوله (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة).
(وليبتلي الله) علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لصالح جمة وليبتلي أي ليمتحن (ما في صدوركم) أي قلوبكم من الإخلاص والنفاق (وليمحص) أي يميز (ما في قلوبكم) من وساوس الشيطان (والله عليم بذات الصدور) يعني بالأشياء الموجودة في الصدور وهي الأسرار والضمائر الخفية التي لا تكاد تفارق الصدور، بل تلازمها وتصاحبها لأنه عالم بجميع المعلومات.
359
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)
360
(إن الذين تولوا منكم) عن القتال (يوم التقى الجمعان) جمع المسلمين وجمع الكفار أي انهزموا يوم أحد، وقيل المعنى إن الذين تولوا المشركين يوم أحد (إنما استزلّهم الشيطان) استدعى زللهم بإلقاء الوسوسة في قلوبهم (ببعض) أي بشؤم بعض (ما كسبوا) من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله - ﷺ -.
قيل لم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة عشر رجلاً؛ وقيل أربعة عشر. من المهاجرين سبعة ومن الأنصار سبعة، فمن المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنهم. وقيل استزلّهم بتذكير خطايا سبقت لهم فكرهوا أن يقتلوا قبل إخلاص التوبة منها، وهذا اختيار الزجاج.
(ولقد عفا الله عنهم) لتوبتهم واعتذارهم. عن عبد الرحمن بن عوف قال: هم ثلاثة واحد من المهاجرين وإثنان من الأنصار، وعن ابن عباس قال: نزلت في عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد، وقد روي في تعيين من في الآية روايات كثيرة (إن الله غفور) لمن تاب وأناب (حليم) لا يعجل بالعقوبة ولا يستأصلهم بالقتل.
(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا) هم المنافقون الذين
360
قالوا: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا (وقالوا لإخوانهم) في النفاق أو في النسب أي قالوا لأجلهم (إذا ضربوا) أي ساروا وسافروا وبعدوا (في الأرض) للتجارة ونحوها، قال مجاهد: هذا قول عبد الله بن أبي بن سلول والمنافقين وعن السدّى نحوه (أو كانوا غزّاً) جمع غاز كراكع وركّع وغائب وغيّب وقياسه غزاة كرام ورماة (لو كانوا) مقيمين (عندنا ما ماتوا وما قتلوا) أي لا تقولوا كقولهم.
(ليجعل الله ذلك) يعني قولهم وظنهم في عاقبة أمرهم، والجعل هنا بمعنى التصيير واللام لام العاقبة (حسرة في قلوبهم) يعني غماً وتأسفاً أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم، والمراد أنه صار ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ولم يحضروا ما قتلوا حسرة، وقيل معناه لا تكونوا مثلهم في اعتقاد ذلك ليجعله الله حسرة في قلوبهم فقط دون قلوبكم.
قال الزمخشري: هو النطق بالقول والاعتقاد، وقيل المعنى لا تلتفتوا إليهم ليجعل الله عدم التفاتكم إليهم حسرة في قلوبهم، وأجاز ابن عطية أن يكون النهي والانتهاء معاً وقيل المراد حسرة يوم القيامة لما فيه من الخزي والندامة.
(والله يحيى ويميت) فيه رد على قولهم أي ذلك بيد الله سبحانه يصنع ما يشاء ويحكم ما يريد فيحيي من يريد. ويميت من يريد، من غير أن يكون للسفر أو الغزو أثر في ذلك.. فإنه تعالى قد يحيى المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الموت. ويميت المقيم والقاعد مع حيازتهما لأسباب السلامة.
والمعنى أن السفر والغزو ليسا مما يجلب الموت، والقعود لا يمنع منه.
(والله بما تعملون) بالتاء والياء من خير وشر (بصير) فيجازيكم به فاتقوه تهديد للمؤمنين أي لا تكونوا مثل المنافقين المذكورين في تنفير المؤمنين عن الجهاد. أو وعيد للذين كفروا، واللفظ عام شامل لقولهم المذكور ولمنشئه الذي هو اعتقادهم.
361
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
362
(ولئن) وقع ذلك من أمر الله سبحانه و (قتلتم في سبيل الله أو متم) شروع في تحقيق أن ما يحذرون ترتبه على الغزو والسفر من القتل والموت في سبيل الله ليس مما ينبغي أن يحذر وبل مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون أثر إبطال ترتبه عليهما.
قرىء متم بضم الميم وكسرها من يموت ويمات وهما قراءتان سبعيّتان (لمغفرة من الله) لذنوبكم (ورحمة) منه لكم من العاقبة (خير مما يجمعون) أي الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة أعمارهم.
وقرىء بالتاء والمعنى مما تجمعون أيها المسلمون من غنائم الدنيا ومنافعها، والمقصود في الآية بيان مزية القتل أو الموت في سبيل الله وزيادة تأثيرهما في استجلاب المغفرة والرحمة.
(ولئن متّم أو قتلتم) على أي وجه اتفق هلاككم حسب تعلق الإرادة الإلهية، وقرىء متم بكسر الميم من مات يمات (لإلى الله) أي إلى الرب الواسع الرحمة والمغفرة لا إلى غيره كما يفيده تقديم الظرف على الفعل مع ما في تخصيص اسم الله سبحانه بالذكر من الدلالة على كمال اللطف والقهر (تحشرون) في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم. قيل من عبد الله خوفاً من ناره آمنه الله مما يخاف، وإليه الإشارة بقوله لمغفرة من الله، ومن عبده شوقاً إلى جنته أناله ما يرجو، وإليه الإشارة بقوله (ورحمة) لأن الرحمة هي الجنة، ومن عبده شوقاً إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهذا هو العبد المخلص الذي يتجلى
362
له الحق سبحانه في دار كرامته، وإليه الإشارة بقوله (لإلى الله تحشرون).
363
(فبما رحمة من الله لنت لهم) " ما " فاصلة غير كافية مزيدة للتأكيد قاله سيبويه وغيره، وقال ابن كيسان والأخفش: إنها نكرة في موضع الجر بالباء، ورحمة بدل منها، والأول أولى بقواعد العربية، ومثله قوله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم) والجار والمجرور متعلق بقوله (لنت) وقدم عليه لإفادة القصر، وتنوين رحمة للتعظيم.
والمعنى أن لينه لهم ما كان إلا بسبب الرحمة العظيمة منه، وقيل إن ما استفهامية والمعنى فبأي رحمة من الله لنت لهم، وفيه معنى التعجب وهو بعيد، ولو كان كذلك لقيل فيم رحمة بحذف الألف، والمعنى سهلت لهم أخلاقك وكثرت احتمالك، ولم تسرع إليهم بتعنيف: على ما كان يوم أحد منهم.
وفيه تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبىء عنه السياق من استحقاقهم للملامة والتعنيف بموجب الجبلة البشرية أو من سعة ساحة مغفرته تعالى ورحمته.
(ولو) لم تكن كذلك بل (كنت فظاً غليظ القلب) أي جافياً قاسي الفؤاد سيء الخلق قليل الاحتمال، والفظ الغليظ الجافي، وقال الراغب: الفظ هو الكريه الخلق، وذلك مستعار من الفظ وهو ماء الكرش وذلك مكروه شربه إلا في ضرورة، وغلظ القلب قساوته، وقلة إشفاقه وعدم إنفعاله للخير، وجمع بينهما تأكيداً.
(لانفضوا من حولك) أي لنفروا عنك وتفرقوا حتى لا يبقى منهم أحد عندك، والانفضاض التفرق في الأجزاء وانتشارها، ومنه فضّ ختم الكتاب، ثم استعير هنا لانفضاض الناس وغيرهم أي لتفرقوا عن حولك هيبة
363
لك واحتشاماً منك بسبب ما كان من توليهم، وإذا كان الأمر كما ذكر (فاعف عنهم) فيما يتعلق بك من الحقوق (واستغفر لهم) الله سبحانه فيما هو إلى الله سبحانه.
(وشاورهم في الأمر) الذي يرد عليك أي أمر كان مما يشاور في مثله أو في أمر الحرب خاصة كما يفيده السياق لما في ذلك من تطييب خواطرهم، واستجلاب مودتهم، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك حتى لا يأنف منهم أحد بعدك.
قال السمين: جاء على أحسن النسق وذلك أنه أمر أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه، فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله لتنزاح عنهم التبعات، فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذ صاروا خالصين من التبعتين متصفّين منهما انتهى.
والمراد هنا المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها، قال أهل اللغة الاستشارة مأخوذة من قول العرب شرت الدابة وشورتها إذا علمت خيرها، وقيل من قولهم شرت العسل إذا أخذته من موضعه.
قال ابن خواز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها.
وحكى القرطبي عن ابن عطية أنه لا خلاف في وجوب عزل من لا يستشير أهل العلم والدين.
وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب قال السيوطي بسند حسن عن ابن عباس قال لما نزلت (وشاورهم في الأمر) قال رسول الله - ﷺ - أما إن الله
364
ورسوله لغنيّان عنها ولكن الله جعلها رحمة لأمتي، فمن استشار من أمتي لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غيّاً.
وعنه في الآية قال هم أبو بكر وعمر، وقال الحسن قد علم الله أن ما به إلى مشاورتهم حاجة، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده من أمته.
وقيل أمره بها ليعلم مقادير عقولهم وأفهامهم لا ليستفيد منهم رأياً، وروى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله - ﷺ -.
وللاستشارة فوائد كثيرة ذكرها بعض المفسرين لا نطول بذكرها، ويغني عنها أمر الله لرسوله - ﷺ - بها، ولنعم ما قيل في ذلك.
وشاور إذا شاورت كل مهذب لبيب أخي حزم لترشد في الأمر
ولا تك ممن يستبد برأيه فتعجز أو لا تستريح من الفكر
ألم تر أن الله قال لعبده وشاورهمو في الأمر حتماً بلا نكر
(فإذا عزمت) على إمضاء ما تريد عقب المشاورة على شيء واطمأنت به نفسك (فتوكل على الله) في فعل ذلك أي اعتمد عليه وفوض إليه، وقيل إن المعنى فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه فتوكل على الله وثق به لا على المشاورة، والعزم في الأصل قصد الإمضاء أي فإذا قصدت إمضاء أمر فتوكل على الله.
وفيه إشارة إلى أن التوكل ليس هو إهمال التدبير بالكلية وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل بل هو مراعاة الأسباب الظاهرة، مع تفويض الأمر إلى الله، والاعتماد عليه بالقلب.
عن علي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العزم قال مشاورة أهل الرأي ثم اتّباعهم، أخرجه ابن مردويه (إن الله يحب المتوكلين) عليه في جميع أمورهم.
365
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١)
366
(إن ينصركم الله) كما فعل يوم بدر، والنصر العون جملة مستأنفة لتأكيد التوكل والحث عليه (فلا غالب لكم) عمم الخطاب هنا تشريفاً للمؤمنين لإيجاب توكلهم عليه (وإن يخذلكم) كما فعل يوم أحد، والخذلان ترك العون أي وإن يترك الله عونكم (فمن ذا الذي ينصركم) استفهام إنكاري (من بعده) الضمير راجع إلى الخذلان المدلول عليه بقوله (وإن يخذلكم) أو إلى الله، وفيه لطف بالمؤمنين حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني، بل أتى به في صورة الاستفهام وإن كان معناه نفياً ليكون أبلغ، ومن علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه وأن من نصره الله لا غالب له، ومن خذله لا ناصر له فوض أموره إليه وتوكل عليه، ولم يشتغل بغيره.
(وعلى الله فليتوكل المؤمنون) لا على غيره، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لإفادة القصر عليه، وقد وردت في صفة التوكل أحاديث كثيرة صحيحة، وقد عد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتوكل من سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب كما في مسلم.
(وما كان لنبي أن يغل) ما صح له ذلك لتنافي الغلول والنبوة، وقال ابن عباس: ما كان له أن يتهمه أصحابه، قال أبو عبيد الغلول من المغنم خاصة ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد، ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة أغل يغل ومن الحقد غل يغل بالكسر، ومن الغلول غل يغل بالضم.
يقال غل في المغنم غلولاً أي خان بأن يأخذ لنفسه شيئاً يستره على
366
أصحابه، فمعنى القراءة بالبناء للفاعل. ما صح لنبي أن يخون شيئاً من المغنم فيأخذه لنفسه من غير اطلاع أصحابه، وفيه تنزيه الأنبياء عن الغلول.
ومعناه على القراءة بالبناء للمفعول ما صح لنبي أن يغله أحد من أصحابه أي يخونه في الغنيمة، وهو على هذه القراءة الأخرى نهي للناس عن الغلول في المغانم، وإنما خص خيانة الأنبياء مع كون خيانة غيرهم من الأئمة والسلاطين والأمراء حراماً لأن خيانة الأنبياء أشد ذنباً وأعظم وزراً.
(ومن يغلل يأت بما غل) أي يأت به حاملاً له على ظهوه (يوم القيامة) كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيفضحه بين الخلائق، وهذه الجملة تتضمن تأكيد تحريم الغلول والتنفير منه بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤس الأشهاد يطلع عليها أهل الحشر، وهي مجيئه يوم القيامة بما غل حاملاً له قبل أن يحاسب عليه ويعاقب به.
(ثم توفى كل نفس) جزاء (ما كسبت) وافياً من خير أو شر، وهذه الآية تعم كل من كسب خيراً أو شرا، ويدخل تحتها الغالّ دخولاً أولياً لكون السياق فيه، فكأنه ذكر مرتين.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر، فقال بعض الناس لعل رسول الله ﷺ أخذها فنزلت (وهم لا يظلمون) بل يعدل بينهم في الجزاء فيجازى كل على عمله، وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما في ذم الغلول ووعيد الغال (١).
_________
(١) زاد المسير ٤٩٠
367
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
368
(أفمن اتبع) الاستفهام للإنكار أو ليس من اتبع (رضوان الله) في أوامره ونواهيه فعمل بأمره واجتنب نهيه (كمن باء) أو رجع (بسخط) عظيم كائن (من الله) بسبب مخالفته لما أمر به ونهى عنه. ويدخل تحت ذلك من اتبع رضوان الله بترك الغلول واجتنابه، ومن باء بسخط منه بسبب إقدامه على الغلول (ومأواه) يعني الغال أو المتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (جهنم وبئس المصير) أي المرجع هي، ونزول الآية في واقعة معينة لا يخصص العموم.
ثم أوضح ما بين الطائفتين من التفاوت فقال
(هم درجات عند الله) أي متفاوتون في الدرجات والمعنى هم أولو درجات أو لهم درجات إطلاقاً للملزوم على اللازم على سبيل الاستعارة أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت بينهم، فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة، وهذا ما رجحه القاضي كالكشاف.
فدرجات من اتبع رضوان الله ليست كدركات من باء بسخط من الله، فإن الأولين في أرفع الدرجات، والآخرين في أسفل الدركات (والله بصير بما يعملون) فيه تحريض على العمل بطاعته وتحذير عن العمل بمعاصيه.
(لقد منّ الله على المؤمنين) أي أحسن إليهم وتفضل عليهم، والمنة النعمة العظيمة، وخص المؤمنين لكونهم المنتفعين ببعثة الرسول (إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) يعني من جنسهم عربياً مثلهم، ولد ببلدهم، ونشأ بينهم يعرفون نسبه، وقيل بشراً مثلهم، ووجه المنة على الأول أنهم يفقهون عنه ويفهمون كلامه، ولا يحتاجون إلى ترجمان، ومعناها على التاني أنهم يأنسون به بجامع البشرية، ولو كان ملكاً لم يحصل كمال الأنس به لاختلاف الجنسية.
وقرىء من أنفسهم بفتح الفاء أي أشرفهم، لأنه من بني هاشم، وبنو هاشم أفضل من قريش وقريش أفضل من العرب، والعرب أفضل من غيرهم.
ولعل وجه الامتنان على هذه القراءة أنه لما كان من أشرفهم كانوا أطوع له وأقرب إلى تصديقه، ولا بد من تخصيص المؤمنين في هذه الآية بالعرب على الوجه الأول، وأما على الوجه الثاني فلا حاجة إلى هذا التخصيص، وكذا على قراءة من قرأ بفتح الفاء لا حاجة إلى التخصيص، لأن بني هاشم هم أنفس العرب والعجم في شرف الأصل وكرم النجار (١) ورفاعة المحتد.
ويدل على الوجه الأول قوله تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم) وقوله (وإنه لذكر لك ولقومك).
وكان فيما خطب به أبو طالب حين زوّج رسول الله - ﷺ - خديجة بنت خويلد وقد حضر ذلك بنو هاشم ورؤساء مضر: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بيته وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس. وإن ابنى هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به فتى إلا رجح، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل.
_________
(١) النجار بالضم والكسر الأصل والحسب اهـ منه.
369
(يتلو عليهم آياته) هذه منة ثانية أي يتلو عليهم القرآن بعد أن كانوا أهل جاهلية لا يعرفون شيئاً من الشرائع، ولم يطرق أسماعهم الوحي (ويزكيهم) أي يطهرهم من نجاسة الكفر والذنوب، ودنس المحرمات والخبائت (ويعلمهم الكتاب) أي القرآن (والحكمة) السنّة.
وقد تقدم في البقرة تفسير ذلك وكل واحد من هذه الأمور نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر (وإن كانوا من قبل) أي قبل محمد- ﷺ - أو من قبل بعثته (لفي ضلال مبين) واضح لا ريب فيه.
370
(أو لما أصابتكم مصيبة) الألف للاستفهام لقصد التقريع؛ والمصيبة الغلبة والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد (قد أصبتم مثليها) يوم بدر، وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون وقد كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وكان مجموع القتلى والأسرى يوم بدر مثلى القتلى من المسلمين يوم أحد.
والمعنى أحين أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم و (قلتم أنى هذا) أي من أين أصابنا هذا الإنهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد وعدنا الله بالنصر عليهم.
(قل هو من عند أنفسكم) أمر رسول الله - ﷺ - بأن يجيب عن سؤالهم
بهذا الجواب أي هذا الذي سألتم عنه هو من عند أنفسكم بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم النبي - ﷺ - من لزوم المكان الذي عينه لهم، وعدم مفارقتهم للمركز على كل حال.
وقيل إن المراد خروجهم من المدينة، ويرده أن الوعد بالنصر إنما كان بعد ذلك وقيل هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل.
وعن علي قال: جاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين
370
أمرين إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس فذكر ذلك لهم فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا، لا بل نأخذ فداءهم فنقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً عدة أسارى أهل بدر.
وهذا الحديث في سنن الترمذي والنسائي، قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة.
وعن عمر بن الخطاب قال لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفرّ أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله سبحانه وتعالى يعني هذه الآية وأخرجه أحمد بأطول منه.
ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق ما نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء بقوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) وما روي من بكائه صلى الله عليه وآله وسلم هو وأبو بكر ندماً على أخذ الفداء ولو كان أخذ ذلك بعد التخيير لهم من الله سبحانه لم يعاتبهم عليه، ولا حصل ما حصل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من الندم والحزن، ولا صوّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى عمر حيث أشار بقتل الأسرى وقال ما معناه لو نزلت عقوبة لهم لم ينج منها إلا عمر، والجميع في كتب الحديث والسير.
أقول ويمكن الجمع بأن يقال إن العتاب نزل أولاً ثم نزل التخيير لأن العتاب على الشروع والعزم على الفداء، والتخيير على تمامه، ويؤيده قوله في الحديث " إن الله قد كره ما صنع قومك " (إن الله على كل شيء قدير) ومنه نصركم على الطاعة وترك نصركم مع المخالفة.
371
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧)
372
(وما أصابكم يوم التقى الجمعان) أي ما أصابكم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة (فبإذن الله) أي فبعلم الله وقيل بقضائه وقدره، وقيل بتخليته بينكم وبينهم (وليعلم) الله (المؤمنين) حقاً
(وليعلم) الله (الذين نافقوا) قيل أعاد الفعل لقصد تشريف المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم وإلى المنافقين واحداً، والمراد بالعلم هنا التمييز والإظهار، لأن علمه تعالى ثابت قبل ذلك، والمراد بالمنافقين هنا عبد الله بن أبي وأصحابه، والنفاق اسم إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام.
(وقيل لهم) معطوف على قوله (نافقوا) وقيل هو كلام مبتدأ أي قيل لعبد الله المذكور وأصحابه (تعالوا قاتلوا في سبيل الله) أعداءه إن كنتم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر (أو ادفعوا) عن أنفسكم إن كنتم لا تؤمنون بالله واليوم الآخر فأبوا جميع ذلك.
وقيل معنى الدفع هنا تكثير سواد المسلمين وقيل معناه رابطوا والمرابطة الإقامة في الثغور، والقائل للمنافقين هذه المقالة التي حكاها الله سبحانه هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري والد جابر بن عبد الله.
و (قالوا لو نعلم قتالاً) أي أنه سيكون قتال (لاتّبعناكم) وقاتلنا معكم ولكنه لا قتال هنالك، وقيل المعنى لو كنا نقدر على القتال ونحسنه
372
لاتبعناكم ولكنا لا نقدر على ذلك ولا نحسنه، وعبّر عن نفي القدرة على القتال بنفي العلم به لكونها مستلزمة له، وفيه بعد لا ملجأ إليه.
وقيل معناه لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتّبعناكم ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال، ولكنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة لعدم القدرة منا ومنكم على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم والخروج من المدينة، وهذا أيضاً فيه بعد دون بعد ما قبله.
(هم للكفر يومئذ) أي هم في هذا اليوم الذي انخذلوا فيه عن المؤمنين إلى الكفر (أقرب منهم للإيمان) عند من كان يظن أنهم مسلمون لأنهم قد بيّنوا حالهم وهتكوا أستارهم وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك، وقيل المعنى أنهم لأهل الكفر يومئذ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان.
(يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما تقدمها أي أنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وذكر الأفواه للتأكيد مثل قوله (يطير بجناحيه) وقال الزمخشري: ذكر القلوب مع الأفواه تصوير لنفاقهم، وإنما إيمانهم موجود في أفواههم فقط، وهذا الذي قاله الزمخشري ينفي كونه للتأكيد لتحصيله هذه الفائدة (والله أعلم بما تكتمون) من النفاق (١).
_________
(١) قال ابن عباس: والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أُبَيّ، وأصحابه. قال موسى بن عقبة: خرج النبي - ﷺ - يوم أحد، ومعه المسلمون، وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فرجع عنه ابن أبي في ثلاثمئة. فأما القتال، فمباشرة الحرب. وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه التكثير بالعدد. رواه مجاهد عن ابن عباس وهو قول الحسن، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وابن جريج في آخرين.
والثاني: أن ادفعوا عنها أنفسكم وحريمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل.
والثالث: أنه بمعنى القتال أيضاً. قاله ابن زيد.
373
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)
374
(والذين قالوا لإخوانهم وقعدوا) أي قالوا لهم ذلك، والحال أن هؤلاء القائلين قد قعدوا عن القتال (لو أطاعونا) بترك الخروج من المدينة (ما قتلوا) فرد الله ذلك عليهم بقوله (قل فادرؤا عن أنفسكم الموت) الدرء الدفع أي لا ينفع الحذر عن القدر، فإن المقتول يقتل بأجله (إن كنتم صادقين) في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً وهو القعود عن القتال. فخذوا إلى دفع الموت طريقاً، قيل إنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً من غير قتال ومن غير خروج لإظهار كذبهم والله تعالى أعلم.
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)
لما بين الله سبحانه أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحاناً ليتميز المؤمن من المنافق والصادق من الكاذب، بين ههنا أن من لم ينهزم وقتل فله هذه الكرامة والنعمة، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون، لا مما يخاف ويحذر كما قال من حكى الله عنهم (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) وقالوا لو أطاعونا ما قتلوا. فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل أحد.
وقرىء بالياء التحتية أي لا يحسبن حاسب.
وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم فقيل شهداء أحد وقيل شهداء بدر، وقيل شهداء بئر معونة، وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
374
ومعنى الآية عند الجمهور أنهم أحياء حياة محققة، ثم اختلفوا فمنهم من يقول إنها ترد إليهم أرواحهم في قبورهم فيتنعمون. وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة أي يجدون ريحها وليسوا فيها.
وذهب من عدا الجمهور إلى أنها حياة مجازية، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للنعم في الجنة، والصحيح الأول ولا موجب للمصير إلى المجاز.
وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر، وأنهم في الجنة يرزقون ويأكلون ويتمتعون، فالطيور للأرواح كالهوادج للجالسين فيها، وبهذا قد استدل من قال أن الحياة للروح فقط، وقيل إن الحياة للروح والجسد معاً، واستدل له بقوله (عند ربهم يرزقون) الخ.
وعلى الأول وجه امتيازهم من غيرهم أن أرواحهم تدخل الجنة من وقت خروجها من أجسادهم، وأرواح بقية المؤمنين لا تدخل إلا مع أجسادها يوم القيامة، والامتياز على الثاني ظاهر.
وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه، وعن أبي الضحى أنها نزلت في قتلى أحد وحمزة منهم.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ - لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، وفي لفظ قالوا من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل هذه الآيات (ولا تحسبن الذين قتلوا) الآية وما بعدها (١).
_________
(١) المستدرك - كتاب التفسير ٢/ ٢٩٧.
375
وقد روي من وجوه كثيرة أن سبب نزول الآية قتلى أحد، وعن أنس أن سبب نزول هذه الآية قتلى بئر معونة، وعلى كل حال فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها كل شهيد في سبيل الله.
وقد ثبت في أحاديث كثيرة في الصحيح وغيره أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر، وثبت في فضل الشهداء ما يطول تعداده ويكثر إيراده مما هو معروف في كتب الحديث (١).
وقوله (الذين قتلوا) هو المفعول الأول، والحاسب هو النبي - ﷺ - أو كل أحد كما سبق. وقيل معناها لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً، وهذا تكلف لا حاجة إليه، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح والجلاء.
قيل وفي الكلام حذف والتقدير عند كرامة ربهم، قال سيبويه هذه عنديّة الكرامة لا عندية القرب، والمراد بالرزق هو الرزق المعروف في العادات على ما ذهب إليه الجمهور كما سلف وعند من عدا الجهور المراد به الثناء الجميل.
ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى وحملها على مجازات بعيدة لا بسبب يقتضي ذلك.
وقد تعلق بهذا من يقول بالتناسخ من المبتدعة، ويقول بانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة وتعذيبها في الصور القبيحة، ويزعمون أن هذا هو الثواب والعقاب؟ وهذا ضلال مبين، وقول ليس عليه أثارة من علم لما فيه من إبطال ما جاءت به الشرائع من الحشر والنشر والمعاد والجنة والنار والأحاديث الصحيحة تدفعه وترده.
_________
(١) أخرجه الإمام أحمد ٢٣٨٨ وأبو داود ٢٣٨٩ والطبري ٧/ ٣٨٥ والحاكم ٢/ ٢٩٧ وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
376
فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
377
(فرحين بما آتاهم الله) أي ما ساقه إليهم من الكرامة بالشهادة وما صاروا فيه من الحياة وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه، والزلفى من الله والتمتع بالنعيم المخلد عاجلاً (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على منهج الإيمان والجهاد، والمراد اللحوق بهم في القتل والشهادة أي بل سيلحقون بهم من بعد، وقيل المراد لم يلحقوا بهم في الفضل وإن كانوا أهل فضل في الجملة.
وقيل المراد بإخوانهم هنا جميع المسلمين الشهداء وغيرهم، لأنهم لما عاينوا ثواب الله وحصل لهم اليقين بحقية دين الإسلام استبشروا بذلك لجميع أهل الإسلام الذين هم أحياء لم يموتوا، وهذا قوي لأن معناه أوسع، وفائدته أكثر، واللفظ يحتمله بل هو الظاهر، وبه قال الزجاج وابن فورك.
(أن لا خوف عليهم) في الآخرة والخوف غم يلحق الإنسان بما يتوقعه من السوء (ولا هم يحزنون) على ما فاتهم من نعيم الدنيا والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار، فمن كانت أعماله مشكورة فلا يخاف العاقبة ومن كان متقلباً في نعمة الله وفضله فلا يحزن أبداً.
(يستبشرون بنعمة من الله وفضل) كرر قوله يستبشرون لتأكيد الأول، قاله الزمخشري ولبيان أن الاستبشار ليس بمجرد عدم الخوف والحزن بل به
377
وبنعمة الله وفضله، والنعمة ما ينعم الله به على عباده، والفضل ما يتفضل به عليهم وقيل النعمة الثواب والفضل الزائد، وقيل النعمة والفضل داخل في النعمة، ذكر بعدها لتأكيدها.
وقيل إن الاستبشار الأول متعلق بحال إخوانهم والاستبشار الثاني بحال أنفسهم (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) كما لا يضيع أجر الشهداء والمجاهدين، وقد ورد في فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله ما يطول تعداده من الأحاديث الصحيحة والآيات الكريمة.
378
(الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) صفة للمؤمنين أو بدل منهم أو من الذين لم يلحقوا بهم أو هو مبتدأ خبره للذين أحسنوا منهم بجملته أو منصوب على المدح، وقد تقدم تفسير القرح، قال سعيد ابن جبير القرح الجراحات (١).
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة في هذه الآية أنها قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر لما أصاب نبي الله - ﷺ - ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يرجع في أثرهم فانتدب منهم سبعون فيهم أبو بكر والزبير، والروايات في هذا الباب كثيرة قد اشتملت عليها كتب الحديث والتفسير.
_________
(١) جاء في " الدر المنثور " ج ٢/ ١٠١. وأخرج النسائي، وابن أبي حاتم، والطبراني بسند صحيح من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: لا رجع المشركون عن أحد، قالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا، فسمع رسول الله - ﷺ - بذلك، فندب المسلمين. فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد، أو بئر أبي عنبة -شك سفيان- فقال المشركون: نرجع قابل، فرجع رسول الله - ﷺ -، فكانت تعد غزوة، فأنزل الله (الذين استجابوا لله والرسول) الآية. وقد كان أبو سفيان قال للنبي - ﷺ -: موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة، فأتوه فلم يجدوا به أحداً وتسوقوا، فأنزل الله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) الآية.
378
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)
379
(الذين قال لهم الناس) المراد بالناس هنا نعيم بن مسعود وجاز لفظ الناس عليه لكونه من جنسهم فهو من قبيل العام الذي أريد به الخاص أو من إطلاق الكل وإرادة البعض كقوله أم يحسدون الناس يعني محمداً وحده.
ونقل على القارىء أنه أسلم يوم الخندق وهو مصرح به في المواهب، وقيل المراد بالناس ركب عبد القيس الذين مروا بأبي سفيان، وقيل هم المنافقون.
والمراد بقوله (إن الناس قد جمعوا لكم) أبو سفيان وغيره من أصحابه، والعرب تسمى الجيش جمعاً (فاخشوهم) أي فخافوهم فإنه لا طاقة لكم بهم (فزادهم إيماناً) أي تصديقاً بالله ويقيناً، والمراد أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك ولا التفتوا إليه بل أخلصوا لله وازدادوا طمأنينة وقوة في دينهم وثبوتاً على نصر نبيهم، وفيه دليل أن الإيمان يزيد وينقص.
(وقالوا حسبنا الله) حسب مصدر حسبه أي كفاه وهو بمعنى الفاعل أي محسب بمعنى كاف، قال في الكشاف الدليل على أنه المحسب أنك تقول هذا رجل حسبك فتصف به النكرة لأن إضافته لكونه بمعنى اسم الفاعل غير حقيقية (ونعم الوكيل) هو من يوكل إليه الأمور أي نعم الموكول إليه أمرنا أو الكافي أو الكافل والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم الوكيل الله سبحانه.
وقد ورد في فضل هذه الكلمة أعني حسبنا الله ونعم الوكيل أحاديث منها ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقاله محمد - ﷺ - حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، قال ابن كثير بعد إخراجه: هذا
379
حديث غريب من هذا الوجه (١).
وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال: قال النبي - ﷺ - حسبنا الله ونعم الوكيل أمان كل خائف.
وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن عائشة أن النبي - ﷺ - كان إذا اشتد غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء وقال حسبي الله ونعم الوكيل.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٤٣٠.
380
(فانقلبوا بنعمة من الله) أي فخرجوا إليهم فانقلبوا، والتنوين للتعظيم أي رجعوا متلبّسين بنعمة عظيمة وهي السلامة من عدوهم وعافية (وفضل) أي أجر تفضل الله به عليهم، وقيل ربح في التجارة، وقيل النعمة خاصة بمنافع الدنيا والفضل بمنافع الآخرة.
وقد تقدم تفسيرهما قريباً بما يناسب ذلك المقام لكون الكلام فيه مع الشهداء الذين صاروا في الدار الآخرة، والكلام هنا مع الأحياء.
وقوله (لم يمسسهم سوء) أي سالمين عنه لم يصبهم قتل ولا جرح ولا ما يخافونه، وقال ابن عباس: لم يؤذهم أحد (واتبعوا رضوان الله) فيما يأتون ويذرون وأطاعوا الله ورسوله، ومن ذلك خروجهم لهذه الغزوة.
وعن ابن عباس: النعمة أنهم سلموا، والفضل أن عيراً مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله - ﷺ - فربح مالاً فقسمه بين أصحابه، وعن مجاهد قال الفضل: ما أصابوا من التجارة والأجر، وقال السدي أما النعمة فهي العافية وأما الفضل فالتجارة والسوء القتل.
(والله ذو فضل عظيم) لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، ومن تفضله عليهم تثبيتهم وخروجهم للقاء عدوهم وإرشادهم إلى أن يقولوا هذه المقالة التي هي جالبة لكل خير، ودافعة لكل لضر، وقيل تفضل عليهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين حتى رجعوا.
380
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)
381
(إنما ذلكم) المثبّط لكم والمخوّف أيها المؤمنون (الشيطان) والظاهر أن المراد هنا الشيطان نفسه باعتبار ما يصدر منه من الوسوسة المقتضية للتثبيط، وقيل المراد به نعيم بن مسعود لما قال لهم تلك المقالة، وقيل أبو سفيان لما صدر منه الوعيد لهم، والمعنى أن الشيطان (يخوّف) المؤمنين (أولياءه) وهم الكافرون وقال ابن عباس: الشيطان يخوف بأوليائه، وقال أبو مالك: يعظّم أولياءه في أعينكم. وقال الحسن: إنما كان ذلك تخويف الشيطان، ولا يخاف الشيطان إلا وليّ الشيطان.
(فلا تخافوهم) أي أولياءه الذين يخوفكم بهم الشيطان أو فلا تخافوا الناس المذكورين في قوله (إن الناس قد جمعوا لكم) نهاهم الله سبحانه أن يخافوهم فيجبنوا عن اللقاء ويفشلوا عن الخروج، وأمرهم بأن يخافوا الله سبحانه فقال (وخافون) هذه الياء التي بعد النون اختلف السبعة في إثباتها لفظاً واتفقوا على حذفها في الرسم لأنها من آيات الزوائد كلها لا ترسم، وجملتها اثنتان وستون، والمعنى فافعلوا ما آمركم به واتركوا ما أنهاكم عنه، لأني الحقيق بالخوف مني، والمراقبة لأمري ونهي لكون الخير والشر بيدي وقيده بقوله (إن كنتم مؤمنين) لأن الإيمان يقتضي ذلك ويستدعي الأمن من شر الشيطان وأوليائه.
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) يقال حزنني الأمر وهي لغة قريش وأحزنني وهي لغة تميم، والأولى أفصح، والغرض من هذا تسليته - ﷺ -
381
وتصبيره على تعنّتهم في الكفر، وتعرّضهم له بالأذى، وضمن يسارعون يقعون فعدّى بفي أي لا يحزنك مسارعتهم لمقوّيات الكفر من قول وفعل، فهذا هو الذي يسارع إليه أي الأمور المقوية له كالتهيؤ لقتال النبي، وأما الكفر فهو دائم فيهم فلا تتأتى مسارعتهم للوقوع فيه لأن هذا التعبير يشعر بطروء هذا الأمر.
وأما إيثار كلمة (إلى) في قوله تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها، وقيل هم قوم ارتدوا فاغتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك فسلاّه الله سبحانه ونهاه عن الحزن وعلل ذلك بقوله.
(إنهم لن يضروا الله شيئاً) أي شيئاً من الضرر، والتنكير لتأكيد ما فيه من القلة والحقارة، وقيل على نزع الجار أي بشيء ما أصلاً، وقيل هم كفار قريش، وقيل هم المنافقون ورؤساء اليهود، وقيل هو عام في جميع الكفار.
قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة ولكن النبي - ﷺ - كان يفرط في الحزن فنهى عن ذلك كما قال تعالى (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وقال (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) والمعنى أن كفرهم لا ينقص من ملك الله سبحانه شيئاً، وقيل المراد لن يضروا أولياءه، ويحتمل أن يراد لن يضروا دينه الذي شرعه لعباده، وفيه مزيد مبالغة في التسلية.
(يريد الله ألاّ يجعل لهم حظاً) نصيباً (في الآخرة) أو نصيباً من الثواب، وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها، وفي الآية دليل على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى، وفيه رد على القدرية والمعتزلة (ولهم عذاب عظيم) في النار بسبب مسارعتهم في الكفر، فكان ضرر كفرهم عائداً عليهم جالباً لهم عدم الحظ في الآخرة ومصيرهم إلى العذاب العظيم.
382
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
383
(إن الذين اشتروا) استبدلوا (الكفر بالإيمان) وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة والمراد المنافقون آمنوا ثم كفروا (لن يضروا الله شيئاً) نفي الضرر معناه كالأول وهو للتأكيد لما تقدمه، وقيل إن الأول خاص بالمنافقين والثاني يعم جميع الكفار، والأول أولى (ولهم عذاب أليم) في الآخرة، ولما جرت العادة بسرور المشتري بما اشتراه عند كون الصفقة رابحة، وبتألمه عند كونها خاسرة، ناسب وصف العذاب بالأليم.
(ولا تحسبن الذين كفروا) وقرىء بالتحتية فالمعنى لا يحسبن الكافرون (أنما نملي لهم) بتطويل الأعمال وتأخيرهم ورغد العيش، أو بما أصابوا من الظفر يوم أحد (خير لأنفسهم) فليس الأمر كذلك بل هو شر واقع عليهم ونازل بهم، وعلى الأولى لا تحسبن يا محمد - ﷺ - أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لهم.
(إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) بكثرة المعاصي، واللام لام الإرادة أي إرادة زيادة الإثم، وهي جائزة عند الأشاعرة ولا تخلو عن حكمة، وعند المعتزلة القائلين بأنه تعالى لا يريد القبيح هي لام العافية وهي جملة مستأنفة مبينة لوجه الإملاء للكافرين. أو تكرير للأولى. والإملاء الإمهال والتأخير، وأصله من الملوأة وهي المدة من الزمان يقال أمليت له في الأمر أخرت وأمليت للبعير في القيد أرخيت له ووسعت (ولهم عذاب مهين) في الآخرة.
قال أبو السعود لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك
383
مما يقتضي التعزز والتكوم وصف عذابهم بالإهانة ليكون جزاؤهم جزاء وفاقاً انتهى.
واحتج الجمهور بهذه الآية على بطلان ما يقوله المعتزلة لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار الكافرين ويجعل عيشهم رغداً ليزدادوا إثماً، قال أبو حاتم وسمعت الأخفش يذكر كسر (أنما نملي) الأولى وفتح الثانية ويحتج بذلك لأهل القدر لأنه منهم ويجعله على هذا التقدير
384
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً نملي لهم خير لأنفسهم).
وقال في الكشاف إن ازدياد الإثم علة، وما كل علة بغرض، ألا تراك تقول قعدت عن الغزو للعجز والفاقة وخرجت من البلد لمخافة الشر، وليس شيء من ذلك بغرض لك، وإنما هي أسباب وعلل.
وعن ابن مسعود قال: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها من الحياة إن كان براً فقد قال تعالى: (وما عند الله خير للأبرار) وان كان فاجراً فقد قال تعالى (ولا يحسبن الذين كفروا) الآية، وعن أبي الدرداء ومحمد ابن كعب وأبي هريرة نحوه (١).
_________
(١) أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه
عن ابن مسعود قال: ما من نفس برة، ولا فاجرة، إلا والموت خير لها من الحياة. إن كان براً، فقد قال الله تعالى: (وما عند الله خير للأبرار) وإن كان فاجراً، فقد قال الله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) وإسناده صحيح.
384
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
385
(ما كان الله) كلام مستأنف (ليذر المؤمنين) هذه اللام تسمى لام الجحود وينصب بعدها المضارع بإضمار إن ولا يجوز إظهارها ولهذا القول دلائل واعتراضات مذكورة في كتب النحو.
والخطاب في قوله (على ما أنتم عليه) عند جمهور المحدّثين للكفار والمنافقين، وقيل الخطاب للمؤمنين والمنافقين أي ما كان الله ليترككم على الحال الذي عليه أنتم من الاختلاط، وقيل الخطاب للمشركين، والمراد بالمؤمنين من في الأصلاب والارحام أي ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم وبينهم.
وقيل الخطاب للمؤمنين أي ما كان الله ليذركم يا معشر المسلمين على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم، وعلى هذا الوجه والوجه الثاني يكون في الكلام التفات.
(حتى يميز الخبيث من الطيب) أي بعضكم من بعض، قال ابن عباس: يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وقال قتادة يميز بينهم في الجهاد والهجرة، وقرىء يميز بالتشديد بالمخفّف من ماز الشيء يميزه ميزاً إذا فرق بين شيئين، فإن كانت أشياء قيل ميزها تمييزاً.
385
(وما كان الله ليطلعكم على الغيب) الخطاب لكفار قريش أي ما كان ليبيّن لكم المؤمن من الكافر فيقول فلان كافر، وفلان مؤمن وفلان منافق لتعرفوا قبل التمييز لأن المستأثر بعلم الغيب لا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول فيميز بينكم، كما وقع من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من تعيين كثير من المنافقين، فإن ذلك كان بتعليم الله له لا بكونه يعلم الغيب أو أن يشاهد أمراً يدل على أمر يكون من بعد كما نصب له علامات دالة على مصارع الكفار يوم بدر، وقيل المعنى ما كان الله ليطلعكم على الغيب فيمن يستحق النبوة حتى يكون الوحي باختياركم.
(ولكن الله يجتبي) أي يختار أو يختص، قاله مجاهد وعن مالك يستخلص (من رسله من يشاء) فيطلعه على ما يشاء من غيبه، عن السدي قال: قالوا إن كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن منا ومن يكفر، فأنزل الله هذه الآية، وعن الحسن قال لا يطلع على الغيب إلا رسول (فآمنوا بالله ورسله) بصفة الإخلاص (وإن تؤمنوا وتتقوا) النفاق (فلكم أجر عظيم) في الآخرة.
386
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم) أي لا يحسبن الباخلون البخل خيراً لهم، قاله الخليل وسيبويه والفراء وقرىء بالتاء أي لا تحسبن يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخل الذين يبخلون خيراً لهم، قال الزجاج هو مثل (واسئل القرية) الآية دالة على ذم البخل، وقد ورد فيه أحاديث.
قال البرد: والسين في قوله (سيطوقون ما بخلوا به) سين الوعيد، وهذه الجملة مبينة لمعنى ما قبلها قيل ومعنى التطويق هنا أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقاً من نار في أعناقهم، وقيل معناه أنهم سيحملون عقاب ما بخلوا به،
386
فهو من الطاقة وليس من التطويق.
وقيل المعنى أنهم يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق، يقال طوّق فلان عمله طوق الحمامة أي ألزم جزاء عمله.
قال القرطبي: البخل في أصل اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل، قال في القاموس البخل ضد الكرم.
وقد ذكر الشوكاني في شرحه للمنتقى عند قوله - ﷺ - اللهم إني أعوذ بك من البخل أنه قيده بحضهم بما يجب إخراجه، ثم قال: ولا وجه له لأن البخل بما ليس بواجب من غرائز النقص المضادة للكمال، والتعوذ منه حسن بلا شك، فالأولى تبقية الحديث على عمومه انتهى، فمعنى البخل عام لا كما ذكره القرطبي.
وأما في الآية فهو للواجب ولكن عبارته تفيد التعميم والله أعلم، قال ابن عباس: هم أهل الكتاب بخلوا به أن يبثوه للناس، وعن مجاهد قال: هم اليهود، وعن السدي: قال بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ولم يؤدوا زكاتها.
(يوم القيامة) بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما أخرج البخارى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثّل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يعنى بشدقيه فيقول أنا مالك أنا كنزك " ثم تلا هذه الآية، وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها (١).
_________
(١) أخرجه أحمد في " المسند " رقم ٣٥٧٧، والترمذي، وابن خزيمة، وابن ماجة ج/١/ ٥٦٧، ولفظه: -[٣٨٨]-
" ما من أحد يؤدي زكاة ماله، إلا مُثّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع حتى يطوق عنقه "، ثم قرأ علينا رسول الله - ﷺ - مصداقه من كتاب الله: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) الآية.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى البخاري ج/٨/ ٢٧٣، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) إلى آخر الآية.
الشجاع: الحية الذكر، وهو ضرب من الحيات، خبيث مارد. وأقرع: صفة من صفات الحيات الخبيثة، يزعمون أنه إذا طال عمر الحية، وكثر سمه، جمعه في رأسه حتى تتمعط منه فروة رأسه.
387
(ولله ميراث السموات والأرض) أي له وحده لا لغيره كما يفيده التقديم والمعنى أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما ومنه المال، فما بالهم يبخلون بذلك ولا ينفقونه وهو لله سبحانه لا لهم. وإنما كان عندهم عارية مستردة.
ومثل هذه الآية قوله تعالى (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها) وقوله (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) والميراث في الأصل هو ما يخرج من مالك إلى آخر، ولم يكن مملوكاً. لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث، ومعلوم أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجيمع مخلوقاته (والله بما تعملون خبير) قرىء بالتاء على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد، وقرىء بالياء على الظاهر.
388
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١)
(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) قال أهل التفسير لما أنزل الله من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً، قال قوم من اليهود هذه المقالة تمويهاً على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون ذلك لأنهم أهل كتاب، بل أرادوا أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان محمد- ﷺ - فهو فقير، ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام.
(سنكتب ما قالوا) في صحف الملائكة أو سنحفظه أو سنجازيهم عليه والمراد الوعيد لهم وإن ذلك لا يفوت على الله بل هو معد لهم ليوم الجزاء.
وجملة سنكتب على هذا مستأنفة جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل ماذا صنع الله بهؤلاء الذين سمع منهم هذا القول الشنيع، فقال: قال لهم سنكتب ما قالوا (و) نكتب (قتلهم الأنبياء) أي قتل أسلافهم للأنبياء، وإنما نسب ذلك إليهم لكونهم رضوا به، جعل ذلك القول قريناً لقتل الأنبياء تنبيهاً على أنه من العظيم والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء (بغير حق) حتى في اعتقادهم، فكانوا يعتقدون أن قتلهم لا يجوز ولا يحل وحينئذ فيناسب شن الغارة عليهم.
(ونقول) أي ننتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم في النار أو عند الموت أو عند، الحساب، وقرىء بالياء أي يقول الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة (ذوقوا عذاب الحريق) الحريق اسم للنار الملتهبة، وإطلاق الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة (١).
_________
(١) أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت مِدْراس اليهود، فوجدهم قد اجتمعوا على رجل منهم، اسمه فنحاص، فقال له أبو بكر: اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله. فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا. فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك. فذهب فنحاص يشكو إلى النبي - ﷺ -، وأخبره أبو بكر بما قال، فجحد فنحاص، فنزلت هذه الآية.
389
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
والإشارة بقوله
390
(ذلك بما قدمت أيديكم) إلى العذاب المذكور قبله، وأشار إلى القريب بالصيغة التي يشار بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته في الفظاعة، وذكر الأيدي لكونها المباشرة لغالب المعاصي (وأن الله ليس بظلام للعبيد) معطوف على ما قدمت أيديكم.
ووجهه أنه سبحانه عذبهم بما أصابوا من الذنب وجازاهم على فعلهم فلم يكن ذلك ظلماً، أو بمعنى أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء وليس بظالم لمن عذبه بذنبه، وقيل إن وجهه أن نفي الظلم مستلزم للعدل المقتضى لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء، ورد بأن ترك التعذيب مع وجود سببه ليس بظلم عقل ولا شرعاً حتى ينتهض نفي الظلم سبباً للتعذيب.
وقيل إن جملة قوله وأن الله ليس بظلام للعبيد في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد، والتعبير بذلك عن نفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم عند أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً لبيان تنزهه عن ذلك، ونفي ظلاّم المشعر بالكثرة يفيد ثبوت أصل الظلم، وأجيب عن ذلك بأن الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلماً لكان عظيماً فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتاً، عن ابن عباس قال: ما أنا بمعذب من لم يجترم.
(الذين قالوا) أي جماعة من اليهود (إن الله عهد الينا) في التوراة (ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار) وهذا منهم كذب على التوراة إذ الذي فيها مقيد بغير عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. والقربان ما يتقرب به إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة، وقد كان دأب بني إسرائيل أنهم كانوا يقرّبون القربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار من السماء فتحرقه، ولم يتعبّد الله بذلك كل أنبيائه ولا جعله دليلاً على صدق دعوى النبوة.
ولهذا رد الله عليهم فقال (قل قد جاءكم رسل من قبلي) كيحيى بن زكريا وشعياء وسائر من قتلوا من الأنبياء (بالبيّنات) أي الدلالات الواضحات على صدقهم (وبالذي قلتم) أي بالقربان (فلم قتلتموهم) أراد بذلك فعل أسلافهم (إن كنتم صادقين) في دعواكم.
(فإن كذّبوك) يا محمد هؤلاء اليهود (فقد كذّب) (رسل من قبلك) مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم من الرسل (جاؤوا بالبينات) أي الحلال والحرام أو المعجزات الباهرات (والزبر) جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته إذا حسنته، وقيل الزبر الواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته (والكتاب المنير) الواضح الجلي المضيء، يقال نار الشيء واستنار وأناره ونوره بمعنى.
وقال قتادة: الزبر كتب الأنبياء والكتاب المنير هو القرآن الكريم، وقيل الزبر المصحف، والكتاب المنير التوراة والإنجيل، وزاد أبو السعود والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام، ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة المواقع.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
(كل نفس ذائقة الموت) من الذوق وهذه الآية تتضمن الوعد والوعيد للمصدق والمكذب بعد إخباره عن الباخلين القائلين أن الله فقير ونحن أغنياء، وقرىء ذائقة الموت بالتنوين ونصب الموت، وقرأ الجمهور بالإضافة.
والمعنى ذائقة موت أجسادها إذ النفس لا تموت، ولو ماتت لما ذاقت الموت في حال موتها. لأن الحياة شرط في الذوق وسائر الإدراكات، وقوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) معناه حين موت أجسادها، قاله الكرخي.
وهذا يقتضي أن المراد بالنفس هنا الروح، والحامل له على تفسيرها بذلك التأنيث في قوله ذائقة لأنها بمعنى الروح مؤنثة وتطلق أيضاً على مجموع الجسد والروح الذي هو الحيوان، وهي بهذا المعنى مذكر، وهذا المعنى الثاني تصح إرادته هنا أيضاً بل هو الأقرب المتبادر إلى الفهم.
(وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة) أجر المؤمن الثواب وأجر الكافر العقاب أي أن توفية الأجور وتكميلها على التمام إنما يكون في ذلك اليوم، وما يقع من الأجور في الدنيا أو في البرزخ فإنما هو بعض الأجور كما ينبىء عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران (١).
(فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) الزحزحة التنحية والإبعاد تكرير الزحّ وهو الجذب بعجلة، قاله في الكشاف، وقد سبق الكلام عليه أي فمن بعد عن النار يومئذ ونحّى فقد ظفر بما يريد ونجا مما يخاف، ونال غاية مطلوبه.
_________
(١) الترمذي كتاب القيامة الباب ٢٦.
392
وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه. فإن كل فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة إليها إلا رؤية الله سبحانه وتعالى فهو أفضل نعيم الآخرة في الجنة، اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة ولا عيش إلا عيشها ولا نعيم إلا نعيمها فاغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وارض عنا رضاً لا سخط بعده، واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، إقرؤوا إن شئتم (فمن زحزح عن النار إلى قوله الغرور) أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه وغيرهما (١).
(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) المتاع كل ما يتمتع به الإنسان وينتفع به ثم يزول ولا يبقى كذا قال أكثر المفسرين، وقيل المتاع كالفاس والقدر والقصعة ونحوها، والأول أولى، والغرور إما مصدر أو جمع غار، وقيل ما يغر الإنسان مما لا يدوم وقيل الباطل، والغرور الشيطان يغر الناس بالأماني الباطلة والمواعيد الكاذبة.
شبّه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلّس به على من يريده وله ظاهر محبوب، وباطن مكروه، قيل متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم، قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة فأما من اشتغل بطلبها فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منها.
_________
(١) روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - ﷺ -: " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئتم: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) ورواه أحمد في " المسند "، والترمذي، والحاكم في " المستدرك " وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وروى الإمام أحمد في " المسند " رقم ٦٨٠٧، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ". ورواه الإمام مسلم بأطول منه.
393
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧)
394
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم) اللام لام القسم أي والله لتبونّ، هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته تسلية لهم بما سيلقونه من الكفرة والفسقة ليوطّنوا أنفسهم على الثبات والصبر على المكاره، والابتلاء الامتحان والاختبار، والمعنى لتمتحننّ ولتختبرنّ في أموالكم بالمصايب والإنفاقات الواجبة وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب والقتل في سبيل الله.
(ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) قال الزهري: الذين أوتوا الكتاب هو كعب بن الأشرف وكان يحرض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في شعره، وعن ابن جريج قال: يعني اليهود والنصارى. فكان المسلمون يسمعون من اليهود عزيز ابن الله ومن النصارى المسيح ابن الله.
(ومن الذين أشركوا) سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب (أذى كثيراً) من الطعن في دينكم وأعراضكم. وزاد السيوطي والتشبيب بنسائكم، قاله في الجمل، هو ذكر أوصاف الجمال وكان يفعل ذلك كعب بن الأشرف بنساء المؤمنين.
394
(وإن تصبروا وتتّقوا) الصبر عبارة عن احتمال الأذى والمكروه والتقوى عن الاحتراز عما لا ينبغي (فإن ذلك) الصبر والتقوى المدلول عليهما بالفعلين وأشار بما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوّ درجتهما وبعد منزلتهما وتوحيد حرف الخطاب إمّا باعتبار كل واحد من المخاطبين، وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير ملاحظة خصوصية أحوال المخاطبين.
(من عزم الأمور) معزوماتها التي يتنافس فيها المتنافسون، أي مما يجب عليكم أن تعزموا عليه لما فيه من كمال المزيّة والشرف، أو لكونه عزمة من عزمات الله التي أوجب عليكم القيام بها، يقال عزم الأمر أي شده وأصلحه، وأصله ثبات الرأي على الشيء إلى إمضائه.
وقالى المرزوقي: إنه توطين النفس عند الفكر، والمراد أن يوطدوا أنفسهم على الصبر، فإن العالم بنزول البلاء عليه لا يعظم وقعه في قلبه بخلاف غير العالم فإنه يعظم عنده ويشق عليه.
وقالى ابن جريج: أي من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به، والحاصل أن المصدر بمعنى اسم المفعول قال التفتازاني: إما معزوم العبد بمعنى أنه يجب عليه العزم والتصميم عليه أو معزوم الله لمعنى عزم الله أي أراد الله وفرض أن يكون ذلك ويحصل.
395
(وإذ أخذ الله) كلام مستأنف سيق لبيان بعض أذيّاتهم وهو كتمانهم شواهد النبوة (ميثاق الذين أوتوا الكتاب) هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أو اليهود فقط على الخلاف في ذلك، والظاهر أن المراد بأهل الكتاب كل من أتاه الله علم شيء من الكتاب أي كتاب كان كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب.
395
قال الحسن وقتادة: إن الآية عامة لكل عالم، وكذا قال محمد بن كعب، ويدل على ذلك قول أبي هريرة لولا ما أخذه الله على أهل الكتاب ما حدّثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية.
والضمير في قوله (لتبيّننّه) راجع إلى الكتاب وقيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يتقدم له ذكر لأنّ الله أخذ على اليهود والنصارى أن يبينوا نبوته، وهذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم كأنه قيل لهم بالله لتبيننه، وقرىء بالياء جرياً على الإسم الظاهر، وهو كالغائب وبالتاء خطاباً على الحكاية تقديره وقلنا لهم.
(للناس ولا تكتمونه) أي الكتاب بالياء والتاء والواو للحال أو للعطف، والنهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان إما للمبالغة في إيجاب الأمور به، وإما لأن المراد بالبيان ذكر الآيات الناطقة بنبوته، وبالكتمان القاء التأويلات الزائغة والشّبه الباطلة.
(فنبذوه) أي الكتاب أو الميثاق، وقرأ ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق النّبيين لتبينه)، ويشكل على هذه القراءة قوله (فنبذوه) فلا بد أن يكون فاعله الناس والنّبذ الطرح وقد تقدم في البقرة.
وقوله (وراء ظهورهم) مبالغة في النبذ والطرح وترك العمل وضياعه، ومثّل في الاستهانة به والأعراض عنه بالكلية (واشتروا به) أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه (ثمناً قليلا) أي حقيراً يسيراً من حطام الدنيا وأعراضها والمآكل، والرّشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم وسفلتهم برياستهم في العلم فكتموه خوف فوته عليهم (فبئس ما يشترون) أي بئس شيئاً ما يشترونه بذلك الثمن.
396
وعن ابن عباس قال: كان الله أمرهم أن يتبعوا النبي الأمي، وعنه قال: في التوراة والإنجيل أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده، وأن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل فنبذوه.
وعن قتادة في الآية قال: هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم علماً فليعلمه الناس، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، وعن الحسن قال: لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.
وظاهر هذه الآية وإن كان مخصوصاً بعلماء أهل الكتاب فلا يبعد أن يدخل فيه علماء هذه الأمة الإسلامية لأنهم أهل كتاب هو القرآن، قال قتادة: طوبى لعالم ناطق ومستمع واع، هذا علم علماً فبذله، وهذا سمع خيراً فقبله ووعاه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سئل علماً يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار، أخرجه الترمذي ولأبي داود من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة (١)، وفي الباب أخبار وآثار كثيرة.
_________
(١) قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: هذا توبيخ من الله تعالى وتهديد لأهل الكتاب، الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد - ﷺ -، وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تعالى تابعوه، فكتموا ذلك، وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلم بهم مسلكهم. فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئاً، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي - ﷺ - أنه قال: " من سئل عن علم فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار ". وهذا الحديث الذي استشهد به ابن كثير أخرجه أحمد وأبو داود، وابن ماجه، وأبو يعلى، والترمذي، وحسنه، والحاكم وصححه، والبيهقي من حديث أبي هريرة به مرفوعاً، وهو عند الحاكم أيضاً وغيره عن ابن عمرو، وعند ابن ماجه وأبي سعيد، وعند الطبراني من حديث ابن عباس وابن عمر وابن مسعود، وهو حديث صحيح.
397
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)
398
(لا تحسبن الذين يفرحون) الخطاب لرسول الله ﷺ أو لكل من يصلح له قرىء بالتاء والياء وهما سبعيتان (بما أتوا) أي بما فعلوا من إضلال الناس، وقد اختلف في سبب نزولها كما سيأتي (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) من التمسك بالحق وهم على ضلال، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته هذه الآية عملاً بعموم اللفظ وهو المعتبر لا بخصوص السبب، فمن فرح بما فعل، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل.
(فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) وقرىء بالتحتية أى لا يحسبن الفارحون فرحهم منجياً لهم من العذاب، والمفازة المنجاة مفعلة من فاز يفوز إذا نجا أي ليسوا بفائزين، سمّي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعي، وقيل لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب فوز الرجل إذا هلك.
وقال ثعلب. حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت مفازة لأن من قطعها فاز وقال ابن الأعرابي: بل لأنه مستسلم لما أصابه، وقيل المعنى لا تحسبنهم بمكان بعيد عن العذاب، لأن الفوز التباعد عن المكروه بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم.
(ولهم عذاب أليم) يعني مؤلم في الآخرة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال ابن عباس سألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد
398
أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوه بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.
وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله - ﷺ - إلى الغزو وتخلفوا عنه فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم رسول الله - ﷺ - من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وقد روى أنها نزلت في فنحاص وأسيع وأشباههما، وروي أنها نزلت في اليهود.
399
(ولله ملك السموات والأرض) قال الخطيب فهو يملك أمرهما وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها انتهى، والملك بالضم تمام القدرة واستحكامها، والمعنى ولله ملك خزائن السموات والأرض يتصرف فيه كيف يشاء، وفيه تكذيب لمن قال إن الله فقير ونحن أغنياء، فمن كان له جميع ما فيهما كيف يكون فقيراً.
(والله على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء، ومنه تعذيب الكافرين وإنجاد المؤمنين.
(إن في خلق السموات والأرض) هذه جملة مستأنفة لتقرير اختصاصه سبحانه بما ذكره فيها والمراد ذات السموات والأرض وصفاتهما وما فيهما من العجائب (واختلاف الليل والنهار) تعاقبهما بالمجيء والذهاب وكون كل واحد منهما يخلف الآخر، وكون زيادة أحدهما في نقصان الآخر وتفاوتهما طولاً وقصراً وحراً وبرداً وغير ذلك.
(لآيات) أي دلالات واضحة وبراهين بينة تدل على الخالق سبحانه، وقد تقدم تفسير بعض ما هنا في سورة البقرة (لأولي الألباب) أي لأهل العقول الصحيحة الخالصة عن شوائب النقص، فإن مجرد التفكر فيما قصه الله تعالى في هذه الآية يكفي العاقل ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبهة ولا يدفعه التشكيك.
399
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢)
400
(الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) المراد بالذكر هنا ذكره سبحانه في هذه الأحوال من غير فرق بين حال الصلاة وغيرها، وذهب جماعة من المفسرين إلى أن الذكر هنا عبارة عن الصلاة وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس وقتادة أي لا يضيعونها في حال من الأحوال فيصلونها قياماً مع عدم العذر، وقعوداً وعلى جنوبهم مع العذر، وعن ابن مسعود قال: إنما هذه في الصلاة إذا لم يستطع قائماً فقاعداً، وإن لم يستطع قاعداً فعلى جنبه.
وقد ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين قال كانت لي بواسير فسألت النبي - ﷺ - عن الصلاة فقال: صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب (١).
وثبت فيه عنه قال سألت رسول الله - ﷺ - عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال: من صلّى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد (٢).
وعن قتادة قال: هذه حالاتك كلها يا ابن آدم، اذكر الله وأنت قائم فإن لم تستطع فاذكره جالساً فإن لم تستطع جالساً فاذكره وأنت على جنبك، يسر من الله وتخفيف.
وأقول هذا التقييد الذي ذكره بعدم الاستطاعة مع تعميم الذكر لا وجه له لا من الآية ولا من غيرها فإنه لم يرد في شيء من الكتاب ولا من السنة ما يدل على أنه لا يجوز الذكر من قعود إلا مع عدم استطاعة الذكر من قيام، ولا
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٣٦٧٢.
(٢) صحيح الجامع الصغير ٦٢٣٩.
400
يجوز على جنب إلا مع عدم استطاعته من قعود، وإنما يصلح هذا التقييد لمن جعل المراد بالذكر هنا الصلاة كما سبق عن ابن مسعود وغيره.
(ويتفكّرون في خلق السموات والأرض) أي في بديع صنعهما وإتقانهما مع عظم أجرامهما فإن هذا الفكر إذا كان صادقاً أوصلهم إلى الإيمان بالله سبحانه، وعن عائشة مرفوعاً: ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها، وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في استحباب التفكر مطلقاً.
ويقولون (ربّنا ما خلقت هذا) الخلق الذي نراه (باطلاً) أي عبثاً ولهواً بل خلقته دليلاً على حكمتك ووحدانيتك وقدرتك. والباطل الزائل الذاهب، وخلق بمعنى جعل والإشارة بقوله " هذا " إلى السموات والأرض أو إلى الخلق على أنه بمعنى المخلوق.
(سبحانك) تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلاً وهزلاً وعبثاً، والفاء في (فقنا) لترتيب هذا الدعاء على ما قبله (عذاب النار) علم عباده كيفية الدعاء، فمن أراد أن يدعو فليقدم الثناء على الله أولاً ثم يأتي بالدعاء.
401
(ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) تأكيد لما تقدمه من استدعاء الوقاية من النار منه سبحانه، وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار، وهو أن من أدخله النار فقد أخزاه أي أذله وأهانه. وقال المفضل: معنى أخزيته أهلكته، ويقال معناه فضحته وأبعدته.
يقال أخزاه الله أبعده ومقته، والاسم الخزي، قال ابن السكيت، خزى يخزي خزياً إذا وقع في بلية، وعن أنس قال: " من تدخل النار " من تخلد، وعن سعيد بن المسيب قال هذه خاصة لمن لا يخرج منها.
(وما للظالمين) المشركين، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بتخصيص الخزي بهم (من) زائدة (أنصار) ينصرونهم يوم القيامة ويمنعونهم من العذاب.
401
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤)
402
(ربنا إننا سمعنا منادياً) هو عند أكثر المفسرين النبي - ﷺ -، وقيل هو القرآن، وأوقع السماع على المنادي مع كون المسموع هو النداء لأنه قد وصف المنادي بما يسمع وهو قوله (ينادي) قال أبو علي الفارسي. ذكره مع أنه قد فهم من قوله منادياً لقصد التأكيد والتفخيم لشأن هذا المنادى به (للإيمان) اللام بمعنى إلى وقيل للعلة أى لأجله (أن آمنوا بربكم فآمنا) أي امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من الإيمان.
وتكرير النداء في قوله (ربنا) لإظهار التضرع والخضوع (فاغفر لنا) الفاء لترتيب المغفرة والدعاء بها على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيّته، فإن ذلك من دواعي المغفرة والدعاء بها (ذنوبنا وكفر) حط (عنا سيآتنا) قيل المراد بالذنوب هنا الكبائر وبالسيآت الصغائر، والظاهر عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين والآخر بالآخر بل يكون المعنى في الذنوب والسيآت واحداً، والتكرير للمبالغة والتأكيد كما أن معنى الغفر والكفر الستر.
(وتوفنا مع الأبرار) جمع بار أو بر، وأصله من الاتساع وكأن البار متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمته، قيل هم الأنبياء ومعنى اللفظ أوسع من ذلك أي معدودين ومحسوبين في جملتهم، أو المراد في سلكهم على سبيل الكناية أو أن مع بمعنى (على) أي على أعمال الأبرار أو محشورين معهم.
(ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) هذا دعاء آخر، والنكتة في تكرير النداء ما تقدم والموعود به على ألسن الرسل هو الثواب الذي وعد الله به أهل
402
طاعته، ففي الكلام حذف وهو لفظ الألسن كقوله: (واسأل القرية) وقيل المحذوف التصديق أي ما وعدتنا على تصديق رسلك، وقيل ما وعدتنا منزّلاً على رسلك ومحمولاً على رسلك.
ولا يخفى أن تقدير الأفعال الخاصة في مثل هذه المواقع تعسف، فالأول أولى. وصدور هذا الدعاء منهم مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا محالة إما لقصد التعجيل أو للخضوع بالدعاء لكونه مخ العبادة.
(ولا تخزنا) لا تفضحنا ولا تهنا (يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) فيه دليل على أنهم لم يخافوا خلف الوعد، وأن الحامل لهم على الدعاء هو ما ذكرنا (١).
_________
(١) إن قيل: ما وجه قولهم: " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد؛ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول. أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وُعد بذلك دون الخزي والعقاب.
الثاني: أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع، والدعاء مخ العبادة. وهذا كقوله: " قل رب أحكم بالحق " وإن كان هو لا يقضي إلا بالحق.
الثالث: سألوا أن يعطوا ما وعدوا به من النصر على عدوهم معجلاً؛ لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه ذلك إعزازاً للدين. والله أعلم. وروى أنس ابن مالك أن رسول الله ﷺ قال: " ما وعده الله عز وجل على عمل ثواباً فهو منجز له رحمة ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار ". والعرب تذم بالمخالفة في الوعد وتمدح بذلك في الوعيد؛ حتى قال قائلهم:
403
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (١٩٥)
(فاستجاب لهم ربهم) الاستجابة بمعنى الإجابة وقيل الإجابة عامة والاستجابة خاصة بإعطاء المسئول، وهذا الفعل يتعدى بنفسه وباللام، يقال استجابه واستجاب له، وإنما ذكر سبحانه الاستجابة وما بعدها في جملة ما لهم من الأوصاف الحسنة لأنها منه، إذ من أجيبت دعوته فقد رفعت درجته.
(أني لا أضيع عمل عامل منكم) أي أعطاهم ما سألوه وقال لهم إني لا أحبط عملكم أيها المؤمنون بل أثيبكم عليه، والمراد بالإضاعة ترك الإثابة (من ذكر أو أنثى) " من " بيانية مؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم.
(بعضكم من بعض) أي رجالكم مثل نسائكم في ثواب الطاعة والعقاب ونساؤكم مثل رجالكم فيهما، وقيل في الدين والنصرة والموالاة، والأول أولى، والجملة معترضة أو مستأنفة لبيان كون كل منهما من الآخر ما أجمل في قوله (إني لا أضيع عمل عامل منكم).
(فالذين هاجروا) من أوطانهم إلا رسول الله - ﷺ - قال الزمخشري: هذا تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم، قال الكرخي: والظاهر أن هذه الجمل التي بعد الموصول كلها صفات له، فلا يكون الجزاء إلا لمن جمع هذه الصفات، ويجوز أن يكون ذلك على التنويع؛ وقد يكون حذف الموصولات
404
لفهم المعنى فيكون الخبر بقوله لأكفرن عن كل من اتصف بواحدة من هذه الصفات (١).
(وأخرجوا من ديارهم) في طاعة الله عز وجل (وأوذوا في سبيلي) آذاهم المشركون بسبب إسلامهم وهم المهاجرون (وقاتلوا) أعداء الله (وقتلوا) في سبيل الله، وقرىء قتلوا على التكثير وقرىء وقتلوا وقاتلوا، وأصل الواو لمطلق الجمع بلا ترتيب كما قال به الجمهور، والمراد هنا أنهم قاتلوا وقتل بعضهم، والسبيل الدين الحق والمراد هنا ما نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله وعملهم بما شرعه الله لعباده.
(لأكفرنّ عنهم سيّآتهم) أي والله لأغفرنها لهم (ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله) يعني تكفير سيآتهم وإدخالهم الجنة (والله عنده حسن الثواب) وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله، من ثاب يثوب إذا رجع (٢)، وقد ورد في فضل الهجرة أحاديث كثيرة.
_________
(١) روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فنزلت هذه الآية.
رواه ابن جرير الطبري ٧/ ١٩٥.
رواه الحاكم في المستدرك ٢/ ٣٠٠ وقال صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(٢) زاد المسير/٥٣١.
405
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (١٩٨)
406
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) خطاب للنبي - ﷺ -، والمراد تثبيته على ما هو عليه كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) أو خطاب لكل أحد؛ وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار؛ بعد ذكر حسن حال المؤمنين، والمعنى لا يغرنك؛ ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم، والتقلب في البلاد الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة، قال السدي: يعني ضربهم فيها وقال عكرمة تقلب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النعم.
(متاع قليل) يتمتعون به يسيراً في هذه الدار ويفنى وهو متاع نزر لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه، والمتاع ما يعجل الانتفاع به، وسماه قليلاً لأنه فان؛ وكل فإن وإن كان كثيراً فهو قليل.
(ثم مأواهم) أي ما يأوون إليه (جهنم وبئس المهاد) ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم أو ما مهد الله لهم من النار؛ فالمخصوص محذوف وهو هذا المقدر؛ قال ابن عباس: بئس المنزل.
(لكن الذين اتقوا ربهم) وقعت " لكن " هنا أحسن موقع فإنها وقعت بين ضدين وذلك أن معنى الجملتين التي قبلها والتي بعدها آيل إلى تعذيب الكفار وتنعيم المتقين، وهو استدراك مما تقدمه لأن معناه معنى النفي كأنه قال ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع، لكن الذين اتقوا وإن أخذوا في التجارة لا يضرهم ذلك وإن لهم ما وعدهم به.
406
وفي الشهاب وجه الاستدراك أنه رد على الكفار فيما يتوهمون من أنهم ينعمون، وأن المؤمنين في عناء ومشقة، فقال ليس الأمر كما توهمتم فإن المؤمنين لا عناء لهم إذا نظر إلى ما أعد لهم عند الله، أو أنه لما ذكر تنعمهم بتقلبهم في البلاد، أوهم أن الله لا ينعم المؤمنين، فاستدرك عليه بأن ما هم فيه عين النعيم لأنه سبب لما بعده من النعم الجسام (١).
(لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي مقدرين الخلود (نزلاً) النزل ما يهيّأ للنزيل ويعد للضيف، والجمع أنزال ثم اتسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء وإن لم يكن ضيف، ومنه (فنزل من حميم) وهو مصدر مؤكد عند البصريين أو جمع نازل، وقال الهروي ثواباً (من عند الله) وقيل إكراماً من الله لهم أعدها لهم كما يعد القرى للضيف إكراماً.
(وما عند الله) مما عده لمن أطاعه (خير) للتفضيل وهو ظاهر (للأبرار) مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار، فإنه متاع قليل عن قريب يزول.
عن ابن عمر قال إنما سماهم أبراراً لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالدك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق وروى هذا مرفوعاً والأول أصح قاله السيوطي، وقال ابن زيد خير لمن يطيع الله.
_________
(١) روى ابن الجوزي في تفسيره سبباً لنزول هذه الآية:
أن النبي ﷺ أراد أن يستلف من بعضهم (اليهود) شعيراً فأبى إلا على رهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أعطاني لأوفيته إني لأمين في السماء أمين في الأرض ".
407
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
408
(وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم) هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظ من الدين وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق وفيما سيأتي، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله وبما أنزله على نبينا محمد ﷺ وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم (خاشعين لله لا يشترون) تصريح بمخالفتهم للمحرفين والجملة حال (بآيات الله) التي عندهم في التوراة والإنجيل (ثمناً قليلاً) من الدنيا بالتحريف والتبديل كما يفعله سائرهم بل يحكون كتاب الله كما هو.
(أولئك) أي هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة (لهم أجرهم) الذي وعدهم الله سبحانه بقوله (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم (عند ربهم) يوفيه إليهم يوم القيامة.
أخرج النسائي والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس قال: لما مات النجاشي قال - ﷺ - " صلوا عليه " قالوا يا رسول الله نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله، يعني هذه الآية (١)، وفي الباب أحاديث.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٤٤١. رواه ابن جرير ٧/ ٤٩٧ وإسناده ضعيف وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى على النجاشي صلاة الجنازة الغائبة وهي ثابتة صحيحة.
408
وقال مجاهد: هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وعن الحسن قال هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين اتبعوا محمداً - ﷺ -.
(إن الله سريع الحساب) يحاسب الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا فيجازي كل أحد على قدر عمله لنفوذ علمه في كل شيء، والمراد سرعة وصول الأجر الموعود به إليهم.
409
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا) هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه (إن في خلق السموات) ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا والآخرة؛ فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر حبس النفس؛ وقد تقدم تحقيق معناه وهو لفظ عام تحته أنواع من المعاني، وقد خصه بعضهم بالصبر على طاعة الله، وقيل على أداء الفرائض وقيل على تلاوة القرآن؛ وقيل على أمر الله ونهيه؛ وقيل على الجهاد؛ وقيل على البلاء وقيل على أحكام الكتاب والسنة، واللفظ أوسع من ذلك.
(وصابروا) المصابرة مصابرة الأعداء قاله الجمهور أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، ولا تكونوا أضعف فيكونوا أشد منكم صبراً وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر لكونها أشد منه وأشق وأكمل وأفضل من الصبر على ما سواه، فهو كعطف الصلاة الوسطى على الصلوات، وقيل المعنى صابروا على الصلوات وقيل صابروا الأنفس عن شهواتها، وقيل صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا والقول الأول هو المعنى العربي.
وقد روى عن السلف غير هذا في قصر الصبر على نوع من أنواع الطاعات والمصابرة على نوع آخر، ولا تقوم بذلك حجة، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي وقد قدمناه.
409
(ورابطوا) أي أقيموا في الثغور مرابطين خيلكم فيها كما يربطها أعداؤكم، وهذا قول جمهور المفسرين، وعن محمد بن كعب القرظي قال: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوي وعدوكم.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله - ﷺ - غزو يرابط فيه، والرباط اللغوي هو الأول، ولا ينافيه تسميته - ﷺ - لغيره رباطاً، ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول وعلى انتظار الصلاة، قال الخليل: الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة، وهكذا قال وهو من أئمة اللغة.
وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال: يقال ماء مترابط دائم لا يبرح، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور، قال الخازن كل مقيم بثغر يدفع عمن وراءه وإن لم يكن له مركوب مربوط.
وعن أبي هريرة: قال أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلوات في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها.
وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط (١) ".
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط، وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله، وهو يرد ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن فإن رسول الله - ﷺ - قد ندب إلى الرباط في سبيل الله وهو الجهاد، فيحمل ما في الآية عليه.
_________
(١) مسلم ٢٥١.
410
وقد ورد عنه - ﷺ - أنه سمى حراسة الجيش رباطاً فأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أجر الرابط فقال: من رابط ليلة حارساً من وراء السلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى (١).
(واتقوا الله) في جميع أحوالكم، ولا تخالفوا ما شرعه لكم (لعلكم تفلحون) أي تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل الكروب.
وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر هذه السورة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أخرجه ابن السني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة، وفي إسناده مظاهر بن أسلم وهو ضعيف (٢).
ومن حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي - ﷺ - قال: " من قرأ هذه العشر الآيات لما استيقظ، وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام الليلة.
تمت بعون الله سورة آل عمران
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٦١٣٥. زاد المسير ٥٣٤.
(٢) ابن كثير ١/ ٤٤١.
411
خاتمة الجزء الثاني
تم بعون الله سبحانه وتعالى الجزء الثاني من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الثالث وأوله تفسير سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا.
413
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الثالث
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
1
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
2
فتح البيان في مقاصد القرآن
3
الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النساءمن أول آية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)
إلى الآية ٨٩ من سورة المائدة
5

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النساء
مدنية كلها وهي مائة وخمس وسبعون آية قال القرطبي: إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) قال النقاش: وقيل نزلت عند هجرة رسول الله - ﷺ - من مكة إلى المدينة. وقال علقمة وغيرة: صدرها مكية. وقال النحاس هذة الآية مكية.
قال القرطبي: والصحيح الأول فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله - ﷺ - يعني قد بنى بها ولا خلاف بين العلماء أن النبي - ﷺ - إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. وقد ورد في فضل هذه السورة أخبار آثار كثيرة ذكرت في محلها.
7

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)
9
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
ولا يرهب ابن العتم ما عشت صولتي ولا اختفي من خشية المتهدد
وإني متى أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي