بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحزابهي ثلاث وسبعون آية
قال ابن عباس : نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير مثله وعن زر قال : قال لي أبي بن كعب : كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها ؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية فقال : قط ؟ لقد رأيتها وأنها لتعادل سورة البقرة : أو أكثر من سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم. فرفع فيما رفع. قال ابن كثير : وإسناده حسن.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قام فحمد الله وأثني عليه ثم قال :( أما بعد يا أيها الناس : إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورجمنا بعده. فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ). وقد روي عنه نحو هذا من طرق.
وعن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مائتي آية. فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن.
قال النسفي : وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض.
ﰡ
(اتق الله) أي: دم على ذلك وازدد منه، فهو باب واسع، وعرض عريض، لا يدرك مداه، ولا ينال منتهاه.
(ولا تطع الكافرين) من أهل مكة، ومن هو على مثل كفرهم (والمنافقين) الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. قال الواحدي: إنه أراد سبحانه بالكافرين: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور السلمي، وذلك أنهم قالوا للنبي - ﷺ - أرفض ذكر آلهتنا، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها، قال: والمنافقين عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح.
(إن الله كان عليماً حكيماً) في أي: كثير العلم والحكمة بليغهما، قال النحاس: " ودل بقوله هذا على أنه كان يميل إليهم يعني النبي - ﷺ - استدعاء لهم إلى الإسلام، والمعنى أن الله عز وجل لو علم أن ميلك إليهم فيه منفعة لما
(إن الله كان بما تعلمون خبيراً) تعليل لأمره باتباع ما أوحي إليه، وتأكيد لموجبه، والأمر له - ﷺ - أمر لأمته، فهم مأمورون باتباع القرآن، كما هو مأمور باتباعه، ولهذا جاء بخطابه وخطابهم في قوله: بما تعلمون على قراءة الجمهور بالفوقية على الخطاب، وقرىء بالتحتية، والواو ضمير الكفرة والمنافقين، أي: إنه خبير بمكايدهم؛ فيدفعها عنك.
عن ابن عباس قال: قام النبي - ﷺ - يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه: إلا ترى أن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم، فنزل (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).
وعنه بلفظ: صلى النبي - ﷺ - صلاة، فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فقالوا: إن له قلبين، فنزلت. وعنه أيضاًً قال: كان رجل من قريش يسمى من دهائه: ذا القلبين فأنزل الله هذا في شأنه.
(وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) قرىء اللائي بياء ساكنة بعد همزة وبياء ساكنة بعد ألف محضة قال أبو عمرو بن العلاء: إنها لغة قريش التي أمر الناس أن يقرأوا بها وتظاهرون مضارع ظاهر، وقرىء مضارع تظاهر والأصل تتظاهرون وقرىء تظهرون والأصل تنظهرون، وأخذ ذلك من لفظ الظهر كأخذ لبى من التلبية، وإنما عُدّي بمن لأنه ضُمّن معنى التباعد، كأنه قيل: متباعدين من نسائكم بسبب الظهار، كما تقدم في تعدية الإيلاء بمن في البقرة.
والظهار أصله أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي، والمعنى ما جعل الله نساءكم اللاتي تقولون لهن هذا القول كأمهاتكم في التحريم، ولكنه منكر من القول وزور، وإنما تجب به الكفارة بشرطه، وهو العود كما ذكر في سورة المجادلة بقوله: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا أي نفسه بأن يخالفوه بإمساك المظاهر منها زمناً يمكنه أن يفارقها فيه أو لا يفارقها، لأنه مقصود المظاهر وصف المرأة بالتحريم وإمساكها يخالفه قاله الكرخي.
(وما جعل أدعياءكم) أي: وكذلك ما جعل الأدعياء الذين تدعون أنهم أبناؤكم (أبناءكم) والأدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعى ابناً لغير أبيه
(ذلكم) أي ما تقدم من ذكر الظهار والادعاء (قولكم بأفواهكم) أي ليس ذلك إلا مجرد قول بالأفواه، ولا تأثير له في الخارج، فلا تصير المرأة به أمه، ولا ابن الغير به إبناً، ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوة.
وقيل: الإشارة راجعة إلى الادعاء أي: ادعاؤكم أن أبناء الغير أبناؤكم لا حقيقة له بل هو مجرد قول بالفم؛ إذ الابن لا يكون إلا بالولادة وفيه نسخ التبني، وذلك أن الرجل كان في الجاهلية يتبنى الرجل، فيجعله كالابن المولود يدعوه إليه الناس، ويرث ميراثه، وكان النبي - ﷺ - أعتق زيد بن حارثة الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه وبين حمزة، فلما تزوج زينب -وكانت تحت زيد- قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، ونسخ بها التبني.
قال النحاس: وهذا من نسخ السنة بالقرآن. قال القرطبي: أجمع أهل التفسير على أن هذا القول أنزل في زيد بن حارثة.
(والله يقول الحق) الذي يحق اتباعه لكونه حقاً في نفسه، لا باطلاً، فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم (وهو يهدي السبيل) أي يدل على الطريق الموصلة إلى الحق، وفي هذا إرشاد للعباد إلى قول الحق، وتراث قول الباطل والزور، ثم صرح سبحانه بما يجب على العباد من دعاء الأبناء للآباء فقال:
(هو أقسط عند الله) تعليل للأمر بدعاء الأبناء للآباء، والضمير راجع إلى مصدر: ادعوهم ومعنى أقسط: أعدل، أي أعدل من كل كلام يتعلق بذلك فترك الإضافة للعموم، كقوله: (الله أكبر، أو أعدل من قولكم: هو ابن فلان، ولم يكن ابنه لصلبه، وأقسط أفعل تفضيل، قصد به الزيادة مطلقاً، من القسط بمعنى العدل، وانظر إلى فصاحة هذا الكلام، حيث وصل الجمل الطلبية. ثم فصل الخبرية عنها، ووصل بينها؛ ثم فصل الاسمية عنها ووصل بينها، ثم فصل بالطلبية ثم تمم الإرشاد للعباد فقال:
(فإن لم تعلموا آباءهم) تنسبونهم إليهم (فإخوانكم) أي فهم إخوانكم (في الدين ومواليكم) فقولوا: أخي ومولاي، ولا تقولوا: ابن فلان حيث لم تعلموا آباءهم على الحقيقة، قال الزجاج: مواليكم، أي أولياؤكم في الدين.
وقيل المعنى: فإن كانوا محررين ولم يكونوا أحراراً فقولوا: موالي فلان
(ما تعمدت قلوبكم) وهو ما قلتموه على طريقة العمد، من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم مع علمكم بذلك، قال قتادة: لو دعوت رجلاً بغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس بخلاف الحال في زيد فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمداً عصى بقوله هذا، عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي - ﷺ - قال: " من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام " أخرجه البخاري ومسلم.
(وكان الله غفوراً رحيماً) يغفر للمخطىء ويرحمه، ويتجاوز عنه. أو غفور للذنوب، رحيماً بالعباد، ومن جملة من يغفر له ويرحمه من دعا رجلاً لغير أبيه خطأً، أو قبل النهي عن ذلك، أو على سبق اللسان؛ ثم ذكر سبحانه لرسوله مزية عظيمة، وخصوصية جليلة؛ لا يشاركه فيها أحد من العباد فقال:
وقيل: المراد بأنفسهم في الآية بعضهم فيكون المعنى أن النبي - ﷺ - أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض، وقيل هي خاصة بالقضاء أي هو أولى بهم من
وفي قراءة ابن مسعود: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم) وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي - ﷺ - أبوهم في الدين، والأول أولى.
وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - قال: " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئم: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه ".
وقد ثبت في الصحيح أنه - ﷺ - قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ".
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال: غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله - ﷺ - ذكرت علياً فنقصته فرأيت وجه رسول الله - ﷺ - تغير وقال، يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قلت بلى يا رسول الله - ﷺ - قال: " من كنت مولاه فعليّ مولاه. "
(وأزواجه) - ﷺ - سواء دخل بهن أو لا وسواء مات عنهن أو طلقهن (أمهاتهم) أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم ومنزَّلات منزلتهن في استحقاق التعظيم، فلا يحل لأحد أن يتزوج بواحدة منهن، كما لا يحل له أن يتزوج بأمه، فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن تحريماً مؤبداً، وبالتعظيم لجنابهن لا في النظر إليهن، والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن، كما في حق سائر الأجانب، وتخصيص المؤمنين يدل على أنهن لسن أمهات نساء (١) المؤمنين،
_________
(١) إن أبسط مبادىء اللغة تقتضي شمول الذكران والإناث للتغليب، وهي قضية من البداهة حيث
-[٤٨]-
لا تحتاج إلى هذه الفنقيلات اللجوج فإذا قال الله " يا أيها الذين آمنوا " تناول نداؤه اللائي آمن، وإذا قال: " إنما المؤمنون إخوة " دل على إخوة المؤمنات فأزواجه - ﷺ - أمهات المؤمنات كما هن أمهات ذكران المؤمنين. المطيعي.
وقال القرطبي: الذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء كما يدل عليه قوله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، قال: ثم إن في مصحف أبيّ بن كعب وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم، وقرأ ابن عباس بعد لفظ أنفسهم، وهو أب وأزواجه أمهاتهم.
عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أمه، فقالت: " أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ". وعن أم سلمة قالت أنا: " أم الرجال منكم والنساء ".
وعن بجالة قال: مر عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف: وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم، فقال: يا غلام حكّها، فقال: هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله، فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات، ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن ثم بين سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم البعض فقال:
(وأولو الأرحام) جمع رحم وهو القرابة (بعضهم أولى) أي أحق (ببعض) في الميراث، وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنفال وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة. قال قتادة: لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) فتوارث المسلمون بالهجرة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، وكذا قال غيره.
ويحتمل أن يكون النسخ بآية الأنفال وهو قوله: (وأولو لأرحام بعضهم
(في كتاب الله) أي هذه الأولوية وهذا الاستحقاق كائن وثابت فيه والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن، أو آية المواريث (من المؤمنين والمهاجرين) المعنى إن ذوي القرابات من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض، أو أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذين هم أجانب.
وقيل إن معنى الآية: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) إلا ما يجوز لأزواج النبي - ﷺ - من كونهن كالأمهات في تحريم النكاح، وفي هذا من الضعف ما لا يخفى (إلا) هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام، والتقدير أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره إلا.
(أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً) من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز، قاله قتادة، والحسن، وعطاء، ومحمد بن الحنفية قال ابن الحنفية نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني، فالكافر وليّ في النسب لا في الدين فتجوز الوصية له، قال في الخازن: إن الله لما نسخ التوارث بالحلف، والإخاء، والهجرة، أباح أن يوصي الرجل لمن تولاه بما أحب من ثلث ماله، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، والمعنى لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به وضمن (تفعلوا) معنى توصلوا أو تسدوا، فعُدّي بإلى. وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة (كان ذلك) أي نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والعاقدة ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات (في الكتاب) أي في اللوح المحفوظ، أو في التوراة أو في القرآن (مسطوراً) مكتوباً.
(ومنك) خصوصاً (ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل لكونهم أصحاب الشرائع المشهورة، والكتب المذكورة، ومن أولي العزم من الرسل وتقديم ذكر نبينا - ﷺ - مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى، وتقديم نوح في آية: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، لأنها سيقت لوصف ما بعث به نوح من العهد القديم، وما بعث به نبينا - ﷺ - من العهد الحديث وما بعث به من توسطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوح فيها أشد مناسبة للمقصود
(وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) أي عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا أو ما أخذه الله عليهم من عبادته والدعاء إليها، ويجوز أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرتين: فأخذه عليهم في المرة الأولى مجرد الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد، ثم أخذه عليهم ثانية مغلظاً شديداً، ومثل هذه الآية قوله: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه).
أخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن أبي مريم الغساني أن أعرابياً قال: يا رسول الله أي شيء كان أول نبوتك قال: أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم تلا هذه الآية إلى قوله: (ميثاقاً غليظاً، ودعوة إبراهيم قال: وابعث فيهم رسولاً منهم، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أم رسول الله - ﷺ - في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام.
وعن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال وآدم بين الروح والجسد، وعنه قال: قيل يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد، أخرجه البزار والطبراني، وفي الباب أحاديث قد صحح بعضها.
وعن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - قال في الآية: كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم. أخرجه ابن عساكر، وابن مردويه، وأبو نعيم.
وعن ابن عباس قال ميثاقهم عهدهم، وعنه قال إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
(وأعد للكافرين) وقيل التقدير أثاب الصادقين، وأعد للكافرين وقيل: المعنى أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه ليثيب المؤمنين، وأعد للكافرين (عذاباً أليماً) قاله السمين، وقيل: الكلام قد تم عند قوله عن صدقهم وجملة (وأعد) مستأنفة لبيان ما أعده للكفار.
(جاءتكم جنود) والمراد بها جنود الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله - ﷺ - وغزوه إلى المدينة وهي الغزوة المسماة غزوة الخندق وكانت بعد حرب أحد بسنة (١) وهم أبو سفيان بن حرب بقريش ومن معهم من الألفاف، وعيينة ابن حصن الفزاري ومن معه من قومه غطفان، وبنو قريظة والنضير فضايقوا المسلمين مضايقة شديدة كما وصف الله سبحانه في هذه الآيات، وكانت هذه الغزوة في شوال سنة خمس من الهجرة قاله ابن اسحق. وقال ابن وهب، وابن القاسم، عن مالك كانت في سنة أربع. وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها.
_________
(١) الصحيح أنها وقعت بعد أحد بسنتين أي في السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال على التحديد أما غزوة أحد فكانت في السنة الثالثة من الهجرة وبين الغزوتين حدثت أحداث تتخم هذين العامين كيوم الرجيع ورهط عضل والقارة واستشهاد زيد بن الدثنة وخبيب وأصحابهما بماء هذيل ثم بئر معونة ثم إجلاء بني النضير في السنة الرابعة وغزوة ذات الرقاع وغزوة بدر الآخرة ثم غزوة دومة الجندل ثم الخندق. المطيعي.
فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله ويقولون: إن بيوتنا عورة. وما هي بعورة فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون. ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله - ﷺ - رجلاً رجلاً حتى مر عليّ وما عليّ جنة من العدو، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، قال: حذيفة؟ فتقاصرت إلى الأرض فقلت: بلى يا رسول الله -كراهية أن أقوم- قال قم، فقال: إنه كان في القوم خبر فأتني بخبر القوم؟ قال: وأنا من أشد القوم فزعاً وأشدهم قراً فخرجت، فقال رسول الله - ﷺ -: اللهم احفظه من بين يديه. ومن خلفه، وعن يمينه. وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته. قال: فوالله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوفي فما أجد منه شيئاًً، فلما وليت قال يا حذيفة، لا تحدثن في القوم شيئاًً حتى تأتيني، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل، الرحيل، ثم دخلت العسكر فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل، الرحيل، لا مقام لكم وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز شبراً فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم، ثم خرجت نحو النبي - ﷺ - فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارساً معتمين فقالوا أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله - ﷺ - فأخبرته، وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يترحلون، وأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم
وعن ابن عباس في قوله: إذ جاءتكم جنود، قال: كان يوم أبي سفيان يوم الأحزاب (فأرسلنا عليهم ريحاً) قال مجاهد هي ريح الصبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم، ونزعت فساطيطهم، وهي ريح تهب من الشرق، وكانت باردة شديدة جداً، ومع هذا لم تتجاوزهم. ويدل على هذا ما ثبت عنه (- ﷺ -) من قوله: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس.
وعنه قال لما كان ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب فقالت انطلقي فانصري الله ورسوله، فقالت الجنوب إن الحرة لا تسري بالليل فغضب الله عليها وجعلها عقيماً، فأرسل الله عليهم الصبا فأطفأت نيرانهم، وقطعت أطنابهم، فقال رسول الله - ﷺ - نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور، فذلك قوله فأرسلنا عليهم ريحاً الآية، وقيل الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا ذهب حزنه، وللشعراء تفنن بها كثير يعرفه كل من له إلمام بدواوينهم.
(وجنوداً لم تروها) وهي الملائكة، وكانوا ألفاً، ولم يقاتلوا، وإنما ألقوا الرعب في قلوب الأحزاب. قال المفسرون: بعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبيرهم في جوانب العسكر، حتى كان سيد كل قوم يقول لقومه يا بني فلان هلم إليّ فإذا اجتمعوا قال لهم النجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال (وكان الله بما تعملون) أيها المسلمون من ترتيب الحرب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه (بصيراً) وقرىء يعملون بالتحتية أي بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله والتحزب على المسلمين واجتماعهم عليهم من كل جهة.
(وإذ) معطوف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير (زاغت الأبصار) أي مالت وعدلت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلاً من كل جانب، وقيل شخصت دهشاً من فرط الهول والحيرة (وبلغت القلوب الحناجر) جمع حنجرة، وهي جوف الحلقوم، وقيل رأس الغلصمة، والغلصمة رأس الحلقوم، وقيل هي منتهى الحلقوم، والحلقوم مجرى الطعام والشراب وقيل مجرى النفس؛ والمريء مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم وقال الراغب رأس الغلصمة من خارج، والمعنى ارتفعت القلوب عن مكانها ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها وهو الذي نهايته الحنجرة لخرجت، كذا قال قتادة، وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كلام العرب وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن موضعها، ولكنه مثل في اضطرابها وجبنها، قال الفراء والمعنى
(وتظنون بالله الظنونا) المختلفة، فبعضهم ظن النصر ورجا الظفر، وبعضهم ظن خلاف ذلك. وقال الحسن ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه وظن المؤمنون أنه ينصر. وقيل: الآية خطاب للمنافقين، والأولى ما قاله الحسن، فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الاطلاق، أعم من أن يكون مؤمناً في الواقع أو منافقاً.
واختلف القراء في الألف في الظنونا، فأثبتها وصلاً ووقفاً جماعة وتمسكوا بخط المصحف العثماني، وجميع المصاحف في البلدان، فإن الألف فيها كلها ثابتٌ وتمسكوا أيضاًً بما في أشعار العرب من مثل هذا. وأيضاًً أن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة، وهاء السكت تثبت وقفاً، للحاجة إليها، وقد تثبت وصلاً إجراء للوصل مجرى الوقف، وقرىء بحذفها في الوصل والوقف معاً لأنها لا أصل لها، وقالوا هي من زيادات الخط فكتبت كذلك ولا ينبغي النطق بها، وأما الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره، وقولهم: أجريت الفواصل مجرى القوافي غير معتد به، لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالباً، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تشبه بها، وقرىء بإثباتها وقفاً، وحذفها وصلاً إجراء للفواصل مجرى القوافي في ثبوت ألف الإِطلاق ولأنها كهاء السكت، وهي تثبت وقفاً وتحذف وصلاً، قاله السمين وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم النحو، وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله: الرسولا والسبيلا، كما يأتي في آخر هذه السورة.
(وزلزلوا زلزالاً شديداً) قرأ الجمهور زلزلوا بضم الزاى الأولى؛ وكسر الثانية على ما هو الأصل في المبني للمفعول، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بكسر الأولى وروى الزمخشري عنه أنه قرأ بإشمامها كسراً، وقرأ الجمهور زلزالاً بكسر الزاي الأولى وقرأ عاصم، والجحدري، وعيسى بن عمر بفتحها، وهما لغتان.
قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح نحو قلقلته قلقالاً وزلزلوا زلزالاً، والكسر أجود، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال، بمعنى مصلصل، وزلزال بمعنى مزلزل قال ابن سلام معنى زلزلوا حركوا بالخوف تحريكاً شديداً بليغاً.
وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق. وقيل: المعنى أنهم اضطربوا اضطراباً مختلفاً، فمنهم من اضطرب في نفسه، ومنهم من اضطرب في دينه.
والطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والقول الذي قالته هذه الطائفة هو قوله:
(يا أهل يثرب لا مقام لكم) أي لا موضع، ولا مكانة إقامة لكم؛ أو لا إقامة لكم ههنا في العسكر. قرىء (مقام) بفتح الميم وبضمها على أنه مصدر من أقام يقيم، وعلى الأولى هو اسم مكان، وهما سبعيتان.
قال أبو عبيدة يثرب اسم الأرض ومدينة النبي - ﷺ - في ناحية منها، قال السهيلي وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العمالقة اسمه يثرب بن عميل.
وقيل يثرب اسم لنفس المدينة، ولم تصرف للعلمية ووزن الفعل فإنها على وزن يضرب.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله - ﷺ - أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - ﷺ - " من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هى طابة، هى طابة، هي طابة ". ولفظ أحمد: إنما هي طابة وإسناده ضعيف. وكأنه - ﷺ - كره هذه اللفظة لما فيها من التثريب وهو التقريع، والتوبيخ.
(فارجعوا) أمروهم بالهرب من عسكر النبي - ﷺ -، وذلك أن رسول
(يقولون إن بيوتنا عورة) أي ضائعة سائبة، ليست بحصينة ولا ممتنعة من العدو، وقال ابن عباس نحلية نخشى عليها السرق. وعن جابر نحوه.
قال الزجاج يقال: عور المكان يعور عوراً وعورة، وبيوت عورة وعورة وهي مصدر. قال مجاهد، ومقاتل، والحسن قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق. وقال قتادة: قالوا بيوتنا مما يلي العدو، ولا نأمن على أهلنا. قال الهروي: كل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة، والعورة في الأصل الخلل في البناء ونحوه، بحيث يمكن دخول السارق فيها، فأطلقت على المختل، والمراد ذوات عورة وقرىء عورة بكسر الواو أي قصيرة الجدران.
قال الجوهري: العورة كل حال يتخوف منه في ثغر أو حرب، قال النحاس: يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس إذا تبين منه موضع الخلل، ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله:
(وما هي بعورة) فكذبهم الله سبحانه فيما ذكروه، ثم بين سبب استئذانهم وما يريدونه به فقال:
(إن يريدون إلا فراراً) أي ما يريدون إلا الهروب من القتال، وقيل المراد ما يريدون إلا الفرار من الدين.
_________
(١) جبل حول المدينة يلي هضبة بني حرام، وهضبة بني النجار وفيها منزل حسان بن ثابت الذي لجأ إليه النساء والأطفال من آل البيت وكانوا يشرفون من هذا البيت على منازل بني قريظة.
المطيعي.
(ثم سئلوا الفتنة) من جهة أخرى عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم (لآتوها) أخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة، يعنى إدخال بني حارثة أهل الشام (١) على المدينة، ومعنى الفتنة هنا إما القتال في العصبية كما قال الضحاك، أو الشرك بالله، أو الرجعة إلى الكفر الذي يبطنونه ويظهرون خلافه كما قال الحسن قرىء لآتوها بالمد أي لأعطوها من أنفسهم، وبالقصر أي لجاؤوها وفعلوها، وهما سبعيتان.
(وما تلبثوا بها) أي بالمدينة بعد أن أتوا الفتنة (إلا) تلبثاً (يسيراً) حتى يهلكوا كذا قال الحسن والسدي والفراء والقتيبي، وقال أكثر المفسرين: إن المعنى وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلاً، بل هم مسرعون إليها راغبون فيها لا يقفون عنها إلا مجرد وقوع السؤال لهم، ولا يتعللون عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة، كما تعللوا عن إجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة ولم تكن إذ ذاك عورة، ثم حكى الله سبحانه عنهم ما قد كان وقع منهم من قبل من المعاهدة لله ولرسوله بالثبات في الحرب، وعدم الفرار عنه فقال:
_________
(١) عندما دخلت جيوش بني أمية الحجاز ودحرت جيوش عبد الله بن الزبير وقتلته في الكعبة صلبته وحرقته ومثلت به، وكان ذلك في يوم الثلاثاء لسبع خلت من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين.
المطيعي.
(لا يولون الأدبار) أي لا ينهزمون وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة، ولو جاء على حكاية المعنى لقيل: لا نولي (وكان عهد الله مسؤولاً) عنه ومطلوباً صاحبه بالوفاء به، ومجازي على ترك الوفاء به.
(وإذاً لا تمتعون). أي: وإن نفعكم الفرار مثلاً فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتع (إلا) تمتعاً أو زماناً (قليلاً) بعد فراركم إلى أن تنقضي
وفي السمين قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من الشر؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام، وأجرى مجرى قوله: (متقلداً سيفاً ورمحاً، وحمل الثاني على الأول لما في العصمة من منع المنع. قال الشيخ: أما الوجه الأول ففيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها، والثاني هو الوجه، لا سيما إذا قدر مضاف محذوف، أي يمنعكم من مراد الله، قلت: وأين الثاني من الأول ولو كان معه حذف جمل؟ انتهى.
(ولا يجدون لهم من دون الله) أي غيره (ولياً) يواليهم وينفعهم ويدفع الضرر عنهم (ولا نصيراً) ينصرهم من عذاب الله
(والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) قال الواحدي: قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي - ﷺ -، وذلك أنهم قالوا لهم: ْما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لالتقمهم أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا، وقيل: إن القائل لهذه المقالة اليهود، ومعنى هلم: أقبل وأحضر، اسم فعل أمر: وأهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث وعند غيرهم من العرب كبني تميم فعل أمر، يقولون: هلم للواحد المذكر، وهلمي للمؤنث، وهلما للاثنين، وهلموا للجماعة، وقد مر الكلام على هذا في سورة الأنعام، والمعنى: ارجعوا إلينا واتركوا محمداً فلا تشهدوا
(ولا يأتون البأس) أي الحرب والقتال (إلا) إتياناً (قليلاً) خوفاً من الموت ويقفون قليلاً مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون، وقيل: المعنى لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة من غير اكتساب، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيراً.
أحدهما: أنه منصوب على الذم.
والثاني: على الحال من ضمير: يأتون قاله الزجاج أو هلم إلينا قاله الطبري، وقرىء بالرفع أي هم أشحة وهو جمع شحيح، وهو جمع لا يقاس عليه، إذ قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو خليل وأخلاء، وظنين، وأظناء، وضنين، وأضناء، وقد سمع أشحاء وهو القياس، والشح، البخل وتقدم في آل عمران قاله السمين.
(فإذا جاء الخوف) من قبل العدو قاله السدي أو منه - ﷺ - قاله ابن شجرة (رأيتهم) أي أبصرتهم (ينظرون إليك) في تلك الحالة خوفاً من القتال على القول الأول، ومن النبي - ﷺ - على الثاني (تدور أعينهم) يميناً
(كالذي يغشى عليه من الموت) أي كدوران عين الذي قرب من الموت، وهو الذي نزل به الموت وغشيته أسبابه، فيذهل إليه، ويذهب عقله ويشخص بصره، فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره دارت عيناه ودارت حماليق عينيه.
(فإذا ذهب الخوف سلقوكم) أي استقبلوكم (بألسنة حداد) أي ذربة تفعل كفعل الحديد يقال: سلق فلان فلاناً بلسانه إذا أغلظ له في القول مجاهراً، قال الفراء: أي آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة ويقال: خطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغاً، قال القتيبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد، والسلق: الأذى قال ابن عباس: معناه عضوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة، قال قتادة: المعنى بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة يقولون. أعطونا فإنا قد شهدنا معكم فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لساناً، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم، قال النحاس وهذا قول حسن.
(أشحة على الخير) أي على الغنيمة يشاحون المسلمين عند القسمة، قاله يحيى بن سلام، وقيل على المال أن ينفقوه في سبيل الله قاله السدي، ويمكن أن يقال معناه إنهم قليلو الخير من غير تقييد بنوع من أنواعه (أولئك) الموصوفون بتلك الصفات.
(لم يؤمنوا) إيماناً خالصاً بل هم المنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر (فأحبط الله أعمالهم) أي أبطلها بمعنى أظهر بطلانها لأنها لم تكن أعمالاً صحيحة تقتضي الثواب حتى يبطلها الله وتحبط، قال مقاتل أبطل جهادهم لأنه لم يكن في إيمان، أو المراد أبطل تصنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعاً لمنفعة دنيوية أصلاً (وكان ذلك) الإحباط لأعمالهم أو كان نفاقهم (على الله يسيراً) هيناً بإرادته.
(وإن يأت الأحزاب) مرة أخرى بعد هذه المرة، والذهاب (يودوا لو أنهم بادون في الأعراب) أي يتمنون لو أنهم كانوا في بادية لما حل بهم من الرهبة، والبادي خلاف الحاضر، يقال: بدا يبدو بداوة إذا خرج إلى البادية وسكنها.
(يسألون عن أنبائكم) وأخباركم وما آل إليه أمركم، وما جرى لكم، كل قادم عليهم من جهتكم، أو يسأل بعضهم بعضاً عن الأخبار التي بلغته من أخبار الأحزاب، ورسول الله - ﷺ -، والمعنى أنهم يتمنون أنهم بعيد عنكم يسألون عن أخباركم من غير مشاهدة للقتال، لفرط جبنهم وضعف نياتهم (ولو كانوا فيكم) أي معكم في هذه الغزوة مشاهدين للقتال (ما قاتلوا) معكم (إلا) قتالاً (قليلاً) خوفاً من العار وحمية على الديار، أو رياء من غير احتساب.
وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله - ﷺ - أي لقد كان لكم في رسول الله حيث بذل نفسه للقتال، وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، والمعنى اقتدوا به اقتداء حسناً، وهو أن تنصروا دين الله وتوازروا رسوله، ولا تتخلفوا عنه، وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيته، وجرح وشج وجهه، وجاع بطنه، وقتل عمه حمزة، وأوذي بضروب الأذى فصبر، وواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم كذلك أيضاًً، واستنوا بسنته، وهذه الآية وإن كان سببها خاصاً فهي عامة في كل شيء؛ ومثلها: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقوله: (قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).
عن ابن عمر قال في الآية: هذا في جوع رسول الله - ﷺ - وقد استدل بهذه الآية جماعة من الصحابة في مسائل كثيرة اشتملت عليها كتب السنة، وهي خارجة عما نحن بصدده، نعم فيه دلالة على لزوم الاتباع، وترك التقليد الحادث الذي أصيب به الإسلام، أي مصيبة وهل هذه الأسوة على الإيجاب أو على الاستحباب، فيه قولان، قال القرطبي يحتمل أن تحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
(لمن كان يرجو الله) أي حسنة كائنة لمن يرجو الله والمراد أنهم الذين يرجون الله ويخافون عذابه، يعني يرجون ثوابه ولقاءه (واليوم الآخر) أي أنهم يرجون رحمة الله فيه أو يصدقون بحصوله، وأنه كائن لا محالة وهذه الجملة تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى.
(وصدق الله ورسوله) أي ظهر صدق خبرهما ووجه إظهار الاسم الشريف والرسول بعد قوله (ما وعدنا الله ورسوله)، هو قصد التعظيم، وأيضاًً لو أضمرهما لجمع بين ضميري الله ورسوله في لفظ واحد وقال صدقاً، وقد ورد النهي عن جمعهما كما في حديث [بئس خطيب القوم أنت]، لمن قال ومن يعصهما فقد غوى، وأما قوله ﷺ [من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما]، فالجواب أنه ﷺ أعرف بقدر الله منا فليس لنا أن نقول كما يقول، قاله السمين.
(وما زادهم) ما رأوه من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم (إلا إيماناً) بالله (وتسليماً) لأمره، قال الفراء: ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا ذلك قال علي بن سليمان رأي يدل على الرؤية، وتأنيث الرؤية غير حقيقي؛ والمعنى ما زادهم الرؤية إلا إيماناً بالرب؛ وتسليماً للقضاء، ولو قال ما زادتهم لجاز، وعن ابن عباس قال: في الآية أن الله قال لهم في سورة البقرة (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء)، فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله فتأول المؤمنون ذلك فلم يزدهم إلا إيماناً وتسليماً.
أخرج البخاري وغيره عن أنس قال: [نرى هذه الآية نزلت في أنس ابن النضر]، وأخرج ابن سعد، وأحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، والبغوي في معجمه وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن أنس قال: " غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال أول مشهد شهده رسول الله ﷺ غبت عنه؟ لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله ﷺ ليرين الله ما أصنع، فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ قال يا أبا عمرو أين؟ قال واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين طعنة وضربة ورمية، ونزلت هذه الآية، وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه. وقد روي عنه نحوه من طريق أخرى عند الترمذي وصححه، والنسائي وغيرهما.
ولكنه قد أخرج الحاكم حديثاً آخر وصححه، وأخرجه أيضاًً البيهقي في الدلائل عن أبي ذر قال لما فرغ رسول الله - ﷺ - يوم أحد مر على مصعب بن عمير مقتولاً على طريقه، فقرأ (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) الآية وأخرج ابن مردويه من حديث خباب مثله، وهما يشهدان لحديث أبي هريرة، ثم فصل سبحانه حال الصادقين بما وعدوا الله ورسوله، وقسمهم إلى قسمين فقال:
(فمنهم من قضى نحبه) أي فرغ من نذره، ووفّى بعهده، وصبر على الجهاد حتى استشهد، وقال ابن عمر: أي مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان. والنحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به وأوجبه على نفسه، والقتل، والموت. قال ابن قتيبة قضى نحبه أي: قتل. وأصل النحب: النذر كانوا يوم بدر نذروا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله لهم فقتلوا، فقيل: فلان قضى نحبه، أي قتل. والنحب أيضاًً الحاجة وإدراك الأمنية يقول قائلهم: مالي عندهم نحب، والنحب العهد، ومعنى الآية أن من المؤمنين رجالاً أدركوا أمنيتهم، وقضوا حاجتهم، ووفّوا بنذرهم، فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر.
أخرج الترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن مردويه عن طلحة أن أصحاب رسول الله - ﷺ - قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترؤون على مسألته يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي،
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديثه نحوه.
وأخرج الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " طلحة ممن قضى نحبه ".
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة ". أخرجه سعيد بن منصور، وأبو يعلى، وأبو نعيم، وابن المنذر وغيرهم.
وأخرج ابن مردويه من حديث جابر مثله، وأخرج ابن منده وابن عساكر من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه.
وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن عليّ إن هذه الآية نزلت في طلحة.
وأخرج أحمد والبخاري وابن مردويه عن سليمان بن صرد قال قال رسول الله - ﷺ - يوم الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزونا.
(ومنهم من ينتظر) قضاء نحبه حتى يحضر أجله كعثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وأمثالهم فإنهم مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله - ﷺ -، والقتال لعدوه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم بالقتل، وإدراك فضل الشهادة.
(وما بدلوا تبديلاً) أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله ورسوله عليه كما غير المنافقون عهدهم، بل ثبتوا عليه ثبوتاً مستمراً، أما الذين قضوا نحبهم فظاهر، وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا ولم يغيروا ولا بدلوا.
(ويعذب المنافقين إن شاء) إذا لم يتوبوا (أو يتوب عليهم) بما صدر عنهم من التغيير والتبديل إن تابوا، جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء، وأرادوها بسبب تبديلهم وتغييرهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، فكل من الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب، فكأنما استويا في طلبها والسعي لتحصيلها، ومفعول إن شاء وجوابها محذوفان أي إن شاء تعذيبهم عذبهم، وذلك إذا أقاموا على النفاق، ولم يتركوه ولم يتوبوا عنه.
(إن الله كان غفوراً) لمن تاب منهم بقبول التوبة (رحيما) بمن أقلع عما كان عليه من النفاق بعفو الحوبه ثم رجع سبحانه، إلى حكاية بقية القصة وما امتن به على رسوله والمؤمنين من النعمة فقال:
(وكفى الله المؤمنين القتال) بما أرسله من الريح والجنود من الملائكة (وكان الله قوياً) على كل ما يريده إذا قال له: كن فيكون (عزيزاً) قاهراً غالباً لا يغالبه أحد من خلقه: ولا يعارضه معارض في سلطانه وجبروته.
روى البخاري عن سلمان بن صرد قال سمعت رسول الله - ﷺ - حين انجلى الأحزاب يقول: " الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم ".
- ﷺ - (من أهل الكتاب) وهم بنو قريظة فإنهم عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله - ﷺ - وصاروا يداً واحدة مع الأحزاب وكانت في آخر ذي (١) القعدة سنة خمس.
وقيل: سنة أربع (من صياصيهم) جمع صيصية وهي الحصون، وكل شيء يتحصن به فهو صيصية؛ ومنه صيصية الديك، وهي الشوكة التي في رجله وصياصي البقر والظباء: قرونها لأنها تمنع بها، ويقال لشوكة الحائك الذي يسوي بها السدي واللحمة: صيصية.
وأخرج أحمد، وابن مردوول، وابن أبي شيبة عن عائشة خرجت يوم الخندق أقفو الناس فإذا أنا بسعد بن معاذ رماه رجل من قريش يقال له ابن الفرقة بسهم فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى
_________
(١) مر لنا في تفسير قوله تعالى: " إذ جاءتكم جنود " تحقيق أن الغزوة وقعت في شوال من السنة الخامسة وكان المصنف قد ذكر أنها في الرابعة وهنا يرجح المصنف أنها في الخامسة في شهر ذي القعدة بل في آخره وقد اتفقنا معه في السنة هنا وخالفناه هناك ويبدو أنه تحقق من التاريخ بعد كتابة ما مر قبل وللمصنف العذر لا سيما وأن من القائلين بوقوعها في السنة الرابعة علماء تتقاصر الأعناق دون مطاولتهم مثل الإمام النووي وغيره ومع هذا أقوال مرجوحة لا تثبت أمام التحقيق.
المطيعي.
فبعث الله الريح على المشركين وكفى الله المؤمنين القتال، ولحق أبو سفيان ومن معه بتهامه؛ ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله - ﷺ - إلى المدينة، وأمر ببقية من أدم فضربت على سعد في المسجد.
قالت فجاء جبريل وإن على ثناياه لوقع الغبار، فقال أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح.
أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم فلبس رسول الله - ﷺ - لأْمَته وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة.
فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء عليهم قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله - ﷺ -.
قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ فنزلوا وبعث رسول الله - ﷺ - إلى سعد بن معاذ فأتى به على حمار فقال رسول الله - ﷺ -: أحكم فيهم.
قال فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم.
فقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله.
(وقذف في قلوبهم الرعب) أي: الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي، وهي معنى قوله: (فريقاً تقتلون) هو منهم.
(وتأسرون فريقاً) قرىء الفعلان بالتحتية وبالفوقية فيهما على الخطاب وبالفوقية في الأول وبالتحتية في الثاني فالفريق الأول هم الرجال والفريق الثاني هم النساء، والذرية. والجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم، ووجه تقديم المفعول في الأول وتأخيره في الثاني. أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة وكان الوارد عليهم أشد الأمرين وهو القتل كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام.
(و) أورثكم (أرضاً لم تطؤها) بعد لقصد القتال، واختلف المفسرون في تعيين هذه الأرض المذكورة فقال يزيد بن رومان وابن زيد، ومقاتل إنها خيبر، أولم يكونوا إذ ذاك قد نالوها فوعدهم الله بها. قال سليمان الجمل: وأُخذت بعد قريظة بسنتين أو ثلاث لأن خيبر كانت في السابعة في المحرم وهي مدينة كبيرة ذات حصون ثمانية وذات مزارع ونخل كثير، بينها وبين المدينة الشريفة أربع مراحل. انتهى ملخصاً وتمام هذه القصة في سيرة الحلبي.
وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة، وقال الحسن: فارس والروم، وقال عكرمة هي كل أرض تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة والمضي (١) لتحقق وقوعه (وكان الله على كل شيء قديراً) أي هو سبحانه قدير على كل ما أراده من خير وشر، ونعمة ونقمة، وعلى إنجاز ما وعد به من الفتح للمسلمين.
_________
(١) هكذا في الأصل ويبدو أن بها تصحيفاً فتكون: (والمعنى الخ) والمقصود على هذا أن صيغة الخبر جاءت تشمل الماضي والمستقبل لتحقق وقوع التوريث لأرض الأعداء وديارههم وأخرى لم يطأوها.
المطيعي.
واختلف في عدة أزواجه ﷺ وترتيبهن وعدة من مات منهن قبله، ومن مات هو عنهن، ومن دخل بها ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه، والمتفق على دخوله بهن إحدى عشرة امرأة، كذا في المواهب وقد بسط الكلام عليهن في المقصد الثاني منه جداً فارجع إليه إن شئت.
(إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) أي سعتها ونضارتها ورفاهيتها وكثرة الأموال والتنعم فيها (فتعالين) أي أقبلن إليّ بإرادتكن واختياركن لأحد الأمرين.
(امتّعْكن) أي أعطيكن المتعة (وأسرحكن) أي أطلقكن قرأ الجمهور في الفعلين بالجزم جواباً للأمر. وقيل أن جزمهما على أنهما جواب الشرط، وعلى هذا يكون قوله فتعالين اعتراضاً بين الشرط والجزاء، وقرىء بالرفع فيهما على الاستئناف (سراحاً جميلاً) المراد به هو الواقع من غير ضرار على مقتضى السنة.
أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترن البقاء وبهذا قالت عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة. والثاني: أنه إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن، وبين الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق، وبهذا قال علي والحسن وقتادة، والراجح الأول.
واختلفوا أيضاًً في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يحسب مجرد ذلك التخيير على الزوج طلقة أم لا؟ فذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا يكون التخيير مع اختيار المرأة لزوجها طلاقا، لا واحدة ولا أكثر. وقال علي وزيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وبه قال الحسن والليث وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك.
والراجح الأول، لحديث عائشة الثابت في الصحيحين قالت: خيّرنا رسول الله - ﷺ - فاخترناه، فلم يعده طلاقاً، ولا وجه لجعل مجرد التخيير طلاقاً. ودعوى أنه كناية من كنايات الطلاق مدفوعة بأن المخير لم يرد الفرقة بمجرد التخيير، بل أراد تفويض المرأة وجعل أمرها بيدها، فإن اختارت البقاء بقيت على ما كانت عليه من الزوجية، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة. واختلفوا في اختيارها لنفسها هل يكون ذلك طلقة رجعية؟ أو بائنة؟.
فقال بالأول عمر وابن مسعود وابن عباس وابن أبي ليلى والثوري والشافعي.
وقال بالثاني علي وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك، والراجح الأول؛ لأنه يبعد كل البعد أن يطلق رسول الله - ﷺ - نساءه على خلاف ما أمره الله به. وقد أمره بقوله إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن، وروي عن زيد بن ثابت: أنها إذا اختارت نفسها فثلاث طلقات، وليس لهذا القول وجه.
وقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن مردويه عن جابر قال: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله - ﷺ - والناس ببابه جلوس، والنبي - ﷺ - جالس، فلم يؤذن له. ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا، والنبي - ﷺ - جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن النبي - ﷺ - لعله يضحك فقال عمر. يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفاً فوجأت في عنقها؟ فضحك رسول الله - ﷺ - حتى بدت نواجذه وقال: هن حولي يسألنني النفقة.
فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان رسول الله (- ﷺ -) ما ليس عنده؟ فنهاهما رسول الله (- ﷺ -) فقلن نساؤه: " والله لا نسأل رسول الله (- ﷺ -) بعد هذا المجلس ما ليس عنده "، وأنزل الله الخيار فبدأ بعائشة فقال: إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي. فيه حتى تستأمري أبويك قالت ما هو؟ فتلا عليها (يا أيها النبي قل لأزواجك) الآية فقالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل اختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لنسائك ما اخترت فقال إن الله لم يبعثني متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن رسول الله (- ﷺ -) جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت فبدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، فقال: إن الله قال: يا أيها النبي قل لأزواجك إلى تمام الآية، فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبي (- ﷺ -) مثل ما فعلت، ثم لما اختار نساء رسول الله (- ﷺ -) إياه أنزل فيهن هذه الآيات تكرمة لهن وتعظيماً لحقهن فقال:
(يضاعف لها العذاب ضعفين) أي يعذبهن الله مثلي عذاب غيرهن من النساء إذا أتين بمثل تلك الفاحشة، وذلك لشرفهن وعلو درجتهن، وارتفاع منزلتهن، ولأن ما قبح من سائر النساء كان منهن أقبح، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي (- ﷺ -)، ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح، ولذا فضل حد الأحرار على العبيد.
وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع أن تضاعف الشرف وارتفاع
قال قوم: لو قدر الله الزنا من واحدة -وقد أعاذهن الله عن ذلك- لكانت تحد حدَّين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة، والعذاب بمعنى الحد قال تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)، وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المثلين أو المرئين، وقال مقاتل: هذا التضعيف في العذاب إنما هو في الآخرة، كما إن إيتاء الأجر مرتين في الآخرة وهذا حسن لأن نساء النبي - ﷺ - لم يأتين بفاحشة توجب حداً.
وقد قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما خانتا في الإيمان والطاعة. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعدن به ضعفين هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وكذلك الأجر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن تكون أزواج النبي (- ﷺ -) لا ترفع عنهن حدود الدنيا عذاب الآخرة على ما هو حال الناس عليه بحكم حديث عبادة بن الصامت، وهذا أمر لم يرد في أزواج النبي (- ﷺ -) ولا حفظ تقريره.
(وكان ذلك) أي تضعيف العذاب (على الله يسيراً) هيناً لا يتعاظمه ولا يصعب عليه، فليس كونكن تحت النبي (- ﷺ -) وكونكن جليلات شريفات مما يدفع العذاب عنكن، وليس أمر الله كأمر الخلق حتى يتعذر عليه تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهن وأعوانهن أو شفعائهن وإخوانهن.
(منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين) يعني أنه يكون لهن من الأجر على الطاعة مثلاً ما يستحقه غيرهن من النساء إذا فعلن تلك الطاعة وفي هذا دليل قوي على أن معنى يضاعف لها العذاب ضعفين أنه يكون العذاب مرتين لا ثلاثاً، لأن المراد إظهار شرفهن ومرتبتهن في الطاعة والمعصية، يكون حسنتهن كحسنتين وسيئتهن كسيئتين ولو كانت كثلاث سيئات لم يناسب ذلك كون حسنتهن كحسنتين، فإن الله أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهن مضاعفة تزيد على مضاعفة أجرهن، قيل الحسنة بعشرين حسنة، وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن، وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين.
(وأعتدنا لها) زيادة على الأجر مرتين (رزقاً كريماً) جليل القدر، قال المفسرون: هو نعيم الجنة، حكى ذلك عنهم النحاس، ثم أظهر سبحانه فضيلتهن على سائر النساء تصريحاً فقال:
قال ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي، ثم قيد هذا الشرف العظيم بقيد فقال:
(فلا تخضعن بالقول) والأول أولى، والمعنى: لا تُلِن القول عند فخاطبة الناس كما تفعله المريبات من النساء، لا ترققن الكلام قال ابن عباس يقول: لا ترخصن بالقول، ولا تخضعن بالكلام. وعنه قال: مقارنة الرجال بالقول فإنه يتسبب عن ذلك مفسدة عظيمة وهي قوله:
(فيطمع الذي في قلبه مرض) أي فجور وشهوة أو شك وريبة، أو نفاق.
والمعنى لا تقلن قولاً يجد المنافق والفاجر به سبيلاً إلى الطمع فيكن والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقال إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع فيهن.
(وقلن قولاً معروفاً) عند الناس أي حسناً مع كونه خشناً بعيداً من الريبة على سنن الشرع لا ينكر منه سامعه شيئاًً، ولا يطمع فيكن أهل الفسق والفجور بسببه، أو قولاً يوجبه الإسلام والدين عند الحاجة إليه ببيان من غير خضوع. وقيل: القول المعروف ذكر الله تعالى والأول أولى.
(وقرن في بيوتكن) قرأ الجمهور بكسر القاف من وقر يقر وقاراً أي سكن والأمر منه قر بكسر القاف وللنساء قرن مثل عدن وزن، وقال المبرد هو من القرار لا من الوقار؛ تقول قررت بالمكان -بفتح الراء- والأصل اقررن بكسر الراء فحذفت الراء الأولى تخفيفاً كما قالوا في ظللت ظلت، ونقلوا حركتها إلى القاف واستغني عن ألف الوصل بتحريك القاف. وقال أبو علي الفارسي: أبدلت الراء الأولى ياء كراهة التضعيف؛ كما أبدلت في قيراط ودينار وصارت الياء حركة الحرف الذي أبدلت منه، والتقدير: أقيرن ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحريك الياء بالكسر فتسقط الياء لاجتماع الساكنين وتسقط همزة الوصل لتحريك ما بعدها فيصير قرن، وقرىء بفتح القاف وأصله قررت بالمكان إذا أقمت فيه بكسر الراء أقر بفتح القاف كحمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز، ذكر ذلك أبو عبيد عن الكسائي، وذكرها الزجاج وغيره.
قال الفراء: هو كما تقول: هل حسست صاحبك أي هل أحسسته، قال أبو عبيد: كان أشياخنا من أهل العربية ينكرون القراءة بالفتح للقاف: وذلك لأن قررت بالمكان أقر لا يجوزه كثير من أهل العربية، والصحيح قررت أقر بالكسر، ومعنى الآية الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن، وأن لا يخرجن.
وهذا يخالف ما ذكرناه هنا عنه عن الكسائي وهو من أجل مشايخه، وقد
قال النحاس: وهو وجه حسن، وأقول ليس بحسن ولا هو معنى الآية، فإن المراد بها أمرهن بالسكون والاستقرار في بيوتهن، وليس من قرة العين أي الزمن بيوتكن، عن محمد بن سيرين قال: نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي - ﷺ - " مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك "؟ فقالت " قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت " قال: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها ".
(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) التبرج أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجل، وقد تقدم معنى التبرج في سورة النور، قال المبرد هو مأخوذ من السعة؛ يقال في أسنانه برج إذا كانت متفرقة، والمعنى إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال. وقيل التبرج هو التغنج والتبختر، والتكسر في المشي، وهذا ضعيف جداً، والأول أولى.
وقد اختلف في المراد بالجاهلية الأولى فقيل ما بين آدم ونوح أو زمن داود وسليمان. وقيل ما بين نوح وإدريس قاله ابن عباس، وكانت ألف سنة وقيل: ما بين نوح وإبراهيم. وقيل ما بين موسى وعيسى أو ما بين عيسى ومحمد قاله ابن عباس. وقيل ما قبل الإسلام والجاهلية الأخرى قوم يفعلون
وقيل نذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى. وقال المبرد: الجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء، قال: وكان نساء الجاهلية يظهرون ما يقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها فيتفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى ويتفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل وربما سأل أحدهما صاحبه البدل.
قال ابن عطية والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها وأدركنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة؛ لأنهم كانوا لا غيرة عندهم فكان أمر النساء دون حجبة وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه؛ وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى كذا قال، وهو قول حسن، ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجاً مثل تبرج أهل الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من قبلكن، أي لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل. وعن عائشة قالت: الجاهلية الأولى كانت على عهد إبراهيم كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى يبتل خمارها، رواه مسروق.
(وأقمن الصلاة) الواجبة (وآتين الزكاة) المفروضة (وأطعن الله ورسوله) فيما أمر وفيما نهى، وخص الصلاة والزكاة ثم عمم فأمرهن بالطاعة لله ولرسوله في كل ما هو شرع لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية، ولأن من واظب عليهما جرتاه إلى ما وراءهما.
(إنما يريد الله) أي إنما أوصاكن الله بما أوصاكن من التقوى وأن لا تخضعن بالقول، ومن قول المعروف، والسكون في البيوت، وعدم التبرج
(ليذهب عنكم الرجس) والمراد بالرجس الإثم والذنب المدنسان للإعراض الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه فيدخل في ذلك كل ما ليس فيه رضا الله وقيل: الرجس الشك، وقيل: السوء، وقيل: عمل الشيطان والعموم أولى (أهل البيت) نصبه على النداء أو المدح.
(ويطهركم) من الأرجاس والأدناس (تطهيراً) كاملاً وفي استعارة الرجس للمعصية والترشيح لها بالتطهير تنفير عنها بليغ، وزجر لفاعلها شديد.
وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير: إن أهل البيت المذكورين في الآية هم زوجات النبي - ﷺ - خاصة قالوا: والمراد بالبيت بيت النبي - ﷺ - ومساكن زوجاته، لقوله: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن) وأيضاًً السياق في الزوجات من قوله: يا أيها النبي قل لأزواجك إلى قوله لطيفاً خبيراً، وقاله أبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة.
وروي عن الكلبي إن أهل البيت المذكورين في الآية هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث، وهو قوله عنكم، وليطهركم، ولو كان للنساء خاصة لقال عنكن، وليطهركن، وأجاب الأولون عن هذا بأن التذكير باعتبار لفظ الأهل كما قال سبحانه (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)، وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد زوجته أو زوجاته، فيقول هم بخير.
ولنذكر ههنا ما تمسك به كل فريق: أما الأولون فتمسكوا بالسياق فإنه في الزوجات كما ذكرنا، وبما أخرجه ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في نساء النبي (- ﷺ -) خاصة. وقال عكرمة
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة أيضاًً أن النبي (- ﷺ -) كان في بيتها على منامة له عليه كساء خيبري فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله (- ﷺ -) ادعي زوجك وابنيك حسناً وحسيناً فدعتهم، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على النبي - ﷺ - إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً فأخذ النبي (- ﷺ -) بفضلة كسائه فغشاهم إياها ثم أخرج يده من الكساء وألوى بها إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً قالها ثلاث مرات، قالت أم سلمة فأدخلت رأسي في الستر فقلت يا رسول الله وأنا معكم؟ فقال: إنك إلي خير مرتين وأخرجه أحمد أيضاًً من حديثها وفي إسناده مجهول وهو شيخ عطاء وبقية رجاله ثقات، وقد أخرجه الطبراني عنها من طريقين بنحوه.
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره لحديث أم سلمة طرقاً كثيرة في مسند أحمد وغيره، وأخرج ابن مردويه والخطيب من حديث أبي سعيد الخدري نحوه وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن عمر ابن أبي سلمة ربيب النبي (- ﷺ -) قال لما نزلت هذه الآية على النبي (- ﷺ -) وذكر نحو حديث أم سلمة.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن وائلة ابن الأسقع قال: جاء رسول الله - ﷺ - إلى فاطمة ومعه علي وحسن وحسين حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة وأجلسهما بين يديه، وأجلسن حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم، ثم تلا هذه الآية وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً قلت: يا رسول الله وأنا من أهلك؟ قال. وأنت من أهلي، قال وائلة: إنه لأرجى ما أرجوه. وله طرق في مسند أحمد.
وأخرج ابن أبي شيبه وأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله - ﷺ - كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس، ويطهركم تطهيراً.
وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله - ﷺ - قال أذكركم الله في أهل بيتي فقيل لزيد: ومن أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم عليهم الصدقة بعده، آل علي وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.
وأخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ - إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً، فذلك قوله: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فأنا من أصحاب اليمين؛ وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثاً
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله - ﷺ - قال: رأيت رسول الله - ﷺ - إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة فقال: الصلاة الصلاة إنما يريد الله الآية وفي إسناده أبو داود الأعمى وهو وضاع كذاب، وفي الباب أحاديث وآثار، وقد ذكرنا ههنا ما يصلح للتمسك دون ما لا يصلح، وقد توسطت طائفة ثالثة بين الطائفتين فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات ولعلي وفاطمة والحسن والحسين، أما الزوجات فلكَونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا، ولكونهنَ الساكنات في بيوته (- ﷺ -) النازلات في منازله، ويعضد ذلك ما تقدم عن ابن عباس وغيره، وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب، ويؤيد ذلك ما ذكرناه من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول، فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريقين أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله، وقد رجح هذا القول جماعة من المحققين منهم القرطبي وابن كثير وغيرهما.
وقال جماعة: هم بنو هاشم واستدلوا بما تقدم من حديث ابن عباس، ويقول زيد بن أرقم المتقدم حيث قال: ولكن آله من حرم الصدقة بعده: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، فهؤلاء ذهبوا إلى أن المراد بالبيت بيت النسب.
وقيل: إن القرآن جامع بين كونه آيات بينات دالة على التوحيد، وصدق النبوة، وبين كونه حكمة مشتملة على فنون من العلوم والشرائع. وقال قتادة في الآية القرآن والسنة يمنن بذلك عليهن.
وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل في الآية قال كان رسول الله - ﷺ - يصلي في بيوت أزواجه النوافل بالليل والنهار.
(والمؤمنين والمؤمنات) وهم من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله - ﷺ - (والقانتين والقانتات) القانت المطيع العابد، وكذا القانتة، وقيل المداومين على العبادة والطاعة.
(والصادقين والصادقات) هما من يتكلم بالصدق ويتجنب الكذب ويفي بما عوهد عليه.
(والصابرين والصابرات) هما من يصبر عن الشهوات وعلى مشاق التكليف.
(والخاشعين والخاشعات) أي المتواضعين لله الخائفين منه الخاضعين في عبادتهم لله.
(والصائمين والصائمات) قيل: ذلك مختص بالفرض، وقيل هو أعم.
(والحافظين فروجهم والحافظات) فروجهن عن الحرام بالتعفف والتنزه والاقتصار على الحلال.
(والذاكرين الله كثيراً والذاكرات) الله كثيراً هما من يذكر الله على جميع أحواله، وفي ذكر الكثرة دليل على مشروعية الاستكثار من ذكر الله سبحانه بالقلب واللسان والخبر لجميع ما تقدم هو قوله:
(أعد الله لهم مغفرة) لذنوبهم التي أذنبوها (وأجراً عظيماً على طاعاتهم التي فعلوها من الإسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصوم والعفاف والذكر، ووصف الأجر بالعظيم للدلالة على أنه بالغ غاية المبالغ، ولا شيء أعظم من أجر هو الجنة ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع ولا ينفد اللهم اغفر ذنوبنا وأعظم أجورنا.
وقد أخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله فما لنا لا نذكر في القرآن كما تذكر الرجال فلم يرعني منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر وهو يقول: " إن الله يقول إن المسلمين والمسلمات الآية وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه والطبراني عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي (- ﷺ -) فقالت ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية، وعن ابن عباس قال: قالت النساء يا رسول الله ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات فنزلت هذه الآية أخرجه الطبراني وابن جرير وابن مردويه بإسناد، قال السيوطي: حسن.
(وَمَا كَانَ) أي ما صح وما استقام (لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) قال القرطبي: لفظ ما كان وما ينبغي ونحوهما معناها الحظر والمنع من الشيء والإخبار بأنه لا يحل شرعاً أن يكون، وقد يكون لما يمتنع عقلاً كقوله: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا)، ومعنى الآية: أنه لا يحل لمن يؤمن بالله -إذا قضى الله أمراً- أن يختار من أمر نفسه ما شاء، بل يجب عليه أن يذعن للقضاء ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله عليه، واختاره له، ويجعل رأيه تبعاً لرأيه. وجمع الضمير في قوله لهم ومن أمرهم؛ لأن مؤمناً ومؤمنة وقعا في سياق النفي، فهما يعمان كل مؤمن ومؤمنة، قرىء أن يكون بالتحتية؛ لأنه قد فرق بين الفعل وفاعله المؤنث بقوله: لهم مع كون التأنيث غير حقيقي، وقرىء بالفوقية لكونه مسنداً إلى الخيرة وهي مؤنثة لفظاً والخيرة مصدر بمعنى الاختيار، ودل ذلك على أن الأمر للوجوب، وقرىء بسكون التحتية وبتحريكها، ثم توعد سبحانه من لم يذعن لقضاء الله وقدره فقال:
(ومن يعص الله ورسوله) في أمر من الأمور ومن ذلك عدم الرضاء بالقضاء (فقد ضل ضلالاً مبيناً) أي ضل عن طريق الحق ضلالاً ظاهراً واضحاً لا يخفى. فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق.
عن ابن عباس قال: " إن رسول الله - ﷺ - انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها. قالت: لست بناكحته
وعن ابن زيد قال: نزلت في أم كلثوم بنت عقب بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت فوهبت نفسها للنبي (- ﷺ -) فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله (- ﷺ -) فزوجها عبده، وكان تزوج زيد بزينب قبل الهجرة بنحو ثمان سنين، وبعد ما طلق زيد زينب زوجه (- ﷺ -) أم كلثوم بنت عقب: بن أبي معيط وكانت وهبت نفسها للنبي (- ﷺ -) فزوجها من زيد، وكان زوجه قبلها أم أيمن وولدت له أسامة، وكانت ولادته بعد البعثة بثلاث سنين، وقيل بخمس، وفي شرح المواهب أن أم أيمن، هي بركة الحبشية بنت ثعلبة أعتقها عبد الله أبو النبي (- ﷺ -)، وقيل بل اعتقها هو (- ﷺ -) وقيل: كانت لأمه أسلمت قديماً وهاجرت الهجرتين ماتت بعده (- ﷺ -) بخمسة أشهر، وقيل بستة، ودلت الآية على لزوم اتباع قضاء الكتاب والسنة، وذم التقليد والرأي، وعدم خيرة الأمر في مقابلة النص من الله ورسوله (- ﷺ -) وإن كان السبب خاصاً فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
لما زوج رسول الله - ﷺ - زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مر أنزل الله سبحانه:
ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها وشكا منها غلظة القول وعصيان الأمر والأذى باللسان والتعظم بالشرف قال له: اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك زينب، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها. وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه فعل ما يجب عليه من الأمر بالمعروف. قال علماؤنا رحمهم الله: وهذا القول أحسن ما قيل في هذه الآية وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كالزهري والقاضي أبي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم، انتهى ما قاله القرطبي ملخصاً.
(واتق الله) في أمرها ولا تعجل بطلاقها (وتخفي) الواو للحال أي والحال أنك تخفي (في نفسك ما الله مبديه) هو نكاحها إن طلقها زيد،
(وتخشى الناس) أي تستحييهم أو تخاف من تعييرهم أن يقولوا: أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوجها (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) في كل حال وتخاف منه وتستحييه ولا تأمر زيداً بإمساكه زوجته بعد أن أعلمك الله أنها تكون زوجتك فعاتبه الله على هذا، قال بعضهم: وما ذكروه في تفسير هذه الآية من وقوع محبتها في قلب النبي - ﷺ -، وإرادته طلاق زيد لها فيه أعظم الحرج، وما لا يليق بمنصبه - ﷺ - وإقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النبي (- ﷺ -) وبفضله، وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت ولا كانت النساء يحتجبن منه - ﷺ - وهو زوجها لزيد، فلا يشك في تنزيه النبي (- ﷺ -) عن أن يأمر زيداً بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها قال: وأصح ما في هذا الباب ما قاله علي ابن الحسين: إن الله قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه، وإن زيداً سيطلقها؛ فلما جاء زيد وقال: إني أريد أن أطلقها، قال له: أمسك عليك زوجك، فعاتبه الله تعالى، وقال: لم قلت أمسك عليك زوجك؟ وقد أعلمتك أنها ستكون زوجتك.
قال الخطيب: وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة، لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه، ولم يظهر غير تزويجها منه، فقال تعالى: زوجناكها. فلو كان الذي أضمره رسول الله - ﷺ - محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يخبر الله أنه يظهره، ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله من أنها ستكون زوجته، وإنما ذلك استحياء أن يخبر زيداً أن التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي.
قال الكرخي: وهذا القول هو المنصور المعول عليه عند الجمهور.
وقال البغوي: وهذا هو الأولى، وإن كان الآخر -وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها- لا يقدح في حال الأنبياء، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء، ما لم يقصد فيه المأثم لأن الود وميل النفس من طبع البشر انتهى. ولهذا قال ابن عباس: كان في قلبه حبها. وقال قتادة: ود أنه لو
(فلما قضى زيد منها وطراً) قضاء الوطر في اللغة بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء يقال قضى وطراً منه إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه، والمراد هنا أنه قضى وطره منها بنكاحها والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة، وتقاصرت عنه همته وطابت عنها نفسه. وقيل المراد به الطلاق لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة. وقال المبرد: الوطر الشهوة والمحبة.
وقال أبو عبيدة الوطر الأرب والحاجة. قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي: كان يقال زيد بن محمد: حتى نزل " أدعوهم لآبائهم " فقال: أنا زيد بن حارثة وحرم عليه أنا زيد بن محمد: فلما نزع هذا الشرف وهذا الفخر منه، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يختص بها أحد من أصحاب النبي - ﷺ - وهو أنه سمّاه في القرآن أي في هذه الآية، فذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم، حتى صار اسمه قرآناً يتلى في المحاريب، ونوه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد - ﷺ -، ألا ترى إلى قول أُبي بن كعب؟ حين قال له النبي (- ﷺ -) " إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا فبكى " وقال: أذكرت هنالك، وكان بكاؤه من الفرح - حيث إن الله تعالى ذكره فكيف بمن صار اسمه قرآناً يتلى مخلداً لا يبلى؟ يتلوه أهل الدنيا إذا قرأوا القرآن، وأهل الجنة كذلك أبداً لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكوراً على الخصوص عند رب العالمين، إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد. فاسم زيد في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة يذكره في تلاوتهم السفرة الكرام البررة، وليس ذلك لاسم من اسماء المؤمنين إلا لنبي من
(زوجناكها) وقرىء زوجتكها، يعني ولم نحوجك إلا ولي من الخلق يعقد لك عليها تشريفاً لك ولها، فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في النكاح في حق أمته، وهذا من خصوصياته (صلى الله عليه وسلم) التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع المسلمين، وكان تزوجه بزينب سنة خمس من الهجرة.
وقيل سنة ثلاث. وهي أول من مات بعده من زوجاته الشريفات المطهرات ماتت بعده بعشر سنين عن ثلاث وخمسين سنة، وقيل المراد به الأمر له بأن يتزوجها والأول أولى وبه جاءت الأخبار الصحيحة.
وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أنس قال: " جاء زيد ابن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله - ﷺ - فجعل رسول الله ﷺ يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، فنزلت: وتخفي في نفسك ما الله مبديه فتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فما أوْلَم على امرأة من نسائه ما أوْلَم عليها؛ ذبح شاة وأطعم الناس خبزاً ولحماً حتى تركوه، فكانت تفتخر على أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) تقول زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، وكانت تقول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) جدي وجدك واحد، وليس من نسائك من هي كذلك غيري، وقد أنكحنيك الله والسفير في ذلك جبريل " قاله الخازن.
وقال عمر وابن مسعود ما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آية هي أشد عليه من هذه الآية. وقال أنس: فلو كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كاتماً شيئاًً لكتم هذه الآية، وكذا روي عن عائشة.
(إذا قضوا منهن وطراً) بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم على أبيه بنفس العقد عليها.
(وكان أمر الله مفعولاً) أي قضاؤه في أمر زينب أن يتزوجها رسول الله ﷺ قضاء ماضياً موجوداً في الخارج لا محالة.
وعن عائشة أن رسول الله ﷺ لما تزوج زينب قالوا تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). وكان رسول الله ﷺ تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلاً يقال له: زيد بن محمد؛ فأنزل الله (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) يعني أعدل أخرجه الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني وغيرهم.
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله ﷺ لزيد: اذهب فاذكرها، عليّ فانطلق. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري؛ فقلت: يا زينب أبشري. أرسلني رسول الله ﷺ يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئاًً حتى أُؤآمر ربي. فقامت إلى مسجدها، ونزل القران، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله
(في الذين خلوا من قبل) أي أن هذا هو السنن الأقوم في الأنبياء والأمم الماضية أن ينالوا ما أحله الله لهم من أمر النكاح وغيره، توسعة عليهم، فكان لهم الحرائر والسراري. عن كعب القرظي قال: يعني يتزوج من النساء ما شاء هذا فريضة، وكان من قبل من الأنبياء هذا سنتهم، قد كان لسليمان بن داود ألف امرأة منها ثلثمائة سرية، وكان لداود مائة امرأة. وقال ابن جريج: الذين خلوا هم داود والمرأة التي نكح زوجها واسمها: اليسية؛ فذلك سنة في محمد وزينب.
(وكان أمر الله قدراً مقدوراً) أي قضاء مقضياً، وحكماً مبتوتاً، وهو كظل ظليل وليل أليل وروض أريض في قصد التأكيد، والقضاء: الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، والقدر عبارة عن إيجاده إياها على تقدير مخصوص معين، لكن كلاً منهما يستعمل بمعنى الآخر، فالمراد إيجاد ما تعلقت به الإرادة قاله الشهاب، ثم ذكر سبحانه الأنبياء الماضين وأثنى عليهم فقال:
(وكفى بالله حسيباً) حاضراً في كل مكان، حافظاً لأعمال خلقه يكفي عباده كل ما يخافونه أو محاسباً لهم في كل شيء، ولما تزوج - ﷺ - زينب قال الناس امرأة ابنه فأنزل الله:
(ولكن رسول الله) قال الأخفش والفراء: ولكن كان رسول الله، وأجاز الرفع وكذا قرأ ابن أبي عبلة بالرفع في رسول وفي خاتم على معنى: ولكن هو رسول الله.
وقال الحسن: الخاتم هو الذي ختم به، والمعنى: ختم الله به النبوة فلا نبوة بعده ولا معه. قال ابن عباس: يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون بعده نبياً، وعنه أن الله لما حكم أن لا نبي بعده؛ لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً، وعيسى ممن نبىء قبله: وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد - ﷺ - كأنه بعض أمته.
(وكان الله بكل شيء عليماً) قد أحاط علمه بكل شيء، ومن جملة معلوماته هذه الأحكام التي ذكرت هنا. أخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فانتهى إلى لبنة واحدة فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال قال رسول الله - ﷺ -: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة؛ فكان من دخلها فنظر إليها قال ما أحسنها إلا موضع اللبنة فأنا موضع اللبنة حتى ختم بي الأنبياء ".
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة نحوه.
وقد صنف في الأذكار المتعلقة بالليل والنهار جماعة من الأئمة كالنسائي والنووي والجزري وغيرهم، وقد نطقت الآيات القرآنية بفضل الذاكرين وفضيلة الذكر، ولذكر الله أكبر، وقد ورد أنه أفضل من الجهاد كما في حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والترمذي والبيهقي: " أن رسول الله - ﷺ - سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيراً. قلت: يا رسول الله ومن الغازين في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى يتكسر ويتخضب دماً لكان الذاكرون أفضل منه درجة، وأخرج أحمد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - ﷺ - ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل وأخرجه أيضاًً الترمذي وابن ماجة.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول
وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (- ﷺ -) قال: أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أذكروا الله حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون.
قال المبرد: والأصيل العشي، وجمعه أصائل، وقد ورد في فضل التسبيح بخصوصه أحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما، فمن ذلك حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في يوم مائة مرة سبحان الله وبحمده حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ".
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لنا: أيعجز أحدكم أن يكتسب كل يوم ألف حسنة. فقال رجل: كيف يكتسب أحدنا ألف حسنة؟. قال: يسبح الله مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، ويحط عنه ألف خطيئة وقيل معنى سبحوه قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. زاد في نسخة: العلي العظيم؛ فعبر بالتسبيح عن أخواته. والمراد بقوله: كثيراً هذه الكلمات يقولها الطاهر، والجنب، والحائض، والمحدث.
(ليخرجكم من الظلمات إلى النور) متعلق بيُصلي، أي يعتني بأموركم هو وملائكته ليخرجكم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات ومن ظلمة الضلالة إلى نور الهداية، ومعنى الآية تثبيت المؤمنين على الهداية، ودوامهم عليها؛ لأنهم كانوا وقت الخطاب على الهداية، قال الحفناوي: جمع الأول لتعدد أنواع الكفر، وأفرد الثاني لأن الإيمان شيء واحد لا تعدد فيه،
(وكان بالمؤمنين رحيماً) وفي هذه الجملة تقرير لمضمون ما تقدمها، ثم بين سبحانه أن هذه الرحمة منه لا تخص السامعين وقت الخطاب، بل هي عامة لهم، ولمن بعدهم، وفي الدار الآخرة فقال:
قال الزجاج: المعنى فيسلمهم الله من الآفات، ويبشرهم بالأمن من المخافات يوم يلقونه، وقيل: الضمير في يلقونه راجع إلى ملك الموت، وهو الذي يحييهم كما ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه، قاله البراء بن عازب، وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام، وقال مقاتل: هو تسليم الملائكة عليهم يوم يلقون الرب كما في قوله: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم).
(وأعد لهم أجراً كريماً) أي في الجنة، أو أعد لهم في الجنة رزقاً حسناً؛ ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم، وهذا بيان لآثار رحمته تعالى الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك، ثم ذكر سبحانه صفات رسول الله - ﷺ - التي أرسله لها فقال:
وقيل: بتيسيره قاله الكرخي وغيره. (وسراجاً منيراً) يستضاء به في ظلم الضلالة كما يستضاء بالمصباح في الظلمة. قال الزجاج: (وسراجاً) أي ذا سراج منير أي كتاب نير، وهو القرآن، وإنما شبه الله نبيه ﷺ بالسراج دون الشمس مع أنها أتم لأن المراد بالسراج هنا الشمس؛ كما قال تعالى: وجعل الشمس سراجاً، أو شبه بالسراج لأنه تفرع منه بهدايته جميع العلماء؛ كما يتفرع من السراج سرج لا تحصى بخلاف الشمس.
عن ابن عباس قال: لما نزلت: (يا أيها النبي) الآية، وقد كان ﷺ أمر علياً ومعاذاً أن يسيرا إلى اليمن فقال: " انطلقا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا " فإنها قد أنزلت عليّ (يا أيها النبي إنا أرسلناك) الآية.
وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما: عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله
وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام ولم يقل: عبد الله بن عمرو، وهذا أولى فعبد الله بن سلام هو الذي كان يسأل عن التوراة فيخبر بما فيها، ثم نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال:
(وتوكل على الله) في كل شؤونك (وكفى بالله وكيلاً) توكل إليه الأمور وتفوض إليه الشؤون فمن فوض إليه أموره كفاه، ومن وكل إليه أحواله لم يحتج فيها إلى سواه، ولما ذكر سبحانه قصة زيد وطلاقه لزينب وكان قد دخل بها وخطبها النبي - ﷺ - بعد انقضاء عدتها كما تقدم، خاطب المؤمنين مبيناً لهم حكم الزوجة إذا طلقها زوجها قبل الدخول فقال:
(يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات) أي عقدتم بهن عقد النكاح أو بالكتابيات، وإنما خص المؤمنات بالذكر للتنبيه على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيراً للنطفة، وقد اختلف في لفظ النكاح، هل هو حقيقة في الوطء؟ أو في العقد؟ أو فيهما على طريقة الاشتراك؟ وكلام صاحب الكشاف في هذا الموضع يشعر بأنه حقيقة في الوطء، فإنه قال: النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث إنه طريق إليه، ونظيره تسمية الخمر إثماً لأنها سبب في اقتراف الإثم، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، كما قاله صاحب الكشاف والقرطبي وغيرهما.
(ثم) التراخي ليس قيداً، وفائدة التعبير بثم إزالة ما عسى أن يتوهم من أن تراخي الطلاق بقدر إمكان الإصابة كما يؤثر في النسب يؤثر في العدة (طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) أي تجامعوهن، فكنى عن ذلك بلفظ المس ومن آداب القرآن الكناية عن الوطء بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والغشي والإتيان.
وقد استدل بهذه الآية القائلون بأنه لا طلاق قبل النكاح، وهم الجمهور، وبه قال علي وابن عباس وجابر ومعاذ وعائشة، وبه قال سعيد بن المسيب وعروة وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وطاووس والحسن وعكرمة وعطاء وسليمان بن يسار ومجاهد والشعبي وقتادة وأكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي، وذهب ابن مسعود ومالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح إذا قال: إذا تزوجت فلانة فهي طالق فتطلق إذا تزوجها، وبه قال النخعي وأصحاب الرأي، وقال ربيعة والأوزاعي: إن عينّ امرأة وقع وإن عمّم
(فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) أي تحصونها بالاقراء والأشهر، أجمع العلماء على أنه إذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة فلا عدة، وذهب أحمد إلى أن الخلوة توجب العدة والصداق، وقد حكى ذلك الإجماع القرطبي وابن كثير، والمعنى: تستوفون عددها؛ من عددت الدراهم فأعتدها، وإسناد ذلك إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق لهم كما يفيده قوله: (فما لكم) وقرىء: تعتدونها بتشديد الدال وبتخفيفها، وفي هذه وجهان أحدهما: أن يكون بمعنى الأولى مأخوذ من الاعتداد أي تستوفون عددها ولكنهم تركوا التضعيف لقصد التخفيف، قال الرازي: ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف؛ لأن الاعتداء يتعدى بعلى، وقيل من الاعتداء بحذف حرف الجر أي تعتدون عليها أي على العدة مجازاً.
والوجه الثاني: أن يكون المعنى تعتدون فيها والمراد بالاعتداء هذا هو ما في قوله: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) فيكون معنى الآية على القراءة الأخرى: فما لكم عليهن من عدة تعتدون عليهن فيها بالمضارة وقد أنكر ابن عطية صحة هذه القراءة عن ابن كثير، وقال: إن البزي غلط عليه وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ولقوله: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر).
(فمتعوهن) أي أعطوهن ما يستمتعن به، والمتعة المذكورة هنا قد تقدم الكلام عليها في البقرة. وقال سعيد بن جبير: هذه المتعة المذكورة هنا منسوخة بالآية التي في البقرة، وهي في قوله: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم)، وقيل المتعة هنا: هي أعم من أن تكون نصف الصداق، أو المتعة خاصة إن لم يكن قد سمي لها فمع التسمية
(وسرحوهن سراحاً جميلاً) أي أخرجوهن من غير إضرار ولا منع حق من منازلكم، إذ ليس لكم عليهن عدة، والسراح الجميل الذي لا ضرار فيه وقيل: هو أن لا يطالبها بما كان قد أعطاها، وقيل هو هنا كناية عن الطلاق وهو بعيد، لأنه قد تقدم ذكر الطلاق، ورتب عليه التمتع، وعطف عليه السراح الجميل، فلا بد أن يراد به معنى غير الطلاق.
وعن ابن عباس في الآية قال: هذا في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها من قبل أن يمسها فإذا طلقها واحدة بانت منه ولا عدة عليها تتزوج من شاءت ثم قال: (فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً)، يقول: إن كان سمى لها صداقاً فليس لها إلا النصف وإن لم يكن سمى لها صداقاً متعها على قدر عسره، ويسره وهو السراح الجميل.
وعن ابن عمر قال: (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) منسوخة نسختها التي في البقرة (فنصف ما فرضتم)، وعن سعيد بن المسيب نحوه، وعن الحسن وأبي العالية قالا: ليست بمنسوخة لها نصف الصداق، ولها المتاع وعن ابن جريج قال بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال ابن عباس: أخطأ في هذا إن الله يقول: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.
وعن ابن عباس أنه تلا هذه الآية وقال: لا يكون طلاق حتى يكون نكاح، وقد وردت أحاديث فيها: أنه لا طلاق إلا بعد نكاح وهي معروفة.
وقال أهل الرأي: التأبيد من شرط النكاح، والتأقيت من شرط الإجارة وبينهما منافاة، وإيتاء الأجور إما تسليمها معجلة، أو فرضها أو تسميتها في العقد، واختلف في معنى الآية فقال ابن زيد والضحاك: إن الله أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها؛ فتكون الآية مبيحة لجميع النساء ما عدا ذوات المحارم، وقال الجمهور: المراد أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك لأنهن قد اخترنك على الدنيا وزينتها، وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله: أحللنا وآتيت ماضيان؛ وتقييد الاحلال بإيتاء الأجور ليس لتوقف الحل عليه؛ لأنه يصح العقد بلا تسمية ويجب مهر المثل مع الوطء، والمتعة مع عدمه. فكأنه لقصد الإرشاد إلى ما هو أفضل.
(وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك) أي السراري اللاتي دخلن في ملكك بالغنيمة. والمعنى: مما رده الله عليك من الكفار بالغنيمة من نسائهم
(وبنات عمك وبنات عماتك) أي نساء قريش (وبنات خالك وبنات خالاتك) أي نساء بني زهرة (اللاتي هاجرن معك) فإنه للإشارة إلى ما هو الأفضل، وللإيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر، أي أحللنا لك ذلك زائداً على الأزواج اللاتي آتيت أجورهن على قول الجمهور، لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وآتيت أجرها لما قال بعد ذلك: وبنات عمك وبنات عماتك، لأن ذلك داخل فيما تقدم، والأول أولى والمراد بالمعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها. قال النسفي: ليس (مع) للقران، بل لوجودها فحسب، كقوله: وأسلمتُ مع سليمان.
وقيل إن هذا القيد أعني المهاجرة معتبر، وإنها لا تحل له من لم تهاجر من هؤلاء كما في قوله: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا)، ويؤيد هذا حديث أم هانىء وسيأتي.
ووجه إفراد العم والخال، وجمع العمة والخالة، ما ذكره القرطبي إن العم والخال في الإطلاق اسم جنس؛ كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة قال وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان، وحكاه عن ابن العربي وقال ابن كثير إنه وحد لفظ الذكر لشرفه، وجمع الأنثى كقوله: عن اليمين وعن الشمائل، وقوله يخرجهم: (من الظلمات إلى النور)، وجعل: (الظلمات والنور) وله نظائر كثيرة انتهى.
وقال النيسابوري: وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتهما مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد، ولم يحسن
وقد سئل كثير عن حكمة إفراد العم والخال دون العمة والخالة حتى أن السبكي صنف جزءاً فيه سماه بذل الهمة في إفراد العم وجمع العمة. وقد رأيت لهم فيه كلمات كلها ضعيفة، كقول الرازي: إن العم والخال على زنة المصدر ويستوي فيه المفرد والجمع بخلاف العمة والخالة وقيل: إنهما يعمان إذا أضيفا، والعمة والخالة لا يعمان لتاء الوحدة انتهى.
أخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير، والطبراني وغيرهم عن أم هانيء بنت أبي طالب قالت: (خطبني رسول الله - ﷺ - فاعتذرت إليه فعذرني، فأنزل الله: يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله هاجرن معك) قالت: فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت: نزلت في هذه الآية: (وبنات عماتك اللاتي هاجرن معك) أراد النبي أن يتزوجني فنهي عني إذ لم أهاجر.
وعن ابن عباس في قوله: (إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله: (خالصة لك) قال فحرم الله عليه سوى ذلك من النساء، وكان قبل ذلك ينكح في أي النساء شاء لم يحرم ذلك عليه. وكان نساؤه يجدن من ذلك وجداً شديداً أن ينكح في أي النساء أحب، فلما أنزل: إني حرمت عليك من النساء سوى ما قصصت عليك أعجب ذلك نساءه.
(وامرأة مؤمنة) أي: وأحللنا لك امرأة مصدقة بالتوحيد، وهذا يدل
وأما تسرّيه بالأمة الكتابية فالأصح فيه الحل لأنه - ﷺ - استمتع بأمته ريحانه قبل أن تسلم كذا في المواهب وكانت يهودية من سبي قريظة، ومما خص به أيضاًً أنه يحرم عليه نكاح الأمة ولو مسلمة لأن نكاحها معتبر بخوف العنت، وهو معصوم، وبفقدان مهر الحرة ونكاحه غنى عن المهر ابتداء وانتهاء، وبرق الولد ومنصبه - ﷺ - ينزه عنه كذا في الروض وشرحه.
(إن وهبت نفسها للنبي) أي ملكتك بضعها بأي عبارة كانت بغير صداق، وأما من لم تكن مؤمنة فلا تحل لك بمجرد هبتها نفسها لك، ولكن ليس ذلك بواجب عليك بحيث يلزمك قبول ذلك، بل مقيداً بإرادتك فهي جملة شرطية لا تستلزم الوقوع، ولهذا قال: (إن أراد النبي أن يستنكحها) يقال نكح واستنكح مثل عجل واستعجل، وعجب واستعجب.
ويجوز أن يراد الاستنكاح بمعنى طلب النكاح أو طلب الوطء قاله القرطبي، أي يصيرها منكوحة له، ويتملك بضعها بتلك الهبة بلا مهر، وذلك جار منه مجرى القبول. وحيث لم تكن الآية نصاً في كون تملكيها بلفظ الهبة لم تصلح أن تكون مناطاً للخلاف في انعقاد النكاح بلفظ الهبة، وإيراده في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات عن الخطاب للإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم؛ فيختص به كما ينطق به قوله الآتي: (خالصة لك) وقد قيل إنه لم ينكح النبي من الواهبات أنفسهن أحداً، ولم يكن عنده منهن شيء، قال قتادة: كانت عنده ميمونة بنت الحرث، قال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين: وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية، وقال عروة ابن الزبير وهي أم حكيم بنت الأوقص
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن عن عائشة قالت: (التي وهبت نفسها للنبي - ﷺ - خولة بنت حكيم). وأخرج البخاري وغيره عن عروة: (أن خولة بنت حكيم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - ﷺ -)، وعن محمد بن كعب وعمر بن الحكم وعبد الله ابن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله - ﷺ - ثلاث عشرة امرأة؛ ستاً من قريش: خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة، وثلاثاً من بني عامر بن صعصعة، وامرأتين من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحرث، وهي التي وهبت نفسها للنبي ﷺ وزينب أم المساكين والعامرية وهي التي اختارت الدنيا، وامرأة من بني الجون، وهي التي استعاذت منه: وزينب بن جحش الأسدية، والسبيتين: صفية بنت حيي وجويرية بنت الحرث الخزاعية.
وأخرج البخاري وابن مردويه عن أنس قال جاءت امرأة إلى النبي - ﷺ - فقالت يا رسول الله هل لك بي حاجة؟ فقالت ابنة أنس ما كان أقل حياءها؟ فقال: هي خير منك رغبت في النبي ﷺ فعرضت نفسها عليه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد الساعدي أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ فوهبت نفسها له فصمت، الحديث بطوله وكان من خصائصه صلى الله عيله وسلم أن النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي. ولا شهود ولا مهر، والزيادة على أربع، ووجوب تخيير النساء وعليه جماعة.
واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة، فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج، وهو قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي. وقال إبراهيم النخعي وأهل الكوفة ينعقد بلفظ التمليك والهبة، ومن قال بالقول الأول اختلفوا في نكاح النبي - ﷺ - فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه - ﷺ - بلفظ الهبة، وذهب قوم
فقال ابن عباس ومجاهد: لم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. وقال آخرون: وقع، واختلفوا فيها كما تقدم وقال الزمخشري: قيل الموهوبات أربع: ميمونة وزينب وأم شريك وخولة: وفي السمين: هذا من اعتراض الشرط على الشرط. والثاني قيد في الأول ولذلك أعربوه حالاً، لأن الحال قيد ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود.
فلو قال: إن أكلت إن ركبت فأنت طالق فلا بد أن يتقدم الركوب على الأكل، وأنه يشترط أن لا يكون ثمة قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقولك: إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حر، فإنه لا يتصور هنا تقديم الطلاق على التزويج إلا أني قد عرض لي إشكال على ما قاله الفقهاء بهذه الآية.
وذلك أن الشرط الثاني هنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم الخاص بالنبي - ﷺ - لا أنه لا يمكن عقلاً، وذلك أن المفسرين فسروا قوله تعالى إن أراد، بمعنى قبل الهبة لأنه بالقبول منه يتم نكاحه، وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة إذ القبول متأخر، وأيضاًً فالقصة كانت على ما ذكرته من تأخر إرادته عن هبتها، وهو مذكور في التفسير.
وقد عرضت هذا الإشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به، ولم يظهر عنهم جواب، إلا ما قدمته من أن ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلت لك آنفاً انتهى.
وقد بين الله سبحانه أن هذا النوع من النكاح خاص برسول الله - ﷺ -، لا يحل لغيره من أمته فقال.
(خالصة لك من دون المؤمنين) لفظ: خالصة إما حال من امرأة قاله الزجاج، أو حال من فاعل (وهبت) أي حال كونها خالصة لك دون غيرك، أو
(قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) اعتراض مقرر لمضمون ما قيله من خلوص الإحلال له، أي ما فرضه الله سبحانه على المؤمنين في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه، فإن ذلك حق عليهم مفروض لا يحل لهم الإخلال به، ولا الاقتداء برسول الله - ﷺ - فيما خصه الله به توسعة عليه وتكريماً له، فلا يتزوجوا إلا أربعاً بمهر وبينة وولي.
وعن ابن عمر في الآية قال: فرض الله عليهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين. وعن ابن عباس: مثله وزاد ومهر.
(وما ملكت أيمانهم) أي وعلمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم من كونهم ممن يجوز سبيه وحربه، لا ممن كان لا يجوز سبيه أو كان له عهد من المسلمين؛ أي تكون الأمة ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف المجوسية والوثنية، وأن تستبرأ قبل الوطء.
(لكيلا يكون عليك حرج) قال المفسرون: هذا يرجع إلى أول الآية أي أحللنا لك تزواجك وما ملكت يمينك، والواهبة نفسها لك لكيلا يكون عليك حرج؛ فتكون اللام متعلقة بأحللنا، وقيل هي متعلقة بخالصة قاله البيضاوي وأبو السعود، والتعلق باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له - ﷺ - والأول أولى، والحرج الضيق، أي وسعنا عليك في التحليل لك لئلا يضيق صدرك فتظن أنك قد أثمت في بعض المنكوحات.
(وكان الله غفوراً رحيماً) يغفر الذنوب فيما يعسر التحرز عنه، ويرحم العباد بالتوسعة في ذلك، ولذلك وسع الأمر ولم يضيقه.
وقد كان القسم واجباً عليه حتى نزلت هذه الآية فارتفع الوجوب وصار الخيار إليه، وكان ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، وممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية، فكان - ﷺ - يسوي بين من آوى في القسم، وكان يقسم لمن أرجاه ما شاء، هذا قول جمهور المفسرين في معنى الآية، وهو الذي يناسب ما مضى، وقد دلت عليه الأدلة الثابتة في الصحيح وغيره.
قال ابن العربي: هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون فرض عليه تطييباً لنفوسهن، وصوناً لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي. وقيل: هذه الآية في
وقال الحسن. إن المعنى تنكح من شئت من نساء أمتك وتترك نكاح من شئت منهن، وقد قيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: لا يحل لك النساء من بعد، وعن ابن عباس: ترجي أي تؤخر، وعنه قال: من شئت خليت سبيلها منهن، ومن أحببت أمسكت منهن.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - ﷺ -: وأقول: تهب المرأة نفسها. فلما أنزل الله: ترجي من تشاء منهن الآية قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وعن أبي رزين قال: هَمَّ رسول الله ﷺ أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن: لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك بما شئت فأنزل الله ترجي من تشاء منهن، يقول: تعزل من تشاء فأرجى منهن نسوة، وآوى نسوة، وكان ممن أرجى ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة، وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما شاء، وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب فكانت قسمته من نفسه وماله بينهن سواء.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية ترجي من تشاء منهن، فقلت لها ما كنت تقولين؟ قالت كنت أقول إن كان ذلك إلي فإني أريد أن لا أوثر عليك أحداً.
(ومن ابتغيت ممن عزلت) الابتغاء الطلب، والعزل الإزالة، والمعنى إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن قد عزلتهن من القسمة وتضمها إليك (فلا جناح عليك) في ذلك، والحاصل أن الله سبحانه فوض الأمر إلى رسوله
(ذلك) أي ما تقدم من التفويض إلى مشيئته وهو مبتدأ وخبره قوله (أدنى أن تقر أعينهن) أي ذلك التخيير والتفويض فوضناك أقرب إلى رضائهن وأطيب لأنفسهن إذ كان من عندنا لأنهن إذا علمن أنه من الله قرت أعينهن، واطمأنت نفوسهن، وذهب التغاير وحصل الرضاء. قرىء تقر على البناء للفاعل مسنداً إلى أعينهن، وقرىء بضم التاء من أقرر وفاعله ضمير المخاطب وبنصب أعينهن على المفعولية، وقرىء على البناء للمفعول، وقد تقدم بيان معنى قرة العين في سورة مريم.
(ولا يحزن) أي لا يحصل معهن حزن بتأثيرك بعضهن دون بعض (ويرضين بما آتيتهن كلهن) أي بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء وكان يقسم بينهن في القسمة حتى مات، ولم يستعمل شيئاًً مما أتيح له ضبطاً لنفسه، وأخذاً بالأفضل غير سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنهما.
(والله يعلم ما في قلوبكم) من كل ما تضمرونه ومن ذلك ما تضمرونه من أمور النساء والميل إلى بعضهن (وكان الله عليماً) بكل شيء وبما في ضمائركم لا تخفى عليه خافية (حليماً) عنكم لا يعاجل العصاة بالعقوبة فينبغي أن تتقى محارمه لأن انتقام الحليم وغضبه أمر عظيم.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على أقوال، الأول: أنها محكمة، وأنه حرم على رسول الله ﷺ أن يتزوج على نسائه مكافأة لهن بما فعلن من اختيار الله ورسوله والدار الآخرة؛ لما خيرهن رسول الله ﷺ بأمر الله له بذلك، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والحسن وابن سيرين وابن بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وابن زيد وابن جرير. وقال أبو أمامة بن سهل حنيف: لما حرم الله عليهن أن يتزوجن من بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن.
وقال أُبي بن كعب وعكرمة وأبو رزين أن المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأصناف التي سماها الله قال القرطبي: وهو اختيار ابن جرير وقيل لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات لأنهن لا يصح أن يتصفن بأمهات المؤمنين، وهذا القول فيه بعد؛ لأنه يكون التقدير لا يحل لك النساء من بعد المسلمات ولم يجر للمسلمات ذكر، وقيل هذه الآية منسوخة بالسنة، وبقوله: (تُرجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء)، وبهذا قالت أم سلمة وعائشة وعلي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وغيرهم. وهذا هو الراجح وسيأتي ما يدل عليه من الأدلة، عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأبي بن كعب أرأيت لو أن أزواج النبي ﷺ مُتْنَ أما كان يحل له أن يتزوج؟ قال وما يمنعه من ذلك؟ قلت قوله: لا يحل لك النساء من بعد، قال إنما أحل له ضرباً من النساء ووصف له صفة فقال: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله (وامرأة مؤمنة) ثم قال: لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة.
وعن ابن عباس قال نُهي رسول الله - ﷺ - عن أصناف النساء إلا ما كان
وعنه قال نُهي النبي أن يتزوج بعد نسائه الأولى شيئاًً، وعنه في الآية قال: حبسه الله عليهن كما حبسهن عليه، وعن أنس قال: لما خيرهن فاخترن الله ورسوله قصره عليهن فقال: (لا يحل لك النساء من بعد).
وعن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله - ﷺ - حتى أحل الله أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، وذلك قول الله: (ترجي من تشاء منهن) الآية، وأخرج أحمد وأبو داود في ناسخه، والترمذي وصححه، والنسائي والحاكم وصححه.
عن عائشة قالت: لم يمت رسول الله - ﷺ - حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، لقوله: (ترجي من تشاء منهن) الآية، وعن ابن عباس مثله، وعن أبي رزين: (لا يحل لك النساء من بعد) قال: من المشركات إلا ما سبيت فملكت يمينك.
(ولا أن تبدل بهن من أزواج) أي ليس لك أن تطلق واحدة منهن أو أكثر وتتزوج بدل من طلقت منهن أي من المسلمات غيرهن من الكتابيات؛ لأنه لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية و (من) مزيدة لتأكيد النفي وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم.
وقال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله تقول خذ زوجتي وأعطني زوجتك، وقد أنكر ابن جرير والنحاس ما ذكره ابن زيد؛ قال ابن جرير: ما فعلت العرب هذا قط، ويدفع هذا الإنكار منهما؛ ما أخرجه الدارقطني عن أبي
وأخرجا عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك امرأتي؛ أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله هذه الآية. قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله - ﷺ - وعنده عائشة فدخل بغير إذن؛ فقال له رسول الله - ﷺ -: أين الاستئذان؟ قال يا رسول الله ما استأذنت على رجل من الأنصار منذ أدركت، ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه عائشة أم المؤمنين، قال أفلا أنزل لك عن أحسن خلق الله؟ قال: يا عيينة إن الله حرم ذلك، فلما أن خرج قالت عائشة: من هذا؟ قال أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه.
(ولو أعجبك حسنهن) وهذا كقولك: اعطوا السائل ولو على فرس. أي: في كل حال، ولو على هذه الحالة المنافية للإعطاء، وقيل: تقديره مفروضاً إعجابك بهن، أي لا يحل لك التبدل بأزواجك ولو أعجبك حسن غيرهن وجمالها ممن أردت أن تجعلها بدلاً من إحداهن، وهذا التبدل أيضاًً من جملة ما نسخه الله في حق رسوله على القول الراجح ونسخها إما بالسنة أو بقوله: (إنا أحللنا لك أزواجك)، وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف.
قال ابن عباس: يعني أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبي طالب لما استشهد جعفر؛ أراد رسول الله ﷺ أن يخطبها فنهي عن ذلك.
(إلا ما ملكت يمينك) استثناء من النساء لأنه يتناول الحرائر والإماء وقيل: منقطع، والمعنى تحل لك الإماء، وقد ملك صلى الله عليه وسلم
الأول: أنها تحل للنبي ﷺ لعموم هذه الآية وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن.
والثاني: أنها لا تحل للنبي ﷺ تنزيهاً لقدره عن مباشرة الكافرة، ويترجح القول الأول بعموم هذه الآية وتعليل المنع بالتنزه ضعيف فلا تنزه عما أحله الله فهو طيب لا خبيث باعتبار ما يتعلق بأمور النكاح لا باعتبار غير ذلك فالمشركون نجس بنص القرآن، وممكن ترجيح القول الثاني بقوله سبحانه: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فإنه نهي عام.
(وكان الله على كل شيء رقيباً) أي مراقباً حافظاً وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء، ويدل عليه ما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل]. أخرجه أبو داود وعن أبي هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاًً].
قال الحميدي: يعني هو الصغر وعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ قلت لا. قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يُؤدَم بينكما، أخرجه الترمذي وقال حسن.
(يا أيها الذين آمنوا) شروع في بيان ما تجب رعايته على الناس من حقوق نساء النبي إثر بيان ما تجب مراعاته عليه من حقوقهن (لا تدخلوا بيوت النبي) هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله - ﷺ - إلا بإذن منه. وسبب النزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب)، وفي لفظ أنه قال عمر: (يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب)، فأنزل الله آية الحجاب.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: لما تزوج رسول الله - ﷺ - زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي - ﷺ - ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي - ﷺ - أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) الآية.
وأخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
وفي الآية دليل على أن البيت للرجل ويحكم له به فإن الله أضافه إليه إضافة ملك، وأما إضافته إلى الأزواج في قوله (ما يتلى في بيوتكن) فهي إضافة محل بدليل أنه جعل فيها الإذن إلى النبي - ﷺ -، والإذن إنما يكون من المالك، واختلف العلماء في بيوت النبي - ﷺ - التي كان يسكن فيها نساؤه بعد موته هل هي ملك لهن أو لا؟ على قولين، فقالت طائفة: كانت ملكاً لهن بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي - ﷺ - إلى وفاتهن، وذلك أن النبي ﷺ وهب لهن ذلك في حياته، الثاني: أن ذلك كان إسكاناً كما يسكن الرجل أهله، ولم يكن هبة وامتدت سكناهن بها إلى الموت، وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وابن العربي، وغيرهما. فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله ﷺ استثناها لهن كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال: [لا تقسم ورثتي ديناراً ولا درهما، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤمنة عاملي فهو صدقه] هكذا قال أهل العلم، قالوا: ويدل على ذلك أن مساكنهن لم ترثها عنهن ورثتهن. قالوا: وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكاً وإنما كان لهن سكنى حياتهن. فلما توفين جعل ذلك
وأعلم أن قالون همز النبي حيث وقع إلا في موضعين من هذه السورة أحدهما هذه الآية والثاني قوله: (إن وهبت نفسها للنبي) فأبدلها ياء في الوصل وهمزها في الوقف كما ذكره الشاطبي، ولم يسهلها كما سهل غيرها لأنه رأى الإبدال هنا جارياً على القياس فيه فرجحه لموافقته لغيره ولأنه أفصح من التسهيل ولذلك أنكر على من قال يا نبىء الله بالهمزة وهذا مما لا غبار عليه فلله در التنزيل، وما فيه من دقائق التأويل.
(إلا أن يؤذن لكم) استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا في حال كونكم مأذوناً لكم، أي إلا مصحوبين بالإذن أو إلا بأن يؤذن لكم أو إلى وقت أن يؤذن لكم وقوله: (إلى طعام) متعلق بيؤذن على تضمينه معنى الدعاء أي إلا أن يؤذن لكم مدعوين إلى طعام.
(غير ناظرين إناه) انتصاب غير على الحال، والعامل فيه يؤذي، أو مقدر.
أي: ادخلوا غير ناظرين، ومعنى ناظرين منتظرين، وإناه نضجه وإدراكه، يقال: أنى يأنى إناً إذا حان وأدرك.
قال الرازي: في الآية إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره: ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير إذن، وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه: ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام، فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام فلا يجوز. فنقول: المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول، وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى الطعام فلما هو مذكور في سبي النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام، ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم
قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي (- ﷺ -) ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نضج الطعام، ثم بين سبحانه ما ينبغي في ذلك فقال:
(ولكن إذا دعيتم) وأذن لكم فادخلوا، وفيه تأكيد بليغ للمنع، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول، وهو عند الإذن، وقال ابن العربي: وتقدير الكلام ولكن إذا دعيتم وأذن لكم.
(فادخلوا) وإلا فنفس الدعوة لا يكون إذناً كافياً في الدخول، وقيل إن فيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه، قال الرازي: فيه لطيفة وهي أنه في العادة إذا قيل لمن يعتاد دخول دار من غير إذن لا تدخلها إلا بإذن، يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً، ولا بالدعاء، فقال: لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون، بل كونوا طائعين إذا قيل لكم لا تدخلوا
(فإذا طعمتم) أي أكلتم الطعام يقال: طعم بكسر العين يطعم بفتحها طعماً كفهم، وطعماً كقفل، وفي الخطيب إذا أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً (فَانْتَشِرُوا) أي اذهبوا حيث شئتم في الحال، ولا تمكثوا بعد الأكل والشرب والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل، ولا تدخلوا هاجمين.
(ولا) تمكثوا (مستأنسين لحديث) يستأنس بعضكم ببعض لأجل حديث يحدث به، يقال: أنست به أنساً من باب علم، وفي لغة من باب ضرب، والأنس بالضم اسم منه واستأنست به وتأنست به إذا سكن القلب ولم ينفر (إن ذلكم) أي الانتظار أو المكث والاستئناس للحديث وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله تعالى: (عوان بين ذلك)، أي إن ذلك المذكور من الأمرين.
(كان) في علم الله (يؤذي النبي) لأنهم كانوا يضيقون عليه المنزل وعلى أهله، ويتحدثون بما لا يريده، قال الزجاج: كان النبي - ﷺ - يحتمل إطالتهم كرماً منه فيصبر على الأذى في ذلك فعلم الله من يحضره الأدب فصار أدباً لهم ولمن بعدهم.
(فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أي يستحيي أن يقول لكم: قوموا أو أخرجوا (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أي لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة.
قرأ الجمهور: يستحيي بيائين وروي عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة، وهي لغة تميم يقولون استحى يستحي مثل استقى يستقي وهذا أدبٌ أدَّب الله به الثقلاء وعن عائشة قالت: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم، وقال: إذا طعمتم فانتشروا؛ ثم ذكر سبحانه أدباً آخر متعلقاً بنساء النبي - ﷺ -
(وإذا سألتموهن) أي أزواج النبي (- ﷺ -) (متاعاً) أي شيئاًً يتمتع به من الماعون وغيره والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف.
(فاسألوهن) المتاع (من وراء حجاب) أي من وراء ستر بينكم وبينهن فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله (- ﷺ -)، متنقبة كانت أو غير متنقبة.
(ذلكم) أي سؤال المتاع من وراء الحجاب، وقيل الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع، والأول أولى، واسم الإشارة مبتدأ وخبره قوله:
(أطهر لقلوبكم وقلوبهن) أي أكثر تطهيراً لها من الريبة وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه فإن مجانبة ذلك أحسن بحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.
(وما كان) أي ما صح ولا استقام (لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) بشيء من الأشياء كائناً ما كان ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده، وتكليم نسائه من دون حجاب.
(ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً) أي ولا كان لكم ذلك بعد وفاته أو فواقه لأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات قال ابن عباس في الآية: نزلت في رجل هَمَّ أن يتزوج بعض نساء النبي (- ﷺ -) بعد موته.
قال سفيان: وذكروا أنها عائشة.
وعن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا؟ ويتزوج نساءنا من بعدنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية. وعن قتادة قال: قال طلحة بن عبيد الله: لو قبض
قال القرطبي: قال شيخنا الإمام أبو العباس وقد حكى هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال.
وعن ابن عباس قال: قال رجل من أصحاب النبي (- ﷺ -) لو قد مات رسول الله (- ﷺ -) تزوجت عائشة وأم سلمة فأنزل الله: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) الآية وعنه أن رجلاً أتى بعض أزواج رسول الله (- ﷺ -) فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي (- ﷺ -): [لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا] فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكراً، ولا قالت لي. قال النبي (- ﷺ -): [قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله وأنه ليس أحد أغير مني] فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجنها من بعده. فأنزل الله هذه الآية فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشياً توبة من كلمته.
وعن أسماء بنت عميس قالت: خطبني علي فبلغ ذلك فاطمة فأتت النبي (- ﷺ -) فقالت: إن أسماء متزوجة علياً فقال لها النبي (- ﷺ -)، ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله، والذي جرى عليه الرملي في شرح المنهاج أن من عقد عليها النبي (- ﷺ -) تحرم على غيره سواء دخل بها ﷺ أو لا، وأما حكم إمائه فمن دخل بها منهن حرمت على غيره وإلا فلا.
(إن ذلكم) أي نكاح أزواجه من بعده (كان عند الله عظيماً) أي ذنباً عظيماً، وخطباً هائلاً شديداً وهذا من إعلام تعظيم الله لرسوله - ﷺ - وإيجاب حرمته حياً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب نفسه، وسر قلبه، واستفرغ شكره فإن من الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت قبله لئلا تنكح بعده.
(ولا نسائهن) هذه الإضافة تقتضي أن يكون بالنساء المؤمنات لأن الكافرات غير مأمونات على العورات، والنساء كلهن عورة، فيجب على أزواج النبي - ﷺ - الاحتجاب عنهن كما يجب على سائر المسلمات أي ما عدا ما يبدو عند المهنة أما هو فلا يجب على المسلمات حجبه وستره عن الكافرات ولهذا قيل: هو خاص، أي لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله (- ﷺ -) وقيل عام في المسلمات والكتابيات.
(ولا ما ملكت أيمانهن) من العبيد والإماء أن يروهن ويكلموهن من غير حجاب وقيل: الإماء خاصة، ومن لم يبلغ من العبيد والخلاف في ذلك معروف، وقد تقدم في سورة النور ما فيه كفاية، ثم أمر سبحانه بالتقوى التي هي ملاك الأمر ونقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وفي هذا النقل فضل تشديد كأنه قيل:
(واتقين الله) في كل الأمور التي من جملتها ما هو مذكور هنا من الاحتجاب أي أن يراكن أحد غير هؤلاء. قال ابن عباس: في الآية أنزلت هذه فىِ نساء النبي - ﷺ - خاصة.
(إن الله كان على كل شىء) من أعمال العباد (شهيداً) لم يغِب عنه شىء من الأشياء كائناً ما كان فهو مجاز للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته، والشهيد الذي يعلم خطرات القلوب كما يعلم حركات الجوارح.
وقالت طائفة في هذه الآية حذف، والتقدير: إن الله يصلي وملائكته يصلون، وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره
وقال عطاء بن أبي رباح: صلاته تبارك وتعالى: سبوح قدوس سبقت رحمتي غضبي. والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته، وأن الملائكة تصلي عليه، وأمر عباده بأن يقتدوا بذلك ويصلوا عليه، وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على النبي (- ﷺ -) هل هي واجبة؟ أو مستحبة؟ بعد اتفاقهم على أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة. وقد حكى هذا الإجماع الاقرطبي في تفسيره فقال قوم من أهل العلم: إنها واجبة عند ذكره، وقال قوم: تجب في كل مجلس مرة، وقد وردت أحاديث مصرحة بذم من سمع ذكر النبي (- ﷺ -) فلم يصل عليه.
واختلف العلماء في الصلاة على النبي (- ﷺ -) في تشهد الصلاة المفروضة هل هي واجبة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها فيها سنة مؤكدة غير واجبة. قال ابن المنذر: يستحب أن لا يصاب أحد صلاة إلا صلى فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزئة في مذهب مالك وأهل المدينة، وسفيان الثوري، وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم،
وقد قال بقول الشافعي جماعة من أهل العلم منهم الشعبي والباقر ومقاتل ابن حيان وإليه ذهب أحمد بن حنبل أخيراً، كما حكاه أبو زرعة الدمشقي، وبه قال ابن راهويه وابن المواز من المالكية وقد جمع الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة رسالة مستقلة ذكر فيها ما احتج به الموجبون لها وما أجاب به الجمهور، وفي شرحه على المنتقى، ورسالتي: هداية السائل إلى أدلة المسائل، ما يشفي ويكفي وأشف ما يستدل به على الوجوب الحديث الثابت بلفظ: إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك في صلاتنا؟ قال قولوا: الحديث، فإن هذا الأمر يصلح للاستدلال به على الوجوب، وأما على بطلان الصلاة بالترك ووجوب الإعادة لها فلا، لأن الواجبات لا يستلزم عدمها العدم كما يستلزم ذلك الشروط والأركان.
واعلم أنه قد ورد في فضل الصلاة على رسول الله - ﷺ - أحاديث كثيرة لو جمعت لجاءت في مصنف مستقل، ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الثابتة في الصحيح من قوله - ﷺ -: [من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً] فناهيك بهذه الفضيلة الجليلة، والمكرمة النبيلة، وأما صفة الصلاة عليه - ﷺ - فقد وردت فيها صفات كثيرة بأحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما منها: ما هو مقيد بصفة الصلاة عليه في الصلاة، ومنها ما هو مطلق، وهي معروفة في كتب الحديث فلا نطيل بذكرها، والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل: اللهم صل وسلم على رسولك أو على محمد أو على النبي، أو اللهم صل على محمد وسلم ومن أراد أن يصلي ويسلم عليه بصفة من
وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل: صليت عليه وسلمت عليه أو الصلاة عليه والسلام عليه، أو عليه الصلاة والتسليم، لأن الله سبحانه أمرنا بإيقاع الصلاة عليه والتسليم منا، فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول: اللهم صلّ عليه وسلم بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن نصلي عليه ونسلم عليه، وقد أجيب عن هذا بأن هذه الصلاة والتسليم لما كانتا شعاراً ْعظيماً للنبي - ﷺ - وتشريفاً كريماً، وكّلنا ذلك إلى الله عز وجل وأرجعناه إليه وهذا الجواب ضعيف جداً.
وأحسن ما يجاب به أن يقال: إن الصلاة والتسليم المأمور بهما في الآية هما أن نقول: اللهم صلّ عليه وسلم أو نحو ذلك مما يؤدي معناه كما بينه رسول الله - ﷺ - فاقتضى ذلك البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية.
واعلم أن هذه الصلاة من الله على رسوله وإن كان معناها الرحمة فقد صارت شعاراً له يختص به دون غيره فلا يجوز لنا أن نصلي على غيره من أمته، كما يجوز لنا أن نقول اللهم ارحم فلاناً أو رحم الله فلاناً، وبهذا قال الجمهور من العلماء مع اختلافهم؛ هل هو محرم؟ أو مكروه كراهة شديدة؟ أو مكروه كراهة تنزيه؟ على ثلاثة أقوال. وقد قال ابن عباس: كما رواه عنه ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب: لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي - ﷺ -، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار.
وقال في المواهب: لم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم انتهى وقال في الأنموذج ومن خواصه - ﷺ - أنه ليس في القرآن ولا
ولحديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: كان رسول الله - ﷺ - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلّ عليهم فأتاه أبيّ بصدقته فقال: اللهم صلّ على آل أبي أوفى، ويجاب عن هذا بأن هذا الشعار الثابت لرسول الله (- ﷺ -) له أن يخص به من شاء، وليس لنا أن نطلقه على غيره، وأما قوله تعالى: (هو الذي يصلي) إلخ وقوله: (أولئك عليهم صلوات) فهذا ليس فيه إلا إن الله سبحانه يصلي على طوائف من عباده كما يصلي على من صلى على رسوله (- ﷺ -) مرة واحدة عشر صلوات وليس في ذلك أمر لنا ولا شرعة الله في حقنا. بل لم يشرع لنا إلا الصلاة والتسليم على رسوله، وكما أن لفظ الصلاة على رسول الله (- ﷺ -) شعار له فكذا لفظ السلام عليه.
وقد جرت عادة جمهور هذه الأمة والسواد الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة والترحم على من بعدهم، والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه كما أرشدنا إلى ذلك بقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى: هل يصلي ربك؟ فناداه ربه يا موسى: سألوك هل يصلي ربك؟ فقال: نعم أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي، فأنزل الله على نبيه: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) الآية أي يبركون، وعنه أن صلاة الله على النبي هي المغفرة إن الله لا يصلي، ولكن يغفر، وأما صلاة الناس على النبي فهي الاستغفار له.
(يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه) أي ادعوا له بالرحمة وقولوا: اللهم
قال أبو السعود: وهذه الآية دليل على وجوب الصلاة والسلام عليه مطلقاً أي من غير تعرض لوجوب التكرار، وقال القسطلاني قيل: هي مستحبة وقيل: واجبة في التشهد الأخير من كل صلاة وعليه الشافعي وهو رواية عن أحمد وقيل: تجب في الصلاة من غير تعيين لمحل منها. وقيل: تجب في خارج الصلاة وقيل: كلما ذكر وقيل: في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره فيه وقيل: تجب في العمر مرة واحدة وقيل: تجب في الجملة من غير حصر وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقييد. وتسليماً مصدر مؤكد قال الإمام ولم تؤكد الصلاة لأنها مؤكدة بقوله: إن الله وملائكته إلخ وقيل: إنه من الاحتباك فحذف عليه من أحدهما والمصدر من الآخر وقال بعض الفضلاء: إنه سئل في منامه لم خص السلام بالمؤمنين دون الله والملائكة؟ ولم يذكر له جواباً؟.
قلت: وقد لاح لب فيه نكتة سرية أي شريفة، وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه، فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي والأذية إنما هي من البشر فناسب التخصيص بهم، والتأكيد، وإليه الإشارة بما ذكر بعده قاله الشهاب.
وأقول: هذه الآية من باب الاكتفاء على حد قوله: سرابيل تقيكم الحر والمعنى: إن الله وملائكته يصلون على النبي ويسلمون، وقد ثبت بالأدلة الصحيحة القرآنية وغيرها تسليم الله تعالى على غيره - ﷺ - من الأنبياء والصلحاء، والنكتة التي ذكرها الشهاب لا تخلو عن تكلف وبعد تأمل. وعن كعب بن عجرة قال: لما نزلت: (إن الله وملائكته) الآية قلنا: يا رسول الله
وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه بلفظ: قال رجل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد علمناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأحمد، والنسائي من حديث طلحة بن عبيد الله قال: قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وفي الأحاديث اختلاف، ففي بعضها على إبراهيم فقط، وفي بعضها على آل إبراهيم فقط، وفي بعضها بالجمع بينهما، كحديث طلحة هذا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك: فقال رسول الله - ﷺ - قولوا: اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، وفي بعضها التقييد بالصلاة كما في حديث ابن مسعود عند ابن خزيمة والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه أن رجلاً قال: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا الحديث.
وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله وجميع التعليمات
قال القرطبي: وبهذا قال جمهور العلماء، وقال عكرمة الأذية لله سبحانه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها، وقال جماعة إن الآية على حذف مضاف والتقدير: إن الذين يؤذون أولياء الله، وقيل: معنى الأذية الإلحاد في أسمائه وصفاته وأما أذية رسوله فهي كل ما يؤذيه من الأقوال والأفعال، ومنه ترك الاتباع، وفعل التقليد لآراء الرجال
(لعنهم الله) معنى اللعنة الطرد والإبعاد من رحمته، وجعل ذلك (في الدنيا والآخرة) لتشملهم اللعنة فيهما بحيث لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم مصاحبة لهم.
(وأعد لهم) مع ذلك اللعن (عذاباً مهيناً) يصيرون به في الإهانة في الدار الآخرة، لما يفيده معنى الإعداد من كونه في الدار الآخرة، عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في الذين طعنوا على النبي (- ﷺ -) حين اتخذ صفية بنت حي، وروي عنه: أنها نزلت في الذين قذفوا عائشة، ثم لما فرغ من الذم لمن آذى الله ورسوله ذكر الأذية لصالحي عباده فقال:
(فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) أي ظاهراً واضحاً لا شك في كونه من البهتان والإثم، وقد تقدم بيان حقيقة البهتان وحقيقة الإثم. قيل: إنها نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه. وقيل نزلت في شأن عائشة وقيل نزلت في الزناة كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء وهن كارهات، وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات ولما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده، أمر رسول الله (- ﷺ -) أن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال:
(ذلك) أي إدناء الجلابيب وهو مبتدأ وخبره (أدنى) أقرب (أن يعرفن) فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر (فلا يؤذين) من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن، وليس المراد بقوله ذلك إلخ أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن لبسن لبسة تختص بالحرائر.
قال السبكي: في الطبقات الكبرى إن من أئمة الشافعية أحمد بن عيسى
أقول ما أبرد هذا الاستنباط وما أقل نفعه، لا سيما بعد ما ورد في السنة المطهرة من النهي عن الإسراف في اللباس وإطالته، وقد منع عن ذلك سلف الأمة وأئمتها فأين هذا من ذاك؟ وإنما هو بدعة أحللها علماء السوء ومشايخ الدنيا ولذا قال علي القاري في معرض الذم: " لهم عمائم كالأبراج، وكمائم كالأخراج " وأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار، وما ذكره من أن زي العلماء والأشراف سنة رده ابن الحاج في المدخل بأنه مخالف لزيهم في زمن النبي (- ﷺ -) وزمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من خير القرون، فإن قيل إنهم به يعرفون، قيل إنهم لو بقوا على الزي الأول عرفوا به أيضاًً لمخالفته لما عليه غيرهم الآن وأطال في إنكار ما قالوه، وقد بسطنا القول على ذلك في حجج الكرامة بالفارسية أيضاًً فراجعه.
(وكان الله غفوراً) لما سلف من ترك إدناء الجلابيب (رحيماً). بهن أو غفوراً لذنوب المذنبين رحيماً بهم، فيدخل في ذلك دخولاً أولياً.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر فقال: يا سودة أما والله ما يخفين علينا فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله (- ﷺ -) في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق، فدخلت وقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال عمر: كذا وكذا فأوحي إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن.
وعن أبي مالك قال: كان نساء النبي (- ﷺ -) يخرجن لحاجتهن بالليل وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فَيَؤبْن فقيل ذلك للمنافقين فقالوا: إنما
وعن محمد بن كعب القرظي قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن فإذا قيل له قال كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمر وجهها إلا إحدى عينيها ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، يقول ذلك أحرى أن يعرفن.
وعن ابن عباس في هذه الآية قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة، وعن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها هكذا في الرواية بلفظ: من السكينة، وليس لها معنى فإن المراد تشبيه الأكسية السود الغربان لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال: كأن على رؤوسهن الطير.
وعن عائشة قالت: رحم الله نساء الأنصار لما نزلت: (يا أيها النبي قل لأزواجك) الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله - ﷺ - كأن على رؤوسهن الغربان.
وعن ابن عباس في الآية قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها.
قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع تتشبهين بالحرائر ألقي القناع، قلت: ولكاع كلمة تقال لمن يستحقر به مثل العبد، والأمة، والخامل، والقليل العقل، مثل قولك: يا خسيس، وذلك أن النساء في أول الإسلام على هاجراتهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار لا فصل بين الحرة والأمة.
وكان الفتيان يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيمان - للإماء، وربما تعرضوا للحرة لحسبان الأمة فأُمرن أن يخالفن بزيهن
قال القرطبي: أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشىء واحد، والمعنى أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين فهو على هذا من باب قوله:
إلى الملك القرم وابن الهما | م وليث الكتيبة في المزدحم |
(لنغرينك بهم) أي لنحرشنك ولنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك، قال المبرد: قد أغراه الله بهم في قوله الآتي:
(ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً) وإنما عطف بثم لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه يعني أنها للتفاوت الرتبي والدلالة على أن ما بعدها أبعد مما قبلها، وأعظم وأشد عندهم، والمعنى لا يساكنونك في المدينة إلا جواراً قليلاً حتى يخرجوا أو يهلكوا.
(ملعونين أينما ثقفوا) أي مطرودين أينما وجدوا وأدركوا (أخذوا وقتلوا تقتيلاً) دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا، والتشديد يدل على التكثير وقيل: إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم، والأول أولى، وقيل معنى الآية: أنهم إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون ملعونون.
وقد فعل بهم - ﷺ - هذا فإنه لما نزلت سورة براءة جمعوا، فقال: النبي (- ﷺ -): " يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد ".
(ولن تجد لسنة الله تبديلاً) أي تحويلاً وتغييراً، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف، يجريها الله مجرى واحداً في الأمم لإثباتها على أساس الحكمة التي عليها يدور فلك التشريع، وقال الخطيب: أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ، فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار فلا تنسخ.
(وما يدريك) أي ما يعلمك ويخبرك يا محمد (لعل الساعة تكون قريباً) أي في زمان قريب وانتصاب قريباً على الظرفية والتذكير لكون الساعة في معنى اليوم، أو الوقت مع كون التأنيث ليس بحقيقي، والخطاب لرسول الله ﷺ لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها -وهو رسول الله ﷺ - فكيف بغيره من الناس وفي هذا تهديد عظيم للمستعجلين وإسكات للممتحنين والمشركين؛ ولمن يثبت علم المغيبات للأنبياء والصلحاء وغيرهم من الخلق.
(يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) الجملة مستأنفة كأنه قيل فما حالهم؟ فقيل يقولون: متحسرين على ما فاتهم أو حال من ضمير وجوههم أو من نفس الوجوه تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول وآمنوا بما جاء به لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون وهذه الألف في (الرسولا) والتي تأتي في (السبيلا) هي الألف التي تقع في الفواصل، وتسميها النحاة ألف الإطلاق، لإطلاق الصوت كقوافي الشعر، وفائدتها الوقوف والدلالة على أن الكلام قد انقطع وأن ما بعده مستأنف، وقد سبق بيان هذا في أول هذه السورة.
وفي هذا زجر عن التقليد شديد، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه لا لمن هو من جنس الأنعام في سوء الفهم، ومزيد البلادة، وشدة التعصب.
(فأضلونا السبيلا) أي عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله وبرسله والسبيل هو التوحيد، ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا:
وعن ابن مسعود مثله، فذكر ذلك للنبي ﷺ فاحمر وجهه، ثم قال: [رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر]. أخرجه
(فبرأه) أي طهره (الله مما قالوا) وأظهر براءته لهم وما مصدرية أو موصولة وأيهما كان، فالمراد البراءة عن مضمون القول ومؤداه، وهو الأمر المعيب وأذى موسى هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها.
وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شىء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أُدْرَةٌ، وإما آفة وإن الله عز وجل أراد أن يبرىء موسى مما قالوا فخلا يوماً وحده، فخلع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً].
وأخرج نحوه البزار وابن الأنباري وابن مردويه من حديث أنس وقال ابن عباس: قال له قومه إنه آدر فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على حجر فخرجت الصخرة تشتد بثيابه فخرج موسى يتبعها عرياناً حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل فرأوه وليس بآدر فذلك قوله: (فبرأه الله مما قالوا) الآية.
وأخرج الحاكم وصححه، عن ابن مسعود وناس من الصحابة أن الله أوحى إلى موسى أني متوف هارون فأت به جبل كذا وكذا فانطلقا نحو الجبل فإذا هم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيب، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، قال موسى: إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال: نم عليه، قال نم معي فلما ناما أخذ هارون الموت فلما قبض
فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: قتل هارون وحسده حب بني إسرائيل، وكان هارون أَأْلَف بهم وألين لهم، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه (وكان عند الله وجيهاً) أي عظيماً ذا وجاهة، والوجيه العظيم القدر الرفيع المنزلة، يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه، وقيل: مستجاب الدعوة، وقيل: الوجاهة أنه كلمه تكليماً، وقرأ عبد الله بالموحدة من العبودية، وهي حسنة، قاله الكرخي.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال: [صلى بنا رسول الله - ﷺ - صلاة الظهر ثم قال: على مكانكم اثبتوا ثم أتى الرجال فقال: إن الله أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وأن تقولوا قولاً سديداً، ثم أتى النساء فقال: إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله، وأن تقلن قولاً سديداً]، ثم ذكر الله سبحانه ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر فقال:
(فقد فاز فوزاً عظيماً) أي ظفر بالخير ظفراً عظيماً ونال خير الدنيا والآخرة وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، ثم لا فرغ سبحانه من بيان ما هو لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها فقال:
وقال السدي: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل وخيانته إياه في قتله وما أبعد هذا القول، وليت شعري ما هو الذي سوغ للسدي تفسير هذه الآية بهذا؟ فإن كان ذلك لدليل دله على ذلك فلا دليل، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد، وأوهن من بيت العنكبوت، وإن كان تفسير هذا عملاً بما تقتضيه اللغة العربية فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شىء كان في أول هذا العالم.
وإن كان هذا تفسيراً منه بمحض الرأى فليس الكتاب العزيز عرضة لتلاعب آراء الرجال به، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير، واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية فهو قرآن عربي كما وصفه الله، فإن جاءك تفسير عن رسول الله - ﷺ -. فلا تلتفت إلى غيره. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات الشرعية، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب، فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها، فخذ هذه كلية تنتفع بها، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا.
قال الحسن: إن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فقالت:
وقيل: هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها كذا قال بعض المتكلمين مفسراً للقرآن برأيه الزائف، فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا، قال جماعة من العلماء: ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب فلا بد من تقدير الحياة فيها، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة لأمره ساجدة له، وقيل: المراد بالعرض هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها، وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل أي أن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب أي أن التكليف أمر عظيم حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل وهذا كقوله (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل).
وقيل: إنا عرضنا بمعنى عارضنا أي عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها، وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال، إنما كان من آدم عليه السلام وإن أمره أن يعرض ذلك عليها وهذا أيضاً تحريف لا تفسير، وقد قيل: إن المراد بالأمانة العقل، والراجح ما قدمناه عن الجمهور وما عداه فلا يخلو عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي، ولا انطباقه على ما يقتضيه الشرع، ولا موافقته لما تقتضيه التعريف بالأمانة.
وعنه في الآية قال: عرضت على آدم فقيل خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك، وإن عصيت عذبتك، قال: قبلتها بما فيها فما كان إلا ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الذنب، وعنه: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً، ولا معاهداً في شيء لا في قليل ولا في كثير، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف.
وإنما أتى في قوله فأبين إلخ بضمير كضمير الإناث لأن جمع تكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك، وإن كان مذكراً وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث وهو السموات على المذكر وهو الجبال.
(وحملها الإنسان) أي التزم بحقها وهو آدم بعد عرضها عليه؛ قيل إن ما كلف الإنسان حمله بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله تعالى من الأجرام وأقواه وأشده أن يحتمله ويشتغل به فأبى حمله وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه وضعف قوته.
قال الزجاج: معنى حملها خان فيها وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة. وقيل: معنى حملها كُلِّفْها وألْزِمْها أو صار مستعداً لها بالفطرة أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذر، عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم.
(إنه كان ظلوماً جهولاً) أي وهو في ذلك الحمل ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير أو جهول بأمر ربه كما قال الحسن، وقيل ظلوماً حين عصى ربه، جهولاً لا يدري ما العقاب
(ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات) لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكلٍ من مقامي الوعيد والوعد حقه والله أعلم. أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة. قال ابن قتيبة: أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك. فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات، ولذلك ذكر بلفظ التوبة فدل على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب.
(وكان الله غفوراً) أي كثير المغفرة للمؤمنين التائبين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم من الأمانة وغيرها حيث عفا عن فرطانهم.
(رحيماً) بهم حيث أثابهم بالعفو على طاعتهم، مكرماً لهم بأنواع الكرم وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الأمانة وذكر رفعها عن القلوب عند قرب الساعة فلا نطول بذكرها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة سبأقال القرطبي: في قول الجميع إلا آية واحدة اختلف فيها وهي قوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ)، فقالت فرقة: هي مكيّة. وقالت فرقة: هي مدنية، وسيأتي الخلاف في معنى هذه الآية إن شاء الله تعالى، وفيمن نزلت. وعن ابن عباس قال: نزلت سورة سبأ بمكة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٣)