تفسير سورة الأحزاب

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين... ﴾ [ الأحزاب : ١ ]. لم يقل في ندائه " يا محمد " كما قال في نداء غيره " يا موسى، يا عيسى، يا داود " بل عدل إلى ﴿ يا أيها النبي ﴾ إجلالا له وتعظيما، كما قال :﴿ يا أيها الرسول ﴾ [ المائدة : ٤١ ] وإنما عدل عن وصفه إلى اسمه في الإخبار عنه في قوله :﴿ محمد رسول الله ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] وقوله :﴿ وما محمد إلا رسول ﴾ [ آل عمران : ١٤٤ ] ليعلم الناس أنه رسول الله، ليُلقّبوه بذلك ويدعوه به( ١ ).
١ - لا نجد في كتاب الله تعالى آية واحدة تقول: يا محمد، كما نادى الله الرسل بأسمائهم: "يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى"، وإنما جاء النداء له بلفظ النبوة، أو الرسالة، وفي هذا تفخيم لشأنه، وتعظيم لمقامه صلى الله عليه وسلم، وإشارة إلى أنه سيد الأولين والآخرين، وإمام الأنبياء والمرسلين، وتعليم لنا الأدب معه صلى الله عليه وسلم..
قوله تعالى :﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم... ﴾ [ الأحزاب : ٦ ]، أي في الحرمة والاحترام، وإنما جعلهن الله كالأمهات، ولم يجعل نبيّه كالأب، حتى قال :﴿ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ﴾ [ الأحزاب : ٤٠ ] لأنه تعالى أراد أن أمته، يدعون أزواجه بأشرف ما تُنادى به النساء وهو الأمّ، وأشرف ما ينادى به النبيّ صلى الله عليه وسلم لفظ " الرسول " لا الأب، ولأنه تعالى جعلهن كالأمهات، إجلالا لنبيّه، لئلا يطمع أحد في نكاحهن بعده، ولو جعله أبا للمؤمنين، لكان أبا للمؤمنات أيضا فيحرُمن عليه، وذلك ينافي إجلاله وتعظيمه، ولأنه تعالى جعله أولى بنا من أنفسنا، وذلك أعظم من الأب في القرب والحرمة، إذ لا أقرب للإنسان من نفسه، ولأن من الآباء من يتبرأ منه ابنه، ولا يمكنه أن يتبرأ من نفسه.
قوله تعالى :﴿ وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح... ﴾ [ الأحزاب : ٧ ] الآية، فيها عطف الخاص على العام، وقُدِّم النبي صلى الله عليه وسلم في الذكر، على مشاهير الأنبياء، لبيان شرفه وفضله عليهم، صلى الله وسلم عليهم أجمعين، وإنما قُدّم نوح في آية ﴿ شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا ﴾ [ الشورى : ١٣ ] لأنها سيقت لوصف ما بُعث به نوح من العهد القديم، وما بُعث بن نبيّنا من العهد الحديث، وما بُعث به من توسّطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوح فيها أشدّ مناسبة للمقصود.
قوله تعالى :﴿ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ﴾ [ الأحزاب : ٧ ].
فائدة إعادته التأكيد، أو المراد بالميثاق الغليظ : هو اليمين بالله تعالى، على الوفاء بما حُمِّلوا، وعليه فلا إعادة لاختلاف الميثاقين.
قوله تعالى :﴿ ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم ﴾ [ الأحزاب : ٢٤ ].
إن قلتَ : كيف علّق عذابهم بمشيئته، مع أن عذابهم متيقّن الوقوع، لقوله تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ ؟   ! [ النساء : ١٤٥ ].
قلتُ : معناه إن شاء عذابهم –وقد شاء- أو إن شاء موتهم على النفاق.
قوله تعالى :﴿ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبيّنة... ﴾ [ الأحزاب : ٣٠ ] الآيتين.
المراد بالفاحشة : النشوز، وسوء الخلق( ١ ).
إن قلتَ : لم خصّ الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بتضعيف العقوبة على الذّنب، والمثوبة على الطاعة ؟
قلتُ : أما الأول فلأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة عن الذنوب، ما لا يشاهده غيرهن، ولأن في معصيتهن أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذنب من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من ذنب غيره.
وأما الثاني : فلأنهن أشرف من سائر النساء، لقربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت الطاعة منهن أشرف، كما أن المعصية منهن أقبح.
١ - المراد بالفاحشة كما قال ابن عباس: النشوز – يعني العصيان- وسوء الخلق، وليس المراد بها فاحشة الزنى، لأن الله صان نساء الأنبياء عن ذلك..
﴿ إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات... ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ] الآية.
إن قلتَ : لم عطف أحدهما على الآخر، مع أنهما متحدان شرعا ؟   !
قلتُ : ليسا بمتّحدين مطلقا، بل هما متّحدان صدقا لا مفهوما، أخذا من الفرق بين الإسلام والإيمان الشرعيين، إذ الإسلام الشرعيّ : هو التلفظ بالشهادتين، بشرط تصديق القلب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان الشرعيّ : عكس ذلك، ويكفي في العطف المقتضي للاختلاف، اختلافهما مفهوما وإن اتّحدا صدقا.
قوله تعالى :﴿ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيئين... ﴾ [ الأحزاب : ٤٠ ] الآية، هو جواب عن سؤال مقدّر، تقديره : أمحمد أبو ( زيد بن حارثة ) ؟ فأُجيب بنفي الأعمّ، المستلزم لنفي الأخصّ، إذ لو اقتصر على قوله : ما كان محمد أبا زيد لقيل : وماذا يلزم منه ؟ فقد كان للأنبياء أبناء، فجيء بنفي الأعمّ تمهيدا للاستدراك، بأنه رسول الله وخاتم النبيئين.
إن قلتَ : كيف صحّ نفي الأبوة عنه، وكان أبا للطيّب، والطاهر، والقاسم، وإبراهيم ؟
قلتُ : قد قيّد النفي بقولهك ﴿ من رجالكم ﴾، لأن إضافة الرجال إلى المخاطبين، تخرج أبناءه، لأنهم رجاله لا رجالهم، ولأن المفهوم منهم بقرينة المقام الرجال البالغون، وأبناؤه ليسوا كذلك، إذ لو كان له بالغ لكان نبيا، فلا يكون هو خاتم النبيّين.
فإن قلتَ : كيف قال تعالى :﴿ وخاتم النبيئين ﴾ وعيسى( ١ ) عليه السلام ينزل بعده، وهو نبيّ ؟
قلت : معنى كونه ﴿ وخاتم النبيئين ﴾ أنه لا يتنبّأ أحد بعده، وعيسى نبيّ قبله، وحين ينزل يكون عاملا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
١ - عيسى عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان، لا يكون قد أتى بشريعة جديدة، وليس هو بنبي جديد حتى لا تُختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يأتي مؤيدا لشريعة محمد، ويحكم بالشريعة الإسلامية الغراء، فهو رسول مؤيد لمحمد، لا مجدّد للنبوة والرسالة..
قوله تعالى :﴿ وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ﴾ [ الأحزاب : ٤٦ ].
إن قلتَ : كيف شبّه الله تعالى نبيّه بالسراج دون الشمس مع أنها أتمّ ؟
قلتُ : المراد بالسّراج هنا : الشمس، كما قال تعالى :﴿ وجعل الشمس سراجا ﴾ [ نوح : ١٦ ]. أو شبّهه بالسراج، لأنه تفرّع منه بهدايته جميع العلماء، كما يتفرع من السراج سُرُج لا تُحصى، بخلاف الشمس.
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلّقتموهنّ... ﴾ [ الأحزاب : ٤٩ ] الآية.
التقييد بالمؤمنات، خرج مخرج الغالب، وإلا فالكتابيات مثلهن فيما ذُكر في الآية.
قوله تعالى :﴿ وبنات عمّك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك... ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ] الآية. أفرد العمّ والخال، وجمع العمات والخالات، لأن العم والخال بوزن مصدرين وهما " الضمّ " و " المال " والمصدر يستوي فيه المفرد والجمع، بخلاف العمة والخالة، ولا يرد على ذلك جمع العم والخال في قوله في النور :﴿ أو بيوت أعمامكم أو بيوت أخوالكم ﴾ [ النور : ٦١ ] لأنهما ليسا مصدرين حقيقة، فاعتُبر هنا حقيقتُهما، وثَمَّ شَبَههما.
قوله تعالى :﴿ لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن... ﴾ [ الأحزاب : ٥٥ ].
إن قلتَ : كيف ذكر فيها الأقارب، ولم يذكر العمّ والخال، مع أن حكمهما حكمهم، في رفع الجُناح ؟   !
قلتُ : قد مرّ مثل هذا السؤال وجوابه، في قوله :﴿ ولا يبدين زينتهن ﴾ [ النور : ٣١ ] الآية، فراجعه.
قوله تعالى :﴿ وقالوا ربّنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ ] عطف الأول على الثاني، مع أنهما بمعنى، لتغايرهما لفظا، كقولهم : فلان عاقل لبيب، وقول الشاعر :
معاذ الله من كذب ومَيْنٍ( ١ )
وتقدّم نظيره.
١ - سقطت هذه الكلمة من مخطوطة الجامعة..
قوله تعالى :﴿ فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ].
إن قلتَ : الإنسان هنا آدم عليه السلام( ١ )، فكيف وصفه بظلوم وجهول، وهما صفتا مبالغة ؟
قلتُ : لأن لجلالة قدره، ورفعة محلّه، كان ظلمه لنفسه –بما حمله، وجهله به وإن قلّ- أفحش من غيره، أو لتعدّي ضررهما لجميع الناس، لإخراجهم من الجنة بواسطته.
١ - الراجح أن لفظ الإنسان، لا يراد به آدم عليه السلام، بل المراد الجنس، أي تحمّل هذه الأمانة الثقيلة هذا الإنسان الضعيف، وكان غِرّا مبالغا في الجهل بعواقب الأمور. اﻫ التفسير الواضح الميسر..
Icon