تفسير سورة الأحزاب

معاني القرآن
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

وقوله :﴿ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ ( قال الفراء ) يقول القائل فِيمَ أُمِر النبي صَلى الله عليه وسلم بالتقوى.
فالسَّبب في ذلك أنّ أبا سُفيان بن حَرْب وعِكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السُّلَمى قدموا إلى المدينة، فنزلوا على عبد الله بن أُبَىّ بن سَلُول ونظرائه مِن المنافقينَ، فسَألُوا رسول الله أشياء يكرهها، فهمّ بهم المسلمون فنزل ﴿ يَا أَيُّها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ في نقض العهد ؛ لأنه كانت بينهم موادَعة فأُمر بأَلاّ ينقض العهد ﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ﴾ من أهْل مكَّة ﴿ وَالْمُنافِقِينَ ﴾ من أهل المدينة فيما سألوك.
وقوله :﴿ ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ٤ ﴾ إنما جرى ذكر هذا لِرجل كان يقال له جَمِيل بن أوس ويكنى أبا معمرٍ. وكان حَفِظاً للحديث كثيرهُ، فكان أهل مكّة يقولون : له قلبان وعقَلان من حفظه فانهزم يوم بدر، فمَرّ بأبي سُفيان وهو في العِير، فقال : ما حالُ الناس يا أبا معمرٍ ؟ قال : بين مقتولٍ وهارب. قال : فما بَالُ إحدى نعليكَ في رجلك والأخرى في يدك ؟ قال : لقد ظننت أنهما جميعاً في رِجليّ ؛ فعلم كذبهم في قولهم : له قلبانِ. ثم ضم إليه ﴿ وَما جَعَلَ ﴾.
وقوله :﴿ وَما جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ ٤ ﴾ أي هذا باطل ؛ كما أن قولكم في جَميل باطل. إذا قال الرجل : امرأته عليه كظهر أُمّه فليسَ كذلكَ، وفيه من الكفّارة ما جَعَل الله. وقوله ﴿ تُظَاهِرُونَ ﴾ خفيفة قرأها يحيى بن وثّاب. وقرأها الحسن ( تُظَهِّرُونَ ) مشدّدةً بغير ألفٍ. وقرأها أهل المدينة ( تَظَّهَّرون ) بنصب التاء، وكلّ صَوَاب معناه متقارِب العرب تقول : عَقّبت وعاقبت، ﴿ وَعَقَّدتُمُ الأيمانَ ﴾ و ﴿ عَاقَدْتُمْ ﴾ ﴿ ولا تُصعِّرْ خَدَّكَ ﴾ و﴿ لا تُصَاعِرْ ﴾ اللهمّ لا تُرَاءبى، وتُرأبِّى. وقد قرأ بذلك قوم فقالُوا :﴿ يُرَاءونَ ﴾ و ﴿ يُرَءُّون ﴾ مثل يُرَعُّونَ. وقد قرأ بعضهم ﴿ تَظَاهَرُونَ ﴾ وهو وجه جَيّد لا أعرف إسْناده.
وقوله :﴿ وَما جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْناءكُمْ ﴾.
كان أهل الجاهليّة إذا أعجب أحدَهم جَلَدُ الرجل وظُرْفُه ضمَّه إلى نفسِهِ، وَجَعَل له مثلَ نصيب ذَكَر من ولده من ميراثه. وكانوا يُنسبون إليهم، فيقال : فلان بن فلان للذي أقطعه إليه. فقال الله ﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾. وهو بَاطل ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ﴾ غير ما قلتم.
ثم أمرهم فقال :﴿ ادْعُوهُمْ لآبَائهِمْ ٥ ﴾ أي انسُبوهم إلى آبائهم. وقوله ﴿ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءهُمْ ﴾ فانسبوهم إلى نسبة مواليكم الذين لا تعرفونَ آباءهم : فلان بن عبد الله، بن عبد الرحمن ونحوه.
وقوله :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ﴾ فيما لمْ تقصدُوا له منَ الخطأ، إنما الإثم فيما تعمَّدتُم. وقوله ﴿ وَلكن ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ ( ما ) في موضع خفض مردودة على ( ما ) التي مع الخَطأ.
وقوله :﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ٦ ﴾
وفي قراءة عَبْد الله أو أُبىّ ( النَّبيُّ أَوْلَى بالمؤمنينَ من أنفسهم وهو أب لهم )، وكذلك كلّ نبيّ. وجرى ذلكَ لأن المسْلمينَ كانوا متواخينَ، وكان الرجل إذا مات عن أخيه الذي آخاه وَرِثه دون عَصَبته وقرابته فأنزل الله ﴿ النَّبيّ أَوْلَى مِنَ ﴾ المسْلمينَ بهذه المنزلة، وليس يرثهم، فكيفَ يرث المواخى أخاه ! وأنزل ﴿ وَأُوْلُو الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ في الميراث ﴿ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ أي ذلكَ في اللوح المحفوظ عند الله.
وقوله ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ﴾. إن شئت جعلت ( من ) دخلت ل ( أولى ) بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين بعضِهم ببعض، وإنْ شئت جعلتها - يعنى مِن - يراد بها : وأولو الأرحام مَن المؤمنينَ والمهاجرينَ أولى بالميراث.
وقوله :﴿ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْها ٩ ﴾ يريد : وَأرسَلنا جُنُوداً لم تروها من الملائكة. وهذا يوم الخَنْدق وهو يوم الأحزاب.
وقوله :﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ ١٠ ﴾ مما يلي مكَّة ﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ مما يلي المدينة. وقوله ﴿ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ﴾ : زاغت عن كلّ شيء فلم تلتفِت إلا إلَى عَدُوّها. وقوله ﴿ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ﴾ ذُكر أَن الرجل منهم كانت تنتفخ رئته حتى ترفع قلبه إلى حنجرته من الفزع. وقوله ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونا ﴾ ظنون المنافقينَ.
ثم قال الله :﴿ هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ١١ ﴾.
يقول : حُرِّكُوا تحريكاً إلى الفتنة فعُصِمُوا.
وقوله :﴿ ما وَعَدَنا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ١٢ ﴾ وهذا قول مُعَتِّب بن قُشِير الأنصاري وحده. ذكروا أَن رسول الله صلى الله عَليه وسَلم أخذ مِعْولاً من سَلْمان في صخرة اشتدّت عليهم، فضربَ ثلاث ضَرَبات، مع كل واحدة كلَمْع البَرْق. فقال سلمان : والله يا رسول الله لقد رأيتُ فيهنّ عَجَباً قال فقال النبي عَليه السَّلام : لقد رأيْتُ في الضربة الأولى أبيض المدائن، وفي الثانية قصُورَ اليمن، وفي الثالثة بلاد فارسُ والرُّوم. وليفتحنَّ الله على أمَّتي مبلغ مَدَاهُنّ. فقال معتِّبٌ حين رَأى الأحزاب : أيَعِدُنا محمَّد أن يُفتح لنا فارسُ والرُّوم وَأَحَدُنا لا يقدر أن يضرب الخَلاء فَرَقاً ؟ ما وَعدنا الله ورسوله إلا غروراً.
وقوله :﴿ لاَ مَقَامَ لَكُمْ ١٣ ﴾ قراءة العَوامّ بفتح الميم ؛ إلا أبا عبد الرحمن فإنه ضَمَّ الميم فقال ( لاَ مُقَامَ لَكُمْ ) فمن قال ﴿ لا مَقامَ ﴾ فكأنه أراد : لا موضع قيامٍ. ومن قرأ ﴿ لا مُقامَ ﴾ كأنه أراد : لا إقامة لكم ( فَارْجِعُواْ ).
كلّ القراء الذين نعرف على تسكين الواو ( عَوْرَةٌ ) وذُكر عن بعض القراء أَنه قَرأ ( عَوِرة ) على ميزان فَعِلة وهو وجه. والعرب تقول : قد أَعور منزلُك إذا بدت منه عَوْرة، وأَعور الفارسُ إذا كان فيه موضع خَلَل للضرب. وأنشدني أبو ثَرْوانَ.
لَهُ الشَّدَّةُ الأُولى إذا القِرنُ أَعورَا ***...
يعنى الأسد. وإنما أرادوا بقولهم : إن بيوتنا عورة أي مُمْكِنة للسُرَّاق لخلوتها من الرجال. فأكذبهم الله، فقال : ليست بِعورة.
وقوله :﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِها ١٤ ﴾
يعنى نواحي المدينة ﴿ ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ ﴾ يقول : الرجوع إلى الكفر ﴿ لآتَوْها ﴾ يقول. لأعطَوُا الفتنة. فقرأ عاصم والأعمش بتطويل الألف. وقَصَرها أهلُ المدينة :﴿ لأَتَوْها ﴾ يريد : لفعلوها. والذين طَوَّلوا يقولونَ : لما وقع عليها السؤال وقع عليها الإعطاء ؛ كما تقول : سألتني حاجَةً فأعطيتُك وآتيتكها.
وقد يكون التأنيث في قوله ﴿ لآتَوْها ﴾ للفَعْلة، ويكون التذكير فيه جائزاً لو أتى، كما تقول عند الأمرْ يفعله الرجل : قد فعلتَها، أما والله لا تذهب بها، تريد الفَعْلة.
وقوله :﴿ وَما تَلَبَّثُواْ بِها إِلاَّ يَسِيراً ﴾ يقول : لم يكونوا ليلبثوا بالمدينة إلا قليلاً بعد إعطاء الكفر حتى يهلكوا.
وقوله :﴿ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ ١٦ ﴾ مرفوعة ؛ لأنَّ فيها الواوَ وإذا كانت الواو كان في الواو فعل مضمر، وكان معنى ( إذاً ) التأخير، أي ولو فعلوا ذلكَ لا يلبثونَ خلافك إلا قليلاً إذاً. وهي في إحدى القِراءتْين ( وإذاً لا يَلْبَثوا ) بطرح النون يراد بها النصب. وذلك جائز، لأنَّ الفعل متروك فصارت كأنها لأوَّل الكلام، وإن كانت فيها الواو. والعرب تقول : إذاً أكسِرَ أنفك، إذاً أضربَكَ، إذاً أغُمَّكَ إذَا أجابوا بها متكلّما. فإذا قالوا : أَنا إِذاً أضرِبُكَ رفعوا، وجَعَلوا الفعل أولى باسمه من إذاً ؛ كأنَّهُمْ قالوا : أضربك إذاً ؛ ألا ترى أنهم يقولونَ : أظنُّك قائما، فيُعملونَ الظنَّ إذا بدءُوا به /١٤٧ ب وإذا وقع بين الاسم وخبره أبطلوه، وإذا تأخّر بعد الاسم وخبره أبطلوه. وكذلك اليمين يكون لَها جَواب إذا بُدئ بها فيقال : والله إنك لعاقل، فإذا وقعت بين الاسم وخبره قالوا : أنت والله عاقل. وكذلكَ إذا تأخّرَت لم يكن لها جَواب ؛ لأنَّ الابتداء بغيرها. وقد تنصِب العربُ بإذاً وهي بين الاسم وخبره في إنَّ وحدها، فيقولون : إني إذاً أضربَك، قالَ الشاعر :
لا تَترُكنِّي فيهُم شطيراً إني إذاً أهلِكَ أوْ أطيرَا
والرفع جائز. وإنما جاز في ( إنّ ) ولم يجز في المبتدأ بغير ( إنّ ) لأن الفعل لا يكون مقدَّما في إنَّ، وقد يكون مقدّما لو أسْقطت.
وقوله :﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ١٩ ﴾ منصوب على القطع، أي مِنَ الأسْماء التي ذُكرِت : ذكر منهم. وإن شئتَ من قوله :﴿ يعوِّقونَ ﴾ ها هنا عند القتال ويشحّون عن الإنفاق على فقراء المسْلمينَ. وإن شئت من القائلينَ لإخوانهم ( هَلُمّ ) وهم هَكَذا. وإن شئت مِنْ قوله :﴿ وَلاَ يأْتُونَ البأسَ إلا قلَيلاً أشِحَّةً ﴾ يقول : جُبناء عند البَأْس أشِحَّةً عند الإنفاق على فقراء المسْلمينَ. وهو أحبّها إلىّ. والرفع جَائز على الائتناف ولم أسمَعْ أحداً قرأ به و ( أشحَّة ) يكون على الذمّ، مثل ما تنصب من الممدوح على المدح ؛ مثل قوله ﴿ مَلْعُونِينَ ﴾.
وقوله :﴿ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾. آذَوكم بالكلام عند الأمن ﴿ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ : ذَرِبةٍ. وَالعربُ تقول : صَلَقُوكم. ولا يجوز في القراءة لمخالفتها إيّاهُ : أنشدني بعضهم :
أصْلقَ نابَاه صِيَاح العُصْفورْ إنْ زَلّ فوه عن جَواد مئشير
وذلكَ إذا ضربَ النابُ الناب فسمعْتَ صَوته.
وقوله :﴿ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائكُمْ ٢٠ ﴾ عن أنباء العسكر الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأها الحسنُ ( يَسَّاءلون ) والعَوَامّ على ( يَسْألونَ ) لأنهم إنما يَسْألون غيرهم عن الأخبارِ، وليسَ يسأل بعضُهم بعضاً.
وقوله :﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ ٢١ ﴾
كان عاصم بن أبى النَجُود يقرأ ( أُسْوة ) برفع الألف في كلّ القرآن وكان يحيى بن وثّاب يرفع بعضاً ويكسر بعضاً. وهما لغتان : الضَمْ في قيس. والحسنُ وَأَهْل الحجاز يقرءونَ ( إسْوَةٌ ) بالكسر في كلّ القرآن لا يختلفون. ومعنى الأُِسوة أنهم تَخلّفوا عنه بالمدينة يوم الخندق وهم في ذلك يحبّون أن يظفر النَّبيُّ صلى الله عليه وسم إشفاقاً على بلدتهم، فقال : لقد كَانَ في رَسُول الله أُسْوة حَسَنة إذ قاتل يوم أُحُد. وذلك أيضاً قوله ﴿ يَحْسَبُون الأحزْابَ لَمْ يَذْهَبُوا ﴾ فهم في خَوف وفَرَق ﴿ وإنْ يَأْتِِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ في الأَعراب ﴾ ( يقول في غير المدينة ) وفي في قراءة عَبد الله ( يحسبونَ الأحزابَ قد ذهبُوا، فإذا وجدوهم لم يذهَبُوا وَدُّوا لو أنهم بادُونَ في الأعراب ).
وقوله ﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ ﴾ خَصَّ بها المؤمنِين. ومثله في الخصوص قوله :﴿ فَمَنْ تَعَجّلَ في يَوْمَيْنِ فلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّر فَلاَ إثمَ عَليه ﴾ هذا ﴿ لمنْ اتّقَى ﴾ قتل الصيَّد.
وقوله :﴿ وَلَما رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ ٢٢ ﴾ صَدَّقوا فقالوا ﴿ هذَا ما وَعَدَنا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ كان النبي عليه السلام قد أخبرهم بمسِيرهم إليهم فذلك قوله ﴿ وَما زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمانا وَتَسْلِيما ﴾ ولو كانت وما زادوهم يريد الأحزاب.
وقوله :﴿ وَما زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمانا ﴾ أي ما زادهم النظر / ١٤٨ ا إلى الأحزاب إلاّ إيمانا.
وقال في سورة أُخرى :﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً ﴾ ولو كانت : ما زادكم إلا خبَالاً كان صَوَاباً، يريد : ما زادكم خروجهم إِلاَّ خَبَالاً. وهذا من سعة العربيَّة التي تَسْمَع بها.
وقوله :﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ ما عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ٢٣ ﴾ رفع الرجال ب ( مِنْ ) ﴿ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ ﴾ : أجله. وهذا في حمزة وأَصْحابه.
وقوله :﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ ٢٥ ﴾
وقد كانوا طمِعُوا أَنْ يَصْطلمُوا المسلمين لكثرتهم، فسَلَّط الله عليهم رِيحا باردةً، فمنعت أحدهم من أن يُلجم دابَّته. وجَالت الخيل في العسكر، وتقطعتْ أطْنابهم فهزمهم الله بغير قتال، وضربتهم الملائكة.
فذلك قوله :﴿ إذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عليهمْ رِيحا وجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ﴾ يعنى الملائكة.
وقوله :﴿ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ٢٦ ﴾ هؤلاء بنو قُرَيظة. كانوا يهوداً، وكانوا قد آزروا أهل مَكّة على النبيّ عليه السلام. وهي في قراءة عبد الله ( آزروهم ) مكان ﴿ ظاهروهم ﴾ ﴿ مِن صَيَاصِيهِمْ ﴾ : من حُصُونهم. وواحدتها صِيصِية وهي طَرَف القَرْن والجَبَل. وصيصية غير مهموز.
وقوله :﴿ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴾ يعنى قَتْل رجالهم واستبقاء ذرارِّيهم.
وقوله :﴿ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ﴾ كلّ القُرّاء قد اجتمعُوا على كسر السين. وتأسُرُون لغة ولم يقرأ بها أحد.
وقوله :﴿ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوها ٢٧ ﴾ عَنَى خَيْبَر، ولم يكونوا نالوها، فوعدهم إيّاها الله.
وقوله :﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ ٣٠ ﴾ اجتمعت القراء على قراءة ﴿ مَن يَأْتِ ﴾ بالياء واختلفوا في قوله :﴿ وَيَعْمَلْ صَالِحا ﴾ فقرأها عاصم والحسَن وأهلُ المدينة بالتاء : وقرأها الأعمش وأبو عبد الرحمن السُلَمىّ بالياء. فالذين قرءوا بالياء أتْبعوا الفعْل الآخر ب ﴿ يَأْتِ ﴾ إذْ كان مذكّرا. والذينَ أنّثوا قالوا لما جاء الفعل بعدهُنَّ عُلِم أنه للأنثى، فأخرجناهُ على التأويل. والعرب تقول : كم بيع لك جاريةً، فإذا قالوا : كم جاريةً بيعت لك أنّثوا، والفعل في الوجهين جميعاً لكُمْ، إلاّ أن الفعل لما أتى بعد الجارية ذُهِب به إلى التأنيث، ولو ذكّر كان صواباً، لأنَّ الجارية مفسِّرةٌ ليسَ الفِعْلُ لها، وأنشدني بعض العرب :
أيام أم عمرٍو من يكن عقرَ داره جواء عدىٍّ يأكل الحشرات
ويسود من لفح السّموم جَبينه ويَعْرَ وإن كانوا ذوى بكرات
وجواء عَدِىٍّ.
قال الفراء : سمعتها أيضاً نصباً ولو قال :( وإن كان ) كانَ صَوَاباً وكل حَسَنٌ.
وقوله :﴿ وَمَن يَقْنُتْ ٣١ ﴾ بالياء لم يختلف القراء فيها.
وقوله :﴿ نُؤْتِها ﴾ قرَأَها أهل الحجاز بالنون. وقرأها يحيى بن وثّاب والأعمش وأبو عبد الرحمن السُلميّ بالياء.
وقوله :﴿ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ٣٢ ﴾
يقول : لا تُلَيِّن القول ﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ أي الفجور ﴿ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ : صَحِيحا لا يُطمِع فاجراً.
[ قوله ] :﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ٣٣ ﴾ من الوقارِ. تقول للرَّجل : قد وَقَرَ في منزله يقِر وُقوراً. وقرأ عاصم وأهل المدينة ( وَقرْنَ ) بالفتح. ولا يكون ذلك من الوقار، ولكنا نُرى أنهم أرادوا : وَاقْرَرْن في بيوتكنّ فحذفوا الرَّاء الأولى، فحوِّلت فتحها في القاف ؛ كما قالوا : هل أحَسْتَ صاحبك، وكما قال ﴿ فَظَلْتُمْ ﴾ يريد : فظلِلْتم.
ومنَ العَرب من يقول : واقرِرْن في بيوتكُنّ، فلو قال قائل : وقِرنَ بكسر القاف يريد واقرِرن /١٤٨ ب بكسر الراء فيحوّل كسرة الراء ( إذا سقطت ) إلى القاف كان وجها. ولم نجد ذلك في الوجهيْن جَميعاً مستعملاً في كلام العرب إلاّ في فعلت وفعلتم وفعلنَ، فأما في الأمر والنهي المستقبل فلا. إِلا أَنا جوَّزنا ذلكَ لأنَّ اللام في النسوة ساكنة في فعلن ويفعلنَ فجازَ ذلك. وقد قال أعرابيّ من بنى نُمَير : يَنْحَطْنَ من الجَبَل يريد : ينحطِطن. فهذا يقوّي ذلك.
وقوله :﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ قال : ذلك في زمنٍ ولد فيه إبراهيم النبيّ عليه السلام. كانت المرأة إذ ذاك تلبس الدِّرعَ من اللؤلؤ غير مخِيط الجانبين. ويقال : كانت تلبس الثياب تبلغ المال لا توارى جَسَدَها، فأُمرِن ألاّ يفعلن مثل ذلك.
وقوله :﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ٣٥ ﴾ ويقول القائل : كيف ذكر المسلمين والمسلمات والمعنى بأحدهما كافٍ ؟
وذلك أنَّ امرأة قالت : يا رسول الله : ما الخير إلاّ للرجال. هم الذين يؤمرون ويُنهون. وذكرتْ غير ذلك من الحجّ والجهاد فذكرهن الله لذلك.
وقوله :﴿ وَما كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ٣٦ ﴾
نزلت في زينب بنت جَحْش الأسَدية. أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يزوِّجها زيد بن حارثة، فذكر لها ذلك، فقالت : لا لعمر الله، أنا بنت عمّتك وأَيِّم نساء قريش. فتلاَ عليها هذه الآية، فَرضيت وسَلَّمتْ، وتزوَّجها زيد. ثم إن النبي عليه السلام أتى منزل زيدٍ لحاجةٍ، فرأي زينب وهي في دِرْعٍ وخمارٍ، فقال : سُبحانَ مقلِّب القلوب. فلما أتى زَيْدٌ أَهْله أخبرته زينب الخبر، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يشكوها إليه. فقال : يا رسول الله إنَّ في زينب كِبْراً، وإنها تؤذيني بلسانها فلا حاجة لي فيها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اتّق الله وأَمسك عَليك زوجك. فأبى، فطلَّقها، وتزوّجها النبي عليه السلام بعد ذلك، وكان الوجْهان جميعاً : تزوجَها زيد والنبي عليه السلام من بَعْد، لأن الناس كانوا يقولُون : زيد بن محمدٍ ؛ وإنما كان يتيما في حِجره. فأراهم اللهُ أنه ليس لَهُ بأبٍ، لأنه قد كان حَرَّم أن ينكح الرجلُ امرأة أبيه، أو أن ينكح الرجلُ امرأة ابنه إذا دخل بها.
وقوله :﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ٣٧ ﴾
مِنْ تزويجها ﴿ ما اللَّهُ ﴾ مظهره. ﴿ وَتَخْشَى الناسَ ﴾ يقول : تستحي من الناس ﴿ وَاللَّهُ أَحَقُّ ﴾ أن تستحي منه.
ثم قال :﴿ لِكَيْ لاَ يَكُونَ على الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيائهِمْ ﴾.
وقوله :﴿ ما كَانَ على النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ٣٨ ﴾
من هذا ومن تسع النسوة، ولم تحلّ لغيرِه وقوله :﴿ سُنَّةَ اللَّهِ ﴾ يقول : هذه سُنّة قد مضت أيضاً لغيرك. كان لداوود ولسليمانَ مِنَ النساء ما قد ذكرناه، فُضِّلا به، كذلكَ أنت.
ثم قال :﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ ٣٩ ﴾ فضَّلناهم بذلكَ، يعنى الأنبياء. و ( الذين ) في موضع خفضٍ إن رددته على قوله :﴿ سُنَّةَ اللهِ في الذِينَ خَلوْا مِنْ قَبْلُ ﴾ وإن شئت رفعت على الاستئناف. ونَصْبُ السُنَّة على القطع، كقولك : فعل ذلكَ سنُة. ومثله كثير في القرآن. وفي قراءة عبد الله :( الَّذِينَ بَلَّغُوا رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ ) هذا مثل قوله :﴿ إنَّ الذينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ ﴾ يُرَدّ يفعل على فعَل، وفعَل على يفعل. وكلّ صواب.
وقوله :﴿ ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ٤٠ ﴾
دليل على أمر تزوُّج زينب ﴿ وَلكن رَّسُولَ اللَّهِ ﴾ مَعْناهُ : ولكن كانَ رسول الله. ولو رفعت على : ولكن هو رسولُ الله كان صَوَاباً وقد قرئ به. والوجه النصب.
وقوله :﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ كسرها الأعمش وأهل الحجاز، ونصبها - يعنى التاء - عاصم والحسن وهي في قراءة عبد الله :( ولكن نبيّاً خَتَم النبيِّين ) فهذه حجَّةٌ لمنْ قَالَ ﴿ خاتِم ﴾ بالكسر، ومن قال ﴿ خاتَمَ ﴾ أرد هو آخر النبيِّينَ، كما قرأ عَلقمة فيما ذُكِرَ عنه ( خاتَمُهُ مِسْكٌ ) أي آخره مسك. حدثنا أبو العباس، قال : حدثنا محمد، قال : حدثنا الفراء، قال : حدثنا أبو الأحوص سَلاَّم ابن سُليم عن الأشعَث بن أبي الشعْثاء المحاربيّ قال : كانَ عَلقمة يقرأ ( خاتَمُهُ مِسْكٌ ) ويقول : أما سمعتَ المرأة تقول للعطّار : اجْعل لي خاتمهُ مِسْكاً أي آخره.
وقوله :﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ٤٣ ﴾ يغفر لكم، ويَستغفر لكم ملائكته.
وقوله :﴿ وَبَناتِ خَالِكَ وَبَناتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ٥٠ ﴾
وفي قراءة عبد الله ( وَبَناتِ خَالِكَ وَبَناتِ خَالاَتِكَ واللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ) فقد تكون المهاجرات من بنات الخال والخالة، وإن كان فيه الواو، فقال :( واللاتِي ). والعرب تنعَت بالواو وبغير الواو كما قال الشاعر :
فإنَّ رُشيداً وابنَ مَرْوان لم يكن ليفعل حتّى يُصدر الأمرَ مُصْدَرَا
وأنت تقول في الكلام : إن زرتني زرتُ أخاك وابن عمّكَ القريب لك، وإن قلتَ : والقريب لكَ كان صوابَا.
وقوله ﴿ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً ﴾ نصبتها ب ﴿ أحْلَلْنا ﴾ وفي قراءة عَبد الله ﴿ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً وَهَبَتْ ﴾ ليسَ فيها ( أن ) ومعناهُما واحد ؛ كقولك في الكلام : لا بأسَ أن تستَرِقَّ عبداً وُهبَ لكَ، وعبداً إن وُهب لك، سواء. وقرأ بعضهم ﴿ أَنْ وَهَبَتْ ﴾ بالفتح على قوله :﴿ لا جناح عليه أن ينكحها ﴾ في أن وهبت، لا جناح عَليه في هبتها نفسها. ومن كسر جعله جزاء. وهو مثل قوله ﴿ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكُمْ ﴾ و ﴿ إنْ صَدُّوكُمْ ﴾ ﴿ إنْ أَرَادَ النَّبيُّ ﴾ مكسورة لم يُختَلف فيها.
وقوله ﴿ خَالِصَةً لَّكَ ﴾ يقول : هذه الخصلة خالصة لك ورُخصة دون المؤمِنين، فليسَ للمؤمنِين أن يتزوَّجُوا امرأة بغير مهر. ولو رفعتْ ( خالصة ) لك على الاستئناف كَان صَوَاباً ؛ كما قال ﴿ لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاَغٌ ﴾ أي هذا بلاغ : وما كان من سُنّة الله، وصبغة الله وشبهه فإنه منصوب لاتصاله بما قبله على مذهب حقّاً وشبهه. والرفع جَائز ؛ لأنه كالجواب ؛ ألا ترى أن الرجل يقول : قد قام عبد الله، فتقول : حقّا إذا وصلته. وإذا نويت الاستئناف رفعته وقطعته مما قبله. وهذه محض القطع الذي تسمعه من النحويينَ.
وقوله :﴿ تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ ٥١ ﴾ بهمز وغير همز. وكلّ صواب ﴿ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء ﴾ هذا أيضاً مما خُصّ به النبيّ صَلى الله عَليه وسلم : أن يجعل لمن أحبّ منهنّ يوما أو أكثر أو أقلّ، ويعطّل مَنْ شاء منهنّ فلا يأتيَه. وقد كان قبل ذلكَ لكلّ امرأة من نِسَائه يوم وليلة.
وقوله :﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ﴾ يقول : إذا لم تجعل لواحدة منهنَّ يوما وكنّ في ذلكَ /١٤٩ ب سواء، كان أحرى أَن تطيب أنفسهنَّ ولا يحزَنَّ. ويقال إذا علمن أن الله قد أباح لك ذلكَ رضِين إذْ كان من عند الله. ويقال : إنه أدنى أن تقرّ أعينهنَّ إذا لم يحلّ لك غيرهنَّ من النساء وكلّ حَسَن.
وقوله :﴿ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ﴾ رَفْع لا غير، لأن المْعنَى : وترضى كلّ واحدة. ولا يجوز أن تجعل ﴿ كلّهن ﴾ نعتاً للهاء في الإيتاء ؛ لأنه لا مَعنى له ؛ ألا ترى أنك تقول : لأكرمنّ القوم ما أكَرموني أجمعينَ، وليسَ لقولك ﴿ أجمعونَ ﴾ معنىً. ولو كان له مَعنى لجازَ نصبه.
قوله :﴿ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ٥٢ ﴾ ( أَنْ ) في موضع رفع ؛ كقولك : لا يحلّ لَكَ النِّسَاء والاستبدال بهنَّ. وقد اجتمعت القراء على ﴿ لاَّ يَحِلُّ ﴾ باليَاء. وذلكَ أنَّ المْعنَى : لا يحلّ لك شيء من النساء، فلذلك اختير تذكير الفعل. ولو كان المعنى للنساء جَميعاً لكان التّأنيث أجود في العربيّة. والتاء جَائزة لظهور النساء بغير مِنْ.
وقوله :﴿ يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ﴾ فغير منصوبة لأنها نعت للقوم، وهم معرفة و ( غير ) نكرة فنُصبت على الفعل ؛ كقوله ﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ ﴾ ولو خفضت ﴿ غَيْرَ ناظِرِينَ ﴾ كَانَ صَوَاباً ؛ لأنَّ قبلَها ﴿ طعامٍ ﴾ وهو نكرة، فتجعل فعلهم تابعاً للطعام ؛ لرجوع ذكر الطعام في ( إناهُ ) كَما تقول العرب : رأيت زيداً مع امرأة محسنٍ إليها، ومحسنا إليها. فمن قال :﴿ محسنا ﴾ جعله من صفة زيد، ومَن خفضه فكأنه قال : رأيت زيداً مع التي يُحْسن إليها. فإذا صَارت الصلة للنكرة أتبعتها، وإن كان فعلاً لغيرها. وقد قال الأعشى :
فقلت له هذه هاتِها *** فجاء بأدماء مقتَادِها
فجعل المقتاد تابعَا لإعراب الأدماء ؛ لأنه بمنزلة قولك : بأدماء يقتادها ؛ فخفضته لأنه صلة لها. وقد ينشد بأدماء مقتادِها تخفض الأدماء لإضافتها إلى المقتاد. ومعناه : بملء يَديْ من اقتادها ومثله في العربية أن تقول : إذا دعوتَ زيداً فقد استغثت بزيدِ مستغِيثِه. فمعنى زيد مدح أي أنه كافي مسْتغيثِه. ولا يجوز أن تخفض على مثل قولك : مررت على رجل حَسَنِ وجهه ؛ لأن هذا لا يصلح حتى تسقط راجع ذكر الأول فتقول : حسن الوجه. وخطأ أن تقول : مررت على امرأة حسنِة وجهِها وحسنِة الوجه صواب.
وقوله :﴿ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ ﴾ في موضع خفض تُتبعه الناظِرين ؛ كما تقول : كنت غير قائم ولا قاعدٍ ؛ وكقولك للوصيّ : كُلْ من مال اليتيم بالمعروف غيرَ متأثّل مالا، ولا واقٍ مالكَ بماله. ولو جعلت المستأنسينَ في موضع نصب تتوهَّم أن تُتبعهُ بغير لما أن حُلْت بينهما بكلام. وكذلك كلّ معنىً احْتمل وجهين ثم فرّقت بينهما بكلام جَاز أن يكون الآخر معرباً بخلاف الأوَّل. من ذلك قولكَ : ما أنت بمحسن إلى مَن أحسن إليك ولا مُجْمِلاً، تنصب المُجْمِل وتخفضه : الخفضُ على إتباعه المحسن والنصبُ أن تتوهم أنك قلت : ما أنت مُحسنا. وأنشدني بعض العرب :
ولستُ بذي نَيْربٍ في الصديق *** ومناعَ خَيرٍ وسبّابها
ولا من إذا كان في جانب *** أضاع العشيرة واغتابها
وأنشدني أبو القماقم :
أجِدُّكَ لستَ الدهرَ رائىَ رامةٍ *** ولا عاقلٍِ إلاّ وأنت جَنيب
ولا مصعدٍ في المُصْعدين لمَنْعِجٍ *** ولا هابطاً ما عشت هَضْب شَطِيب
وينشد هذا البيت :
مُعَاوِيَ إننا بَشَرٌ فَأَسجحْ *** فلسنا بالجبالِ ولا الحديدَا
وينشد ( الحديدا ) خفضاً ونصباً. وأكثر ما سمعته بالخفض. ويكون نصب المسْتأنسينَ على فعْلٍ مضمرٍ، كأنه قال : فادخلوا غير مستأنسينَ. ويكون مع الواو ضميرُ دخولٍ ؛ كما تقول : قم ومطيعاً لأبيك.
والمعنى في تفسير الآية أنّ المسْلمينَ كانوا يدخلون على النبيّ عليه السلام في وقت الغَدَاء، فإذا طعِمُوا أطالوا الجلوس، وسَألوا أزواجَهُ الحوائج. فاشتدّ ذلك على النبيّ صَلى الله عليه وسلم، حَتّى أنزل الله هذه الآية، فتكلّم في ذلكَ بعضُ الناس، وقال : أننهي أن ندخل على بناتِ عَمِّنا إلاّ بإذنٍ، أو من وَراء حجَاب. لئِنَ مات محمد لأتَزوّجَنّ بعضهنّ. فقام الآباء أبو بكرٍ وذووه، فقالوا : يا رسول الله، ونحن أيضاً لا ندخل عليهنّ إلاّ بإذنٍ، ولا نسألهنّ الحوائج إلاّ من وراء حجاب، فأنزل الله ﴿ لاَ جُناحَ عَلَيْهِنَّ في آبائهنّ ﴾ إلى آخر الآية. وأنزل في التزويج ﴿ وَما كَانَ لَكُمْ أَنْ تَؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَداً ﴾.
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ ما اكْتَسَبُواْ ٥٨ ﴾
نزلت في أهل الفسق والفجور، وكانوا يتّبعونَ الإماء بالمدينة فيَفجُرونَ بهنّ، فكان المسلمونَ في الأخْبِية لم يَبْنُوا ولم يستقرّوا. وكانت المرأة منْ نساء المسلمينَ تتبرّز للحاجة، فيعرض لها بعض الفجّار يُرى أنها أمَة، فتصيح به، فيذهب. وكان الزِّىُّ واحداً فأُمرِ النبيُّ عليه السلام ﴿ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَناتِكَ ونساء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ﴾ والجِلبابُ : الرداء.
حَدثنا أبو العبّاس قال حدثنا محمد قال : حدَّثنا الفرّاء، قال حدَّثني يحيى بن المُهَلَّب أبو كُدَيْنة عن ابن عون عن ابن سِيرين في قوله :﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبهنّ ٥٩ ﴾.
هكذا : قال تُغَطّى إحدى عينيها وجبهتَها والشِّقّ الآخر، إلاّ العين.
وقوله :﴿ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ٦٠ ﴾ المرجفون كانوا من المسْلمين. وكان المؤلّفة قلوبهم يُرجفون بأهل الصُّفَّة. كانوا يشنِّعون على أهل الصُّفَّة أنهم هم الذينَ يتناولُونَ النساء لأنهم عُزَّاب. وقوله ﴿ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ﴾ أي لنسلّطَّنك عليهم، ولنُولعنّك بهم.
وقوله :﴿ إلا قليلا ٦٠ ﴾.
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قَالَ ١٥٠ ب حدّثنا الفرّاء قال : حدّثني حِبّان عن الكلبيّ عن أبى صالح قال قال ابن عبَّاس لا يجاورونكَ فيها إلا يسيراً، حتَّى يهِلكوا. وقد يجوز أن تجعل القلّة من صفتهم صفة الملعونين، كأنك قلت : إلا أقِلاء ملعونين ؛ لأنَّ قوله ﴿ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا ﴾ يدلّ على أنهم يَقِلُّون ويتفرّقون.
وقوله :﴿ مَّلْعُونِينَ٦١ ﴾ منصوبة على الشتم، وعلى الفعل أي لا يجاورنكَ فيها إلاّ ملعونين. والشتم على الاسْتئناف، كما قال :﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمالةَ الْحَطَبِ ﴾ لمن نصبه. ثم قال ﴿ أَيْنَما ثُقِفُواْ أُخِذُواْ ﴾ فاستأنف. فهذا جزاء.
وقوله :﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ ٦٦ ﴾
والقراء على ﴿ تُقَلَّبُ ﴾ ولو قرئت ﴿ تَقَلَّبُ ﴾ و ﴿ نُقلَّبُ ﴾ كانا وجهين.
وقوله :﴿ وَأَطَعْنا الرَّسُولاَ ٦٦ ﴾ يوقف عليها بالألِف. وكذلكَ ﴿ فأَضَلُّونا السَّبِيلاَ ﴾ و ﴿ الظُّنُونا ﴾ يوقف على الألف ؛ لأنها مثبتة فيهِنّ، وهي مع آيات بالألف، ورأيتها في مصَاحف عبد الله بغير ألف. وكان حمزة والأعمش يقفان على هؤلاء الأحرف بغير ألفٍ فيهنَّ. وأهلُ الحجاز يقفون بالألف. وقولهم أحبّ إلينا لاتّباع الكِتاب. ولو وُصلت بالألف لكان صَوَاباً لأن العرب تفعل ذلكَ. وقد قرأ بعضهم بالألف في الوصل والقطع.
وقوله :﴿ إِنا أَطَعْنا سَادَتَنا ٦٧ ﴾
واحدة منصوبة. وقرأ الحسن ( سَاداتنا ) وهي في موضع نصبٍ.
وقوله :﴿ لَعْنا كَثِيراً ٦٨ ﴾
قراءة العوامّ بالثاء، إلاّ يحيى بن وثّاب فإنه قرأها ( وَالْعَنْهُمْ لَعْنا كَبِيراً ) بالباء. وهي في قراءة عبد الله. قال الفراء : لا نجيزه. يعني كثيراً.
وقوله :﴿ لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٧٣ ﴾
بالنصب على الإتباع وإن نويت به الائتناف رفعتة، كما قال ﴿ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ في الأرْحامِِ ﴾ إلا إن القراءة ( وَيَتُوبَ ) بالنصب.
Icon