ﰡ
﴿ اتق الله ﴾ دم على التقوى. أو ازدد منها ؛ وهو صلى الله عليه وسلم أتقى المتقين. ﴿ ولا تطع الكافرين والمنافقين ﴾ ودم على عدم إطاعتهم فيما يطلبونه منك من رفض ذكر آلهتهم، وأن تقول إنها تشفع وتنفع. وهو تخصيص بعد تعميم ؛ لاقتضاء المقام الاهتمام به.
﴿ وما جعل أدعياءكم أبناءكم ﴾ جمع دعي، وهو الذي يدعى ابنا لغير أبيه. وكان الرجل يتبنى
ولد غيره، ويجرى عليه أحكام البنوة النسبية ؛ ومنها حرمة تزوجه بمطلقته، كما تحرم زوجة الابن النسبي على أبيه. فأبطل الله بذلك حكم هذا الظهار وأبطل التبني. ﴿ ذلكم ﴾ أي ما ذكر منهما﴿ قولكم بأفواهكم ﴾ أي مجرد قول باللسان لا يحكي الواقع. ﴿ والله يقول الحق ﴾ أي القول الثابت المحقق﴿ وهو يهدي السبيل ﴾ يرشد إلى سبيل الحق.
وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وإرثهن ونحو ذلك فهن فيه كالأجنبيات ؛ ولذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن. ﴿ وأولو الأرحام ﴾ أي ذوو القرابات مطلقا : عصبة وغير عصبة﴿ بعضهم أولى ببعض ﴾ في الإرث﴿ في كتاب الله ﴾ أي فيما أنزله الله في كتابه، وهو آية المواريث في سورة
النساء ١. ﴿ من المؤمنين والمهاجرين ﴾ بيان لأولى الأرحام. وكان بالمدينة توارث بين المهاجرين والأنصار بالهجرة والمؤاخاة – كما تقدم في آية ٧٢ من الأنفال – ثم نسخ بآية ٧٥ منها وأكد النسخ بهذه الآية، وجعل التوارث بحق القرابة. ﴿ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ﴾ أي لكم إذا أوصيتم إلى من توادونهم من هؤلاء بشيء من أموالكم كان ذلك جائزا ؛ فيكون لهم بحكم الوصية لا الميراث.
﴿ إذ جاءتكم جنود ﴾ وهم قريش وبنو أسد وغطفان وبنو عامر وبنو سليم وقريظة والنضير، وكانوا زهاء اثني عشر ألفا. ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم أمر بحفر خندق حول المدينة بإشارة سلمان الفارسي. ﴿ فأرسلنا عليهم ريحا ﴾ هي ريح الصبا وكانت شديدة البرودة. ﴿ وجنودا لم تروها ﴾ هم الملائكة، ولم يقاتلوا في هذه الغزوة ؛ وإنما ألقوا الرعب في قلوب المشركين.
يقال : زاغ يزيغ زيغا وزيغانا. مال. وزاغ البصر : كل ؛ وكلالة من استدامة شخوصه من شدة الهول. ﴿ وبلغت القلوب الحناجر ﴾ نبت عن أماكنها من الصدور، حتى بلغت الحلاقيم. وهو كناية عن شدة اضطراب القلوب ووجيبها من عظم الفزع والخوف.
﴿ وتظنون بالله الظنونا ﴾ أي الظنون المختلفة. ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وأيقن المؤمنون حقا أن وعد الله حق وأنهم هم المنصورون.
﴿ غرورا ﴾ باطلا من القول. يقال : غره غرا وغرورا وغرة، خدعه وأطمعه بالباطل، فاغتر هو. وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلا من المنافقين.
﴿ ويستأذن فريق منهم النبي ﴾ هم بنو حارثة بن الحارث وبنو سلمة. ﴿ إن بيوتنا عورة ﴾ خالية ضائعة غير حصينة. يقال : دار ذات عورة، ودار معورة : إذا كان يسهل دخولها وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة. والعورة في الأصل : الخلل في البناء ونحوه.
﴿ والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ﴾ تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة والأمن والدعة، ولا تشهدوا مع محمد قتالا ؛ فإنا نخاف عليكم الهلاك. اسم فعل أمر [ آية ١٥٠ الأنعام ص ٢٤٧ ]. ﴿ ولا يأتون البأس ﴾ الحرب والقتال﴿ إلا قليلا ﴾ أي إلا إتيانا قليلا حين لا يجدون منه بدا ؛ فيأتون رياء وسمعة لا احتسابا عند الله تعالى.
﴿ سلقوكم بألسنة حداد ﴾ أي بسطوا فيكم ألسنتهم الذرية بالأذى والسب والتنقيص. يقال : سلق البيض وغيره يسلقه، أغلاه بالنار إغلاءة خفيفة. وسلقه بالكلام : آذاه به. وأصل السلق :
بسط العضو ومده للقهر، يدا كان أو لسانا. و " حداد " : أي ماضية صارمة تؤثر تأثير الحديد. يقال : حد السكين وأحدها وحددها، مسحها بحجر أو مبرد ؛ فهي حديد. ﴿ أشحة على الخير ﴾ بخلاء حريصين على الغنيمة، يشاحون المؤمنين عند قسمتها.
الآخرة بالحسنى ؛ فاخترن – رضي الله عنهن – الله ورسوله والدار الآخرة. وقد كافأهن الله على ذلك بحرمة الزيادة عليهن، وحرمة استبدالهن بقوله : " لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن ". ﴿ أمتعكن ﴾ أعطكن متعة الطلاق، وهي مستحبة للمطلقات الدخول بهن اللاتي سمي لهن مهر ؛ وهي حق على المتقين [ آية ٢٣٦ البقرة ص ٧٨ ]. ﴿ وأسرحكن سراحا جميلا ﴾ أطلقنكن طلاقا خاليا من الضرار أو من الخصومة، وهو التسريح بإحسان.
﴿ فلا تخضعن بالقول ﴾ لا ترققن الكلام ولا تلنه إذا خاطبتن الرجال. والعرب تعد من محاسن خصال النساء – جاهلية وإسلاما – تنزيه خطابهن عن ذلك لغير الزوج من الرجال. ﴿ وقلن قولا معروفا ﴾
حسنا محمودا بعيدا عن الريبة والأطماع.
والحكمة فيه : أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن. وتوفير وسائل الحياة المنزلية التي هي من خصائصهن ولا يحسنها الرجال، وإلى تربية الأولاد في عهد الطفولة وهي من شأنهن. وقد جرت السنة الإلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما ؛ فللرجال أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء، وللنساء أعمال من خصائصهن لا يحسنها الرجال ؛ فإذا تعدى فريق عمله اختل النظام في البيت والمعيشة. ومما يباح خروجهن لأجله : الحج، والصلاة في المسجد، وزيارة الوالدين، وعيادة المريض، وتعزية الأقارب، والعلاج ونحو ذلك ؛ بشروطه التي منها التستر وعدم التبذل. و " قرن " وقرئ " قرن " بكسر القاف ؛ كلاهما من القرار بمعنى السكون يقال : قر بالمكان يقر – بالفتح والكسر – إذا أقام فيه وثبت.
والأمر من الأول قرن، وأصله : اقررن – بفتح الراء الأولى – ومن الثاني قرن، وأصله : اقررن – بكسر الراء الأولى. ﴿ ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ﴾ أي إذا خرجتن لحاجة فيحرم أن تبدي إحداكن من زينتها ما أوجب الله عليها ستره ؛ كالشعر والعنق والصدر والذراعين والساقين، مما شأنه أن يثير النظر إليه شهوة الرجال. ومن التبرج في بعض الروايات : المشية بتكسر وحركات مثيرة ؛ كما كان يفعل نساء الجاهلية الأولى. مأخوذ من البرج وهو سعة العين وحسنها. و " الأولى " بمعنى المقدمة. يقال لكل متقدم ومتقدمة : أول وأولى. أو هي بمثابة قولهم : الجاهلية الجهلاء.
﴿ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ﴾ تعليل لما تقدم من الأوامر والنواهي. والرجس : الإثم والذنب، والقذر والنقائض. والمراد هنا : ذهاب كل ذلك عنهم. و " آل " فيه للاستغراق، ويحتمل أن تكون للجنس. ﴿ أهل البيت ﴾ هم نساؤه صلى الله عليه وسلم بقرينة السياق.
وذكر " الله " للإشعار بأن ما يفعله صلى الله عليه وسلم إنما يفعله بأمر الله تعالى ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى. ﴿ أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾ أي أن يختاروا من أمورهم ما شاءوا ؛ بل يجب عليهم أن يذعنوا لأمره صلى الله عليه وسلم ويجعلوا رأيهم تابعا لرأيه في كل شيء. نزلت في زينب بنت جحش الأسدية ابنة أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذلك أنه خطبها صلى الله عليه وسلم لمولاه وحبه زيد بن حارثة، وقال لها :( إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة وقد رضيته لك ) فأبت واستنكفت منه وقالت : يا رسول الله، أنا خير منه حسبا ! ووافقها أخوها عبد الله ؛ فلما نزلت الآية رضيا وسلما. فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا ودخل بها ومكثت عنده نحو سنة.
وكانت حديدة الطبع، تخشن له القول وتسمعه ما يكره، وتفخر عليه بحسبها ؛ فشكاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغب في فراقها فقال له :﴿ أمسك عليك زوجك واتق الله ﴾
بمطلقات أدعيائهم بعد انقضاء عدتهن. فلم يخبره صلى الله عليه وسلم بذلك استحياء من أن يقول : إن التي معك ستكون زوجتي، ومن أن يقول الناس : إنه يتزوج مطلقة ابنه ؛ فعاتبه الله على إخفاء ذلك﴿ وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ﴾ أي تستحي من قولهم، والله وحده أحق أن تخشاه. أي تستحي منه في كل أمر ؛ فتفعل ما أباحه لك وأذن لك فيه، وتبديه ولا تخفيه. فهو عتاب على ترك الأولى به صلى الله عليه وسلم. ﴿ فلما قضى زيد منها وطرا ﴾ أي حاجة، وطابت عنها نفسه، وطلقها وانقضت عدتها﴿ زوجناكها ﴾ جعلناها لك بلا عقد ومهر وشهود ؛ لكي لا يكون... وهو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك في سنة خمس من الهجرة، وكانت سنها خمسا وثلاثين سنة، وكانت صوّامة قوّامة محسنة.
وحرمت المصاهرة. وزيد من رجالهم، فليس النبي أبا له ؛ فلا يحرم عليه التزوج بمطلقته. ﴿ وخاتم النبيين ﴾ أي أنهم به ختموا ؛ فهو كالخاتم والطابع لهم. ختم الله به النبوة فطبع عليها ؛ فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة. وقرئ بكسر التاء، بمعنى أنه ختمهم أي جاء آخرهم. وقيل : الخاتم – بكسر التاء وفتحها – بمعنى واحد ؛ مثل طابع وطابع. والمراد على القراءتين : أنه صلى الله عليه وسلم آخر أنبياء الله ورسله ؛ فلا نبي ولا رسول بعده إلى قيام الساعة ؛ فمن زعم النبوة بعده فهو كذاب أفّاك، وكفر بكتاب الله وسنة رسوله.
ولذا أفتينا بكفر طائفة القاديانية، أتباع المفتون علام أحمد القادياني الزاعم هو وأتباعه أنه نبي يوحى إليه، وأنه لا تجوز مناكحتهم ولا دفنهم في مقابر المسلمين. وكذلك أفتى الآلوسي بكفر البابية، وهم عصابة من غلاة الشيعة لهم عقائد مكفرة.
بلا مهر ؛ فهي مصدر كالعافية. ﴿ من دون المؤمنين ﴾ فلا بد في الإحلال لهم من مهر المثل. ﴿ قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ﴾ أي في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه ؛ فلا يجوز لهم الإخلال به، ولا الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فيما خصه الله به توسعة عليه وتكريما له. فلا يجوز لهم التزوج إلا بعقد ومهر وشهود، ولا تجوز لهم الزيادة على أربع.
فحرم عليه الزيادة عليهن والاستبدال بهن ؛ مكافأة لهن على اختياره صلى الله عليه وسلم. والآية محكمة. وقيل : منسوخة بآية " ترجى من تشاء " ؛ بناء على أن معناها : تطلّق من تشاء وتمسك من تشاء ؛ وأنها متأخرة في النزول عن هذه الآية وإن كانت متقدمة في التلاوة. وقيل : بآية " إنا أحللنا ". وعن عائشة وأم سلمة : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له أن يتوج من النساء ما شاء. ولكن لم يقع منه صلى الله عليه وسلم زيادة ولا استبدال ؛ لتكون المنة له عليهن.
يقال : طعم يطعم طعما، ذاق وأكل. ﴿ فانتشروا ﴾ فتفرقوا ولا تمكثوا في البيت. ﴿ ولا مستأنسين لحديث ﴾ أي ولا تدخلوها مستأنسين لحديث بعضكم بعضا. والظاهر – كما قال الآلوسي – حرمة المكث على المدعو للطعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت. وليس ما ذكر مختصا بالمخاطبين، ولا بالمكث في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل هو حكم وأدب عام.
﴿ وإذا سألتموهن ﴾ إذا طلبتم من نسائه صلى الله عليه وسلم﴿ متاعا ﴾ شيئا يتمتع به من الماعون ونحوه. ومثله العلم والفتيا. ﴿ فسألوهن من وراء حجاب ﴾ أي ستر بينكم وبينهن. ﴿ ذلكم ﴾ أي
السؤال من وراء الحجاب﴿ أطهر لقلوبكم وقلوبهن ﴾ من الريب وخواطر السوء. وكان نزول آية الحجاب في شهر رمضان من السنة الخامسة من الهجرة. وحكم نساء المؤمنين في ذلك حكم نسائه صلى الله عليه وسلم. ﴿ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ﴾ أي تفعلوا فعلا يؤذيه نحو اللبث في بيته، والاستئناس فيه بالحديث الذي كنتم تفعلونه، ومكالمة نسائه من دون حجاب. ﴿ ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ﴾ أي من بعد وفاته أو فراقه، لأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات. ﴿ إن ذلكم ﴾ أي إيذاءه ونكاح أزواجه من بعده. ﴿ كان عند الله ﴾ ذنبا.
﴿ عظيما ﴾ جسيما.
قيل : الآية من المجاز ؛ أي أنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت ؛ فعبّر عن هذا بعرض الأمانة. كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه ؛ وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه.