تفسير سورة الأحزاب

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

خاتمة سورة السجدة
عليك ايها السالك القاصد سلوك سبيل التوحيد والناسك المجاهد مع أعدى عدوك الذي بين جنبيك اعانك الله ونصرك على عدوك ان تتصبر على متاعب العبودية ومشاق التكاليف الواقعة في إتيان المأمورات الشرعية وترك المألوفات الطبيعية سيما ما أشكل امره عليك ودفعه عندك من انقهار امارتك وانزجارها وانتقامك عنها مفوضا أمورك كلها الى ربك منتظرا الى ان يغلبك الحق عليها بعد ما قد وعدك به بان يجعل سلطانه امارتك مأمورة لك مطمئنة بحكمك راضية بجميع ما جرى عليها من سلطان القضاء بلا امتناع وإباء فلك ان تتمكن في مقام الرضا والتسليم حتى تصير مطمئنتك فانية مضمحلة متلاشية بحيث لا يبقى فيها من هوية ناسوتها شيء بل قد فنيت هويتها في هوية الحق واضمحلت في عالم اللاهوت مطلقا فحينئذ قد فزت بدوام أبدى وبقاء سرمدي بلا عروض انقضاء وانصرام ولحوق انتهاء وانخرام. هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من هوية ناسوتنا وتفنينا في هوية لاهوتك يا ارحم الراحمين
[سورة الأحزاب]
فاتحة سورة الأحزاب
لا يخفى على من تحقق بمقام التقوى وخلص عن مهلكات الهوى ورجع نحو المولى متزهدا عن الدنيا وغرورها وامانيّها مطلقا ان الموحد المتحقق بمقام التمكن والرضا لا بد وان تكون همته منحصرة على التوجه نحو الحق مطمئنا به راضيا بما جرى عليه من سلطان القضاء متوكلا على الله في السراء والضراء والمنح والعطاء والمحن والبلاء مترصدا للوحى الإلهي مترقبا لالهاماتها الغيبية إذ كل من تجرد عن جلباب الناسوت مخلصا فقد تستر بخلعة اللاهوت ووقع اجره على حضرة الرحموت ورجع امره اليه وعاد شأنه على ما كان عليه في بدء الأمر فصار محفوظا في كنف حفظ الحق وجواره فله ان يتخذه سبحانه وكيلا ويجعله حسيبا وكفيلا ويفوض أموره كلها اليه فيصير منتظرا لوحيه والهامه مترصدا لموائد افضاله وانعامه إذ هو سبحانه بذاته عليم بحاله وحاجاته حكيم في تربيته وإرشاده وماله الا الإطاعة والتسليم والمتابعة لما يوحى اليه من عند الله العليم الحكيم ماحيا عن لوح قلبه الالتفات الى غيره كما امر سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم تربية له وتأديبا اليه وليتأدب به من تابعه وتخلق به من آمن له مخلصا فقال مناديا إياه متلطفا معه متيمنا باسمه بِسْمِ اللَّهِ الذي اصطفى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم من بين البرايا بالخلق العظيم الرَّحْمنِ عليه في النشأة الاولى بإضافة انواع الكمالات اللائقة على سبيل التبجيل والتكريم الرَّحِيمِ له في النشأة الاخرى بتمكينه في مقعد الصدق والمقام المحمود الذي هو مقام الرضا والتسليم
[الآيات]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد من عند العليم الحكيم مقتضى نبوتك التي قد صرت بها خاتما لدائرة النبوة والرسالة متمما لمكارم الأخلاق مكملا لأمر التشريع والتديين التقوى والتحفظ عن مقتضيات الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة والتحصن بالله والثقة اليه وجعله وقايتك عند نزول البلاء وهجوم الأعداء اتَّقِ اللَّهَ حق تقاته واجتنب عما لا يرضى به ربك مطلقا وَلا تُطِعِ بحال من الأحوال الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ الذين قد خاصموا معك في أسرارهم واعلانهم ولا تتبع أهواءهم الفاسدة وآراءهم الكاسدة الباطلة وابتغ فيما آتيك الله من مقتضيات استعدادك فيما تفضل عليك امتنانا
لك رضاء الله والفوز بشرف لقائه إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده قد كانَ عَلِيماً حسب حضرة علمه الحضوري بقابليتك وبمقتضياتها حَكِيماً في افاضة ما يعنيك وينبغي لك ويليق بشأنك وأمرك
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ تأييدا لك وتدبير أمورك واحوالك ولا تلتفت الى هذيانات من عاداك ولا تبال بمكرهم وحيلهم إِنَّ اللَّهَ الرقيب المراقب عليك وعليهم قد كانَ بِما تَعْمَلُونَ من المخائل الفاسدة والتلبيسات الباطلة المتعلقة لمقتك وهلاكك خَبِيراً يكفيك ويكف عنك مؤنة شرورهم ومكرهم ويغلبك عليهم ويظهر دينك على الأديان كلها
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ايها المتحصن بكنف حفظه وجواره وثق بكرمه ولطفه وَكَفى بِاللَّهِ اى كفى الله المراقب على عموم احوالك وحالاتك وَكِيلًا لك يراقبك ويحفظك من شرور من قصد مقتك وهجومهم عليك ومكرهم معك وكن في نفسك متوجها الى ربك مخلصا فيه مائلا بوجه قلبك الى قبلة وجهه الكريم ولا تلتفت الى من سواه ولا تخطر ببالك غيره إذ لا يسع في القلب الواحد الا هم واحد ولهذه الحكمة العلية
ما جَعَلَ وخلق اللَّهُ العليم الحكيم المتقن في أفعاله لِرَجُلٍ واحد مِنْ قَلْبَيْنِ مشعرين مدركين فِي جَوْفِهِ حتى لا يتفتت ميله ولا يتعدد قبلة مقصده ومرماه وان خلق له عينين وأذنين ويدين وغيرها وَكذا ما جَعَلَ الله العليم الحكيم أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ وتقولون لهن اى كل منكم لزوجته ايها المؤمنون المكلفون أنت على كظهر أمي أُمَّهاتِكُمْ حقيقة لتترتب عليها احكام الأمهات من تحريم القربان والفراش معها وغيرهما وَما جَعَلَ ايضا سبحانه أَدْعِياءَكُمْ اى الأجانب الذين تدعونهم أنتم أبناء من افراط المودة أَبْناءَكُمْ حقيقة او حكما حتى تترتب عليهم احكام الأبناء من أخذ الميراث والمحرمية وحرمة زوجتهم وابنتهم وغير ذلك من الاحكام ذلِكُمْ اى الأمور الثلاثة المذكورة قَوْلُكُمْ اى مجرد قول قد صدر عن ألسنتكم وتلفظتم أنتم بِأَفْواهِكُمْ لا حقيقة لها سوى الاشتهار في المحبة والمودة وَاللَّهُ المدبر لأموركم المصلح لأحوالكم يَقُولُ الْحَقَّ اى الحكم المطلق الثابت المتحقق عنده سبحانه المترتب عليه أحكامه إرشادا لكم وإصلاحا لحالكم وَكيف لا هُوَ بمقتضى ألوهيته وربوبيته يَهْدِي السَّبِيلَ السوى والصراط القويم المستقيم عباده الذين انحرفوا عن سبل السلامة وطرق الاستقامة في الوقائع والاحكام وبعد ما قد سمعتم حقيقة القول والحكم في ادعيائكم وحقيته
ادْعُوهُمْ وسموهم أدعياءكم بأسمائهم وانسبوهم حين دعائكم وندائكم إياهم لِآبائِهِمْ المولدين لهم حقيقة لا الى الداعي ان علمتم آباءهم الاصلية النسلية هُوَ اى انتسابهم الى آبائهم الاصلية أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ واقرب بين المؤمنين الى الصدق وابعد عن الكذب والفرية إذ كثيرا ما قد اشتهر دعىّ باسم من تبناه فأراد ان يأخذ منه الميراث فعليكم ايها المؤمنون ان لا تنسبوهم الا الى آبائهم الحقيقية فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ لتنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ يعنى فهم إخوانكم في الدين واولياؤكم فيه كسائر المؤمنين فخاطبوهم مثل خطاب بعضكم بعضا فقولوا له يا أخي او يا صاحبي او يا وليي في الدين وغير ذلك وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون جُناحٌ اثم ومؤاخذة فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ اى بقولكم هذا ونسبتكم هذه إذا صدرت عنكم هفوة على سبيل الخطأ والنسيان سواء كان قبل ورود النهى او بعده وَلكِنْ تؤاخذون أنتم في ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وقد صدرت عنكم هذه قصدا إذ قصدكم به يؤدى الى الافتراء وتضييع حقوق المؤمنين وَكانَ اللَّهُ
غَفُوراً
في حق من اخطأ ونسى ثم ذكر وتاب رَحِيماً عليه يقبل توبته ويغفر زلته. ثم أشار سبحانه الى تأديب كل من الأمم مع نبيه المؤيد من عنده سبحانه بأنواع التأييدات والمعجزات الخارقة للعادات المبعوث إليهم لإرشادهم وتكميلهم وأمرهم بحسن الأدب معهم والمحافظة على خدمتهم وحرمتهم وكيف لا يحسنون الأدب مع الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم إذ كل نبي بالنسبة الى أمته كالأب المشفق العطوف بالنسبة الى ابنه بل هو خير آبائهم يرشدهم الى ما هو أصلح لدينهم الذي هو عبارة عن الحقيقة لهم فلهم ان يكونوا معه في مقام التذلل والانكسار التام والانخفاض المفرط بأضعاف ما وجب عليهم من حقوق الوالد النسبي إذ آثاره تربية الأنبياء مؤبدة مخلدة وآثار تربية هؤلاء متناهية منقطعة وان ترتب على تأديبهم وانخفاضهم معهم من المثوبة الاخروية فإنما هي راجعة ايضا الى تربية نبيهم ولا شك ان نبينا صلّى الله عليهم أفضل الأنبياء واكملهم في التربية والإرشاد فيكون أبوته ايضا أكمل واشفاقه ومرحمته لامته التي هي أفضل الأمم أتم وأوفر لذلك قال سبحانه
النَّبِيُّ يعنى هذا النبي المبعوث الى كافة الأمم المتمم لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم المكمل لمعالم الدين ومراسم المعرفة واليقين أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ وأحق لهم ان يرجحوا جانبه على أنفسهم ويختاروا غبطته مِنْ غبطة أَنْفُسِهِمْ إذ نسبة تربيته الى أشباحهم وأرواحهم كنسبة تربية الأب المشفق المحافظ ابنه عن جميع ما لا يعنيه المراقب له في عموم أحواله ليوصله الى الحياة الابدية والبقاء الأزلي السرمدي ونسبة تربية نفوسهم المدبرة لأبدانهم وان كانت هي ايضا بتوفيق الله واقداره انما هي مقصورة الى حفظ أجسامهم لئلا تنهدم وتنخرم ولا تزول عنها الحياة المستعارة وشتان ما بين النسبتين والتربيتين وَأَزْواجُهُ ايضا أُمَّهاتُهُمْ يعنى بعد ما قد ثبت ان تربيته صلّى الله عليه وسلّم شاملة وأبوته كاملة صارت أزواجه اللاتي في حجوره صلّى الله عليه وسلّم وتحت حضانته أمهات المؤمنين في الدين وجرمتهن أعظم واولى من حرمات أمهاتهم النسبية إذ هن اتباع له صلّى الله عليه وسلّم واهل بيته فيسرى الأدب معه إليهن وهن ايضا في انفسهن من الكاملات اللائقة لانواع الحرمات والمكرمات ومن جملتها لياقتهن بشرف صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم فعليكم ايها المؤمنون ان لا تنكحوا أزواجه ابدا إذ هن أمهاتكم وَبعد ما سمعتم ايها السامعون المؤمنون ان النبي خير آبائكم في الدين وأزواجه فضليات أمهاتكم ايضا فيه وسائر المؤمنات والمؤمنين إخوانكم وأخواتكم في الدين لا تظنوا ان حكم أبوته صلّى الله عليه وسلّم وامومتهن رضى الله عنهن واخوة المؤمنين تسرى في احكام الميراث والعصوبة ايضا بل أُولُوا الْأَرْحامِ وذوو القرابة المنتمون إليكم بالقرابة النسبية على تفاوت طبقاتهم ذكورا كانوا او إناثا بَعْضُهُمْ أَوْلى وأحق شرعا بِبَعْضٍ اى بأخذ الميراث من بعض يعنى هم اصحاب الفروض والعصبات يأخذون متروكات المتوفى عنهم ويحرزونها لقرابتهم النسبية بمقتضى سهامهم المقدرة فِي كِتابِ اللَّهِ المنزل عليكم المطابق لما في حضرة علمه المحيط ولوح قضائه الشامل الجامع مِنْ النبي وأزواجه وأجانب الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ وهم وان كانوا إخوانا وآباء وأمهات في الدين لا يأخذون شيأ من أموالهم ومواريثهم بلا قرابة سببية إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا ايها المؤمنون وتخرجوا أموالكم وصية على الوجه المشروع المستحسن إِلى أَوْلِيائِكُمْ في الدين مع كونهم أجانب لكم مَعْرُوفاً وصية مشروعة مستحسنة عقلا وشرعا غير مؤدية الى احراز التركة وحرمان الورثة وهي التي لا تكون أزيد من ثلث المال قد كانَ ذلِكَ اى إخراج الوصية على الوجه المعروف
فِي الْكِتابِ الذي يتلى عليكم وفيما قبله ايضا من الكتب المنزلة على الأمم الماضية مَسْطُوراً مثبتا فللموصى له ان يأخذها على مقتضى ما ثبت في حكم الله وكتابه
وَكيف لم يحسنوا الأدب أولئك المؤمنون الماضون السابقون مع أنبيائهم وهؤلاء اللاحقون معك مع انا ما بعثنا الأنبياء والرسل الى أممهم الا لإرشادهم وهدايتهم الى توحيدنا وإيصالهم الى زلال تفريدنا على ذلك قد أخذنا العهود والمواثيق المؤكدة من عموم الأنبياء والرسل تأكيدا وإلزاما اذكر يا أكرم الرسل لمن تبعك من المؤمنين ليحافظوا على ما أمروا وقت إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ المبعوثين الى الأمم الماضية مِيثاقَهُمْ وعهودهم الوثيقة المؤكدة وَلا سيما مِنْكَ يا أكمل الرسل وَمِنْ نُوحٍ المنجى وَإِبْراهِيمَ الخليل وَمُوسى الكليم وَعِيسَى الصفي الخالص عن كدر الناسوت من قبل الأب لأنه ابْنِ مَرْيَمَ لم يمسها ذكر من بنى نوعها بل انما ولدته بلا أب إرهاصا لها ومعجزة لابنها خص سبحانه هؤلاء الكرام بالذكر اهتماما بشأنهم صلوات الله عليهم وسلامه وَأَخَذْنا مِنْهُمْ كرره تأكيدا ومبالغة اى من كل واحد منهم وممن لم نذكر أساميهم من ذوى العزائم الخالصة مِيثاقاً غَلِيظاً وعهدا وثيقا محكما مؤكدا على ان لا تتهاونوا ولا تتكاسلوا في ارشاد العباد وابعادهم عن الجور والفساد وإيصالهم الى ما أعددنا لهم من المراتب العلية والدرجات السنية وقد أنزلنا عليهم الكتب والصحف المشتملة على الأوامر والاحكام المقربة لتوحيدنا والعبر والنواهي المبعدة عن الكفر والضلال وامرناهم ايضا بتبيين الأوامر والنواهي الى أممهم وتنبيها عليهم ليتفطنوا على فطرتهم التي هم جبلوا عليها في عالم الغيب وليتميز عندهم الحق الحقيق بالاتباع عن الباطل الزاهق الزائل كل ذلك
لِيَسْئَلَ سبحانه في النشأة الاخرى عن الأنبياء ورسله صلوات الله عليهم من احوال العباد الصَّادِقِينَ الممتثلين بأوامر الله المجتنبين عن نواهيه عَنْ صِدْقِهِمْ وإخلاصهم في أعمالهم ونياتهم فيها وعن أحوالهم ومواجيدهم واعتقاداتهم وتلقيهم لقبول الحق والمحافظة عليه ليشهد الأنبياء لهم فيفوزوا الى ما قد أعد لهم وهيّئ لأجلهم من المراتب والمقامات وانواع السعادات والكرامات مع ان علمه سبحانه بحالهم يغنى عن شهاداتهم وليسأل ايضا سبحانه عن عناد العباد المصرين على الجور والفساد المجترئين على الله بالخروج عن حدوده ومقتضيات أحكامه ليشهدوا صلوات الله عليهم فيساقوا صاغرين مهانين الى ما قد أعد الله لهم من الدركات الهوية الجهنمية وَاعلموا ان الله سبحانه قد أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ الجاحدين لأوامر الله ونواهيه المنزلة في كتبه على رسله عَذاباً أَلِيماً لا عذاب أشد ايلاما منه. ثم نادى سبحانه المؤمنين الموحدين المواظبين على الطاعات بامتثال الأوامر واجتناب المنهيات كي تصلوا الى ما قد أعد لهم ربهم من المثوبات والمكرمات فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم تعداد نعم الله عليكم وإحصاء فواضله المتوالية المتتالية المتسعة اذْكُرُوا في عموم أوقاتكم وأحوالكم نِعْمَةَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ على تعاقب الأزمان وتلاحق الآنات والأحيان سيما نعمة انجائكم من أعدائكم ونصركم عليهم مع كونكم آيسين مأيوسين منه اذكروا يا اهل يثرب وقت إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ متعددة واحزاب متعاقبة متلاصقة قاصدين لمقتكم واستئصالكم وهم قريش وغطفان ويهود بنى قريظة وبنى النضير وكانوا زهاء اثنى عشر الفا وأنتم قليلون فخفرتم الخندق على المدينة ثم خرجتم تجاه الأعداء وأنتم ثلاثة آلاف والخندق بينكم وبينهم فقعدتم متقابلين وقد مضى عليها قريب شهر لا حرب بينكم الا
بالترامي بالنبل والحجارة فاضطررتم بل اضطربتم وقد اوجستم في انفسكم خيفة خفية منهم وصرتم مذبذبين متزلزلين لا الى الفرار ولا الى القرار وبعد ما قد ابصرناكم كذلك واطلعنا على قلوبكم أمددناكم بإرسال الريح وإنزال الملائكة اعانة لكم وتأييدا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً يعنى الصبا وهبت عليهم عاصفة بحيث تقلع أوتادهم وتسقط الخيام عليهم وتطفئ نيراتهم وتكفئ قدورهم وتجيل خيولهم وكانت هذه في ليلة شاتية باردة في غاية البرودة وَأرسلنا عليهم ايضا جُنُوداً من الملائكة قد ظهروا جوانب معسكرهم بحيث لَمْ تَرَوْها جنودا مثلها أصلا فقال حينئذ صناديدهم وكبراؤهم النجا النجا فان محمدا قد بدا بالسحر فانهزموا من غير قتال فنجوتم سالمين عناية من الله وانجازا لوعده ومعجزة لرسوله صلّى الله عليه وسلم وَكانَ اللَّهُ المطلع لأحوال عباده بِما تَعْمَلُونَ أنتم من حفر الخندق والتزلزل والتذبذب والرعب الخفى وبما يعملون ايضا أولئك المسرفون من التحزب والتوافق على استئصالكم بَصِيراً رائيا عليما منكم امارات التذبذب والتزلزل وكيف لا تزلزلون أنتم وقت
إِذْ جاؤُكُمْ وهم غطفان مِنْ فَوْقِكُمْ اى من أعلى الوادي من قبل المشرق وَقد جاؤكم القريش مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ اى من أسفل الوادي من قبل المغرب واضطررتم وليس معكم من يقابل احد الجانبين حينئذ فكيف بكليهما وَاذكر وقت إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ حينئذ منكم ومالت عن مستوى نظرها وتقلقلت واضطربت حيرة وشخوصا وَقد اضطربتم في تلك الحالة بحيث قد بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ يعنى قد بلغت من غاية الرعب والخوف قلوبكم حناجركم لان ريتكم قد انتفخت من الرعب المفرط فارتفع القلب بارتفاعها الى رأس الخنجرة وهي عبارة عن منتهى الحلقوم الذي هو مدخل الطعام والشراب وَحينئذ كنتم تَظُنُّونَ ايها الظانون المرعوبون بِاللَّهِ الذي قد وعدكم بالنصر والغلبة على الأعداء وبإظهار دينكم واعلائه على الأديان كلها الظُّنُونَا اى أنواعا من الظنون بعضها صحيح وبعضها فاسد على تفاوت طبقاتكم في الإخلاص وعدمه فمنكم من يظن ان الله منجز وعده الذي قد وعده لرسوله من إعلاء دينه ونصره على أعدائه إذ لا خلف لوعده سبحانه ومنكم من يتردد ويتحير بين الأمرين الى حيث لا يرجح أحدهما لذلك يخاف من ضعف وثوقه بالله وعدم رسوخه في الايمان وبالجملة
هُنالِكَ في تلك الحالة قد ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وجربوا واختبروا كي يتميز المخلص منهم من المنافق والثابت الراسخ من المتردد المتزلزل وَلذلك قد زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً من شدة الفزع والهول المفرط بحيث كاد ان يخرج أرواحهم من اجسادهم
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ حينئذ وَالمؤمنون الَّذِينَ قد بقي فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من امارات الشقاق ولم يصفوا بعد لحداثة عهدهم حتى يتمكنوا على الوفاق ويتمرنوا بالاتفاق ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الظفر على الأعداء وانتشار هذا الدين في الأقطار والأنحاء إِلَّا غُرُوراً باطلا زورا زاهقا زائلا وبالجملة قد بالغوا في ذلك حيث قال معقب بن قشير يعدنا محمد بفتح فارس والروم واحدنا لا يقدر ان يتبرز للقتال مع هؤلاء الفرق فظهر ان وعده ما هو الا غرور باطل
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ اى من منافقي المدينة والذين في قلوبهم مرض وضعف اعتقاد ويقين وهم يعدون أنفسهم من المؤمنين يا أَهْلَ يَثْرِبَ واصحاب المدينة لا مُقامَ لَكُمْ ولا يحسن اقامتكم الآن ومقاومتكم في مقابلة هذه الأحزاب ذوو عدد وعدد كثيرة وأنتم شرذمة قليلون بالنسبة إليهم فَارْجِعُوا عن دين محمد وانتشروا عن
حوله حتى تسلموا من يد الأعادي وَبعد ما سمع المؤمنون قول أولئك المنافقين الآمرين بالارتداد والرجوع صاروا مترددين متزلزلين في دينهم وأدّى أمرهم في التزلزل والتذبذب الى حيث يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ حيث يَقُولُونَ معتذرين معللين للرجوع والذب عن حول النبي صلّى الله عليه وسلم إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ غير حصينة خالية من المحافظ المراقب فأذن لنا حتى نرجع الى بيوتنا ونستحفظها وَالحال ان بيوتهم ما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي حصينة محفوظة لا خلل فيها بل إِنْ يُرِيدُونَ وما يقصدون من هذا القول المزور إِلَّا فِراراً عن الزحف واعراضا عن الدين القويم
وَمن غاية ضعفهم في الدين وعدم تثبتهم ورسوخهم في الاعتقاد واليقين لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ المدينة وحبست مِنْ أَقْطارِها وحصنت من جميع جوانبها بحيث لم يمكن الظفر عليها لا لهؤلاء الأحزاب ولا لغيرهم ايضا من عساكر الأعادي بل من أضعافهم وآلافهم ثُمَّ بعد ما تحصنت عليهم بيوتهم كذلك وصاروا آمنين من ظفر العدو مطلقا سُئِلُوا الْفِتْنَةَ اى ان طلب احد منهم إيقاع الفتنة بين المؤمنين والهزيمة والفرار من الزحف والارتداد عن الايمان والإسلام وعن النصر للمؤمنين لَآتَوْها البتة هؤلاء الجهلة الضعفة المتمائلون الى الكفر ومواخاة الكفرة عن صميم فؤادهم وجاءوا بالفتنة والفرار وبالردة عن الدين وبالقتال مع المسلمين على الفور وَما تَلَبَّثُوا وتوقفوا بها اى بإتيان الفتنة والردة بعد ما سئلوا عنها وطولبوا بِها إِلَّا يَسِيراً اى آنا واحدا لا زمانا بل مقدار ما يفهمون سؤال السائل ومقصوده منه وكيف لا يؤتونها
وَهم في أنفسهم لَقَدْ كانُوا يعنى بنى حارثة وبنى سلمة منهم قد عاهَدُوا اللَّهَ عهدا وثيقا مؤكدا مِنْ قَبْلُ اى قبل حفر الخندق وذلك في يوم احد حين أرادوا ان يفشلوا عن رسول الله وقد تخلفوا عنه يوم بدر فلما رأوا ما اعطى الاحديون والبدريون من الكرامة العظيمة عاجلا وآجلا قالوا معاهدين لئن اشهدنا الله قتالا فلنقاتلن وحلفوا غليظا شديدا لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أصلا فالآن قد تذبذبوا وتضعضعوا وكادوا ان يولوا وَلم يعلموا انه قد كانَ عَهْدُ اللَّهِ الذي قد عهدوا معه سبحانه من قبل مَسْؤُلًا عنه وعن نقضه ووفائه وهم مجزيون بمقتضى ما ظهر منهم من النقض والوفاء
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد تحقق عندك قصد فرارهم وانهزامهم وذبهم عنك لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ ابدا بل إِنْ فَرَرْتُمْ من ضعف يقينكم ووهن اعتقادكم مِنَ الْمَوْتِ حتف الأنف كما يفر عوام الناس من الطاعون والوباء والزلزلة وغير ذلك من الابتلاءات الإلهية أَوِ الْقَتْلِ في يوم الوغاء وَإِذاً يعنى بعد ما تفرون حينئذ لا تُمَتَّعُونَ تمتيعا كثيرا مؤبدا بل ما تمتعون إِلَّا قَلِيلًا في زمان قليل إذ لكل منكم أجل مقدر عنده سبحانه ولكل أجل قضاء وانقضاء ومضاء ولا دوام الا لمن هو متعال عن مطلق الأجل والقضاء والانقضاء منزه عن توهم الابتداء والانتهاء وعن الإعادة والإبداء مقدس عن تعديد الازمنة وتحديد الأمكنة مطلقا وان جادلوا معك يا أكمل الرسل وعاندوا بالفرار والتحصن للنجاة من العدو وإهلاكه بحيث لا تبقى لهم يد علينا
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ اى يحفظكم ويحرزكم مَنْ قهر اللَّهِ المنتقم الغيور وعذابه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً واصابة بلاء وشدة ومحنة أَوْ من ذا الذي يمنع عنكم لطفه سبحانه ان أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً عطفا ومحبة وَبالجملة لا يَجِدُونَ أولئك المتذبذبون المتضعضعون لَهُمْ اى لأنفسهم
مِنْ دُونِ اللَّهِ المراقب عليهم في عموم أحوالهم وَلِيًّا يتولى امور تحصنهم وتحفظهم وَلا نَصِيراً ينصرهم على أعدائهم وبالجملة جميع اعمال العباد وأفعالهم مفوضة الى الله أولا وبالذات مقهورة تحت قدرته الكاملة فلهم ان يفوضوا اليه ليسلموا عن غوائل العناد والإصرار وان اعتذروا بك وتبرؤا عما كانوا وصاروا عليه قل لهم يا أكمل الرسل
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ بحضرة علمه المحيط الحضوري الْمُعَوِّقِينَ المثبطين مِنْكُمْ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتخلفين عنه في الحروب والمعارك ألا وهم المنافقون وَيعلم ايضا الْقائِلِينَ منكم ايها المنافقون من اهل المدينة لِإِخْوانِهِمْ ممن في قلوبهم مرض من المؤمنين هَلُمَّ إِلَيْنا من المخاوف والمهالك وَبعد ما سمعوا منكم إخوانكم قولكم هذا لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ الحرب والقتال إِلَّا قَلِيلًا اى اتيانا قليلا بل يثبطون ويسوفون ويعتذرون بالأعذار الكاذبة وبالجملة هم اى المنافقون المثبطون ما أتوا ما أتوا الا
أَشِحَّةً بخلاء عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون المخلصون بما معكم من المعاونة والنفقة في سبيل الله او خوف الظفر وفوت الغنيمة عنهم او من خوف العاقبة وانما فعلوا ذلك قبل القتال فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ وظهر امارات الوغاء وهاج امواج الفتن والحرب ولمع بروق الفناء وتشعشع صوارم القضاء رَأَيْتَهُمْ ايها الرائي حين يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ من شدة خوفهم وخشيتهم تَدُورُ تتحرك وتضطرب أَعْيُنُهُمْ احداقهم في آماقهم كَالَّذِي يُغْشى يحل ويدور عَلَيْهِ مِنَ امارات الْمَوْتِ وظهر عليه علامات السكرات فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وزال الرعب والخشية وانهزم العدو واجتمعت الغنائم سَلَقُوكُمْ وجاؤكم متسلقين متسلطين عليكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ذرابة قاطعة باسطين أيديهم الى الغنائم وقت قسمتكم صائحين عليكم قائلين لكم لستم أنتم اولى منا وأحق بهذه الغنائم مع انا قد شهدنا القتال معكم بل نحن لا نقصر وأنتم قاصرون مقصرون فبم ترجحون أنتم علينا وانما سلقوكم بها لكونهم أَشِحَّةً بخلاء عَلَى الْخَيْرِ الذي وصل إليكم من الغنائم العظام وبالجملة أُولئِكَ البعداء الهالكون في تيه النفاق والشقاق لَمْ يُؤْمِنُوا بتوحيد الله ولم يخلصوا الايمان به وبرسوله وكتابه قصدا وعزما بل انما آمنوا واعترفوا باللسان لحقن الدماء والأموال خداعا ومكرا ولذلك قد مكر الله المطلع على نياتهم بهم فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ الصالحة وأبطلها عليهم بلا ترتيب الجزاء والمثوبات الاخروية كما لاعمال المخلصين من المؤمنين وَكانَ ذلِكَ الإحباط والابطال عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر بعموم ما ثبت في لوح قضائه يَسِيراً سهلا غير عسير عنده وان استعسرتم ايها المحجوبون بالحجب الظلمانية الكثيفة ومن كمال غيهم وضلالهم ونهاية جبنهم ورعبهم من الأحزاب
يَحْسَبُونَ ان الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا فكيف ان ينهزموا مع انهم قد ذهبوا منهزمين بحيث لم يبق منهم احد وَهم مع كمال محبتهم ومودتهم مع الأحزاب إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ ويكروا بعد الفرار يَوَدُّوا يعنى هؤلاء المنافقون يودون إتيانهم بحيث تمنوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ ظاهرون فِي البدو خلال الْأَعْرابِ الأحزاب اى بينهم خارجون من بين اظهر المسلمين لاحقون بالكفرة معدودون منهم يَسْئَلُونَ كل قادم من قبلكم عَنْ أَنْبائِكُمْ وأخباركم وما جرى عليكم ايها المؤمنون من الوقائع الهائلة والمصيبات المهولة وَمن كمال ودادتهم مع الكفرة لَوْ فرض انهم كانُوا فِيكُمْ وقت كر الكفرة عليكم ما قاتَلُوا اى المنافقون من قبلكم مع أعداءكم إِلَّا قَلِيلًا منهم وهو ايضا على سبيل الرياء والسمعة وبمقتضى ما زعموا من جلب النفع
او دفع الضر لا لرضاء الله وإعلاء دينه ونصرة نبيه. ثم قال سبحانه تحريكا لحمية المؤمنين
لَقَدْ كانَ لَكُمْ ايها المؤمنون المخلصون الطالبون المتخلقون بأخلاق الله تعالى الهاربون عن اخلاق عدوه فِي رَسُولِ اللَّهِ المبعوث لإرشادكم وهدايتكم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وخصلة حميدة بديعة يجب لكم التأسى والاتصاف بها لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ اى لقاءه ومطالعة وجهه الكريم وَيرجو ايضا الْيَوْمَ الْآخِرَ الموعود فيه هذه الكرامة العظيمة وَبواسطة هذا الرجاء وغلبة هذه الامنية العظيمة في خاطره قد ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً في عموم الأحيان والاحياز لتلذذه بذكره سبحانه حتى ينال ما وعد من الفوز بشرف اللقاء والبقاء ومن كان شأنه كذلك وهمه هكذا فهو مؤتس الى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم في تلك الخصلة المحمودة والديدنة المسعودة المقبولة عند الله التي هي الرضا بجميع ما جرى عليه من القضاء ومن علاماتها الثبات على العزيمة وتحمل الشدائد ومقاساة الأحزان وارتكاب المتاعب والمشاق في إعلاء دين الله وافشاء كلمة توحيده والتوكل نحوه في السراء والضراء وكظم الغيظ عند هجوم الغضب والعناء والعفو عند القدرة عن الأعداء وغير ذلك من الخصلة الحميدة والأخلاق الجميلة المرضية
وَمن شدة تأثير هذه الخصائل الجميلة في قلوب المؤمنين لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ المخلصون الْأَحْزابَ حواليهم قالُوا متذكرين لوعد الله متثبتين على دينه متشمرين لإعلاء كلمة توحيده هذا الوقت وقت انجاز ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من النصر والغلبة على الأعداء والفوز بأنواع الغنائم والعطاء آجلا وعاجلا بقوله سبحانه أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية. وقوله عليه السلام سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم وقوله صلّى الله عليه وسلّم انهم سائرون إليكم بعد تسع او عشر وَقد صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في جميع ما جاءنا من قبل الله وقبل رسوله من الوعد والوعيد وانواع النعم والعطاء والمحن والبلاء وَمن كمال تثبتهم وتفويضهم على الله وتوكلهم نحوه ما زادَهُمْ إلمام الخطوب وحدوث الوقائع وحلول المحن والبليات إِلَّا إِيماناً بالله وبكمال قدرته وعلمه وارادته وسائر صفاته الذاتية والفعلية وَتَسْلِيماً لعموم ما جرى عليهم من صولجان قضائه بلا تلعثم وتذبذب في ايمانهم واعتقادهم ومن غاية خلوصهم في ايمانهم وتسليمهم
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المشمرين لإعلاء دين الله ونصرة رسوله على العزيمة الكاملة الصادقة رِجالٌ ابطال كاملون في الإخلاص والشجاعة والوفاء قد صَدَقُوا في جميع ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وانجزوا جميع مواثيقهم ووفوا عموم عهودهم التي قد عهدوا مع الله ورسوله من الثبات على العزيمة والتصبر في المعركة وعدم التزلزل من المحل الذي قد عين لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في صف القتال وبالجملة لم يجبنوا ولم يضعفوا أصلا فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ووفى نذره بان قاتل مع اعداء الله بمقتضى ما قد عهد ونذر حتى استشهد ووصل الى مرامه ومبتغاه كحمزة ومصعب بن عمير وانس بن النضر رضوان الله عليهم أجمعين وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة كعثمان وطلحة فقاتلوا مع الأعداء وقتلوهم ونجوا منهم سالمين منتظرين الى قتال آخر ليستشهدوا فيه وَمن كمال تمكنهم وتثبتهم في يقينهم وإخلاصهم في ايمانهم ما بَدَّلُوا وما غيروا من النذور والعهود المنذورة المعهودة التي قد أتوا بها عازمين عليها جازمين ولا اضمروا ايضا في أنفسهم كالمنافقين تَبْدِيلًا وتغييرا قليلا نذرا يسيرا من التبديل والنقض فكيف بالعظيم الكثير بل قد زادوا عليها وأكدوها كل ذلك
لِيَجْزِيَ اللَّهُ المجازى لاعمال عباده الصَّادِقِينَ المخلصين منهم بِصِدْقِهِمْ وبمقتضى وفائهم وايفائهم جزاء حسنا يناسب صدقهم وإخلاصهم او بواسطة صدقهم وإخلاصهم وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ منهم ويجازيهم حسب كفرهم ونفاقهم تعذيبا مخلدا مؤبدا إِنْ شاءَ سبحانه وتعلق ارادته ومشيته بتخليدهم في العذاب أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويوفقهم على الايمان والإخلاص ان تعلق ارادته بانقاذهم من العذاب الأبدي إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم ما أحاط به تحت علمه وقدرته كانَ غَفُوراً ساتر الذنوب ممن وفقهم على التوبة من عصاة عباده رَحِيماً يقبل توبتهم ويرحم عليهم بعد ما أخلصوا فيها
وَمن غاية لطف الله على المؤمنين ووفور رحمته وإحسانه عليهم رَدَّ اللَّهُ عنهم كيد أعدائهم الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى الأحزاب المزدحمين حواليهم المتفقين على مقتهم بِغَيْظِهِمْ يعنى مع شدة غيظهم وشكيمتهم في مقت المؤمنين ووفور تهورهم وجرأتهم عليه لذلك طردهم سبحانه خائبين خاسرين بحيث لَمْ يَنالُوا خَيْراً مما أملوا في نفوسهم من الظفر على المؤمنين واستئصالهم وَمن كمال رأفته سبحانه على المؤمنين قد كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ اى أسقط وكف مؤنة قتالهم مع الأحزاب بريح الصبا وجنود الملائكة بحيث لم يقدم احد من المؤمنين لقتالهم فانهزموا الى حيث لم يلتفت احد منهم خلفه ولم يعاون أخاه وَليس ببدع من الله أمثال هذه الكرامات سيما لأنبيائه وأوليائه إذ قد كانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده قَوِيًّا قديرا في نفسه يقوى أولياءه عَزِيزاً غالبا ينصرهم ويغلبهم على أعدائهم فضلا لهم وكرامة عليهم
وَبعد ما قد كفى الله المؤمنين مؤنة الأحزاب أراد ان يكفيهم مؤنة معاونيهم ايضا لذلك قد أَنْزَلَ سبحانه الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ وعاونوهم اى الأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى يهود قريظة والنضير مِنْ صَياصِيهِمْ اى حصونهم وقلاعهم جمع صئصئة وهي ما يتحصن به من الجبل وغيره وذلك بعد ما انهزم الأحزاب ورجعوا خائبين خاسرين الى بلادهم ورجع صلّى الله عليه وسلّم الى المدينة مع أصحابه وشرع يغسل رأسه والأصحاب قد انتزعوا عن أسلحتهم فجاءه جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم معتجرا بعمامة من إستبرق والنقع على ثناياه وعلى فرسه الذي اسمه حيزوم وقال قد وضعتم أنتم السلاح ان الملائكة لم تضع أسلحتها منذ أربعين ليلة ان الله يأمرك بالمسير الى قريظة وانى نزلزل حصونهم وكان صلّى الله عليه وسلّم قد غسل نصف رأسه فعصبه واذن بالرحيل فقال من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر الا في بنى قريظة واعطى رايته عليا كرم الله وجهه فسار بالناس حتى دنى من الحصن فحاصرهم عليه السلام احدى وعشرين او خمسا وعشرين ليلة وأجهدهم الحصار وضعفوا وَقد قَذَفَ الله والقى فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ والخوف مع كونهم متحصنين فأرسل عليه السلام عليهم فقال لهم أتنزلون بحكمي فأبوا فقال على حكم سعد بن معاذ فرضوا بحكمه فنزلوا فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبى ذراريهم ونسائهم فكبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لقد حكمت بحكم الله يا سعد من فوق سبعة ارقعة فقتل منهم ستمائة او اكثر وأسر منهم سبعمائة كما قال سبحانه فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَبعد ما استأصلوا بالأسر والقتل قد أَوْرَثَكُمْ الله سبحانه إليكم ايها المؤمنون أَرْضَهُمْ مزارعهم وَدِيارَهُمْ التي يسكنون فيها مع ما فيها من الامتعة والرخوة وَأَمْوالَهُمْ مواشيهم ونقودهم وتجاراتهم تفضلا عليكم وامتنانا وَكذا قد يتفضل عليكم سبحانه ويورثكم أَرْضاً كثيرة لَمْ تَطَؤُها قط ولم تتحركوا عليها بل لم تبصروها ولم
تسيروا إليها وهي خيبر او مكة او فارس او الروم او كل ارض يفتح الله الى يوم القيامة وَلا تتعجبوا من كمال فضل الله وسعة جوده من أمثال هذه الكرامات إذ كانَ اللَّهُ المتعزز بالقدرة الكاملة والقوة التامة الشاملة عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيراً لا يعسر عنده مقدور دون مقدور بل الكل في جنب قدرته على السواء فارجع البصر هل ترى من فطور في مقدور حكيم قدير ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير. ثم لما اشتكت ازواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من العسرة في المأكل والملبس وسألن منه ثياب الزينة والزيادة في النفقة والسعة في المعيشة وليس معه صلّى الله عليه وسلّم من حطام الدنيا ما يكفى مؤنتهن على هذا الوجه اغتم صلّى الله عليه وسلّم وتحزن حزنا شديدا فقال تعالى مناديا له
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المفتخر المباهي بالفقر والفاقة قُلْ لِأَزْواجِكَ حين سألن عنك اسباب التنعم والترفه وسعة العيش على وجه التخيير إِنْ كُنْتُنَّ أيتها الحرائر العفائف تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها مطاعمها الشهية وملابسها البهية فَتَعالَيْنَ وتراضين أنتن أُمَتِّعْكُنَّ انا واعطكن المتعة حسب ما ترضين وَأُسَرِّحْكُنَّ وأطلقكن بعد اعطائها سَراحاً جَمِيلًا طلاقا رجعيا سنيا لا بدعيا بلا ضرر وإضرار
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اى رضاء الله ورسوله وَتطلبن الدَّارَ الْآخِرَةَ والمثوبات المعدة فيها والجنات المعهودة دونها فعليكن ان تصبرن عن لذائذ الدنيا ومشتهياتها وسعة مطعوماتها ولين ملبوساتها حتى تكن من زمرة المحسنات اللاتي تحسن في توجههن نحو الحق واللذة الاخروية مائلات عن امتعة الدنيا وعن عموم لذاتها وشهواتها معرضات عنها وعن أطعمتها وألبستها بالمرة سوى سد جوعة وستر عورة فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده قد أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ المرجحات جانب الله وجانب رسوله على مقتضيات اهوية نفوسهم واللذات الاخروية على لذات الدنيا وما فيها من اللذائذ والزخارف مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يستحقر دونها الدنيا وما فيها من اللذات الفانية والشهوات الغير الباقية. ثم لما نبه سبحانه عليهن طريق الإحسان وعلمهن سبيل الفوز الى درجات الجنان أراد ان يجنبهن ويبعدهن عن دركات النيران فقال مناديا عليهن ليقبلن الى قبول ما يتلى عليهن
يا نِساءَ النَّبِيِّ قد اضافهن سبحانه إياه صلّى الله عليه وسلّم للتعظيم والتوقير من شأنكن التحصن والتحفظ عن مطلق الفحشاء والتحرز عن عموم المحارم والمكاره مطلقا واعلمن مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ وفعلة قبيحة وخصلة ذميمة عقلا وشرعا سيما مُبَيِّنَةٍ بينة ظاهر فحشها بنفسها او ظاهر واضح قبحها شرعا وعرفا على كلتا القرائتين يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ يعنى عذابكن ضعف عذاب سائر الحرائر لا أزيد فيها حتى لا يؤدى الظلم المنافى للعدالة الإلهية كما يضاعف عذاب سائر الحرائر بالنسبة الى الإماء وَكانَ ذلِكَ التضعيف والتشديد عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ليعذبكن البتة ان تأت إحداكن بها
وَمَنْ يَقْنُتْ ويطع على وجه الخضوع والخشوع مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ويداوم على إطاعتهما وانقيادهما بإتيان الواجبات وبترك المحظورات وعموم المنكرات والمكروهات وَتَعْمَلْ عملا صالِحاً من النوافل والمندوبات نُؤْتِها أَجْرَها وجزاء أعمالها وطاعاتها في يوم الجزاء مَرَّتَيْنِ مرة على مقابلة الأعمال المأتى بها وبمقتضى الطاعات المرضى عنها ومرة على ترجيحها رضى الله ورضى رسوله على مشتهيات نفسها وأمانيها وَمع ذلك التضعيف قد أَعْتَدْنا لَها وهيأنا لأجلها تفضلا منا إياها وامتنانا عليها وراء ما استحقت بالأعمال والطاعات رِزْقاً كَرِيماً صوريا في الجنة مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ومعنويا
من الحالات الطارئة عليها عند استغراقها بمطالعة جمال الله وجلاله ثم ناداهن سبحانه تعظيما لهن وتنبيها عليهن فقال
يا نِساءَ النَّبِيِّ الأفضل الأكمل من عموم الأنبياء والرسل كما انه صلّى الله عليه وسلّم ليس في الكرامة والنجابة كآحاد الناس بل ليس كآحاد الأنبياء والرسل كذلك لَسْتُنَّ أنتن ايضا لنسبتكن اليه صلّى الله عليه وسلم كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ وواحدة منهن إذ فضيلته صلّى الله عليه وسلّم قد سرت إليكن فعليكن ان لا تغفلن عنها ولا تذهلن عن مقتضاها ورعاية حقوقها بل من شأنكن التحصن والتقوى والتحرز مطلقا عن ملهيات الهوى فلكن إِنِ اتَّقَيْتُنَّ يعنى ان تردن ان تتصفن بالتقوى عن محارم الله وعن مقتضيات الهوى فَلا تَخْضَعْنَ ولا تلن ولا تلطفن بِالْقَوْلِ والتكلم وقت احتياجكن الى المكالمة مع آحاد الرجال من الأجانب ولا تجبن عن سؤالهم هينات لينات مريبات مثل تكلم النساء المريدات لانواع الفتن والفسادات مع المفسدين من الرجال فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وميل الى الفجور إليكن بعد ما سمع منكن تلينكن في قولكن وَبالجملة قُلْنَ بعد ما تحتجن الى التكلم معهم عن ضرورة قَوْلًا مَعْرُوفاً مستحسنا عقلا وشرعا بعيدا عن الريبة المثيرة للطمع خاليا عن وصمة الملاينة المحركة للشهوات
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يعنى يا نساء النبي من شأنكن التقرر والتخلي في البيوت بلا تبرز الى الملأ بلا ضرورة رعاية لمرتبتكن التي هي أعلى من مراتب سائر النساء وَان تحتجن الى التبرز والخروج أحيانا عليكن انه لا تَبَرَّجْنَ ولا تبخترن في مشيكن مظهرات زينتكن مهيجات لشهوات المناظرين تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى مثل تبختر النساء المثيرات لشهوات الرجال في الجاهلية القديمة التي هي جاهلية الكفر والجاهلية الاخرى جاهلية الفسوق والعصيان في الإسلام خض سبحانه الاولى بالذكر وان كانت كلتاهما مذمومتين محظورتين شرعا لأنها افحش وأقبح واظهر فسادا لان النساء فيها يتزين بأنواع الزينة ويظهرن على الرجال بلا تستر واستحياء بل بملاينة تامة وملاطفة كاملة على سبيل الغنج والدلال وانواع الحركات المطمعة للرجال وَبالجملة من حقكن واللائق بشأنكن يا نساء النبي الاجتناب عن مطلق المنكرات والاشتغال بالطاعات والأعمال الصالحات سيما المواظبة على الصلوات النوافل والمفروضات أَقِمْنَ الصَّلاةَ المفروضة المقربة لكن الى الله على الوجه الذي علمتن من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وَآتِينَ الزَّكاةَ المطهرة لانفسكن عن الشح المطاع وانواع الأمراض العضال المتولدة من حب الدنيا وأمانيها ان بلغ اموالكن النصاب المقدر في الشرع وَبالجملة أَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اطاعة مقارنة بكمال الخشوع والخضوع والتذلل التام بالعزيمة الصيحة الخالية عن شوب الرياء والرعونات مطلقا في جميع ما امرتن بها ونهيتن عنها وبالجملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المراقب المصلح لأحوال عباده الخلص بإتيان أمثال هذه المواعظ والتذكيرات البليغة والتنبيهات العجيبة البديعة لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ويزيل عنكم القذر المستقبح المستهجن عقلا وشرعا بالمرة يا أَهْلَ الْبَيْتِ المجبولين على كمال الكرامة والنجابة والعصمة والعفاف وَيُطَهِّرَكُمْ عن ادناس الطبيعة وإكدار الهيولى المانعة عن الصفاء والنقاء الجبلي الذاتي تَطْهِيراً بليغا وتنظيفا لطيفا متناهيا بحيث لا يبقى فيكم شائبة شين ووصمة عيب ونقصان أصلا. ذكر الضمير لان النبي وعليا وابنيه صلّى الله عليه وعليهم فيهم فغلب هؤلاء الذكور الأشراف السادة على فاطمة وازواج النبي رضوان الله عليهن
وَبعد ما قد سمعتن يا نساء النبي ما يليق وينبغي بشأنكن اذْكُرْنَ في عموم الأوقات والحالات ما يُتْلى عليكن لإصلاح احوالكن وتكميلكن في الدين
فِي بُيُوتِكُنَّ غير مخرجات لطلبه إذ بيوتكن مهبط الوحى ومحل نزول الآيات المنزلة فلكن ان تلازمن خدمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وتشاهدن عليه صلّى الله عليه وسلّم من برحاء الوحى الموجب لقوة الايمان وكمال اليقين والعرفان فليس لكن ان تخرجن من بيوتكن وتتعبن انفسكن في طلب ما يتلى مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على وحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته وَالْحِكْمَةِ المتقنة الدالة على متانة فعله ووثاقة تدبيره إِنَّ اللَّهَ المطلع لعموم السرائر والخفايا كانَ لَطِيفاً يعلم دقائق ما في ضمائر عباده ورقائقه خَبِيراً ذو خبرة تامة كاملة على سوانح صدورهم وخواطر قلوبهم فعليهم ان يخلصوا الله جميع ما أتوا به ويجتنبوا عن مطلق التهاون والتواني في امتثال الأوامر والنواهي الإلهية وينقادوا له ويسلموا اليه مفوضين أمورهم كلها
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ المسلمين المخلصين المفوضين وَالْمُسْلِماتِ المفوضات المخلصات وَالْمُؤْمِنِينَ الموقنين الموحدين وَالْمُؤْمِناتِ الموقنات الموحدات وَالْقانِتِينَ الخاضعين المتذللين مع الله في عموم الطاعات والعبادات بل في جميع الحالات وَالْقانِتاتِ الخاضعات الخاشعات وَالصَّادِقِينَ في جميع الأقوال المخلصين في عموم الأعمال وَالصَّادِقاتِ كذلك وَالصَّابِرِينَ في البأساء والضراء بجميع ما جرى عليهم من سلطان القضاء وَالصَّابِراتِ ايضا كذلك وَالْخاشِعِينَ المتواضعين المتضرعين نحو الحق بجوانحهم وجوارحهم وَالْخاشِعاتِ ايضا كذلك وَالْمُتَصَدِّقِينَ بما عندهم من فواضل الصدقات طلبا لمرضاة الله وهربا عن مساخطه وَالْمُتَصَدِّقاتِ ايضا كذلك وَالصَّائِمِينَ الممسكين الحافظين نفوسهم مطلقا عما لا يرضى عنه سبحانه وَالصَّائِماتِ الممسكات انفسهن كذلك وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ عن امارات الزنا ومقدمات السفاح مطلقا وَالْحافِظاتِ ايضا كذلك وَالذَّاكِرِينَ المشتغلين بذكر الله باللسان والجنان وعموم الجوارح والأركان المتذكرين اللَّهَ باسمه الجامع الشامل لجميع الأسماء والصفات لا على سبيل التعديد والإحصاء ولا في حين دون حين بل كَثِيراً مستوعبا لعموم الأحيان والأزمان والأمكنة والاحياز وفي جميع الأوقات وعموم الحالات والآنات وَالذَّاكِراتِ ايضا كذلك قد أَعَدَّ اللَّهُ المصلح لأحوالهم المطلع على عموم ما قد جرى في ظواهرهم وبواطنهم من الإخلاص على وجه التذلل والانكسار وهيأ لَهُمْ اى لهؤلاء المتصفين بالصفات المرضية المذكورة والأخلاق المحمودة المقبولة عند الله مَغْفِرَةً سترا وعفوا لما صدر عنهم من الصغائر هفوة ومن الكبائر ايضا بعد ما تابوا وأنابوا عنها وأخلصوا فيها على وجه الندم وَأَجْراً جزيلا جميلا لصالحات أعمالهم عَظِيماً بأضعاف ما استحقوا بحسناتهم تفضلا عليهم وامتنانا. ثم لما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ان يزوج بنت عمته التي هي اميمة بنت عبد المطلب المسماة بزينب بنت جحش لزيد بن الحارث الذي هو مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعيّه وعتيقه فأبت هي وأمها اميمة وأخوها عبد الله بن جحش فاعرضوا عن تزويجها اليه لئلا يلحق العار عليهم من تزويج الشريفة بالمولى فنزلت
وَما كانَ يعنى ما صح وما جاز لِمُؤْمِنٍ اى لواحد من المؤمنين وَلا مُؤْمِنَةٍ واحدة من المؤمنات بعد ما أخلصوا الايمان بالله ورسوله ان يتخلفوا عن حكمهما أصلا سيما إِذا قَضَى اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله وَقد نفذ ايضا رَسُولُهُ أَمْراً من الأمور المقضية وحكما من الاحكام المحكومة المبرمة أَنْ يَكُونَ اى يثبت ويبقى لَهُمُ الْخِيَرَةُ والاختيار والترجيح بان يختاروا مِنْ أَمْرِهِمْ المحكوم به والمقضى عليه شيأ يخالف الحكم
الواقع منهما او يوافقه بل لهم ان يطيعوا وينقادوا لحكم رسول الله الذي هو حكم الله حقيقة وَبالجملة مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سيما بتغيير ما قد حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم وادعاء الخيرة والاختيار في المأمور به من قبله صلّى الله عليه وسلم فَقَدْ ضَلَّ به عن طريق الهداية ضَلالًا مُبِيناً وانحرف عن منهج الصواب والرشد انحرافا عظيما وبعد ما قد نزلت الآية رضيت زينب وأمها وأخوها فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على زيد ومضى عليها زمان الى ان جاء صلّى الله عليه وسلّم يوما من الأيام الى بيت زيد وليس هو في بيته فرأى زينب فأعجبته فقال صلّى الله تعالى عليه وسلّم متعجبا سبحان الله مقلب القلوب فسمعتها زينب وانصرف صلّى الله عليه وسلّم فلم جاء زيد أخبرته زينب بمجيئه صلّى الله عليه وسلّم وتسبيحه هكذا فالفى زيد في نفسه كراهتها فاتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أريد ان اطلق صاحبتي فقال صلّى الله عليه وسلّم أرى بك منها شيء قال والله ما رأيت منها الا خيرا ولكنها قد تترفع على بمقتضى شرافتها ونسبها
وَبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل من زيد ما سمعت اذكر وقت إِذْ تَقُولُ أنت لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذ قد وفقه للايمان وقبول الإسلام وشرفه بشرف صحبتك يعنى زيدا وَقد أَنْعَمْتَ ايضا عَلَيْهِ حيث أعتقته ودعوته وزوجته أَمْسِكْ يا زيد عَلَيْكَ زَوْجَكَ بعد ما لم ير بك منها شيء وَاتَّقِ اللَّهَ المنتقم الغيور واحذر عن بطشه بطلاق العفيفة والمفارقة منها بلا وصمة عيب ظهرت عنها وسمة نقص لاحت منها وَالحال انه أنت يا أكمل الرسل حينئذ تُخْفِي وتضمر فِي نَفْسِكَ حين قولك لزيد هكذا مَا اللَّهُ المطلع لما في القلوب العليم بما في الصدور مُبْدِيهِ يعنى شيأ وامرا هو سبحانه مظهره ومعلنه وهو ميلك الى زينب ونكاحها وارادتك بطلاق زيد وافتراقه عنها وَما سبب اخفائك هذا وإظهارك ضد مطلوبك الا انك تَخْشَى النَّاسَ من ان يعيروك بمناكحة زوجة عتيقك ودعيّك ويرموك بما لا يليق بشأنك مع انك برئ عنه وَاللَّهُ المطلع على عموم ما ظهر وبطن أَحَقُّ واولى من أَنْ تَخْشاهُ أنت وتستحي منه وتخاف إذ سبحانه غيور ينتقم عمن يشاء ويأخذه على ما يشاء بالإرادة والاختيار وما هذه الآية الا عتاب شديد وتأديب بليغ قالت عائشة لو كتم النبي شيأ مما انزل اليه لكتم هذه الآية البتة وبالجملة قد طلقها زيد ومضت عليها العدة قال صلّى الله عليه وسلم لزيد اذهب فاذكرها على فذهب زيد فقال يا زينب ان نبي الله أرسلني إليك بذكرك قالت ما انا بصانعة شيأ حتى اومر من ربي وقامت الى الصلاة فنزلت فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها اى من زينب وَطَراً ومصاحبته وطلقها باينا ومضت عدتها قد زَوَّجْناكَها يعنى زوجناك يا أكمل الرسل زينب بلا نصب ولى من الجانبين على الرسم المعهود في الشرع بل قد أبحنا لك الدخول عليها بلا عقد معروف وصيرناها زوجتك بلا مهر وعقر لذلك قد كانت تباهي على سائر النساء قائلة ان الله قد تولى نكاحي وأنتن زوجكن اولياؤكن فدخل صلّى الله عليه وسلّم عليها بلا اذن ولا عقد نكاح ولا صداق ولا شهود واطعم الناس خبزا ولحما. ثم قال سبحانه لِكَيْ لا يَكُونَ يعنى قد فعلنا ذلك كذلك لكيلا يكون عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ وضيق واثم فِي تزوج أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ الذين تبنوهم وسموهم أبناء محبة وولاء إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً يعنى بعد ما طلقوهن وسرحوهن سراحا جميلا وَبالجملة قد كانَ أَمْرُ اللَّهِ وحكمه المبرم المثبت في لوح قضائه مَفْعُولًا مقضيا نافذا كائنا على تعاقب الأحيان والأزمان. ثم قال سبحانه تسلية لنبيه وحطا
عنه صلّى الله عليه وسلّم العار سيما في أمثال هذه الأفعال الكائنة في قضاء الله المقضية في حضرة علمه المحيط
ما كانَ اى ما لحق وما عرض عَلَى النَّبِيِّ المؤيد من عند الله بأنواع التأييدات المنتظر على الوحى والإلهام في ما عنده سبحانه في عموم أحواله واعماله مِنْ حَرَجٍ ضيق واثم وسآمة ووخامة عاقبة فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ صلّى الله عليه وسلّم وما قدر لأجله وما كتب واثبت في لوح قضائه وحضرة علمه المحيط من مطلق الحوادث الكائنة الجارية عليه على تعاقب الأزمان والأوقات أصلا ومن جملتها هذا النكاح وبالجملة ليس أمثال هذا ببدع من الله مخصوص بهذا النبي بل سُنَّةَ اللَّهِ الحكيم العليم المتقن في أفعاله المستمرة القديمة التي قد سنها سبحانه فِي الَّذِينَ خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلُ من الأنبياء والرسل بان لا حرج ولا جريمة لهم أصلا فيما صدر عنهم من أمثاله وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ المثبت في لوح قضائه وحكمه المبرم المحكوم به في حضرة علمه المحيط قَدَراً مَقْدُوراً حتما مقضيا مبرما محكوما به البتة وكيف لا يقضى ولا يحكم بالسنن المقدرة للأنبياء والرسل وهم
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ المحمولة عليهم من قبل الله بوحي الله والهامه الى من أرسلوا إليهم من الأمم بلا تبديل ولا تغيير وَيَخْشَوْنَهُ وهم يخافون عنه سبحانه في عموم أحوالهم وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ يعنى من ديدنة الأنبياء العظام والرسل الكرام ومن خصلتهم الحميدة ان لا يخافوا من الناس ولا يستحيوا منهم لا من لوم لائم ولا من تعييره وتهديده بالقتل والضرب وغير ذلك بل ما يخافون ولا يخشون الا الله المنتقم الغيور المقتدر على انواع العذاب والعقاب وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً ظهيرا ومعينا لهم يكفى مؤنة أعدائهم ويدفع عنهم شرورهم ويكف عنهم جميع ما قصدوا عليهم من المقت والمكر وانواع الأذى والضرر. ثم لما عير الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بانه قد تزوج زوجة ابنه ودعيّه وهو زيد رد الله عليهم تعييرهم هذا وتشنيعهم هكذا فقال
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ايها الأجانب من المؤمنين على الحقيقة سواء كان زيدا او غيره حتى تسرى حكم الحرمة في تزوج زوجته بعد ما قضى الوطر عنها وَلكِنْ كان صلّى الله عليه وسلم رَسُولَ اللَّهِ الهادي لعباده قد أرسله سبحانه إليكم ليهديكم الى طريق الرشد بمقتضى سنته المستمرة في الأمم السالفة وَلكن من شأنه انه قد صار صلّى الله عليه وسلم خاتَمَ النَّبِيِّينَ وختم المرسلين إذ ببعثته صلّى الله عليه وسلّم قد كملت دائرة النبوة وتمت جريدة الرسالة والفتوة كما قال صلّى الله عليه وسلّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وقال تعالى في شأنه صلّى الله عليه وسلّم اليوم أكملت لكم دينكم يعنى ببعثته صلّى الله عليه وسلّم والسرفيه والله اعلم انه صلّى الله عليه وسلّم قد بعث على محض التوحيد الذاتي وسائر الأنبياء انما بعثوا على التوحيد الوصفي او الفعلى وبعد ما بعث صلّى الله عليه وسلّم على توحيد الذات فقد ختم به امر البعثة والرسالة وكمل قصر الدين القويم إذ ليس وراء توحيد الذات مرمى ومنتهى لذلك قد صار صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين وختم المرسلين وَكانَ اللَّهُ المطلع على جميع ما ظهر وما بطن بِكُلِّ شَيْءٍ وامر قد جرى في ملكه وملكوته وسيجرى عَلِيماً يعلم بعلمه المحيط الحضوري عموم ما قد لمع عليه نور وجوده حسب لطفه وجوده حكيما في بعثة الرسل لتنبيه من وفقه وجبله في سابق قضائه على فطرة التوحيد والايمان مختارا في ختم البعثة وتكميل الدين بعد ما قد وصل غاية كماله وظهوره
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وعرفوه حق معرفته وتوحيده وعرفوا ايضا كمالات أسمائه وصفاته مقتضى ايمانكم وعرفانكم المداومة على ذكره سبحانه اذْكُرُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد
الصمد المتصف بجميع أوصاف الكمال المستجمع لعموم الأسماء الحسنى التي لا تعد ولا تحصى ذِكْراً كَثِيراً مستوعبا بجميع أوقاتكم وحالاتكم وازمانكم وآناتكم وبالغوا في ذكره كي تصلوا من اليقين العلمي الى العيني
وَسَبِّحُوهُ ونزهوه عن جميع ما لا يليق بشأنه من لوازم الحدوث وأوصاف الإمكان بُكْرَةً وَأَصِيلًا اى في جميع آنات أيامكم ولياليكم طالبين الترقي من اليقين العيني الى الحقي وكيف لا تذكرون الله ولا تسبحون له ايها المؤمنون مع ان شكر المنعم المفضل واجب عقلا وشرعا
هُوَ الَّذِي سبحانه يُصَلِّي ويرحم عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون بذاته وبمقتضيات أسمائه وصفاته وَمَلائِكَتُهُ يستغفرون لكم باذنه وانما يفعل بكم سبحانه هذه الكرامة العظيمة لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمة العدم الأصلي وظلمة الطبيعة والهيولى وظلمة الحجب التعينية إِلَى النُّورِ اى نور الوجود البحت الخالص عن ظلمات التعينات والكثرات مطلقا وَكانَ سبحانه بِالْمُؤْمِنِينَ الموفقين على التوحيد الذاتي رَحِيماً يوفقهم على الايمان حسب رحمته الواسعة ثم يوصلهم الى رتبة التوحيد والعرفان مرقيا من مضيق الإمكان الى سعة فضاء الوجوب عناية لهم وتفضلا عليهم ثم يشرفهم بشرف لقائه بلا كيف ولا اين ولا وضع ولا اضافة محاذات ومقابلة بعد ما انخلعوا عن جلباب الناسوت وتشرفوا بخلعة اللاهوت
تَحِيَّتُهُمْ وترحيبهم من قبل الحق يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سبحانه سَلامٌ تسليم وتطهير عن رذائل التعينات ونقائص الأنانيات والهويات المستتبعة لانواع الضلالات والجهالات وَأَعَدَّ لَهُمْ سبحانه نزلا عليهم أَجْراً كَرِيماً وجزاء عظيما مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم قال سبحانه
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد المختص بأنواع الفضائل والكمالات واصناف الكرامات والمعجزات إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْناكَ الى كافة البرايا وعامة العباد شاهِداً تشهد لهم الحقائق وتحضرهم المعارف وتوصلهم بالتنبيهات الواضحة الى مرتبة الكشف والشهود لكون اصل جبلتهم وفطرتهم مجبولا من لدنا عليها وَمُبَشِّراً تبشرهم بالتوحيد المسقط لعموم الإضافات المستتبعة لانواع الكثرات المشوشة لنفوسهم وقلوبهم وَنَذِيراً تنذرهم عن مقتضيات القوى البهيمية من الشهوية والغضبية الموروثة لهم من عالم الناسوت الجالبة لانواع الخذلان والحرمان
وَداعِياً تدعوهم إِلَى توحيد اللَّهِ المنزه عن مطلق التحديد والتعديد دعوة مسبوقة بِإِذْنِهِ سبحانه وبمقتضى توفيقه ووحيه والهامه وَبالجملة قد أرسلناك يا أكمل الرسل الى عموم العباد سِراجاً مُنِيراً تضيء لهم أنت بدعوتك وارشادك وهم يستضيئون منك بتوفيقنا إياهم في ظلمات الضلالات ومهاوي الجهالات المتراكمة من الحجب الظلمانية والكثافات الهيولانية المتولدة من ظلمات الأوهام والخيالات الباطلة الطبيعية الباقية فيهم من ظلمة العدم
وَبعد ما سمعت يا أكمل الرسل سبب بعثتك وسره بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيد الله المترقين من اليقين العلمي الى العيني الطالبين الوصول الى اليقين الحقي بِأَنَّ لَهُمْ اى قد حق وثبت لهم مِنَ عناية اللَّهِ إياهم فَضْلًا كَبِيراً لا فضل اكبر منه واشرف ألا وهو الفوز بشرف اللقاء والرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء
وَبعد ما سمعت وظيفتك مع المؤمنين المسترشدين منك يا أكمل الرسل الطالبين هدايتك وارشادك إياهم وشرف صحبتك معهم لا تُطِعِ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد المجاهرين به وَالْمُنافِقِينَ الذين يخفون كفرهم وضلالهم عنك لمصلحة دنيوية ويظهرون عندك خلاف ما في نفوسهم ولا تجلس معهم ولا تصاحبهم أصلا وَان آذوك في مرورك عنهم وملاقاتك معهم بغتة دَعْ
أَذاهُمْ
واتركهم ومنازعتهم ولا تلتفت ايضا الى الانتقام عنهم واصبر على بغضهم فان صبرك يقتلهم عن الغيظ ويطفئ لهب غضبهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ المراقب لك في عموم احوالك لدفع شرورهم وثق اليه سبحانه وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حسيبا كافيا يكفى عنك مؤنة أعدائك ويكف أذاهم عناية لك واهتماما بشأنك. ثم لما أشار سبحانه الى ما قد أباح على نبيه صلّى الله عليه وسلّم بلا حرج أراد ان يشير الى ما أباح سبحانه على عموم المؤمنين بلا حرج لهم فيه وضيق فقال سبحانه مناديا لهم على وجه العموم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وصدقوا بعموم أوامره ونواهيه المنزلة من عنده مقتضى ايمانكم إِذا نَكَحْتُمُ وعقدتم الْمُؤْمِناتِ اللاتي هن أكفاء أحقاء بنكاحكم من المسلمات والكتابيات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وتجامعوا معهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ يعنى وما لزمكم وما وجب عليكم فيما يتلى عليكم من شعائر الشرع وأحكامه مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها وتحصونها كما للمدخول بهن والمتوفى عنهن من المدة المقدرة في الشرع لاستبراء الرحم محافظة على امتزاج المائين واختلاط النسبين وبعد ما لم تلزم عليهن العدة ايها المطلقون لهن فَمَتِّعُوهُنَّ وأعطوهن المتعة المستحسنة عقلا وشرعا ان لم تكن صدقاتهن مقدرة معينة وان كانت مقدرة فاعطوهن نصف ما قدر من المهر بلا تنقيص ومماطلة وَبعد ما أعطيتموهن المتعة او النصف من المهر المقدر سَرِّحُوهُنَّ واخرجوهن من منازلكم سَراحاً جَمِيلًا إخراجا هينا لينا بلا ضرر واضطرار وتنقيص مما استحققن عليه. ثم أشار سبحانه الى تعداد ما قد أحل وأباح لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم من الأزواج فقال مناديا له تبجيلا وتعظيما
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المفضل المكرم من لدنا على سائر الأنبياء والرسل بالعنايات العلية والكرامات السنية إِنَّا من مقام عظيم جودنا معك قد أَحْلَلْنا وأبحنا لَكَ في شرعك ودينك أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ وأعطيت أُجُورَهُنَّ مهورهن معجلا وَقد أبحنا لك ايضا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء المردودة إليك مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ المنعم المفضل عَلَيْكَ ورده سبحانه من خيار المسبيات وصيفات المغنم إليك وصيفة رضى الله عنها منهن وَقد أحللنا لك في دينك وشرعك بَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ من مكة حبالك وطلبا لمرضاتك ومرضاة ربك وما أبحنا لك من لم تهاجر معك منهن من المشركات الباقيات على الكفر والشرك وَقد أبحنا لك ايضا خاصة من دون المؤمنين امْرَأَةً مُؤْمِنَةً قيدها لان الكافرة لا تليق بفراشه صلّى الله عليه وسلم إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ تبرعا بلا جعل ومهر فعليه صلّى الله عليه وسلّم بعد الهبة الخيار إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها اى يطلب ان يدخل عليها ويقبلها للفراش احللناها خالِصَةً خاصة لَكَ يا أكمل الرسل تكريما لك وتعظيما لشأنك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعنى لم نجها لغيرك من أمتك بل هي من جملة الأمور التي قد اختصصت أنت بها كالتزوج فوق الاربعة وغيرها وانما نخص أمثال هذا لك يا أكمل الرسل ولم نعممها لأمتك لأنا من وفور حكمتنا قَدْ عَلِمْنا بحضرة علمنا المحيط الحضوري من ظواهر احوال المؤمنين وبواطنهم استعدادهم وقابليتهم على ما فَرَضْنا وقدرنا عَلَيْهِمْ حتما فِي حقوق أَزْواجِهِمْ من المهر والولي والشهود وعموم متممات النكاح ومكملاته وَعلمنا ايضا منهم سبب ما قدرنا عليهم في حق ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من المسبيات الزائدة ان لا يدخلوا عليهن الا ان يتملكوا بالقسمة او بوجه آخر لكن قد أنزلنا عليك يا أكمل الرسل بعض ما أبحنا عليهم وما خصصناك به دونهم
لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وضيق في تحميلها عليك مع انا نعلم من ظواهرك وبواطنك انك لا تهمل شيأ من حقوق الله ولا من حقوق عباده ولا يقع منك ظلم وجور على احد من خلق الله لذلك لم نضيق عليك امر النكاح تضييقنا على آحاد المؤمنين وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده المصلح لمفاسدهم غَفُوراً يستر ويعفو عنهم بعض ما يعسر عليهم التحرز في رعاية حقوق المؤمنين والمؤمنات رَحِيماً يرحم ويعين عليهم في حفظها ورعايتها حسب طاقتهم ثم لما وسّعنا عليك يا أكمل الرسل امر نكاحك وأبحنا لك ما لم نبح لغيرك فلك الخيار في أزواجك
تُرْجِي اى تؤخر وتترك مضاجعة مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي تلصق وتضم إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ منهن بلا حرج وضيق بل وَمَنِ ابْتَغَيْتَ وطلبت نكاحها مِمَّنْ عَزَلْتَ وطلقت تطليقا ثلاثا او أقل فَلا جُناحَ ولا اثم عَلَيْكَ ان تعيدها الى نكاحك بلا تحليل وتزويج للغير إذ من جملة خواصك تحريم مدخول بها لك على الغير مطلقا ذلِكَ اى تفويض امورهن إليك أَدْنى واقرب أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ إذ نسبتك إليهن حينئذ على السواء بلا ميل منك وترجيح وَالمناسب لهن ان لا يَحْزَنَّ بعد التفويض بل وَلهن ان يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ إذ لا تتفاوت نسبتك إليهن أصلا لأنك قد جبلت على الخلق العظيم والعدل القويم والصراط المستقيم سيما في حقوق أزواجك المنتسبات إليك كلهن نسبة واحدة وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده يَعْلَمُ ما يجرى فِي قُلُوبِكُمْ وضمائركم ايها المؤمنون من الميل الى بعض النساء دون بعض والنبي صلّى الله عليه وسلّم منزه عن هذا الميل والانحراف وأمثاله وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لعموم أحوالكم عَلِيماً بما جرى في صدوركم من الميل الى الهوى حَلِيماً ينتقم عنه ولكن لا يعجل. ثم لما خير سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم في امر نسائه وفوض امورهن كلها اليه صلّى الله عليه وسلّم وقد رضين ايضا كلهن بحكمه بلا إباء ومنع أراد سبحانه ان يمنع وينهى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن تطليقهن وتبديلهن والزيادة عليهن بعد ما بلغن التسعة فقال
لا يَحِلُّ لَكَ يا أكمل الرسل النِّساءُ اى تزوجهن مِنْ بَعْدُ اى بعد ان يتفقن أولئك التسعة على حكمك وأمرك وفوضن امورهن إليك وَلا يحل لك ايضا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ يعنى ان تطلق بعضهن وتبدلهن مِنْ أَزْواجٍ أخر من الاجنبيات وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ يعنى حسن الاجنبيات وبالجملة لا يحل لك التزوج الزائد بعد اليوم كما قد حل لك فيما مضى إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء فلا حرج عليك بدخولها وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المطلع على مقادر افعال عباده عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما جرى في ملكه وملكوته رَقِيباً يراقبه ويحافظه الى ان يكمل ثم يمنع بمقتضى حكمه المتقنة البالغة. ثم أشار سبحانه الى آداب المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في استيذانهم منه ودخولهم عليه صلّى الله عليه وسلّم وتناولهم الطعام عنده وبين يديه وتكلمهم مع أزواجه صلّى الله عليه وسلّم الى غير ذلك من الآداب فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله مقتضى ايمانكم رعاية الأدب مع رسولكم صلّى الله عليه وسلّم من قبل بيوته ومحل محارمه ومساكنه عليكم انه لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ بغتة بلا سبق استيذان منكم بل بيوت سائر المسلمين ايضا إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ دعوة إِلى طَعامٍ حاضر عنده صلّى الله عليه وسلّم حال كونكم غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ولا منتظرين الى وقته وَعليكم ان لا تدخلوا بلا دعوة لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا وأطعموا فَإِذا طَعِمْتُمْ
فَانْتَشِرُوا
واخرجوا على الفور وتفرّقوا وَلا تتمكنوا بعد الطعام عنده صلّى الله عليه وسلم مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ يتحدث بعضكم مع بعض او تسمعونه منه صلّى الله عليه وسلّم او من اهل بيته او بمهم آخر من مهماتكم إِنَّ ذلِكُمْ اى لبثكم عنده صلّى الله عليه وسلّم على وجه من الوجوه المذكورة قد كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي صلّى الله عليه وسلم مِنْكُمْ ان يخرجكم حسب حميته البشرية لأنه صلّى الله عليه وسلّم احيى الناس حليم صبور على اذاكم ولا يخرجكم عنوة وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده المنبه عليهم عموم مصالحهم لا يَسْتَحْيِي مِنَ اظهار كلمة الْحَقِّ التي يجب إيصالها الى المؤمنين المسترشدين لتترسخ في قلوبهم ويتمرنوا عليها ويتصفوا بها وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ يعنى من أزواجه صلّى الله عليه وسلم مَتاعاً وحوائج فَسْئَلُوهُنَّ متسترين مِنْ وَراءِ حِجابٍ بحيث لا يقع نظركم إليهن أصلا ذلِكُمْ اى التستر والتحجب من ازواج النبي أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ من امارات الإثم ومخايل المعصية وسوء الأدب وَقُلُوبِهِنَّ ايضا ترغيما للشياطين وتطهيرا لنفوسكم من غوائلها وتلبيساتها وَبالجملة اعلموا ايها المؤمنون ما كانَ وما صح وما جاز لَكُمْ في حال من الأحوال أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ بشيء يكرهه صلّى الله عليه وسلم ويستنزه عنه مطلقا وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ المدخول عليها مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً سواء كن حرائر أم إماء إِنَّ ذلِكُمْ اى ايذاءه صلّى الله عليه وسلّم ونكاح نسائه بعده قد كانَ عِنْدَ اللَّهِ المنتقم الغيور المقتدر على انواع الانتقام ذنبا عَظِيماً مستجلبا لأليم العذاب وعظيم العقاب واعلموا ايها المؤمنون
إِنْ تُبْدُوا وتظهروا شَيْئاً حقيرا مما يتعلق بايذائه صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه في حياته او بعد وفاته أَوْ تُخْفُوهُ في انفسكم غير مجاهرين به فَإِنَّ اللَّهَ المطلع في مكنونات صدوركم قد كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ ظهر على ألسنتكم او خطر ببالكم عَلِيماً لا يعزب عن علمه المحيط شيء من الدقائق والرقائق ثم لما نزلت آية التستر والحجاب قيل يا رسول الله الآباء والأبناء والأقارب والعشائر ايضا تكلموا معهن من وراء حجاب نزلت
لا جُناحَ ولا اثم ولا ضيق عَلَيْهِنَّ اى على أزواجه صلّى الله عليه وسلم فِي اختلاط آبائِهِنَّ والتكلم معهم بلا سترة وحجاب وَلا أَبْنائِهِنَّ ايضا وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ إذ الكل بعيد عن وصمة التهمة مصون من مطلق الريبة وَلا نِسائِهِنَّ يعنى النساء المؤمنات لا الكتابيات وَلا جناح ايضا في ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء وقيل من الإماء خاصة دون العبيد كما مرّ في سورة النور وَبالجملة يا نساء النبي المحفوظ المصون في ذاته عن ادناس الطبيعة وإكدار الهيولى مطلقا اتَّقِينَ اللَّهَ المنتقم الغيور واحذرن أنتن ايضا عن عموم محارمه ومنهياته مطلقا وامتثلن بأوامره ومندوباته حتى تشابهن وتشاركن معه صلّى الله عليه وسلّم في أخص أوصافه إِنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر كن قد كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ خلج في خواطركن من الإثم واللمم شَهِيداً حاضرا عنده سبحانه غير مغيب عنه بحيث لا يخفى عليه سبحانه خافية وان رقت ودقت. ثم أشار سبحانه الى تعظيم النبي عليه السلام وتوقيره والاعتناء بشأنه وعلو منزلته ومكانه فقال
إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء وَمَلائِكَتَهُ المهيمين عنده الوالهين بمطالعة جماله المستغرقين بشرف لقائه يُصَلُّونَ يعتنون ويهتمون بأنواع الرحمة والكرامة واصناف الاستغفار إظهارا لفضله صلّى الله عليه وسلّم وتبجيلا وتعظيما عَلَى النَّبِيِّ الحقيق لانواع التوقير والتمجيد المستحق لأصناف الكرامة والتحميد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
بالله بوسيلة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وتحققوا بتوحيده سبحانه بإرشاده صلّى الله عليه وسلم أنتم اولى وأحق بتعظيمه وتوقيره وتصليته وتسليمه صَلُّوا عَلَيْهِ مهما سمعتم اسمه صلّى الله عليه وسلم او ذكرتم أنتم في انفسكم وقولوا اللهم صل على محمد وَسَلِّمُوا له تَسْلِيماً قائلين السلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته. والآية تدل على وجوب الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم لعموم المؤمنين كلما جرى ذكره في أى حال من الأحوال وأى حين من الأحيان اللائقة للدعاء. ثم لما أشار سبحانه الى علو شأن نبيه صلّى الله عليه وسلّم وسمو برهانه وأوجب على المؤمنين تعظيمه وتوقيره والانقياد له في عموم أوامره ونواهيه أراد ان يشير سبحانه الى ان من قصد أذاه صلّى الله عليه وسلّم وأساء الأدب معه فقد استحق اللعن والطرد فقال
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حيث يأتون بالافعال الذميمة القبيحة المستكرهة عقلا وشرعا عنده صلّى الله عليه وسلّم فيؤذونه صلّى الله عليه وسلّم بهذه ذكر سبحانه نفسه هاهنا تعظيما لشأن حبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ ايذاؤه صلّى الله عليه وسلّم مستلزم لإيذائه سبحانه والا فهو في ذاته منزه عن التأذى والتأثر مطلقا قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ المنتقم عنهم وطردهم عن سعة رحمته وجنته وَأَعَدَّ لَهُمْ في النار عَذاباً مُهِيناً مؤلما مزعجا لا عذاب أسوأ منه وأشد ثم اردف سبحانه ايذاءه صلّى الله عليه وسلّم بإيذاء المؤمنين فقال
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بذمائم الأفعال والأقوال وقبائح الأطوار والحركات سيما بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا يعنى بغير جريمة صدرت عنهم واستحقوا الجناية عليها بل افتراء ومراء فَقَدِ احْتَمَلُوا وتحتملوا هؤلاء المؤذين المفترين بُهْتاناً جالبا لانواع العقوبات وَإِثْماً مُبِيناً ظاهرا عظيما مستعقبا مستتبعا لأسوء الجزاء وأشد العقاب والنكال إذ رمى المحصنات من افحش الجنايات وأقبح القبائح والخيانات. ثم أشار سبحانه الى آداب النساء وصيانتهن عن الرجال واستحيائهن منهم ليسلمن من افتراء المفترين ورمى الرامين فقال مناديا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ليبلغ الى أمته وأزواجه صلّى الله عليه وسلّم وأزواجهم ايضا
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد من لدنا المبعوث الى ارشاد البرايا ذكورهم وإناثهم قُلْ لِأَزْواجِكَ أولا على سبيل الشفقة والنصيحة وَبَناتِكَ ايضا وَسائر نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ إذا ظهرن وبرزن لحوائجهن أحيانا يُدْنِينَ ويغطين عَلَيْهِنَّ اى على أيديهن وأرجلهن وعلى جميع معاطفهن مِنْ فواضل جَلَابِيبِهِنَّ وملاحفهن بحيث لا يبدو من مفاصلهن واعضائهن شيء سوى العينين بل عين واحدة ليتميزن بها عن الإماء والفتيات المريبات المطمعات لأهل الفجور والفسوق وبالجملة ذلِكَ التستر والتغطى على الوجه الأتم الأبلغ أَدْنى واقرب أَنْ يُعْرَفْنَ ويميزن أولئك الحرائر العفائف من الإماء وعن مطلق المريبات المطمعات وبعد ما عرفن فَلا يُؤْذَيْنَ ولا يفترين ببهتان وَكانَ اللَّهُ المطلع لعموم ما اختلج في جوانحهن وخواطرهن غَفُوراً لهن بعد ما تبن الى الله وانبن رَحِيماً يقبل توبتهن ويرحم عليهن ان اخلصن فيها. ثم قال سبحانه مقسما مبالغا والله
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ولم ينزجر الْمُنافِقُونَ المفترون الرامون الباهتون عن إيذاء المؤمنات الحرائر المصونات المحفوظات والسرايا العفائف سيما بعد ما تحفظن وتسترن على الوجه المذكور وَلم يكف عنهن المتعرضون الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وضعف ايمان واعتقاد وميل الى الفسوق والفجور وَلا سيما الْمُرْجِفُونَ المجاهرون المترددون فِي الْمَدِينَةِ بأنواع النميمة والأراجيف والاخبار الكاذبة والمفتريات الباطلة الغليظة ويذيعونها
فيها عنادا وإفسادا لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ولنأمرنك يا أكمل الرسل بقتالهم واجلائهم ولنسلطنك عليهم بإقامة الحدود الشديدة والتعزيرات البليغة بحيث لا يمكنهم التمكن والاقامة فيها ويضطرون الى الجلاء ثُمَّ بعد ما قد وضعنا الحدود وامرناك بإقامتها وإجرائها لا يُجاوِرُونَكَ فِيها اى لا يستطيعون ولا يقدرون بمجاورتك في المدينة إِلَّا قَلِيلًا زمانا يسيرا يستعدون فيه للبعد والجلاء ويهيئون فيه اسباب الهرب والهزيمة من بين المسلمين والفرار عنهم والى اين يفرون ويهربون أولئك المطرودون المردودون حتى لا يؤاخذون ولا يؤسرون وهم قد كانوا بين المؤمنين
مَلْعُونِينَ مطرودين مبعدين عن روح الله وعن كنف جوار رسول الله وجوار المؤمنين لكونهم مؤذين متعرضين لعوارت المسلمين الباهتين المفترين اياهن ببهتان عظيم والمتصفون بهذه الأوصاف المذمومة والديدنة المستهجنة أَيْنَما ثُقِفُوا ووجدوا أُخِذُوا وأسروا وَان لم يمكن اسرهم قُتِّلُوا تَقْتِيلًا شديدا بحيث استوصلوا بالمرة واستئصال أمثال هذه الغواة المطرودين المردودين ليس ببدع من الله بل قد كان هذا
سُنَّةَ اللَّهِ القدير الحكيم المستمرة القديمة التي قد سنها سبحانه فِي انتقام مطلق المؤذين المفترين الَّذِينَ خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ أنت يا أكمل الرسل لِسُنَّةِ اللَّهِ المستمرة الجارية حسب حكمته المتقنة البالغة تَبْدِيلًا اى لا يبدل حكمه ولا يغير حكمته بل له ان يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ثم نبه سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما سيسأل عنه الكافرون تهكما واستهزاء وأشار سبحانه الى جواب سؤالهم تعليما له صلّى الله عليه وسلّم وإرشادا فقال
يَسْئَلُكَ يا أكمل الرسل النَّاسُ الناسون عهودهم التي عهدوا مع الله في مبدأ فطرتهم عَنِ السَّاعَةِ التي قد أخبرت أنت بها وبقيامها بمقتضى الوحى الإلهي والهامه كما اخبر بها سائر الرسل الكرام والأنبياء الأمناء العظام صلوات الله عليك وعليهم الى يوم القيام مستهزئين معك سائلين عن تعيين وقتها وقيامها أقريب هي أم بعيد قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اقترحوا عليك عنها إِنَّما عِلْمُها وعلم قيامها وتعيين وقتها وزمان إلمامها عِنْدَ اللَّهِ المطلع العليم الحكيم لا يطلع أحدا عليها من خلقه بل هي من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها في علم غيبه بل قد اخبر واوحى سبحانه بعموم أنبيائه ورسله بوقوعها حتما وأبهم تعيين وقتها عليهم فمجرد تحقق وقوعها يكفى في الخوف من أهوالها وافزاعها وشدائدها وعذابها وَبعد ما قد اخبر سبحانه بوقوعها وأبهم وقتها ما يُدْرِيكَ وما يطلعك ايها المخاطب تعيينها ومن انى لك ان تبعدها او تنكر وقوعها لَعَلَّ السَّاعَةَ المعهودة الموعودة تَكُونُ قَرِيباً تقع عن قريب فلم لم تتزود لها ولم تتهيأ اسبابها ايها المغرور بالدنيا الدنية وأمتعتها الفانية ولذاتها المتناهية وبالجملة
إِنَّ اللَّهَ المنتقم عن عصاة عباده قد لَعَنَ رد وطرد عن ساحة عز حضوره وقبوله الْكافِرِينَ المصرين على انكار يوم الجزاء وعلى تكذيب الأمور الواقعة فيه وَأَعَدَّ لَهُمْ قهرا عليهم وزجرا سَعِيراً مسعرا مملوا من النار المسعرة
خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون عنها أصلا لا بأنفسهم ولا بواسطة شفعائهم إذ يومئذ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يتولى أمرهم وينقذهم منها وَلا نَصِيراً ينصرهم ويعين عليهم لإخراجهم عنها اذكر يا أكمل الرسل
يَوْمَ تُقَلَّبُ وتصرف وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يعنى من جهة الى جهة اخرى تشديدا لعذابهم يَقُولُونَ حينئذ متمنين متحسرين يا لَيْتَنا قد أَطَعْنَا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد بمقتضى ما قد اخبر علينا الأنبياء والرسل وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا المبعوث إلينا المنذر بنا عن أمثال هذه العقوبات
التي قد طرأ علينا اليوم حتى لا نبتلى بهذا العذاب المؤبد المخلد
وَقالُوا ايضا متضرعين الى الله على سبيل التمني والتناجي رَبَّنا يا من ربانا بأنواع الكرامات واحسن تربيتنا بإرسال الرسل وإنزال الكتب فكذبنا الكتب والرسل وقد أنكرنا عليهما عنادا ومكابرة وبالجملة إِنَّا يا ربنا قد أَطَعْنا في انكار كتبك ورسلك سادَتَنا وَكُبَراءَنا الذين هم اصحاب الثروة والرياسة بيننا فحل عموم أمورنا وعقدها بأيدي أولئك الرؤساء البعداء الضالين المضلين فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا السوى المستقيم الموصل الى توحيدك وتصديق رسلك وكتبك وأنت اعلم منا يا ربنا بانا ما ضللنا الا بإضلال أولئك الطغاة البغاة الضالين المضلين
رَبَّنا آتِهِمْ جزاء اضلالهم وضلالهم ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ يعنى آتهم ضعف عذابنا ضعفا لضلالهم وضعفا لإضلالهم وَالْعَنْهُمْ واطرحهم يا ربنا وبعدّهم عن سعة رحمتك لَعْناً كَبِيراً طردا عظيما وتبعيدا بعيدا بحيث لا يرجى نجاتهم ابدا او طردا كثيرا متواليا متتاليا مستمرا على التعاقب والترادف. ثم وصى سبحانه عموم المؤمنين بان لا يكونوا مع نبيهم صلّى الله عليه وسلّم مثل بنى إسرائيل مع موسى الكليم صلوات الرحمن عليه وسلامه ولا يقصدوا أذاه صلّى الله عليه وسلّم كما قصدوا ولا يرموه صلّى الله عليه وسلّم بشيء لا يليق بشأنه كما قد رموا به موسى عليه السلام لان معاشر الأنبياء كلهم معصومون عن الكبائر مطلقا بل عن الصغائر ايضا على رأى صائب فلا بد لمن آمن بهم ان لا يرموهم بمكروه لا يليق بشأنهم مع انه سبحانه قد اظهر براءتهم وطهارة ذيلهم وعصمتهم عن مطلق المعاصي فما بقي الا اثم الافتراء والمراء على المفترين فينتقم سبحانه عنهم منه ويأخذ هم فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقتضى ايمانكم انه لا تَكُونُوا قاصدين أذاه صلّى الله عليه وسلّم بنسبة المكروه والمنكر اليه صلّى الله عليه وسلّم او بتعييره وتشنيعه بأمر صدر عنه ولم تفهموا سره وبالجملة لا تكونوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى صلوات الله عليه وسلامه فاغتم منه وتحزن حزنا شديدا فَبَرَّأَهُ اللَّهُ المطلع على نزاهته ونجابة طينته وطهارة ذيله واظهر سبحانه طهارته وبراءته مِمَّا قالُوا يعنى مما هو مضمون قولهم ومؤداه وذلك ان قارون قد استأجر بغية بجعل كثير من ان ترمى موسى عليه السلام بنفسها فرموه بها ثم أحضروها في المجلس ليفضحوه على رؤس الملأ وأقرت بالهام الله إياها بعصمته عليه السلام وأظهرت ما أعطوها من الجعل فدعا موسى عليه السلام ففعل سبحانه بهم وبما معهم ما فعل من الخسف على الوجه الذي سمعت في سورة القصص او قذفوه بعيب بدنه عليه السلام من برص او ادرة فبرأه الله سبحانه حيث ذهب الحجر بثيابه بين الملأ وهو يمشى على عقب ثيابه عريانا حتى يظهر براءته لهم من العيب وَكيف لا يبرئه سبحانه ولا يظهر طهارته إذ قد كانَ موسى الكليم عليه السلام عِنْدَ اللَّهِ الذي اصطفاه واختاره للنبوة والرسالة والتكلم معه وَجِيهاً في كمال الوجاهة والقربة لذلك اختاره ليسمع كلامه سبحانه بلا واسطة صوت متقاطع وحرف متكيف وكلمة موضوعة وكلام مركب وبعد ما قد سمعتم حكاية ما جرى على أولئك البغاة الغواة المؤذين المفترين
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ولا تؤذوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقول وفعل وَقُولُوا له بعد ما تكلمتم معه وفي شأنه قَوْلًا سَدِيداً صحيحا سالما بعيدا عن وصمة الأذى والتهمة والافتراء والجدال والمراء حتى لا يلحقكم ما لحق على قوم موسى ولكم الإخلاص بالله وبرسوله أخلصوا واستقيموا في الأفعال والأقوال معه وأطيعوا في عموم الأحوال
يُصْلِحْ لَكُمْ سبحانه
أَعْمالَكُمْ لتثمر لكم الثمرات العجيبة البديعة والدرجات العلية الرفيعة عنده سبحانه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ التي صدرت عنكم لو تبتم واخلصتم فيها وَبالجملة مَنْ يُطِعِ اللَّهَ حق أطاعته ويخلص في اعماله وَيطع رَسُولَهُ اطاعة خالية عن وصمة الأذى وعموم الرعونات المؤدية الى انواع المكروهات والمنكرات فَقَدْ فازَ ونال ذلك المطيع فَوْزاً عَظِيماً ألا وهو الدخول بدار الخلود والفوز بلقاء الخلاق الودود. ثم لما أراد سبحانه بمقتضى تجلياته الحبية اللطفية ان يطالع ذاته الكاملة المتصفة بصفات الكمال في مرآة مجلوّة تصير نائبة عنه خليفة له يتراءى فيها عموم أوصافه وأسمائه الذاتية على ما قد أشار اليه الحديث القدسي صلوات الله على قائله عرض سبحانه امانة الخلافة والنيابة على استعدادات المظاهر وقابليات المصنوعات كلها فامتنع الكل وابى عن قبولها وحملها كما قال سبحانه مخبرا
إِنَّا بمقتضى تجلياتنا الجمالية المنبعثة عن الشئون الحبية والتطورات اللطفية قد عَرَضْنَا الْأَمانَةَ يعنى امانة الخلافة والنيابة وأردنا ان نحمل أعباء المعرفة والعبودية المشتملة على التخلق بالأخلاق الفاضلة الإلهية المستتبعة للتكليفات الشاقة الطبيعية لتحصل التصفية والتزكية من إكدار الهيولى المانعة عن الوصول الى الملأ الأعلى وعالم اللاهوت عَلَى استعدادات السَّماواتِ العلى وَعلى قابليات الْأَرْضِ السفلى وَكذا على قلل الْجِبالِ السنى وكذا على قوابل الممتزجات من المركبات العظمى والمولدات الكبرى فَأَبَيْنَ وامتنعن بأجمعهن أَنْ يَحْمِلْنَها إذ نحن في سابق حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ ما اودعنا في استعداداتهم وقابلياتهم ما يسع لحمل هذه الامانة العظيمة والكرامة الكريمة وَلذلك قد أَشْفَقْنَ جميعا وخفن وخشين مِنْها ومن حملها مخافة ان لا يقين حقها وَبعد ما قد امتنعن وخفن جميعا عن حملها وقبولها قد حَمَلَهَا وقبلها الْإِنْسانُ المصور على صورة الرحمن المنتخب عن عموم الأكوان بالقوة القدسية المودعة فيه المقتضية لحملها وقبولها وبالجملة إِنَّهُ اى الإنسان حينئذ من كمال شوقه ووفور تحننه وذوقه المنبعث من افراط محبته وعشقه الى مبدئه ومن نهاية تلذذه بجمال معشوقه المعنوي ومحبوبه الحقيقي وغاية ولهه وحيرته بمطالعة وجهه الكريم قد كانَ في حملها ظَلُوماً على نفسه بارتكاب التحميلات البليغة والتكليفات الشديدة العسيرة من قطع المألوفات الطبيعية والمشتهيات الشهية البهيمية وعموم اللذات الحسية الناسوتية ومن غاية تحننه الى مبدئه كان جَهُولًا ذهولا غافلا ايضا عن مقتضيات ناسوته وملائماتها حسب القوى البشرية بالقوة الغالبة الروحانية اللاهوتية الجالبة الجاذبة للسعادات الازلية الابدية على القوى الجسمانية والآلات الطبيعية المستتبعة للشقاوة السرمدية فأين هذا من ذلك. رزقنا الله المنعم المفضل ان لا نظلم نحن على أنفسنا ونمنعها عن مقتضياتها وأمانيها الناسوتية بمنه وجوده. ومن جملة الأمانات المحمولة على الإنسان حفظ السرائر ورعاية الآداب والحقوق الجارية بين ذوى الألباب من الرجال والنساء وانما حمل عليهم سبحانه ما حمل ابتلاء لهم واختبارا
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله الْمُنافِقِينَ المخفين الساترين كفرهم وشركهم وعموم الخيانات الصادرة عنهم لمصلحة دنيوية وَالْمُنافِقاتِ منهم كذلك وَالْمُشْرِكِينَ المصرين المجاهرين بكفرهم وشركهم وعموم خياناتهم وَالْمُشْرِكاتِ ايضا كذلك تعذيبا شديدا وعقابا أليما مزيدا لعدم وفائهم على حفظ الأمانات المحمولة عليهم وَايضا يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ اى يوفقهم على التوبة والانابة بعد ما صدر عنهم شيء من الخيانات وشائبة
166
عدم الوفاء بالأمانة التي قد ائتمنوا بها من حقوق الله وحقوق عباده وبعد ما قد تابوا وأنابوا على وجه الندم والإخلاص فقد أدوا حق الامانة ووفوا بها على وجهها وَكانَ اللَّهُ المطلع باخلاصهم وندامتهم غَفُوراً لما صدر عنهم من الخيانة قبل التوبة رَحِيماً يقبل توبتهم ويعفو زلتهم ويرحم عليهم بعد ما تابوا وأخلصوا رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين
خاتمة سورة الأحزاب
عليك ايها الطالب لرتبة الخلافة والنيابة الفطرية القاصد لحمل الامانة الإلهية المتحمل لأعباء العبودية بالقوة القدسية والقابلية الفطرية القدوسية يسر الله عليك الأداء والوفاء بجميع حقوق الله وعموم عهوده وأماناته ومواثيقه وايضا حقوق جميع عباده ورعاية لوازم الإخاء والمصاحبة معهم واطاقك الحق وأقدرك على حمل عموم التكاليف المنزلة من عند الله في كتب الله من المفروضات وكذا من جميع المسنونات والمندوبات واعانك على التخلق بعموم أخلاقه الفاضلة المرضية ان تتوجه بوجه قلبك الى ربك وتتخذه وكيلا في أمرك وشأنك الذي هو تخلقك بأخلاقه سبحانه ليتيسر لك التحقق والتمكن بمرتبة الخلافة والنيابة فلك ان تعرف أولا شياطينك التي قد عاقك عنها ألا وهي آمالك وأمانيك النفسانية المتولدة من القوى البهيمية المانعة عن الوصول الى الدرجات العلية وتفصيلها وتحصيلها على وجه لا يشذ شيء منها عنك وتلازم على زجرها ومنعها الى ان تصير منزجرة مقهورة للقوى الروحانية بحيث لا تبقى لها قوة مقاومة ومجال مقابلة مع الروحانيات أصلا ثم لك ان تنفى وتفنى جميع اوصافك واخلاقك في أوصاف الحق وأخلاقه الى ان تضمحل أنت نفسك وذاتك وتتلاشى عموم اوصافك واخلاقك في ذاته وصفاته وأخلاقه سبحانه الى حيث يرتفع اسمك ورسمك عن البين ويتصفى عينك عن الغين وشأنك عن الشين فحينئذ لم يبق لك البون والبين بل قد اتصل العين بالعين وحينئذ صرت ما صرت وفزت بما فزت وقد تمكنت في مقعد صدق في الخلافة والنيابة عند مليك مقتدر بلا توهم تغيير وتحويل. رزقنا الله التقدر والتمكن في مقعد الصدق بلا تلوين وتبديل
[سورة السبأ]
فاتحة سورة السبأ
لا يخفى على من انكشف بسعة حضرة العلم المحيط الإلهي اجمالا واعتقد احاطتها وشمولها واستيعابها بعموم ما ظهر وبطن في الاولى والاخرى غيبا وشهادة وكذا بما لا سبيل للعباد إليها لا تعقلا ولا تخيلا ولا توهما تفصيلا ان معلوماته سبحانه أجل من يحيط بها عقول مصنوعاته وخيالاتهم واوهامهم وأحلامهم وعموم مداركهم ومشاعرهم ومن تحقق من السالكين المجاهدين في سبيل الله المشمرين أذيال هممهم نحو الحق بكمال وسعهم وطاقتهم بسعة قلب الإنسان وكمال فسجته فقد انكشف هو في الجملة بسعة حضرة علمه سبحانه وبكثرة معلوماته حسب وجده ووجدانه بسعة قلبه الذي قد وسع الحق فيه لعموم أسمائه وصفاته فلهذا قد وجب الحمد والثناء عليه سبحانه على الوجه الذي انكشف له واستتر عنه ايضا لذلك حمد سبحانه نفسه بنفسه واثنى على ذاته تعليما لعباده وإرشادا لهم الى طريق شكر نعمه وأداء حقوق كرمه بعد ما تيمن باسمه الأعظم الجامع لجميع الأسماء والصفات فقال سبحانه بِسْمِ اللَّهِ المتجلى على عموم ما ظهر وبطن من مظاهره الرَّحْمنِ على عموم مصنوعاته بافاضة رشحات وجوب وجوده عليهم فيوجدهم بها الرَّحِيمِ على خواص عباده بافاضة
167
Icon