تفسير سورة الرعد

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

انما لا يرون الكل وما يعتقدونه الا من لوائح تجلياته واشعة شئونه الذاتية وتطوراته لذلك نبه سبحانه في كتابه على عباده مخاطبا لحبيبه منبها عليه بان التدابير الكائنة انما تستند اليه تعالى وتصدر عنه بالاستقلال بلا مظاهر ومعين فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المتجلى على ظواهر الكائنات بأنواع التدبيرات الرَّحْمنِ لعموم عباده في النشأة الاولى بوفور العطيات الرَّحِيمِ لهم في النشأة الاخرى بأعظم المثوبات وارفع الدرجات
[الآيات]
المر ايها الإنسان الكامل اللبيب اللائق لملاحظة رموز آثار الوحدة الذاتية الإلهية اللائح من غرته الغراء مقتضيات لوامع الرشد والرضاء بعموم ما جرى عليه من القضاء تِلْكَ السورة المنزلة إليك يا أكمل الرسل آياتُ الْكِتابِ الجامع لفوائد الكتب المنزلة وأحكامها اى من جملة آياته وبعض منها وَايضا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ قبل نزول هذه السورة مِنْ رَبِّكَ من الآيات الدالة على تهذيب الظاهر والباطن كلها هو الْحَقُّ المطابق للواقع النازل من عند الحكيم العليم وبالجملة عموم ما انزل إليك في كتابك هذا منجما حق مطابق للواقع بلا شك وارتياب في نزوله من لدنه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لانهماكهم في الغفلة والنسيان لا يُؤْمِنُونَ به ولا يصدقون بما فيه ولا يعتقدون بحقيته وحقية منزله وكيف لا يعتقدون حقيته أولئك الحمقى المعاندون إذ هو
اللَّهُ الواحد الأحد المبدئ الرفيع البديع الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ اى العلويات معلقا بِغَيْرِ عَمَدٍ وأساطين يعتمدن عليها ظاهرة كما تَرَوْنَها في بادى النظر لتكون أسبابا ووسائل للسفليات ثُمَّ لما رفعها وصورها على ابلغ النظام وابدعه اسْتَوى واستولى باسمه الرّحمن عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش ذرائر الكائنات بالإظهار والإبراز وانواع التدبيرات المتعلقة لحفظها وإبقاء نظامها وانتظامها وَكذلك سَخَّرَ من بينها الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لتتميم التدبير كُلٌّ منهما يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى اى يدور دورة مقدرة شتاء وصيفا ربيعا وخريفا تكميلا لإصلاح ما يتعلق لمعاشهم وحفظهم وبالجملة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى امر معاشكم على ما ينبغي ويليق بلا فتور وقصور يُفَصِّلُ لكم الْآياتِ ويوضح لكم الدلائل والشواهد الدالة على توحيده هكذا لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ رجاء ان تتفطنوا وتتيقنوا بوحدة موجدكم ومربيكم من الدلائل الواضحة والشواهد اللائحة
وَكيف لا تتفطنون ايها المجبولون على فطرة الفطنة والذكاء بموجدكم ومربيكم مع انه هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وفرشها مبسوطة وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا شامخات لتكون أوتادا لها وَاجرى عنها وفي خلالها ووهادها أَنْهاراً منتشئة منها جارية على وجه الأرض لا نبات ما تقتاتون وتتفكهون به عليها وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ قد جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ٤ ليكون سببا لدوامها وبقائها ولانضاجها وإصلاحها يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يلبس الليل بالنهار لتسكين البرودة والنهار بالليل لتسكين الحرارة ليحصل الاعتدال في طبيعة الهوا المنضج وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الحكم والتدابير العجيبة لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتأملون في حكم الصانع الحكيم المدبر العليم
وَايضا من بدائع قدرته وغرائب حكمته انه قد حصل وظهر فِي الْأَرْضِ حسب تدبيره البديع قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ متماثلات في الطبيعة والمزاج وَحدثت ايضا فيها جَنَّاتٌ وبساتين مملوة مِنْ أَعْنابٍ في بعض أطرافها وَفي بعض زَرْعٌ وَفي البعض الآخر نَخِيلٌ مختلفة أنواعها بعضها صِنْوانٌ اى نخلات متكثرة وأصلها
واحد وَغَيْرُ صِنْوانٍ اى متفرقات الأصول مع ان الكل يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَمع وحدة طبيعة الأرض والماء نُفَضِّلُ حسب حكمتنا المتقنة بَعْضَها اى بعض الثمرات عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إذ بعضها ضار لبعض وبعضها نافع وكذا بعضها حلو وبعضها حامض الى غير ذلك من التفاوت والاختلافات الواقعة في الفواكه والثمرات وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الاختلافات مع وحدة طبيعة القابل لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما دالة على حكمة الفاعل العليم الحكيم ومتانة فعله وصنعته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في التفكر بمصنوعات الحق والتدبر بمبدعاته ومخترعاته
وَإِنْ تَعْجَبْ أنت يا أكمل الرسل انكار الكفار حشر الأجساد مع وضوح دلائله وسطوح براهينه فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ اى فعليك ان تتعجب من قولهم هذا إذ قولهم هذا محل العجب مع شهودهم بالشواهد والآثار التي ذكرت آنفا يقولون هكذا حال كونهم مستفهمين مستبعدين على سبيل التعجب أَإِذا كُنَّا تُراباً وعظاما ورفاتا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ كلا وحاشا ان نعود ونصير إنسانا بعد ما قد صرنا كذلك وبالجملة أُولئِكَ البعداء المعزولون من منهج الرشد هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ الذي أوجدهم وأظهرهم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة ورباهم بأنواع التربية مع ان اعادتهم أيسر من ابدائهم وابداعهم وَبالجملة أُولئِكَ الضالون المقيدون بسلاسل الطبيعة في النشأة الاولى قد صارت الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ في النشأة الاخرى دائما مستمرا وَبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ابد الآباد
وَمن قبح صنيعهم ونهاية غفلتهم عن الله ٤ وشدة غيرة الحق وانتقامه إياهم يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ المهدد بها والموعد عليها اى يطلبون منك يا أكمل الرسل استعجال إتيانها استهزاء وتهكما قَبْلَ الْحَسَنَةِ الموعودة لهم على تقدير ايمانهم وَالحال انه قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِمُ على أمثالهم من الأمم الهالكة الْمَثُلاتُ اى انواع القصاصات والعقوبات التي قد صارت أمثالا متداولة بين الناس يضرب بها وحال أولئك الغواة الطغاة الهالكين السالفين يكفى لهم ويكف مؤنة استعجالهم واستهزائهم لو تأملوا وتدبروا وَبالجملة هم من غاية إصرارهم وكفرهم وان استحقوا على ما يستعجلون بل على اضعافها وآلافها على أقبح الوجوه لكن قد امهلهم الله العليم الحكيم زمانا حسب حلمه وحكمته إِنَّ رَبَّكَ الحليم الحكيم العليم لَذُو مَغْفِرَةٍ ستر وعفو لِلنَّاسِ المنهمكين في بحر الغفلة والنسيان عَلى ظُلْمِهِمْ اى مع ظلمهم على أنفسهم باستجلاب عذاب الله إياها وَإِنَّ رَبَّكَ ايضا على مقتضى عدله وقهره لَشَدِيدُ الْعِقابِ سريع الحساب على من خرج عن ربقة أطاعته استكبارا واستنكافا
وَمن شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبدينك وكتابك لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ قد اقترحناه بها مِنْ رَبِّهِ ان كان نبيا مثل سائر الأنبياء الماضين لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبكفرهم وقولهم هذا إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مخبر بما جئت به من عند ربك لا هاد مصلح ما عليك الا البلاغ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ هو الله سبحانه ان تعلق ارادته بهدايتهم يهديهم إذ هو عالم بسرائرهم وضمائرهم وبعموم ما جرى عليهم وما يئول اليه أمرهم
إذ اللَّهُ يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى من النطفة المصبوبة المدفوقة وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وتنقصها منها دفعا لفضلاتها وَما تَزْدادُ عليها لتنميتها وتصويرها وَبالجملة كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ اى حصول كل كائن مقدور ومقدر عنده انما هو بمقدار مخصوص من مادة
معينة في مدة مقررة لا ينقص منها ولا يزيد عليها والاطلاع عليها وعلى كيفياتها وكمياتها مما قد استأثر الله به في غيبه إذ هو بذاته
عالِمُ الْغَيْبِ اى مطلق الأمور التي قد خفى علينا وغاب عنا انيته ولميته وَالشَّهادَةِ اى الأمور التي قد ظهر لنا انيته دون لميته وكيف لا يعلم الغيب والشهادة سبحانه إذ هو الْكَبِيرُ في ذاته الْمُتَعالِ المنزه المستغنى بصفاته الكاملة عن الاتصاف بصفات كلا العالمين ولوازمهما وان كان كل منهما ايضا من اظلال أوصافه الذاتية وأسمائه الحسنى واعلموا ايها الاظلال الهالكة ان كل ما صدر عنكم وجرى عليكم
سَواءٌ عنده سبحانه بالنسبة الى حيطة حضرت علمه المحيط المتعلق بأحوال المكونات مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وأخفاه وأضمره في نفسه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وأظهره وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ اى مستتر متغط بِاللَّيْلِ وَكذا من هو سارِبٌ بارز ظاهر بِالنَّهارِ إذ لا يشغله شأن عن شأن ولا يحجب عليه الأستار والسدول ولا يعين عليه البروز والظهور إذ لا يخفى عليه شيء لا في الأرض ولا في السماء
بل لَهُ سبحانه بالنسبة الى كل شيء من الأشياء حتى الذرة والنملة والخطفة والطرفة مُعَقِّباتٌ من الأوصاف الإلهية مسميات بالملائكة يعقبن عليه متواليا دائما متتاليا محيطات إياه حافظات له مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ عما لا يعنيه وينافره ويؤذيه وما هو الا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إياهم وتعلق ارادته ومشيته بحصانته وحفظه على مقتضى لطفه وجماله إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده المصلح لأحوالهم لا يُغَيِّرُ ولا يبدل ما بِقَوْمٍ من النعمة والعافية والرفاهية والفرح والسرور حَتَّى يُغَيِّرُوا ويبدلوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من محاسن الأخلاق ومحامد الأوصاف الى المقابح والمذام بترك أوامر الله وارتكاب نواهيه وَبالجملة إِذا أَرادَ اللَّهُ المطلع بسرائر عباده واستعداداتهم بِقَوْمٍ سُوْءاً ناشئا من خباثة طينتهم ورداءة فطرتهم فَلا مَرَدَّ لَهُ اى لا يمكن لاحد من خلقه ان يرد ارادته وَكيف يرد مراده سبحانه مع انه ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ سبحانه مِنْ والٍ يتولى أمورهم ويرجعون نحوه في الوقائع والخطوب
وكيف يرجعون الى غير الله ويستردون مراده سبحانه منه مع انه هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ بغتة ويورث منه فيكم خَوْفاً من ان يصابوا به وَطَمَعاً بما هو مستتبع له من المطر وَايضا يُنْشِئُ من الابخرة المتصاعدة السَّحابَ المتراكم من الابخرة الثِّقالَ بالمياه المتكثرة
وَحين اراءة البروق وإنشاء السحب يُسَبِّحُ الرَّعْدُ المتكون من اصطكاك الابخرة والادخنة المحتبسة بين السحب المتراكمة بِحَمْدِهِ اى بحمد الله بإلقاء الملائكة الموكلين عليه المعاقبين الممدين له إياه وَالْمَلائِكَةُ ايضا يسبحون حينئذ بحمده مِنْ خِيفَتِهِ وخشيته سبحانه ومن سطوة سلطنة قهره وجلاله وَايضا يُرْسِلُ سبحانه الصَّواعِقَ الكائنة من الابخرة والاجنة المحترقة بالاجزاء النارية فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ إهلاكه وقتله زجرا له وانتقاما عليه وَبالجملة هُمْ مع غاية ضعفهم وعدم قدرتهم وقوتهم يُجادِلُونَ ويكابرون فِي توحيد اللَّهِ وفي عموم ما جاءت به رسله من عنده من الأوامر والنواهي المتعلقة بالنشأة الاولى والاخرى وَالحال انه لكمال قدرته وبسطته وسلطنته القاهرة وجلاله الغالب هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ صعب المكابدة شديد الانتقام سيما لمن جادل معه وكذب رسله بالباطل
لكن لَهُ سبحانه دَعْوَةُ الْحَقِّ المطابق للواقع الصادرة من الرأى المحق المتحقق بمرتبة التوحيد اى قبولها وإجابتها وإنجاحها لمن دعا بها مخلصا في دعائه وتوجهه بها نحو الحق
وَالأصنام والأوثان الَّذِينَ يَدْعُونَ المشركون المسرفون المكابرون إياهم مِنْ دُونِهِ اى من دون الله لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ قليل مما يطلبونه فكيف بالكثير بل ما مثلهم في دعوة الأصنام ودعائهم إياهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ اى كمثل عطشان قد بسط كفيه الى الماء يدعوه لِيَبْلُغَ فاهُ ويرويه والحال انه غائر عميق وهو جماد لا شعور له ليجيب دعوته وَما هُوَ بِبالِغِهِ وبسبب ذلك قد زاد عطشه وحرقة قلبه وزفرة صدره كذلك المشركون يدعون أصنامهم ليشفعوا لهم ويصلوا الى مرامهم بواسطتهم والحال انه هم جمادات لا يقدرن على الإيصال والقبول أصلا وَبالجملة ما دُعاءُ الْكافِرِينَ الساترين باباطيلهم الكاذبة وأوثانهم الباطلة العاطلة نور الحق الحقيق بالحقية الوحيد في الألوهية الفريد بالمعبودية إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع وخسران وحرمان وخذلان وبطلان
وَكيف يتوجه ويدعى لغير الحق مع انه لا اله الا هو ولا شيء سواه لذلك لِلَّهِ المتأصل في الوجود المتصف بالقيومية لا لغيره من الاظلال الهالكة في أنفسها يَسْجُدُ ويتذلل ويتضرع عموم مَنْ فِي السَّماواتِ اى في عالم الأسماء والصفات المسماة بالأعيان الثابتات وَكذا عموم من في الْأَرْضِ اى عالم الطبائع والأركان من الصور والهياكل المتكونة المنعكسة من الأسماء والصفات طَوْعاً طائعين راغبين عن خبرة واستبصار وَكَرْهاً كارهين عن حيرة وضلال وَايضا يسجد له سبحانه ظِلالُهُمْ اى لوازم هوياتهم وما يترتب عليها دائما بِالْغُدُوِّ اى في أول الظهور والبروز وَالْآصالِ اى في وقت الانمحاء والزوال
قُلْ يا أكمل الرسل لمن عاند الحق وجادل مع اهله مكابرة مستفهما على سبيل التبكيت والإسكات مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وموجدهما ومظهرهما من كتم العدم ومربيهما بأنواع التربية والكرم قُلْ أنت ايضا في جواب سؤالك إذ هم معزولون عن التنطق بكلمة الحق وكيف لا وقد ختم الله على قلوبهم وأفواههم اللَّهُ اى الموجد المربى هو الله المستقل بالالوهية والربوبية لا اله سواه ولأمر بي الا هو. ثم بعد ما ظهر الحق قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع أَفَاتَّخَذْتُمْ وأخذتم ايها الجاهلون بحق الله وحق قدره مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ معبودات من جنس مصنوعاته سيما من أدونها وهي الجمادات التي لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ لا نَفْعاً وَلا ضَرًّا فضلا لغيرهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا ايها الجاهلون المعزولون عن مقتضى العقل الفطري هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى الفاقد البصر وَالْبَصِيرُ الواجد لها أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ اى الاعدام الهالكة في أنفسها وَالنُّورُ «٤» اى الوجود المتشعشع اللامع في ذاته ازلا وابدا أَمْ جَعَلُوا أولئك الحمقى العمى الهلكى في تيه الغفلة والضلال لِلَّهِ المنزه عن مطلق المثل والمثال شُرَكاءَ مثله وهم ايضا قد خَلَقُوا واوجدوا كَخَلْقِهِ وإيجاده فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يعنى بحيث قد اشتبه عليهم وتشابه عندهم خلق شركائهم بخلقه سبحانه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا قُلْ يا أكمل الرسل إرشادا وتكميلا اللَّهُ المستجمع لصفات الكمال بأسرها والمربى لعموم الكائنات برمتها خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ومظهرها وموجدها بالاستقلال والانفراد بلا مظاهرة ولا مشاركة أصلا وَهُوَ بذاته الْواحِدُ الأحد المستقل في الوجود الْقَهَّارُ لعموم الأغيار الهالكة في أنفسها المنعكسة من اظلال أسمائه الحسنى وأوصافه العليا الباقية في صرافة عدميتها الاصلية ومن كمال اشفاقه سبحانه وشمول مرحمته على عباده
قد أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ اى من فضاء عالم اللاهوت
(٤) جمع الظلمات وافراد النور باعتبار تعددات التعينات العدمية ووحدة شمس الذات [.....]
ماءً الا وهو ماء الايمان والعرفان المحيي لأموات العكوس والاظلال فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها اى قد امتلأت النفوس القدسية القابلة للمعارف والحقائق بقدر ما يسع في استعداداتها منها فسالت بعد ما امتلأت فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً اى دفع وأماط مياه المعارف والحقائق المترشحة من بحر الوحدة الذاتية السائلة من قلوب الكمل زبد التقليدات الحاصلة من رسوب القوى البشرية وغش الطبيعة لتسقطها على أطراف بحر الوجود وتصفيه عن الكدورات مطلقا وَمثل ذلك الزبد الباطل يحصل مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ اى من الأشياء التي يطرح في النار ويوقد عليها لتصفيها من الكدر من الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها حين أرادوا ان يصفوها من الغش والكدر ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ اى طلب اتخاذها منها أَوْ مَتاعٍ آخر من الأواني وآلات الحرب زَبَدٌ فاسد باطل في نفسه مِثْلُهُ اى مثل الزبد الاول وبالجملة كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده الْحَقَّ وَالْباطِلَ لهم كي يتنبهوا ويتفطنوا فيتبعوا الحق ويجتنبوا عن الباطل ثم بين لهم سبحانه مآلهما توضيحا وتقريرا بقوله فَأَمَّا الزَّبَدُ المرتفع على الماء فَيَذْهَبُ جُفاءً ويضمحل ويتلاشى بالجفاف كما ان زبد التقليدات يسقط ويضمحل باشراق نور اليقين وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من مياه المعارف والحقائق فَيَمْكُثُ ويستقر فِي الْأَرْضِ اى الطبيعة القابلة لانعكاس اشعة الأسماء والصفات الإلهية لينبت فيها منها شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ فطلبوا منه الْحُسْنى اى المثوبة الحسنى العظمى والمرتبة العليا معتقدين افاضتها واعطاءها إياهم وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ مثل ما استجاب اهل الحق ولم يعتقدوا مثل ما اعتقد أولئك المحقون لذلك لم ينالوا نصيبهم وحظهم منها مثل ما نالوا بحيث لَوْ فرض أَنَّ لَهُمْ وثبت في تصرفهم ملك ما فِي الْأَرْضِ من الزخارف والأموال جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ بل أمثاله وأضعافه معه لَافْتَدَوْا بِهِ جميعا لينالوا بما نال أولئك السعداء المقبولون لكن لم ينالوا البتة بل أُولئِكَ الأشقياء المردودون عن ساحة عز القبول لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ يحاسبون على عموم ما صدر عنهم من النقير والقطمير ويؤاخذون عليه وَفي الآخرة مَأْواهُمْ ومثواهم جَهَنَّمُ الخذلان وسعير الطرد والحرمان وَبالجملة بِئْسَ الْمِهادُ مهد أولئك الضالين عن منهج الرشد والسداد
أَيعتقد المشرك المتمرد عن متابعك وقبول دينك فَمَنْ يَعْلَمُ ويصدق أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لتأييدك من الكتاب الجامع لما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي والعبر والأمثال والرموز والإشارات هو الْحَقُّ المطابق للواقع بلا شك وارتياب فيه كَمَنْ هُوَ أَعْمى يعنى ايعتقدون ان هذا المؤمن المصدق مثل من هو أعمى عن ابصار ما يرى في الآفاق من المبصرات بل هو أشد عمى لأنه فاقد البصيرة إذ لا يمكن ادراك الأمور الدينية والمعارف اليقينية إلا بها وبالجملة إِنَّما يَتَذَكَّرُ ويتفطن بسرائر كتاب الله أُولُوا الْأَلْبابِ المستكشفون عن لب الأمور المعرضون عن قشورها ولا يحصل ذلك الا بالبصيرة الا وهم المؤمنون الموقنون
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الذي عهدوا معه حين رش ورشح سبحانه من رشحات نور الوجود على أراضي استعداداتهم وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ الوثيق بل يحفظونه ويواظبون على حفظه دائما حسب ما وفقهم الحق
وَكذا هم الَّذِينَ يَصِلُونَ ويتصفون بعموم ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من المأمورات والمرضيات الإلهية والمعارف والحقائق والخصال الجميلة والأخلاق الحميدة وَ
مع ذلك يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ عن ارتكاب المنهيات والمحظورات وكذا عن مطلق الذمائم من الأخلاق والأطوار وَبالجملة هم يَخافُونَ من الله وعن مخالفة امره ونهيه سُوءَ الْحِسابِ ورداءة المنقلب والمآب
وَأيضا هم الَّذِينَ صَبَرُوا إذا اصابتهم مصيبة واحاطتهم بلية ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ اى ما سبب صبرهم الا طلب مرضات ربهم مسترجعين اليه سبحانه متضرعين نحوه وَأَقامُوا الصَّلاةَ واداموا الميل والتوجه نحوه في عموم الأحوال والأزمان وَمع ذلك أَنْفَقُوا للفقراء المستحقين مِمَّا رَزَقْناهُمْ ووفقناهم عليه واقدرناهم لكسبه وجمعه سِرًّا اى على وجه لا يشعر الفقير بالمنفق ولا يعرفه أصلا لئلا يتأذى بتوهم المن والأذى وَعَلانِيَةً على وجه يشعر به لكن يبالغ المنفق في التذلل والانكسار بحيث لا يتوهم المنة أصلا وَايضا هم الذين يَدْرَؤُنَ اى يدفعون ويسقطون بِالْحَسَنَةِ الخصلة الحميدة والخلق المرضى السَّيِّئَةَ الذميمة القبيحة من الخصائل والأخلاق وبالجملة أُولئِكَ السعداء الأولياء ذووا العهد والوفاء وأولوا الخوف والرجاء الصابرون على عموم البلاء الراضون بما جرى عليهم من سوء القضاء المتوجهون الى المولى في السراء والضراء المنفقون مما عندهم لرضاه سبحانه على الفقراء وبالجملة قوم سعداء قد حصل لَهُمْ حين كانوا في النشأة الاولى عُقْبَى الدَّارِ الاخرى وما يحصل فيها من اللذات والمثوبات ورفع الدرجات ونيل المرادات بلا انتظار لهم الى النشأة الاخرى والطامة الكبرى
ومن جملتها جَنَّاتُ عَدْنٍ ودار اقامة وخلود ومنزل كشف وشهودهم يَدْخُلُونَها اصالة واستحقاقا وَيدخل ايضا بشفاعتهم وتبعيتهم مَنْ صَلَحَ لصحبتهم ورفاقتهم مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وممن ينتمى إليهم وكذا من استرشد منهم واهتدى بهدايتهم من اهل الطلب والارادة وَحين استقروا وتمكنوا فيها يزورهم الْمَلائِكَةُ ويطوفون حولهم ترحيبا وتعظيما بحيث يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب الجنة قائلين
سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها الفائزون بالفلاح والنجاح بِما صَبَرْتُمْ في دار الابتلاء بأنواع المحن والبلاء فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ منزلكم ومنقلبكم في دار القرار وعواقب أموركم فيها من الفرح الدائم وسرور المستمر ثم بين سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب حسن عواقب الأبرار بقبح احوال الأشرار وبوخامة عواقبهم بقوله
وَالمسرفون المفرطون الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ الذي عهدوا معه في بدء الوجود واصل الفطرة سيما مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ الوثيق وأحكامه المحكم البليغ وَمع ذلك يَقْطَعُونَ ويتركون عموم ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويحافظ عليه وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات من الظلم والزور والافتراء والمراء وانواع المكابرة والمعاداة مع الأنبياء والأولياء وسوء الظن مع ارباب المحبة والولاء أُولئِكَ البعداء المعزولون عن ساحة عز القبول لَهُمُ اللَّعْنَةُ والطرد والحرمان والرد والخذلان في النشأة الاولى وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ورداءة المرجع والمآب في النشأة الاخرى
ثم لما افتخر اهل مكة بما عندهم من الامتعة والزخارف وباهوائها واستحقروا فقراء المؤمنين وشنعوا عليهم رد الله عليهم هذياناتهم هذه بكلام ناش عن محض الحكمة فقال اللَّهُ المطلع على استعدادات عباده يَبْسُطُ يكثر ويوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده في النشأة الاولى وَيَقْدِرُ يقبض وينقص على من يشاء ارادة واختيارا حكمة منه وتدبيرا وَهم في أنفسهم وحسب مفاخرتهم ومباهاتهم بحطام الدنيا قد فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا المستعارة التي لإقرار لها ولا ثبات لنعيمها
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا وما يترتب عليها من اللذات الفانية والمشتهيات الغير الباقية فِي جنب حيوة الْآخِرَةِ وما يترتب عليها من اللذات الدائمة والمثوبات الباقية إِلَّا مَتاعٌ قليل لا يؤبه به ولا يلتفت اليه عند من كان له ادنى مسكة
وَمن خبث طينتهم ورداءة فطرتهم يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك ودينك لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ملجئة لنا بالإيمان مِنْ رَبِّهِ مع انه يدعى التأييد من لدنه ومع شدة شغفه وحرصه لان نؤمن له قُلْ لهم يا أكمل الرسل ما علىّ الا البلاغ إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بمقتضى علمه وعدله لمن أراد إضلاله وانتقامه وَيَهْدِي إِلَيْهِ على مقتضى جوده مَنْ أَنابَ اليه عن ظهر القلب إذ كل ميسر لما خلق له
وبالجملة الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بتوحيد الحق وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ اى تسكن وتستقر عن دغدغة التقليد الباطل والتخمين المضمحل الزائل بِذِكْرِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الوجود بلا اضطراب وتردد فقد اضمحلت وتلاشت عن صحائف خواطرهم نقوش الأغيار والسوى مطلقا أَلا تنبهوا ايها الاظلال الطالبون للوصول الى مرتبة الكشف والشهود بِذِكْرِ اللَّهِ المسقط لعموم الإضافات تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وتتمكن في مقام الحضور وتستريح عن تشويشات الأوهام
وبالجملة الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا في أوائل سلوكهم وطلبهم حتى يتحققوا في مرتبة اليقين العلمي وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى مطلوبهم ليصلوا الى مرتبة اليقين العيني طُوبى لَهُمْ الفوز بالفلاح والنجاح وَحُسْنُ مَآبٍ وقت تحققهم بمقام الكشف والشهود الذي هو مرتبة اليقين الحقي
وكَذلِكَ اى مثل ما أرسلنا الرسل على الأمم المنحرفة الماضية بمقتضى سنتنا السنية القديمة أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل فِي أُمَّةٍ منحرفة عن طريق الحق وليس ارسالك عليهم ببدع مستحدث بل قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أمثالهم مائلون عن طريق الحق وسواء السبيل وكما قد أرسلنا إليهم الرسل وايدناهم بالكتب والصحف وكانوا يتلون على أممهم لينجذبوا نحو الحق كذلك قد أرسلناك الى أمتك لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ وتبلغهم الكتاب الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من المعارف والحقائق القدسية والآداب السنية والأخلاق المرضية المقبولة في جنابنا المودعة في استعدادات عبادنا ليفوزوا بها سعة رحمتنا وجودنا وَهُمْ لانهماكهم في الغفلات والشهوات يَكْفُرُونَ وينكرون بِالرَّحْمنِ الذي قد وسع كل شيء رحمة وعلما قُلْ يا أكمل الرسل للمنكرين الغافلين تنبيها عليهم وتبليغا وان كانوا من الحمقى الهالكين في تيه الغفلة والنسيان هُوَ الله المستجمع لعموم أوصاف الكمال رَبِّي وربكم ومتولى أموري وأموركم لا إِلهَ في الوجود يعبد له ويرجع اليه في الوقائع والخطوب إِلَّا هُوَ الله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لا شريك له وبالجملة عَلَيْهِ لا على غيره من الوسائل والاظلال تَوَكَّلْتُ في عموم أموري وَإِلَيْهِ لا الى غيره من الأسباب العادية مَتابِ مرجعي ومعادي
وَبالجملة لَوْ أَنَّ قُرْآناً بمثابة ومكانة لو تلى وقرئ قد سُيِّرَتْ وتحركت بِهِ الْجِبالُ عن مكانها الأصلي واندكت وقلعت أَوْ قُطِّعَتْ انصدعت وانشقت بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى عند قراءته عليهم وإسماعه لهم بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ والحكم والقدرة الكاملة والحول التام والقوة الغالبة في الأمور المذكورة جَمِيعاً له سبحانه ان تعلق ارادته ومشيته لكان الكل مقضيا البتة ومع ذلك هم لم يؤمنوا به ولم يقبلوه منك لشدة شكيمتهم وغاية
قسوتهم ثم قال سبحانه أَفَلَمْ يَيْأَسِ ولم يقنط الَّذِينَ آمَنُوا عن ايمان أولئك المدبرين المعاندين مع ظهور امارات الكفر عليهم وعلامات الإنكار عنهم سيما بعد ما سمعوا في حقهم من الله ما سمعوا ولم يعلم هؤلاء المؤمنون أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ وتعلق ارادته بهداية الكل لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فلم يهدهم لعدم تعلق ارادته بهداية البعض وَبالجملة لا تقنطوا ايها المؤمنون عن نصر الله إياكم على أعدائكم ولا تيأسوا عن روحه إذ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا وأصروا على الكفر عنادا واستكبارا تُصِيبُهُمْ وتدور عليهم بِما صَنَعُوا اى بقبح صنيعهم وإصرارهم عليه قارِعَةٌ داهية هائلة تقرع اسماعهم ويضطربون بها اضطرابا شديدا أَوْ تَحُلُّ وتنزل الداهية العظيمة في حواليهم قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ ومساكنهم لتدور عليهم حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الذي قد وعده لنبيه بان ينتقم عنهم ويعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة في الدنيا بالفتح والظفر عليهم وفي الآخرة بأنواع العقاب والعذاب إِنَّ اللَّهَ المؤيد لأنبيائه المنجز لما وعدهم من إهلاك أعدائهم لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ثم لا تحزن أنت يا أكمل الرسل من استهزائهم وسخريتهم بك ولا تبال بعمههم وسكرتهم وبطرهم وثروتهم واشتهارهم بمالهم وجاههم
وَالله لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أشد من استهزاء هؤلاء بك فَأَمْلَيْتُ وأمهلت لِلَّذِينَ كَفَرُوا اى للمستهزئين الذين كفروا حتى انهمكوا في الغفلة وتوغلوا فيها بطرين فرحين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فجاءة واستأصلتهم بغتة فَكَيْفَ كانَ عِقابِ مع أولئك ومع هؤلاء أشد من ذلك.
ثم قال سبحانه أَينسى الحساب ويترك العقاب فَمَنْ هُوَ قائِمٌ مطلع محاسب ومراقب محافظ عَلى كُلِّ نَفْسٍ من النفوس الخيرة والشريرة ليحيط بِما كَسَبَتْ فيجازيها ان خيرا فخير وان شرا فشر وَلا سيما مراقبة اهل الشرك الذين قد جَعَلُوا لِلَّهِ الواحد الأحد المنزه عن الشريك والولد شُرَكاءَ فوق واحدة من اظلاله ومصنوعاته مع انه سبحانه قد تنزه وتعالى عن مطلق التعدد علوا كبيرا قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا عليهم وإلزاما سَمُّوهُمْ اى أولئك الشركاء بأسماء وصفوهم بصفات يستحقون بها الألوهية والربوبية أَمْ تُنَبِّئُونَهُ وتخبرونه بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ ٤ اى بأسماء وصفات لا يعلمها من في الأرض بل انما يعلمها من في السماء أَمْ سموهم بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ مجازا بلا اعتبار المعنى الحقيقي فيهم وبالجملة هم عاجزون عن الكل ساكتون عنه بَلْ انما زُيِّنَ وحسن لِلَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا مَكْرُهُمْ اى تمويههم وتلبيسهم الصادر من تلقاء أنفسهم بلا مستند عقلي او نقلي بل مع علمهم ببطلانها ايضا وَمع ذلك قد صُدُّوا واعرضوا بواسطة هؤلاء الأسامي المجردة الباطلة عَنِ سواء السَّبِيلِ وقصدوا ايضا أعراض ضعفاء المؤمنين عن طريق الحق وما هو الا من غيهم وضلالهم في اصل فطرتهم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ وأراد ضلاله فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديهم ويوفقهم الى سبيل الرشد
بل لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بغفلتهم عن معرفة الله وعن اللذات الروحانية مطلقا مع عدم شعورهم بها قطعا
وَالله لَعَذابُ الْآخِرَةِ
حين انكشف الحال وارتفع الحجب أَشَقُ
وأصعب
وَكيف لا يكون عذاب الآخرة أشق إذ ما لَهُمْ
فيها مِنَ اللَّهِ
من عذابه وانتقامه مِنْ واقٍ
حافظ شفيع يشفعهم ليخفف عنهم او يحفظهم من عذابه.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعيد بالوعد مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ المتحفظون نفوسهم عن ارتكاب المعاصي والآثام مطلقا الممتثلون بعموم ما أمروا ونهوا من العقائد والاحكام تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ لاجرائهم انهار المعارف والحقائق على أراضي استعداداتهم لا نبات ثمرات الكشوف والشهود أُكُلُها من الرزق المعنوي والاغذية الروحانية دائِمٌ غير منقطع وَكذا ظِلُّها الذي يستريحون فيه دائم غير زائل بحيث لا انقطاع له أصلا كاظلال الدنيا تِلْكَ الجنة التي قد وصفت بما وصفت عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا اى عاقبة امر المؤمنين الذين اتقوا عن محارم الله وَعُقْبَى الْكافِرِينَ المصرين على ارتكاب المعاصي والشهوات البهيمية النَّارُ المعدة لهم بدل لذاتهم وشهواتهم الحسية.
ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ واتبعناهم النبي المبين لهم ما فيه من الأوامر والنواهي يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ اى بكتابك الجامع لما في كتبهم لأنهم يجدونه موافقا مطابقا لكتبهم وَمِنَ الْأَحْزابِ اى من هؤلاء المتحزبين في امر القرآن مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ اى الآيات الناسخة لبعض احكام كتبهم قُلْ لهم انما نسخ ما نسخ من الاحكام الجزئية بمقتضى سنة الله في نسخ بعض الاحكام الجزئية الثابتة في الكتب السابقة باحكام الكتب اللاحقة وليس هذا منا ببدع واما العقائد الكلية المصونة عن طريان النسخ والتبديل فهي المتفق عليها بين جميع الكتب السماوية المنزلة على جماهير الأنبياء لذلك إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الفرد الحقيق بالحقية المستقل في الألوهية والربوبية وَلا أُشْرِكَ بِهِ شيأ من اظلاله ومصنوعاته بمقتضى امره وحكمه سبحانه إِلَيْهِ لا الى غيره من الاظلال الهالكة في اشراق شمس ذاته أَدْعُوا دعاء مؤمل متضرع خاضع خاشع وَكيف لا ادعوه واتحنن نحوه وإِلَيْهِ مَآبِ منقلبي ومرجعي رجوع الظل الى ذي الظل
وَكَذلِكَ اى مثل انزالنا للأمم الماضية كتابا بعد كتاب ناسخا لبعض ما فيه على مقتضى الأزمان والأقوام كذلك أَنْزَلْناهُ اى القرآن إليك يا أكمل الرسل حُكْماً مبينا للقضايا بمقتضى الحكمة المتقنة عَرَبِيًّا مناسبا بلسانك ولسان قومك ليسهل لهم الاسترشاد والاستهداء به ناسخا لبعض ما في الكتب السالفة وَالله لَئِنِ اتَّبَعْتَ أنت بنفسك أَهْواءَهُمْ وان كانت قبل النسخ هدى سيما بَعْدَ ما جاءَكَ في كتابك مِنَ الْعِلْمِ المتعلق بنسخها وبصيرورتها بعد النسخ هوى ما لَكَ مِنَ اللَّهِ اى من غضبه وانتقامه عنك مِنْ وَلِيٍّ يتولى أمرك بالاستخلاص والاستشفاع وَلا واقٍ حافظ يحفظك ويمنعك من مقته.
ثم قال سبحانه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مثلك مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً مثل أولادك وأزواجك فلا تقدح في نبوتهم أزواجهم وأولادهم فكيف تقدح في نبوتك مع انك أفضل منهم وَايضا قد أرسلنا رسلا من قبلك ما كانَ وما صح وما جاز لِرَسُولٍ منهم أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ مقترحة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ووحيه إذ لِكُلِّ أَجَلٍ ووقت يسع فيه امر من الأمور الكائنة والفاسدة كِتابٌ نازل من عنده سبحانه ناطق بوقوع عموم ما كان ويكون فيه
وبالجملة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وينسخه بمقتضى حكمته وارادته وَيُثْبِتُ ما أراد إثباته وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ اى حضرة العلم المحيط ولوح محفوظ القضاء وحضرة القدر المتوالية المتتالية على مقتضى الأوصاف الذاتية الإلهية والتجليات اللطفية والقهرية والجلالية والجمالية
وَبالجملة لا تفرح يا أكمل الرسل إِنْ ما نُرِيَنَّكَ اى ان تحقق اراءتنا إياك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من الإهلاك والاجلاء والقهر والغلبة أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ يعنى لا تغتم ايضا ان تحقق توفينا لك قبل رؤيتك بما نعدهم من العذاب والنكال فَإِنَّما عَلَيْكَ وليس في وسعك وطاقتك الا الْبَلاغُ بما أمرت بتبليغه وَعَلَيْنَا الْحِسابُ والجزاء
بمقتضاه عاجلا وآجلا
أَينكرون حسابنا إياهم وانتقامنا عنهم وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ التي قد شاع فيها كفرهم كيف نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وأرجائها حتى ضاقت عليهم بإظهار دين الإسلام وكثرة اهله وَاللَّهُ المدبر بمقتضى الحكمة يَحْكُمُ بحكم مبرم لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أصلا ليبدله ويغيره وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ صعب الانتقام على من أراد تغيير حكمه وتبديله
وَقَدْ مَكَرَ القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مع أنبيائهم المبعوثين إليهم مثل مكر هؤلاء الماكرين معك يا أكمل الرسل فلحقهم ما لحقهم وهم غافلون عن مكر الله فَلِلَّهِ المطلع لعواقب الأمور الْمَكْرُ اى جنس المكر المعتد به جَمِيعاً إذ هو يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من خير وشر ونفع وضر فينتقم عنها بمقتضى علمه وَهم وان غفلوا عن مكر الله وما يترتب عليه من الوبال سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ المصرون على الكفر والضلال لِمَنْ من الفريقين عُقْبَى الدَّارِ والعاقبة الحميدة في النشأة الاخرى
وَمن شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بدينك وكتابك اى رؤساؤهم وصناديدهم لَسْتَ أنت مُرْسَلًا من عند الله مثل سائر الرسل لذلك ما نتبعك وما نؤمن بك وبكتابك قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ اى كفى الله بي شاهدا لإثبات رسالتي وادّعائى النبوة إذ أيدني بالمعجزات القاطعة والبراهين الساطعة وَكذا كفى بي شاهدا ايضا مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ اى من كان من اهل الكتب السالفة وله علم بها وعلم رسالتي منصوص مصرح فيها جزما او المعنى من كان له علم الكتاب من اصحاب الألسن والفصاحة وارباب الفطنة والذكاء المتأملين في رموزات الكتاب المتعمقين في استكشاف سرائره لو تأملوا فيه حق تأمل وتدبر لم يبق لهم شائبة شك وتردد في انه ما هو من جنس كلام البشر بل ما هو الا وحى يوحى الىّ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
خاتمة سورة الرعد
عليك ايها الطالب القاصد لاستكشاف سرائر المرتبة الجامعة المحمدية التي قد اتحد عندها قوسا الوجوب والإمكان واتصل دونها الغيب والشهادة ان تتأمل في القرآن المنزل عليه من عند ربه حسب نشأته وكمال استعداده وعزة شأنه وتتدبر حق التدبر في مرموزاته حسب وسعك وطاقتك وان كان الاطلاع على غوره من المستحيلات سيما بالنسبة الى ذوى الاستعدادات الضعيفة حتى يشهد له ذوقك ووجدانك وتصدق أنت من نفسك رسالته ونبوته وهدايته الى توحيد ربه وإرشاده الى سبيل الحق ولا يتيسر لك هذا الا بعد تصفية ظاهرك عن الشواغل الحسية والعلائق الدنياوية الدنية مطلقا وباطنك عن مطلق التقليدات والتخمينات المورثة لدرن الجهالات ورين الأوهام والخيالات الموقعة لانواع الشبهات والترددات وبالجملة لا يحصل لك هذا الا بعد تحققك بمرتبة الموت الإرادي وخروجك عن مقتضيات هويتك الناسوتية مطلقا جعلنا الله ممن أيده الحق لسلوك طريق توحيده ووفقه على سواء سبيله وهداه الى زلال مشرب تفريده بمنه وجوده
[سورة ابراهيم عليه السّلام]
فاتحة سورة ابراهيم عليه السّلام
لا يخفى على اولى البصائر والاستبصار وذوى الفهم والاعتبار من المستكشفين المستنيرين بلوا مع
Icon