بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعدتفسير سورة الرعد، وهي مكية إلا آيتين : قوله تعالى :( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ( ١ ) وقوله تعالى :( ويقول الذين كفروا لست مرسلا ) ( ٢ ) الآية، فإنهما مدنيتان.
٢ - الرعد: ٤٣..
ﰡ
وَقَوله: ﴿تِلْكَ آيَات الْكتاب﴾ قد بَينا فِي سُورَة يُوسُف. وَقَوله: ﴿وَالَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك الْحق﴾ الْإِنْزَال هُوَ النَّقْل من الْعُلُوّ إِلَى الْأَسْفَل، وَمعنى الْآيَة أَن مَا أهبط الله بِهِ جِبْرِيل عَلَيْك هُوَ الْحق، وَالْحق ضد الْبَاطِل، وَقيل: وضع الشَّيْء فِي مَوْضِعه على مَا توجبه الْحِكْمَة. وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ﴾ يَعْنِي من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين.
وَقد قَالَ أهل الْمعَانِي: لَو كَانَ لِلسَّمَوَاتِ عمد لرأيناها؛ لِأَن عمد الْجِسْم الغليظ يكون بالجسم الغليظ، فَلَا بُد أَن ترى، وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَأكْثر الْمُفَسّرين.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: معنى الْآيَة رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد ترونها.
وَقَوله: ﴿ترونها﴾ رَاجع إِلَى الْعمد، كَأَنَّهُ قَالَ: لَهَا عمد لَا ترونها، وَزعم أَن لَهَا عمدا على جبل قَاف، وَأَن السَّمَاء عَلَيْهَا مثل الْقبَّة، وجبل قَاف مُحِيط بالدنيا، وَهُوَ من زبرجدة خضراء، وَالصَّحِيح مَا بَينا.
وَقَوله: ﴿ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش﴾ قد بَينا الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر﴾ مَعْنَاهُ: ذلل الشَّمْس وَالْقَمَر فهما مذللان مقهوران يجريان على مَا يُرِيد الله. وَقَوله: ﴿كل يجْرِي لأجل مُسَمّى﴾ أَي: لمُدَّة مَضْرُوبَة. وَقَوله: ﴿يدبر الْأَمر﴾ التَّدْبِير من الله تَعَالَى فعل الْأَشْيَاء على مَا يُوجب الْحِكْمَة. وَقَوله: ﴿يفصل الْآيَات﴾ مَعْنَاهُ يبين الدلالات. وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ بلقاء ربكُم توقنون﴾ تؤمنون.
وَقَوله: ﴿وأنهارا﴾ الْأَنْهَار: مجاري المَاء الواسعة. وَقَوله: ﴿وَمن كل الثمرات جعل فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ أَي: صنفين اثْنَيْنِ أَحْمَر وأصفر وحلو وحامض، وَقيل: إِن قَوْله ﴿اثْنَيْنِ﴾ تَأْكِيد لقَوْله: ﴿زَوْجَيْنِ﴾.
وَقَوله: ﴿يغشي اللَّيْل النَّهَار﴾ مَعْنَاهُ: يلبس النَّهَار بظلمة اللَّيْل، ويلبس ظلمَة اللَّيْل بضوء النَّهَار. وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات﴾ لدلالات ﴿لقوم يتفكرون﴾ التفكر تصرف الْقلب فِي طلب مَعَاني الْأَشْيَاء.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لَيْسَ فِي الْآيَة حذف، وَهُوَ صَحِيح الْمَعْنى، وَفِي المتجاورات قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ أَنَّهَا متجاورة فِي الظَّاهِر مُخْتَلفَة فِي الْمَعْنى، هَذِه سبخَة وَهَذِه عذبة، وَهَذِه قَليلَة الرّيع، وَهَذِه كَثِيرَة الرّيع، وَهَذِه مزرعة، وَهَذِه مغرسة، وَهَذِه لَا مزرعة وَلَا مغرسة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: هَذِه عامرة، وَهَذِه غامرة، وَهَذِه صحاري وبراري، وَهَذِه جبال وأودية، فعلى هَذَا إِذا قَدرنَا فِي الْآيَة متجاورات وَغير متجاورات، فالمتجاورات هِيَ الأَرْض العامرة الْمُتَّصِل بَعْضهَا بِبَعْض، وَغير المتجاورات هِيَ الأَرْض الخربة الَّتِي فِيهَا الأودية والدكادك.
وَقَوله: ﴿وجنات من أعناب﴾ يَعْنِي: بساتين من أعناب. وَقَوله: ﴿وَزرع ونخيل﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿صنْوَان وَغير صنْوَان﴾ قرىء: " صنْوَان " بِالضَّمِّ: وَالْمَعْرُوف " صنْوَان " بِالْكَسْرِ، وَفِي الْآثَار المسندة عَن الْبَراء بن عَازِب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: الصنوان هُوَ النّخل الْمُجْتَمع، وَغير الصنوان هُوَ المتفرق، وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الصنوان هِيَ النخلات أَصْلهَا وَاحِد، وَغير صنْوَان هِيَ النَّخْلَة الْوَاحِدَة بأصلها.
وَقَوله: ﴿يسقى بِمَاء وَاحِد﴾ المَاء جسم رَقِيق مَائِع يشرب، بِهِ حَيَاة كل نَام، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ﴾ وَفِي الْآيَة رد على أَصْحَاب الطبيعة، فَإِن المَاء وَاحِد، والهواء وَاحِد، وَالتُّرَاب وَاحِد، والحرارة وَاحِدَة، وَالثِّمَار مُخْتَلفَة فِي اللَّوْن والطعم، وَقلة الرّيع وَكَثْرَة الرّيع، والطبيعة وَاحِدَة يَسْتَحِيل أَن توجب شَيْئَيْنِ مُخْتَلفين؛ فَدلَّ هَذَا أَن الْجَمِيع من الله تَعَالَى.
فِي جَامع أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي فِي قَوْله: {ونفضل
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات﴾ يَعْنِي: الدلالات ﴿لقوم يعْقلُونَ﴾ يفهمون. وأنشدوا فِي الصنوان:
(الْعلم والحلم خلتا كرم | للمرء زين إِذا هما اجْتمعَا) |
(صنْوَان لَا يستتم حسنهما | إِلَّا بِجمع ذَا وَذَاكَ مَعًا) |
وَقَوله: ﴿أئذا كُنَّا تُرَابا أئنا لفي خلق جَدِيد﴾ هَذَا هُوَ الْمَعْنى فِي إنكارهم الْبَعْث.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا برَبهمْ﴾ جَحَدُوا برَبهمْ.
وَقَوله: ﴿وَأُولَئِكَ الأغلال فِي أَعْنَاقهم﴾ الغل طوق تجمع بِهِ الْيَد إِلَى الْعُنُق وَهَذِه الأغلال من نَار. وَقَوله: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَقد خلت من قبلهم المثلات﴾ رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: المثلات الْأَمْثَال، وَالْأَكْثَرُونَ أَن المثلات الْعُقُوبَات، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " المثلات " بِفَتْح الْمِيم وَكسر التَّاء، وَحكي عَنهُ أَنه قَرَأَ: " المثلات " بِضَم الْمِيم وتسكين الثَّاء، والمعاني مُتَقَارِبَة.
وَقَوله: ﴿وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة للنَّاس على ظلمهم﴾ مَعْنَاهُ: لذُو تجَاوز عَن النَّاس على ظلمهم ﴿وَإِن رَبك لشديد الْعقَاب﴾ وَفِي بعض المسانيد عَن سعيد بن الْمسيب " أَن النَّبِي قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة: لَوْلَا فضل الله وتجاوزه مَا هنىء أحد الْعَيْش، وَلَوْلَا وعيده وعقوبته لَا تكل كل أحد ".
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا أَنْت مُنْذر﴾ مخوف أَو مبلغ للوحي بالإنذار.
وَقَوله: ﴿وَلكُل قوم هاد﴾ فِيهِ أَقْوَال، الْأَكْثَرُونَ أَن مَعْنَاهُ: وَلكُل قوم نَبِي يَدعُوهُم إِلَى الله، وَالْقَوْل الثَّانِي: وَلكُل قوم هاد، يَعْنِي: مُحَمَّدًا وَقيل: الْهَادِي هُوَ الله.
قَوْله: ﴿وَمَا تغيض الْأَرْحَام وَمَا تزداد﴾ الغيض هُوَ النُّقْصَان، هَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَغَيره، وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَ الْمَطَر قيظا، وَالْولد غيضا، وغاض الْكِرَام غيضا، وفاض اللئام فيضا " الْخَبَر.
وَفِي غيض الْأَرْحَام وزيادتها ثَلَاثَة أَقْوَال: الأول: أَنه النُّقْصَان عَن سَبْعَة أشهر، وَالزِّيَادَة على تِسْعَة أشهر، وَالثَّانِي أَنه: النُّقْصَان بِإِسْقَاط السقط، وَالزِّيَادَة بِتمَام الْخلق، وَالثَّالِث: أَنه النُّقْصَان بِالْحيضِ على الْحمل، وَالزِّيَادَة بِعَدَمِ الْحيض على الْحمل؛ فَإِن الْوَلَد ينتقص إِذا أهراقت الْمَرْأَة الدَّم على الْحمل وتتم إِذا لم تهرق. وَعَن مَكْحُول أَنه قَالَ: دم الْحيض غذَاء الْوَلَد فِي الرَّحِم.
وَقَوله: ﴿وكل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار﴾ أَي: بِتَقْدِير.
وَقَوله: ﴿وَمن هُوَ مستخف بِاللَّيْلِ﴾ أَي: مستتر بظلمة اللَّيْل وَقَوله: ﴿وسارب بِالنَّهَارِ﴾ أَي: ظَاهر ذَاهِب بِالنَّهَارِ، والسرب: الطَّرِيق، تَقول الْعَرَب: خل لَهُ سربه أَي:
(خفاهن من أنفاقهن كَأَنَّمَا | خفاهن ودق من سَحَاب مركب) |
القَوْل الثَّانِي هُوَ مَا رُوِيَ عَن عِكْرِمَة قَالَ: الْآيَة فِي الْأُمَرَاء وحرسهم.
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن ابْن جريج أَنه قَالَ: الْآيَة فِي الَّذِي يقْعد عَن الْيَمين وَالشمَال يكْتب، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد﴾.
وَقَوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن قَوْله: ﴿من أَمر الله﴾ وَمَعْنَاهُ: أَنهم يَحْفَظُونَهُ بِإِذن الله، فَإِذا جَاءَ الْقدر خلوا بَينه وَبَينه، وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى يُوكل مَلَائِكَة بالنائم يَحْفَظُونَهُ من الْحَيّ والهوام فَإِذا قَصده شَيْء، قَالُوا: وَرَاءَك وَرَاءَك إِلَّا شَيْئا قدر أَن يُصِيبهُ.
وَرُوِيَ عَمْرو بن أبي جُنْدُب: كُنَّا عِنْد سعيد بن قيس الْهَمدَانِي، فجَاء عَليّ يتَوَكَّأ على عنزة لَهُ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أما تخَاف أَن يغتالك أحد؟ فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى قد وكل بِابْن آدم مَلَائِكَة يَحْفَظُونَهُ، فَإِذا جَاءَ الْقدر خلوا بَينه وَبَينه.
وَفِي قَوْله: ﴿من أَمر الله﴾ قَول آخر، وَهُوَ أَنه على الْمَعْنى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَكَأن الله تَعَالَى قَالَ: لَهُ مُعَقِّبَات من أمره يَحْفَظُونَهُ من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه وَقيل: من أَمر الله: مِمَّا أَمر الله بِهِ من الْحِفْظ عَنهُ. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ ورقباء من خَلفه ". وقرى فِي الشاذ: " لَهُ معاقيب من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه ".
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم﴾ مَعْنَاهُ: لَا يُغير شَيْئا بِقوم من النِّعْمَة ﴿حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم﴾ بالمعصية.
وَقَوله: ﴿وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا﴾ فِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة صَرِيحًا، وَمَعْنَاهُ: بلَاء وَعَذَابًا ﴿فَلَا مرد لَهُ﴾ أَي: لَا راد لَهُ. ﴿وَمَا لَهُم من دونه من وَال﴾ أَي: من ولي يمنعهُم وَيَنْصُرهُمْ، قَالَ الشَّاعِر:
(مَا فِي السَّمَاء سوى الرَّحْمَن من وَال... )
وَقَوله ﴿خوفًا وَطَمَعًا﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا أَن الْخَوْف من الصاعقة، والطمع فِي نفع الْمَطَر.
وَالثَّانِي: أَن الْخَوْف للْمُسَافِر، فَإِن عَادَة الْمُسَافِر أَن يتَأَذَّى بالمطر، والطمع للمقيم، لِأَن الْمُقِيم يَرْجُو الخصب بالمطر.
وَالثَّالِث: أَن الْخَوْف من الْمَطَر فِي غير إبانة، وَفِي غير مَكَانَهُ، والطمع إِذا كَانَ فِي إبانه ومكانه من الْبلدَانِ [فَمنهمْ] إِذا مُطِرُوا قحطوا، مثل مصر وَغَيره، وَإِذا لم يمطروا أخصبوا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي " أَن الله تَعَالَى يَقُول: لَو أَن عبَادي أطاعوني أسقيتهم الْمَطَر بِاللَّيْلِ، وأطلعت عَلَيْهِم الشَّمْس بِالنَّهَارِ، وَلم أسمعهم صَوت الرَّعْد ".
وَقَوله: ﴿وينشىء السَّحَاب الثقال﴾ يَعْنِي: الثقال بِالْمَاءِ، وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: السَّحَاب غربال السَّمَاء. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى خلق السَّحَاب كل سبع سِنِين مرّة.
وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر قَالَ: الصاعقة تصيب الْمُسلم وَغير الْمُسلم وَلَا تصيب الذاكر.
وَفِي الرَّعْد قَول آخر، وَهُوَ أَنه صَوت اصطكاك الأجرام العلوية. وَالصَّحِيح هُوَ الأول، وَقيل أَيْضا: إِن الرَّعْد نطق السَّحَاب، والبرق ضحكه.
وَقَوله ﴿وَالْمَلَائِكَة من خيفته﴾ يَعْنِي: وتسبح الْمَلَائِكَة من خيفته. وَعَن ابْن عَبَّاس أَن لله تَعَالَى مَلَائِكَة يَبْكُونَ من خَشيته من يَوْم خلقهمْ، وملائكة فِي الرُّكُوع، وملائكة فِي السُّجُود، وملائكة فِي التَّسْبِيح لَا يشغلهم عَن ذَلِك شَيْء.
وَقَوله: ﴿وَيُرْسل الصَّوَاعِق فَيُصِيب بهَا من يَشَاء﴾ الصاعقة: هِيَ الْعَذَاب المهلك، وَهِي تنزل من الْبَرْق فِي بعض الْأَحْوَال فتحرق مَا تصيبه، وَالْآيَة نزلت فِي شَأْن أَرْبَد بن ربيعَة حِين جَاءَ إِلَى النَّبِي فَقَالَ: مِم رَبك؟ أَمن در أَو ياقوت أَو من ذهب [أَو من فضَّة] ؟ فَنزلت صَاعِقَة من السَّمَاء فَأَحْرَقتهُ، ورثاه أَخُوهُ لبيد بن ربيعَة، فَقَالَ:
(أخْشَى على أَرْبَد الحتوف وَلَا | أرهب نوء السماك والأسد) |
(فجعني الْبَرْق وَالصَّوَاعِق بالفارس | يَوْم الكريهة النجد) |
وَرُوِيَ " أَن يَهُودِيّا أَتَى النَّبِي وَسَأَلَهُ: مِم رَبك؟ فَنزلت صَاعِقَة وأحرقته ".
وَقَوله: ﴿وهم يجادلون فِي الله﴾ يَعْنِي: يُخَاصِمُونَ وَيَقُولُونَ فِي الله مَا لَا يعلمُونَ وَقيل: وهم يجادلون فِي الله: يكذبُون بعظمة الله.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ شَدِيد الْمحَال﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: شَدِيد الْحول، وَمِنْه قَوْله: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَقيل: شَدِيد الْمحَال شَدِيد الانتقام. وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - شَدِيد الْأَخْذ. وَقيل: شَدِيد الإهلاك. وَقيل: شَدِيد الْمَكْر. وَقَالَ الشَّاعِر:
(فرع نبع يَهْتَز فِي غُصْن الْمجد | عَزِيز الندى شَدِيد الْمحَال) |
قَوْله: ﴿وَالَّذين يدعونَ من دونه﴾ يَعْنِي: الْأَصْنَام ﴿لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء﴾ يَعْنِي: لَا يجيبون لَهُم شَيْئا. وَقَوله: ﴿إِلَّا كباسط كفيه إِلَى المَاء﴾. فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه كالقابض على المَاء، وَمن قبض على المَاء لم يبْق فِي يَده شَيْء. قَالَ الشَّاعِر:
(فَأَصْبَحت (فِيمَا) كَانَ بيني وَبَينهَا | من الود مثل الْقَابِض المَاء بِالْيَدِ) |
وَقَوله: ﴿وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال﴾ يَعْنِي: إِلَّا فِي خطأ وَبطلَان.
وَقَوله: ﴿قل أفاتخذتم من دونه أَوْلِيَاء﴾ مَعْنَاهُ: أَنكُمْ مَعَ إقراركم أَن الله خالقكم وخالق السَّمَوَات وَالْأَرْض اتخذتم من دونه أَوْلِيَاء يَعْنِي: الْأَصْنَام. ﴿لَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نفعا وَلَا ضرا﴾ يَعْنِي: أَنهم عجزة، فَإِذا لم يملكُوا لأَنْفُسِهِمْ نفعا وَلَا ضرا، فَكيف يملكُونَ لكم؟.
وَقَوله: ﴿قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير﴾ ضرب مثلا لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر وَالْإِيمَان وَالْكفْر؛ فَقَالَ: ( ﴿قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير﴾ أم هَل تستوي الظُّلُمَات
وَقَوله: ﴿أم جعلُوا لله شُرَكَاء﴾ يَعْنِي: أجعلوا لله شُرَكَاء ﴿خلقُوا كخلقه فتشابه الْخلق عَلَيْهِم﴾ أَي: اشْتبهَ مَا خلقوه بِمَا خلقه الله، وَمعنى الْآيَة: أَنهم كَمَا عرفُوا أَن الْأَصْنَام لَا تخلق كخلق الله؛ فَلَا يَنْبَغِي أَن تعبد كعبادة الله.
وَقَوله: ﴿قل الله خَالق كل شَيْء﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله ﴿وَهُوَ الْوَاحِد القهار﴾ الْوَاحِد: هُوَ الشَّيْء الَّذِي لَا يَنْقَسِم، وَقد يكون شَيْئَيْنِ لَا يَنْقَسِم فِي معنى، وَيُسمى وَاحِد، مثل قَوْلهم: دِينَار وَاحِد؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَسِم فِي الدينارية. والقهار: الْغَالِب الَّذِي لَا يغلبه شَيْء، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " سُبْحَانَ من تعزز بقدرته وقهر عباده بِالْمَوْتِ ".
وَقَوله: ﴿فَاحْتمل السَّيْل زبدا رابيا﴾ الزّبد: هُوَ الْخبث الَّذِي يظْهر على وَجه المَاء، وَكَذَلِكَ على وَجه الْقدر، وَكَذَلِكَ على فَم الْبَعِير. وَقَوله: ﴿رابيا﴾ أَي: طافيا عَالِيا تمّ الْمثل الأول هَاهُنَا. ثمَّ ذكر مثلا ثَانِيًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّار﴾ وَمن الَّذِي توقدون عَلَيْهِ، الإيقاد: جعل النَّار تَحت الشَّيْء ليذوب.
وَقَوله: ﴿ابْتِغَاء حلية﴾ مَعْنَاهُ: لطلب الْحِلْية، وَالَّذِي أوقد عَلَيْهِ هَاهُنَا هُوَ الذَّهَب وَالْفِضَّة؛ لِأَن الْحِلْية تطلب مِنْهُمَا. وَقَوله: ﴿أَو مَتَاع﴾ مَعْنَاهُ: أَو طلب مَتَاع، وَذَلِكَ من الصفر والنحاس وَغَيره يُوقد عَلَيْهَا، وَالْمَتَاع: هُوَ الْأَوَانِي المتخذة من هَذِه الْأَشْيَاء.
وَقَوله: ﴿زبد مثله﴾ أَي: زبد مثل زبد المَاء ﴿كَذَلِك يضْرب الله الْحق وَالْبَاطِل﴾ أَي: كَذَلِك يبين الله الْحق وَالْبَاطِل بِضَرْب الْمثل، ثمَّ قَالَ: ﴿فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء﴾ يَعْنِي ضائعا بَاطِلا، يُقَال: أجفأت الْقدر، إِذا زبدت من جوانبها، وَذهب الزّبد. وَذكر أَبُو زيد اللّغَوِيّ أَن رؤبة بن العجاج قَرَأَ: " فَأَما الزّبد فَيذْهب جفالا " وَالْمعْنَى قريب من الأول.
وَقَوله: ﴿وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث﴾ يَعْنِي: المَاء وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والرصاص والصفر والنحاس. قَوْله: ﴿فيمكث فِي الأَرْض﴾ أَي: يبْقى وَلَا يذهب.
وَقَوله ﴿كَذَلِك يضْرب الله الْأَمْثَال﴾ جعل هَذَا مثلا للحق وَالْبَاطِل فِي الْقُلُوب، يَعْنِي: أَن الْبَاطِل كالزبد يذهب ويضيع وَيهْلك، وَالْحق كَالْمَاءِ وكهذه الْأَشْيَاء يمْكث وَيبقى فِي الْقُلُوب، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا تَسْلِيَة للْمُؤْمِنين، يَعْنِي أَن أَمر الْمُشْركين كَذَلِك الزّبد، يرى فِي الصُّورَة شَيْئا ثَابتا وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَة. وَأمر الْمُؤمنِينَ كَالْمَاءِ المستقر فِي مَكَانَهُ، فَلهُ الثَّبَات والبقاء، يُقَال: للباطل جَوْلَة، وللحق دولة.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ﴾ أَي: لم يجيبوا لَهُ. وَقَوله: ﴿لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه لافتدوا بِهِ﴾ يَعْنِي: لبذلوا ذَلِك افتداء من النَّار.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم سوء الْحساب﴾ رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ لفرقد: يَا فريقد، أَتَدْرِي مَا سوء الْحساب؟ هُوَ أَن يُحَاسب على جَمِيع الذُّنُوب وَلَا يغْفر مِنْهَا شَيْئا. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " من نُوقِشَ الْحساب
وَقَوله: ﴿وَبئسَ المهاد﴾ أَي: بئس مَا مهدوا لأَنْفُسِهِمْ أَي: بئس مَا مهد لَهُم.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يتَذَكَّر أولو الْأَلْبَاب﴾ أَي: يتعظ أولو الْأَلْبَاب، وَمعنى الْآيَة: أَن من يبصر الْحق ويتبعه، وَمن لَا يبصر الْحق وَلَا يتبعهُ لَا يستويان أبدا.
وَقَوله: ﴿وَلَا ينقضون الْمِيثَاق﴾ هُوَ تَحْقِيق الْوَفَاء السَّابِق.
وَقَوله: ﴿ويخشون رَبهم﴾ أَي: يخَافُونَ رَبهم ﴿وَيَخَافُونَ سوء الْحساب﴾ أَي: يرهبون سوء الْحساب، وَسُوء الْحساب قد بَينا.
وَقَوله: ﴿يدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة﴾ يَعْنِي: يدْفَعُونَ السَّيئَة بِالْحَسَنَة، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات﴾ وَمعنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا عملت سَيِّئَة فاعمل بجنبها حَسَنَة تمحها ". وَفِي الْآيَة قَول آخر وَهُوَ أَن السَّيئَة: الذَّنب. والحسنة: التَّوْبَة. وَمَعْنَاهُ: يدْفَعُونَ الذَّنب بِالتَّوْبَةِ وَفِي الْخَبَر: " مَا من شَيْء أدْرك لشَيْء من تَوْبَة حَدِيثَة لذنب قديم ".
قَوْله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم عُقبى الدَّار﴾ أَي: الْجنَّة، وَمَعْنَاهُ: لَهُم عَاقِبَة دَار الثَّوَاب.
وَقَوله: ﴿يدْخلُونَهَا﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: ﴿وَمن صلح من آبَائِهِم﴾ أَي: ويدخلها من صلح من آبَائِهِم ﴿وأزواجهم وذرياتهم﴾ وَفِي الْخَبَر: أَن الْمُؤمن يدْخل الْجنَّة، فَيرى ذُريَّته فِيهَا، فَيَقُول: مَتى دَخَلْتُم فِيهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَحن مُنْذُ قديم ننتظرك، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿وَالْمَلَائِكَة يدْخلُونَ عَلَيْهِم من كل بَاب﴾ يَعْنِي: من أَبْوَاب الْجنَّة، وَقيل: من أَبْوَاب الْقُصُور.
وَقَوله: ﴿ويفسدون فِي الأَرْض﴾ يَعْنِي: يعْملُونَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي. وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم اللَّعْنَة﴾ أَي: الْبعد من رَحْمَة الله. وَقَوله: ﴿وَلَهُم سوء الدَّار﴾ أَي: سوء المنقلب لِأَن المنقلب: مُنْقَلب النَّاس إِلَى الدَّار.
قَوْله: ﴿وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع﴾ يَعْنِي: إِلَّا قَلِيل، وَيُقَال: كمتاع الرَّاكِب، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا كَمَا يَجْعَل أحدكُم أُصْبُعه فِي اليم فَلْينْظر بِمَ يرجع ".
وَقَوله: ﴿قل إِن الله يضل من يَشَاء﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿وَيهْدِي إِلَيْهِ من أناب﴾ مَعْنَاهُ: وَيهْدِي إِلَيْهِ من يَشَاء بالإنابة، وَفِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة، وَالله الْهَادِي إِلَى الصَّوَاب بمنه.
وَقَوله: ﴿أَلا بِذكر الله تطمئِن الْقُلُوب﴾ مَعْنَاهُ: أَلا بِذكر الله تسكن الْقُلُوب، وطمأنينة الْقلب بِزَوَال الشَّك مِنْهُ واستقرار الْيَقِين فِيهِ، فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وجلت قُلُوبهم﴾ فَكيف توجل وتطمئن فِي حَالَة وَاحِدَة؟ وَالْجَوَاب: أَن الوجل بِذكر الْوَعيد وَالْعِقَاب، والطمأنينة بِذكر الْوَعْد وَالثَّوَاب، فَكَأَنَّهَا توجل إِذا ذكر عدل الله وَشدَّة حسابه، وتطمئن إِذا ذكر فضل الله وَكَرمه.
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن أَصْلهَا فِي منزل النَّبِي وقصره، وَفِي كل قصر من قُصُور الْجنَّة غُصْن مِنْهَا، وَعَلَيْهَا من جَمِيع أَنْوَاع الثَّمر، وَتَقَع عَلَيْهَا طيور كالبخت إِذا رَآهَا الْمُؤمن واشتهى مِنْهَا سَقَطت بَين يَدَيْهِ، فيأكل مِنْهَا مَا شَاءَ ثمَّ تطير، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن رجلا لَو ركب حَقًا أَو جذعا، وَجعل يطوف بأصلها لقَتله الْهَرم، وَلم يبلغ إِلَى الْموضع الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن طُوبَى اسْم الْجنَّة، قَالَ مُجَاهِد: هِيَ اسْم الْجنَّة بالحبشية. وَعَن عِكْرِمَة: طُوبَى لَهُم أَي نعماء لَهُم، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَي خير وكرامة لَهُم، وَعَن
وَقَوله: ﴿وَحسن مآب﴾ أَي: حسن مُنْقَلب.
قَوْله: ﴿قد خلت من قبلهَا أُمَم﴾ أَي: قد مَضَت من قبلهَا أُمَم. قَوْله: ﴿لتتلوا عَلَيْهِم الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك﴾ أَي. لتقرأ عَلَيْهِم الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك.
وَقَوله: ﴿وهم يكفرون بالرحمن﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: قَالَ ابْن جريج: الْآيَة مَدَنِيَّة فِي قصَّة الْحُدَيْبِيَة فَإِن سُهَيْل بن عَمْرو لما جَاءَ وَاتَّفَقُوا على أَن يكتبوا كتاب الصُّلْح، كتب عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، فَقَالُوا: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن، اكْتُبْ كَمَا نكتب نَحن: بِاسْمِك اللَّهُمَّ... الْقِصَّة، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وهم يكفرون بالرحمن﴾.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْرُوف - أَن الْآيَة مَكِّيَّة، وَسبب نُزُولهَا أَن أَبَا جهل سمع النَّبِي وَهُوَ فِي الْحجر يَدْعُو وَيَقُول: " يَا الله، يَا رَحْمَن ". فَرجع إِلَى الْمُشْركين، وَقَالَ: إِن مُحَمَّدًا يَدْعُو إِلَهَيْنِ يَدْعُو الله، وَيَدْعُو آخر يُسمى الرَّحْمَن وَلَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا رَحْمَن الْيَمَامَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأنزل أَيْضا قَوْله تَعَالَى: ﴿قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن﴾.
وَقَوله: ﴿قل هُوَ رَبِّي﴾ يَعْنِي قل: الرَّحْمَن رَبِّي ﴿لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت﴾ عَلَيْهِ اعتمدت وَبِه وثقت ﴿وَإِلَيْهِ متاب﴾ يَعْنِي: وَإِلَيْهِ التَّوْبَة، وَالتَّوْبَة هِيَ النَّدَم على مَا سلف من الجرائم مَعَ الإقلاع عَنْهَا فِي الْمُسْتَقْبل.
فَإِن قيل: هَذَا الْجَواب الَّذِي تَقولُونَ غير مَذْكُور فِي الْقُرْآن، وَهَذَا زِيَادَة؟
الْجَواب عَنهُ، أَن الْجَواب مَحْذُوف، وَالْعرب تفعل مثل هَذَا، قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَو أَنَّهَا نفس تَمُوت سوية | وَلكنهَا نفس تساقط أنفسا) |
مَعْنَاهُ: أَنا لَو فعلنَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي أنزل إِلَيْك مَا سَأَلُوا، لم يُؤمنُوا أَيْضا. وَقَوله: ﴿بل لله الْأَمر جَمِيعًا﴾ مَعْنَاهُ: بل لله الْأَمر جَمِيعًا فِي هَذِه الْأَشْيَاء؛ إِن شَاءَ فعلهَا وَإِن شَاءَ لم يَفْعَلهَا.
وَقَوله: ﴿أفلم ييئس الَّذين آمنُوا﴾ أَكثر أهل الْمعَانِي على أَن مَعْنَاهُ: أفلم يعلم الَّذين آمنُوا، وَفِي قِرَاءَة ابْن عَبَّاس هَكَذَا: " أفلم يتَبَيَّن للَّذين آمنُوا " وَقد ورد هَذَا اللَّفْظ بِمَعْنى الْعلم فِي لُغَة الْعَرَب، قَالَ الشَّاعِر:
(أَقُول لَهُم بِالشعبِ إِذْ يأسرونني | ألم تيئسوا أَنِّي ابْن فَارس زَهْدَم) |
(ألم ييئس الْأَبْطَال أَنِّي أَنا ابْنه | وَإِن كنت عَن أَرض الْعَشِيرَة تائيا) |
وَقَوله: ﴿وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا تصيبهم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة﴾ أَي نازلة وبلية، وَقيل: إِن القارعة هَاهُنَا: سَرَايَا رَسُول الله ﴿أَو تحل قَرِيبا من دَارهم﴾ يَعْنِي: أَو تحل السّريَّة قَرِيبا من دَارهم، وَقيل: أَو تنزل أَنْت قَرِيبا من دَارهم.
﴿حَتَّى يَأْتِي وعد الله﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يَوْم بدر.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يخلف الميعاد﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَالَ بَعضهم: معنى قَوْله: ﴿أَفَمَن هُوَ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت﴾ أَي: عَالم بكسب كل نفس، قَالَ الشَّاعِر:
(فلولا رجال من قُرَيْش أعزة... سرقتم ثِيَاب الْبَيْت وَالله قَائِم)
أَي: عَالم. وَقَوله: ﴿أَفَمَن﴾ مَعْنَاهُ: أَفَمَن كَانَ هَكَذَا كمن لَيْسَ بِهَذَا الْوَصْف. وَقَوله: ﴿وَجعلُوا لله شُرَكَاء﴾ أَي: وصفوا لله شُرَكَاء، وَقَوله: ﴿قل سموهم﴾ مَعْنَاهُ: قل صفوهم بِالصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مُسْتَحقَّة لَهَا، ثمَّ انْظُرُوا هَل هِيَ أهل أَن تعبد أَو لَا؟
قَوْله: ﴿أم تنبئونه بِمَا لَا يعلم فِي الأَرْض﴾ مَعْنَاهُ: أم أَنْتُم تنبئون الله بِمَا لَا يعلم. يَعْنِي: تذكرُونَ لَهُ شَرِيكا وإلها آخر، وَهُوَ لَا يُعلمهُ.
وَقَوله: ﴿أم بِظَاهِر من القَوْل﴾ يَعْنِي أم تتعلقون بِظَاهِر من القَوْل لَا معنى لَهُ، شبه المتجاهل الَّذِي لَا يطْلب حَقِيقَة الْأَمر، وَقيل: بِظَاهِر من القَوْل بباطل من القَوْل: قَالَ الشَّاعِر:
(وعيرني الواشون أَنِّي أحبها... وَتلك شكاة ظَاهر عَنْك عارها)
أَي: زائل، وَحكي أَن عبد الله بن الزبير أنْشد هَذَا حِين قيل لَهُ: يَا ابْن ذَات النطاقين، وَقصد الْقَائِل تَعْبِيره وذمه؛ فَقَالَ عبد الله بن الزبير:
(وَتلك شكاة ظَاهر عَنْك عارها... ).
قَوْله: ﴿بل زين للَّذين كفرُوا مَكْرهمْ﴾ أَي: كفرهم. وَقَوله: ﴿وصدوا عَن السَّبِيل﴾ وَقُرِئَ: " وصدوا " بِرَفْع الصَّاد، أَي: فعل بهم ذَلِك. وَقَوله: ﴿وصدوا﴾
﴿ولعذاب الْآخِرَة أشق﴾ يَعْنِي: أَشد. وَقَوله: ﴿وَمَا لَهُم من الله من واق﴾ أَي: من يقي.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ هَاهُنَا: ﴿أكلهَا دَائِم﴾ وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا﴾ فَكيف التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟
الْجَواب: أَن الدَّوَام بِمَعْنى عدم الِانْقِطَاع، فَإِذا لم يَنْقَطِع ورزقوا بكرَة وعشيا، فَهُوَ دَائِم. وَقَوله: ﴿وظلها﴾ هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وظل مَمْدُود﴾.
وَفِي الْأَخْبَار: " أَن ظلّ شَجَرَة وَاحِدَة فِي الْجنَّة يسير الرَّاكِب فِيهَا مائَة عَام لَا يقطعهُ ". وَقَوله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ عُقبى الَّذين اتَّقوا﴾ مَعْنَاهُ: تِلْكَ عَاقِبَة الَّذين اتَّقوا. وَقَوله: ﴿وعقبى الْكَافرين النَّار﴾ أَي: عَاقِبَة الْكَافرين النَّار.
وَقَوله: ﴿وَمن الْأَحْزَاب من يُنكر بعضه﴾ الْأَحْزَاب: هم الَّذين تحزبوا على النَّبِي. وَقَوله: ﴿من يُنكر بعضه﴾ يَعْنِي: ذكر الرَّحْمَن؛ لأَنهم كَانُوا لَا يُنكرُونَ ذكر الله، وَقَوله: ﴿قل إِنَّمَا أمرت أَن أعبد الله وَلَا أشرك بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مآب﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَلَئِن اتبعت أهواءهم﴾ الْهوى: ميل الطَّبْع لشَهْوَة النَّفس. وَأَكْثَره مَذْمُوم. قَوْله: ﴿بعد مَا جَاءَك من الْعلم﴾ يَعْنِي: من الْقُرْآن ﴿مَالك من الله من ولي وَلَا واق﴾ يَعْنِي: من نَاصِر وَلَا حَافظ.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ لرَسُول أَن يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله﴾ أَي: إِلَّا بِأَمْر الله ﴿لكل أجل كتاب﴾ مَعْنَاهُ: لكل أجل أَجله الشَّرْع كتاب أثبت فِيهِ. وَقيل: هَذَا على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: لكل كتاب أجل وَمُدَّة، وَمَعْنَاهُ الْكتب الْمنزلَة وَقيل: لكل أجل كتاب، أَي: لكل قَضَاء قَضَاهُ الله تَعَالَى وَقت يَقع فِيهِ، وَكتاب أثبت فِيهِ.
وَفِي الْآيَة قَول آخر، وَهُوَ قَول الْحسن: ﴿يمحو الله مَا يَشَاء﴾ أَي: يمحو من حضر أَجله وَيثبت مَا يَشَاء من لم يحضر أَجله، وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: أَن المُرَاد مِنْهُ أَن الْحفظَة يَكْتُبُونَ جَمِيع أَعمال بني آدم، فَيَمْحُو الله مِنْهَا مَا يَشَاء، وَهُوَ مَا لَا ثَوَاب عَلَيْهِ وَلَا عِقَاب، وَيثبت مَا يَشَاء وَهُوَ الَّذِي يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَقيل: ﴿يمحو الله مَا يَشَاء﴾ أَي: يمحو مَا يَشَاء لمن عَصَاهُ فختم أمره بِالطَّاعَةِ، وَيثبت بالمعصية لمن أطَاع، وَختم أمره بالمعصية. وَالْمَنْقُول عَن السّلف هِيَ الْأَقْوَال الَّتِي ذَكرنَاهَا قبل هَذَا القَوْل.
وَقَوله: ﴿وَعِنْده أم الْكتاب﴾ مَعْنَاهُ: وَعِنْده أصل الْكتاب، وأصل الْكتاب: هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَفِي بعض الْأَخْبَار " أَن الله تَعَالَى ينظر فِي الْكتاب الَّذِي عِنْده لثلاث سَاعَات يبْقين من اللَّيْل؛ فَيَمْحُو مَا يَشَاء وَيثبت مَا يَشَاء، ويبدل مَا يَشَاء ويقرر مَا يَشَاء ".
وَقَوله: ﴿وَمن عِنْده علم الْكتاب﴾ قَالَ قَتَادَة: هُوَ عبد الله بن سَلام، وَقيل: عبد الله بن سَلام وسلمان الْفَارِسِي وَتَمِيم الدَّارِيّ، وعَلى هَذَا جمَاعَة من التَّابِعين، وَأنكر الشّعبِيّ وَعِكْرِمَة وَجَمَاعَة هَذَا القَوْل، وَقَالُوا: السُّورَة مَكِّيَّة، وَعبد الله بن سَلام أسلم بِالْمَدِينَةِ، وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى كَيفَ يستشهد بمخلوق، وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهُ هُوَ الله تَعَالَى. وَقد قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " وَمن عِنْده علم الْكتاب " وَهَذَا يبين أَن المُرَاد [مِنْهُ] هُوَ الله تَعَالَى.
وعنى عبد الله بن سَلام نَفسه، قَالَ: أَنا المُرَاد بِالْآيَةِ.
وَعَن الْحسن وَمُجاهد أَن المُرَاد هُوَ الله.
وَسَعِيد بن جُبَير قَالَ: هُوَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَالصَّحِيح أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين، وَالله أعلم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿الر كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذن رَبهم إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد (١) الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وويل للْكَافِرِينَ من﴾تَفْسِير سُورَة إِبْرَاهِيم
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا﴾ إِلَى قَوْله: ﴿فَإِن مصيركم إِلَى النَّار﴾ وَالله أعلم.
وقوله :( ومن عنده علم الكتاب ) قال قتادة : هو عبد الله بن سلام، وقيل : عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري، وعلى هذا جماعة من التابعين، وأنكر الشعبي وعكرمة وجماعة هذا القول، وقالوا : السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة، وأيضا فإن الله تعالى كيف يستشهد بمخلوق، وإنما المراد منه هو الله تعالى، وقد قرأ ابن عباس :" ومِنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكتاب " وهذا يبين أن المراد [ منه ] ( ١ ) هو الله تعالى.
وعن عبد الله بن سلام نفسه، قال : أنا المراد بالآية.
وعن الحسن ومجاهد أن المراد هو الله.
وسعيد بن جبير قال : هو جبريل - عليه السلام - والصحيح أحد القولين الأولين، والله أعلم.