تفسير سورة سورة الرعد من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة الرعد مكية أو مدنية وهي ثلاث وأربعون آية وست ركوعات.
ﰡ
﴿ المر ﴾ عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنا الله أعلم وأرى، ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾ أي : تلك الآيات التي في هذه السورة آيات القرآن، ﴿ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ أي : القرآن كله، ﴿ الْحَقُّ ﴾ لا هذه السورة وحدها وهو خبر والذي، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ لما فيهم من العناد.
﴿ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ﴾ أي : أساطين جمع عماد أو عمود، ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾، صفة لعمد، وعن بعض السلف أن عمدا ولكن لا ترى، أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم للسماوات كذلك فضمير المؤنث حينئذ للسماوات، ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، قال السلف : الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، وقيل : علا عليه، ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ ذللهما لما أراد منهما، ﴿ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي : لدرجاتهما ومنازلهما ينتهيان إليهما لا يجاوزانها، أو إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا، ﴿ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ﴾ : جميع أمور ملكوته، ﴿ يُفَصِّلُ الآيَاتِ ﴾ : يوضحها، وينزلها مفصلة، ﴿ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ : لكي تتفكروا فيها فتعلموا كمال قدرته بحيث لا يعجز عن الإعادة والجزاء.
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ ﴾ : بسطها، ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ : جبالا ثوابت، ﴿ وَأَنْهَارًا ﴾ : ضمها مع الجبال فإنها تخرج من الجبال أكثرها، ﴿ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾، ظرف لقوله :﴿ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ أي : صنفين أسود وأبيض، أكبر وأصغر، حلوا وحامضا قيل : أول ما خلق العالم خلق ن كل نوع من الأشجار اثنين فقط كما خلق الإنسان من زوجين ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾ : يلبسه مكانه فيصير مظلما بعدما كان مضيئا، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ : فيما فيها من الصنائع والبدائع.
﴿ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾ : بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة طيبة إلى سبخة صلبة إلى رخوة ومن غير ذلك وهي دالة على قدرته واختباره، ﴿ وَجَنَّاتٌ ﴾ : بساتين، ﴿ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ ﴾ هي : نخلة لها رأسان وأصلها واحد، ﴿ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ : مختلفة الأصول، ﴿ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ ﴾ : في الثمر طعما وشكلا، ورائحة وقدرا مع أنها تستمد من طبيعة واحدة وهي الماء، بل وبعضها من أصل واحد فسبحانه من قادر و مختار ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ : يستعملون عقولهم.
﴿ وَإِن تَعْجَبْ ﴾ : يا محمد من إنكارهم النشأة الآخرة، ﴿ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ﴾ أي : فعجبت في موضعه حقيق بأن تتعجب، أو أن تعجب من تكذيبهم إياك بعد ما حكموا بصدقك فاعجب من قولهم أو تعجب من شيء فاعجب من قولهم :﴿ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا ﴾ مرفوع بأنه بدل من قولهم أو منصوب به وإذ نصب بما دل عليه قوله :﴿ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ﴾ : هم الكاملون في الكفر، ﴿ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ﴾ : يوم القيامة يسحبون بها في النار، ﴿ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ﴾.
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ ﴾ : بالعقوبة، ﴿ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ﴾ أي : العافية سألوا نزول العذاب استهزاء أو يطلبون النقمة لا النعمة كقولهم :" عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب "، ﴿ وَقَدْ خَلَتْ ﴾ مضت ﴿ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ ﴾ : عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ ﴾ أي : لذو إمهال وستر، ﴿ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾ : على كفرهم ومعاصيهم، وإن فسرت المغفرة بالعفو فعلى ظلمهم خال ولابد أن يفسر الظلم بمعاصي غير الكفر، ولا يناسب المقام فإنه إن فسرت بما يعمه فلا يخفى أن العفو من غير توبة فلا يصح بمذهب، وإن كان بعد التوبة فلا يلائم، لأنهم بعد التوبة ليسوا على الظلم، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ : لمن شاء.
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا ﴾ : هلا، ﴿ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾، لم يعتدوا بالآيات الباهرات واقترحوا مثل ما أوتي موسى وعيسى، ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ﴾ : لا عليك الإتيان بما اقترحوا كجعل الصفا ذهبا، ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ : نبي مخصوص يدعوهم إلى الهدى، أو معناه أنت منذر ولكل قوم هدا يهديهم إذا أراد، وهو الله، وعن بعض السلف الهادي على بن أبي طالب رضي الله عنه وأيضا في ذلك حديث ؛ لكن قيل فيه نكارة شديدة.
﴿ اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ﴾ من ذكر وأنثى سوى الخلق أو ناقصة، واحد وأكثر، ﴿ وَمَا تَغِيضُ ﴾ : تنقص، ﴿ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ : في مدة الحمل أو عدد الولد أو المراد نقصان غذاء وازدياده وهو دم الحيض وغاض وازداد جاءا لازمين ومتعديين، فإن كانا لازمين تعين أن يكون ما مصدرية، ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ : بقدر معلوم وحد لا يجاوزه، وعنده ظرف للمقدار.
﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾، ما غاب عن الخلق وحضر، ﴿ الْكَبِير ﴾ : العظيم القدر، ُ ﴿ الْمُتَعَالِ ﴾ : المستعلى على كل شيء أو متعال عما لا يليق بكماله.
﴿ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَر بِهِ ﴾ كما يحيط علمه بعلانيته يحيط بسره، ﴿ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ﴾ : طالب للخفاء، ﴿ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ : بارز به يراه كل أحد، وهو إما عطف على من أو على مستخف على أن من في معنى الاثنين كأنه قال : سواء منكم اثنان مستخف وسارب.
﴿ لَهُ ﴾ الضمير لمن، أي : لمن أسر وجهر واستخفى وسرب، ﴿ مُعَقِّبَاتٌ ﴾ : ملائكة يعقب بعضهم بعضا في الليل والنهار، ﴿ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ : ملكان من قدامه وورائه، ﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ﴾ : من بأسه وبلائه، أو من أجل الله وبإذنه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه وعن بعض السلف المعقبات الحرس حول السلطانِ يحفظونه بزعمهم من أمر الله قيل : مراده بهذا أن حرس الملائكة تشبه حرس هؤلاء لملوكهم، ﴿ إنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ﴾ : من النعمة أو النقمة، ﴿ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ : من الأحوال الجميلة أو القبيحة وقد ورد " قال الرب : وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجال ببادية كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لخم عما يكرهون من عذابي ما يحبون من رحمتي ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ﴾ : لا راد له، ﴿ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾ : يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء.
﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ نصبهما بالمفعول له بتقدير إرادة خوف وطمع، أو التأويل بالإخافة والإطماع، وعن بعض السلف الخوف للمسافر والطمع للمقيم، ﴿ وينشئ ﴾ : يخلق، ﴿ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ : من كثرة الماء.
﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ ﴾ هو اسم لهذا الصوت أو الملك موكل بالسحاب، ﴿ بِحَمْدِهِ ﴾ : متلبسا بحمده، ﴿ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ : من خوف الله تعالى، ﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا ﴾ : فيهلك، ﴿ مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ ﴾ : يكذبون آياته ورسله، والواو للحال أو للعطف نزلت في كافر قال : مم ربك ؟ من ذهب أو فضة أو لؤلؤ، وهو يجادل إذ أخذته صاعقة فأحرقته، ﴿ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ : الحول أو القوة أو الأخذ أو المحال المماحلة وهي شدة المماكرة والمكائدة.
﴿ لَهُ ﴾ : الله، ﴿ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾ : دعوة الحق التوحيد، وقيل : معناه العبادة والدعاء الحق لا الباطل، كان له لا لغيره، ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾ : الأصنام، ﴿ مِن دُونِه ﴾ : من دون الله تعالى، أو المراد من الذين الأصنام، أي : الأصنام الذين يدعونهم من دون الله، ﴿ لاَ يَسْتَجِيبُونَ ﴾ أي : الأصنام، ﴿ لَهُم ﴾ : لعبادهم، ﴿ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ ﴾ : إلا استجابة كاستجابة من بسط، ﴿ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ ﴾ : يطلب منه أن يبلغ، ﴿ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ﴾ : لأن الماء جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر أن يصل إلى فيه كالأصنام وعن بعض السلف كمثل الذي يناول الماء من كرف البئر بيده وهو لا يناله أبدا، يبلغ فاه ؟ ! وعن بعض معناه مثلهم كمثل من بسط كفيه ناشرا أصابعه والماء لا يبقى في الكف إذا نشرت الأصابع، ﴿ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ : في ضياع لا منفعة فيه أو دعاؤهم ربهم إلا في ضلال ؛ لأن لأصواتهم محجوبة عن الله تعالى.
﴿ وَلِلّهِ يَسْجُدُ ﴾ : ينقاد ويخضع، ﴿ مَن فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ : الملائكة، ﴿ وَالأَرْضِ ﴾ : الثقلين، ﴿ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾ نصبهما بالمفعول له أو بالحال قيل : المراد من السجدة وضع الجبهة وهو من المؤمنين بالطوع ومن الكفرة وقت الضرورة قيل : اللفظ عام والمراد منه الخصوص، ﴿ وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ﴾ : في هذين الوقتين يسجد ظلال الكافر والمؤمن بكيفية لا نعرف، وهل يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال عقولا يسجد لخالقه كما خلق في الجبال وتجلى له والمؤولة يؤولونها إلى تصريفه إياه بالمد والتقليص فقالوا : تخصيص الوقتين لأن المد والتقليص فيهما أظهر والأظهر أن بالغدو ظرف ليسجد والتخصيص لأنهما أشرف أوقات العبادة أو المراد بهما الدوام.
﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قل الله ﴾ أجاب عنهم فإنهم مضطرون إلى هذا لجواب ﴿ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء ﴾ ألزمهم بأنكم تأخذون الأصنام ربا مع أنكم تسلمون أن الله تعالى َرب السماوات والأرض، ﴿ لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ﴾ : لا يقدرون على أن ينفعوا أنفسهم ويدفعوا عنها ضرا، فكيف يملكون لكم ؟ ! ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ : فلا يستوي المؤمن والكافر، وقيل المراد : هل يستوي الإله الغافل عنكم والإله المطلع على أحوالكم ؟، ﴿ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ﴾ فلا يستوي الكفر والإيمان، ﴿ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء ﴾ : بل أجعلوا والهمزة للإنكار، ﴿ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ ﴾ صفة لشركاء، ﴿ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ ﴾ : خلق وخلق الشركاء، ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ أي : ما اتخذوا شركاء خالقين حتى يتشابه عليهم الأمر، فيقولوا : هؤلاء خالقون كما أن الله تعالى خالق فاستحقوا العبادة أيضا، بل اتخذوا شركاء من أعجز الخلق، ﴿ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ : وحده لا شريك له فلا تشركوا في عبادته غيره، ﴿ وَهُوَ الْوَاحِدُ ﴾ : بالألوهية، ﴿ الْقَهَّارُ ﴾ : الغالب.
﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ ﴾ جمع واد، وهو موضع يسيل فيه الماء، فنسبة السيل مجاز للمبالغة، ﴿ بِقَدَرِهَا ﴾ أي : أحذ كل واد بحبسه، فالكبير يسع الكثير، والصغير يسع القليل، قيل : بمقدارها الذي علم الله أنه نافع، ﴿ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا ﴾ أي : الزبد الذي يظهر على وجه الماء من غليانه، ﴿ رَّابِيًا ﴾ : مرتفعا على وجه السيل، ﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ﴾ أي : جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك، ﴿ ابْتِغَاء ﴾ : طلب، ﴿ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ ﴾ : كالأواني وآلات الحرث والحرب، ﴿ زَبَدٌ مِّثْلُه ﴾ أي : مما توقدون عليه زبد مثل زبد الماء ومن للابتداء أو للتبعيض، ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ﴾ أي : مثلهما، فالحق كالماء الذي ينتفع به الناس بقدر وسع أنهارهم وأوديتهم، ويمكث في الأرض وكالجواهر الأرضية المنتفعة بها في صواغ الحلي والأمتعة عنها ويدوم نفعها والباطل كالزبد الذي ليس له نفع ويزول بسرعة وإن علا بعض الأحيان على الماء الصافي وعلى الجواهر حين أذيبت، وعن بعض السلف أراد من الماء القرآن، ومن الأودية القلوب احتملت القلوب منه على قدر يقينها وشكها فأما الشك فلا ينفع معه العمل وأما اليقين فينفع الله به أهله، وقالوا أيضا : العمل السيئ يضمحل عن أهله كالزبد لا نفع له و لا يبقى وأما من عمل بالحق كان له ويبقى كما يبقى الماء الصافي والجواهر الخالصة، ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء ﴾ أي : يرمى به السيل منصوب على الحال، ﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ : كالماء الصافي وخلاصة الفلزات، ﴿ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ﴾ وبه ينتفع الخلق، ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ﴾ : للإيضاح والتبيين.
﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ﴾ وهم المؤمنون، ﴿ الْحُسْنَى ﴾ : المثوبة الحسنى وهي الجنة مبتدأ، والذين استجابوا خبره، ﴿ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ ﴾ وهم الكفرة مبتدأ وقوله ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ ﴾ خبره، أي : لو كان لهم جميع الدنيا ومثله في دار الآخرة لافتدوا به للتخلص من عذابه، قيل : ضرب المثل لبيان الفريقين، فقوله :" للذين " متعلق بيضرب، والحسنى صفة مصدر، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى، " لو أن لهم " إلخ. . . كلام مبتدأ لبيان مآل الفريق الآخر، ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ ﴾ : المناقشة فيه وعدم غفر شيء من ذنبه، ﴿ وَمَأْوَاهُمْ ﴾ : مرجعهم، ﴿ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ جهنم، أي : المستقر.
﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾ : فيؤمن به، ﴿ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ﴾ : القلب لا يعلم فلا يؤمن، والهمزة لإنكار تشابههما، ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ : العقول السليمة.
﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ﴾ : بما أمرهم في كتابه، أو بالعهد الذي أخذ منهم حين أخرجهم من صلب آدم، ﴿ وَلاَ ينقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ : ذلك الميثاق أو مطلق الميثاق.
﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ : من صلة الرحم والإيمان بجميع الرسل ومراعاة الحقوق، ﴿ وَيَخْشَوْن رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾
﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ﴾ : على الأمر الله تعالى أو على المصائب، ﴿ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ ﴾ : طلب مرضاته، ﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ : بحدودها وبركوعها وسجودها على الوجه الشرعي، ﴿ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ يؤدون الزكاة أي : من يجب عليه، ﴿ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً ﴾ : لم يمنعهم عن ذلك حال من الأحوال في الليل والنهار وفسر بعضهم بوجه يشمل صدقة التطوع وهو الأولى، ﴿ وَيَدْرَؤُونَ ﴾ : يدفعون، ﴿ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ أي : بالصالح، من العمل السيئ منه، أو يجازون الإساءة بالإحسان، إذا أذاهم أحد قابلوه باللطف، ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ : عاقبة الدنيا وهي الجنة ؛ لأنها التي ينبغي أن تكون عاقبة أهلها ومرجعهم.
﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ : بدل من عقبى الدار، والعدن الإقامة، أي : جنات يقيمون فيها، أو في الجنة قصر يقال له عدن له خمسة آلاف باب، أو مدينة من الجنة فيها الأنبياء والشهداء وأئمة الهدى والناس حولهم بعد، والجنات حولها، ﴿ يَدْخُلُونَهَا ﴾ : صفة جنات عدن، ﴿ وَمَنْ صَلَحَ ﴾ عطف على فاعل يدخلون وجاز للفصل بالضمير، ﴿ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ يعني يلحق بهم من صلح من أهلهم و إن لم يبلغ مبلغهم كرامة لهم، ﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ﴾ : من أبواب منازلهم للتهنئة قائلين ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾.
﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ متعلق بما تعلق عليه عليكم أو تقدير هذه بما صبرتم والباء للسببية أو البدلية، ﴿ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ : جنة العدن.
﴿ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ : بعد ما أوثقوه وأقروا وهذا قسيم الأولين، َ ﴿ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ : بالكفر والمعاصي، ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ أي : سوء عاقبة الدنيا وهو جهنم.
﴿ اللّهُ يَبْسُطُ ﴾ : يوسع، ﴿ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ ﴾ : يضيقه، ﴿ وَفَرِحُواْ ﴾ أي : مشركو مكة، ﴿ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : فرح بطر وأشر، ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي ﴾ : جنب، ﴿ الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ﴾ : نزر قليل مثل ما يستمع به الراكب كتميرات.
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ كما قالوا :" فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " ( الأنبياء : ٥ )، حتى نعلم حقيقتها فنؤمن بها، ﴿ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء ﴾ كما أضلكم بأن طلبتم الآية بعد تلك الآيات البينات، ﴿ وَيَهْدِي إِلَيْهِ ﴾ : يرشد إلى دينه، ﴿ مَنْ أَنَابَ ﴾ : من أقبل إليه ورجع عن العناد وحاصل الجواب أن الله أنزل آيات بينات دالة على صدقه بأوضح وجه لكن الله تعالى هو المضل والهادي وقد أضلكم الله تعالى فلا تهتدون إلى تلك الآيات، بل وإن أنزلت كل آية ما اهتديتم بها.
﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، بدل من " من "، ﴿ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ ﴾ : بالقرآن فلا يشكون فيه أو تطيب وتسكن قلوبهم عند ذكره أنسا به، ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ : تسكن إليه ويزول عنها القلق، وعن ابن عباس هذا في الحلف إذا حلف المسلم في شيء يشك أخوه المسلم فيه اطمئن قلبه.
﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ مبتدأ، ﴿ طُوبَى لَهُمْ ﴾ خبره وهو مصدر لطاب كبشرى قلبت ياؤه واوا والضمة ما قبلها، عن ابن عباس رضي الله عنهما أي : فرح وقرة عين، أو اسم الجنة بلغة الحبشة، أو شجرة في الجنة، وذكروا في وصفها ما يطول الكتاب بذكره، ﴿ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ أي : حسن المنقلب.
﴿ كَذَلِكَ ﴾ : مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن، ﴿ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ ﴾ : مضت، ﴿ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ أي : القرآن، ﴿ وَهُمْ ﴾ الواو للحال، ﴿ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ﴾ : بالبليغ الرحمة، لا يشكرونه، نزلت في قريش حين قيل لهم :" اسجدوا للرحمن قالوا و ما الرحمن " ( الفرقان : ٦٠ )، أو في أبي جهل حين قال : إن محمدا يدعوا إلهين الله وإلها آخر يسمى الرحمن، ﴿ قُلْ هُوَ ﴾ أي : الرحمن، ﴿ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ : مرجعي.
﴿ وَلَوْ أَنّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ﴾ عن مقارها وزعزعت عن مضاجعها، ﴿ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ ﴾ : حتى تتصدع وتزايل قطعا شققت فجعلت أنهارا وعيونا، ﴿ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ﴾، فتسمع وتجيب وجواب لو محذوف، أي : لكان هذا القرآن ومع هذا هؤلاء المشركون كافرون به، وقال بعضهم : تقديره لما آمنوا به، فقد نقل في سبب نزوله أنهم قالوا : يا محمد لو سيرت لنا جبال مكة حتى يتسع أو قطعت بنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان لعيسى، وقيل : جواب لو ما يدل عليه وهم يكفرون بالرحمن، وقوله قل هو ربي بينهما اعتراض، ﴿ بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ﴾ هو إضراب عن معنى النفي الذي تضمنه لو أي : بل الله القدرة على كل شيء، لو يشاء إيمانهم لآمنوا به وإذا لم يشاء لا ينفعهم إتيان ما اقترحوا من الآيات، ﴿ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ : عن إيمانهم ولم ينقطع رجاؤهم عنه مع ما عاينوا من لجاجهم، ﴿ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ ﴾ متعلق بمحذوف، أي : علما منهم أن لو يشاء الله تعالى، ﴿ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ وقيل : متعلق بآمنوا، وفسر أكثر السلف أفلم ييأس بأفلم يعلم، فقيل : هو بمعنى العلم في لغة النخع، أو هوازن، وقيل فسروه به ؛ لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين أفلم يتبين الذين آمنوا، قيل : نزلت حين أراد المسلمون أن تظهر آية مما اقترحوا، ليجتمعوا على الإيمان، ﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ ﴾ : من خبائث أعمالهم، ﴿ قَارِعَةٌ ﴾ : داهية تفزعهم وتقتلهم، ﴿ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ ﴾ أو تصيب القارعة من حولهم، كما قال تعالى :" ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى " الآية ( الأحقاف : ٢٧ )، ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ ﴾ : الموت أو القيامة وعن بعض السلف، أن المراد من الذين كفروا أهل مكة ومن القارعة السرية التي يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، أو عذاب من السماء ينزل إليهم، أو تحل أنت يا محمد بنفسك قريبا من دراهم وتقاتلهم حتى يأتي وعد الله تعالى أي : فتح مكة، ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾.
﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ : أطلت لهم المدة، ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ أي : عقابي إياهم وهذا تسلية لنبينا عليه السلام.
﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ ﴾ : رقيب، ﴿ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ : من خير وشر فيحفظهم ويجازيهم والخبر محذوف، أي : كمن لا يكون كذلك والهمزة لإنكار المساواة، ﴿ وَجَعَلُواْ ِللّهِ شُرَكَاء ﴾ عطف على كسبت أو استئناف، وقيل : نقدر الخبر المحذوف لم يوحدوه فقوله وجعلوا عطف عليه، أفمن هو قائم على كل نفس موجود وقد جعلوا لله شركاء فعلى هذا الواو للحال، ﴿ قل سموهم ﴾ بأسماء من القادر أو الرازق، أو القاهر أو غيرها من مثل أسماء الله الحسنى حتى تعرفوا أنهم غير مستحقين للعبادة، ﴿ أَمْ ﴾، أي : بل، ﴿ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ ﴾، أي : تخبرون الله تعالى بشركاء لا يعلمهم، ﴿ فِي الأَرْضِ ﴾ وهو العالم بكل شيء، ﴿ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ﴾ أي : أم تسمونهم شركاء بظاهر من القول لا حقيقة له أصلا، ﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ ﴾ : كيدهم وما هم عليه من الضلال، ﴿ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ : عن طريق الهدى، ﴿ وَمَن يُضْلِل اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.
﴿ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : بالقتل والأسر وغيرهما، ﴿ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ ﴾ : يقيهم ويمنعهم منه.
﴿ مَّثَلُ الْجَنَّةِ ﴾ أي : صفتها التي هي مثل في الغرابة، ﴿ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ من الشرك وهو مبتدأ خبره مقدر أي : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة وقوله :﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ حال من العائد المحذوف من الصلة أو هو خبر مثل الجنة كقولك : صفة زيد أسمر أو تقديره مثل الجنة جنة تجري، ﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ ﴾ : لا ينقطع نعيمها، ﴿ وِظِلُّهَا ﴾ : كذلك، ﴿ تِلْكَ ﴾ أي : هذه الجنة، ﴿ عُقْبَى ﴾ : مآل، ﴿ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ﴾.
﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ المراد مسلموا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ﴿ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ : من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه، ﴿ وَمِنَ الأَحْزَابِ ﴾ أي : ومن أحزاب اليهود والنصارى، ﴿ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾ أي : ما يخالف كتبهم أو رأيهم، قال بعضهم : هذا في مؤمني أهل الكتاب حزنوا بقلة ذكر لفظ الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما نزل " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " ( الإسراء : ١١٠ )، فرحوا و كفر المشركون به فقالوا : وما الرحمن، ﴿ قُلْ ﴾ : لهم، ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُد اللّهَ ﴾ : وحده، ﴿ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو ﴾ : لا إلى غيره، ﴿ وَإِلَيْهِ ﴾ : لا إلى غيره، ﴿ مَآبِ ﴾ : مرجعي للجزاء، يعني قل لهم : هذا شغلي و أمري حتى يعلموا أن إنكارهم عبادة الله مع ادعائهم واتفاقهم وجوبها.
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ أي : كما أنزلنا على قلبك الكتاب بلغاتهم، ﴿ أَنزَلْنَاهُ ﴾ أي : القرآن حال كونه، ﴿ حُكْمًا عَرَبِيًّا ﴾ : حكمه مترجمة بلسان العرب، قال بعضهم : سماه حكما ؛ لأنه منه يحكم في الوقائع، أو لأن الله تعالى حكم على الخلق بقبوله، ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ : بحقيقة ما معك وبطلان ما معهم، ﴿ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾ : ينصرك، ﴿ وَلاَ وَاقٍ ﴾ : يمنع العقاب عنك وهذا في الحقيقة وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ : نساء وأولاد كما هي لك، قيل : نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ليست همة هذا الرجل إلا في النساء، ﴿ وَمَا كَانَ ﴾ : ما صح، ﴿ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ ﴾ : خارقة للعادة، ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ قيل : هذا جواب لسؤالهم توسيع مكة، ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ أي : لكل مدة مضروب كتاب بها وكل شيء عنده بمقدار.
﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ﴾، أي : ينسخ الله تعالى ما يشاء من الأقدار ويثبت منها ما يريد، عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره يمحو ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة، والموت وعن كثير من السلف : أنهم يدعون بهذا الدعاء اللهم إن كتبتنا مع الأشقياء فامحه واكتبنا سعداء، و إن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ما تشاء وعندك أم الكتاب، ولكل وقت حكم يكتب على عباده فيمحوا ما يشاء ويثبت بنسخ ما يستصوب نسخه، وإثبات ما يقتضيه حكمته، أو فيه تقديم وتأخير تقديره لكل كتاب أي : منزل من السماء مدة مضروبة عند الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت حتى نسخت كلها بالقرآن، ويمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت بدلها الحسنات أو هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى ثم يعوج بمعصيته فيموت على الضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت ما يشاء فلا يغفرها، أو يمحو الذنوب بالتوبة ويثبت هو الرجل يعمل بطاعته ويموت عليها أو يمحو لله ما يشاء من ديوان الحفظة كالمباحات ويثبت ما يتعلق به جزاء، أو قال : قريش حين نزلت وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر فأنزلت هذه تخويفا ووعيدا لهم، ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ هو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير، عن ابن عباس رضي الله عنهما الكتاب كتابان، كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وكتاب لا يغير منه شيء، أو المراد منه علم الله تعالى.
﴿ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ﴾، أي : كيفما دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم من عذابهم، ﴿ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾ : قبل نزول عذابهم، ﴿ فإنمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ ﴾ : ما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة، ﴿ وَعَلَيْنَا ﴾ : عليك، ﴿ الْحِسَابُ ﴾، أي : حسابهم وجزاؤهم فلا تستعجل بعذابهم ولا يهمنك إعراضهم،
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ ﴾ : أرض الكفر، ﴿ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ : بما نفتح على المسلمين من بلادهم ونزيد في دار الإسلام وما ذلك إلا من آيات نصرتهم، وقال بعضهم معناه : أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها فنخربها من أطرافها ونهلك أهلها، أو ننقص أهلها وثمارها، أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك، أو نقصانها موت علمائها وذهاب فقهائها، ﴿ وَاللّهُ يَحْكُمُ ﴾ : بما يشاء، ﴿ لاَ مُعَقِّبَ ﴾ : لا راد ﴿ لِحُكْمِهِ ﴾ والنفي مع المنفي في موضع الحال، أي : نافذا حكمه، ﴿ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ : فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا.
﴿ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي : الكفار الذين من قبل مشركي أهل مكة مكروا بأنبيائهم، ﴿ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا ﴾، فإن مكر الماكرين في جنب مكر الله تعالى كلا مكر، فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره، أو هو خالق جميع المكر فلا يضر مكر إلا بإذنه، فلا تخف إلا من الله تعالى، ﴿ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ﴾، ويعد لها الجزاء، ﴿ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ : لمن تكون الدائرة والعاقبة المحمودة لهم أو للمسلمين في الدنيا والآخرة.
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾، هم من اليهود والنصارى، فإنهم عرفوا حقيته في التوراة والإنجيل، أو من عنده علم الكتب هو الله تعالى ويؤيده قراءة من قرأ من عنده بكسر الميم والدال قال بعضهم المراد مؤمنو أهل الكتاب، ثم اعترض عليه بأن هذه الآية مكية ومن آمن منهم ما آمن إلا بعد الهجرة والله سبحانه وتعالى أعلم.