تفسير سورة الرعد

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الرعد
مكية، إلا آيتين فهما مدنيتان وهما قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ الآية. وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ. وقيل: مدنية، سوى قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ الآيتين، ثلاث وأربعون آية، ثمانمائة وأربع وخمسون كلمة، ثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وأربعون حرفا
المر اسم للسورة أي هذه السورة مسماة بهذا الاسم.
وقال ابن عباس في رواية عطاء معناه أنا الله الملك الرحمن. وقال في رواية غيره: أنا الله أعلم وأرى ما تعملون وتقولون. تِلْكَ أي آيات السورة المسماة ب «آلمر» آياتُ الْكِتابِ أي الكتاب العجيب الكامل وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وهو القرآن الْحَقُّ أي هو المطابق للواقع في كل ما نطق به وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي مشركي مكة لا يُؤْمِنُونَ (١) بالقرآن لإخلالهم بالنظر اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ أي بغير دعائم تَرَوْنَها كلام مستأنف أو حال من السموات أي وأنتم ترون السموات مرفوعة بلا عماد، أو صفة لعمد. والمعنى أن الله رفع السموات بغير عمد مرئية، لكم من العيون بل لها عمد غير مرئية وهي قدرة الله تعالى أي إنما بقيت السموات واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولى الله على العرش بالحفظ والتدبير وظهر تصرفه في هذه الأشياء بعد خلق السموات. ويقال للسلطان والملك إذا استقام أمره: إنه استوى على عرشه أي سريره الذي يجلس عليه فالاستواء على العرش كناية عن جريان التدبير والحكم وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي وذللهما لمنافع الخلق كُلٌّ منهما يَجْرِي في فلكه حسبما أريد منهما لِأَجَلٍ مُسَمًّى لمدة معينة فيها تتم دورته.
قال ابن عباس: للشمس مائة وثمانون منزلا كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر، ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلا، فالله تعالى قدر لكل واحد منهما سيرا خاصا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء فلزم أن يكون لهما بحسب كل لحظة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي يدبر أمر
552
الخلق بالإيجاد والإعدام والإحياء، والإماتة والإغناء والإفقار، وبإنزال الوحي، وبعثة الرسل وتكليف العباد يُفَصِّلُ الْآياتِ أي يحدث الله بعض الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته عقب بعض على سبيل التمييز والتفصيل لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) أي لكي تصدقوا بالبعث بعد الموت فهذه الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع تدل على صحة القول بالحشر والنشر، لأن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على كثرتها فلأن يقدر على النشر والحشر أولى.
ويروى أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمع نداءهم، ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة
. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي بسطها طولا وعرضا على الماء وَجَعَلَ فِيها أي الأرض رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أوتادا لها وَأَنْهاراً أي مجاري للماء واسعة لمنافع الخلق وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي وجعل كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا صنفين: إما في اللون كالأبيض والأسود، أو في الطعم: كالحلو والحامض، أو في القدر: كالكبير والصغير أو في الكيفية: كالحار والبارد وما أشبه ذلك. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يستر النهار بالليل إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من مد الأرض وإيتادها بالرواسي وإجراء الأنهار، وخلق الثمرات، وإغشاء الليل النهار لَآياتٍ دالة على وحدانية الله تعالى لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) فيستدلون بالصنعة على الصانع وبالسبب على المسبب وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ أي بقاع مختلفة في الأوصاف مُتَجاوِراتٌ أي متقاربات فمنها أرض سبخة رديئة وبجنبها أرض عذبة جيدة ومنها صلبة وبقربها رخوة إلى غير ذلك والاختلاف من دلائل قدرته تعالى وَجَنَّاتٌ أي بساتين مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ أي تنبت من أصل واحد ثلاث نخلات فأكثر أي مجتمع أصول الأربعة مثلا في أصل واحد وَغَيْرُ صِنْوانٍ أي هو مفترق أصولها واحدة واحدة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم «وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان» كلها بالرفع عطفا على قوله: «وجنات». والباقون بالجر عطفا على «أعناب». وقرأ حفص عن عاصم في رواية القواس صنوان بضم الصاد والباقون بكسرها يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ في الطبع سواء كان السقي بماء الأمطار أو بماء الأنهار.
قرأ عاصم وابن عامر يسقي بالياء أي كل المذكور من القطع وما بعده. والباقون بالتاء أي جنات وَنُفَضِّلُ بَعْضَها أي الجنات عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ بضم الهمزة أي في المهيأ للأكل طعما وشكلا ورائحة، وحلاوة وحموضة، ولونا وقدرا، ونفعا وضرا. وقرأ حمزة والكسائي «يفضل» بالياء عطفا على يدبر. والباقون بالنون إِنَّ فِي ذلِكَ أي المفضل من أحوال القطع والجنات لَآياتٍ أي دلالات كثيرة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) أي يستعملون عقولهم في
553
التدبر وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي وإن تعجب يا أكرم الخلق من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا قد حكموا عليك إنك من الصادقين فحقيق بالعجب قولهم: أنعاد خلقا جديدا بعد الموت، وبعد أن صرنا ترابا، وفينا الروح كما كنا قبل الموت، فإنهم عرفوا أن الله على كل شيء قدير فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته، لأن القادر على الأقوى قادر على الأضعف بالأولى أُولئِكَ أي المنكرون لقدرته تعالى على البعث بعد ما عاينوا الآيات الباهرة الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لأنهم أنكروا قدرته وعلمه وصدقه في خبره وَأُولئِكَ أي أهل الكفر الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ يوم القيامة وَأُولئِكَ أي أهل الأغلال أَصْحابُ النَّارِ أي سكان النار هُمْ فِيها أي النار خالِدُونَ (٥) لا ينكفون عنها وَيَسْتَعْجِلُونَكَ استهزاء منهم بِالسَّيِّئَةِ أي بنزول العذاب عليهم قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي قبل طلب الإحسان إليهم بالإمهال، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا فكلما هددهم بعذاب القيامة، أنكروا البعث والجزاء وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له استهزاء بإنذاره: فجئنا بهذا العذاب وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي والحال أنه قد مضت العقوبات النازلة على أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ أي لذو إمهال لهم وتأخير للعذاب عنهم عَلى ظُلْمِهِمْ أي حال كونهم ظالمين أنفسهم بالمعاصي وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) فيعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخير ما استعجلوه ليس للإهمال وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم المستعجلون بالعذاب أيضا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي قالوا عنادا: هلا أنزل على محمد من ربه علامة لنبوته كما أنزل على موسى وعيسى عليهما السلام قال تعالى له صلّى الله عليه وسلّم إزالة لرغبته في حصول مقترحاتهم: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي إنما أنت يا أشرف الخلق رسول مخوف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون ولا حاجة إلى إلزامهم بإتيان ما اقترحوا من الآيات وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) أي نبي مخصوص له هداية مخصوصة فلما كان الغالب في زمان موسى هو السحر جعل معجزته من جنس ذلك وهو العصا واليد، ولما كان الغالب في أيام عيسى الطب جعل معجزته ما كان من جنس ذلك وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ولما كان الغالب في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم الفصاحة جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن، فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى من حين العلوق إلى زمن الولادة من أي شيء متحمل وعلى أي حال وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي في عدد الولد واحد واثنين وثلاثة وأربعة، وفي جثته فقد يكون الولد مخدجا وتاما وفي مدة ولادته فقد يكون مدة الحمل تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة وإلى أربعة سنين عند الشافعي وإلى خمسة عند مالك. وَكُلُّ شَيْءٍ من الأشياء عِنْدَهُ أي في علمه تعالى بِمِقْدارٍ (٨) أي
554
بحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه عالِمُ الْغَيْبِ أي ما غاب عن العباد وَالشَّهادَةِ أي ما علمه العباد الْكَبِيرُ أي العظيم الذي يصغر غيره بالنسبة إلى كبريائه الْمُتَعالِ (٩) أي المنزه عن كل ما لا يجوز عليه في ذاته سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في نفسه فلم يظهره على أحد وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أي أظهره لغيره.
قال ابن عباس: أي سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ أي مستتر بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ أي بارز يراه كل أحد بِالنَّهارِ (١٠).
وقال مجاهد: أي وسواء من أقدم على القبائح سرا في ظلمات الليل ومن أتى بها ظاهرا بالنهار، أي فإن علمه تعالى محيط بالكل
لَهُ أي لكل ممن أسر أو جهر والمستخفي والسارب أو لعالم الغيب والشهادة مُعَقِّباتٌ أي ملائكة حفظة يعقب بعضهم بعضا في المجيء إلى من ذكر ويعقبون أقواله وأفعاله بالكتب مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي يحيطون بمن ذكر فيعدون عليه أعماله وأقواله ولا يشذ من حفظهم إياها شيء أصلا يَحْفَظُونَهُ أي من ذكر مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي من
بأس الله حين أذنب بالاستمهال أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله وقد قرئ به أو بسبب أمر الله كما تدل له قراءة علي وابن عباس، وزيد بن علي وعكرمة بأمر الله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من أمن ونعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ بترك الشكر وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً أي هلاكا فَلا مَرَدَّ لَهُ أي لم تغن المعقبات شيئا فلا راد لعذاب الله ولا ناقض لحكمه وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله مِنْ والٍ (١١) أي مانع من عذاب الله الذي أراده بهم بتغيير ما بهم هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ وهو لمعان يظهر من خلال السحاب خَوْفاً أي خائفين من وقوع الصواعق وَطَمَعاً أي وطامعين في نزول الغيث، أو ذا خوف لمن له في المطر ضرر كالمسافر، وكمن يجفف التمر والزبيب والقمح وذا طمع لمن له فيه نفع كالحراث وَيُنْشِئُ السَّحابَ أي ويرفع الغمام المنسحب في الجو الثِّقالَ (١٢) بالماء وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ. قيل: الرعد اسم ملك موكل بالسحاب، والصوت المسموع لنا هو صوته بالتسبيح، وقيل: هو صوت الآلة الذي يتولد عند ضرب السحاب بها،
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرعد ما هو؟ فقال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق- أي آلات من نار- يسوق بها السحاب حيث شاء الله» قالوا: فما الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره السحاب»
«١» ويقال: الرعد صوت السحاب وتسبيحه هو دلالته على وحدانية الله تعالى وفضله المستلزم لحمده وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي وتسبح جميع الملائكة من هيبة الله تعالى. وفي رواية عن ابن عباس: الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه حيث يؤمر، وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه وأنه يسبح الله تعالى، فإذا
(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة ١٣، وأحمد في (م ١/ ص ٢٧٤).
555
سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر. وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ وهي نيران تنشأ من السحاب فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ أي في شأن الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) أي العقاب نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة فإنهما أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم يخاصمانه ويريدان الفتك به صلّى الله عليه وسلّم فقال أربد أخو لبيد: أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم حديد؟ فلما رجع أرسل الله عليه صاعقة في يوم صحو صائف فأحرقته، ورمى عامرا بغدة كغدة البعير فمات على ظهر فرسه.
وعن الحسن أنه قال: كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم نفرا يدعونه إلى الله تعالى ورسوله فقال لهم: أخبروني من رب محمد هذا الذي تدعونني إليه فهل هو من ذهب أم من فضة أم من حديد أم من نحاس؟
فاستعظموا مقالته فرجعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فقال: أجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه، فرجعوا إليه صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى بل أخبث منها فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فبينما هم عنده ينازعونه ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فاحترق الكافر وهم جلوس عنده، فرجعوا ليخبروا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخبر، فاستقبلهم الأصحاب فقالوا: احترق صاحبكم قالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ
إلخ. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي لله الدعوة المطابقة للواقع حيث جعلها افتتاح الإسلام بحيث لا يقبل بدونها وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وهي كلمة الإخلاص. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ والأصنام الذين يعبدهم الكفار من غير الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي ليبلغ الماء بنفسه من غير أن يغترف إلى فيه وما الماء ببالغ فيه أبدا لكونه جمادا لا يشعر بعطشه، ولا يبسط يده إليه، فكما لا يبلغ الماء في هذا الرجل العطشان كذلك لا تنفع الأصنام من عبدها وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (١٤) أي وما عبادة الكافرين إلا في ضياع لا منفعة فيها، لأنهم إن عبدوا الأصنام لم يقدروا على نفعهم، وإن عبدوا الله لم يقبل منهم لإشراكهم وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً أي ولله يعبد من في السموات ومن في الأرض من الملائكة، وبعض المؤمنين من الثقلين حال كونهم طائعين بسهولة ونشاط وحال كونهم كارهين للعبادة بمشقة لصعوبة ذلك على بعض المؤمنين وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) أي ولله يسجد ظلال من يسجد غدوة عن أيمانهم وعشية عن شمائلهم. قُلْ يا أشرف الخلق لقومك: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ أمر الله رسوله بهذا الجواب إشعارا بأنه متعين للجوابية وبأنهم لا ينكرونه ألبتة، ثم ألزمهم الحجة فقال: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي أبعد إقراركم هذا عبدتم من غير الله أربابا لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً يستجلبونه وَلا ضَرًّا يدفعونه
556
عن أنفسهم فبالأولى أن يكونوا عاجزين عن تحصيل المنفعة للغير، ودفع المضرة عن الغير، فإذا عجزوا عن ذلك كانت عبادتهم محض العبث والسفه، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أي قل لهم: هل يستوي الجاهل بمستحق العبادة والعالم بذلك، وهل يستوي الظّلمت والنّور أي قل لهم: هل يستوي الجاهل بمستحق العبادة والعالم بذلك، وهل يستوي الجهل بالحجة والعلم بها أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم بسبب ذلك وقالوا: هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا العبادة كما استحقها، أي هذه الأشياء التي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتى يقولوا: إنها تشارك الله في كونها خالقة فوجب أن تشاركه في الألوهية واستحقاق العبادة، بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة إن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل ألبتة، وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الألوهية محض الجهل قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا شريك له في الخلق فلا يشاركه في استحقاق العبادة أحد وَهُوَ الْواحِدُ أي المنفرد بالألوهية الْقَهَّارُ (١٦) لكل ما سواه أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهتها ماءً فَسالَتْ بذلك الماء أَوْدِيَةٌ أي أنهار بِقَدَرِها من الماء فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع الوادي كثر الماء فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ أي الجاري زَبَداً أي غثاء رابِياً أي منتفخا فوق الماء وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ أي من الجواهر كالنحاس والذهب والفضة ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ أي لطلب اتخاذ زينة أو اتخاذ متاع كالأواني زَبَدٌ أي خبث مِثْلُهُ أي مثل وسخ الماء في أن كلا منهما شيء من الأكدار كَذلِكَ أي مثل هذا التبيين للأمور الأربعة الماء والجوهر والزبدين، يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي يبين الله مثل الإيمان والكفر فَأَمَّا الزَّبَدُ من الماء والجوهر فَيَذْهَبُ جُفاءً أي يرميه الماء إلى الساحل ويرميه الكير، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء الصافي والفلز الخالص فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ فالماء: يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والآبار، والفلز: يصاغ من بعضه أنواع الحلي، ويتخذ من بعضه أصناف الآلات فينتفع بكل من ذلك مدة طويلة. والحاصل إن القرآن شبه بالماء فالله أنزله من سماء الكبرياء والإحسان. وشبهت القلوب المنورة بالأودية لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن، كما أن الأودية يستقر فيها الماء فيحصل في كل قلب من أنوار علوم القرآن ما يليق به من قوة فهمه وقصوره كما يحصل في كل واد من مياه الأمطار ما يليق به من سعته وضيقه، وكما أن الماء يعلوه وضر، والفلز يخالطه خبث، ثم إن ذلك يذهب
ويبقى الخالص منه كذلك بيانات القرآن تختلط بها شبهات، ثم تزول ويبقى العلم والدين في الآخر، وشبهت القلوب المظلمة بالسيل أي فاحتملت القلوب المنورة الحق بقدر سعتها بالنور واحتملت القلوب المظلمة باطلا كثيرا بهواها. كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب العجيب يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧) أي يبين الله أمثال الحق والباطل فيجليها في غاية الوضوح لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى أي للذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والتزام
557
الشرائع الواردة على لسان رسوله المنفعة الدائمة الخالصة عن شوائب المضرة، المقرونة بالإجلال وهي الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أي والأشقياء الذين عاندوا الحق الجلي لو أن لهم ما في الأرض من أصناف الأموال جميعا لجعلوا ما في الأرض، ومثله فداء أنفسهم من العذاب، لأن
محبوب كل إنسان ذاته فإذا كانت في ضرر وكان مالكا لكل شيء فإنه يرضى أن يجعل جميع ملكه فداء لها لأنه حب ما سواها ليكون وسيلة إلى مصالحها أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ بأن يحاسبوا بكل ذنب فلا يغفر منه شيء وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أي المستقر هي أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى أي أفمن يعلم أن القرآن الذي مثل بالماء النازل من السماء وبالأبريز الخالص في المنفعة هو الحق كمن لا يعلم! إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) أي إنما يتعظ بالقرآن وينتفع بهذه الأمثلة ذوو العقول الذين يطلبون من كل صورة معناها الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أي بما كلف الله العبد به فيدخل فيه الإتيان بجميع المأمورات والوفاء بالعقود في المعاملات وأداء الأمانات وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وهو ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختيار نفسه كالنذر بالطاعات والخيرات
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وهو رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد فيدخل فيه صلة الرحم والقرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان وعيادة المريض وشهود الجنائز، وإفشاء السلام على الناس، والتبسم في وجوههم، وكف الأذى عنهم ويدخل في العباد كل حيوان حتى الدجاجة والهرة وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ والخشية نوعان: خوف من أن يقع خلل في طاعاته، وخوف هيبة، وإن كان العبد في عين طاعته وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا وَالَّذِينَ صَبَرُوا على فعل العبادات وعلى ثقل الأمراض والمضار والغموم وعلى ترك المشتهيات ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أي طلبا لرضاه خاصة من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة، ولا إلى جانب النفس زينة وعجبا، فكما أن العاشق يرضى بضرب معشوقه لالتذاذه بالنظر إلى وجهه فكذلك العبد يرضى بالمحنة لاستغراقه في معرفة نور الله تعالى وَأَقامُوا الصَّلاةَ وأفردها بالذكر تنبيها على كونها أشرف من سائر العبادات ولا يمتنع إدخال النوافل فيها وَأَنْفَقُوا نفقة واجبة ومندوبة مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا لمن لم يعرف بالمال أو لمن لا يتهم بترك الزكاة أو عند إعطائه من تمنعه المروءة من أخذه ظاهرا أو في التطوع وَعَلانِيَةً لغير ذلك وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون المعصية بالتوبة ولا يجازون الشر بالشر بل يجازون الشر بالخير أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) أي عاقبة الدنيا ومرجع أهلها جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي يدخل جنات عدن المنعوتون بتلك النعوت الجليلة، ومن آمن كما آمنوا من أصولهم وإن علوا ذكورا كانوا أو إناثا، ومن أزواجهم اللاتي متن في عصمتهم وذرياتهم وإن لم يعمل مثل أعمالهم، لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وإنما يلحق بهم من آمن
558
من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم كرامة لهم وتعظيما لشأنهم وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة وقوله: «جنات عدن» بيان ل «عقبى» أو خبر مبتدأ مضمر. وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) لكل واحد منهم خيمة من درة مجوفة لها أربعة آلاف باب لكل باب مصراع من ذهب يدخل عليهم من كل باب ملائكة يقولون لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلمكم الله دعاء لهم وبشارة بدوام السلامة بِما صَبَرْتُمْ متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذه الكرامة العظمى بسبب صبركم على الطاعات، وترك المحرمات، وعلى المحن فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) أي نعم عاقبة الدار التي كنتم عملتم فيها هذه الكرامات التي ترونها وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ أي لا يعملون مقتضى الأدلة مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي من بعد أن وثق الله تلك الأدلة، أو المعنى يتركون فرائض الله من بعد توكيده وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أي ما أوجب الله وصله فيدخل فيه وصل الرسول بمعاونة دينه ووصل سائر من له حق وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالدعاء إلى غير دين الله وبالظلم في النفوس والأموال أُولئِكَ أي الموصوفون بالقبائح لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي الأبعاد من خيري الدنيا والآخرة إلى نقمة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) أي سوء عاقبة الدنيا اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ من عباده وَيَقْدِرُ أي يعطي من يشاء منهم بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء أي إن فتح باب الرزق في الدنيا لا تعلق له بالكفر والإيمان، بل هو متعلق بمجرد مشيئته تعالى فقد يوسع على الكافر استدراجا، ويضيق على المؤمن امتحانا لصبره وتكفيرا لذنوبه، فالدنيا دار امتحان وَفَرِحُوا أي فرح من بسط الله له رزقه من كفار مكة فرح بطر بِالْحَياةِ الدُّنْيا لا فرح سرور بفضل الله تعالى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (٢٦) أي إنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة، والحال أن ما بطروا به في مقابلة ما أعرضوا عنه شيء قليل النفع سريع النفاد كمتاع البيت وزاد الراعي وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أهل مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي هلا أنزل على محمد من ربه علامة لنبوته كما كانت للرسل الأولين قُلْ لهؤلاء المعاندين: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ عن دينه وَيَهْدِي إِلَيْهِ أي يرشد إلى دينه مَنْ أَنابَ (٢٧) أي من أقبل إليه أي ما أعظم عنادكم في الآيات التي ظهرت على يد الرسول إن الله يضل من كان على صفتكم من شدة الشكيمة على الكفر فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت عليهم كل
آية طلبوها، ويهدي إليه بأدنى آية جاء بها الرسول من كان على خلاف صفتكم الَّذِينَ آمَنُوا بما جاء به الرسول وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أي بكلام الله أي إن علم المؤمنين بكون القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلّى الله عليه وسلّم نبيا حقا من عند الله وإن شكهم في أنهم أتوا بالطاعات كاملة يوجب الوجل في قلوبهم. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) أي إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على كر الأزمان، فإكسير جلال الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا صافيا نورانيا لا يقبل التغير الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ.
559
روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة»
. ويقال: طوبى شجرة في الجنة ساقها من ذهب وثمرها من كل لون، وثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها فتنبت الحلي والحلل وأصلها في دار النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأغصانها متدليات في كل دار وغرفة في الجنة وتحتها كثبان المسك والعنبر والزعفران وينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) أي مقر كَذلِكَ أي مثل إرسالنا الأنبياء إلى أمم وإعطائنا إياهم كتبا تتلى عليهم أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ أي إلى جماعة كثيرة قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أي قد تقدمتها أمم كثيرة لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ أي على أمتك الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ فلماذا اقترحوا غيره وَهُمْ أي والحال أن أمتك يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ الذي رحمته وسعت كل شيء وما بهم من نعمة فمنه وكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وفي إنزال هذا القرآن المعجز عليهم.
روى الضحاك عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«اسجدوا للرحمن» أي اخضعوا بالصلاة وغيرها للرحمن أي الذي لا نعمة لكم إلا منه قالوا: وما الرحمن؟ متجاهلين في معرفته فضلا عن معرفة نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل. قال الله تعالى:
قُلْ لهم يا أشرف الخلق: هُوَ أي الرحمن الذي أنكرتم معرفته رَبِّي أي خالقي، ومبلغي إلى مراتب الكمال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا مستحق للعبادة سواه. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في جميع أموري لا على أحد سواه وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) أي مرجعي في الآخرة.
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ أي زعزعت بتلاوته الْجِبالُ من أماكنها كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه السلام أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما فعل بالحجر حين ضربه موسى بعصاه أو جعلت قطعا بعيدة أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بعد أن أحييت بقراءته عليها كما أحييت لعيسى عليه السلام لكان هو هذا القرآن لكونه ينطوي على عجائب آثار قدرة الله تعالى.
روي أن أهل مكة منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعرض الإسلام عليهم، فقال له عبد الله بن أمية المخزومي: إن سرّك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فادفعها عنا حتى ينفسح المكان علينا، لأنها ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا لنغرس الأشجار، ونزرع، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخّر له الجبال تسير معه، أو سخر لنا الريح لنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا، ونرجع في يومنا كما سخرت لسليمان فلست بأهون على ربك من سليمان كما زعمت أو أحيي لنا جدك قصيا لنسأله أحق ما تقول أم باطل؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً إلخ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي بل الله الأمر الذي يدور عليه فلك
560
الأكوان وجودا وعدما إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فالله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً أي أغفل المؤمنون عن كون الأمر جميعا لله تعالى فلم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هداية جميع الناس إلى دينه لهداهم، لكنه تعالى لم يشأها فلم يظهر ما اقترحوا من الآيات قيل: لما سأل الكفار تلك الآيات طمع المؤمنون في إيمانهم فطلبوا نزولها ليؤمنوا، وعلم الله أنهم لا يؤمنون برؤيتها وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من سوء أعمالهم قارِعَةٌ أي داهية تقرعهم بما ينزل الله عليهم في كل وقت من أنواع البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ أي أو تنزل تلك القارعة مكانا قريبا منهم فيفزعون منها حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وهو موتهم أو القيامة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) أي الوعد والمقصود من هذا تقوية قلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإزالة الحزن عنه وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي إن أقوام سائر الأنبياء استهزءوا بهم كما أن قومك استهزءوا بك فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي فتركتهم بعد الاستهزاء مدة طويلة في راحة وأمن ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعقوبة فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أي على أيّ حالة كان عقابي إياهم هل كان ظلما لهم أو كان عدلا أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أي أفمن هو حافظ كل نفس مع ما عملت من خير وشر وهو الله القادر على كل الممكنات العالم بجميع الجزئيات والكليات كالأصنام التي لا تضر ولا تنفع: وَجَعَلُوا أي الكفار لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أي سموهم بالآلهة وهذا أمر على سبيل التهديد. والمعنى سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به فإنها لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها لحقارتها. أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي أتقدرون على أن تخبروا الله بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى أم تتفوهون بإظهار قول من غير اعتبار معنى؟ أي أتقولون بأفواهكم من غير فكر وأنتم ألباء فتفكروا في ذلك لتعلموا بطلانه! وإنّما خصّ بنفي الشريك عن الأرض وإن لم يكن له تعالى شريك ألبتة، لأن الكفار ادعوا أن له تعالى شركاء في الأرض لا في غيرها. بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أي تمويههم الأباطيل فإنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقا وهم يعلمون بطلان ذلك وليس فيهم في الباطن إلا تقليد الآباء وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي هنا، وفي «حم المؤمن» بضم الصاد أي منعوا عن سبيل الحق.
والباقون بفتح الصاد أي أعرضوا عنه أو صرفوا غيرهم عنه. وقرئ بكسر الصاد على نقل حركة الدال المكسورة إليها. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه بسوء اختياره فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) أي موفق للهدى لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالقتل والسبي واغتنام الأموال واللعن وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أي أشد من عذاب الدنيا بالقوة وكثرة الأنواع وعدم الانقطاع وعدم اختلاط شيء من الراحة وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
أي عذابه مِنْ واقٍ
(٣٤) أي حافظ يعصمهم من ذلك مَثَلُ الْجَنَّةِ أي صفة الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ عن
561
الكفر والمعاصي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي أنهار الخمر والماء والعسل واللبن أُكُلُها دائِمٌ أي ثمرها لا ينقطع وَظِلُّها كذلك أيضا فليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة تِلْكَ أي الجنة عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا أي منتهى أمرهم وَعُقْبَى الْكافِرِينَ أي آخر أمرهم النَّارُ (٣٥) لا غير وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي أعطيناهم علم التوراة والإنجيل، وهم من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بالحبشة يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي بالقرآن لكونهم آمنوا به وَمِنَ الْأَحْزابِ أي بقية أهل الكتاب وسائر المشركين مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي بعض القرآن وهو الشرائع الحادثة قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وحده فعبادة الله واجبة على المرء فبهذا يبطل القول بالجبر المحض، وقول نفاة التكاليف ولا تمكن عبادة الله إلا بعد معرفة الله ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل. فهذا دليل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته وما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه وَلا أُشْرِكَ بِهِ وهذا يدل على نفي الشركاء فيبطل من أثبت معبودا سوى الله تعالى سواء قال: إن المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب، أو الأصنام، أو الأرواح العلوية، أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية. إِلَيْهِ أي إلى الله خاصة أَدْعُوا خلقه فكما يجب عليه صلّى الله عليه وسلّم الإتيان بالعبادة كذلك يجب عليه صلّى الله عليه وسلّم الدعوة إلى عبودية الله تعالى. وهذا إشارة إلى نبوته صلّى الله عليه وسلّم وَإِلَيْهِ أي إلى الله تعالى وحده مَآبِ (٣٦) أي مرجعي للجزاء. وهذا إشارة إلى النشر والحشر، والبعث والقيامة. فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة عرف أنها محتوية على جميع المطالب في الدين. وَكَذلِكَ أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم أَنْزَلْناهُ أي ما أنزل إليك حُكْماً أي حاكما يحكم في القضايا والواقعات عَرَبِيًّا أي مترجما بلسان العرب وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي الكفار بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الفائض من ذلك الحكم العربي ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعك وَلا واقٍ (٣٧) أي مانع يمنعك من مصارع السوء.
روي أن المشركين دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ملة آبائه فهدده الله تعالى على اتباع أهوائهم في ذلك وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً أي نساء فقد كان لسليمان ثلاثمائة امرأة حرة وسبعمائة سرية وكان لأبيه داود مائة امرأة وَذُرِّيَّةً أي أولادا مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ مما اقترح عليه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته لِكُلِّ أَجَلٍ أي لكل وقت من الأوقات كِتابٌ (٣٨) أي حكم معين مكتوب في صحف الملائكة التي تنسخها من اللوح المحفوظ فقد أثبت فيها أن أمر كذا يكون في وقت كذا على ما تقتضيه الحكمة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت وَيُثْبِتُ أي يبقيه على حاله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) أي أصله وهو اللوح المحفوظ إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو
562
مكتوب فيه كما هو. فالحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالما بجميع المعلومات على سبيل التفصيل، فعند الله كتابان كتاب يكتبه الملائكة على الخلق: وهو محل المحو والإثبات، وكتاب كتبه القلم بنفسه في اللوح المحفوظ: وهو الباقي.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة»
. اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعا من الشبهات في إبطال نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فالشبهة الأولى: إنهم عابوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكثرة الزوجات وبأكل الطعام والمشي في الأسواق، وبكونه من جنس البشر. وقالوا: لو كان محمد رسولا من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان مشتغلا بالنسك والزهد وقالوا: الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لا بد وأن يكون من جنس الملائكة، وقالوا: لو كان محمد رسولا من الله لما أكل الطعام ولما مشى في الأسواق فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية أي إن الأنبياء الذين كانوا قبل محمد كانوا من جنس البشر فاتصفوا بصفاته من الزواج والأكل ونحو ذلك ولم يقدح ذلك في نبوتهم فكيف يجعلون ذلك قادحا في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
والشبهة الثانية: قولهم: لو كان محمد رسولا من عند الله لكان أي شيء طلبناه من المعجزات أتى به، ولم يتوقف فأجاب الله تعالى عنه بقوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إن المعجزة الواحدة كافية في إظهار الحجة، فالزائدة عليها مفوضة إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها.
والشبهة الثالثة: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يخوفهم بنزول العذاب فيهم وظهور النصرة له ولأصحابه فلما تأخر ذلك طعنوا في نبوته صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: لو كان محمد نبيا لما ظهر كذبه فأجاب الله تعالى عنه بقوله: لكل أجل كتاب أي إن نزول العذاب على الكفار وظهور النصرة للأولياء قضى الله بحصولهما في أوقات مخصوصة ولكل حادث وقت معين ولكل أجل كتاب فقبل حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث فتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه صلّى الله عليه وسلّم كاذبا.
والشبهة الرابعة: قولهم: لو كان محمد صادقا في دعوى الرسالة لم ينسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثبوتها في الشرائع المتقدمة لكنه حرفها كما في القبلة ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل فوجب أن لا يكون نبيا فأجاب الله عنه بقوله يمحو الله ما يشاء ويثبت: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ أي إن نرك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ به من العذاب في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أي نقبضنك قبل أن نرينك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي سواء أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي في حياتك أو توفيناك قبل ظهوره، فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء رسالته وأمانته، فلا تهتم بما
563
وراء ذلك، فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أي وعلينا لا عليك محاسبة أعمالهم السيئة ومجازاتها.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي أأنكر أهل مكة نزول ما وعدناهم ولم يروا أنا نأخذ أرضهم نفتحها من نواحيها للمسلمين شيئا فشيئا، ونلحقها بدار الإسلام، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا من ذلك؟! وَاللَّهُ يَحْكُمُ ما يشاء كما يشاء وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال وعلى الكفر بالذلة والإدبار لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أي لا راد له وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) أي فبعد زمن قليل يحاسبهم في الآخرة غب ما عذبهم في الدنيا بالقتل والأسر والإخراج من ديارهم وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي وقد مكر الكفار الذين مضوا من قبل كفار مكة بأنبيائهم فنمرود مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى، واليهود مكروا بعيسى كما مكر هؤلاء بك. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أي إن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه تعالى وإرادته فوجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فلا قدرة للعبد على الفعل والترك وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «الكافر» على لفظ المفرد، وقرأ جناح ابن حبيش «وسيعلم» على صيغة المجهول من الأعلام أي سيخبر لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) أي لمن العاقبة الحميدة وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي اليهود وغيرهم لَسْتَ مُرْسَلًا من الله يا محمد قُلْ لهم يا أكرم الرسل: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فإنه تعالى قد أظهر المعجزات الدالة على كوني صادقا في دعوى الرسالة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣) أي السماوي ككعب الأحبار وسلمان الفارسي وعبد الله بن سلام وتميم الداري، وآصف بن برخيا فكل من كان عالما بالتوراة والإنجيل علم أن محمدا مرسل من عند الله.
وقرئ ومن عنده علم الكتاب بمن الجارة التي لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم القرآن لأن أحدا لا يعلمه إلا من تعليمه، ثم على هذه القراءة. قرئ أيضا علم الكتاب على البناء للمفعول أي لما أمر الله نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله على رسالته ولا يكون ذلك إلا بإظهار القرآن ولا يعلم العبد كون القرآن معجزا إلا بعد العلم بما فيه من أسراره بين الله تعالى إن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله.
Icon