تفسير سورة الرعد

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الرعد١
مقصودها وصف الكتاب بأنه الحق في نفسه، وتارة يتأثر عنه مع أن له٢ صوتا وصيتا وإرعابا وإرهابا٣ يهدي بالفعل، وتارة لا يتأثر بل يكون سببا للضلال والعمى، وأنسب ما فيها٤ لهذا٥ المقصد الرعد، فإنه مع كونه حقا في نفسه يسمعه الأعمى والبصير٦ والبارز٧ والمستتر، وتارة يتأثر عنه البرق والمطر وتارة لا٨، وإذا نزل٩ المطر فتارة ينفع إذا أصاب الأراضي الطيبة وسلمت من عاهة، و تارة يخيب١٠ إذا نزل على السباخ الخوارة١١، وتارة يضر بالإغراق أو١٢ الصواعق أو١٣ البرد وغيرها- والله أعلم.
﴿ بسم الله ﴾ الحق الذي كل ما عداه باطل ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم١٤ بالرغبة والرهبة١٥ بعموم رحمته١٦ ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الوهية ﴿ المر ﴾.
١ هي السورة الثالثة عشرة، مدنية مع الخلاف في ذلك، وهي ثلاث وأربعون آية في الكوفي وأربع في المدني وخمس في البصري وسبع في الشامي- راجع روح المعاني ٤/١٣٣..
٢ زيد من ظ و م ومد..
٣ من ظ و م ومد، وفي الأصل: كرهابا..
٤ في مد: فيهما..
٥ زيد من ظ و م ومد..
٦ سقط ما بين الرقمين من مد..
٧ سقط ما بين الرقمين من مد..
٨ من ظ و م ومد، وفي الأصل: لاه..
٩ من ظ و م ومد، وفي الأصل: أنزل..
١٠ في م: خيب- كذا..
١١ من خورت الأرض: ارتخت من كثرة المطر فساح ترابها؛ وفي ظ: الخواه..
١٢ من ظ و م ومد، وفي الأصل "و"..
١٣ من م، وفي الأصل و ظ ومد "و"..
١٤ من ظ و م ومد، وفي الأصل: علم..
١٥ سقط ما بين الرقمين من ظ..
١٦ سقط ما بين الرقمين من ظ..

﴿بسم الله﴾ الحق الذي كل ما عداه باطل ﴿الرحمن﴾ الذي عم بالرغبة والرهبة بعموم رحمته ﴿الرحيم﴾ الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الوهية ﴿المر﴾.
لما ختم التي قبلها بالدليل على حقية القرآن وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون، بعد أن أشار إلى كثرة ما يحسونه من آياته في السماوات
262
والأرض مع الإعراض، ابتدأ هذه بذلك على طريق اللف والنشر المشوش لأنه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب فقال: ﴿تلك﴾ أي الأنباء المتلوة والأقاصيص المجلوة المفصلة بدر المعاني وبديع الحكم وثابت القواعد والمباني العالية المراتب ﴿آيات﴾ والآية: الدلالة العجيبة في التأدية إلى المعرفة ﴿الكتاب﴾ المنزل إليك ﴿و﴾ جميع ﴿الذي﴾.
ولما كان تحقق أن هذا الكتاب من عند الملك أمراً لا يطرقه مريه لما له من الإعجاز، وكذا ما تبعه من بيانه بالسنة لما له من الحق الذي لا يخف على كل عاقل، وكان ما تحقق أنه كذلك يعلم أن الآتي به لا يكون إلا عظيماً، بني للمفعول قوله: ﴿أنزل إليك﴾ كائن ﴿من ربك﴾ فثبت حينئذ قطعاً أنه هو ﴿الحق﴾ أي الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة، الواضح الذي لا يتخلف شيء منه عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره، فهو أبعد شيء عن قولهم: إن وعده بالبعث سحر، فوجب لثبوت حقيته على كل من اتصف بالعقل أن يؤمن به ﴿ولكن أكثر الناس﴾
263
أي الآنسين بأنفسهم المضطربين في آرائهم، ﴿لا يؤمنون *﴾ أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً بأنه الحق في نفسه وأنه من عند الله، بل يقولون: إنه من عند محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنه تخييل ليست معاينة - كما قلنا ﴿وما أكثر الناس ولو حرصت بؤمنين﴾ [يوسف: ١٠٣] فليس هدى لهم كاملاً ولا رحمة تامة، هذا التقدير محتمل، ولكن الذي يدل عليه ظاهر قوله تعالى: ﴿أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق﴾ [الرعد: ١٩] أن ﴿الذي﴾ مبتدأ، و ﴿من ربك﴾ صلة ﴿أنزل﴾ والخبر ﴿الحق﴾ والمقصود من هذه السورة هذه الآية، وهي وصف المنزل بأنه الحق وإقامة الدليل عليه، وذلك لأنه لما تم وصف الكتاب بأنه حكيم محكم مفصل مبين، عطف الكلام إلى تفصيل أول سورة البقرة، والإيماء إلى أنه حان اجتناء الثمرة في هذه السورة والتي بعدها، ويلتحم بذلك وصف المصدقين بذلك - كما ستقف عليه.
وقال الإمام أبو جعفر بن زبير رحمه الله في برهانه: هذه السورة تفصيل لمجمل قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه السلام {وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفامنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله
264
أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون * قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}
[يوسف: ١٠٥-١٠٦-١٠٧-١٠٨] فبيان آي السماوات في قوله ﴿الله الذي رفع السماوات بغير عند ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى﴾ وبيان آي الأرض في قوله: ﴿وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين﴾ فهذه آي السماوات والأرض، وقد زيدت بياناً في مواضع، ثم في قوله تعالى: ﴿يغشى الّيل النهار﴾ ما يكون من الآيات عنهن، لأن الظلمة عن جرم الأرض، والضياء عن نور الشمس وهي سماوية، ثم زاد تعالى آيات الأرض بياناً وتفصيلاً في قوله تعالى: ﴿وفي الأرض قطع متجاورات﴾ [الرعد: ٤] إلى قوله: ﴿لقوم يعقلون﴾ [الرعد: ٤]. ولما كان إخراج الثمر بالماء النازل من السماء من أعظم آية، ودليلاً واضحاً على صحة المعاد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى ﴿كذلك نخرج الموتى﴾ [الأعراف: ٥٧] وكان قد ورد هنا أعظم جهة في الاعتبار من إخراجها مختلفات في الطعوم والألوان والروائح
265
مع اتحاد المادة «يسقى» بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل لذلك ما أعقب قوله تعالى: ﴿وفي الأرض قطع متجاورات﴾ الآية بقوله ﴿وإن تعجب فعجب قولهم إذا كنا ترابا أئنّا لفي خلق جديد﴾ ثم بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود في النار، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال ﴿ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة﴾ [الرعد: ٦] الآية، ثم أتبع ذلك بما يشعر بالجري على السوابق في قوله ﴿إنما أنت منذر ولكل قوم هاد﴾ [الرعد: ٧] ثم بين عظيم ملكه واطلاعه على دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره فقال ﴿الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الأرحام﴾ الآيات إلى قوله: ﴿وما لكم من دونه من وال﴾ ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم ﴿هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً﴾ [الرعد: ١٢]، الآيات وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات، وفي ذلك أكثر آي السورة ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال: ﴿ولو أن قراناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى﴾ [الرعد: ٣١] والمراد: لكان هذا القرآن ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ [النساء: ٨٢] والتنبيه بعظيم هذه
266
الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه بما أودع تعالى من الآيات في السماوات والأرض، وكأنه جل وتعالى لما بين لهم عظيم ما أودع من السماوات والأرض وما بينهما من الآيات وبسط ذلك وأوضحه، أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة للاعتبارات فقال تعالى
﴿ولو أن قرآناً سيرت به الجبال﴾ [الرعد: ٣١] فهو من نحو ﴿إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم﴾ [الجاثية: ٣] أي لو فكرتم في آيات السماوات والأرض لأقلتكم وكفتكم في بيان الطريق إليه ولو فكرتم في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم من العجائب لاكتفيتم «من عرف نفسه عرف ربه» فمن قبيل هذا الضرب من الاعتبار هو الواقع في سورة الرعد من بسط آيات السماوات والأرض، ثم ذكر القرآن وما يحتمل، فهذه إشارة إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في الأرضين والسماوات. وأما قوله تعالى ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾ [يوسف: ١٠٦] فقد أشار إليه قوله تعالى: ﴿ولكن أكثر الناس لا يؤمنون إنما يتذكر أولوا الألباب﴾ وقوله تعالى: ﴿الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله لا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ [الرعد: ٢٨] فالذين تطمئن
267
قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون التامو الإيمان وهم القليل المشار إليهم في قوله تعالى ﴿وقليل ما هم﴾ [ص: ٢٤] والمقول فيهم ﴿أولئك هم المؤمنون حقاً﴾ [الأنفال: ٤] ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم ولا بلغوا يقينهم، وإليهم الإشارة بقوله: ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾ [يوسف: ١٠٦] قال عليه الصلاة والسلام «الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل» فهذا بيان ما أجمل في قوله ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾ وأما قوله تعالى: ﴿أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله﴾ [يوسف: ١٠٧] فما عجل لهم من ذلك في قوله: ﴿ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله﴾ القاطع دابرهم، والمستأصل لأمرهم، وأما قوله تعالى: ﴿قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة﴾ [يوسف: ١٠٨] الآية، فقد أوضحت آي سورة الرعد سبيله عليه السلام بينه بما تحملته من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في السماوات والأرض وما بينهما وما في العالم بجملته وما تحمله الكتاب المبين - كما تقدم، ثم قد تعرضت السورة لبيان جليّ سالكي تلك السبيل الواضحة المنجية فقال تعالى: ﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾ [الرعد: ٢٠] إلى آخر ما حلاهم به أخذاً وتركاً، ثم عاد الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه
268
والبسط وتقريع الكفار وتوبيخهم وتسليته عليه السلام في أمرهم ﴿إنما أنت منذر ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية﴾ [الرعد: ٣٨]، ﴿فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب﴾ [الرعد: ٤٠] ﴿ويقول الذين كفروا لست مرسلاً﴾ [الرعد: ٤٣]، والسورة بجملتها غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات الأربع المذكورات من آخر سورة يوسف، ومعظم السورة وغالب آيها في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات؛ ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح سورة إبراهيم عليه السلام - انتهى.
فلما أثبت سبحانه لهذا الكتاب أنه المختص بكونه حقاً فثبت أنه أعظم الأدلة والآيات، شرع يذكر ما أشار إليه بقوله: ﴿وكأين من آية﴾ من الآيات المحسوسة الظاهرة الدالة على كون آيات الكتاب حقاً بما لها في أنفسها من الثبات، والدلالة بما لفاعلها من القدرة والاختيار - على أنه قادر على كل شيء، وأن ما أخبر به من البعث حق لما له من الحكمة، والدالة - بما للتعبير عنها من الإعجاز - على كونها من عند الله، وبدأ بما بدأ به في تلك من آيات السماوات لشرفها ولأنها أدل، فقال: ﴿الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال
269
وحده ﴿الذي رفع السماوات﴾ بعد إيجادها من عدم - كما أنتم بذلك مقرون؛ والرفع: وضع الشيء في جهة العلو سواء كان بالنقل أو بالاختراع، كائنة ﴿بغير عمد﴾ جمع عماد كأهب وإهاب أو عمود، والعمود: جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل، وأصله منع الميل ﴿ترونها﴾ أي مرئية حاملة لهذه الأجرام العظام التي مثلها لا تحمل في مجاري عاداتكم إلا بعد تناسبها في العظم، هذا على أن ﴿ترونها﴾ صفة، ويجوز - ولعله أحسن - أن يكون على تقدير سؤال من كأنه قال: ما دليل أنها بغير عمد؟ فقيل: المشاهدة التي لا أجلى منها.
ولما كان رفع السماوات بعد خلق الأرض وقبل تسويتها، ذكر أنه شرع في تدبير ما للكونين من المنافع وما فيهما من الأعراض والجواهر، وأشار إلى عظمة ذلك التدبير بأداة التراخي فقال: ﴿ثم استوى على العرش﴾ قال الرازي في لوامع البرهان: وخص العرش لأنه أعلى خلقه وصفوته ومنظره الأعلى وموضع تسبيحه ومظهر ملكه ومبدأ وحيه ومحل قربه، ولم ينسب شيئاً من خلقه كنسبته، فقال
270
تعالى: ﴿ذو العرش﴾ كما قال ﴿ذو الجلال﴾ و «ذو» كلمة لحق واتصال وظهور ومبدأ، وقال الرماني: والاستواء: الاستيلاء بالاقتدار ونفوذ السلطان، وأصله: استوى التدبير، كما أن أصل القيام الانتصاب، ثم يقال: قائم بالتدبير - انتهى. وعبر ب «ثم» لبعد هذه الرتبة عن الأطماع وعلوها عما يستطاع، فليس هناك ترتيب ولا مهلة حتى يفهم أن ما قبل كان على غير ذلك، والمراد أنه أخذ في التدبير لما خلق كما هو شأن الملوك إذا استووا على عروشهم، أي لم يكن لهم مدافع، وإن لم يكن هناك جلوس أصلاً، وذلك لأن روح الملك التدبير وهو أعدل أحواله والله أعلم ﴿وسخر﴾ أي ذلل تذليلاً عظيماً ﴿الشمس﴾ أي التي هي آية النهار ﴿والقمر﴾ أي الذي هو آية الليل لما فيهما من الحكم والمنافع والمصالح التي بها صلاح البلاد والعباد، ودخلت اللام فيهما وكل واحد منهما لا ثاني له لما في الاسم من معنى الصفة، إذا لو وجد مثل لهما لم يتوقف في إطلاق الاسم عليه،
271
ولا كذلك زيد وعمرو. والتسخير: التهيئة لذلك المعنى المسخر له ليكون بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النار للإنضاج والماء للجريان ﴿كل﴾ أي من الكوكبين ﴿يجري﴾.
ولما كان السياق للتدبير، علم أن المراد بجريهما لذلك، وهو تنقلهما في المنازل والدرجات التي يتحول بها الفصول، ويتغير النبات وتضبط الأوقات، وكلما كان التدبير أسرع، علم أن صاحبه أعلم ولا سيما إن كان أحكم، فكان الموضع للام لا لإلى، فعلل بقوله: ﴿لأجل﴾ أي لأجل اختصاصه بأجل ﴿مسمى﴾ هذي أجلها سنة، وذاك أجله شهر؛ والأجل: الوقت المضروب لحدوث أمر وانقطاعه.
ولما كان كل من ذلك مشتملاً من الآيات على ما يجل عن الحصر مع كونه في غاية الإحكام، استأنف خبراً هو كالتنبيه على ما فيما مضى من الحكمة، فقال مبيناً للاستواء على العرش بعد أن أشار إلى عظمة هذا الخبر بما في صلة الموصول من الأوصاف العظيمة: ﴿يدبر الأمر﴾ أي في المعاش والمعاد وما ينظمهما بأن يفعل فيه فعل من ينظر في
272
أدباره وعواقبه ليأتي محكماً يجل عن أن يرام بنقض، بل هو بالحقيقة الذي يعلم أدبار الأمور وعواقبها، لا يشغله شأن عن شأن، مع أن هذا العالم - من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى - محتو عل أجناس وأنواع وفصول وأصناف وأشخاص لا يحيط بها سواه، وذلك دال قطعاً على أنه سبحانه في ذاته وصفاته متعال عن مشابهة المحدثات واحد أحد صمد ليس له كفواً أحد.
ولما كان هذا بياناً عظيماً لا لبس فيه، قال ﴿يفصل الآيات﴾ أي التي برز إلى الوجود تدبيرها، الدالة على وحدانيته وكمال حكمته، المشتملة عليها مبدعاته، فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها، تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم، لتعلموا أنها فعل الواحد المختار، لا فعل الطبائع ولا غيرها من الأسباب التي أبدعها، وإلا فكانت على نسق واحد، وجمعها لما تقدم من الإشارة إلى كثرتها بقوله: ﴿وكأين من آية في السماوات والأرض﴾ فكأن هذه الألف واللام لذلك المنكر هناك.
273
ولما كان التدبير وهذا التفصيل دالاًّ على تمام القدرة وغاية الحكمة، وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة، علل بقوله: ﴿لعلكم بلقاء ربكم﴾ أي لتكون حالكم حال من يرجى له بما ينظر من الدلالات الإيقان بلقاء الموجد له المحسن إليه بجميع ما يحتاجه التربية ﴿توقنون *﴾ أي تعلمون ذلك من غير شك استدلالاً بالقدرة على ابتداء الخلق على القدرة على ما جرت العادة بأنه أهون من الابتداء وهو الإعادة، وأنه لا تتم الحكمة إلا بذلك.
274
ولما انقضى ما أراد من آيات السماوات، ثنى بما فيما ثنى به في آية يوسف من الدلالات فقال: ﴿وهو﴾ أي وحده ﴿الذي مد الأرض﴾ ولو شاء لجعلها كالجدار أو الأزج لا يستطاع القرار عليها، وهذا لا ينافي أن تكون كرية، لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح، كما أن الجبال أوتاد والحيوان يستقر عليها ﴿وجعل فيها﴾ جبالاً مع شهوقها ﴿رواسي﴾ أي ثوابت، واحدها راسية أي ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن
274
أماكنها لا تتحرك، فلا يتحرك ما هي راسية فيه. ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي، صارت الصفة تغني عن الموصوف فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل - قاله أبو حيان، ولما كانت طبيعة الأرض واحدة كان حصول الجبل في جانب منها دون آخر ووجود المعادن المتخالفة فيها تارة جوهرية، وتارة خامية، وتارة نفطية، وتارة كبريتية - إلى غير ذلك، دليلاً على اختصاصه تعالى بتمام القدرة والاختيار لأن الجبل واحد في الطبع كما أن تأثير الشمس واحد، فقال تعالى: ﴿وأنهاراً﴾ أي وجعل فيها خارجة منها، وأكثر ما تكون الأنهار من الجبال، لأنها أجسام صلبة عالية، وفي خلال الأرض أبخرة فتصاعد تلك الأبخرة المتكونة في قعر الأرض، ولا تزال تخرق حتى تصل إليها فتحتبس بها فلا تزال تتكامل حتى يعظم تكاثفها، فإذا بردت صارت ماء فيحصل بسببها مياه كثيرة كما تنعقد الأبخرة البخارية المتكاثفة في أعالي الحمامات إذا بردت وتتقاطر، فإذا تكامل انعقاد تلك المياه وعظمت شقت أسافل
275
الجبال أو غيرها من الأماكن التي تستضعفها لقوتها وقوة الأبخرة المصاحبة لها، فإن كان لتلك المياه مدد من جهة الفواعل والقوابل بحيث كلما نبع منها شيء حدث عقيبه شيء، وهكذا على الاتصال فهي النهر، والنهر: المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار - لاتساع ضيائه.
ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عن المياه فقال: ﴿ومن كل الثمرات﴾ ويجوز أن يكون متعلقاً بما قبله، ثم يكون كأنه قيل: من ينتفع بهذه الأشياء؟ فقيل: ﴿جعل فيها﴾ أي الأرض ﴿زوجين اثنين﴾ ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوان ينتفع بها، ويجوز أن يكون متعلقاً بما بعده فيكون التقدير: وجعل فيها من كل الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى تنتفع الأنثى بلقاحها من الذكر أو قربه منها فيجود ثمرها؛ والثمرة طعمة الشجرة، والزوج: شكل له قرين من نظير أو نقيض، فكأنه قيل: ما الذي ينضجها؟ فقال: ﴿يغشي اليل النهار﴾ أي والنهار الليل، فينضج هذا بحره ويمسك هذا ببرده، فيعتدل فعلهما على ما قدره تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان للحر والبرد للإخراج والإنضاج إلى غير ذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهر لكل ذي عقل أنها بتدبيره بفعله
276
واختياره وقهره واقتداره.
ولما ساق سبحانه هذه الآيات مفصلة إلى أربع وكان فيها دقة، جمعها وناطها بالفكر فقال: ﴿إن في ذلك﴾ أي الذي وقع التحديث عنه من الآيات متعاطفاً ﴿لآيات﴾ أي دلالات واضحات عجيبات باهرات على أن ذلك كله مستند إلى قدرته واختياره، ونبه على أن المقام يحتاج إلى تعب بتجريد النفس من الهوى وتحكيم العقل صرفاً بقوله: ﴿لقوم﴾ أي ذوي قوة زائدة على القيام فيما يحاولونه ﴿يتفكرون *﴾ أي يجتهدون في الفكر، قال الرماني: وهو تصرف القلب في طلب المعنى، ومبدأ ذلك معنى يُخطره الله تعالى على بال الإنسان فيطلب متعلقاته التي فيها بيان عنه من كل وجه يمكن فيه، والختم بالتفكر إشارة إلى الاهتمام بإعطاء المقام حقه في الرد على الفلاسفة، فإنهم يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية، وهو كلام ساقط لمن تفكر فيما قرره سبحانه في الآية السالفة من إسقاط وروده من أنه سبحانه هو الذي أوجد الأشياء كلها من عدم ثم أخذ في تدبيرها، فاختصاص كل شيء من الأجرام العلوية بطبع وصفة وخاصية إنما هو بتخصيص المدبر
277
الحكيم الفاعل بالاختيار، فصار وجود الحوادث السفلية لو سلم أنه متأثر عن الحوادث العلوية إنما يكون مستنداً إليها باعتبار السببية، والسبب والمسبب مستند إلى الصانع القديم المدبر الحكيم.
ولما كان الدليل - مع وضوحه - فيه بعض غموض، شرع تعالى في شيء من تفصيل ما في الأرض من الآيات التي هي أبين من ذلك دليلاً ظاهراً جداً على إبطال قول الفلاسفة، فقال: ﴿وفي الأرض﴾ أي التي أنتم سكانها، تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك ﴿قطع متجاورات﴾ فهي متحدة البقعة مختلفة الطبع، طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر وعكسها، ومع انتظام الكل في الأرضية ﴿وجنات﴾ جمع جنة، وهي البستان الذي تجنه الأشجار ﴿من أعناب﴾ وكأنه قدمها لأن أصنافها - الشاهدة بأن صانعها إنما هو الفعال لما يريد - لا تكاد تحصر حتى أنه في الأصل الواحد يحصل تنوع الثمرة ولذلك جمعها.
ولما كان تفاوت ما أصله الحب أعجب، قال: ﴿وزرع﴾ أي
278
منفرداً - في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالرفع، وفي خلل الجنات - في قراءة الباقين بالجر.
ولما كان ما جمعه أصل واحد ظاهر أغرب أخر قوله: ﴿ونخيل صنوان﴾ فروع متفرقة على أصل واحد ﴿وغير صنوان﴾ باعتبار افتراق منابتها وأصولها؛ قال أبو حيان: والصنو: الفرع يجمعه وآخر أصل واحد، وأصله المثل، ومنه قيل للعم: صنو وقال الرماني: والصنوان: المتلاصق، يقال: هو ابن أخيه صنو أبيه أي لصيق أبيه في ولادته، وهو جمع صنو، وقيل: الصنوان: النخلات التي أصلها واحد - عن البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم؛ وقال الحسن رضي الله عنه: الصنوان: النخلتان أصلهما واحد - انتهى.
وهو تركيب لا فرق بين مثناه وجمعه إلا بكسر النون من غير تنوين وإعرابها مع التنوين، وسيأتي في يس إن شاء الله تعالى سر تسمية الكرم بالعنب.
ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم، وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الموجد المسبب، لا إلى شيء من الأسباب، قال: ﴿ويسقى﴾ أي أرضها الواحدة كلها
279
﴿بماء واحد﴾ فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم بعد أن يتصعد الماء فيها علوّاً ضد ما في طبعه من التسفل، ثم يتفرق في كل من الورق والأغصان والثمار بقسطه مما فيه صلاحه ﴿ونفضل﴾ أي بما لنا من العظمة المقتضية للطاعة ﴿بعضها﴾ أي بعض تلك الجنات وبعض أشجارها ﴿على بعض﴾ ولما كان التفضيل على أنحاء مختلفة، بين المراد بقوله: ﴿في الأكل﴾ أي الثمر المأكول، ويخالف في المطعوم مع اتحاد الأرض وبعض الأصول، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، وهو منبه على اختلاف غيره من الليف والسعف واللون للمأكول والطعم والطبع والشكل والرائحة والمنفعة وغيرها مع أن نسبة الطبائع والاتصالات الفلكية إلى جميع الثمار على حد سواء لا سيما إذا رأيت العنقود الواحد جميع حباته حلوة نضيجة كبيرة إلا واحدة فإنها حامضة صغيرة يابسة.
ولما كان المراد في هذا السياق - كما تقدم - تفصيل ما نبه على كثرته بقوله: ﴿وكأين من آية في السماوات والأرض﴾ الآية، قال: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي تقدم ﴿لآيات﴾ بصيغة الجمع فإنها بالنظر إلى تفصيلها بالعطف جمع وإن كانت بالنظر إلى الماء مفردة، وهذا بخلاف
280
ما يأتي في النحل لأن المحدث عنه هناك الماء، وهنا ما ينشأ عنه، فلما اختلف المحدث عنه كان الحديث بحسبه، فالمعنى: دلالات واضحات على أن ذلك كله فعل واحد مختار عليم قادر على ما يريد من ابتداء الخلق ثم تنويعه بعد إبداعه، فهو قادر على إعادته بطريق الأولى.
ولما كانت هذه المفصلة أظهر من تلك المجملة، فكانت من الوضوح بحال لا يحتاج ناظره في الاعتبار به إلى غير العقل، قال: ﴿لقوم﴾ أي ذوي قوة على ما يحاولونه ﴿يعقلون﴾ فإنه لا يمكن التعبير في وجه هذه الدلالة إلا بأن يقال هذه الحوادث السفلية حدثت بغير محدث، فيقال للقائل: وأنت لا عقل لك، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث ضرورة، فعدم العلم بالضروري يستلزم عدم العقل.
281
ولما ثبت قطعاً بما أقام من الدليل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه أن هذا إنما هو فعل واحد قهار مختار يوجد المعدوم ويفاوت بين ما تقتضي الطبائع اتحاده، كان إنكار شيء من قدرته عجباً، فقال عطفاً على قوله: ﴿ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾ [هود: ١٧] مشيراً إلى أنهم يقولون: إن الوعد بالبعث سحر لا حقيقة له ﴿* إن تعجب﴾ أي يوماً من الأيام أو ساعة من الدهر فاعجب من
281
إنكارهم البعث ﴿فعجب﴾ عظيم لا تتناهى درجاته في العظم ﴿قولهم﴾ بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والدلالات الناطقة بعظيم القدرة على كل شيء منكرين: ﴿إذا كنا تراباً﴾ واختلط التراب الذي تحولنا إليه بالتراب الأصلي فصار لا يتميز، ثم كرروا التعجب والإنكار بالاستفهام ثانياً فقالوا: ﴿إنا لفي خلق جديد﴾ هذا قولهم بعد أن فصلنا من الآيات ما يوجب أنهم بلقاء ربهم يوقنون، وهذا الاستفهام الثاني مفسر لما نصب الأول بما فيه من معنى ﴿أنبعث﴾، والعجب: تغير النفس بما خفي سببه عن العادة، والجديد: المهيا بالقطع إلى التكوين قبل التصريف في الأعمال، وأصل الصفة القطع؛ قال الرماني: وقد قيل: لا خير فيمن لا يتعجب من العجب، وأرذل منه من يتعجب من غير عجب - انتهى، يعني: فالكفار تعجبوا من غير عجب: ومن تعجبهم فقد تعجب من العجب.
ولما كان هذا إنكار المحسوس من القدرة، استحقوا ما يستحق من يطعن في ملك الملك، فقال: ﴿أولئك﴾ أي الذين جمعوا أنواعاً من البعد مع كل خير ﴿الذين كفروا بربهم﴾ أي غطوا كل ما يجب
282
إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا مبدأهم ﴿وأولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿الأغلال﴾ أي الحدائد التي تجمع أيدي الأسرى إلى أعناقهم، ويقال لها: جوامع، وتارة تكون في الأعناق فقط يعذب بها الناس؛ ولما كان طرفا العنق غليظين، فلا تكون إحاطة الجامعة منها إذا كانت ضيقة إلا بالوسط، جعل الأعناق ظروفاً باعتبار أنها على بعض منها، وذلك كناية عن ضيقها، فقال: ﴿في أعناقهم﴾ أي بكفرهم وإن لم تكن الأغلال مشاهدة الآن، فهي لقدرة المهدد بها على الفعل كأنها موجودة، وهم منقادون لما قدر عليهم من أسبابها كما يقاد المغلول بها إلى ما يريد قائده، والغل: طوق تقيد به اليد في العنق، وأصله: انغل في الشيء - إذا انتشب فيه، وغل المال - إذا خان بانتشابه في المال الحرام ﴿وأولئك﴾ أي الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم ﴿أصحاب النار﴾. ولما كانت الصحبة تقتضي الملازمة، صرح بها فقال: ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿فيها﴾ أي متمحضة لا يخلطها نعيم ﴿خالدون *﴾ أي ثابت خلودهم دائماً.
ولما تضمنت هذه الآية إثبات القدرة التامة مع ما سبق
283
من أدلتها المحسوسة المشاهدة، كان أيضاً من العجب العجيب والنبأ الغريب استهزاءهم بها، فقال معجباً منهم: ﴿ويستعجلونك﴾ أي استهزاء وتكذيباً؛ والاستعجال: طلب التعجيل، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له ﴿بالسيئة﴾ من العذاب المتوعد به من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جرأة منهم تشير إلى أنهم لا يبالون بشيء منه ولا يوهن قولهم شيء ﴿قبل الحسنة﴾ من الخير الذي تبشرهم به ﴿و﴾ الحال أنه ﴿قد خلت﴾ ولما كان المحدث عنه إنما كان في بعض الزمان، أدخل الجار فقال: ﴿من قبلهم المثلات﴾ جمع مثله بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات، سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وهي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله من الأمم الذين اتصلت بهم أخبارهم، وخاطبتهم بعظيم ما اتفق لهم آثارهم وديارهم، وما يؤخرهم الله إلا لاستيفاء آجالهم التي ضربها لهم مع قدرته التامة عليهم.
ولما كانوا ربما قالوا: ما نرى إلا تهديداً لا يتحقق شيء منه: قال مؤكداً لإنكارهم واعتقادهم أن المسار والمضار إنما هي عادة الدهر، عطفاً على ما تقديره: فإن ربك حليم لا يخاف الفوت فلا يستعجل في الأخذ: ﴿وإن ربك﴾ أي المحسن إليك بجعلك نبي الرحمة ﴿لذو مغفرة﴾
284
أي عظيمة ثابتة ﴿للناس﴾ حال كونهم ظالمين متمكنين في الظلم مستقلين ﴿على ظلمهم﴾ وهو إيقاعهم الأشياء في غير مواضعها، فلا يؤاخذهم بجميع ماكسبوا ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾ [النحل: ٦١] فلذلك يقيم الناس دهراً طويلاً يكفرون ولا يعاقبون حلماً منه سبحانه، والآية مقيدة بآية النساء ﴿ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ [النساء: ٤٨] وإن لم يكن توبة، فإن التائب ليس على ظلمه.
ولما كان يمهل سبحانه ولا يهمل وذكر إمهاله، ذكر أخذه مؤكداً لمثل ما مضى فقال: ﴿وإن ربك﴾ أي الموجد لك المدبر لأمرك بغاية الإحسان ﴿لشديد العقاب *﴾ للكفار ولمن شاء من غيرهم، فلذلك يأخذ أخذ عزيز مقتدر إذا جاء الأجل الذي قدره.
285
ولما بين سبحانه أنهم غطوا آيات ربهم المتفضل عليهم بتلك الآيات وغيرها، عجب منهم عجباً آخر في طلبهم إنزال الآيات مع كونها متساوية الأقدام في الدلالة على الصانع وما له من صفات الكمال، فلما كفروا بما أتاهم كانوا جديرين بالكفر بما يأتيهم فقال: ﴿ويقول﴾ أي على سبيل الاستمرار ﴿الذين كفروا﴾ استهزاء بالقدرة ﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا ﴿أنزل﴾ أي بإنزال أيّ كائن كان ﴿عليه آية﴾
285
جاحدين عناداً لما أتاه من الآيات ﴿من ربه﴾ أي المحسن إليه تصديقاً له.
ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم راغباً في إجابة مقترحاتهم لشدة التفاته إلى أيمانهم، كان كأنه سأل في ذلك لتحصل لهم النجاة، فأجيب بقوله تعالى - مقدماً ما السياق أولى به لأنه لبيان أن الأكثر لا يؤمن -: ﴿إنما أنت منذر﴾ أي نبي منذر هاد لهم تهديهم ببيان ما أنزله عليك مما يوقع في الهلاك أو يوصل إلى النجاة، سائر فيهم على حسب ما أحدّه لك، وأصل الإنذار الإعلام بموضع المخافة ليتقى، لا أنك مثبت للإيمان في الصدور ﴿ولكل قوم﴾ ممن أرسلنا إليهم نبي ﴿هاد *﴾ أي داع يهديهم إلى مراشدهم ومنذر ينذرهم من مغاويهم، أي يبين لهم ما أرسلنا به من النذارة والبشارة، وأعطى كل منذر وهاد آيات تليق به وبقومه على مثلها يؤمن البشر، فيهدي الله من يعلم فيه قابلية الهدى بما نصب من الآيات المشاهدات، فلا يحتاج إلى شيء من المقترحات، ويضل من يعلم فيه دواعي الضلال ولو جاءته كل آية، لأنه الذي جبلهم على طبائع الخير والشر
286
﴿ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ [تبارك: ١٤] فهو كقوله تعالى: ﴿وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾ [فاطر: ٢٤] وكقوله في هذه السورة ﴿ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب﴾ والآية من الاحتباك: ذكر المنذر أولاً يدل على حذفه ثانياً، وذكر الهاد ثانياً دال على حذف مثله أولاً.
ولما كان ما مضى مترتباً على العلم والقدرة ولا سيما ختم هذه الآية بهاد، وكان إنكارهم البعث إنكاراً للنشأة الأولى، وكان سبحانه وتعالى يعلم أن إجابتهم إلى ما اقترحوا غير نافع لهم، لأنهم متعنتون لا مسترشدون، شرع سبحانه - بعد الإعراض عن إجابة مقترحاتهم - يقرر من أفعاله المحسوسة لهم المقتضية لاتصافه من العلم والقدرة بما هو كالإعادة سواء إشارة منه تعالى إلى أن إنكار البعث إن كان لاستحالة الإعادة فهي مثل البداءة، وإن كان لاستحالة تمييز التراب الذي كان منه الحيوان - بعد اختلاطه بغيره وتفرق أجزائه - فتمييز الماء الذي يكون منه الولد من الماء الذي لا يصلح لذلك أعجب، لأن الماء أشد اختلاطاً وأخفى امتزاجاً، ومع ذلك فهو يعلمه فقال: ﴿الله﴾ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿يعلم﴾ أي علماً قديماً في الأزل بما سيوجد وعلماً يتجدد تعلقه بحسب حدوث الحادثات
287
على الاستمرار ﴿ما تحمل﴾ أي الذي تحمله في رحمها ﴿كل أنثى﴾ أي الماء الذي يصلح لأن يكون حملاً ﴿وما تغيض﴾ أي تنقص ﴿الأرحام﴾ من الماء فتنشفه فيضمحل لعدم صلاحيته لأن يكون منه ولد، وأصل الغيض - كما قال الرماني: ذهاب المائع في العمق الغامض، وفعله متعد لازم ﴿وما تزداد﴾ أي الأرحام من الماء على الماء الذي قدر تعالى كونه حملاً فيكون توأماً فأكثر في جماع آخر بعد حمل الأول كما صرح بإمكان ذلك ابن سينا وغيره من الأطباء، وولدت في زماننا أتان حماراً وبغلاً، وذلك لأن الزيادة ضم شيء إلى المقدار وكثرته شيئاً بعد شيء فيقدر ذلك، ولا يمكن أحداً زيادته ولا نقصانه، وذلك كله يستلزم الحكمة فلذا ختمه بقوله: ﴿وكل شيء﴾ أي من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها ﴿عنده﴾ أي في قدرته وعلمه ﴿بمقدار *﴾ في كيفيته وكميته لا يتجاوزه ولا تقصر عنه، لأنه عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات وهو قادر على ما يريد منها، فالآية بيان لقوله تعالى: ﴿الذين كفروا بربهم﴾ من حيث بين فيها تربيته لهم على الوجه الذي هم له مشاهدون وبه معترفون.
ولما كان هذا عيباً وكان علمه مستلزماً لعلم الشهادة، وكان
288
للتصريح مزية لا تخفى، صرح به على وجه كلي يعم تلك الجزيئات وغيرها فقال: ﴿عالم الغيب﴾ وهو ما غاب عن كل مخلوق ﴿والشهادة﴾ قال الرماني: الغيب: كون الشيء بحيث يخفى عن الحس، والشهادة: كونه بحيث يظهر له.
ولما كان العلم والحكمة لا يتمان إلا بكمال القدرة والعظمة قال: ﴿الكبير﴾ أي الذي يتضاءل عنده كل ما فيه صفات تقتضي الكبر، قال الإمام أبو الحسن الحرالي: والكبر: ظهور التفاوت في ظاهر وباهر القدر الذي لا يحتاج إلى فكر، ولذلك كان فطرة للخلق أن الله أكبر، ولما كان لا ظاهر قدر للخلق لما عليهم من بادي الضروريات والحاجات المعلنة بصغير بالقدر، ومن حاول منهم أن يكبر بسطوة أو تسلط وفساد زاد صغار قدره بما اكتسب في أعين أرباب البصائر في الدنيا، ويبدو ذلك منه لعيون جميع الخلق في الأخرى «يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذي يطؤهم الناس بأقدامهم» فلذلك اختصاص معنى أنه لا كبير إلا الله - انتهى. ﴿المتعال *﴾ أي الذي لا يدنو - من أوج علوه في ذات أو صفة أو فعل - عالٍ، وأخرجه مخرج التفاعل ليكون أدل على المعنى وأبلغ فيه؛ وقال
289
أبو الحسن الحرالي رحمه الله: والتعالي: فوت التناول والمنال بحكم أو حجة، وأشعر التفاعل بما يجري من توهم المحتجين في أمره بأوهام حجج داحضة ﴿حجتهم داحضة عند ربهم﴾ [الشورى: ١٦] فهو تعالى يأذن في الاحتجاج والجدال ثم يتعالى بما له من الحجة البالغة ﴿قل فلله الحجة البالغة﴾ [الأنعام: ١٤٩] فهو المتعالي علماً وحكماً وحجة، وحقيقة المتعالي الذي لا يتعالى إلا هو - انتهى. والحاصل أنه لما وصف نفسه مما تقدم، أشار إلى أن ذلك على ما تحتمله العقول وأن الحق في وصفه الكبر المطلق والتعالي المطلق، لأن العقول لا تحتمل أكثر من ذلك.
290
ولما كانت العادة قاضية بتفاوت العلم بالنسبة إلى السر والجهر، والقدرة بالنسبة إلى المتحفظ بالحرس وغيره، أتبع ذلك سبحانه بما نفي هذا الاحتمال عنه على وجه الشرح والبيان لاستواء الغيب والشهادة بالنسبة إلى علمه فقال: ﴿سواء منكم﴾ أي في علمه ﴿من أسر القول﴾ أي أخفى معناه في نفسه ﴿ومن جهر به﴾ وفي علمه
290
﴿و﴾ قدرته ﴿من هو مستخف﴾ أي موجد الخفاء وطالب له أشد طلب ﴿باليل﴾ في أخفى الأوقات فسارب أو كامن فيه، يظن أن ذلك الاستخفاء يغنيه من القدرة ﴿و﴾ من هو ﴿سارب﴾ أي ذاهب على وجهه الأرض ومتوجه جارٍ في توجهه إلى قصده بسرعة ﴿بالنهار *﴾ متجاهر بسروبه فيه، فالآية من الاحتباك: ذكر ﴿مستخف﴾ أولاً دال على ضده ثانياً، وذكر ﴿سارب﴾ ثانياً دال على ضده أو مثله أولاً ﴿له﴾ أي لذلك المستخفي أو السارب - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ﴿معقبات﴾ أي أعوان وأنصار يتناوبون في أمره بأن يخلف كل واحد منهم صاحبه ويكون بدلاً منه.
ولما كان حفظ جهتي القدام والخلف يستلزم حفظ اليمين والشمال وكان ملأ كل من الجهتين من الحفظة على المخلوق متعذراً، قال آتياً بالجار: ﴿من بين يديه﴾ أي من قدامه ﴿ومن خلفه﴾ واستأنف بيان فائدة المعقبات فقال: ﴿يحفظونه﴾ أي في زعمه من كل شيء يخشاه ﴿من أمر الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة.
291
ولما دل هذا على غاية القدرة، وجرت عادة المتمكنين من ملوك الأرض بالتعدي على جيرانهم واستلاب ممالكهم والعسف في شأنهم، زيادة في المكنة وتوسعاً في الملك، ولا سيما إذا كان ذلك الجار ظاناً مع ضعفه وعجزه أن يحفظه مانه من أخذه، أخبر تعالى من كأنه سأل عن ذلك أنه غير هذا لغناه عنه، فقال: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة والكمال كله ﴿لا يغير ما بقوم﴾ أي خيراً كان أوشراً ﴿حتى يغيروا ما﴾ أي الذي ﴿بأنفسهم﴾ مما كانوا يزينونها به من التحلي بالأعمال الصالحة والتخلي من أخلاق المفسدين، فإذا غيروا ذلك غير ما بهم إذا أراد وإن كانوا في غاية القوة.
ولما كان ملوك الدنيا لا يتمكنون غالباً من جميع مراداتهم لكثرة المعارضين من الأمثال الصالحين للملك، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره: فإذا غيروا ما بأنفسهم أنزل بهم السوء: ﴿وإذا أراد الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿بقوم﴾ أي وإن كانوا في غاية القوة ﴿سوءاً فلا مرد له﴾ من أحد سواه، وقد تقدم لهذه الآية في الأنفال مزيد بيان.
292
ولما كان كل أحد دونه في الرتبة لا إمكان له أن يقوم مقامه بوجه، قال: ﴿وما لهم﴾ وبين سفول الرتب كلها عن رتبته فقال: ﴿من دون﴾ وأعرق في النفي فقال: ﴿من﴾ ولما كان السياق ظاهراً في أنه لا منفذ لهم مما أراده، أتى بصيغة فاعل منقوص إشارة إلى نفي أدنى وجوه الولاية فكيف بما فوقها فقال: ﴿وال *﴾ أي من ملجأ يعيذهم، بأن الفعل معهم من الإنجاء والنصرة ما يفعل القريب مع وليه الأقرب إليه، ثم أخبر تعالى بأمر هو أدلة ما قبله جامع للعلم والقدرة وهو ألطف من ذلك كله، معلم بجليل القدرة في أنه إذا أراد سوءاً فلا مرد له، ودقيق الحكمة لأنه مظهر واحد ترجى منه النعمة وتخشى منه النقمة فقال: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الذي يريكم﴾ أي على سبيل التجديد دائماً ﴿البرق﴾ وهو لمع كعمود النار ﴿خوفاً﴾ أي لأجل إرادة الخوف من قدرته على جعله صواعق مهلكة، والخوف: انزعاج النفس بتوهم وقوع الضر.
ولما لم يكن لهم السبب في إنزال المطر، لم يعبر بالرجاء وقال:
293
﴿وطمعاً﴾ أي ولأجل إرادة طمعكم في رحمته بأن يكون غيثاً نافعاً، ولا بد من هذا التقدير ليكونا فعل فاعل الفعل المعلل، ويجوز أن يكون المعنى: يريكم ذلك إخافة وإطماعاً فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، فتكون الآية من الاحتباك: فعل الإراءة دال على الإخافة والإطماع، والخوف والطمع دالان على «تخافون وتطمعون» ويجوز أن يكونا حالين من ضمير المخاطبين أي ذوي خوف وطمع ﴿وينشىء﴾ والإنشاء: فعل الشيء من غير سبب مولد ﴿السحاب﴾ وهو غيم ينسحب في السماء، وهو اسم جنس جمعي، واحده سحابه ﴿الثقال *﴾ بأنهار الماء محمولة في الهواء على متن الريح؛ والثقل: الاعتماد على جهة الثقل بكثافة الأجزاء ﴿ويسبح الرعد﴾ أي ينزه عن صفات النقص تنزيهاً ملتبساً ﴿بحمده﴾ أي بوصفه بصفات الكمال، ويروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الرعد ملك وإن لم يصح أنه ملك فتسبيحه دلالته على أن موجده سبحانه منزه عن النقص محيط بأوصاف الكمال ﴿والملائكة﴾ أي تسبح ﴿من خيفته﴾ قال الرماني:
294
والخيفة مضمنة بالحال، كقولك: هذه ركبة، أي حال من الركوب حسنة، وكذلك هذه خيفة شديدة، والخوف مصدر غير مضمن بالحال. ﴿ويرسل الصواعق﴾ المحرقة من تلك السحائب المشحونة بالمياه المغرقة؛ والصاعقة - قال الرازي: نار لطيفة تسقط من السماء بحال هائلة. ﴿فيصيب بها﴾ أي الصواعق ﴿من يشاء﴾ كما أصاب بها أربد بن ربيعة ﴿وهم﴾ أي والحال أنهم مع ذلك الذي تقدم من إحاطة علمه وكمال قدرته ﴿يجادلون﴾ والجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج ﴿في الله﴾ أي الملك الأعظم بما يؤدي إلى الشك في قدرته وعلمه. ولما كان لا يغني من قصده بالعذاب شيء قال: ﴿وهو شديد المحال *﴾ لأن المحال - ككتاب: الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، يأتي أعداءه بما يريد من إنزال العذاب بهم من حيث لا يحتسبون، وكلها صالح هنا حقيقة أو مجازاً، وقال الرماني: والمحال: الأخذ بالعقاب من قولهم: ما حلت فلاناً - إذا فتلته إلى هلكه - انتهى.
295
ومادة «محل» بجميع تقاليبها تدور على صرف الشيء عن وجهه وعادته وما تقتضيه جبلته، وذلك يستلزم القدرة والقوة والشدة، فالحامل يمسك المحمول بقوته عن أن يهوي إلى جهة السفل، والحملة: الكرة في الحرب، ويلزم الحمل المشقة، ومنه تحمل الشيء وحمل عنه أي حلم فهو حمول: ذو حلم، والحميل - كأمير: الدعي والغريب - كأنهما محمولان لحاجتهما إلى ذلك، والكفيل، لأنه حامل لكل مكفول واحتمل لونه - للمفعول: غضب وامتقع - كأن الغضب صرفه عما كان من عادته، والمحمل - كمحسن: المرأة ينزل لبنها من غير حبل، لأن ذلك شيء على غير وجهه، والحمل - محركة: الخروف - لسهولة حمله، والحليم: من يحبس غيظه بقوة حلمه - أي عقله - عن أن يستخفه الغضب، والحلم - بالكسر: الأناة والعقل، والحلم - بالضم وبضمتين: الرؤيا، لأنها صرف النفس عما هي عليه، وهو من شأنها من الغفلة، ومنه الحلم - بالضم - والاحتلام للجماع في النوم، والاسم الحلم - كعنق، وذلك يكون غالباً عند فراغ البال عن الهموم، وإليه يرجع حلم المال -
296
بالضم: سمن، والصبي وغيره: أقبل شحمه، أو هو من الحلمة - محركة: اللحمة الناتئة وسط الثدي كالثؤلول - لصرفها لون الثدي وهيئته عما كان عليه، وشجر السعدان - لأنه مرعى جيد يسمن، والصغيرة من القردان أو الضخمة - لشبهها بحلمة الثدي ودود يقع في الجلد قبل الدبغ فيأكله، لأن ذلك يغيره عن هيئته، والحالوم: ضرب من الأقط، لأنه لحراقته يغير اللسان، ودم حلام: هدر، لأنه خرج عما عليه عادة الدماء؛ والملح يصرف المملوح عن الفساد، وأما الماء الملح فمشبه به الطعم، وكذا الملح - محركاً - للون كالبياض يخالطه سواد، والملحاء: شجرة سقط ورقها، شبهت بأرض الملح في عدم الإنبات. ولما عرف الملح بالصلاح شبه به العلم فسمي ملحاً، وكذا الرضاع والحسن والشحم والسمن والحرمة والذمام وخفقان الطائر بجناحيه يصلح بذلك طيرانه ويتملح به استرواحاً إليه، وملح الشاة: سمطها، والملاح - ككتاب: الريح تجري بها السفينة، وهي أيضاً تصرفها عما يقتضيه حالها من عدم السير، ومعالجة حياء الناقة منه، وملحه على ركبته - أي لا وفاء له،
297
لأن الملح لا يثبت هناك، أو هو سمين أو حديد في غضبه، بمعنى أنه لا صلاح له، وملحه: اغتابه، شبه بمن يتطعم الملح ليعدل مزاجه، وكذا الملاح - ككتاب، وهو هبوب الجنوب عقب الشمال، وكذا الملاحي - كفرابي وقد يشدد، وهو عنب أبيض طويل، ونوع من التين، ومن الأراك ما فيه بياض وحمرة، والملح - بضم الميم وفتح اللام من الأحاديث، وامتلح: خلط كذباً بحق، والملح - محركة: ورم في عرقوب الفرس، صرفه عن هيئته المعتادة، والملاح ككتاب: سنان الرمح، لتهيئته له بعد الوقوف للنفوذ، والسترة، لصرفها البصر عن النفوذ إلى ما وراءها، وبرد الأرض حين ينزل الغيث، لأنه يصرف حالها التي كانت عليها إلى أخرى، والملحة - بالضم: المهابة، لصرفها المجترىء عن قصده ولأن سببها صرف النفس عن هواها، والملحاء: الكثيبة العظيمة، ومنه البركة، لمنعها الماشي عن حاله في المشي، ومنه الملحة - بالفتح - للجة البحر، وملحان: الكانون الثاني لصرفه بقوة برده الزمان عما كان عليه والناس عما كانوا عليه، والملحاء: لحم في الصلب من الكاهل إلى العجز، لمنعه من رؤية عظام الصلب ورؤوس الأضلاع؛ والمحل صرف ما في الزمان عن عادته
298
بعدم المطر والإنبات ورفاهة العيش، وكذا المحل للكيد والمكر والغبار والشدة والمحال، لما تقدم من تفسيره، ومنه ماحله: قاواه، والمتماحل: الطويل المضطرب الخلق، لخروجه عن العادة، وتمحل له: احتال، والممحل - كمعظم - من اللبن: الآخذ طعم حموضة، والمحالة: البكرة العظيمة - لصرفها بفتلها الشيء عن وجهه، والفقرة من فقر البعير - لمشابهتها والخشبة التي يستقر عليها الطيانون - لحملها إياهم ومنعها لهم من السقوط، والمحل - ككتف: من طرد حتى أعيا، لأنه صرف عما كان من عادته، ورأيته متماحلاً: متغير اللون؛ واللمح: صرف البصر عما كان عليه، ولمح البرق: لمع بعد كمونه؛ واللحم من لحمة الثوب - بالضم، كأنه سد ما حصل بالهزال من فرج، ومنه: لحم كل شيء: لبه؛ ولحم الأمر - كمنع: أحكمه، والصائغ الفضة: لأمها، وكذا كل صدع، ولحم - كعلم: نشب في المكان، كأنه وقع فيما يشبه اللحم فالتصق به فأدخله وشغله، وهذا لحيم هذا، أي وفقه وشكله - وهو يرجع إلى لحمة الثوب، واستلحم الطريق: تبعه
299
أو تبع أوسعه - كأنه جعل نفسه مثل لحمة السدى، واستلحم الطريق: اتسع، كأنه طلب ما يلحمه أي يسده، وحبل ملاحم - بفتح الحاء: شديد الفتل، لأنه سدت فرجه كما تسد اللحمة فرج الثوب، ونبي الملحمة - من القتال، لأنه ضرب اللحم بالسيف، ومن التأليف كما يكون عن لحمة الثوب، لأن غاية قتاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم خير وألفة، والتحم الجرح للبرء: التأم - من ذلك ومن اللحم أيضاً لأنه به التأم - والله أعلم.
ولما بين تعالى تصديقاً لقوله ﴿وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون﴾ [يوسف: ١٠٥] ما له من الآيات التابعة لصفات الكمال التي منها التنزه عما لا يليق بالجلال وأنه شديد المحال، شرع يبين ضلالهم في اشتراكهم المشار إليه في قوله: ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾ بما هو علة لختم ما قبلها من أنه لا كفؤ له،
300
فقال: ﴿له﴾ أي الله سبحانه ﴿دعوة الحق﴾ إن دعاه أحد سمعه فأجابه - إن شاء - بما يشاء، وإن دعا هو أحداً دعوة أمر، بين الصواب بما يكشف الارتياب، أو دعوة حكم لبى صاغراً وأجاب ﴿والذين يدعون﴾ أي يدعو الكافرون، وبين سفول رتبتهم بقوله: ﴿من دونه﴾ أي الله ﴿لا يستجيبون﴾ أي لا يوجدون الإجابة ﴿لهم﴾ أي الكافرين ﴿بشيء﴾ والاستجابة: متابعة الداعي فيما دعا إليه بموافقة إرادته ﴿إلا كباسط﴾ أي إلا إجابة كإجابة الماء لباسط ﴿كفيه﴾ تثنيه كف، وهو موضع القبض باليد، وأصله من كفه - إذا جمع أطرافه ﴿إلى الماء ليبلغ﴾ أي الماء ﴿فاه﴾ دون أن يصل كفاه إلى الماء- بما يدل عليه التعدية ب «إلى»، فما الماء بمجيب دعاءه في بلوغ فيه ﴿وما هو﴾ أي الماء ﴿ببالغه﴾ أي فيه، فللكافرين بذلك دعوة الباطل كما أن الماء جماد لا يحس بدعوة هذا فلا يجيبه، فأصنامهم كذلك.
ولما كان دعاؤهم منحصراً في الباطل، قال في موضع «وما دعاؤهم» مظهراً تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: ﴿وما دعاء الكافرين﴾
301
أي الساترين لما دلت عليه أنوار عقولهم بمعبوداتهم أو غيرها ﴿إلا في ضلال *﴾ لأنه لا يجد لهم نفعاً، أما معبوداتهم فلا تضر ولا تنفع، وأما الله فلا يجيبهم لتضييعهم الأساس.
302
ولما كانت دعوة الأمر واضحة السبل جلية المناهج في جميع كتبه، وكلها إلى الناظرين وبين دعوة الحكم بقوله: ﴿ولله﴾ أي الملك الأعلى ﴿يسجد﴾ أي يخضع وينقاد ويتذلل كما بين عند قوله ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾ [هود: ١١٩] ﴿من في السماوات والأرض﴾ لجميع أحكامه النافذة وأقضيته الجارية ﴿طوعاً﴾ والطوع: الانقياد للأمر الذي يدعى إليه من قبل النفس ﴿وكرهاً﴾ قال الرازي رحمه الله: والكافر في حكم الساجد وإن أباه لما به من الحاجة الداعية إلى الخضوع، واعلم أن سجود كل صنف هو تذلله وتسخره وانقياده لما أريد له، فكل موجود جماد وحيوان عاقل وغير عاقل وروحاني وغير روحاني مسخر لأمر من له الخلق والأمر؛ وقال الشيخ محيي الدين النووي رضي الله عنه في شرح المهذب: أصله - أي السجود - الخضوع والتذلل، وكل من تذلل وخضع فقد سجد، وسجود كل موات في القرآن طاعته لما سخر له - هذا أصله في اللغة، ثم قيل لمن وضع جبهته في الأرض: سجد، لأنه غاية الخضوع.
302
ولما كانت الظلال مسخرة لما أراد سبحانه، لا قدرة لأحد على تغيير ذلك بوجه، قال: ﴿وضلالهم﴾ أي أيضاً تسجد له بامتدادها على الأرض، تقصر تارة بارتفاع الشمس وتطول أخرى بانحطاطها، لا يقدرون على منع ظلالهم من ذلك حيث يكون لهم ظلال، وذلك ﴿بالغدو﴾ جمع غداة، وهي البكرة: أول النهار ﴿والآصال *﴾ جمع أصيل، دائماً في جميع البلاد، وفي وسط النهار في بعض البلاد؛ والظل: ستر الشخص ما بإزائه، والفيء: الذي يرجع بعد ذهاب ضوئه، والأصيل: العشيّ ما بين العصر إلى المغرب - كأنه أصل الليل الذي ينشأ منه.
ومادة «صلا» - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بتراكيبها الأحد عشر، وهي: صلو، صول، لصو، لوص، وصل، صلي، صيل، لصي، ليص، أصل، صأل - تدور على الوصالة، فالصلاة وصلة بين العبد وربه سواء كانت دعاء أو استغفاراً أو رحمة أو حسن الثناء من الله
303
على رسوله، أو ذات الأركان، وصلوات اليهود لمتعبداتهم من ذلك في الأصل، والصلا: وسط الظهر منا، أو من كل ذي أربع، أو ما انحدر من الوركين، أو الفرجة بين الجاعرة والذنب - يجوز أن يكون من ذلك، لأنه يقرب من غيره من الأعضاء إذا انثنى الحيوان، ويجوز أن يكون شبه بالعود المعوج الذي يقوم بإصلائه النار، وأصلت الناقة وصليت - إذا استرخى صلواها لقرب نتاجها، والمصلّي من خيل الحلبة: الذي يجيء على إثر السابق، فإنه يواصله، وصلى الحمار أتنه: طردها وقحمها الطريق - فكأنه بذلك قومها بعد أن كانت معوجة، أو أراد مواصلتها؛ صال الرجل صولة - إذا سطا واستطال، لأن ذلك مواصلة على وجه القهر والغلبة، وكذا صال الفحل على الإبل - إذا قاتلها، والعير - إذا حمل على العانة فشلها، وصال على كذا: وثب، وصاوله: واثبه، والتصويل: إخراجك الشيء بالماء، لأن ذلك سبب الخلوص، وإذا خلص الشيء تواصلت أجزاؤه، لأن ذلك
304
المخرج كان حائلاً بينها، والتصويل - أيضاً: كنس نواحي البيدر، لأنه سبب لتواصل ما كان متفرقاً، ومن ذلك المصول - كمنبر: شيء ينقع فيه الحنظل لتذهب مرارته، وبهاء: المكنسة، والصيلة - بالكسر: عقدة العذبة - لتواصل محل العقد بعضه ببعض وبه يتماسك اتصال بعض العمامة ببعض، والجراد يصول في مشواه، من التصويل، أي يساط، بمعنى يخلط بالتقليب فيتواصل منه ما كان متفرقاً، وصال يصيل - لغة في يصول، وصيل له - كذا بالكسر: قيض وأتيح، لأنه صار مقارناً له، ولصوت الرجل عبته وقذفته - لأنك وصلت به العيب، وفلان لا يلصو إلى ريبة، أي لا ينضمُّ إليها ولا ينضاف؛ واللوص: اللمح من خلل باب ونحوه كالملاوصة - كأنه وصلة بالنظر من موضع غير معهود، أو لأنه سبب الوصلة إلى ما يراد، ولاوص: نظر كأنه يختل ليروم أمراً، والشجرة: أراد أن يقطعها بالفأس،
305
فلاوص في نظره يمنة ويسرة كيف يأتيها وكيف يضربها - لأن حاصل ذلك المواصلة على وجه الشدة كما تقدم في صال عليه، وتلوص: تلوى وتقلب، ومنه أليص - أي أرعش، وألاصه على الشيء: أداره عليه وأراده منه - كأنه طلب منه مواصلته، واللواص - كسحاب: الفالوذ كالملوص كمعظم، والعسل الصافي - لأنه أهل للمواصلة، ولوص: أكل، واللوص: وجع الأذن والنحر، واللوصة؛ وجع الظهر - كأنه لشدته لا مواصل للبدن سواه، ولاص: حاد - أي سلب الوصلة؛ والوصلة - التي هي مدار المادة وكأنها الحقيقة التي تشعبت منها فروعها - هي الضم وهي التئام الشيء بالشيء، وكل ما اتصل بشيء فالذي بينهما وصلة، وضدها الفرقة، والوصل: ضد القطع، والأوصال المفاصل ومجتمع العظام، لأنها موضع اتصال العظم بالآخر، والوصلان - بالكسر والضم: طبقاً الظهر، ويقال: هما العجز والفخذ، والوصيلة: الشاة تلد ذكراً ثم تلد أنثى، فتصل أخاها، وفيها خلاف كثير كله يدور على الوصلة، ووصل الشيء بالشيء:
306
لأمه، ووصل الشيء وإلى الشي: بلغه وانتهى إليه، وأوصله واتصل: لم ينقطع، ووصله وواصله - كلاهما يكون في عفاف الحب ودعارته، والوصائل جمع وصيلة - لثياب حمر مخططة يمنية يتخذها الناس دروعاً يشق من جانبيها، كأنه لأنها توصل بغيرها أو يقطع بعضها ثم يوصل بها لتصير دروعاً، والوصيلة: العمارة والخصب والرفقة والسيف - لأن ذلك أهل لأن يوصل، والوصيلة: كبة الغزل لشدة التباس بعضها ببعض، والأرض الواسعة - لأن اتصالها لم يحل بينه جبال، وليلة الوصل: آخر ليالي الشهر، لأنها تصل بين الشهرين، وحرف الوصل: الذي بعد الروي - لأنه وصل حركة حرف الروي، ووصيلك: من يدخل ويخرج معك، وتَصِلُ: بئر ببلاد هذيل، واتصل الرجل - إذا انتسب، لأنه وصل نفسه بمن انتسب إليهم، والموصول: دابة كالدبر تلسع الناس، كأنه من السلب؛ وصليت اللحم: شويته - لأنك وصلته بالنار، وصليته: ألقيته في النار للإحراق، والصلاء - ككساء:
307
الشواء أو النار كالصلى فيهما، وكأن منه: صلّىعصاه على النار، أي أحماها ليقومها - لأن كلاًّ منهما وصله بالنار للإصلاح، وأصليته النار: أدخلته إياها وأثويته فيها، وصلى يده بالنار: سخنها - لأنه وصلها بها، وصلي النار - كرضي: قاسى حرها، وصليت فلاناً: درايته وخاتلته وخدعته - كل ذلك لإرادة مواصلته لأمر، والصلاية - ويهمز: الجبهة، لكثرة مباشرتها الأرض في الصلاة، ومدق الطيب - لمواصلة الدق، وصليت للصيد تصلية - إذا نصبت له شركاً ليقع فيه فتصل إليه، ومنه الحديث «إن للشيطان مصالي وفخوخاً» جمع مصلاة وفخ، والصليان - بكسر ثم تشديد - قال في مختصر العين: نبت معروف، وقال القزاز: وهو شجر له جعثن ضخم، ربما جرد وسطه ونبت ما حوله، وهو من أفضل المراعي وهو خبز الإبل، وقيل: إن الخيل تأكله ولونه أصهب - انتهى.
فسمي بذلك لكثرة مواصلة الإبل له؛ ولصيت الرجل
308
كرميت ورضيت - إذا عبته وقذفته بالفجور، وقال القزاز: وقيل: هو أن يضيفه إلى ربية، ولصي إليه: انضم إليه لريبة؛ ولاص يليص: حاد، ولصته أليصه وألصته - إذا أزعجته أو حركته لتنتزعه - كأنه من السلب، وألصته عن كذا - إذا راودته عنه، يمكن أن يكون سلباً وأن يكون إيجاباً؛ والأصل: أسفل كل شيء - لأن جميع الأشياء واصله إليه، وأصل - ككرم: صار ذا أصل أو ثبت أو رسخ كتأصل، والرأي: جاد - كل ذلك تشبيه بالأصل، والأصيل: من له أصل، والعاقب الثابت الرأي، وقد أصل - ككرم، والأصيل: العشيّ - لأنه وصلة ما بين النهار والليل، أو الليل، أو لأنه لما آذن بتصرم النهار كان كأنه اجتثه من أصله، ومنه الأصيل - للهلاك والموت كالأصيلة فيهما، ولقيتهم مؤصلاً أي بالأصيل، وأخذه بأصلته - محركاً، وأصيلته أي كله بأصله، وأصيلتك: جميع مالك أو نخلتك، والأصل - ككتف:
309
المستأصل، وأصله علماً: قتله - كأنه أدام مواصلته حتى أتقنه، والأصلة - محركة: حية قصيرة تساورالإنسان - قاله في مختصر العين، وفي القاموس: حية صغيرة أو عظيمة تهلك بنفخها، فإن نظرت إلى المساورة فهو من المواصلة - كما تقدم في صال عليه، وإن نظرت إلى الهلاك فهو من الاستئصال، وأصل الماء - كفرح: أسن من حمأة، واللحم: تغير، يجوز أن يكون من الوصلة أي لشدة مواصلة الحمأة للماء والهواء للحم، وأن يكون من الأصيل أي الهلاك بجملته وأصله، وأن يكون من سلب المواصلة؛ وصؤل البعير - ككرم صآلة: واثب الناس أو صار يقتل الناس ويعدو عليهم، وصئيل الفرس: صهيله - لمواصلة نغماته، وهذا وقد مضى عند قوله تعالى في سورة هود عليه السلام ﴿صلواتك تأمرك﴾ إشارة إلى هذا - والله سبحانه وتعالى أعلم.
310
فلما تبين قطعاً أنه سبحانه المدبر للسماوات والأرض القاهر لمن
310
فيهما، وتبين قطعاً أنه المختص بربوبيتهما فأمره تعالى أن يوجه السؤال نحوهم عن ذلك - ردّاً على عبدة الأصنام وغيرهم من الملحدين - بقوله: ﴿قل﴾ أي بعد أن أقمت هذه الأدلة القاطعة، مقرراً لهم ﴿من رب﴾ أي موجد ومدبر ﴿السماوات والأرض﴾ أي وكل ما فيهما.
ولما مضى في غير آية أنهم معترفون بربوبيته مقرون بخلقه ورزقه ثم لم يزعهم ذلك عن الإشراك، جعلوا هنا كأنهم منكرون لذلك عناداً، فلم ينتظر جوابهم بل أمره أن يجيبهم بما يجيبون به، إشارة إلى أنهم لا يتحاشون من التناقض في اتباع الهوى ولا تصونهم عقولهم الجليلة وآراؤهم الأصلية - بزعمهم - عن التساقط في مهاوي الردى، فقال: ﴿قل الله﴾ أي الذي له الأمر كله، فثبت حينئذ أن لا ولي إلا هو، فتسبب عن ذلك توجه الإنكار عليهم في اعتماد غيره، فأمره بالإنكار في قوله: ﴿قل أفاتخذتم﴾ أي فتسببتم عن انفراده بربوبيتكم أن أوجدتم الأخذ بغاية الرغبة، فتسببتم الإشراك عما يجب أن يكون سبب التوحيد، وبين سفول رتبتهم
311
بقوله: ﴿من دونه أولياء﴾ لا يساوونكم في التسبب في الضر والنفع، بل ﴿لا يملكون لأنفسهم﴾ فكيف بغيرهم ﴿نفعاً﴾ ونكره ليعم، وقدمه لأن السياق لطلبهم منهم، والإنسان إنما يطلب ما ينفعه.
ولما كان من المعلوم أنه لا قدرة لأحد على أن يؤثر في آخره أثراً لا يقدر على مثله في نفسه قال: ﴿ولا ضرّاً﴾ فثبت أن من سواهم بالله أضل الضالين، لأنه يلزمه أن يسوي بين المتضادات، فكان معنى قوله: ﴿قل هل يستوي﴾ والاستواء: استمرار الشيء في جهة واحده ﴿الأعمى﴾ في عينه أو في قلبه ﴿والبصير *﴾ كذلك ﴿أم هل تستوي﴾ بوجه من الوجوه ﴿الظلمات والنور *﴾ : هل أدتهم عقولهم إلى أن سووا بين هذه المتضادات الشديدة الظهور لغباوة أو عناد حتى سووا من يخلق بمن لا يخلق، فجعلوا له شريكاً كذلك لغباوة أو عناد ﴿أم جعلوا لله﴾ أي الذي له مجامع العظمة
312
﴿شركاء﴾ ثم بين ما يمكن أن يكون به الشركة، فقال واصفاً لهم: ﴿خلقوا كخلقه﴾ وسبب عن ذلك قوله: ﴿فتشابه﴾ والتشابه: التشاكل بما يلتبس حتى لا يفصل فيه بين أحد الشيئين والآخر ﴿الخلق عليهم﴾ فكان ذلك الخلق الذي خلقه الشركاء سبب عروض شبهة لهم، وساق ذلك في أسلوب الغيبة إعلاماً بأنهم أهل للإعراض عنهم، لكونهم في عداد البهائم لقولهم ما لا يعقل بوجه من الوجوه، وهذا قريب مما يأتي قريباً في قوله: ﴿أم بظاهر من القول﴾ [الرعد: ٣٣]. أي بشبهة يكون فيها نوع ظهور لبعض الأذهان.
ولما كان من المعلوم قطعاً أن جوابهم أن الخلق كله لله.
ولم يمنعهم ذلك من تأله سواه، أمره أن يجيبهم معرضاً عن جوابهم فقال ﴿قل الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿خالق كل شيء﴾ إشارة إلى أنهم في أحوالهم كالمنكر لذلك عناداً أو خرقاً لسياج الحياء وهتكاً لجلباب الصيانة، وإذ قد ثبت أنه المنفرد بالخلق وجب أن يفرد بالتأله فقال: ﴿وهو الواحد﴾ الذي لا يجانسه شيء، وكل ما
313
سواه لا يخلو عن مجانس يماثله، وأين رتبة من يماثل من رتبة من لا مثل له ﴿القهار *﴾ الذي كل شيء تحت قهره بأنفسهم وظلالهم، وهو القادر بما لا يمكن أن يغلبه غالب وهو لكل شيء غالب، وهذا إشارة - كما مضى في مثله غير مرة في سورة يوسف وغيرها - إلى برهان التمانع، فإن أربابهم متعددون، فلو كانت لهم حياة وكانوا متصرفين في الملك لأمكن بينهم تمانع وكان كل منهم معرضاً لأن يكون مقهوراً، فكيف وهم جماد! فثبت قطعاً أنه لا شيء منهم يصلح للإلهية على تقدير من التقادير؛ قال الرماني: والواحد على وجهين: شيء لا ينقسم أصلاً، وشيء لا ينقسم في معنى كالدنيا.
314
ولما كان حمل الماء في العلو لا يمكن إلا عن قهر، وإنزاله في وقت دون غيره كذلك، أتبع هذا الختم قوله دليلاً مشاهداً عليه: ﴿أنزل﴾ ولما كان الإنزال قد يتجوز به عن إيجاد ما يعظم إيجاده، حقق أمره بقوله: ﴿من السماء﴾ ولما كان المنزل منها أنواعاً شتى قال: ﴿ماء فسالت﴾ أي فتسبب عن إنزاله لكثرته
314
أن سالت ﴿أودية﴾ أي مياهها منها الكبير والصغير؛ والوادي: سفح الجبل العظيم الذي يقابله جبل أو تل فيجتمع فيه المطر، فيجري في فضائه، ومنه أخذت الدية - لجمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتل ﴿بقدرها﴾ والقدر: اتزان الشيء بغيره من غير زيادة ولا نقصان، فالمعنى أن المياه ملأت الأودية مع ما ذلك من الدلالة على التفرد بالربوبية مما هو مثال للحق والباطل، وهو قوله: ﴿فاحتمل﴾ والاحتمال: رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له ﴿السيل﴾ وهو ماء المطر الجاري من الوادي بعظم ﴿زبداً رابياً﴾ أي عالياً بانتفاخه: والزبد: الرغوة التي تعلو الماء، ومدار المادة على الخفة، ويلزمها العلو، ومنه زبد البحر والبعير - للرغوة الخارجة من شدقه، والغضبان، وزبدت المرأة القطن - إذا نفشته، والزباد - كرمان: ضرب من النبت تنفرش أفنانه، وشاة مزبدة أي سمينة، ومنه الزباد - للطيب المعروف وهو وسخ يشبه الرغوة يجتمع تحت ذنب نوع من السنانير،
315
ومنه الزبد - بضم وسكون - لخالص اللبن فإنه أخفه، يقال منه: زبدت فلاناً أزبده - إذا أطعمته الزبد، ثم اتسع فيه حتى قيل لمطلق العطية، ومنه: «نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن زبد المشركين» ؛ ومنه الزدب - بكسر ثم سكون، وهو النصيب، ويمكن أن يكون من زبد اللبن الزبادُ للنبت، فإنه مرعى ناجع، كأنه شبه به أو لأنه سببه، وكذا شاة مزبدة أي سمينة ويلزم الخفة الإسراع، يقال: تزبد اليمين - إذا أسرع إليها، أو إنها شبهت بالزبد في سهولة التقامه.
ولما الزبد أحسن مثل لمعبوداتهم، وكان لا يختص بالماء الذي هو مائع بطبعه بجمع الأوضار والأقذار بجريه، ذكر معه ما يشبهه في النفع من الجوامد الصلبة التي تزبد عند الإذابة مع كونها في حال الجمود في غاية الصفاء والخلوص عن الشوائب على ما يظهر، فقال: ﴿ومما يوقدون﴾ أي إيقاداً مستعلياً ﴿عليه﴾ أي للإذابة ﴿في النار﴾ من المعادن ﴿ابتغاء حلية﴾ تتحلون بها من الأساور والحلق ونحوها ﴿أو﴾ ابتغاء ﴿متاع﴾ تتمتعون به من الدراهم والدنانير والسيوف
316
والأواني ونحوها، وأصل المتاع: التمتع الحاضر، فهذا تقسيم حاصر لأنواع الفلز المنوه إليها مع إظهار التهاون به وإن تنافس الناس فيه كما هو شأن الملوك يظهرون المجد والفخار بالاستهانة بما يتنافس الناس فيه ﴿زبد مثله﴾ أي مثل زبد الماء يكشط عن وجهه أو يعلق بأطراف الإناء فيذهب ويبقى ذلك الجوهر خالصاً كالحق إذا زالت عنه الشكوك وانزاحت الشبه.
ولما كان هذا في غاية الحسن والانطباق على المقصود، كان سامعه جديراً بأن يهتز فيقول: هذا مما لا يقدر على سوقه هكذا إلا الله تعالى، فيا له من مثل! فأجيب قوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الضرب، العلي الرتب، الغريب العجب، المتين السبب ﴿يضرب الله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿الحق والباطل﴾ أي مثلهما؛ وضرب المثل: تسييره في البلاد يتمثل به الناس.
ولما نبه بهذا الفصل على علو رتبه هذا المثل، شرع في شرحه، فقال مبتدئاً بما هو الأهم في هذا المقام، وهو إبطال الباطل الذي أضلهم،
317
وهو في تقسيمه على طريق النشر المشوش، فقال: ﴿فأما الزبد﴾ أي الذي هو مثل للباطل المطلق ﴿فيذهب﴾ متعلقاً بالاشجار وجوانب الأودية لأنه يطفو بخفته ويعلق بالأشياء الكثيفة بكثافته ﴿جفاء﴾ قال أبو حيان: أي مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له؛ وقال ابن الأنباري: متفرقاً، من جفأت الريح الغيم - إذا قطعته، وجفأت الرجل: صرعته - انتهى. فهذا مثل الباطل من الشكوك والشبه وما أثاره أهل العناد، لا بقاء له وإن جال جولة - يمتحن الله بها عباده ليظهر الثابت من المزلزل - ثم ينمحق سريعاً؛ وقال الرماني: والجفاء: بنوّ مكان الشيء به حتى يهلك ﴿وأما ما ينفع الناس﴾ من الماء والفلز الذي هو مثل الحق ﴿فيمكث في الأرض﴾ ينتفع الناس بالماء الذي به حياة كل شيء، والفلز الذي به التمام، فالماء والمعدن مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع كما أن الماء يحيى الأراضي الميتة، والمعادن تحيي موات العيش وتنظم المعاملات المقتضية لاختلاط
318
بعض الناس ببعض وائتلافهم بالحاجة، والأودية والأواني مثل القلوب يثبت منه فيها ما تحتمله على قدر سعة القلب وضيقه بحسب الطهارة وقوة الفاهمة.
ولما انقضى هذا المثل على هذا البيان الذي يعجز دونه الثقلان، لأنه أحسن شيء معنى بأوجر عبارة وأوضح دلالة، كان كأنه قيل: هل يبين كل شيء هذا البيان؟ فقيل: نعم، ﴿كذلك﴾ أي مثل ذلك الضرب ﴿يضرب الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ﴿الأمثال﴾ فيجعلها في غاية الوضوح وإن كانت في غاية الغموض.
ومادة «جفا» - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بكل ترتيب، وهي جفأ جأف فجأ، جفي جيف فيج، جفو جوف فوج، فجو وجف - تدور على الطرح: جفأ الوادي والقدر: رميا بالجفاء أي الزبد وجفأ القدر والوادي: مسح غثاءه أي فطرحه - وجفأه: صرعه، والبرمة في القصعة: كفاها - أي طرح ما فيها - والباب: أغلقه وفتحه - ضد، لأنه في كليهما كالمرمي به، والبقل: قلعه من أصله،
319
والجفاء - كعزاب: الباطل، لأنه أهل للقذف به والطرح، والسفينة الخالية، لأنا بمعرض قذف الماء لها.
وأجفا ماشيته: أتعبها بالسير ولم يعلفها أي سيرها سيراً كأنها يقذف بها، وجفأ به: طرحه، وجفات البلادُ: ذهب خيرها، فكانت طرحته أو صارت هي أهلاً لأن تطرح وتبعد، والعام جفأةُ إبلنا، وهو أن ينتج أكثرُها، لأنها طرحت أجنّتها.
ومن يائيه: جفيته أجفيه: صرعته، والجفاية - بالضم: السفينة الفارغة، والمجفي: المجفو.
ومن واويه: جفا الشيء يجفو - إذا لم يلزم مكانه، كأنه فصل من مكانه فطرح به، والجفاء والجفوة: ترك الصلة، واجتفيته: أزلته عن مكانه، وجفا عليه كذا: ثقل، فصار أهلاً لطرحه والانفصال منه، ورجل جافي الخلقة والخلق: كز غليظ، لأن الشيء إذا غلظ لم يلتصق التصاق اللطيف، وأجفى الماشية: أتبعها ولم يدعها تأكل،
320
وفيه جفوة أي هو جاف، فإن كان مجفواً قيل: به جفوة.
ومن مقلوبه مهموزاً: جافة: صرعه وذعره أي قذف في قلبه رعباً: والشجرة: قلعها من أصلها، والجآف - كشداد: الصيّاح، كأنه يقذف بصوته، ورجل مجأف: لا ثبات له - كأنه يقذف به من مكانه، والمجؤوف: الجائع والمذعور، كأنه من الجوف، وإنما همزت واوه الأولى لانضمامها مع أنه يمكن تنزيله على أنه قذف فيه ذلك.
ومن يائيه: الجيفة: جثة الميت وقد أراح، والجيّاف - كشداد: النباش، وجافت تجيف: أنتنت فصارت متهيئة للطرح والتغييب، وجيّفه: ضربه، لما رآه أهلاً للبعد، وجيّف فلان في كذا وجُيّف أي فَزَّع وأفزع أي طرح في قلبه رعب، فصار لا تسعه أرض، بل يقذف بنفسه من مكان إلى آخر.
ومن واويه: الجوف: المطمئن من الأرض، لأنه يسع
321
ما يطرح فيه ويمسكه، ومهما طرح من الجبال من شيء استقر به، والجوف منك: بطنك، لافتقاره إلى طرح الغذاء فيه، وأهل الأغوار يسمون فساطيط عمالهم الأجواف - لطرح أنفسهم وأمتعتهم فيها - وجوف الليل: وسطه - تشبيه بالجوف، والأجوفان: البطن والفرج، والجوف - محركة السعة، والجوفاء من الدلاء: الواسعة، ومن القنا والشجر: الفارغة، والجائفة: جراحة تبلغ الجوف، وتلعه جائفة: قعيرة - لأنها لقعرها بالجوف أشبه منها بالجبل، وجوائف النفس: ما تقعر من الجوف في مقارّ الروح، والمجوف - كمعظم: من لا قلب له - كأن قلبه طرح من جوفه فصار خالياً. والجُوفان - بالضم: أير الحمار - لسعة جوفه، وأجفت الباب: رددته - كأنه من السلب، لأنك سددت جوف البيت، أو أنه شبه الإغلاق بطرح الباب.
ومن مقلوبه مهموزاً: فجئه الأمر - كسمعه ومنعه: هجم عليه من غير أن يشعر، كأنه قذف به إليه، وفجئت الناقة - كفرح: عظم
322
بطنها، كأنه قذف فيه بشيء، وفجأ - كمنع: جامع، لأنه طرحها وطرح نفسه عليها، والمفاجىء: الأسد، لأنه يخرج بغتة فيثب من غير توقف.
ومن مقلوبه واوياً: الفجوة: المتسع من الأرض والفرجة - لتهيئها لما يطرح فيها، والفجوة - أيضاً: ساحة الدار وما بين حوافي الحوافر، أي ميامنها ومياسرها، وفجا قوسه: رفع وترها عن كبدها فهي فجواء، وفجا بابه: فتحه، فصار كالجوف، والفجا: تباعد ما بين الركبتين أو الفخذين أو الساقين أو عرقوبي البعير؛ فجي - كرضي فهو أفجى، وعظم بطن الناقة، والفعل كالفعل، والتفجية: الكشف، لأنك طرحت الغطاء، والتفجية - أيضاً: التنحية، وهي واضحة في الطرح، وأفجى: وسّع النفقة على عياله - كأنه يقذف بها قذفاً.
ومن مقلوبه يائياً: أفاج الرجل - إذا أسرع، ومنه الفيج - لرسول السلطان على رجليه - كأنه لسرعته يطرح به في الأرض - هذا
323
هو الصحيح الذي صححه صاحب العباب، لأنه معرب بيك، وقيل: إنه واوي، أصله: فيوج، ثم قيل: فيج - ككيس، ثم خفف، وجمعه الفيوج، وقيل: الفيوج: الذين يدخلون السجن ويخرجون ويحرسون، وأفاج في الأرض: ذهب، والقوم: ذهبوا وانتشروا - كأنه قذف بهم، والفيج: الوهد المطمئن من الأرض، لأنه موضع لطرح ما في الأعالي.
ومن مقلوبه واوياً: الفوج: الجماعة، كأنهم اقتطعوا من الجمهور فقذف بهم، وفاج المسك: فاح وسطع، أي انتشرت رائحته، والنهار: برد، إما بمعنى طرح برده على ما فيه، وإما لإحواجه الحيوان إلى أن يطرح عليه ما يدفئه، وأفاج: أسرع وعدا وأرسل الإبل على الحوض قطعة قطعة، والفاتج: البساط الواسع من الأرض، لتهيئه لما يطرح فيه، من تسمية المحل باسم الحال، وأفاج في عدوه: أبطأ. فهو للسلب، وفاجت الناقة برجيلها: نفحت بهما من خلفها، والفائجة: متسع ما بين كل مرتفعين، كأنه محل طرح ما ينزل منهما.
ومن مقلوبه: وجف يجف وجيفاً: اضطرب، والوجف ضرب من سير الإبل والخيل، وجف يجف وأوجفته واستوجف الحب فؤاده: ذهب به، كأنه طرحه منه.
324
ولما تم ما للحق والباطل في أنفسهم من الثبات والاضطراب، ذكر ما لأهلهما من الثواب والعقاب جواباً لمن كأنه قال: ما لمن تدبر هذه الأمثال، وأبعد عما أشارت إليه من الضلال، أو حاد عما دعت إليه ومال؟ فأجيب بقوله: ﴿للذين استجابوا﴾ أي طلبوا من أنفسهم الإجابة وأوجدوها ﴿لربهم﴾ أي المحسن إليهم شكراً له، الحالة ﴿الحسنى﴾ أي العظيمة في الحسن، وهي القرار في الجنة فهو جزاءهم؛ قال أبو حيان: وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمه تعالى ودخول الجنة في الآخرة - انتهى. وقد تقدم في سورة يونس عليه الصلاة والسلام أنهم يزادون ما لا يعلم قدره إلا الذي فعلوا ذلك خوف عقابه ورجاء ثوابه.
ولما ذكر ما للطائعين، أتبعه جزاء العاصين، فقال مبتدئاً: ﴿والذين لم يستجيبوا﴾ أي يرغبوا في إيجاد الإجابة ﴿له﴾ وأخبر عن هذا الابتداء قوله معلماً بأن استعجالهم بالعذاب باستعجالهم بالسيئة قبل الحسنة جراءة منهم ناشئة عن جهل صرف تزول عند رؤيتهم عذابه سبحانه، فيبلغون حينئذ بالافتداء غاية الذل فلا يقبل منهم -: ﴿لو أن لهم﴾
325
أي في ملكهم وتحت قدرتهم ﴿ما في الأرض﴾ وأكد بقوله: ﴿جميعاً ومثله﴾ وأوضح بقوله: ﴿معه لافتدوا به﴾ أي جعلوا فكاك أنفسهم بغاية جهدهم، وأكده لادعاء الكفرة أنهم لا يذلون لشيء ولا يوهن قواهم شيء، والافتداء: جعل أحد الشيئين بدلاً من الآخر على جهة الاتقاء به، فكأنه قيل: ما الذي دهاهم حتى كان هذا حالهم؟ فقيل - دلالة على أنه لا يقبل منهم الفداء ولو عظم -: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿لهم سوء الحساب *﴾ والحساب: إحصاء ما على العبد وله، وسوء المؤاخذة، وعدم العفو عن شيء ﴿ومأواهم﴾ أي مستقرهم ﴿جهنم﴾ أي الطبقة التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة. ولما كان المأوى إنما يأوى إليه صاحبه للراحة فيه بالاتكاء على فرش ونحوه، قال معبراً بمجمع المذام: ﴿وبئس المهاد *﴾.
ولما افترق حال ما أجاب ومن أعرض في الجزاء، وكان ما مضى مستوفياً طرق البيان بإيضاح الأمر بالجزيئات والأمثلة مع الترغيب والترهيب. فكان جديراً بترتيب الأثر عليه، تسبب عنه الإنكار على
326
من سوى بين العالم العامل وغيره التفاتاً إلى قوله ﴿هل يستوي الأعمى والبصير﴾ وسوى بين الحق والباطل التفاتاً إلى قوله ﴿كذلك يضرب الله الحق والباطل﴾ فحسن قوله: ﴿أفمن﴾ بفاء السبب ﴿يعلم﴾ علماً نافعاً هو عامل به ﴿إنما﴾ أي الذي ﴿أنزل﴾ أي وجد إنزاله وفرغ منه ﴿إليك من ربك﴾ أي المحسن إليك بأحسن التدبير ﴿الحق﴾ أي الكامل في الحقية، فهو نير العين للبصر والقلب للاستبصار والاعتبار، يهتدي بما يعلم إلى طريق الرشد فيسلكها، وإلى طريق الغي فيتركها، ويفهم الأشارات، وينتفع بالأمثال السائرات، كما يبصر بالبصر طريق النجاة من طريق الهلاك ﴿كمن هو أعمى﴾ لا بصر له ولا بصيرة، لأنه لا يعمل وإن كان عالماً، فهو لا ينتفع بالأمثال، فكأنه قيل: لا يستويان مثلاً أصلاً، ثم علل هذا الإنكار بقوله: ﴿إنما﴾ أي لأنه إنما يعلم ذلك بالتذكر، وإنما ﴿يتذكر﴾ أي يطلب الذكر طلباً عظيماً فيعمل ﴿أولوا﴾ أي أصحاب ﴿الألباب *﴾ أي العقول الصافية الخالصة القابلة للتذكر بالتفكر في أن ما أنزل من عند الله ثابت الأركان راسي القواعد، لا قدر لأحد على إزالة معنى من معانيه ولا هدم شيء من مبانيه
327
وأن ما عداه هلهل النسج رث القوى، مخلخل الأركان، دارس الرسم، منطمس الأعلام، مجهول المسالك، مظلم الأرجاء، جم المهالك، وأما القلب الذي لا يرجع عن غيه لمثل هذا البيان فكأنه غير قابل للذكرى، فاستحق أن يعد عدماً، وأن يخص التذكر بالقلب، ومن المعلوم أنه لا يستوي من له لب ومن لا لب له؛ واللب والقلب: أجل ما في الشيء وأخلصه وأجوده.
328
ولما منح سبحانه من فيهم أهلية التذكر بالعقول الدالة على توحيده والانقياد لأوامره، كان كأنه عهد في ذلك، فقال يصف المتذكرين بما يدل قطعاً على أنه لا لب لسواهم: ﴿الذين يوفون﴾ أي يوجدون الوفاء لكل شيء ﴿بعهد الله﴾ أي بسبب العقد المؤكد من الملك الأعلى بأوامره ونواهيه، فيفعلون كلاًّ منهما كما رسمه لهم ولا يوقعون شيئاً منهما مكان الآخر؛ والعهد: العقد المتقدم على الأمر بما يفعل أو يجتنب، والإيفاء: جعل الشيء على مقدار غيره من غير زيادة ولا نقصان.
328
ولما كان الدليل العقلي محتماً للثبات عليه كما أن الميثاق اللفظي موجب للوفاء به، قال تعالى: ﴿ولا ينقضون الميثاق *﴾ أي الإيثاق ولا الوثاق ولا مكانه ولا زمانه؛ والنقض: حل العقد بفعل ما ينافيه ولا يمكن أن يصح معه، والميثاق: العقد المحكم وهو الأوامر والنواهي المؤكدة بحكم العقل.
ولما كان أمر الله جارياً على منهاج العقل وإن كان قاصراً عنه لا يمكن نيله له من غير مرشد، قال: ﴿والذين يصلون﴾ أي من كل شيء على سبيل الاستمرار ﴿ما أمر الله﴾ أي الذي له الأمر كله؛ وقال: ﴿به أن يوصل﴾ دون «يوصله» ليكون مأموراً بوصله مرتين، ويفيد تجديد الوصل كلما قطعه قاطع على الاستمرار لما تظافر على ذلك من دليلي العقل والنقل؛ والوصل: ضم الثاني إلى الأول من غير فرج.
ولما كان الدليل يرشد إلى أن الله تعالى مرجو مرهوب قال: ﴿ويخشون ربهم﴾ أي المحسن إليهم، من أن ينتقم منهم إن خالفوا بقطع الإحسان. ولما كان العقل دالاً بعد تنبيه الرسل على القدرة على المعاد بالقدرة على المبدأ، وكان الخوف منه أعظم الخوف، قال تعالى: ﴿ويخافون﴾ أي يوجدون الخوف إيجاداً مستمراً
329
﴿سوء الحساب *﴾ وهو المناقشة فيه من غير عفو، ومن أول السورة إلى هنا تفصيل لقوله تعالى أول البقرة ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب﴾ [البقرة: ١] مع نظره إلى قوله آخر يوسف ﴿ما كان حديثاً يفترى﴾ [يوسف: ١١١].
ولما كان الوفاء بالعهد في غاية الشدة على النفس، قال مشيراً إلى ذلك مع شموله لغيره: ﴿والذين صبروا﴾ أي على طاعات الله وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه، والصبر: الحبس، وهو تجرع مرارة المنع للنفس عما تحب مما لا يجوز فعله ﴿ابتغاء﴾ أي طلب ﴿وجه ربهم﴾ أي المحسن إليهم، وكأنه ذكر الوجه إثارة للحياء وحثاً عليه لا ليقال: ما أجلده! ولا لأنه يعاب بالجزع، ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا خوف الشماتة.
ولما كانت أفراد الشيء قد تتفاوت في الشرف، خص بالذكر أشياء مما دخل في العهد والميثاق تشريفاً لها فقال: ﴿وأقاموا الصلاة﴾ لأنها في الوصلة بالله كالميثاق في الوصلة بالموثق له، وقال -: ﴿وأنفقوا﴾ وخفف عنهم بالبعض فقال: ﴿مما رزقناهم﴾ - لأن الإنفاق من أعظم سبب يوصل إلى المقاصد، فهذا إنفاق من المال، وتلك إنفاق من القوى، وقال: ﴿سراً وعلانية﴾ إشارة إلى الحث على استواء الحالتين تنبيهاً على الإخلاص، ويجوز أن يكون المراد بالسر ما ينبغي فيه الإسرار
330
كالنوافل، وبالعلانية ما يندب إلى إظهاره كالواجب إلا أن يمنع مانع، وهذا تفصيل قوله تعالى
﴿ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون﴾ [البقرة: ٣] ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة: ٤٥] وقال: ﴿ويدرؤون﴾ أي يدفعون بقوة وفطنة ﴿بالحسنة﴾ أي من القول أو الفعل ﴿السيئة﴾ إشارة إلى ترك المجازاة أو يتبعونها إياها فتمحوها، خوفاً ورجاء وحثاً على جميع الأفعال الصالحة، فهي نتيجة أعمال البر ودرجة المقربين.
ولما ختم تلك بما يدل على ما بعد الموت ترهيباً، ختم هذه بمثل ذلك ترغيباً فقال: ﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة ﴿لهم عقبى الدار *﴾ وبينها بقوله: ﴿جنات عدن﴾ أي إقامة طويلة - ومنه المعدن وهي أعلى الجنان؛ ثم استأنف بيان تمكنهم فيها فقال: ﴿يدخلونها﴾.
ولما كانت الدار لا تطيب بدون الحبيب، قال عاطفاً على الضمير المرفوع إشارة إلى أن النسب الخالي غير نافع: ﴿ومن صلح﴾ والصلاح: استقامة الحال على ما يدعو إليه العقل والشرع ﴿من آبائهم﴾ أي الذين كانوا سبباً في إيجادهم ﴿وأزواجهم وذرياتهم﴾ أي الذين تسببوا عنهم؛ ثم زاد في الترغيب بقوله سبحانه وتعالى: ﴿والملائكة يدخلون عليهم﴾ لأن الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز.
331
ولما كان إتيانهم من الأماكن المعتادة مع القدرة على غيرها أدل على الأدب والإكرام، قال: ﴿من كل باب *﴾ يقولون لهم: ﴿سلام عليكم﴾ والسلام: التحية بالكرامة على انتفاء كل شائب من مضرة، وبين أن سبب هذا السلام الصبر فقال: ﴿بما صبرتم﴾ أي بصبركم، والذي صبرتم له، والذي صبرتم عليه، إشارة إلى أن الصبر عماد الدين كله. ولما تم ذلك. تسبب عنه قوله: ﴿فنعم عقبى الدار *﴾ وهي المسكن في قرار، المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها والمرافق التي ينتفع بها؛ والعقبى: الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر.
332
ولما ذكر ما للناجين، ذكر مآل الهالكين فقال: ﴿والذين ينقضون عهد الله﴾ أي الملك الأعلى فيعملون بخلاف موجبه؛ والنقض: التفريق الذي ينفي تأليف البناء. ولما كان النقض ضاراً ولو كان في أيسر جزء، أدخل الجار فقال: ﴿من بعد ميثاقه﴾ أي الذي أوثقه عليهم بما أعطاهم من العقول وأودعها من القوة على ترتيب المقدمات المنتجة للمقاصد الصالحة الدالة على صحة جميع ما أخبرت به رسله عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ والميثاق: إحكام العقد بأبلغ ما يكون في مثله ﴿ويقطعون ما﴾ أي الشيء الذي ﴿أمر الله﴾ أي غير ناظرين إلى ما له من العظمة والجلال، وعدل عن أن
332
يوصله لما تقدم قريباً فقال: ﴿به أن يوصل﴾ أي لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح ﴿ويفسدون﴾ أي يوقعون الإفساد ﴿في الأرض﴾ أي في أيِّ جزء كان منهم بوصل ما أمر الله به أن يقطع اتباعاً لأهوائهم، معرضين عن أدلة عقولهم، مستهينين بانتقام الكبير المتعال. ولما كانوا كذلك، استحقوا ضد ما تقدم للمتقين، وذلك هو الطرد والعقاب والغضب والنكال وشؤم اللقاء، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿لهم اللعنة﴾ أي الطرد والبعد ﴿ولهم سوء الدار *﴾ أي أن يكون دارهم الآخرة سيئة بلحاق ما يسوء فيها دون ما يسر.
ولما تقدم الحث العظيم على الإنفاق، وأشير إلى أنه من أوثق الأسباب في الوصلة لجميع أوامر الله، وختم بأن للكافر البعد والطرد عن كل خير والسوء، كان موضع أن يقول الكفار: ما لنا يوسع علينا مع بعدنا ويضيق على المؤمن مع وصله واتصاله، وما له لا يبسط له رزقه ليتمكن من إنفاذ ما أمر به إن كان ذلك حقاً؟ فقيل: ﴿الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿يبسط الرزق﴾ ودل على تمام
333
قدرته سبحانه وتعالى بقوله - جلت قدرته -: ﴿لمن يشاء﴾ فيطيع في رزقه أو يعصي ﴿ويقدر﴾ على من يشاء فيجعل رزقه بقدر ضرورته فيصبر أو يجزع لِحكَم دقت عن الأفكار، ثم يجعل ما للكافر سبباً في خذلانه، وفقر المؤمن موجباً لعلو شأنه، فليس الغنى مما يمدح به، ولا الفقر مما يذم به، وإنما يمدح ويذم بالآثار.
ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من أخلصه الله وهم أقل من القليل، قال عائباً لمن اطمأن إليها: ﴿وفرحوا﴾ أي فبسط لهؤلاء الرزق فبطروا وكفروا وفرحوا ﴿بالحياة الدنيا﴾ أي بكمالها؛ والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى. ولما كانت الدنيا متلاشية في جنب الدار التي ختم بها للمتقين، قال زيادة في الترغيب والترهيب: ﴿وما الحياة الدنيا في الآخرة﴾ أي في جنبها ﴿إلا متاع *﴾ أي حقير متلاش؛ قال الرماني: والمتاع: ما يقع به الانتفاع في العاجل، وأصله: التمتع وهو التلذذ بالأمر الحاضر.
ولما كان العقل أعظم الأدلة، وتقدم أنه مقصور على المتذكرين، إشارة إلى أن من عداهم بقر سارحة، وعرف أن ما دعا إليه الشرع
334
هو الصلاح، وضده هو الفساد، وكان العقل إنما هو لمعرفة الصلاح فيتبع، والفساد فيجتنب، وكان الطالب لإنزال آية إلى غير ذلك لا سيما بعد آيات متكاثرة ودلالات ظاهرة موضعاً لأن يعجب منه، قال على سبيل التعجب عطفاً على قوله ﴿وفرحوا﴾ مظهراً لما من شأنه الإضمار تنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم التعنت: ﴿ويقول الذين كفروا﴾ أي ستروا ما دعتهم إليه عقولهم من الخير وما لله من الآيات عناداً ﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا.
ولما كان ما تحقق أنه من عند الملك لا يحتاج إلى السؤال عن الآتي به، بني للمفعول قوله: ﴿أنزل عليه﴾ أي هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿آية﴾ أي علامة بينة ﴿من ربه﴾ أي المحسن إليه بالإجابة لما يسأله لنهتدي بها فنؤمن به، وأمره بالجواب عن ذلك بقوله: ﴿قل﴾ أي لهؤلاء المعاندين: ما أشد عنادكم حيث قلتم هذا القول الذي تضمن إنكاركم لأن يكون نزل إلي آية مع أنه لم يؤت أحد من الآيات مثل ما أوتيت، فعلم قطعاً أنه ليس إنزال الآيات سبباً للايمان بل أمره إلى الله ﴿إن الله﴾ أي الذي لا أمر لأحد معه ﴿يضل من يشاء﴾ إضلاله ممن لم ينب، بل أعرض عن دلالة العقل ونقض ما أحكمه
335
من ميثاق المقدمات المنتجة للقطع بحقية ما دعت إليه الرسل لما جبل عليه قلبه من الغلظة، فصار بحيث لا يؤمن ولو نزلت عليه كل آية، لأنها كلها متساوية الأقدام في الدعوة إلى ما دعا إليه العقل لمن له عقل، وقد نزل قبل هذا آيات متكاثرة دالات أعظم دلالة على المراد ﴿ويهدي﴾ عند دعاء الداعين ﴿إليه﴾ أي طاعته. بمجرد دليل العقل من غير طلب آية ﴿من أناب﴾ أي من كان قلبه ميالاً مع الأدلة رجاعاً إليها لأنه شاء إنابته كأبي بكر الصديق وغيره ممن تبعه من العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم، ثم أبدل منهم ﴿الذين آمنوا﴾ أي أوجدوا هذا الوصف ﴿وتطمئن قلوبهم﴾ أي تسكن وتستأنس إلى الدليل بعد الاضطراب بالشكوك لإيجادهم الطمأنينة بعد صفة الإيمان إيجاداً مستمراً دالاً على ثبات إيمانهم لترك العناد، وهذا المضارع في هذا التركيب مما لا يراد به حال ولا استقبال، إنما يراد به الاستمرار على المعنى مع قطع النظر عن الأزمنة ﴿بذكر الله﴾ الذي هو أعظم الآيات في أن المذكور مستجمع لصفات الكمال، فالآية من الاحتباك: ذكر المشيئة أولاً دال على حذفها ثانياً، وذكر الإنابة ثانياً دال على حذف ضدها أولاً.
ولما كان ذلك موضع أن يقول المعاند: ومن يطمئن بذلك؟ فقال: ﴿ألا بذكر الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام،
336
لا بذكر غيره ﴿تطمئن القلوب *﴾ فتسكن عن طلب غيره آية غيره، والذكر: حضور المعنى للنفس، وذلك إشارة إلى أن من لم يطمئن به فليس له قلب فضلاً عن أن يكون في قلبه عقل، بل هو من الجمادات، أو إلى أن كل قلب يطمئن به، فمن أخبر عن قلبه بخلاف ذلك فهو كاذب معاند، ومن أذعن وعمل بموجب الطمأنينة فهو مؤمن، ثم أخبر عما لهذا القسم بقوله: ﴿الذين آمنوا﴾ أي أوجدوا وصف الإيمان ﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً لدعواهم الإيمان ﴿الصالحات﴾ لطمأنينة قلوبهم إلى الذكر ﴿طوبى لهم﴾ أي خير وطيب وسرور وقرة عين ﴿وحسن مآب *﴾ فكان ذلك مفهماً لحال القسم الآخر، فكأنه قيل: ومن لم يطمئن أو اطمأن قلبه ولم يذعن بؤسي لهم وسوء مآب.
337
ولما كان في ذلك فطم عن إنزال المقترحات، وكان إعراض المقترحين قد طال، وطال البلاء بهم والصبر على أذاهم، كان موضع أن يقال من كافر أو مسلم عيل صبره: أولست مرسلاً يستجاب لك كما كان يستجاب للرسل؟ فقيل: ﴿كذلك﴾ أي مثل إرسال الرسل الذي قدمنا الإشارة إليه في آخر سورة يوسف عليه الصلاة والسلام في قولنا ﴿وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم﴾ [الأنبياء: ٧]
337
الآية، وفي هذه السورة في قولنا ﴿ولكل قوم هاد﴾ ومثل هذا الإرسال البديع الأمر البعيد الشأن، والذي دربناك عليه غير مرة من أن المرجع إلى الله والكل بيده، فلا قدرة لغيره على هدى ولا ضلال، لا بإنزال الآية ولا غيره ﴿أرسلناك﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿في أمة﴾ وهي جماعة كثيرة من الحيوان ترجع إلى معنى خاص لها دون غيرها ﴿قد خلت﴾.
ولما كانت الرسل لمن تعم بالفعل الزمان كله، قال: ﴿من قبلها أمم﴾ طال أذاهم لأنبيائهم ومن آمن بهم واستهزاءهم في عدم الإجابة إلى المقترحات وقول كل أمة لنبيها عناداً بعد ما جاءهم من الآيات ﴿لولا أنزل عليه آية﴾ حتى كأنهم تواصوا بهذا القول حتى فعل الرسل وأتباعهم في إقبالهم على الدعاء وإعراضهم عمن يستهزىء بهم - فعل الآئس من الإنزال ﴿لتتلوا﴾ أي أرسلناك فيهم لتتلو ﴿عليهم﴾ أي تقرأ؛ والتلاوة: جعل الثاني يلي الأول بلا فصل ﴿الذي أوحينا إليك﴾ من
338
ذكر الله الذي هو أعظم الآيات ﴿وهم﴾ أي والحال أنهم ﴿يكفرون﴾ لا تمل تلاوته عليهم في تلك الحال فإن لنا في هذا حكماً وإن خفيت، وما أرسلناك ومن قبلك من الرسل إلا لتلاوة ما يوحى، لا لطلب الإجابة إلى ما يقترح الأمم من الآيات ظناً أنها تكون سبباً لإيمان أحد، نحن أعلم بهم، وهذا كله تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: ﴿بالرحمن﴾ إشارة إلى كثرة حلمه وطول أناته، وتصوير لتقبيح حالهم في مقابلتهم الإحسان بالإساءة والنعمة بالكفر بأوضح صورة وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم من الكفران. ولما تضمن كفرهم بالرحمن كفرهم بالقرآن ومن أنزل عليه، وكان الكفر بالمنعم في غاية القباحة، كان كأنه قيل: فماذا أفعل حينئذ أنا ومن اتبعني؟ لا نتمنى إجابتهم إلى مقترحاتهم إلا رجاء إيمانهم، وكان جوابهم عن الكفر بالموحى أهم، بدأ به فقال: ﴿قل﴾ عند ذلك إيماناً به ﴿هو﴾ أي الرحمن الذي كفرتم به ﴿ربي﴾ المربي لي بالإيجاد وإدرار النعم، والمحسن إليّ لا غيره، لا أكفر إحسانه كما كفرتموه أنتم، بل أقول: إنه ﴿لا إله إلا هو﴾ أنا به واثق في التربية والنصرة وغيرها.
339
ولما كان تفرده بالإلهية علة لقصر الهمم عليه، قال: ﴿عليه﴾ أي وحده لا شريك له ﴿توكلت﴾ والتوكل: التوثيق في تدبير النفس برده إلى الله على الرضى بما يفعل ﴿وإليه﴾ أي لا إلى غيره ﴿متاب *﴾ أي مرجعي، معنى بالتوبة وحساً بالمعاد، وهذا تعريض بهم في أن سبب كفرتم إنكار يوم الدين.
ولما فرغ من الجواب عن الكفر بالموحى، عطف على «هو ربي» الجواب عن الكفر بالوحي فقال: ﴿ولو﴾ إشارة إلى أنه يعتقد في القرآن ما هو أهله بعد ما أخبر عن اعتقاده في الرحمن، أي وقل: لو ﴿أن قرآناً﴾ كانت به الآيات المحسوسات بأن ﴿سيرت﴾ أي بأدنى إشارة من مشير ما ﴿به الجبال﴾ أي فأذهبت على ثقلها وصلابتها عن وجه الأرض ﴿أو قطعت﴾ أي كذلك ﴿به الأرض﴾ أي على كثافتها فشققت فتفجرت منها الأنهار ﴿أو كلم به الموتى﴾ فسمعت وأجابت لكان هذا القرآن، لأنه آية لا مثل لها، فكيف يطلبون آية غيره! أو يقال: إن التقدير: لو كان شيء من ذلك بقرآن غيره لكان به - إقراراً لأعينكم - إجابة إلى ما تريدون، لكنه لم تجر عادة لقرآن قبله بأن يكون به ذلك، فلم يكن بهذا القرآن،
340
لأن الله لم يرد ذلك لحكمه علمها، وليس لأحد غير الله أمر في خرق شيء من العادات، لا لولي ولا لنبي ولا غيرهما حتى يفعل لأجلكم بشفاعة أو بغيرها شيئاً لم يرده الله في الأزل ﴿بل﴾ ويجوز أن يكون التقدير: لو وجد شيء من هذا بقرآن يوماً ما لكان بهذا القرآن، فكان حينئذ يصير كل من حفظ منه شيئاً فعل ما شاء من ذلك، فسير له ما شاء من الجبال إلى ما أراد من الأراضي لما رام من الأغراض، وقطع به ما طلب من الأرض أنهاراً وجناناً وغيرها، وكلم به من اشتهى من الموتى، ثم إذا فتح هذا الباب فلا فرق بين القدرة على هذا والقدرة على غيره، فيصير من حفظ منه شيئاً قادراً على شيء، فبطلت حينئذ حكمة اختصاص الله سبحانه بذلك من أراد من خلص عباده، وأدى ذلك إلى أن يدعي من أراد من الفجرة أن أمر ذلك بيده، يفعل فيه ما يشاء متى شاء، فيصير ادعاءه مقروناً بالفعل شبهة في الشرك، وليعلم قطعاً أنه ليس في يد أحد أمر، بل ﴿الله﴾ أي الذي له صفات الكمال وحده ﴿الأمر﴾ وهو ما يصح أن يؤمر فيه وينهى ﴿جميعاً﴾ في ذلك وغيره، لا لي ولا لأحد من الأنبياء الذين قلتم
341
إني لست أدنى منزلة منهم، وأما الخوارق التي كانت لهم فلولا أن شاءها لما كانت، فالأمر إليه وحده، مهما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وكأن هذا جواب لما حكي في السيرة النبوية أن الكفار تفتنوا به؛ قال ابن إسحاق: ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء، فاجتمع أشرافهم فأرسلوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلموه في الكف عنهم وعرضوا عليه أن يملكوه عليهم وغير ذلك فأبى وقال:
«» إن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً «، فقالوا: فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلداً ولا أقل ماء ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليخرق فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق - زاد البغوي: فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام لميرتنا، ونرجع في
342
يومنا فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت - رجع إلى ابن إسحاق: وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل! فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك إلينا رسولاً كما تقدم - زاد البغوي: فإن عيسى كان يحيي الموتى، ولست بأهون على ربك منه» فكان سؤالهم هذا متضمناً لادعائهم أن دعواه إنزال القرآن لا تصح إلا أن فعل هذه الاشياء.
ولما كان هذا كله إقناطاً من حصول الإيمان لأحد بما يقترح، تسبب عنه الإنكار على من لم يفد فيه ذلك فقال تعالى: ﴿أفلم﴾ بفاء السبب ﴿ييئس الذين آمنوا﴾ من إيمان مقترحي الآيات بما يقترحون لعلمهم ﴿أن﴾ أي بأنه ﴿لو يشاء الله﴾ أي الذي له صفات الكمال - هداية كل أحد مشيئة مقترنة بوجوده ﴿لهدى الناس﴾ وبين أن اللام للاستغراق بقوله: ﴿جميعاً﴾ أي بأيسر مشيئة، والعلم بالشيء يوجب اليأس من خلافه،
343
لكنه لم يهدهم جميعاً فلم يشأ ذلك، ولا يكون إلا ما شاءه، فلا يزال فريق منهم كافراً، فقد وضح أن ﴿ييئس﴾ على بابها، وكذا في البيت الذي استشهدوا به على أنها بمعنى «علم» يمكن أن يكون معناه: ألم تيأسوا عن أذاي أو عن قتلي علماً منكم بأني ابن فارس زهدم، فلا يضيع لي ثأر، وكذا قراءة علي ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - أفلم - يتبين الذين آمنوا - أي أن أهل الضلال لا يؤمنون لآية من الآيات علماً منهم بأن الأمر لله جميعاً، وأن إيمانهم ليس موقوفاً على غير مشيئته.
ولما علم من ذلك أن بعضهم لا يؤمن، ضاقت صدور المؤمنين
344
لذلك لما يعاينونه من أذى الكفار فأتبعه ما يسليهم عاطفاً على ما قدرته من نتيجة عدم المشيئة، فقال: ﴿ولا يزال الذين كفروا﴾ أي ستروا ضياء عقولهم ﴿تصيبهم بما صنعوا﴾ أي مما مرنوا عليه من الشر حتى صار لهم طبعاً ﴿قارعة﴾ أي داهية تزعجهم بالنقمة من بأسه على يد من يشاء، وهو من الضرب بالمقرعة ﴿أو تحل﴾ أي تنزل نزولاً ثانياً تلك القارعة ﴿قريباً من دارهم﴾ أي فتوهن أمرهم ﴿حتى يأتي وعد الله﴾ أي الملك الأعظم بفتح مكة أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه السلام فينقطع ذلك، لأنه لا يُبقي على الأرض كافراً، وفي غير ذلك من الأزمان كزمن فتح مكة المشرفة، فيكون المعنى خاصاً بالبعض ﴿إن الله﴾ أي الذي له مجامع الكمال ﴿لا يخلف الميعاد﴾ أي الوعد ولا زمانه ولا مكانه؛ والوعد: عقد الخبر بتضمن النفع، والوعيد: عقده بالزجر والضر، والإخلاف: نقض ما تضمن الخبر من خير أو شر.
345
ولما تم الجواب عن كفرهم بالموحي وما أوحاه إليه وما اشتد
345
تعلقه به، عطف على ذلك تأسية بالموحى إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن الحاث على تميز الإجابة إلى الآيات المقترحات استهزاء الكفار، فقال: ﴿ولقد استهزىء﴾ أي من أدنى الخلق وغيرهم ﴿برسل﴾.
ولما كان الإرسال لم يعم جميع الأزمان فضلاً عن الاستهزاء، أدخل الجار فقال: ﴿من قبلك﴾ لعدم إتيانهم بالمقترحات؛ والاستهزاء: طلب الهزوء، وهو الإظهار خلاف الإضمار للاستصغار ﴿فأمليت﴾ أي فتسبب عن استهزائهم ذلك أني أمليت ﴿للذين كفروا﴾ أي أمهلتهم في خفض وسعة كالبهيمة يملى لها، أي يمد في المرعى، ولم أجعل ذلك سبباً لإجابتهم إلى ما اقترحوا ولا معاجلتهم بالعذاب فعل الضيق الفطن ﴿ثم﴾ بعد طول الإملاء ﴿أخذتهم﴾ أي أخذ قهر وانتقام ﴿فكيف﴾ أي فكان أخذي لهم سبباً لأن يسأل من كان يستبطىء رسلنا أو يظن بنا تهاوناً بهم، فيقال له: كيف ﴿كان عقاب *﴾ فهو استفهام معناه التعجب مما حل بالمكذبين والتقرير، وفي ضمنه وعيد شديد.
346
فلما تقرر - بما مضى من قدرته تعالى على الثواب والعقاب وخفضه الأرضين ورفعه السماوات ونصبه الدلالات بباهر الآيات البينات - أن ليس لأحد غيره أمر ما، وتحرر أن كل أحد في قبضته، تسبب عن ذلك أن يقال: ﴿أفمن هو قائم﴾ ولما كان القيام دالاً على الاستعلاء أوضحه بقوله: ﴿على كل نفس﴾ أي صالحة وغيرها ﴿بما كسبت﴾ - يفعل بها ما يشاء من الإملاء والأخذ وغيرهما - كمن ليس كذلك، مثل شركائهم التي ليس لها قيام على شيء أصلاً.
ولما كان الجواب قطعاً: ليس كمثله شيء، كان كأنه قيل استعظاماً لهذا السؤال: من الذي توهم أن له مثلاً؟ فقيل: الذين كفروا به ﴿وجعلوا لله﴾ أي الملك الأعظم ﴿شركاء﴾ ويجوز أن يقدر ل «من» خبر معناه: لم يوحدوه، ويعطف عليه ﴿وجعلوا﴾، فكأنه قيل: فماذا يفعل بهم؟ فقيل: ﴿قل سموهم﴾ بأسمائهم الحقيقية، فإنهم إذا سموهم وعرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز ومحل الفقر، عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ثم قل لهم: أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده ﴿أم تنبئونه﴾ أي تخبرونه إخباراً عظيماً ﴿بما لا يعلم﴾ وعلمه محيط بكل شيء ﴿في الأرض﴾ من كونها آلهة ببرهان قاطع.
347
﴿أم بظاهر من القول﴾ أي بحجة إقناعية تقال بالفم، وكل ما لا يعلمه فليس بشيء، وهذا قريب مما مضى في قوله ﴿أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه﴾ [الرعد: ١٦] في أنه لو كان كذلك كان شبهه فيها ظهور ما، وهذه الأساليب منادية على الخلق بالعجز، وصادحة بأنه ليس من كلام الخلق.
ولما كان التقدير: ليس لهم على شيء من ذلك برهان قاطع ولا قول ظاهر، بنى عليه قوله: ﴿بل زين﴾ أي وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان ﴿للذين كفروا﴾ أي لهم، وعبر بذلك تنبيهاً على الوصف الذي دلاهم إلى اعتقاد الباطل، وهو ستر ما أدى إليه برهان العقل المؤيد بدليل النقل ﴿مكرهم﴾ أي أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره، وذلك أنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقاً، وهم يعلمون بطلان ذلك، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى ولتشفع لهم، أو أنهم غيروا في وجه الحق بما ختلوا
348
به الضعفاء وتمادى بهم الحال حتى اعتقدوه حقاً.
ومادة مكر بأي ترتيب كان: مكر، ركم، رمك، كرم، كمر؛ تدور على التغطية والستر، فالمكر: الخديعة، قالوا: وهو الاحتيال بما لا يظهر، فإذا ظهر فذلك الكيد، ويلزم منه الاجتهاد في ضم أشتات الأمر لستر ما يراد، فمن الضم المكر الذي هو حسن خدالة الساق أي امتلائها، ويلزم منه خصب البدن ونعمته، وكان منه المكر - لضرب من النبات، والواحدة مكرة، سميت مكرة لارتوائها، أبو حنيفة: المكر من عشب القيظ، وهي عشبة غبراء ليس فيها ورق، وهو ينبت في السهل والرمل - كأنه شبه بالساق لخلوه من الورق أو لأنه لغبرته وتجرده كالمستور، والمكر: طين أحمر يشبه بالمغرة - كأنه سمي بذلك لما فيه من الكدرة، والمكرة من البسر: التي ليست برطبة ولكن فيها لين - كأنها سميت به لكون لونها حينئذ يأخذ في الكدرة؛ والركم: إلقاء الشيء بعضه على بعض فهو مركوم وركام، وتراكم الشيء - إذا تكاثف بعضه على بعض، وذلك مظنة الخفاء،
349
والركمة: الطين المجموع وكذا التراب المجموع، وقال: وجُز عن مرتَكم الطريق - يريد المحجة، لأن ترابها تلبد فاشتد تلبده، والرمك والرمكة - بالضم - من ألوان الإبل وهو أكدر من الورقة وهو لون خالطت غبرته سواداً، فهو أرمك - لأنه مظنة لخفاء ما فيه، ومنه اشتقاق الرامك، وهو أخلاط تخلط بالمسك فتجعل سكّاً، ورمك الرجل بالمقام - إذا أقام به، لأنه يستره بنفسه وأمتعته ويستتر هو فيه، وأرمكت غيري - إذا ألزمته مكاناً يقيم فيه، والرمكة: الأنثى من البراذين - فارسي معرب، لأنها تستر أصالة العربي إذا ولدته، ورمكان: موضع معروف - معرفة، ويقال: رمك الرجل - إذا هزل وذهب ما في يده فستر عنه أو صار هو مستوراً بعد أن كان بحسن حاله مشهوراً، ورمكت البازي والصقر ترميكاً - إذا أشرت إليه بالطير لأنك سلبت عنه الستر؛ واليرموك: مكان به لهب عظيم، يستر ما يكون فيه؛ والكريم: ضد اللئيم، وهو البخيل المهين النفس،
350
والخسيس الآباء، فإذا كان شحيحاً ولم تجتمع له هذه الخصال قيل له: بخيل، ولم يُقل: لئيم، فالكريم إذن من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها، وتكرّم - إذا تنزه عن الدناءة ورفع نفسه عنها، وأصل الكرم في اللغة: الفصل والرفعة، فإذا قالوا: فلان كريم، فإنما يريدون رفيعاً فاضلاً، فيلزم الكرم ستر العيوب، والله الكريم أي الفاضل الرفيع - كذا قال بعض أهل اللغة، وقيل: الصفوح عن الذنوب، وقيل: الذي لا يمن إذا أعطى، وإذا قالوا: فلان أكرم قومه، فإنما يريدون: أرفعهم منزلة وأفضلهم قدراً، وكل هذا يلزم منه السخاء وستر الذنوب، ومن هذا قيل: فرس كريم، وشجرة كريمة - إذا كانت أرفع من نظائرها وأفضل،
﴿إني ألقي إليَّ كتاب كريم﴾ [النحل: ٢٩] أي رفيع شريف - كأنه أطلق هنا على ما فيه مجرد فضل تشبيهاً بالكريم في جزء المعنى، وكارمت الرجل: فعل كل منا في حق صاحبه مقتضى الكرم، والكرم: شجر العنب ولا يسمى به غيره، والكروم: قلائد تتخذها النساء كالمخانق، لدلالتها على قدر صاحبتها، والكرامة: طبق يوضع على رأس الحب - لأنه غطاءه، ولا يغطى إلا ما له فضل، ومنه يقولون: لك الحب والكرامة، والكرم: القصير من
351
الرجال - كأنه شبه بطبق الحب؛ والكمرة - محركة: طرف قضيب الإنسان خاصة، سميت بذلك لسترها القلفة، ورجل مكمور - إذا قطع الخاتن كمرته، وتكامر الرجلان - إذا تكابرا بأيريهما، وقال في القاموس: وتكامرا: نظرا أيهما أعظم كمرة، والكمري: الرطب ما لم يرطب على شجره، بل سقط بسراً فأرطب في الأرض - كأنه سمي بذلك لأنه يكون أكدر مما يرطب على الشجر، وهو أيضاً يشبه الكمرة في تكوينها، والكمري عن ابن دريد: الرجل القصير، كأنه شبه بالرطبة، وقال غيره: وهو اسم مكان.
ولما ذكر تزيين مكرهم، أتبعه الدلالة عليه فقال: ﴿وصدوا﴾ أي فلزموا ما زين لهم، أو فمكروا به حتى ضلوا في أنفسهم وصدوا غيرهم ﴿عن السبيل﴾ الذي لا يقال لغيره سبيل وهو المستقيم، فإن غيره جور وتيه وحيرة فهو عدم، بل العدم أحسن منه، فلم يسلكوا السبيل ولا تركوا غيرهم يسلكه، فضلوا وأضلوا، ليس ذلك بعجب فإن الله أضلهم ﴿ومن يضلل الله﴾ أي الذي له الأمر كله بإرادة ضلاله ﴿فما له من هاد *﴾ فكأنه قيل: فماذا لهم على ما فعلوا من ذلك؟ فقيل:
352
﴿لهم﴾ أي الذين كفروا ﴿عذاب﴾ وهو الألم المستمر، ومنه العذب لأنه يستمر في الحلق ﴿في الحياة الدنيا﴾ شاق، بممانعة حزب الله لهم في صدهم عن السبيل إلى ما يتصل بذلك من قتل وأسر، ولهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك عذاب ﴿ولعذاب الآخرة أشق﴾ أي أشد في المشقة، وهي غلظ الأمر على النفس بما يكاد يصدع القلب ﴿وما لهم من الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿من واق *﴾ أي مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءاً في الدنيا ولا في الآخرة، والواقي فاعل الوقاية، وهي الحجر بما يدفع الأذية.
353
ولما توعدهم على تفريطهم في جانب الله، تشوفت النفس إلى ما لأضدادهم، فكان كأنه قيل: فما لمن عاداهم في الله؟ فقيل: الجنة، فكأنه قيل: وما هي؟ فقيل: إنها في الجلال، وعلو الجمال، وكرم الخلال، مما تعالى عن المنال، إلا بضرب الأمثال، فقيل: ما مثلها؟ فقيل: ﴿مثل الجنة التي﴾ ولما كان المقصود حصول الوعد الصادق ولا سيما وقد علم أن الوعد هو الله، بنى للمفعول قوله: ﴿وعد المتقون﴾ والخبر محذوف تقديره: ما أقص عليكم، وهو أنها بساتين: قصور وأشجار،
353
فقال الزجاج: الخبر جنة مخبر عنها بما ذكر ليكون تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد ﴿تجري﴾. ولما كانت - لو عمها الماء الجاري - بحراً لا بساتين، أدخل الجار للدلالة على أنه خاص ببعض أرضيها فقال: ﴿من تحتها﴾ أي قصورها وأشجارها ﴿الأنهار﴾ وقيل: هذا المذكور هو الخبر كما تقول: صفة زيد أسمر.
ولما كان هذا ريّاً حقيقياً في أرض هي في غاية الخلوص والطيب، كان سبباً لدوام ثمرها واستمساك ورقها، فلذلك أتبعه قوله: ﴿أكلها﴾ أي ثمرها الذي يؤكل ﴿دائم﴾ لا ينقطع أبداً ﴿وظلها﴾ ليس كما في الدنيا، لا ينسخ بشمس ولا غيرها، قال أبو حيان: تقول: مثلت الشيء - إذا وصفته وقربته للفهم، وليس هذا ضرب مثل، فهو كقوله ﴿ولله المثل الأعلى﴾ [النحل: ٦٠]، أي الصفة العليا - كذا قال، ويمكن أن يكون ذلك حقيقة، ويكون هناك محذوف، وهو جنة من جنان الدنيا تجري من تحتها الأنهار - إلى آخره، وهو من قول الزجاج.
ثم ابتدأ إخباراً آخر تعظيماً لشأنها وتفخيماً لأمرها في قوله تعالى:
354
﴿تلك﴾ أي الجنة العالية الأوصاف ﴿عقبى﴾ أي آخر أمر ﴿الذين اتقوا﴾ ثم كرر الوعيد للكافرين فقال: ﴿وعقبى﴾ أي منتهى أمر ﴿الكافرين﴾ بالرحمن، المتضمن للكفر بالوحي والموحى إليه ﴿النار *﴾.
ولما وصف العالمين بأن المنزل إليه هو الحق برجاحة العقول وأصالة الأداء المؤدية إلى الصلاح الموجب لكل سعادة، والكافرين به بضعف العقول الدافع إلى الفساد الموصل إلى سوء الدار، ومر فيما يلائمه إلى أن ختمه بمثل ما ختم به ذلك، عطف على ذلك قوله - ويمكن أن يكون اتصاله بما قبله أنه معطوف على محذوف هو علة لختم الآية السالفة، تقديره: لأنهم ساءهم ما أنزل إليه حسداً وجهلاً -: ﴿والذين آتيناهم﴾ أي بما لنا من العظمة التي استنقذتهم من الضلال ﴿الكتاب﴾ ولم يكفروا بالرحمن ولا بما أنزل ولا بمن أرسل ﴿يفرحون بما﴾ ولما كان المنزل دالاًّ بإعجازه على المنزل، بنى للمفعول قوله: ﴿أنزل إليك﴾ أي من هذا الكتاب الأعظم لموافقته تلك الكتب لأن كلام الله كله من مشكاة واحدة، وتخصيصهم لأنهم هم المنتفعون بالكتاب دون غيرهم، فكأنه ما أنزل إلا إليهم، وهذا العطف
355
يرجح أن يكون الموصول هناك مرفوعاً بالابتداء ﴿ومن الأحزاب﴾ من أهل الأوثان والكتاب الذين تحزبوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿من ينكر بعضه﴾ كالتوحيد ونعت الإسلام ونبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يتبع ذلك مما حرفوه وبدلوه، ويريد أن يكون الأمر تابعاً فيه لغرضه، فالمشركون يريدون أن يمدح آلهتهم في بعض الآيات أو أن يسقط وصفها بالعيب، واليهود يريدون أن ينزل ما يوافق فروع التوراة كما أنزل ما وافق الأصول، وينكرون النسخ، وأهل الإنجيل يريدون أن ينزل في المسيح ما يهوون ونحو ذلك؛ قال المفسرون: كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعل مما هو ثابت في كتبهم غير محرف، فلكفرهم بذلك البعض أمره أن يعلمهم باعتقاده كفروا أو شكروا فقال: ﴿قل إنما أمرت﴾ أي وقع الأمر الجازم الذي لا شك فيه ولا تغير ممن له الأمر كله ﴿أن أعبد الله﴾ أي الذي لا شيء مثله وحده، ولذلك قال: ﴿ولا أشرك به﴾ لا أفعل إلا ما يأمرني به من غير نظر إلى سواه، ديني مقصور على ما أنكرتموه ﴿إليه﴾ وحده ﴿أدعوا وإليه﴾ خاصة ﴿مآب *﴾ أي إيابي
356
ومكانه وزمانه، معنى بالتوبة عند الفتور عن القيام بحقه، وحسّاً بالبعث للجزاء؛ والكتاب: الصحيفة التي فيها الخط - وهو الكتابة، وهي تأليف الحروف التي تقرأ في الصحيفة، والفرح: لذة القلب التي تجلي الهم بنيل المشتهى، والحزب: الجماعة التي تقوم بالنائبة.
ولما بينت هذه الآيات من مراتب الإعجاز ما بينت، أتبع تعالى ذكر ما أنزل قوله: ﴿وكذلك﴾ أي ومثل هذا الإنزال، البديع المثال، البعيد المنال؛ ولا يبعد أن يكون عطفاً على ﴿كذلك أرسلناك﴾ أو مثل إنزال كتب أهل الكتاب ﴿أنزلناه﴾ بما لنا من العظمة حال كونه ﴿حكماً عربيّاً﴾ أي ممتلئاً حكمة تقضي بالحق، فائقاً لجميع الكتب بهذا الوصف؛ والحكم: القطع بالمعنى على ما تدعو إليه الحكمة، وهو أيضاً فصل الأمر على الحق؛ فالمعنى أنه لا يقدر أحد على نقض شيء منه، فإن ذلك في الحقيقة هو الحكم، وما ليس كذلك فليس بحكم، والعربي: الجاري على مذاهب العرب في كلامها، فلا تلتفت إلى ما تدعوهم إليه أهويتهم فيقترحونه من تأييدك بملك أو إتحافك بكنز أو تركك لبعض ما يوحى إليك من سبب آلهتهم وتسفيه أحلامهم
357
وتضليل آبائهم أو غير ذلك من طلباتهم التي لو أتيتهم بها لم يكونوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله - هذا في عباد الأوثان، وكذا في أهل الكتاب فيما يدعون إليه من العود إلى قبلتهم ونحوه ﴿ولئن اتبعت أهواءهم﴾ في شيء من ذلك من النسخ أو غيره في القلبة أو غيرها ولا سيما مما يطلبونه من الآيات المقترحة كما قال تعالى:
﴿ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم﴾ [البقرة: ١٤٥]. ولما كان المراد التعميم في الزمان، نزع الجار، وأتى ب «ما» لأنها أعم من «الذي» وأشد إبهاماً، فهي الخفيّ معنى، فناسب سياق الوحي الذي هو غيب، ومعناه غامض - إلا لبعض الأفراد - في الأغبياء بخلاف آية البقرة الأولى فإنها في الملة الإبراهيمية المدركة بنور العقل الناشىء عن نظر المحسوسات فقال: ﴿بعدما جاءك﴾ ولما كان قد أنعم عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأشياء غير العلم، بين المراد بقوله: ﴿من العلم﴾ أي بالوحي بأن ذلك الاتباع لا يردهم سواء كان ذلك الاتباع في أصول الشريعة أو فروعها خفية كانت أو جلية.
358
ولما كان المشروط استغراق جميع زمان البعد باتباع الأهواء، قال: ﴿ما لك﴾ حينئذ ﴿من الله﴾ أي الملك الأعلى وأعرق في النفي فقال: ﴿من ولي﴾ أي ناصر يتولى من نصرك وجميع أمرك ما يتولاه القريب مع قريبه. ولما كان مدلول «ما» أعم من مدلول «الذي» لشمولها الظاهر والخفي، وكان من خالف الخفي أعذر ممن خالف الظاهر، نفى الأخص من النصير فقال: ﴿ولا واق *﴾ أي يقيك بنفسه فيجعلها دون نفسك، وقد يوجد من الأنصار من لا يسمع بذلك، وهذا بعث للأمة وتهييج على الثبات في الدين والتصلب فيه، والهوى - مقصوراً: ميل الطباع إلى الشيء بالشهوة، والعلم: تبين الشيء على ما هو به.
359
ولما حسمت الأطماع عن إجابتهم رجاء الاتباع أو خشية الامتناع، وكان بعضهم قد قال: لو كان نبياً شغلته نبوته عن كثرة التزوج، كان موضع توقع الخبر عما كان للرسل في نحو ذلك، فقال تعالى: ﴿ولقد أرسلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿رسلاً﴾ ولما كانت أزمان الرسل غير عامة لزمان القبل، أدخل الجار فقال: ﴿من قبلك﴾ أي ولم نجعلهم ملائكة بل جعلناهم بشراً، ﴿و﴾ أثقلنا ظهورهم بما يدعو إلى
359
المداراة والمسالمة بإرضاء الأمم في بعض أهوائهم، أو فصل الأمر عند تحقق المصارمة بإنجاز الوعيد بأن ﴿جعلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿لهم أزواجاً﴾ أي نساء ينكحونهن؛ والزوج: القرين من الذكر والأثى، وهو هنا الأنثى ﴿وذرية﴾ وهي الجماعة المتفرقة بالولادة عن أب واحد في الجملة، وفعل بهم أممهم ما يفعل بك من الاستهزاء، فما اتبع أحد منهم شيئاً من أهواء أمته ﴿و﴾ لم نجعل إليهم الإتيان بما يقترح المتعنتون من الآيات تالفاً لهم، بل ﴿ما كان لرسول﴾ أي رسول كان ﴿أن يأتي بآية﴾ مقترحة أو آية ناسخة لحكم من أحكام شريعته أو شريعة من قبله أو غير ذلك ﴿إلا بإذن الله﴾ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة، فإن الأمور عنده ليست على غير نظام ولا مفرطاً فيها ولا ضائعاً شيء منها بل ﴿لكل أجل﴾ أي غاية أمر قدره وحده لأن يكون عنده أمر من الأمور ﴿كتاب *﴾ قد أثبت فيه أن أمر كذا يكون في وقت كذا من الثواب والعقاب والأحكام والإيتان بالآيات وغيرها، إثباتاً ونسخاً على ما تقتضيه الحكمة، والحكمة اقتضت أن النبوة يكفي في إثباتها معجزة واحدة، وما زاد على ذلك فهو إلى المشيئة؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿يمحوا الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿ما يشاء﴾ أي محوه
360
من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه ﴿ويثبت﴾ ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقره ويمضي حكمه كما قال تعالى: ﴿ما ننسخ من آية أو ننساها﴾ [البقرة: ١٠٦] إلى قوله تعالى: ﴿ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ [البقرة: ١٠٦] كل ذلك بحسب المصالح التابعة لكل زمن، فإنه العالم بكل شيء، وهو الفعال لما يريد لا اعتراض عليه، وقال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة: يمحو فرض ما يشاء ويثبت فرض ما يشاء. وإثبات واو «يمحوا» في جميع المصاحف مشير - بما ذكر أهل الله من أن الواو معناه العلو والرفعة - إلى أن بعض الممحوات تبقى آثارها عالية، فإنه قد يمحو عمر شخص بعد أن كانت له آثار جميلة، فيبقيها سبحانه وينشرها ويعليها، وقد يمحو شريعة ينسخها ويبقى منها آثاراً صالحة تدل على ما أثبت من الشريعة الناسخة لها، وأما حذفها باتفاق المصاحف أيضاً في ﴿يمح الله الباطل﴾ في الشورى مع أنه مرفوع أيضاً، فللبشارة بإزهاق الباطل إزهاقاً هو النهاية - كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وذلك لمشابهة الفعل بالأمر المقتضي لتحتم الإيقاع بغاية الاتقان والدفاع، وقال: ﴿وعنده﴾ مع ذلك ﴿أم﴾ أي أصل ﴿الكتاب *﴾ لمن وهمه مقيد بأن الحفظ بالكتابة، وهو اللوح المحفوظ الذي هو أصل كل كتاب، وقد تقدم
361
غير مرة أنه الكتاب المبين الذي هو بحيث يبين كل ما طلب علمه منه كلما طلب؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: هما كتابان: كتاب سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبت، وأم الكتاب الذي لا يغير منه شيء - انتهى.
والمراد - والله أعلم - أنه يكون في أم الكتاب أنا نفعل كذا - وإن كان في الفرع على غير ذلك، فإنه بالنسبة إلى شريعة دون أخرى، فإذا نقضت الشريعة الأولى فإنا نمحوه في أجل كذا، أو يكون المعنى: يمحو ما يشاء من ذلك الكتاب بأن يعدم مضمونه بعد الإيجاد، ويثبت ما يشاء بأن يوجده من العدم وعنده أم الكتاب؛ قال الرازي في اللوامع: وقد أكثروا القول فيها، وعلى الجملة فكل ما يتعلق به المشيئة من الكائنات فهو بين محو وإثبات، محو بالنسبة إلى الصورة التي ارتفعت، إثبات بالنسبة إلى الصورة الثانية، والقضاء الأزلي، والمشيئة الربانية مصدر هذا المحو والإثبات، فلذلك هو القضاء وهذا هو القدر، فالقضاء مصدر القدر، والقدر مظهر القضاء، والله تعالى وصفاته منزه عن التغير.
ولما تم ما أراد مما يتعلق بتألفهم، وختم بأنه سبحانه يفعل
362
ما يشاء من تقديم وتأخير ومحو وإثبات، وكان من مقترحاتهم وطلباتهم استهزاء استعجال السيئة مما توعدوا به، وكانت النفس ربما تمنت وقوع ذلك للبعض وإثباته ليؤمن غيره تقريباً لفصل النزاع، قال سبحانه وتعالى: ﴿وإن ما نرينك﴾ أكده لتأكيد الإعلام بأنه لا حرج عليه في ضلالة من ضل بعد إبلاغه، نفياً لما يحمله عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شدة رحمته لهم وشفقته عليهم من ظن أنه عليه أن يردهم إلى الحق حتماً ﴿بعض الذي نعدهم﴾ وأنت حي مما تريد أو يريد أصحابك، فصل الأمر به فثبت وقوعه إقراراً لأعينكم قبل وفاتك؛ والوعد: الخبر عن خير مضمون، والوعيد: الخبر عن شر مضمون، والمعنى هاهنا عليه، وسماه وعداً لتنزيلهم إياه في طلب نزوله منزلة الوعد ﴿أو نتوفينك﴾ قبل أن نريك ذلك، وهو ممحو الأثر لم يتحقق، فالذي عليك والذي إلينا مستو بالنسبة إلى كلتا الحالتين ﴿فإنما عليك البلاغ﴾ وهو إمرار الشيء إلى منتهاه، وهو هنا الرسالة؛ وليس عليك أن تحاربهم ولا أن تأتيهم بالمقترحات ﴿وعلينا الحساب *﴾ وهو جزاء كل عامل بما عمل في الدنيا والآخرة، ولنا القوة التامة عليه؛ والآية
363
من الاحتباك - كما مضى بيان ذلك في مثلها من سورة يونس عليه السلام.
364
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير في تحقيق أنه سبحانه قادر على الجزاء لمن أراد: ألم يروا أنا أهلكنا من قبلهم وكانوا أقوى منهم شوكة وأكثر عدة؟ عطف عليه قوله: ﴿أولم يروا أنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿نأتي الأرض﴾ التي هؤلاء الكفرة بها، فكأنه قيل: أي إتيان؟ فقيل: إتيان البأس إذا أردنا، والرحمة إذا أردنا ﴿ننقصها﴾ والنقص: أخذ شيء من الجملة تكون به أقل ﴿من أطرافها﴾ بما يفتح الله على المسلمين مما يزيد به في أرض أهل الإسلام بقتل بعض الكفار واستسلام البعض حتى يبيد أهلها على حسب ما نعلمه حكمة من تدبير الأمور وتقليبها حالاً إلى حال حتى تنتهي إلى مستقرها بعد الحساب في دار ثواب أو عقاب، وذلك أن المسلمين كانوا يغزون ما يلي المدينة الشريفة من أطراف بلاد الكفار كما أرشد تعالى إليه بقوله: ﴿قاتلوا الذين يلونكم من الكفار﴾ فيفتحونها أولاً فأولاً حتى دان العرب كلهم طوعاً أو كرهاً بعد قتل السادة وذل القادة - ولله غالب على أمره؛ والطرف:
364
المنتهى، وهو موضع من الشيء ليس وراءه منه شيء، وأطراف الأرض: جوانبها، وكان يقال: الأطراف: منازل الأشراف، يطلبون القرب على الأضياف؛ ثم أثبت لنفسه تعالى أمراً كلياً يندرج ذلك فيه، فقال لافتاً الكلام من أسلوب التكلم بالعظمة إلى غيبة هي أعظم العظمة بالاسم الأعظم: ﴿والله﴾ أي الملك الأعلى ﴿يحكم﴾ ما يريد لأنه ﴿لا معقب﴾ أي أراد، لأن التعقيب: رد الشيء بعد فصله ﴿لحكمه﴾ وقد حكم للإسلام بالغلب والإقبال، وعلى الكفر بالانتكاس والإدبار، وكل من حكم على غير هذه الصفة فليس بحاكم، وذلك كاف في الخوف من سطوات قدرته ﴿وهو﴾ مع تمام القدرة ﴿سريع الحساب *﴾ جزاءه محيط بكل عمل لا يتصور أن يفوته شيء فلا بد من لقاء جزائه، وكل ما هو آت سريع، وهو مع ذلك يعد لكل عمل جزاءه على ما تقتضيه الحكمة من عدل أو فضل حين صدوره، لا يحتاج إلى زمان ينظر فيه ما جزاءه؟ ولا: هل عمل أو لا؟ لأنه لا تخفى عليه خافية؛ والسرعة: عمل في قلة المدة على ما تحده الحكمة، والإبطاء: عمله في طول مدة خارجة عن الحكمة، والسرعة محمودة، والعجلة مذمومة، وهو تعالى قادر على الكفرة وإن كانوا
365
كالقاطعين بأنهم يغلبون، لما لهم من القوة والكثرة، مع جودة الآراء وحدة الأفكار والقدرة بالأموال وإن اشتد مكرهم، فهو لا يغني عنهم شيئاً، فقد مكروا بك غير مرة ثم لم أزدك إلا علواً ﴿وقد مكر الذين﴾ ولما كان المراد بالمكرة إنما هو بعض الناس في بعض الزمان قال: ﴿من قبلهم﴾ أي بالرسل وأتباعهم، فكان مكرهم وبالاً عليهم، فطوى في هذه الجملة مكرهم الذي اجتمعوا عليه غير مرة وأتقنوه بزعمهم، فكان سبب الرفعة للإسلام وأهله وذل الشرك وأهله، ودل على ذلك المطوي بواو العطف في قوله ﴿وقد﴾ وطوى في الكلام السابق إهلاك الأمم الماضية في الاستدلال على قدرته على الجزاء الذي هو روح الحساب ودل عليه بواو العطف في ﴿أولم يروا﴾ فتأمل هذا الإبراز في قوالب الإعجاز.
ولما كان ذلك كذلك، تسبب عنه أن يقال: ﴿فلله﴾ أي الملك الأعظم المحيط علمه وقدرته خاصة ﴿المكر جميعاً﴾ والمكر: الفتل عن البغية بطريق الحيلة، ويلزمه الستر - كما مضى بيانه، ولا شيء أستر عن العباد من أفعاله تعالى: فلا طريق لهم إلى علمها
366
إلا من جهته سبحانه، وسمي فعله مكراً مجازاً لأنه ناشىء عن مكرهم جزاء لهم؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿يعلم﴾ ويجوز أن يكون تفسيراً لما قبله، لأن علم المكر من الماكر مكن حيث لا يشعر أدق المكر ﴿ما تكسب كل نفس﴾ أي من مكر وغيره، فيجازيهم إذا أراد بأن ينتج عن كل سبب أقاموه مسبباً يكون ضد ما أرادوا، ولا تمكنهم إرادة شيء إلا بإرادته، فستنظرون ماذا يحل بهم من بأسه بواسطتكم أو بغيرها حتى تظفروا بهم فتبيدوهم أجمعين ﴿وسيعلم الكافر﴾ أي كل كافر بوعد لا خلف فيه، إن كان من الجهل بحيث لا يعلم الأشياء إلا بالتصريح أو الحس ﴿لمن عقبى الدار *﴾ حين نأتيهم ضد مرادهم؛ والكسب: الفعل لاجتلاب النفع أو دفع الضر.
ولما تقدم قوله تعالى: ﴿ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية﴾ عطف عليه - بعد شرح ما استتبعه - قوله: ﴿ويقول الذين كفروا﴾ أي أوجدوا الكفر ولو على أدنى الرتب، قولاً على سبيل التكرار: ﴿لست مرسلاً﴾ لكونك لا تأتي بمقترحاتهم مع أنه لم يقل يوماً: إنه قادر عليها، فكأنه قيل: فما أقول لهم؟ فقال: ﴿قل كفى﴾
367
والكفاية: وجود الشيء على مقدار الحاجة؛ ومعنى الباء في ﴿بالله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة - التأكيد، لأن الفعل جاز أن يضاف إلى غير فاعله إذا أمر به أزيل هذا الاحتمال من وجهين: جهة الفاعل وجهة صرف الإضافة ﴿شهيداً﴾ أي بليغ العلم في شهادته بلاطلاع على ما ظهر وما بطن ﴿بيني وبينكم﴾ يشهد بتأييد رسالتي وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية وأوضح من الدلالة بهذا الكتاب، ويشهد بتكذيبكم بادعائكم القدرة على المعارضة وترككم لها عجزاً، وهذا على مراتب الشهادة، لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كما شهد به، والمعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بأن ما جاءت لأجله كما هو ﴿ومن عنده علم الكتاب﴾ مما أنزله فيه من الأصول والفروع والخبر عما كان يكون على نحو من الأساليب ونمط من المناهيج أخرس الفصحاء، وأبكم البلغاء، وأبهت الحكماء، وهو الله تعالى، تأييداً وتحقيقاً لدعواي، ويؤيد أن المراد به «الله» قراءة ﴿من﴾ على أنها جارة، وفي سوقه هكذا على طريق الإبهام من ترويع النفس بهزّها إلى تطلب المتصف بهذا الوصف ما ليس في التعيين، فهو إذن كدعوى الشيء مقروناً بدليله، فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أن المنزل حق من عنده وأنهم لا يؤمنون - والله الموفق.
368
سورة إبراهيم
بسم الله (الذي تفرد بالكمال، وعز عن أن يكون له كفو أو مثال) الرحمن (لجميع خلقه بكتاب هو الغاية في البيان) الرحيم (الذي اختار من عباده من ألزمهم روح وداده) الر (مقصود السورة التوحيد، وبيان أن هذا الكتاب غاية البلاغ إلى الله، لأنه كافل ببيان الصراط الدال عليه المؤدى إليه.
ناقل - بما فيه من الأسرار - للخلق من طور إلى طور - بما يشير إليه حرف الراء، وأدل ما فيها على هذا المرام قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أما التوحيد فواضح، وأما أمر الكتاب فلأنه من جملة دعائه لذريته الذين أسكنهم عند البيت المحرم من ذرية إسماعيل عليه السلام)) ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك وبعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم () [البقرة: ١٢٩].
ولما ختم الرعد بأنه لا شهادة تكافىء شهادة من عنده علم الكتاب إشارة إلى أن الكتاب هو الشاهد بإعجازه ببلاغته وما حوى من
369
فنون العلوم، وأتى به في ذاك السياق معرفاً لما تقدم من ذكره في البقرة وغيرها ثم تكرر وصفه في سورة يونس وهود ويوسف والرعد بأنه حكيم محكم مفصل مبين، وأنه الحق الثابت الذي تزول الجبال الرواسي وهو ثابت لا يتعتع شيء منه.
ولا يزلزل معنى من معانيه، ذكره في أول هذه السورة منكراً تنكير التعظيم فقال:
370
Icon