ولما حكم في آخر الليل بإسعاد الأتقياء، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتقى الخلق مطلقاً، وكان قد قطع عنه الوحي حيناً ابتلاء لمن شاء من عباده، وكان به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاح الدين والدنيا والآخرة، وكان الملوان سبب صلاح معاش الخلق وكثير من معادهم، أقسم سبحانه وتعالى بهما على أنه أسعد الخلائق دنيا
100
وأخرى، فقال مقدماً ما يناسب حال الأتقى الذي قصد به أبو بكر رضي الله عنه قصداً أولياً من النور الذي يملأ الأقطار، ويمحو كل ظلام يرد عليه ويصل إليه، مفهماً بما ذكر من وقت الضياء الناصع حالة أول النهار وآخر الليل التي هي ظلمة ملتف بساقها ساق النهار عند الإسفار:
﴿والضحى *﴾ فذكر ما هو أشرف النهار وألطفه وهو زهرته، وأضوأه وهو صدره، وذلك وقت ارتفاع الشمس لأن المقسم لأجله أشرف الخلائق، وذلك يدل على أنه يبلغ من الشرف ما لا يبلغه أحد من الخلق.
ولما ذكر النهار بأشرف ما فيه مناسبة لأجل المقسم لأجله، أتبعه الليل مقيداً له بما يفهم إخلاصه لأنه ليس لأشرف ما فيه اسم يخصه فقال:
﴿والّيل﴾ أي الذي به تمام الصلاة؛ ولما كان أوله وآخر النهار وآخره وأول النهار ضوءاً ممتزجاً بظلمة لالتفات ساق الليل بساق النهار، قيد بالظلام الخالص فقال:
﴿إذا سجى *﴾ أي سكن أهله أو ركد ظلامه وإلباسه وسواده واعتدل فخلص فغطى بظلامه كل شيء، والمتسجي: المتغطي، ومع تغطيته سكنت ريحه، فكان في غاية الحسن، ويمكن أن يكون الأول مشيراً إلى ما يأتي به هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المحكم، والثاني مشيراً إلى المتشابه، وهذا الأربعة
101
الأحوال للنور والظلمة - وهي ضوء ممتزج بظلمة، وظلمة ممتزجة بضوء، وضياء خالص وظلام خالص - الحاصلة في الآفاق في الإنسان مثلها، فروحه نور خالص، وطبعه ظلام حالك، وقلبه نور ممتزج بظلمة النفس، والنفس ظلمة ممتزجة بنور القلب، فإن قويت شهوة النفس على نورانية القلب أظلم جميعه، وإن قويت نورانية القلب على ظلمة النفس صار نورانياً، وإن غلبت الروح على الطبع تروحن فارتفع عن رتبة الملائكة، وإن غلب الطبع على الروح أنزله عن رتبة البهائم كما قال تعالى:
﴿إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً﴾ [الأعراف: ١٧٩].
ولما أقسم بهذا القسم المناسب لحاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أجابه بقوله تعالى:
﴿ما ودعك﴾ أي تركك تركاً يحصل به فرقة كفرقة المودع ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع
﴿ربك﴾ أي الذي أحسن إليك بإيجادك أولاً، وجعلك أكمل الخلق ثانياً، ورباك أحسن تربية ثالثاً، كما أنه لا يمكن توديع الليل للنهار بل الضحى للنهار الذي هو أشد ضيائه، ولا يمكن توديع الضحى للنهار ولا الليل وقت سجوه له.
ولما كان ربما تعنت متعنت فقال: ما تركه ولكنه لا يحبه، فكم
102
من مواصل وليس بواصل، قال نافياً لكل ترك:
﴿وما قلى *﴾ أي وما أبغضك بغضاً ما، وحذف الضمير اختصاراً لفظياً ليعم، فهو من تقليل اللفظ لتكثير المعنى، وذلك لأنه كان انقطاع عنه الوحي مدة لأنهم سألوه عن الروح وقصة أهل الكهف وذي القرنين فقال:
«أخبركم بذلك غداً»، ولم يستثن، فقالوا: قد ودعه ربه وقلاه، فنزلت لذلك، ولما نزلت كبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان التكبير فيها وفيما بعدها سنة كما يأتي إيضاحه وحكمته آخرها، وقد أفهمت هذه العبارة أن المراتب التقريبية أربع: تقريب بالطاعات ومحبة وهي للمؤمنين، وإبعاد بالمعاصي وبغض وهي للكفار، وتقريب بالطاعات مخلوط بتبعيد للمعاصي وهي لعصاة المؤمنين، وإعراض مخلوط بتقريب بصور طاعات لا قبول لها وهي لعباد الكفار.
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: لما قال تعالى:
﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ [الشمس: ٨] ثم أتبعه بقوله في الليل:
﴿فسنيسره﴾ [الليل: ٧ - ١٣] وبقوله:
﴿إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى﴾ [الليل: ٧ - ١٣]، فلزم الخوف واشتد الفزع وتعين على الموحد الإذعان للتسليم والتضرع في التخلص والتجاؤه إلى السميع العليم، أنس تعالى أحب عباده إليه وأعظمهم منزلة لديه، وذكر له
103
ما منحه من تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له فقال تعالى:
﴿والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى﴾ ثم عدد تعالى عليه نعمه بعد وعده الكريم له بقوله:
﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ وأعقب ذلك بقوله:
﴿فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر﴾ فقد آويتك قبل تعرضك وأعطيتك قبل سؤالك، فلا تقابله بقهر من تعرض وانتهار من سأل، وقد حاشاه سبحانه عما نهاه عنه ولكنه تذكير بالنعم وليستوضح الطريق من وفق من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحسبك من تعرف رحمته ورفقه
﴿وكان بالمؤمنين رحيماً﴾ [الأحزاب: ٤٣]
﴿عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾ [التوبة: ١٢٨] ثم تأمل استفتاح هذه السورة ومناسبة ذلك المقصود ولذلك السورة قبلها برفع القسم في الأولى بقوله: {والليل إذا
104
يغشى} [الليل: ١] تنبيهاً على إبهام الأمر في السلوك على المكلفين وغيبة حكم العواقب، وليناسب هذا حال المتذكر بالآيات وما يلحقه من الخوف مما أمره غائب عنه من تيسيره ومصيره واستعصامه به يحصل اليقين واستصغار درجات المتقين، ثم لما لم يكن هذا غائباً بالجملة
105
عن آحاد المكلفين أعني ما يثمر العلم اليقين ويعلي من أهل للترقي في درجات المتقين، بل قد يطلع سبحانه خواص عباده - بملازمته التقوى والاعتبار - على واضحة السبيل ويريهم مشاهدة وعياناً ما قد انتهجوا قبل سبيله بمشقة النظر في الدليل، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحارثة:
«وجدت فالزم» وقال مثله للصديق، وقال تعالى:
﴿لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ [يونس: ٦٤]
﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ [فصلت: ٣٠] فلم يبق في حق هؤلاء ذلك الإبهام، ولا كدر خواطرهم بتكاثف ذلك الإظلام، بما منحهم سبحانه وتعالى من نعمة الإحسان بما وعدهم في قوله:
﴿يجعل لكم فرقاناً﴾ [الأنفال: ٢٩] و
﴿يجعل لكم نوراً تمشون به﴾ [الحديد: ٢٨]
﴿أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾ [الأنعام: ١٢٢] فعمل هؤلاء على بصيرة، واستولوا اجتهاداً بتوفيق ربهم على أعمال جليلة خطيرة، فقطعوا عن الدنيا الآمال، وتأهبوا لآخرتهم بأوضح الأعمال
﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع﴾ [السجدة: ١٦]
﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ [السجدة: ١٧] فلابتداء الأمر وشدة الإبهام والإظلام أشار قوله سبحانه وتعالى:
﴿والليل إذا يغشى﴾ ولما يؤول إليه الحال في حق من كتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه أشار قوله سبحانه وتعالى:
﴿والنهار إذا تجلى﴾ ولانحصار السبل وإن تشعبت في طريقي
﴿فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ [التغابن: ٢]
﴿فريق في الجنة وفريق في السعير﴾ [الشورى: ٧] أشار قوله سبحانه وتعالى:
﴿وما خلق الذكر والأنثى﴾ [الليل: ٣]
﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين﴾ [الذاريات: ٤٩]
﴿ففروا إلى الله﴾ [الذاريات: ٥٠] الواحد مطلقاً، فقد وضح لك إن شاء الله بعض ما يسر من تخصيص هذا القسم - والله أعلم، أما سورة الضحى فلا إشكال في مناسبة في استفتاح القسم بالضحى لما يسره به سبحانه لا سيما إذا اعتبر ما ذكر من سبب نزول السورة، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قد فتر عنه الوحي حتى قال بعض الكفار: قلى محمداً ربه، فنزلت السورة مشعرة عن هذه النعمة والبشارة - انتهى.
ولما ذكر حاله في الدنيا بأنه لا يزال يواصله بالوحي والكرامة، ومنه ما هو مفتوح على أمته من بعده روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«أريت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كَفراً كَفراً فسرني ذلك» فلما كان ذلك وكان ذكره على وجه شمل الدارين صرح بالآخرة التي هي أعلى وأجل،
106
ولأدنى من يدخلها فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فكيف بما له صلىلله عليه وسلم، فقال مؤكداً لذلك كما أكد الأول بالقسم بما لهم فيه من الإنكار:
﴿وللآخرة﴾ أي التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خالصة عن شوائب الكدر أو الحالة المتأخرة لك ليفهم منه أنه لا يزال في ترق من عليّ إلى أعلى منه وكامل إلى أكمل منه دائماً أبداً لا إلى نهاية
﴿خير﴾ وقيد بقوله:
﴿لك﴾ لأنه ليس كل أحد كذلك
﴿من الأولى *﴾ أي الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص كما أن النهار الذي هو بعد الليل خير منه وأشرف ولا سيما الضحى منه، وقد أفهم ذلك أن الناس على أربعة أقسام: منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم من له الشر فيهما وهم الكفرة الفقراء، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشر الآخرة وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شر في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء، قد قال:
الناس في الدنيا على أربع... والنفس في فكرتهم حائره
فواحد دنياه مقبوضة... إن له من بعدها آخره
وواحد دنياه مبسوطة... ليس له من بعدها آخره
وواحد قد حاز حظيهما... سعيد في الدنيا وفي الآخره
107
وواحد يسقط من بينهم | فذلك لا دنيا ولا آخره |
ولما ذكر سبحانه الدنيا والآخرة، ذكر ما يشملهما مما زاده من فضله، فقال مصدراً بحرف الابتداء تأكيداً للكلام لأنهم ينكرونه وليست للقسم لأنها إذا دخلت على المضارع لزمته النون المؤكدة، وضم هذه اللام إلى كلمة التنفيس للدلالة على أن العطاء وإن تأخر وقته لحكمة كائن لا محالة:
﴿ولسوف يعطيك﴾ أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة
﴿ربك﴾ أي الذي لم يزل يحسن إليك بوعد الدنيا ووعد الآخرة
﴿فترضى *﴾ أي فيتعقب على ذلك ويتسبب عنه رضاك. وهذا شامل لما منحه بعد كمال النفس من كمال العلم وظهور الأمر وإعلاء الدين وفتح البلاد ودينونة العباد ونقص ممالك الجبابرة، وإنهاب كنوز الأكاسرة والقياصرة، وإحلال الغنائم حتى كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، وشامل لما ادخره له سبحانه وتعالى في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود، والشفاعة العظمى إلى غير ذلك مما لا يدخل تحت الحدود، وقد أفهمت العبارة أن الناس أربعة أقسام: معطى راض، وممنوع غير راض، ومعطى
108
غير راض، وممنوع راض، وعن علي رضي الله عنه أنها أرجى آية في القرآن لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرضى واحداً من أمته في النار.
109
ولما وعده بأنه لا يزال في كل لحظة يرقيه في مراقي العلا والشرف، ذكره بما رقاه به قبل ذلك من حين توفي أبوه وهو حمل وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فتم يتمه من الأبوين قبل بلوغه لئلا يكون عليه - كما قال جعفر الصادق - حق لمخلوق، فقال مقرراً له:
﴿ألم يجدك﴾ أي يصادفك أي يفعل بك فعل من صادف آخر حال كونه
﴿يتيماً فآوى *﴾ ولما كان يلزم من اليتم في الغالب عدم العلم لليتيم لتهاون الكافل، ومن عدم العلم الضلال، قال مبيناً أن يتمه وإهماله من الحمل على دينهم كان نعمة عظيمة عليه لأنه لم يكن على دين قومه في حين من الأحيان أصلاً:
﴿ووجدك﴾ أي صادفك
﴿ضالاً﴾ أي لا تعلم الشرائع
﴿ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان﴾ [الشورى: ٥٢] فأطلق اللازم وهو الضلال على الملزوم، والمسبب على السبب، وهو عدم العلم، فكنت لأجل ذلك لا تقدم على فعل من الأفعال لأنك لا تعلم الحكم فيه إلا ما علمت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة المستقيمة من التوحيد وبعض توابعه، وهذا هو التقوى كما تقدم في الفاتحة، ولم يرد به حقيقته وإنما أعراه من التعلق بشيء من الشرائع ونحوها بإعدام من يحمله على ذلك ليفرغه
109
ذلك التأمل بنفسه فيوصله بعقله السديد إلى الاعتقاد الحق في الأصول والوقوف في الفروع
﴿فهدى *﴾ أي فهداك هدى محيطاً بكل علم، فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر ما لم تكن تعلم.
ولما كان العيال يمنعون من التفرغ لعلم أو غيره قال:
﴿ووجدك﴾ أي حال كونك
﴿عائلاً﴾ أي ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم أو فقيراً، قال ابن القطاع: عال الرجل: افتقر، وأعال: كثر عياله.
﴿فأغنى *﴾ بما جعل لك من ربح التجارة ثم من كسب الغنائم وقد أفهم ذلك أن الناس أربعة أقسام: منهم من وجد الدين والدنيا، ومنهم من عدمهما، ومنهم من وجد الدين لا وجد الدنيا، ومنهم من وجد الدنيا لا الدين. ولما ذكره بما أنعم عليه به من هذه النعم الثلاث أوصاه بما يفعل في ثلاث مقابلة لها، فقال مسبباً عنه مقدماً معمول ما بعد الفاء عليها اهتماماً:
﴿فأما اليتيم﴾ أي هذا النوع
﴿فلا تقهر *﴾ أي تغلبه على شيء فإنما أذقتك اليتم تأديباً بأحسن الآداب لتعرف ضعف اليتيم وذله، وفوق ذلك كفالته وهي خلافة عن الله لأن اليتيم لا كافل له إلا الله، ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أنا وكافل اليتيم كهاتين» - وأشار بالسبابة والوسطى.
110
ولما بدأ بما كان بداية له، ثنى بما هو نهاية له من حيث كونه يصير رأس الخلق فيصير محط الرجال في كل سؤال من علم ومال، فقال مقدماً له اهتماماً به إشارة إلى أنه جبر الخواطر واستئلاف الخلق من أعظم المقاصد في تمام الدين:
﴿وأما السائل﴾ أي الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال
﴿فلا تنهر *﴾ أي تزجر زجراً مهيناً، فقد علمت مضاضة العيلة، بل أعطه ولو قليلاً، أو رده رداً جميلاً، وكذا السائل في العلم.
ولما ذكر له تفصيل ما يفعل في اليتيم والفقير والجاهل، أمره بما يفعل في العلم الذي آتاه إياه إعلاماً بأنه الآلة التي يستعملها في الأمرين الماضيين وغيرهما لأنها أشرف أحوال الإنسان وهي أوفق الأمور لأن يكون مقطع السورة لتوافق مطلعها فقال:
﴿وأما بنعمة ربك﴾ أي الذي أحسن إليك بإصلاح جميع ما يهمك من العلم وغيره وبالهجرة ومبادئها عند تمام عدد آيها من السين وهي إحدى عشرة
﴿فحدث *﴾ أي فاذكر النبوة وبلغ الرسالة فاذكر جميع نعمه عليك فإنها نعم على الخلق كافة، ومنها إنقاذك بالهجرة من أيدي الكفرة وإعزازك بالأنصار، وتحديثك بها شكرها، فإنك مرشد يحتاج الناس إلى الاقتداء بك، ويجب عليهم أن يعرفوا لك ذلك ويتعرفوا مقدارك ليؤدوا
111
حقك، فحدثهم أني ما ودعتك ولا قليتك، ومن قال ذلك فقد خاب وافترى، واشرح لهم تفاصيل ذلك بما وهبتك من العلم الذي هو أضوأ من ضياء الضحى وقد رجع آخرها على أولها بالتحديث بهذا القسم والمقسم لأجله، وما للملك الأعلى في ذلك من عميم فضله: ولقد امتثل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابتدأ هذا التحديث الذي يشرح الصدور، ويملأ الأكوان من السرور، والنعمة والحبور، لأنه بأكبر النعم المزيلة لكل النقم بالتكبير كما ورد في قراءة ابن كثير وفي رواية السوسي عن أبي عمرو، واختلف القراء في ابتدائه وانتهائه ولفظه، فقال بعضهم: هو من أول الضحى، وقال آخرون: من آخرها، وقال غيرهم من أول الشرح، فمن قال للأول لم يكبر آخر الناس، ومن قال للآخر انتهى تكبيره بالتكبير في آخرها، وسببه أن جبريل عليه الصلاة والسلام لما أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد فترة الوحي، فتلا السورة عليه كبر مسروراً لما كان أحزنه من الفترة ومن قول المشركين: قلاه ربه، وتحديثاً بالنعم التي حباه الله بها في هذه السورة له ولأمته
112
امتثالاً لما أمر به واختلف عنهم في لفظه، فمنهم من اقتصر على
«الله أكبر» ومنهم من زاد التهليل فقال:
«لا إله إلا الله والله أكبر» وهذا هو المستعمل، ومنهم من زاد
«ولله الحمد» والراجح قول من قال: إنه لآخر الضحى إسناداً ومعنى، لأنها وإن كانت هي السبب والعادة جارية بأن من دهمه أمر عظيم يكبر مع أوله، لكن شغله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإصغاء إلى ما يوحى إليه منعه من ذلك، فلما ختمت السورة تفرغ له، فكان ذلك الوقت كأنه ابتداء مفاجأة ذلك الأمر العظيم له، وزاد ما في السورة من جلائل النعم المقتضية للتحميد وما في ذلك من بدائع الصنع الموجب للتهليل، وقد علم بذلك سبب من ظنه في أولها، وأما من ظنه لأول الشرح فكونه كان في آخر الضحى، فإذا وصل بها
«ألم نشرح» ألبس الحال، وتعليق الأشياء بالأوائل هو الأمر المعتاد، وحكمته مع ما مضى من سببه أن التهليل توحيده سبحانه وتعالى بالأمر، وامتناع شريك يمنعه من شيء يريده من الوحي وغيره، والتكبير تفريده له بالكبرياء تنزيهاً له عن شوب نقص يلم به من أن يتجدد له علم ما لم يكن ليكون ذلك سبباً
113
لقطع من وصله بوحي أو غيره، والتحميد إثبات التفرد بالكمال له على إسباغ نعمه، وفي ذلك أن هذه السورة آذنت بأن القرآن أشرف على الختام، لأن عادة الحكماء من المدبرين تخفيف المنازل في الأواخر على السائرين كتخفيف أول مرحلة رفقاً بالمقصرين، فناسب الذكر بهذا عند الآخر لأن تذكر الانقضاء يهيج مثل ذلك عند السالك، ولأن تقصير السور ربما أوهم شيئاً مما لا يليق، فسن التنزيه بتكبيره سبحانه وتعالى عن كل ما يوهم نقصاً، وإثبات الكمال له بالتوحيد منبه على الحث على تدبر ما في هذه السورة من الجمع للمعاني على وجازتها وقصر آياتها وحلاوتها مع ما في ذلك من تخفيف التعليم، والتدريب على الحفظ في المبادىء والتحبيب فيه والتهييم، والتحميد على إتمام النعمة على غاية الإحكام من لدن حكيم عليم.
114
سورة الشرح
مقصودها تفصيل ما في آخر الضحى من النعمة، وبيان ان المراد بالتحديث ببها هو شكرها بالنصب في عبادة الله والرغبة إليه بتذكر إحسانه وعظيم رحمته بوصف الربوبية وامتنانه، وعلى ذلك دل اسمها الشرح) بسم الله (الذي جل أمره وتعالى جده ولا إله غيره فعظم ما له من إنعام) الرحمن (الذي أفاض جوده على سائر خلقه لأنه ذو الجلال والإكرام) الرحيم (الذي إلى أهل حضرته بخاص رحمته في مقامات الاختصاص إلى أعلى مقام.
115