تفسير سورة النساء

نظم الدرر
تفسير سورة سورة النساء من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة النساء١
مقصودها الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه آل عمران، والكتاب الذي حدت عليه البقرة لأجل الدين الذي جمعته الفاتحة تحذيرا مما أراده شأس ٢ بن قيس وأنظاره من الفرقة، وهذه /السورة من أواخر٣ ما نزل، روى البخاري في فضائل القرآن عن يوسف بن ماهك أن عراقيا سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تريه مصحفها، فقالت : لم ؟ قال : لعلي أؤلف٤ القرآن عليه، فإنه يقرأ غير مؤلف٥. قالت : و ما يضرك أيه قرأت٦ قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها٧ ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء " لا تشربوا " الخمر، لقالوا : لا ندع الخمر٨ أبدا، ولو نزل " لا تزنوا " لقالوا : لا ندع الزنا أبدا. لقد نزل بمكة٩ على محمد ١٠ وإني لجارية ألعب " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " ١١وما نزلت١٢ سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، قال : فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور١٣ انتهى. وقد عنت بهذا رضي الله عنها أن القرآن حاز أعلى١٤ البلاغة في إنزاله مطابقا لما تقتضيه١٥ الأحوال بحسب الأزمان، ثم رتب على أعلى وجوه البلاغة بحسب ما تقتضيه١٦ المفاهيم من المقال١٧ كما نشاهده من هذا الكتاب البديع المثال البعيد المنال.
ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت١٨ إليه السورتان قبلها من التوحيد، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادةً الأرحام العاطفة التي مدارها النساء سميت " النساء " لذلك، ولأن بالاتقاء فيهن تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد ﴿ بسم الله ﴾ الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج١٩ في لطائف المقدور ﴿ الرحمن ﴾ الذي جعل الأرحام رحمة عامة ﴿ الرحيم * ﴾ الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله٢٠ نعمة تامة.
١ مدنية، وعدة آياتها عند الشاميين مائة وسبع وسبعون، وعند الكوفيين ست وسبعون، وعند الباقين خمس وسبعون..
٢ في مد: ساس ـ كذا..
٣ من ظ ومد، وفي الأصل: الأواخر..
٤ من ظ ومد وصحيح البخاري، وفي الأصل: أوالف..
٥ من ظ ومد والصحيح، وفي الأصل: موالفة..
٦ من مد والصحيح، وفي الأصل وظ: قريب..
٧ في ظ: وقد أنزله..
٨ في ظ: خمرا..
٩ سقط من ظ..
١٠ ومن هنا إلى ص ١٧٢ أسسنا المتن على ظ لكون الأصل في غاية الانطماس..
١١ من مد والصحيح، وفي ظ: وقد أنزله..
١٢ من مد والصحيح، وفي ظ: وقد أنزله..
١٣ من مد والصحيح، وفي ظ و هامش الصحيح: السورة..
١٤ من مد، وفي ظ: على..
١٥ من مد، وفي ظ: يقتضيه، وزيد فيه بعده: في، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها..
١٦ من مد. وفي ظ: يقتضيه..
١٧ في مد: الحال..
١٨ من مد، وفي ظ: دلت..
١٩ زيدت الواو من مد..
٢٠ من مد، وظ..

ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت إليه السورتان قبلها
170
من التوحيد، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادةً الأرحام العاطفة التي مدارها النساء سميت «النساء» لذلك، ولأن بالاتقاء فيهم تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد ﴿بسم الله﴾ الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور ﴿الرحمن﴾ الذي جعل الأرحام رحمة عامة ﴿الرحيم *﴾ الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله نعمة تامة.
لما تقرر أمر الكتاب الجامع الذي هو الطريق، وثبت الأساس الحامل الذي هو التوحيد احتيج إلى الاجتماع على ذلك، فجاءت هذه السورة داعية إلى الاجتماع والتواصل والتعاطف والتراحيم فابتدأت بالنداء العام لكل الناس، وذلك أنه لما كانت أمهات الفضائل - كما تبين في علم الأخلاق - أربعاً: العلم والشجاعة والعدل والعفة، كما يأتي شرح ذلك في سورة لقمان عليه السلام، وكانت آل عمران داعية مع ما ذكر من مقاصدها إلى اثنين منها، وهما العلم والشجاعة - كما أشير إلى ذلك في غير آية ﴿نزل عليك الكتاب بالحق﴾ [آل عمران: ٣]، ﴿وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم﴾ [آل عمران: ٧]، ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم﴾ [آل عمران: ١٨] ﴿ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾ [آل عمران: ١٣٩] ﴿فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله﴾ [آل عمران: ١٤٦] ﴿فإذا عزمت فتوكل على الله﴾ [
171
آل عمران: ١٥٩] ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً﴾ [آل عمران: ١٦٩]، ﴿الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح﴾ [آل عمران: ١٧٢]، ﴿يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا﴾ [آل عمران: ٢٠٠]، وكانت قصة أحد قد أسفرت عن أيتام استشهد مورثوهم في حب الله، وكان من أمرهم في الجاهلية منع أمثالهم من الإرث جوراً عن سواء السبيل وضلالاً عن أقوم الدليل؛ جاءت هذه السورة داعية إلى الفضيلتين الباقيتين، وهما العفة والعدل مع تأكيد الخصلتين الأخريين حسبما تدعو إليه المناسبة، وذلك مثمر للتواصل بالإحسان والتعاطف بإصلاح الشأن للاجتماع على طاعة الديان، فمقصودها الأعظم الاجتماع على الدين بالاقتداء بالكتاب المبين، وما أحسن ابتداءها بعموم: ﴿يا أيها الناس﴾ بعد اختتام تلك بخصوص «يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا» الآية.
ولما اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من التكاليف، منها التعطف على الضعاف بأمور كانوا قد مرنوا على خلافها، فكانت في غاية المشقة على النفوس، وأذن بشدة الاهتمام بها بافتتاح السورة واختتامها بالحث عليها قال: ﴿اتقوا ربكم﴾ أي سيدكم ومولاكم المحسن إليكم بالتربية بعد الإيجاد، بأن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية، لئلا يعاقبكم بترك إحسانه إليكم فينزل بكم كل بؤس. ابتدأ هذه ببيان
172
كيفية ابتداء الخلق حثاً على أساس التقوى من العفة والعدل فقال: ﴿الذي﴾ جعل بينكم غاية الوصلة لتراعوها ولا تضيعوها، وذلك أنه ﴿خلقكم من نفس واحدة﴾ هي أبوكم آدم عليه الصلاة والسلام مذكراً بعظيم قدرته ترهيباً للعاصي وترغيباَ للطائع توطئة للأمر بالإرث، وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعاً لسورتين: هذه وهي رابعة النصف الأول، والحج وهي رابعة النصف الثاني، وعلل الأمر بالتقوى في هذه بما دل على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حكمته من أمر المبدإ، وعلل ذلك في الحج بما صور المعاد تصويراً لا مزيد عليه، فدل فيها على المبدإ والمعاد تنبيهاً على أنه محط الحكمة، ما خلق الوجود إلا لأجله، لتظهر الأسماء الحسنى والصفات العلى أتم ظهور يمكن البشر الاطلاع عليه، وربت ذلك على الترتيب الأحكم، فقدم سورة المبدإ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوة طبق الآيات المرئية، وأبدع من ذلك كله وأدق أنه لما كان أعظم مقاصد السورة الماضية المجادلة في أمر عيسى، وأن مثله كمثل آدم عليهما الصلاة والسلام، وكانت حقيقة حاله أنه ذكرٌ يولّد من أنثى فقط بلا واسطة ذكر؛
173
بين في هذه السورة بقوله - عطفاً على ما تقديره جواباً لمن كأنه قال: كيف كان ذلك؟ - إنشاء تلك النفس، أو تكون الجملة حالية - ﴿وخلق منها زوجها﴾ أي مثله في ذلك أيضاً كمثل حواء: أمه فإنها أنثى تولدت من ذكر بلا واسطة أنثى فصار مثله كمثل كل من أبيه وأمه: آدم وحواء معاً عليهما الصلاة والسلام، وصار الإعلام بخلق آدم وزوجه وعيسى عليهم الصلاة والسلام - المندرج تحت آية بعضكم من بعض مع آية البث التي بعد هذه - حاصراً للقسمة الرباعية العقلية التي لا مزيد عليها، وهي بشر لا من ذكر ولا أنثى، بشر منهما، بشر من ذكر فقط، بشر من أنثى فقط؛ ولذلك عبر في هذه السورة بالخلق، وعبر عن غيرها بالجعل، لخلو السياق عن هذا الغرض، ويؤيد هذا أنه قال تعالى في أمر يحيى عليه الصلاة والسلام
﴿كذلك الله يفعل ما يشاء﴾ [آل عمران: ٤٠] وفي أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿يخلق ما يشاء﴾ [آل عمران: ٤٧]، وأيضاً فالسياق هنا للترهيب الموجب للتقوى، فكان بالخلق الذي هو أعظم في إظهار الاقتداء - لأنه اختراع الأسباب وترتيب المسببات عليها - أحق من الجعل الذي هو ترتيب المسببات على أسبابها وإن لم يكن اختراع - فسبحان العزيز العليم العظيم الحكيم!.
ولما ذكر تعالى الإنشاء عبر بلفظ الرب الذي هو من التربية، ولما
174
كان الكل - المشار إليه بقوله تعالى عطفاً على ما تقديره: وبث لكم منه إليها: ﴿وبث منهما﴾ أي فرق ونشر من التوالد، ولما كان المبثوث قبل ذلك عدماً وهو الذي أوجده من العدم نكر لإفهام ذلك قوله: ﴿رجالاً كثيراً ونساءً﴾ من نفس واحدة؛ كان إحسان كل من الناس إلى كل منهم من صلة الرحم، ووصف الرجال دونهن مع أنهن أكثر منهم إشارة إلى أن لهم عليهن درجة، فهم أقوى وأظهر وأطيب وأظهر في رأي العين لما لهم من الانتشار وللنساء من الاختفاء والاستتار.
ولما كان قد أمر سبحانه وتعالى أول الآية بتقواه مشيراً إلى أنه جدير بذلك منهم لكونه ربهم، عطف على ذلك الأمر أمراً آخر مشيراً إلى أنه يستحق ذلك لذاته لكونه الحاوي لجميع الكمال المنزه عن كل شائبة نقص فقال: ﴿واتقوا الله﴾ أي عموماً لما له من إحاطة الأوصاف كما اتقيتموه خصوصاً لما له إليكم من الإحسان والتربية، واحذروه وراقبوه في أن تقطعوا أرحامكم التي جعلها سبباً لتربيتكم.
ولما كان المقصود من هذه السورة المواصلة وصف نفسه المقدسة بما يشير إلى ذلك فقال: ﴿الذين تساءلون﴾ أي يسأل بعضكم بعضاً ﴿به﴾ فإنه لا يسأل باسمه الشريف المقدس إلا الرحمة والبر والعطف،
175
ثم زاد المقصود إيضاحاً فقال: ﴿والأرحام﴾ أي واتقوا قطيعة الأرحام التي تساءلون بها، فإنكم تقولون: ناشدتك بالله والرحم! وعلل هذا الأمر بتخويفهم عواقب بطشه، لأنه مطلع على سرهم وعلنهم مع ما له من القدرة الشاملة. فقال مؤكداً لأن أفعال الناس في ترك التقوى وقطيعة الأرحام أفعال من يشك في أنه بعين الله سبحانه: ﴿إن الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿كان عليكم﴾ وفي أداة الاستعلاء ضرب من التهديد ﴿رقيباً *﴾ وخفض حمزة «الأرحام» المقسم بها تعظيماً لها وتأكيداً للتنبيه على أنهم قد نسوا الله في الوفاء بحقوقها - كما أقسم بالنجم والتين وغيرهما، والقراءاتان مؤذنتان بأن صلة الأرحام من الله بمكان عظيم، حيث قرنها باسمه سواء كان عطفاً كما شرحته آية ﴿وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه﴾ [الإسراء: ٢٣]، وغيرها - أو كان قسماً، واتفق المسلمون على أن صلى الرحم واجبة، وأحقهم بالصلة الولد، وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال.
ولما بان من هذا تعظيمه لصلة الرحم بجعلها في سياق ذكره سبحانه وتعالى المعبر عنه باسمه الأعظم - كما فعل نحو ذلك في غير آية، وكان
176
قد تقدم في السورة الماضية ذكر قصة أحد التي انكشفت عن أيتام، ثم ذكر في قوله تعالى: ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾ [آل عمران: ١٨٥]، أن الموت مشرع لا بد لكل نفس من وروده؛ علم أنه له بد من وجود الأيتام في كل وقت، فدعا إلى العفة والعدل فيهم لأنهم بعد الأرحام أولى من يتقى الله فيه ويخشى مراقبته بسببه فقال: ﴿وآتوا اليتامى﴾ أي الضعفاء الذين انفردوا عن آبائهم، وأصل اليتيم الانفراد ﴿أموالهم﴾ أي هيئوها بحسن التصرف فيها لأن تؤتوهم إياها بعد البلوغ - كما يأتي، أو يكون الإيتاء حقيقة واليتم باعتبار ما كان.
أو باعتبار الاسم اللغوي وهو مطلق الانفراد، وما أبدع إيلاءها للآية الآمرة بعد عموم تقوى الله بخصوصها في صلة الرحم المختتمة بصفة الرقيب! لما لا يخفى من أنه لا حامل على العدل في الأيتام إلا المراقبة، لأنه لا ناصر لهم، وقد يكونون ذوي رحم.
ولما أمر بالعفة في أموالهم أتبعه تقبيح الشره الحامل للغافل على لزوم المأمور به فقال: ﴿ولا تتبدلوا﴾ أي تكلفوا أنفسكم أن تأخذوا على وجه البدلية ﴿الخبيث﴾ أي من الخباثة التي لا أخبث منها،
177
لأنها تذهب بالمقصود من الإنسان، فتهدم - جميع أمره ﴿بالطيب﴾ أي الذي هو كل أمر يحمل على معالي الأخلاق الصائنة للعرض، المعلية لقدر الإنسان؛ ثم بعد هذا النهي العام نوّه بالنهي عن نوع منه خاص، فقال معبراً بالأكل الذي كانت العرب تذم بالإكثار منه ولو أنه حلال طيب، فكيف إذا كان حراماً ومن مال ضعيف مع الغنى عنه: ﴿ولا تأكلوا أموالهم﴾ أي تنتفعوا بها أيّ انتفاع كان، مجموعة ﴿إلى أموالكم﴾ شرهاً وحرصاً وحباً في الزيادة من الدنيا التي علمتم شؤمها وما أثرت من الخذلان في آل عمران، وعبر بإلى إشارة إلى تضمين الأكل معنى الضم تنبيهاً على أنها متى ضمت إلى مال الولي أكل منها فوقع في النهي، فحض بذلك على تركها محفوظة على حيالها؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنه﴾ أي الأول ﴿كان حوباً﴾ أي إثماً وهلاكاً ﴿كبيراً *﴾.
178
ولما كان تعالى قد أجرى سنة الإلهية في أنه لا بد في التناسل من توسط النكاح إلا ما كان من آدم وحواء وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكانوا قد أمروا بالعدل في أموال اليتامى، وكانوا يلون أمور يتاماهم، وكانوا ربما نكحوا من في حجورهم منهن، فكان ربما أوقفهم هذا التحذير من أموالهم عن النكاح خوفاً من التقصير في
178
حق من حقوقهن أتبعه تعالى عطفاً على ما تقديره: فإن وثقتم من أنفسكم بالعدل فخالطوهم بالنكاح وغيره: ﴿وإن خفتم﴾ فعبر بأداة الشك حثاً على الورع ﴿ألا تقسطوا﴾ أي تعدلوا ﴿في اليتامى﴾ ووثقتم من أنفسكم بالعدل في غيرهن ﴿فانكحوا﴾.
ولما كانت النساء ناقصات عقلاً وديناً، عبر عنهن بأداة ما لا يعقل إشارة إلى الرفق بهن والتجاوز عنهن فقال: ﴿ما﴾ ولما أفاد أنكحوا الإذن المتضمن للحل، حمل الطيب على اللذيذ المنفك عن النهي السابق ليكون الكلام عاماً مخصوصاً بما يأتي من آية المحرمات من النساء - ولا يحمل الطيب على الحل لئلا يؤدي - مع كونه تكراراً - إلى أن يكون الكلام مجملاً - لأن الحل لم يتقدم علمه، والحمل على العام المخصوص أولى، لأنه حجة في غير محل التخصيص، والمجمل ليس بحجة أصلاً - أفاده الإمام الرازي؛ فقال تعالى: ﴿طاب﴾ أي زال عنه حرج النهي السابق ولذّ، وأتبعه قيداً لا بد منه بقوله: ﴿لكم﴾ وصرح بما علم التزاماً فقال: ﴿من النساء﴾ أي من غيرهن ﴿مثنى وثلاث ورباع﴾ أي حال كون هذا المأذون في نكاحه موزَّعاً هكذا: ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً لكل واحد، وهذا الحكم عرف من العطف بالواو، ولو كان بأو لما أفاد التزوج إلا على أحد هذه الوجوه الثلاثة،
179
ولم يفد التخيير المفيد للجمع بينها على سبيل التوزيع، وهذا دليل واضح على أن النساء أضعاف الرجال، وروى البخاري في التفسير «عن عروة ابن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: ﴿وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى﴾ [النساء: ٣]، فقالت: يا ابن أختي! هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذه الآية، فأنزل الله عز وجل ﴿ويستفتونك في النساء﴾ [النساء: ١٢٧] قالت عائشة: وقول الله عز وجل في آية أخرى ﴿وترغبون أن تنكحوهن﴾ [النساء: ١٢٧] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، قالت: فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهم إذا كن قليلات المال والجمال» وفي رواية «
180
في النكاح»، فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق؛ وهذا الخطاب للأحرار دون العبيد، لأن العبد لا يستقل بنكاح ما طاب له، بل لا بد من إذن السيد.
ولما كان النساء كالتيامى في الضعف قال مسبباً عن الإذن في النكاح: ﴿فإن خفتم ألا تعدلوا﴾ أي في الجمع ﴿فواحدة﴾ أي فانكحوها، لأن الاقتصار عليها أقرب إلى العدل لأنه ليس معها من يقسم له فيجب العدل بينها وبينه ولما كان حسن العشرة المؤدي إلى العدل دائراً على اطراح النفس، وكان الإماء - لكسرهن بالغربة وعدم الأهل - أقرب إلى حسن العشرة سوّى بين العدد منهم إلى غير نهاية وبين الواحدة من الحرائر فقيل: ﴿أو ما﴾ أي انكحوا ما ﴿ملكت أيمانكم﴾ فإنه لا قسم بينهن، وذكر ملك اليمين يدل أيضاً على أن الخطاب من أوله خاص بالأحرار ﴿ذلك﴾ أي نكاح غير التيامى والتقلل من الحرائر والاقتصار على الإماء ﴿أدنى﴾ أي أقرب إلى ﴿ألا تعولوا *﴾ أي تميلوا بالجور عن منهاج القسط وهو الوزن المستقيم، أو تكثر عيالكم، أما عند الواحدة فواضح، وأما
181
عند الإماء فالبعزل، وعدم احتياج الرجل معهن لخادم له أو لهن، والبيع لمن أراد منهن، وأمرهن بالاكتساب، أو تحتاجوا فتظلموا بعض النساء، أو تأكلوا أموال التيامى؛ وكل معنى من هذه راجع إلى لازم لمعنى المادة الذي مدارها عليه، لأن مادة «علا» - واوية بجميع تقاليبها الست: علو، عول، لوع، لعو، وعل، ولع؛ ويائية بتركيبيها: ليع، عيل تدور على الارتفاع، ويلزمه الزيادة والميل، فمن الارتفاع: العلو والوعل والولع، ومن الميل والزيادة: العول، وبقية المادة يائيةً وواويةً إما للإزالة، وإما لأحد هذه المعاني - على ما يأتي بيانه؛ فعلا يعلو: ارتفع، والعالية: الفتاة القويمة - لأ، ها تكون أرفع مما ساواها وهو معوج، والعالية من محال الحجاز - لإشرافها على ما حولها، وكذا العوالي - لقرى بظاهر المدينة الشريفة - لأنها في المكان العالي الذي يجري ماؤه إلى غيره، والمعلاة: كسب الشرف، ومقبرة مكة بالحجون - لأنها في أعلى مكة وماؤها يصوب إلى ما دونه، وفلان من علية الناس، أي أشرافهم، والعلية بالتشديد: الغرفة، وعلى
182
حرف الاستعلاء، وتعلت المرأة من نفاسها، أي طهرت وشفيت - لأنها كانت في سفول من الحال، والعلاوة: رأس الجبل وعنقه، وما يحمل على البعير بين العدلين، ومن كل شيء: ما زاد عليه، والمعلى: القدح السابع من الميسر - لأنه الغاية في القداح الفائزة، لأن القداح عشرة: السبعة الأولى منها فائزة، والثلاثة الأخيرة مهملة لا أنصباء لها، وعلوان الكتاب: عنوانه وارتفاعه على بقية الكتاب واضح، والعليان: الطويل والضخم، والناقة المشرفة، ومن الأصوات: الجهيرة، والعلاة: السندان، والعلياء: رأس كل جبل مشرف، والسماء، والمكان العالي، وكل ما علا من شيء، وعليك زيداً: الزمه - لأنه يلزم من ملازمته له العلو على أمره، وعلا النهار: ارتفع وعلا الدابة: ركبها وأعلى عنها: نزل - كأنه من الإزالة وكذا علَّى المتاع عن الدابة تعلية: أنزله، وأعليت عن الوسادة وعاليت: ارتفعت وتنحيت، ورجل عالي الكعب: شريف، وعلَّى الكتاب تعلية: عنونه كعلونه، وعالوا نعيه: أظهروه، والعلي: الشديد القوي، وعليون في السماء
183
السابعة، وأخذه علواً: عنوة، والتعالي: الاتفاع، إذا أمرت منه قلت: تعال - بفتح اللام، ولها: تعالي - بفتح اللام، - ولو كنت في موضع أسفل من موضع المأمور، لأنه يحتاج إلى تطاول مهما كان بينك وبينه مسافة، ولأن الآمر أعلى من المأمور رتبة فموضعه كذلك، وتعلى: علا في مهلة، والمعتلي: الأسد؛ واللعو: السيء الخلق، والفسل، والشره الحريص، واللاعي: الذي يفزعه أدنى شيء، إما لأنه وصل إلى الغاية في السفول فتسنم أعلاها حتى رضي لنفسه هذه الأخلاق، وإما لأنه من باب الإزالة، أو التسمية بالضد، وذئبة لعوة وامرأة لعوة، أي حريصة، واللعوة: السواد بين حلمتي الثدي، إما لأن ذلك أعلاه، وإما لعلو لون السواد على لون الثدي، والألعاء: السلاميات، والسلامى عظم يكون في فرسن البعير،
184
وعظام الصغار في اليد والرجل، وذلك لأن العظام أعلى ما في الجسد في القوة والشدة والصلابة، وهي أعظم قوامه؛ واللاعية: شجيرة في سفح الجبل، لها نور أصفر، ولها لبن، وإذا ألقي منه شيء في غدير السمك أطفاها، أي جعلها طافية أي عالية على وجه الماء، سميت بذلك إما من باب الإزلاة نظراً إلى محل بيتها، وإما لأن ريحها يعلو كل ما خالطه ويكسبه طعمها وإما لفعلها هذا في السمك وتلعّى العسل: تعقّد وزناً ومعنى - إما من اللاعية لأنها كثيرة العقد، وإما من لازم العلو: القوة والشدة، ولعا لك - يقال عند العثرة، أي أنعشك الله؛ والعول: ارتفاع الحساب في الفرائض، والعول: الميل، وقدم تقدم أنه لازم للعلو، والعول: كل ما أمر غلبك، كأنه علا عنك فلم تقدر على نيله والمستعان به - لأنه لا يتوصل به إلى المقصود إلا وفيه علو، وقوت العيال - لأنه سبب علوهم، وعوّل عليه معولاً: اتكل
185
واعتمد، والاسم كعنب، وعيّل ككيس، وعال: جار والميزان: نقص أو زاد، فالزيادة من الارتفاع، والنقص من لازم الميل، وعالت الفريضة: ارتفعت أي زادت سهامها فدخل النقصان على أهل الفرائض، قال أبو عبيد: أظنه مأخوذاً من الميل، وعال أمرهم: اشتد وتفاقم، وعال فلان عولاً وعيالاً: كثر عياله، كأعول وأعيل، ورجل معيل ومعيّل ذو عيال، وأعال الرجل وأعول - إذا حرص، إما مما تقدم تخريجه، وإما لأنه لازم لذي العيال، وعال عليه: حمل، أي رفع عليه الحمول كعول، وفلان: حرص، والفرس، صوتت، وأعولت المرأة: رفعت صوتها بالبكاء، وعيل عوله: ثكلته أمه - لما يقع من صياحها، وعيل ما هو عائله: غلب ما هو غالبه، يضرب لمن يعجب من كلامه ونحوه لأنه لا يكون كذلك إلا وقد خرج عن أمثاله علواً، وقد يكون بسفول، فيكون من التسمية بالضد، والعالة: النعامة لأنها أطول الطير، وما له عال ولا مال: شيء ح لأن ذلك غاية في السفول إن كان عجزاً، وفي العلو إن كان زهداً، ويقال للعاثر: عالك عالياً.
كقولهم: لعا لك، والمعول: حديدة تنفر بها الجبال - من القوة اللازمة للعلو، والعالة، شبه الظلة يستر بها
186
من المطر؛ واللوعة: حرقة توجد من الحزن أو الحب أو المرض أو الهم - لأنها تعلو الإنسان، ولاعه الحب: أمرضه، وأتان لاعة الفؤاد إلى جحشها - كأنها ولهى فزعاً، ولاع يلاع: جزع أو مرض ورجل هاع لاع: جبان جزوع، أو حريص، أو سيىء الخلق - لما علاه من هذه الأخلاق المنافية للعقل وغلبه منها، ولاعته الشمس: غيرت لونه واللاعة أيضاً: الحديدة الفؤاد الشهمة - لأنه يعلوا غيره، وامرأة لاعة: التي تغازلك ولا تمكنك - لما لها في ذلك من الغلبة والعلو على القلوب؛ والوعل: تيس الجبل، والشريف، والملجأ، والوعلة: الموضع المنيع من الجبل، أو صخرة مشرفة منه، وهم علينا وعل واحد: مجتمعون، وما لك عن ذلك وعل، أي بد - إنه لولا علوه عليك ما اضطررت إليه والوعل: اسم شوال - كأنه لما له من العلو بالعيد والحج، والوعل ككتف: اسم شعبان ح لما له من العلو بتوسطه بين رجب وشوال، والوعلة أيضاً: عروة القميص
187
والزير زره والقدح والإبريق الذي يعلق بها فيعلو، ووعال كغراب: حصن باليمن، والمستوعل - بفتح العين: حرز الوعل، ووعل كوعد: أشرف، وتوعلت الجبل: علوته؛ وأولع فلان بكذا، أو ولع بالكسر: استخف، أي صار عالياً عليه غالباً له إطاقته حمله، وولع بحقه: ذهب، وولع بالفتح - إذا كذب، إما للإزالة وإما لأنه استخفه الكذب فحمله، وولع والع - مبالغة، أي كذب عظيم والمولع: الذي فيه لمع من ألوان - كأنه علا على تلك الألوان، أو غلب تلك الألوان أصل لونه، وعبارة القاموس: والتوليع: استطالة البلق، يقال برذون وثور مولع - كمعظم، والوليع: الطلع ما دام في قيقائه، أي وعائه. وهو قشرة الطلع لعلوه، وما أدري ما ولعه - بالفتح أي حبسه، إما للإزالة، لإنه لما منعه كان كأنه أزال علوه، وإما لأنه علا عليه، وأولعه به، أي أغراه، أي حمله عليه؛ والعيلة: الحاجة، وعال يعيل - إذا افتقر، وذلك إما من الإزالة، أو لأن الحاجة علته، أو لأنها ميل، وعالني الشيء: أعجزني، وعيل صبري: قل وضعف أي علاه من الأمر ما أضعفه، وعلت الضالة: لم أدر أين أبغيها، والمعيل:
188
الأسد والنمر والذئب - لأنه يعيل صيداً أي يلتمس فهو يرجع إلى العلو والقدرة على الطلب، وعالني الشيء: أعوزني - إما أزال علوي، أو علا عني، وعال في مشيه: تمايل واختال وتبختر - لأنه لا يفعله إلا عال في نفسه مع أنه كله من الميل، وعال في الأرض: ذهب أي علا عليها مشياً، والذكر من الضباع عيلان، والعيل محركة: عرضك حديثك وكلامك على من لا يريده وليس من شأنه - كأنه لم يهتد لمن يريده فعرضه على من لا يريده، فهو يرجع إلى الحاجة المزيلة للعلو؛ وليعة الجوع - بالفتح: حرقته - كما تقدم في اللوعة، ولعت - بالكسر: ضجرت، كأنه من الإزالة، أو أن العلو للأمر المتضجر منه، والملياع - علاها، والملياع: التي تقدم الإبل سابقة ثم ترجع إليها، وريح لياع - بالكسر: شديدة، وقد وضح بذلك صحة ما فسر به إمامنا الشافعي صريحاً ومطابقة - كما تقدم، وشهد له العول في الحساب والسهام، وهو كثرتها، وظهر تحامل من
189
رد ذلك وقال: إنه لا يقال في كثرة العيال إلا: عال يعيل، وكم من عائب قولا صحيحاً! وكيف لا وهو من الأئمة المحتج بأقوالهم في اللغة، وقد وافقه غيره وشهد لقوله الحديث الصحيح؛ قال الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني الشافعي في كتابه البيان: ﴿ألا تعولوا﴾ قال الشافعي: معناه أن لا تكثر عيالكم ومن تمونونه، وقيل: إن أكثر السلف قالوا: المعنى أن لا تجوروا، يقال: عال يعول - إذا جار وأعال يعيل - إذا كثر عياله؛ إلا زيد بن أسلم فإنه قال: معناه أن لا تكثر عيالكم، وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهد لذلك، قال:
«ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» انتهى.
وهذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما عن حكيم بن حزام عن أبي هريرة رضي الله عنهما بلفظ «أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» وفي الباب أيضاً عن عمران بن حصين وأبي رمثة البلوي وأبي أمامة رضي الله عنهم، وأثر زيد بن أسلم رواه الدارقطني والبيهقي من طريق سعيد بن أبي هلال عنه، قال: «ذلك أدنى أن لا يكثر من يعولونه» أفاده شيخنا ابن حجر
190
في تخريج أحاديث الرافعي وقال الإمام: إن تفسير الشافعي هو تفسير الجماعة، عبر عنه بالكناية وهي ذكر الكثرة، وأراد الميل لكون الكثرة، لا تنفك عنه، وقال ابن الزبير: لما تضمنت سورة البقرة ابتداء الخلق وإيجاد آدم عليه الصلاة والسلام من غير أب ولا أم، وأعقبت بسورة آل عمران لتضمنها - مع ذكر في صدرها - أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه كمثل آدم عليه الصلاة والسلام في عدم الافتقار إلى أب، وعلم الموقنون من ذلك أنه تعالى لو شاء لكانت سنة فيمن بعد آدم عليه الصلاة والسلام، فكأن سائر الحيوان لا يتوقف إلا على أم فقط؛ أعلم سبحانه أن من عدا المذكورين عليهما الصلاة والسلام من ذرية آدم سبيلهم سبيل الأبوين فقال تعالى: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم﴾ إلى قوله: ﴿وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء﴾ ثم أعلم تعالى كيفية النكاح المجعول سبباً في التناسل وما يتعلق به، وبين حكام الأرحام والمواريث فتضمنت السورة ابتداء الأمر وانتهاءه، فأعلمنا بكيفية التناكح وصورة الاعتصام واحترام بعضنا لبعض وكيفية تناول الإصلاح فيما بين الزوجين عند التشاجر والشقاق، وبين لنا ما ينكح
191
وما أبيح من العدد وحكم من لم يجد الطول وما يتعلق بهذا إلى المواريث، فصل ذلك كله إلا الطلاق.
لأن أحكامه تقدمت، ولأن بناء هذه السورة على التواصل والائتلاف ورعي حقوق ذوي الأرحام وحفظ ذلك كله إلى حالة الموت المكتوب علينا، وناسب هذا المقصود من التواصل والألفة ما افتتحت به السورة من قوله تعالى: ﴿الذي خلقكم من نفس واحدة﴾ [النساء: ١]، فافتتحها بالالتئام والوصلة ولهذا خصت من حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والمعدلة إبقاء لذلك التواصل فلم يكن الطلاق ليناسب هذا، فلم يقع له هنا ذكر إلا إيماء ﴿وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته﴾ [النساء: ١٣] ولكثرة ما يعرض من رعي حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة - ويدق ذلك ويغمض - تكرر كثيراً في هذه السورة الأمر بالاتقاء، وبه افتتحت ﴿اتقوا ربكم﴾ [النساء: ١]، ﴿واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام﴾ [النساء: ١]، ﴿ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله﴾ [النساء: ١٣١]، ثم حذروا من حال من صمم على الكفر وحال اليهود والنصارى والمنافقين وذوي التقلب في الأديان بعد أذن اليقين، وكل ذلك تأكيد لما أمروا به من الاتقاء، والتحمت الآيات إلى الختم
192
بالكلالة من المواريث المتقدمة - انتهى.
193
ولما حذروا من القول الذي من مدلوله المحاجة عن كثرة النساء؛ كان ربما تعلق به من يبخل عن بعض الحقوق، لا سيما ما يستكثره من الصداق، فأتبعه ما ينفي ذلك، فقال - مخاطباً للأزواج، لأن السياق لهم، معبراً بما يصلح للدفع والالتزام المهيىء له: ﴿وآتوا النساء﴾ أي عامة من اليتامى وغيرهن ﴿صدقاتهن﴾، وقوله مؤكداً للإيتاء بمصدر من معناه: ﴿نحلة﴾ مؤيد لذلك، لأن معناها: عطية عن طيب نفس؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: وأصله - أي النحل: إعطاء الشيء لا يراد به عوض وكذا إن قلنا: معنى النحلة الديانة والملة والشرعة والمذهب، أي آتوهن ذلك ديانة.
ولما وقع الأمر بذلك كان ربما أبى المتخلق بالإسلام قبول ما تسمح به المرأة منه بإبراء أو رد على سبيل الهبة - لظنه أن ذلك لا يجوز أو غير ذلك فقال: ﴿فإن طبن لكم﴾ أي متجاوزات ﴿عن شيء﴾ ووحّد الضمير ليرجع إلى الصداق المفهوم من الصدقات، ولم يقل: منها، لئلا يظن أن الموهوب لا يجوز إلا إن كان صداقاً كاملاً فقال: ﴿منه﴾ أي الصداق ﴿نفساً﴾ أي عن شهوة صادقة من غير إكراه
193
ولا خديعة ﴿فكلوه﴾ أي تصرفوا فيه بكل تصرف يخصكم ﴿هنيئاً﴾ أي سائغاً صالحاً لذيذاً في عافية بلا مشقة ولا مضرة ﴿مريئاً *﴾ أي جيد المغبة بهجا ساراً، لا تنغيص فيه، وربما كان التبعيض ندباً إلى التعفف عن قبول الكل، لأنه في الغالب لا يكون إلا عن خداع أو ضجر فربما أعقب الندم، وهذا الكلام يدل أيضاً على تخصيص الأحرار دون العبيد، لأنهم لا يملكون ماجعلته النساء لهم ليأكلوه هنيئاً. قال الأصبهاني: فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة علم أنها لم تطب نفسها، وعن الشعبي ان رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: ﴿فإن طبن لكم﴾ [النساء: ٤] قال: لو طابت نفسها لما رجعت فيه؛ وعنه قال: أقيلها فيما وهبت ولا أقيله، لأنهن يخدعن.
194
ولما أمر بدفع أموال اليتامى والنساء إليهم، ونهى عن أكل شيء منها تزهيداً في المال واستهانة به، وكان في النساء والمحاجير من الأيتام وغيرهم سفهاء، وأمر بالاقتصاد في المعيشة حذراً من الظلم والحاجة نهى عن التبذير، وقد حث سبحانه على حسن رعاية المال في غير آية من كتابه لأنه «نعم المال الصالح للرجل الصالح» رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص رفعه؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل ما يهمه من الدنيا، وما لم يتمكن من تحصيل ما يهمه من الدنيا لا يمكنه أمر الآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة ما يكفيه من المال - لأنه لا يتمكن في هذه الدار التي مبناها على الأسباب من جلب المنافع ودفع المضار إلا به، فمن أراده لهذا الغرض كان من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرين، ومن أراد لنفسه كان من أعظم المعوقات عن سعادة الآخرة فقال تعالى: ﴿ولا تؤتوا﴾ أيها الأزواج والأولياء ﴿السفهاء﴾ أي من محاجيركم ونسائكم وغيرهم ﴿أموالكم﴾ أي الأموال التي خلقها الله لعباده سواء كانت مختصة بكم أو بهم، ولكم بها علقة بولاية أو غيرها، فإنه يجب عليكم حفظها ﴿التي جعل الله﴾ أي الذي له
195
الإحاطة بالعلم الشامل والقدرة التامة ﴿لكم قياما﴾ أي ملاكاً وعماداً تقوم بها أحوالكم، فيكون ذلك سبباً لضياعها، فضياعها سبب لضياعكم، فهو من تسمية السبب باسم المسبب للمبالغة، في سببيته ﴿وارزقوهم﴾ متجرين ﴿فيها﴾ وعبر بالظرف إشارة إلى الاقتصاد واستثمار الأموال حتى لا تزال موضعاً للفضل، حتى تكون النفقة والكسوة من الربح لا من رأس المال ﴿واكسوهم﴾ أي فإن ذلك ليس من المنهيّ عنه، بل هو من معالي الأخلاق ومحاسن الأعمال ﴿وقولوا لهم﴾ أي مع ذلك ﴿قولاً معروفاً *﴾ أي في الشرع والعقل كالعدة الحسنة ونحوها، وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته من قول أو عمل وليس مخالفاً للشرع فهو معروف، فإن ذلك ربما كان أنفع في كثير من الإعطاء وأقطع للشر؛ والحجر على السفيه مندرج في هذه الآية، لأن ترك الحجر عليه من الإيتاء المنهي عنه.
ولما نهى عن ذلك البذل للسفهاء أيتاماً كانا أو غيرهم، بين أنه ليس دائماً بل ما دام السفه قائماً، فمست الحاجة إلى التعريف بمن يعطي ومن يمنع وكيف عند الدفع، ولما كان السفه أمراً
196
باطناً لا يعرف إلا بالتصرف ولا سيما في المال؛ بدأ سبحانه بتعليم ما يتوصلون به إلى معرفته فقال مصرحاً بالأيتام اهتماماً بأمرهم: ﴿وابتلوا اليتامى﴾ أي اختبروهم في أمر الرشد في الدين والمال في مدة مراهقتهم واجعلوا ذلك دأبكم ﴿حتى إذا بلغوا النكاح﴾ أي وقت الحاجة إليه بالاحتلام أو السن ﴿فإن آنستم﴾ أي علمتم علماً أنتم في عظيم تيقنه كأنكم تبصرونه على وجه تحبونه وتطيب أنفسكم به ﴿منهم﴾ أي عند بلوغه ﴿رشداً﴾ أي بذلك التصرف، ونكره لأن وجود كمال الرشد في أحد يعز وقوعه ﴿فادفعوا إليهم أموالهم﴾ أي لزوال الحاجة إلى الحجر بخوف التبذير، وأضافها إليهم بعد إضافتها أولاً إلى المعطين إشارة إلى أنه لا يستحقها إلا من يحسن التصرف فيها.
ولما كان الإنسان مجبولاً على نقائص منها الطمع وعدم الشبع لا سيما إذا خالط، لا سيما إن حصل له إذن ما؛ أدبه سبحانه بقوله: ﴿ولا تأكلوها﴾ أي بعلة استحقاقكم لذلك بالعمل فيها ﴿إسرافاً﴾ أي مسرفين بالخروج عن القصد في التصرف ووضع الشيء في غير موضعه وإغفال العدل والشفقة ﴿وبداراً﴾ أي مبادرين ﴿أن يكبروا﴾ أي فيأخذوها منكم عند كبرهم فيفوتكم الانتفاع بها، وكأنه عطف
197
بالواو الدالة على تمكن الوصف وتمامه إشارة إلى عدم المؤاخذة بما يعجز عنه الإنسان المجبول على النقصان مما يجري في الأفعال مجرى الوسوسة في الأقوال
«ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه».
ولما أشعر النهي عن أكل الكل بأن لهم في الأكل في الجملة علة مقبولة، أفصح به في قوله: ﴿ومن كان﴾ أي منكم أيها الأولياء ﴿غنياً فليستعفف﴾ أي يطلب العفة ويوجدها ويظهرها عن الأكل منها جملة، فيعف عنه بما بسط الله له من رزقه ﴿ومن كان فقيراً﴾ وهو يتعهد مال اليتيم لإصلاحه، ولما كان يخشى من امتناعه من الأكل منه التفريط فيه بالاشتغال بما يهمه في نفسه، أخرج الكلام في صيغة الأمر فقال معبراً بالأكل لأنه معظم المقصود: ﴿فليأكل بالمعروف﴾ أي بقدر أجرة سعيه.
ولما كان ذلك ربما أفهم الأمان إلى الرشد بكل اعتبار، أمر بالحزم - كما في الطبراني الأوسط عن أنس «احترسوا من الناس بسوء الظن» - فقال: ﴿فإذا دفعتم إليهم﴾ أي اليتامى ﴿أموالهم﴾ أي التي كانت تحت أيديكم لعجزهم عن حفظها ﴿فأشهدوا عليهم﴾
198
أي احتياطاً لأن الأحوال تتبدل، والرشد يتفاوت، فالإشهاد أقطع للشر، وأنفع في كل أمر، والأمر بالإشهاد أزجر للولي عن الخيانة، لأن من عرف أنه لا يقبل عند الخصام إلا ببينة عف غاية العفة، واحترز غاية الاحتراز.
ولما كانت الأموال مظنة لميل النفوس، وكان الحب للشيء يعمي ويصم؛ ختم الآية بقوله: ﴿وكفى بالله﴾ أي الذي له الحكمة البالغة والقدرة الباهرة والعظمة التي لا مثل لها، والباء في مثل هذا تأكيد لأن ما قرنت به هو الفاعل حقيقة لا مجازاً - كما إذا أمرنا بالفعل مثلاً ﴿حسيباً *﴾ أي محاسباً بليغاً في الحساب، فهو أبلغ تحذيراً لهم وللأيتام من الخيانة والتعدي ومدّ العين إلى حق الغير.
199
ولما ذكر أموال اليتامى على حسب ما دعت إليه الحاجة واقتضاه التناسب إلى أن ختم بهذه الآية، كان كأن سائلاً سأل: من أين تكون أموالهم؛ فبين ذلك بطريق الإجمال بقوله تعالى: ﴿للرجال﴾ أي الذكور من أولاد الميت وأقربائه، ولعله عبر بذلك دون الذكور لأنهم كانوا لا يورثون الصغار، ويخصون الإرث بما عمر الديار، فنبه
199
سبحانه على أن العلة النطفة ﴿نصيب﴾ أي منهم معلوم ﴿مما ترك الوالدان والأقربون﴾.
ولما كانوا لا يورثون النساء قال: ﴿وللنساء نصيب﴾ ولقصد التصريح للتأكيد قال موضع «مما تركوا» :﴿مما ترك الوالدان والأقربون﴾ مشيراً إلى أنه لا فرق بينهن وبين الرجال في القرب الذي هو سبب الإرث، ثم زاد الأمر تأكيداً وتصريحاً بقوله إبدالاً مما قبله بتكرير العامل: ﴿مما قل منه أو كثر﴾ ثم عرف بأن ذلك على وجه الحتم الذي لا بد منه، فقال مبيناً للاعتناء به بقطعه عن الأول بالنصب على الاختصاص بتقدير أعني: ﴿نصيباً مفروضاً *﴾ أي مقدراً واجباً مبيناً، وهذه الآية مجملة بينتها آية المواريث، وبالآية علم أنها خاصة بالعصبات من التعبير بالفرض لأن الإجماع - كما نقله الأصبهاني عن الرازي - على أنه ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر.
ولما بين المفروض أتبعه المندوب فقال تعالى: ﴿وإذا حضر القسمة أولوا القربى﴾ أي ممن لا يرث صغاراً أو كباراً ﴿واليتامى والمساكين﴾ أي قرباء أو غرباء ﴿فارزقوهم منه﴾ أي المتروك،
200
وهو أمر ندب لتطييب قلوبهم، وقرينة صرفه عن الوجوب ترك التحديد ﴿وقولوا لهم﴾ أي مع الإعطاء ﴿قولاً معروفاً *﴾ أي حسناً سائغاً في الشرع مقبولاً تطيب به نفوسهم.
201
ولما أعاد الوصية باليتامى مرة بعد أخرى، وختم بالأمر بالإنة القول، وكان للتصوير في التأثير في النفس ما ليس لغيره؛ أعاد الوصية بهم لضعفهم مصوراً لحالهم مبيناً أن القول المعروف هو الصواب الذي لا خلل فيه فقال: ﴿وليخش﴾ أي يوقع الخشية على ذرية غيرهم ﴿الذين﴾ وذكر لهم حالاً هو جدير بإيقاع الخشية في قلوبهم فقال: ﴿لو تركوا﴾ أي شارفوا الترك بموت أو هرم، وصوّر حالهم وحققه بقوله: ﴿من خلفهم﴾ أي بعد موتهم أو عجزهم العجز الذي هو كموتهم ﴿ذرية﴾ أي أولاداً من ذكور أو إناث ﴿ضعافاً﴾ أي لصغر أو غيره ﴿خافوا عليهم﴾ أي جور الجائرين.
ولما تسبب عن ذلك التصور في أنفسهم خوفهم على ذرية غيرهم كما يخافون على ذريتهم سواء كانوا أوصياء أو أولياء أو أجانب، وكان هذا الخوف ربما أداهم في قصد نفعهم إلى جور على غيرهم؛ أمر بما
201
يحفظهم على الصراط السوي بقوله: ﴿فليتقوا﴾ وعبر بالاسم الأعظم إرشاداً إلى استحضار جميع عظمته فقال: ﴿الله﴾ أي فليعدلوا في أمرهم ليقيِّض الله لهم من يعدل في ذريتهم، وإلا أوشك أن يسلط على ذريتهم من يجور عليهم ﴿وليقولوا﴾ أي في ذلك وغيره ﴿قولاً سديداً *﴾ أي عدلاً قاصداً صواباً، ليدل هذا الظاهر على صلاح ما أتمره من الباطن.
ولما طال التحذير والزجر والتهويل في شأن اليتامى، وكان ذلك ربما أوجب النفرة من مخالطتهم رأساً فتضيع مصالحهم؛ وصل بذلك ما بين أن ذلك خاص بالظالم في سياق موجب لزيادة التحذير فقال مؤكداً لما كان قد رسخ في نفوسهم من الاستهانة بأموالهم: ﴿إن الذين﴾ ولما كان الأكل أعظم مقاصد الإنسان عبر به عن جميع الأغراض فقال: ﴿يأكلون أموال اليتامى ظلماَ﴾ أي أكلاً هو في غير موضعه بغير دليل يدل عليه، فهو كفعل من يمشي في الظلام، ثم أتبعه ما زاده تأكيداً بالتحذير في سياق الحصر فقال: ﴿إنما يأكلون﴾ أي في الحال وصور الأكل وحققه بقوله: ﴿في بطونهم ناراً﴾ أي
202
تحرق المعاني الباطنية التي تكون بها قوام الإنسانية وبين أنها على حقيقتها في الدنيا ولكنا لا نحسها الآن لأنها غير النار المعهودة في الظاهر بقوله - مكرراً التحذير مبيناً بقراءة الجماعة بالبناء للفاعل أنهم يلجؤون إليها إلجاء يصيّرهم كأنهم يدخلونها بأنفسهم: ﴿وسيصلون﴾ أي في الآخرة - بوعيد حتم لا خلف فيه ﴿سعيراً *﴾ أي عظيماً هو نهاية في العظمة، وذلك هو معنى ابن عامر وعاصم بالبناء للمجهول، أي يلجئهم إلى صليها ملجىء قاهر لا يقدرون على نوع دفاع له.
203
ولما تم ذلك تشوفت النفوس إلى بيان مقادير الاستحقاق بالإرث لكل واحد، وكان قد تقدم ذكر استحقاق الرجال والنساء من غير تقييد يتيم، فاقتضت البلاغة بيان أصول جميع المواريث، وشفاء العليل بإيضاح أمرها، فقال - مستأنفاً في جواب من كأنه سأل عن ذلك مؤكداً لما أمر به منها غاية التأكيد مشيراً إلى عظمة هذا العلم بالتقدم في الإيصاء في أول آياته، والتحذير من الضلال في آخرها، ورغب فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه نصف العلم، وحذر من إضاعته بأنه أول علم ينزع من الأمة: ﴿يوصيكم الله﴾ أي بما له من
203
العظمة الكاملة والحكمة البالغة، وبدأ بالأولاد لأن تعلق الإنسان بهم أشد فقال: ﴿في أولادكم﴾ أي إذا مات مورثهم.
ولما كان هذا مجملاً كان بحيث يطلب تفسيره، فقال جواباً لذلك بادئاً بالأشرف بياناً لفضله بالتقديم وجعله أصلاً والتفضيل: ﴿للذكر﴾ أي منهم إذا كان معه شيء من الإناث، ولم يمنعه مانع من قتل ولا مخالفة دين ونحوه ﴿مثل حظ الأنثيين﴾ أي نصيب من شأنه أن يغني ويسعد، وهو الثلثان، إذا انفردتا فللواحدة معه الثلث، فأثبت سبحانه للإناث حظاً تغليظاَ لهم من منعهن مطلقاً، ونقصهن عن نصيب الرجال تعريضاً بأنهم أصابوا في نفس الحكم بانزالهن عن درجة الرجال.
ولما بان سهم الذكر مع الأنثى بعبارة النص، واشعر ذلك بأن لهن إرثاً في الجملة وعند الاجتماع مع الذكر، وفُهم بحسب إشارة النص وهي ما ثبت بنظمه، لكنه غير مقصود، ولا سبق له النص - حكم الأنثيين إذا لم يكن معهن ذكر، وهو أن لهما الثلثين، وكان ذلك أيضاً مفهماً لأن الواحدة غذا كان لها مع الأخ الثلث كان لها ذلك مع الأخت إذا لم يكن ثمَّ ذكر من باب الأولى،
204
فاقتضى ذلك أنهن إذا كن ثلاثاً أو أكثر ليس معهم ذكر استغرقن التركة، وإن كانت واحدة ليس معها ذكر لم تزد على الثلث؛ بين أن الأمر ليس كذلك - كما تقدم - بقوله مبيناً إرثهن حال الانفراد: ﴿فإن كن﴾ أي الوارثات ﴿نساء﴾ أي إناثاً.
ولما كان ذلك قد يحمل على أقل الجمع، وهو اثنتان حقيقة أو مجازاً حقق ونفى هذا الاحتمال بقوله: ﴿فوق اثنتين﴾ أي لا ذكر معهن ﴿فلهن ثلثا ما ترك﴾ أي الميت، لا أزيد من الثلثين ﴿وإن كانت﴾ أي الوارثة ﴿واحدة﴾ أي منفردة، ليس معها غيرها ﴿فلها النصف﴾ أي فقط.
ولما قدم الإيصاء بالأولاد لضعفهم إذا كانوا صغاراً، وكان الوالد أقرب الناس إلى الولد وأحقهم بصلته وأشدهم اتصالاً به أتبعه حكمه فقال: ﴿ولأبويه﴾ أي الميت، ثم فصل بعد أن أجمل ليكون الكلام آكد، ويكون سامعه إليه أشوق بقوله مبدلاً بتكرير العامل: ﴿لكل واحد منهما﴾ أي أبيه وأمه اللذين ثنيا بأبوين
205
﴿السدس مما ترك﴾ ثم بين شرط ذلك فقال: ﴿إن كان له﴾ أي الميت ﴿ولد﴾ أي ذكر، فإن كانت أنثى أخذ الأب السدس فرضاً، والباقي بعد الفروض حق عصوبة.
ولما بين حكمهما مع الأولاد تلاه بحالة فقدهم فقال: ﴿فإن لم يكن له ولد﴾ أي ذكر ولا أنثى ﴿وورثه أبواه﴾ أي فقط ﴿فلأمه الثلث﴾ أي وللأب الباقي لأن الفرض أنه لا وارث له غيرهما، ولما كان التقدير: هذا مع فقد الإخوة أيضاً، بني عليه قوله: ﴿فإن كان له إخوة﴾ أي اثنان فصاعدا ذكوراً أو لا، مع فقد الأولاد ﴿فلأمه السدس﴾ أي لأن الإخوة ينقصونها عن الثلث إليه، والباقي للأب، ولا شيء لهم، وأما الأخت الواحدة فإنها لا تنقصها إلى السدس سواء كانت وارثة أو لا، وكذا الأخ إذا كان واحداً، ثم بين أن هذا كله بعد إخراج الوصية والدين لأن ذلك سبق فيه حق الميت الذي جمع المال فقال: ﴿من بعد وصية يوصي بها﴾ أي كما مندوب لكل ميت، وقدمها في الوضع على ما هو مقدم عليها في الشرع بعثاً على أدائها، لأن أنفس الورثة تشح بها، لكونها مثل مشاركتهم في الإرث لأنها بلا عوض ﴿أو دين﴾ أي إن كان
206
عليه دين.
ولما كان الإنسان قد يرى أن بعض أقربائه من أصوله أو فصوله أو غيرهم أنفع له، فأحب تفضيله فتعدى هذه الحدود لما رآه، وكان ما رآه خلاف الحق في الحال أو في المآل، وكان الله تعالى هو المستأثر بعلم ذلك، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما» الحديث لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف شاء؛ قال تعالى حاثاً على لزوم ما حده مؤكداً بالجملة الاعتراضية - كما هو الشأن في اعتراض - لأن هذه القسمة مخالفة لما كانت العرب تفعله، وهي على وجوه لا تدرك عللها: ﴿أبآؤكم وأبنآؤكم﴾ أي الذين فضلنا لكم إرثهم على ما ذكرنا ﴿لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً﴾ أي من غيره، لأنه لا إحاطة لكم في علم ولا قدرة، فلو وكل الأمر في القسمة إليكم لما وضعتم الأمور في أحكم مواضعها.
ولما بين أن الإرث على ما حده سبحانه وتعالى مؤكداً له بلفظ الوصية، وزاده تأكيداً بما جعله اعتراضاً بين الإيصاء وبين (فريضة) بين أنه على سبيل الحتم الذي من تركه عصى، فقال ذاكراً مصدراً
207
مأخوذاً من معنى الكلام: ﴿فريضة من الله﴾ أي الذي له الأمر كله، ثم زادهم حثاً على ذلك ورغبة فيه بقوله تعليلاً لفريضته عليهم مطلقاً وعلى هذا الوجه: ﴿إن الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿كان﴾ ولم يزل ولا يزال لأن وجود لا يتفاوت في وقت من الأوقات، لأنه لا يجري عليه زمان، ولا يحويه مكان، لأنه خالقهما ﴿عليماً﴾ أي بالعواقب ﴿حكيماً *﴾ أي فوضع لكم هذه الأحكام على غاية الإحكام في جلب المنافع لكم ودفع الضر عنكم، ورتبها سبحانه وتعالى أحسن ترتيب، فإن الوارث يتصل بالميت تارة بواسطة وهو الكلالة، وأخرى بلا واسطة، وهذا تارة يكون بنسب، وتارة بصهر ونسب، فقدم ما هو بلا واسطة لشدة قربه، وبدأ منه بالنسب لقوته، وبدأ منهم بالولد لمزيد الاعتناء به.
208
ولما كان الإرث بالمصاهرة أضعف من الإرث بالقرابة ذكره بعده، وقدمه على الإرث بقرابة الأخوة تعريفاً بالاهتمام به ولأنه بلا واسطة، وقدم منه الرجل لأنه أفضل فقال: ﴿ولكم نصف ما ترك أزواجكم﴾ وبين شرط هذا بقوله: ﴿إن لم يكن لهن ولد﴾ أي منكم أو من غيركم، ثم بين الحكم على التقدير الآخر فقال: ﴿فإن كان لهن ولد﴾ أي وارث وإن سفل سواء كان ابناً أو بنتاً ﴿فلكم الربع مما تركن﴾ أي
208
تركت كل واحدة منهن، ويغسلها الزوج لأن الله أضافها إليه باسم الزوجية، والأصل الحقيقة، ولا يضر حرمة جماعها بعد الموت وحلُّ نكاح أختها وأربع سواها، لأن ذلك لفقد المقتضي أو المانع وهو الحياة، وذلك لا يمنع علقة النكاح المبيح للغسل - كما لم يمنعها لأجل العدة لو كان الفراق بالطلاق، ثم كرر حكم الوصية اهتماماً بشأنها فقال: ﴿من بعد وصية يوصين بها﴾ أي الأزواج أو بعضهن، ولعله جمع إشارة إلى أن الوصية أمر عظيم ينبغي أن يكون مستحضراً في الذهن غير مغفول عنه عند أحد من الناس ﴿أو دين﴾.
ولما بين إرث الرجل أتبعه إرثها فقال معلماً أنه على النصف مما للزوج - كما مضى في الأولاد -: ﴿ولهن﴾ أي عدداً كن أو لا ﴿الربع مما تركتم﴾ أي يشتركن فيه على السواء إن كن عدداً، وتنفرد به الواحدة إن لم يكن غيرها، ثم بين شرطه بقوله: ﴿إن لم يكن لكم ولد﴾ ثم بين حكم القسم الآخر بقوله: ﴿فإن كان لكم ولد﴾ أي
209
وارث ﴿فلهن الثمن مما تركتم﴾ كما تقدم في الربع، ثم كرر الخروج عن حق الموروث فقال: ﴿من بعد وصية توصون بها أو دين﴾.
ولما فرغ من قسمي ما اتصل بالميت بلا واسطة أتبعه الثالث وهو ما اتصل بواسطة، ولما كان قسمين، لأنه تارة يتصل من جهة الأم فقط وهم الأخياف، أمهم واحدة وآباؤهم شتى، وتارة من جهة الأب فقط وهم العلات، أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، وتارة من جهة الأبوين وهم الأعيان، وكانت قرابة الأخوة أضعف من قرابة البنوة؛ أكدها بما يقتضيه حالها، فجعلها في قصتين، ذكر إحداهما هنا إدخالاً لها في حكم الوصية المفروضة، وختم بالأخرى السورة لأن الختام من مظنات الاهتمام.
ولما كانت قرابة الأم أضعف من قرابة الأب قدمها هنا دلالة على الاهتمام بشأنها، وأن ما كانوا يفعلونه من حرمان الإناث خطأ وجور عن منهاج العدل، فقال تعالى: ﴿وإن كان﴾ أي وجد ﴿رجل يورث﴾ ي من ورث حال كونه ﴿كلالة﴾ أي ذا حالة لا ولد له فيها ولا والد، أو يكون يورث من: أورث - بمعنى أن إرث الوارث بواسطة من مات كذلك: لا هو ولد للميت ولا والد،
210
ووارثه أيضاً كلالة لأنه ليس بوالد ولا ولد، فالمورث كلالة وارثه، والوارث كلالة مورثة؛ قال الأصبهاني: رجل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر كالدلالة والوكالة، وهو بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء، وقد تطلق الكلالة على القرابة من غير جهة الولد والوالد، ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة ﴿أو﴾ وجدت ﴿امرأة﴾ أي تورث كذلك، ويجوز أن يكون (يورث) صفة، و (كلالة) خبر كان ﴿وله﴾ خبر كان ﴿وله﴾ أي للمذكور وهو الموروث على أي الحالتين كان.
ولما كان الإدلاء بمحض الأنوثة يستوي بين الذكر والأنثى لضعفها قال ﴿أخ أو أخت﴾ أي من الأم - بإجماع المفسرين، وهي قراءة أبيّ وسعد بن مالك رضي الله عنهما ﴿فلكل واحد منهما السدس﴾ أي من تركته، من غير فضل للذكر على الأنثى.
ولما أفهم ذلك - أي بتحويل العبارة المذكورة من أن يقال: فله السدس - أنهما إن كانا معاً كان لهما الثلث، وكان ذلك قد يفهم أنه
211
إن زاد وارثه زاد الإرث عن الثلث نفاه بقوله: ﴿فإن كانوا﴾ أي ما أفهمه (أخ أو أخت) من الوراث منهم ﴿أكثر من ذلك﴾ أي واحد، كيف كانوا ﴿فهم شركاء﴾ أي بالسوية ﴿في الثلث﴾ أي المجتمع من السدسين اللذين تقدم أنهما بينهما، لا يزادون على ذلك شيئاً، ثم كرر الحث على مصلحة الميت بياناً للاهتمام بها فقال: ﴿من بعد وصية يوصى بها أو دين﴾.
ولما كان الميت قد يضار ورثته، أو بعضهم بشيء يخرجه عنهم ظاهراً أو باطناً كأن يقر بماله لأجنبي، أو بدين لا حقيقة له، أو بدين كان له بأنه استوفاه؛ ختم الآية بالزجر عن ذلك بقوله: ﴿غير مضار﴾ مع ما تقدم من الإشارة إلى ذلك أول القصة بقوله ﴿لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً﴾ [النساء: ١١] ؛ قال الأصبهاني: والإضرار في الوصية من الكبائر، ثم أكد ذلك بقوله مصدراً ليوصيكم: ﴿وصية من الله﴾ أي الذي له الأمر كله مع تأكيده بجميع ما في الآيات تعظيماً للأمر باكتناف الوصية بأولها وأخرها، وهو دون الفريضة في حق الأولاد، لأن حقهم آكد.
ولما بين سبحانه الأصول وفصل النزاع، وكان ذلك خلاف مألوفهم
212
وكان الفطام عن المألوف في الذروة من المشقة؛ اقتضى الحال الوعظ بالترغيب والترهيب، فختم القصة بقوله: ﴿والله﴾ أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال، وللإشارة إلى عظيم الوصية كرر هذا الاسم الأعظم في جميع القصة، ثم قال: ﴿عليم﴾ أي فلا يخفى عليه أمر من خالف بقول أو فعل، نية أو غيرها ﴿حليم *﴾ فهو من شأنه أن لا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بإمهاله، فإنه إذا أخذ بعد طول الأناة لم يفلت فاحذروا غضب الحليم! وفي الوصفين مع التهديد استجلاب للتوبة.
213
ولما كان فطم أنفسهم عن منع الأطفال والنساء شديداً عليهم لمرونهم عليه بمرور الدهور الطويلة على إطباقهم على فعله واستحسانهم له أتبعه سبحانه الترغيب والترهيب لئلا يغتر بوصف الحليم، فقال معظماً للأمر بأداة البعد ومشيراً إلى جميع ما تقدم من أمر المواريث والنساء واليتامى وغيره: ﴿تلك﴾ أي هذه الحدود الجليلة النفع العظيمة الجدوى المذكورة من أول هذه السورة، بل من أول القرآن ﴿حدود الله﴾ أي الملك الأعظم، فمن راعاها - ولو لم يقصد
213
طاعته، بل رفعاً لنفسه عن دناءة الإخلاد إلى الفاني ومعرة الاستئثار على الضعيف المنبىء عن البخل وسفول الهمة - نال خيراً كبيراً، فإنه يوشك أن يجره ذلك إلى أن يكون ممن يطيع الله ﴿ومن يطع الله﴾ الحائز لصفتي الجلال والإكرام ﴿ورسوله﴾ أي في جميع طاعاته هذه وغيرها، بالإقبال عليها وترك ما سواها لأجله سبحانه؛ قال الأصبهاني: «من» عام ووقوعه عقيب هذه التكاليف الخاصة لا يخصصه.
ولما تشوف السامع بكليته إلى الخبر التفت إليه تعظيماً للأمر - على قراءة نافع وابن عامر بالنون - فقال: ﴿ندخله جنات﴾ أي بساتين، وقراءة الجماعة بالياء عظيمة أيضاً لبنائها على الاسم الأعظم وإن كانت هذه أشد تنشيطاً بلذة الالتفات ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي لأن أرضها معدن المياه، ففي أي موضع أردت جرى نهر. فهي لا تزال يانعة غضة، وجمع الفائزين بدخول الجنة في قوله: ﴿خالدين فيها﴾ تبشيراً بكثرة الواقف عند هذه الحدود، ولأن منادمة الإخوان من أعلى نعيم الجنان.
214
ولما كان اختصاصهم بالإرث عن النساء والأطفال من الفوز عندهم، بل لم يكن الفوز العظيم عندهم إلا الاحتواء على الأموال وبلوغ ما في البال منها من الآمال قال تعالى معظماً بأداة البعد: ﴿وذلك﴾ أي الأمر العالي المرتبة من الطاعة المندوب إليها ﴿الفوز العظيم *﴾ أي لا غيره من الاحتواء على ما لم يأذن به الله، وهذا أنسب شيء لتقديم الترغيب لتسمح نفوسهم بترك ما كانوا فيه مع ما فيه من التلطف بهذه الأمة والتبشير له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنها مطيعة راشدة.
ولما أشربت القلوب الصافية ذوات الهمم العالية حب نيل هذا الفوز أتبعه الترهيب فطماً لها عن تلك الفوائد بالكلية فقال: ﴿ومن يعص الله﴾ أي الذي له العظمة كلها ﴿ورسوله﴾ أي في ذلك وغيره ﴿ويتعد حدوده﴾ أي التي حدها في هذه الأحكام وغيرها، وأفرد العاصي في النيران في قوله: ﴿يدخله ناراً خالداً فيها﴾ لأن الانفراد المقتضي للوحشة من العذاب والهوان، ولما كان منعهم للنساء والأطفال من الإرث استهانة بهم ختم الآية بقوله: ﴿وله عذاب مهين *﴾.
ولما تقدم سبحانه في الإيصاء بالنساء، وكان الإحسان في الدنيا تارة يكون بالثواب، وتارة يكون بالزجر والعتاب، لأن مدار الشرائع على العدل والإنصاف، والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط
215
والتفريط، وختم سبحانه بإهانة العاصي إحساناً إليه بكفه عن الفساد، لئلا يلقيه ذلك إلى الهلاك أبد الآباد، وكان من أفحش العصيان الزنى، وكان الفساد في النساء أكثر، والفتنة بهن أكبر، والضرر منهن أخطر، وقد يدخلن على الرجال من يرث منهم من غير أولادهم؛ قدمهن فيه اهتماماً بزجرهن فقال: ﴿واللاتي﴾ وهو جمع «التي» ولعله عبر فيهن بالجمع إشارة إلى كثرتهن - كما أشار إلى ذلك
﴿مثنى وثلاث ورباع﴾ [النساء: ٣] وإلى كثرة الفساد منهن ﴿يأتين﴾ أي يفعلن - من إطلاق السبب على المسبب، والتعبير به أبلغ ﴿الفاحشة﴾ أي الفعلة الشديدة الشناعة، وفي الآية - لأن من أعظم المرادات بنظمها عقب آيات الإرث وما تقدمها الاحتياط للنسب - إشارة بذكر عقوبة الزانية من غير تعرض لإرث الولد الآتي منها إلى أن الولد للفراش، وأنه لا ينفي بالمظنة، بل بعد التحقق على ما في سورة النور، لأنه لا يلزم من وجود الزنى نفيه، وكونه من الزنى، قال ابو حيان في النهر: والفاحشة هنا الزنى بإجماع المفسرين إلا ما ذهب إليه مجاهد وتبعه أبو مسلم الأصفهاني من أنها المساحقة، ومن الرجال اللواط، ثم بين الموصول بقوله:
216
﴿من نسائكم﴾ أي الحرائر ﴿فاستشهدوا﴾ أي فاطلبوا أن تشهدوا ﴿عليهن أربعة﴾ من الرجال.
ولما كان تعالى قد جعل هذه الأمة وسطاً يقبلون على غيرهم ولا يقبل غيرهم عليهم قال: ﴿منكم﴾ أي من عدول المسلمين بأنهن فعلنها ﴿فإن شهدوا﴾ أي بذلك ﴿فأمسكوهن﴾ أي فاحبسوهن ﴿في البيوت﴾ أي وامنعوهن من الخروج، فإن ذلك أصون لهن، وليستمر هذا المنع ﴿حتى يتوفاهن الموت﴾ أي يأتيهن وهن وافيات الأعراض ﴿أو يجعل الله﴾ المحيط علمه وحكمته ﴿لهن سبيلاً *﴾ اي للخروج قبل الموت بتبين الحد أو بالنكاح، وإن لم يشهد الأربعة لم يفعل بهن ذلك وإن تحقق الفعل.
217
ولما ذكر أمر النساء أتبعه حكم الرجال على وجه يعم النساء أيضاً فقال: ﴿والّذان﴾ وهو تثنية «الذي» وشدد نونه ابن كثير تقوية له ليقرب من الأسماء المتمكنة ﴿يأتيانها منكم﴾ أي من بكر أو ثيب، أو رجل أو امرأة، ويثبت ذلك بشهادة الأربعة - كما تقدم ﴿فآذوهما﴾ وقد بين مجمل الأذى الصادق باللسان وغيره آية الجلد وسنة الرجم ﴿فإن تابا﴾ أي بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود ﴿وأصحا﴾
217
أي بالاستمرار على ما عزما عليه، ومضت مدة علم فيها الصدق في ذلك ﴿فأعرضوا عنهما﴾ أي عن أذاهما، وهو يدل على أن الأذى باللسان يستمر حتى يحصل الاستبراء، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿كان تواباً﴾ أي رجاعاً بمن رجع عن عصيانه إلى ما كان فيه من المنزلة ﴿رحيماً *﴾ أي يخص من يشاء من عباده بالتوفيق لما يرضاه له، فتخلقوا بفعله سبحانه وارحموا المذنبين إذا تابوا، ولا يكن أذاكم لهم إلا لله ليرجعوا، وليكن أكثر كلامكم لهم الوعظ بما يقبل بقلوبهم إلى ما ترضاه الإلهية، ويؤيده أن المراد بهذا البكر والثيب من الرجال والنساء تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله فيما رواه مسلم والأربعة والدارمي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه «قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» فالحديث مبين لما أجمل في الآية من ذكر السبيل.
ولما ختم ذلك بذكر توبة الزناة، وكان الحامل على الزنى - على ما يقتضيه الطبع البشري - شدة الشبق وقلة النظر في العواقب، وكان
218
ذلك إنما هو في الشباب؛ وصل بذلك قوله تعالى معرفاً بوقت التوبة وشرطها مرغباً في تعجيلها مرهباً من تأخيرها: ﴿إنما التوبة﴾ وهي رجوع العبد عن المعصية اعتذاراً إلى الله تعالى، والمراد هنا قبولها، سماه باسمها لأنها بدون القبول لا نفع لها، فكأنه لا حقيقة لها.
ولما شبه قبوله لها بالواجب من حيث إنه بها، لأنه لا يبدل القول لديه؛ عبر بحرف الاستعلاء المؤذن بالوجوب حثاً عليها وترغيباً فيها فقال: ﴿على الله﴾ أي الجامع بصفات الكمال ﴿للذين يعملون السوء﴾ أيَّ سوء كان من فسق أو كفر، وقال: ﴿بجهالة﴾ إشارة إلى شدة قبح العصيان، لا سيما الزنى من المشايخ، لإشعار السياق ترهيباً بأن الأمر فيهم ليس كذلك - كما صرح به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه البزار بإسناد جيد عن سلمان رضي الله عنه «ثلاثة لا يدخلون الجنة: الشيخ الزاني، والإمام الكذاب، والعائل المزهو» وهو في مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه
«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» وهو عن كثير من الصحابة من طرق كثيرة، وذلك لأن حضور الموت بالقوة القريبة من الفعل
219
وإضعاف القوى الموهنة لداعية الشهوة قريب من حضوره بالفعل، وذلك ينبغي أن يكون مذهباً لداعية الجهل، ماحقاً لعرامة الشباب، سواء قلنا: إن المراد بالجهالة ضد الحلم، أو ضد العلم؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي: قال أبو عبد الله - يعني القزاز: والجاهلية الجهلاء اسم وقع على أهل الشرك يكون مأخوذاً من الجهل الذي هو ضد العلم والذي هو ضد الحلم قال وأصل الجهل من قولهم: استجهلت الريح الغصن - إذا حركته، فكأن الجهل إنما هو حركة تخرج عن الحق والعلم - انتهى. فالمعنى حينئذ: يعملون السوء ملتبسين بسفه أو بحركة وخفة أخرجتهم عن الحق والعلم فكانوا كأنهم لا يعلمون - بعملهم عمل أهل الجاهلية الذين لا يعلمون، وزاد في التنفير من مواقعة السوء والتحذير بقوله: ﴿ثم يتوبون﴾ أي يجددون التوبة.
ولما كان المراد الترغيب فيها ولو قصر زمنها بمعاودة الذنب أثبت الجار فقال: ﴿من﴾ أي من بعض زمان ﴿قريب﴾ أي من زمن المعصية وهم في فسحة من الأجل، وذلك كناية عن
220
عدم الإصرار إلى الموت، ولعله عبر بثم إشارة إلى بُعد التوبة ولا سيما مع القرب ممن واقع المعصية، لأن الغالب أن الإنسان إذا ارتبك في حبائلها لا يخلص إلا بعد عسر، ولذلك أشار إلى تعظيمهم بأداة البعد في قوله - مسبباً عن توبتهم واعداً أنه فاعل ما أوجبه على نفس لا محالة من غير خلف وإن كان لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء: ﴿فأولئك﴾ أي العظيمو الرتبة الصادقو الإيمان ﴿يتوب الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿عليهم﴾ أي يردهم إلى ما كانوا فيه عندهم من مكانة القرب قبل مواقعة الذنب ﴿وكان الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿عليماً﴾ أي بالصادقين في التوبة والكاذبين وبنياتهم، فهو يعاملهم بحسب ما يقتضيه حالهم ﴿حكيماً﴾ فهو يضع الأشياء في أحكم محل لها، فمهما فعله لم يمكن نقضه.
ولما بين سبحانه المقبول أتبعه المطرود فقال: ﴿وليست التوبة﴾ أي قبولها ﴿للذين يعملون السيئات﴾ أي واحدة بعد أخرى مصرين عليها فسقة كانوا أو كفرة، غير راجعين من قريب، بل يمهلون ﴿حتى إذا حضر﴾ ولما كان تقديم المفعول - على وجه يجوّز كل سامع وقوعه عليه - أهول، لكونه يصير مرتقباً حال فاعله، خائفاً من عاقبته قال: ﴿أحدهم الموت﴾ أي بأن وصل إلى حد الغرغرة، وهي
221
حالة المعاينة ﴿قال﴾ أي بلسانه كفرعون، أو قلبه ﴿إني تبت الآن﴾ فبين أن ما قبل الاحتضار قريب مع الترغيب في المسارعة جداً بالتعبير بقريب ﴿ولا الذين﴾ أي وليست التوبة للذين ﴿يموتون وهم كفار﴾ حقيقة أو مجازاً، من غير أن يتوبوا، ولا عند الغرغرة، فسوى بين الفسق والكفر تنفيراً من الفسق لصعوبة النزع عنه بعد مواقعته، ولذلك جمعهما في العذاب بقوله - جواباً لمن كأنه قال: فما جزاء هذين الصنفين: ﴿أولئك﴾ أي البعداء من الرحمة، الذين لم يتوبوا إلا حال الغرغرة، والذين ماتوا مصرين ﴿أعتدنا﴾ أي هيأنا وأحضرنا ﴿لهم عذاباً﴾ ولما كان تأخير التوبة لذة نفسانية ختم بقوله: ﴿أليماً *﴾ أي نعذب به الكافرين ومن شئنا من عصاة المؤمنين، لأن توبتهم في تلك الحالة عدم، والميت من غير توبة من المؤمنين في المشيئة.
222
ولما انقضى ما تخلل ذكر النساء الوالدات للوراث، وختمه بهذا التهديد الهائل لمن فعل ما لا يحل له؛ وصل الكلام فيهن بأمر من فعله، فهو زان مصر على الزنى إلى الموت إن اعتقد حرمته، أو كافر
222
إن اعتقد حله، فقال مشيراً بتخصيص المؤمنين عقب ﴿ولا الذين يموتون وهم كفار﴾ [النساء: ١٨] إلى أنه لا يرث كافر من مسلم، وإلا لقال: يا أيها الناس - مثلاً، منفراً من ذلك بالتقييد بما هو لأدنى الإيمان: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي فوقف بهم الإيمان عند زواجرنا ﴿لا يحل لكم أن ترثوا النساء﴾ أي مالهن ﴿كرهاً﴾ أي كارهين لهن، لا حامل لكم على نكاحهن إلا رجاء الإرث، وذلك أنهم كانوا ينكحون اليتامى لمالهن، وليس لهم فيهن رغبة إلا تربص الموت لأخذ مالهن ميراثاً - كما سيأتي في تفسير ﴿ويستفتونك في النساء﴾ [النساء: ١٢٧] أو يكون الفعل واقعاً على نفس النساء، ويكون (كرهاً) على هذا حالاً مؤكدة، أي كارهات، أو ذوات كره، وذلك لأن الرجل كان إذا مات وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فيلقي ثوبه عليها، فيصير أحق بها من نفسها ومن غيرها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج، يضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها، وكان أهل المدينة على هذا حتى توفي
223
أبو قيس بن الأسلت، ففعل ابنه حصن هذا مع زوجة له، فشكت ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله هذه الآية، روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال؛ «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك ﴿لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً﴾ » ولهذا أتبعه سبحانه قوله: ﴿ولا تعضلوهنَّ﴾ أي تمنعوهن من التزوج بعد طلاقكم لهن أو بعد موت أزواجهن، أوتشددوا عليهن بالمضارة وهن في حبائلكم؛ قال البيضاوي: وأصل العضل: التضييق، يقال عضلت الدجاجة بيضها - انتهى. والظاهر أن مدار مادته إنما هو على الاشتداد، من عضلة الساق، وهي اللحمة التي في باطنه، ونقل عبد الحق أنها كل لحم اجتمع، قال: وقال الخليل: كل لحمة اشتملت على عصبة - انتهى. وتارة يكون الاشتداد ناظراً إلى المنع، وتارة إلى الغلبة والضيق، ثم علل ذلك بقوله: ﴿لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن﴾ أي أنتم إن كن أزواجاً لكم، أو مورثوكم إن كن أزواجاً لهم وعضلتموهن بعدهم، ليذهب ذلك بسبب إنفاقهن له على أنفسهن في زمن العضل،
224
أو بسبب افتدائهن لأنفسهن به منكم، ثم استثنى من تحريم العضل في جميع الحالات فقال: ﴿إلا أن﴾ أي لا تفعلوا ذلك لعلة من العلل إلا لعلة أن ﴿يأتين بفاحشة﴾ أي فعلة زائدة القبح ﴿مبينة﴾ أي بالشهود الأربعة إن كانت زنى فاعضلوهن بالإمساك في البيوت - كما مضى - لأن من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، أو بمن يقبل من الشهود إن كانت نشوزاً وسوء عشرة، فلكم العضل حينئذ إلى الصلاح أو الافتداء بما تطيب به النفس، والأنسب لسياق الأمر في ﴿وعاشروهن﴾ أن يكون ﴿تعضلوهن﴾ منهياً، لا معطوفاً على «أن ترثوا» ﴿بالمعروف﴾ أي من القول والفعل بالمبيت والنفقة والموادة قبل الإتيان بالفاحشة ﴿فإن﴾ أي إن كنتم لا تكرهونهن فالأمر واضح، وإن ﴿كرهتموهن﴾ فلا تبادروا إلى المضاجرة أو المفارقة، واصبروا عليهن نظراً لما هو الأصلح، لا لمجرد الميل النفسي، فإن الهوى شأنه أن لا يدعو إلى خير ثم دل على هذه العلة بقوله: ﴿فعسى﴾ ولوضوح دلالتها على ذلك صح جعلها جواباً للشرط ﴿أن تكرهوا شيئاً﴾ أي من الأزواج أو غيرها، لم يقيده سبحانه تعميماً تتميماً للفائدة ﴿ويجعل الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة، وغيَّب بحكمته علمكم العواقب
225
لئلا تسكنوا إلى مألوف، أو تنفروا من مكروه ﴿فيه خيراً كثيراً *﴾.
ولما نهى عن العضل تسبباً إلى إذهاب بعض ما أعطيته المرأة أتبعه التصريح بالنهي عن أخذ شيء منه في غير الحالة التي أذن فيها في المضارة فقال: ﴿وإن﴾ أي إن لم تعضلوا المرأة، بل ﴿أردتم استبدال زوج﴾ أي تنكحونها ﴿مكان زوج﴾ أي فارقتموها أو لا، ولم يكن من قبلنا ما يبيح الضرار.
ولما كان المراد بزوج الجنس جمع في قوله: ﴿وآتيتم إحداهن﴾ أي إحدى النساء اللاتي وقع الإذن لكم في جمعهن في النكاح سواء كانت بدلاً أو مستبدلاً بها ﴿قنطاراً﴾ أي مالاً جماً ﴿فلا تأخذوا منه شيئاً﴾ أي بالمضارة عن غير طيب نفس منها، ولا سبب مباح، ثم عظم أخذه باستفهام إنكار وتوبيخ فقال: ﴿أتأخذونه﴾ أي على ذلك الوجه، ولما تقدم أن من صور الغصب على الافتداء حال الإتيان بالفاحشة شبه الأخذ في هذه الحالة التي لا سبب لها بالأخذ في تلك الحالة، فجعل الأخذ على هذه الصورة قائماً
226
مقام القذف بما لا حقيقة له فلذلك قال: ﴿بهتاناً وإثماً مبيناً *﴾ أي كذوي بهتان في أخذه وإثم مبين - لكونه لا سبب له - يورث شبهة فيه، ثم غلظ ذلك باستفهام آخر كذلك فقال: ﴿وكيف تأخذونه وقد﴾ أي والحال أنه قد ﴿أفضى﴾ أي بالملامسة ﴿بعضكم إلى بعض﴾ أي فكدتم أن تصيروا جسداً واحداً ﴿وأخذن﴾ أي النساء ﴿منكم﴾ أي بالإفضاء والاتحاد ﴿ميثاقاً غليظاً *﴾ قوياً عظيماً، أي بتقوى الله في المعاشرة بالإحسان وعدم الإساءة، لأن مبنى النكاح على ذلك وإن لم يصرح به فيه.
227
ولما كرر ذكر الإذن في نكاحهن وما تضمنه منطوقاً مفهوماً، وكان قد تقدم الإذن في نكاح ما طاب من النساء، وكان الطيب شرعاً قد يحمل على الحل؛ مست الحاجة إلى ما يحل منهن لذلك وما يحرم فقال: ﴿ولا تنكحوا﴾ أي تتزوجوا وتجامعوا ﴿ما نكح﴾ أي بمجرد العقد في الحرة، وبالوطء في ملك اليمين ﴿آبآؤكم﴾ وبين ﴿ما﴾ بقوله: ﴿من النساء﴾ أي سواء كانت إماء أو لا، بنكاح أو ملك يمين، وعبر بما دون «من» لما في النساء غالباً من السفه المدني لما لا يعقل.
ولما نهى عن ذلك فنزعت النفوس عما كان قد ألف بهاؤه
227
فلاح أنه في غاية القباحة وأن الميل إليه إنما هو شهوة بهيمية لا شيء فيها من عقل ولا مروة، وكانت عادتهم في مثل ذلك مع التأسف على ارتكابه السؤال عما مضى منه - كما وقع في استقبال بيت المقدس وشرب الخمر؛ أتبعه الاستثناء من لازم الحكم وهو: فإنه موجب لمقت من ارتكبه وعقابه فقال: ﴿إلا ما قد سلف﴾ أي لكم من فعل ذلك في أيام الجاهلية كما قال الشافعي رحمه الله في الأم، قال السهيلي في روضه: وكان ذلك مباحاً في الجاهلية لشرع متقدم، ولم يكن من الحرمات التي انتهكوها. ثم علل النهي بقوله: ﴿إنه﴾ اي هذا النكاح ﴿كان﴾ أي الآن وما بعده كوناً راسخاً ﴿فاحشة﴾ أي والفاحشة لا يقدم عليها تام العقل ﴿ومقتاً﴾ أي أشر ما يكون بينكم وبين ذوي الهمم لما انتهكتم من حرمة آبائكم ﴿وساء سبيلاً *﴾ أي قبح طريقاً طريقه.
ولما ابتدأ بتعظيم الآباء واحترامهم في أن ينكح الأبناء أزواجهم على العموم ثنى بخصوص الأم بقوله: ﴿حرمت عليكم﴾ ولما كان أعظم مقصود من النساء النكاح، فكان إضافة التحريم إلى أعيانهن إفادة التأكيد غير قادح في فهمه، وكان مع ذلك قد تقدم ما يدل
228
على أن المراد النكاح؛ أسند التحريم إلى الذات تأكيداً للتحريم فقال: ﴿أمهاتكم﴾ أي التمتع بهن بنكاح أو ملك يمين، فكان تحريمها مذكوراً مرتين تأكيداً له وتغليظاً لأمره في نفسه واحتراماً للأب وتعظيماً لقدره ﴿وبناتكم﴾ أي وإن سفلن لما في ذلك من ضرار أمهاتهن، وهذان الصنفان لم يحللن في دين من الأديان ﴿وأخواتكم﴾ أي أشقاء أو لا ﴿وعمّاتكم﴾ كذلك ﴿وخالاتكم﴾ أيضاً، والضابط لهما أن كل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك، وقد تكون من جهة الأم وهي أخت أبي أمك؛ وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك ﴿وبنات الأخ﴾ شقيقاً كان أو لا ﴿وبنات الأخت﴾ أي كذلك، وفروعهن وإن سفلن.
ولما انقضى أمر النسب وهو سبعة أصناف أتبعه أمر السبب وهو ثمانية: أوله أزواج الآباء، أفردها وقدمها تعظيماً لحرمتها، لما كانوا استهانوا من ذلك، وآخره المحصنات، وبدأ من هذا القسم بالأم من الرضاع كما بدأ النسب بالأم فقال: ﴿وأمهاتكم اللاَّتي أرضعنكم﴾ تنزيلاً له منزلة النسب، ولذلك سماها أمّاً، فكل أنثى انتسب باللبن
229
إليها فهي أمك، وهي من أرضعتك، أو أرضعت امرأة أرضعتك، أو رجلاً أرضعك بلبانه من زوجته أو أم ولده، وكل امرأة ولدت امرأة أرضعتك أو رجلاً أرضعك فهي أمك من الرضاعة والمراضعة أختك، وزوج المرضعة الذي أرضعت هي بلبانه أبوك وأبواه جداك، وأخته عمتك، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده إخوة الأب، وأم المرضعة جدتك، وأختها خالتك، وكل من ولد لها من هذا الزوج إخوة لأب وأم، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم، فعلى ذلك ينزل قوله: ﴿وأخواتكم من الرضاعة﴾ كما في النسب بشرط أن يكون خمس رضعات وفي الحولين، وبتسمية المرضعة أمّاً والمشاركة في الرضاع أختاً عُلِم أن الرضاع كالنسب. كما بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» فالصورتان منبهتان على بقية السبع؛ الأم منبهة على البنت بجامع الولادة، والأخوات على العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت بجامع الأخوة.
ولما انقضى ما هو كلحمة النسب أتبعه أمر بالمصاهرة فقال:
230
﴿وأمهات نسائكم﴾ أي دخلتم بهن أو لا - لما في ذلك من إفساد ذات البين غالباً ﴿وربائبكم﴾ وذكر سبب الحرمة فقال: ﴿اللاَّتي في حجوركم﴾ أي بالفعل أو بالقوة - لما فيهن من شبه الأولاد ﴿من نسائكم﴾ ولما كانت الإضافة تسوغ في اللغة بأدنى ملابسة بين سبحانه أنه لا بد من الجماع الذي كنى عنه بالدخول لأنه ممكن لحكم الأزواج الذي يصير به أولادها كأولاده فقال: ﴿اللاَّتي دخلتم بهن﴾ قيد بالدخول لأن غيرة الأم من ابنتها دون غيرة البنت من أمها.
ولما أشعر هذا القيد بحل بنت من عقد عليها ولم يدخل بها أفصح به تنبيهاً على عظيم حرمة الإرضاع فقال: ﴿فإن لم تكونوا دخلتم بهن﴾ أي الأمهات ﴿فلا جناح عليكم﴾ أي في نكاحهن؛ ولما افتتح المحرمات على التأبيد بزوجة الأب ختمها بزوجة الولد فقال: ﴿وحلائل أبنائكم﴾ أي زوجة كانت أو موطوءة بملك يمين؛ ولما لم يكن المتبنى مراداً قيد بقوله: ﴿الذين من أصلابكم﴾ أي وإن سفلوا، ودخل ما بالرضاع لأنه كلحمة النسب فلم يخرجه القيد.
ولما انقضى التحريم المؤبد أتبعه الموقت فقال: ﴿وأن﴾ أي وحرم عليكم أن ﴿تجمعوا﴾ بعقد نكاح لأن مقصوده الوطء،
231
أو بوطء في ملك يمين ﴿بين الأختين﴾ فإن كانت إحداهما منكوحة والأخرى مملوكة حلت المنكوحة وحرمت المملوكة ما دام الحل، لأن النكاح أقوى، فإذا زال الحل حلت الأخرة ولو في عدة التي كانت حلالاً.
ولما كان الجمع بين الأختين شرعاً قديماً قال: ﴿إلا ما قد سلف﴾ أي فإنه لا إثم عليكم فيه رحمة من الله لكم، ثم علل رفع حرجه فقال: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿كان غفوراً﴾ أي ساتراً لما يريد من أعيان الزلل وآثاره ﴿رحيماً *﴾ أي معاملاً بغاية الإكرام الذي ترضاه الإلهية.
232
ولما ذكر مضارة الجمع أتبعه مضارة الإغارة على الحق والأول جمع بين المنكوحين وهذا جمع بين الناكحين فقال - عاطفاً على النائب عن فاعل ﴿حرمت﴾ :
232
﴿والمحصنات﴾ أي الحرائر المزوجات لأنهن منعت فروجهن بالنكاح عن غير الأزواج ﴿من النساء إلا ما ملكت أيمانكم﴾ أي من أزواج أهل الحرب، فإن الملك بالأسر يقطع النكاح.
ولما أتم ذلك قال مؤكداً له ومبيناً عظمته: ﴿كتاب الله﴾ أي خذوا فرض الملك الأعظم الذي أوجبه عليكم إيجاب ما هو موصول في الشيء بقطعه منه، والزموه غير ملتفتين إلى غيره، وزاد في تأكيده بأداة الوجوب فقال: ﴿عليكم﴾ ولما أفهم ذلك حل ما سواه أفصح به احتياطاً للإيضاح وتعظيماً لحرمتها في قوله: ﴿وأحل لكم﴾ وبين عظمة هذا التحريم بأداة البعد فقال: ﴿ما وراء ذلكم﴾ أي الذي ذكر لكم من المحرمات العظيمة.
ولما كان الكلام في المنع لمن يصرح بالفاعل بل قال؛ «حرمت» - ترفقاً في الخطاب حثاً على الآداب، فلما وصل الأمر إلى الحل أظهره تطييباً للقلوب وتأنيساً للنفوس في قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر بفتح الهمزة والحاء، وأبهمه في قراءة الباقين على نسق ﴿حرمت﴾ لأن فاعل الحل والحرمة عند أهل هذا الكتاب معروف أنه الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه أصلاً، ثم أتبع التحليل علته فقال: ﴿أن﴾ أي إرادة أن ﴿تبتغوا﴾ أي تطلبوا متبعين من شئتم مما أحل لكم ﴿بأموالكم﴾ اللاتي تدفعونها مهوراً
233
حال كونكم ﴿محصنين﴾ أي قاصدين بذلك العفة لأنفسكم ولهن ﴿غير مسافحين﴾ أي قاصدين قضاء الشهوة وصب الماء الدافق لذلك فقط، وهو على هذا الوجه لا يكون إلا زنًى سراً وجهراً، فيكون فيه حينئذ إضاعة المال وإهلاك الدين، ولا مفسدة أعظم مما يجمع هذين الخسرانين.
ولما تقدم أول السورة وأثناءهها الأمر بدفع الصداق والنهي عن أخذ شيء مما دفع إلى المرأة، وكان ذلك أعم من أن يكون بعد الدخول أو قبله، مسمى أو لا قال هنا مسبباً عن الابتغاء المذكور: ﴿فما استمتعتم﴾ أي أوجدتم المتاع وهو الانتفاع ﴿به منهن﴾ بالبناء بها، متطلبين لذلك من وجوهه الصحيحة راغبين فيه ﴿فآتوهن أجورهن﴾ أي عليه كاملة، وهي المهور ﴿فريضة﴾ أي حال كونها واجبة من الله ومسماة مقدرة قدرتموها على أنفسكم، ويجوز كونه تأكيداً لآتوا بمصدر من معناه ﴿ولا جناح﴾ أي حرج وميل ﴿عليكم فيما تراضيتم به﴾ أي أنتم والأزواج ﴿من بعد الفريضة﴾ أي من طلاق أو فراق أو زيادة أو نقص إن كانت موجودة مقدرة، أو من مهر المثل من بعد تقديره إن لم تكن مسماة فيمن عقد عليها من غير تسمية صداق.
ولما ذكر في هذه الآيات أنواعاً من التكاليف هي في غاية الحكمة، والتعبير عنها في الذروة العليا من العظمة، وختمها بإسقاط الجناح عند الرضى وكان الرضى أمراً باطناً لا يطلع عليه حقيقة إلا الله تعالى،
234
حث على الورع في شأنه بنوط الحكم بغلبة الظن فقال مرغباً في امتثال أوامره ونواهيه: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة التامة علماً وقدرة ﴿كان عليماً﴾ أي بمن يقدم متحرياً لرضى صاحبه أو غير متحرٍّ لذلك ﴿حكيماَ *﴾ أي يضع الأشياء في أمكن مواضعها من الجزاء على الذنوب وغيره.
235
ولما مضى ذلك على هذا الوجه الجليل عرف أنه كله في الحرائر لأنه الوجه الأحكم في النكاح، وأتبعه تعليم الحكمة في نكاح الإماء؛ فقال عاطفاً على ما تقديره: هذا حكم من استطاع نكاح حرة: ﴿ومن لم يستطع منكم﴾ أي أيها المؤمنون ﴿طولاً﴾ أي سعة وزيادة عبر فيما قبله بالمال تهويناً لبذله بأنه ميال، لا ثبات له، وهنا بالطول الذي معناه: التي قل من يجدها ﴿أن﴾ أي لأن ﴿ينكح المحصنات﴾ أي الحرائر، فإن الحرة مظنة العفة الجاعلة لها فيما هو كالحصن على مريد الفساد، لأن العرب كانوا يصونونهنَّ وهنَّ أنفسهن عن أن يكن كالإماء ﴿المؤمنات﴾ بسبب كثرة المؤنة وغلاء المهر ﴿فمن﴾ أي فلينكح إن أراد من ﴿ما ملكت أيمانكم﴾ أي مما ملك غيركم من المؤمنين ﴿من فتياتكم﴾ أي إمائكم، وأطلقت الفتوة -
235
وهي الشباب - على الرقيق لأنه يفعل ما يفعل الشاب لتكليف السيد له إلى الخدمة وعدم توقيره وإن كان شيخاً، ثم وضح المراد بالإضافة فقال: ﴿المؤمنات﴾ أي لا من الحرائر الكافرات ولا مما ملكتم من الإماء الكافرات ولا مما ملك الكفار حذراً من مخالطة كافرة خوفاً من الفتنة - كما مضى في البقرة، ولئلا يكون الولد المسلم بحكم تبعية أمه في الرق ملكاً لكافر، هذا ما تفهمه العبارة ولكنهم قالوا: إن تقييد المحصنات بالمؤمنات لا مفهوم له، وإلا لصار نكاح الحرة الكتابية المباح بآية المائدة مشروطاً بعقد مسلمة، حرة كانت أو أمة، ولم يشترط ذلك؛ ومذهب الشافعي أنه لا يجوز نكاح الأمة مع القدرة على حرة كتابية، والظاهر أن فائدة التقييد الندب إلى مباعدة الكفار فلا ينكح منهن إلا لضرورة، فكأن هذه سورة المواصلة، أسقط فيها أهل المباعدة، والمائدة سورة تمام الدين، فذكر فيها ما يجوز لأهله فلا ضرر في القيد، لأن المفهوم لا يقوى لمعارضة المنطوق مع ما فيه من فائدة الندب إلى الترك، وهذا كما أن قيد الإحصان هنا للندب إلى عدم نكاح الزواني مع جوازه بآية النور ﴿وانكحوا الأيامى منكم﴾ [النور: ٣٢] كما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
236
ولما شرط في هذا النكاح الإيمان، وعبر فيه بالوصف، وكان أمراً قلبياً، لا يطلع على حقيقته إلا الله؛ أعقبه ببيان أنه يكتفى فيه بالظاهر فقال: ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة التامة بالمعلومات والمقدورات ﴿أعلم بإيمانكم﴾ فربما ظهر ضعف إيمان أحد والباطن بخلافه، لكن في التعبير به وبالوصف لا بالفعل إرشاد إلى مزيد التحري من جهة الدين «فاظفر بذات الدين، تربت يداك!». ولما اشترط الدين كان كأنه قيل: فالنسب؟ فأشير إلى عدم اشتراطه بقوله: ﴿بعضكم من بعض﴾ أي كلكم من آدم وإن تشعبتم بعده ﴿فانكحوهن﴾ أي بشرط العجز ﴿بإذن أهلهن﴾ أي من مواليهن، ولا يجوز نكاحهن من غير إذنهم.
ولما كان مما لا يخفى أن السيد المالك للرقبة مالك للمنفعة من باب الأولى كان الأمر بدفع المهور إليهن مفيداً لندب السيد إلى جبرها به من غير أن يوهم أنها تملكه وهي لا تملك نفسها، فلذلك قال تعالى: ﴿وآتوهن أجورهن﴾ وهي المهور ﴿بالمعروف﴾ أي من غير ضرار، لا عليكم ولا عليهن ولا على أهلهن، حال كونهن ﴿محصنات﴾ أي عفائف بانفسهن أو بصون الموالي لهن ﴿غير مسافحات﴾
237
أي مجاهرات بالزنى لمن أراد، لا لشخص معين ﴿ولا متخذات أخدان﴾ أي أخلاء في السر للزنى معينين، لا تعدو ذات الخدن خدنها إلى غيره؛ قال الأصبهاني: وهو - أي الخدن - الذي يكون معك في كل ظاهر وباطن.
ولما لم يتقدم بيان حد الإماء قال مبنياً له: ﴿فإذا أحصن﴾ مبنياً للفاعل في قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم، والمفعول في قراءة الباقين، أي انتقلن من حيز التعريض للزنى بالإكراه إلى حيز الحرائر بأن حفظن فروجهن بكراهتهن للزنى، أو حفظهن الموالي بالرضى لهن بالعفة؛ وقال الشافعي في أوائل الرسالة في آخر الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه: إن معنى (أحصن) هنا: أسلمن، لا نكحن فاصبن بالنكاح، ولا أعتقن وإن لم يصبن، وقال: فإن قال قائل: أراك توقع الإحصان على معان مختلفة؟ قيل: نعم، جماع الإحصان أن يكون دون التحصين مانع من تناول المحرم، فالإسلام مانع، وكذلك الحرية مانعة، وكذلك التزوج والإصابة مانع وكذلك الحبس في البيوت
238
مانع، وكل ما منع أحصن، وقد قال الله عز وجل ﴿وعلمناه صنعة لبؤس لكم لتحصنكم من بأسكم﴾ [الأنبياء: ٨٠] وقال: ﴿لا يقاتلونكم جميعاً إلى في قرى محصنة﴾ [الحشر: ٤١] يعني ممنوعة، قال: وآخر الكلام وأوله يدلان على أن معنى الإحصان المذكور عام في موضع دون غيره، إذ الإحصان ها هنا الإسلام دون النكاح والحرية والتحصين بالحبس والعفاف، وهذه الأسماء التي يجمعها اسم الإحصان - انتهى. ﴿فإن أتين بفاحشة﴾ ولا تكون حينئذ إلا عن رضى من غير إكراه.
ولما كان من شأن النكاح تغليظ الحد، فغلظ في الحرائر بالرجم؛ بين تعالى أنه لا تغليظ على الإماء، بل حدهن بعده هو حدهن قبله، فقال ﴿فعليهن نصف ما على المحصنات﴾ أي الحرائر لأنهن في مظنة العفة وإن كن بغير أزواج ﴿من العذاب﴾ أي الحد - كما كان ذلك عذابهن قبل الإحصان، وهذا يفهمه بطريق الأولى، والمراد هنا الجلد، لأن الرجم لا ينتصف.
ولما كان كأنه قيل: هل هذا لكل عاجز عن الحرة؟ استؤنف جواب هذا السؤال بقوله تعالى مشيراً بأداة البعد إلى أنه مما لا يحسن قربه: ﴿ذلك﴾ أي حل نكاح الإماء الذي ينبغي البعد منه ﴿لمن خشي العنت﴾ أي الوقوع في الزنا الموجب للإثم المقتضي للهلاك
239
بالعذاب في الدنيا والآخرة بما عنده من عظيم الداعية إلى النكاح ومشقة الصبر عنه؛ قالوا: وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر؛ قال الأصبهاني: وقيل: إن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد يؤدي بالإنسان إلى الأمراض الشدية، أما في حق النساء فقد يؤدي إلى اختناق الرحم، وأما في حق الرجال فقد يؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر.
ولما كان هذا التخفيف والتيسير خاصاً بالمؤمنين منا قيد بقوله: ﴿منكم﴾.
ولما بين إباحته وأشار إلى البعد عنه لما فيه من استرقاق الولد صرح بالندب إلى حبس النفس عنه فقال: ﴿وإن تصبروا﴾ أي عن نكاحهن متعففين ﴿خير لكم﴾ أي لئلا تعيروا بهن، أو تسترق أولادكم منهن، ثم أتبع ذلك بتأكيده لذوي البصائر والهمم في سياق دال على رفع الحرج فقال: ﴿والله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام ﴿غفور﴾ أي لمن لم يصبر، والمغفرة تشير إلى نوع تقصير ﴿رحيم *﴾ أي فاعل به فعل الراحم منكم بالإذن في قضاء وطره واللطف فيما يتبع ذلك من المحذور.
240
ولما أتم سبحانه الحلال والحرام من هذه الحدود والأحكام،
240
وختمها بصفة الرحمة بين ما أراد بها من موجبات الرحمة تذكيراً بالنعمة لتشكر، وتحذيراً من أن تنسى فتكفر فقال تعالى: ﴿يريد الله﴾ أي الملك الأعظم إنزال هذه الأحكام على هذا النظام ﴿ليبين لكم﴾ أي ليوقع لكم البيان الشافي فيما لكم وعليكم من شرائع الدين ﴿ويهديكم﴾ أي يعرفكم ﴿سنن﴾ أي طرق ﴿الذين﴾ ولما كان المراد بعض الماضين قال: ﴿من قبلكم﴾ أي من أهل الكتاب: الأنبياء وأتباعهم ﴿ويتوب عليكم﴾ أي يرجع بكم عن كل ما لا يرضيه، لا سيما ما يجر إلى المقاطعة - مثل منع النساء والأطفال الإرث، ومثل نكاح ما يحرم نكاحه وغير ذلك، فأعلمهم بهذا أنهم لم يخصهم بهذه التكاليف، بل يسلك بهم فيها صراط الذين أنعم عليهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول وأعون على الامتثال، وليتحققوا أن إلقاء أهل الكتاب الشبه إليهم وتذكيرهم بالأضغان لإرادة إلقاء العداوة محض حسد لمشاركتهم لهم في مننهم إذ هدوا لسننهم، وما أحسن ختم ذلك بقوله: ﴿والله﴾ أي المحيط بأوصاف الكمال ﴿عليم حكيم *﴾ فلا يشرع لكم شيئاً إلا وهو في غاية الإحكام. فاعملوا به يوصلكم إلى دار السلام.
بيان ذلك أن ما في هذه السورة الأمر بالتقوى والحث عليها،
241
وبيان الفرائض وأمر الزناة، وما يحل ويحرم من النساء، والتحري في الأموال، والإحسان إلى الناس، لا سيما الأيتام والوالدين، والإذعان للأحكام، وتحريم القتل، والأمر بالعدل في الشهادة وغيرها، وكل ذلك مبين أصوله في التوراة كما هو مبثوث في هذا الديوان عن نصوصها في المواضع اللائقة به، لكن القرآن أحسن بياناً وأبلغ تبياناً وأبدع شأناً وألطف عبارة وأدق إشارة، وأعجب ذلك أن سبب إنزال فرائض الميراث في شريعتنا النساء، ففي الصحيحين وغيرهما عن جابر رضي الله عنه قال: «مرضت فعادني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتاني وقد أغمي عليّ» وفي رواية البخاري في التفسير: «عادني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ فصب عليّ وضوءه فأفقت، فقلت: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي؟» وفي رواية لمسلم: «إنما يرثني كلالة فلم يجبني بشيء» وفي رواية الترمذي: «وكانت لي تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث» وفي رواية للبخاري: «فنزلت» وفي رواية للترمذي: «حتى نزلت (يوصيكم الله في أولادكم) » وفي رواية للترمذي: حتى نزلت آية الميراث ﴿يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة﴾ الآية، وقال: حديث صحيح. ولأبي داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
«جاءت
242
امرأة سعد بن ربيع بابنتيها من سعد رضي الله عنهم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال، قال: يقضي الله عز وجل في ذلك، فنزلت آية الميراث» وفي رواية أبي داود: ونزلت الآية في سورة النساء، ﴿يوصيكم الله في أولادكم﴾ وفي رواية الدارقطني: «فنزلت سورة النساء، وفيها ﴿يوصيكم الله في أولادكم﴾ إلى آخر الآية - فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك» وفي رواية للدارقطني: «إن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله! إن سعداً هلك وترك ابنتين وأخاه فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن، فلم يجبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مجلسه ذلك، ثم جاءته فقالت: يا رسول الله! ابنتا سعد؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادعي لي أخاه! فجاء فقال: ادفع إلى ابنتيه الثلثين، وإلى امرأته الثمن،
243
ولك ما بقي» وقال شيخنا حافظ عصره أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر في الإصابة في أسماء الصحابة: روى أبو الشيخ في تفسيره من طريق عبد الله بن الأجلح الكندي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الأولاد الصغار حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت، وترك بنتين وابناً صغيراً، فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقالت امرأته للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فأنزل الله تعالى ﴿للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون﴾ [النساء: ٧] فأرسل إلى خالد وعرفطة فقال: لا تحركا من الميراث شيئاً» ورواه أبو الشيخ من وجه آخر فقال: قتادة وعرفطة ورواه الثعلبي في تفسيره فقال: سويد وعرفطة، ووقع عنده أنهما أخوا أوس: ورواه مقاتل في تفسيره لفقال: إن أوس بن مالك توفي يوم أحد وترك امرأته أم كجة وبنتين
244
فذكر القصة «وذكر شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف أن الثعلبي والبغوي ساقا بلا سند أن أوس بن الصامت الأنصاري ترك امرأته أم كجة وثلاث بنات، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطه أو قتادة وعرفجة ميراثة عنهن، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة، فجاءت أم كجة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد الفضيخ، فشكت إليه، فقال: ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله، فنزلت
﴿للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون﴾ [النساء: ٧] فبعث إليهما: لا تفرقا من مال أوس شيئاً، فإن الله قد جعل لهن نصيباً، ولم يبين حتى نزلت ﴿يوصيكم الله في أولادكم﴾ الآية، فأعطى أم كجة الثمن والبنات الثلثين والباقي لابني العم «ورواه الطبري من طريق ابن جريج عن عكرمة على غير هذا السياق، ولفظه:»
نزلت في أم كجة وابنة أم كجة وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الأنصار، كان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله! توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث، فقال عم ولدها: إن ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلاًّ
245
ولا ينكأ عدواً، فنزلت ﴿للرجال نصيب﴾ [النساء: ٧]، وروي من طريق السدي، قال في قوله: ﴿يوصيكم الله في أولادكم﴾ [النساء: ١١] «كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان، ولا يورثون إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كجة، وترك خمس أخوات، فجاءت الورثة فأخذوا ماله، فشكت أم كجة ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله ﴿فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك﴾ [النساء: ١١] ثم قال في أم كجة ﴿ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد﴾ [النساء: ١٢] ».
فجميع هذه الروايات - كما ترى - ناطقة بأن سبب نزول آيات الميراث النساء، ويمكن أن يكون المجموع سبباً - والله أعلم؛ وذلك كما أن سبب إنزال الفرائض في التوراة كان النساء أيضاً، وذلك أنه جل أمره وعز اسمه وتعالى جده لما أمات من نكص عن أمره من بني إسرائيل ومن آلافهم في التيه وأخرج أبناءهم منه؛ أمر موسى عليه الصلاة والسلام بقسمة أرض الكنعانيين بين بنيهم بعد معرفة عددهم على منهاج ذكره، ولم يذكر البنات، وكان فيهم بنات لا أب
246
لهن فسألن ميراث أبيهن، فأنزل الله حكمهن؛ قال في السفر الرابع من التوراة ما نصه: ولما كان بعد الموت الفاشي قال الرب لموسى ولليعازر بن هارون الحبر: احفظا عدد جماعة بني إسرائيل من ابن عشرين سنة إلى فوق، كل من خرج للمحاربة من بين بني إسرائيل فكلما الجماعة في عربات مؤاب التي عند أردن أريحا، وأخبراهم بقول الرب، ثم أحصياهم، فكان عددهم ستمائة ألف وسبعمائة وثلاثين رجلاً غير اللاويين سبط موسى فإنهم كانوا لحفظ قبة الزمان وخدمتها، وكانوا ثلاث قبائل: أحدهم فغث فولد له عمران، وكان اسم امرأة عمران حنة ابنة لوى، ولدت له بأرض مصر هارون
247
وموسى ومريم، وكان عددهم في هذا الوقت ثلاثة وعشرين ألفاً، كل ذكر منهم ابن شهر فما فوق، ولم يكن في هؤلاء ممن أحصاه موسى وهارون حيث عدا بني إسرائيل في برية سيناء، لأن الرب قال لهم: يقتلون في هذه المفازة، ولا يبقى منهم رجل ما خلا كلاب بن يوفنا ويوشع بن نون، ودنا بنات صلفحد من قبيلة منشى بن يوسف وقلن: أبونا توفي في البرية ولم يخلف ابناً، أعطنا ميراثنا، فرفع موسى أمرهن إلى الرب فقال الرب لموسى: الحق قلن أعطهن ميراثاً مع أعمامهن ليتبين ميراث أبيهن وقلن لبني إسرائيل: أي رجل مات ولم يخلف ابناً يعطى ميراثه ابنته وإن لم يكن له ابنة يعطى ميراثه إخوته ومن لم يكن له إخوة يعطى ميراثه أعمامه ومن لم يكن له أعمام يعطى ميراثه لمن كان قرابته من أهل عشيرته، وتكون هذه سنة لبني إسرائيل في أحكامهم كما أمر الرب موسى؛ وقال في السفر الثالث منها ما نصه سنة الخطايا التي إذا ارتكبها إنسان
248
عوقب بالموت: وكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل، وقل لهم: أنا الله ربكم! لا تعملوا مثل أعمالكم أهل مصر التي سكنتموها، ولا تعملوا مثل أعمال أهل كنعان التي أدخلكم إليها ولا تسيروا سنتهم ولكن اعملوا بأحكامي، واحفظوا وصاياي، وسيروا بها، أنا الله ربكم! احفظوا شرائعي وأحكامي.
لأن الذي يعمل بها يعيش، أنا الرب وليس إله غيري! ولا يجسرن الرجل منكم أنيكشف عورة قرابته، أنا الرب وليس إله غيري! ولا تكشفن عورة أبيك ولا عورة أمك، لأنها أمك، ولا تفضح امرأة ابنك ولا تكشف عورتها، لان عورتها عورة ابنك، ولا تفضح أختك من أبيك ومن أمك التي ولدت من أبيك، أو أختك من أمك لا من أبيك، لا تكشف عورتها، لأن فضيحتها فضيحتك، ولا تكشف عورة بنت امرأة أبيك التي ولدت من أبيك، لأنها أختك، ولا تكشف عورة عمتك لإنها أخت أبيك ولا تكشف عورة خالتك لأنها أخت أمك ولا تكشف عورة امرأة عمك ولا تدن من امرأته، لأنها امرأة عمك، ولا تكشف عورة كنتك، لأنها امرأة ابنك، ولا تكشف
249
عورة امرأة أخيك، لأن فضيحتها فضيحة أخيك، ولا تكشف عورة امرأة وبنتها، أي لا تتزوج بهما، ولا تكشف عورة بنت الابن ولا بنت البنت، لأن فضيحتهما فضيحتك، ولا تكشف عورتهما، هن قرابتك وارتكابهن إثم، ولا تتزوج أخت امرأتك في حياتها فتحزنها، ولا تكشف عورتهما جميعاً في حياة امرأتك، والمرأة إذا حاضت وطمثت لا تدن لتكشف عورتها، ولا تسفح بامرأة صاحبك ولا تنجس، ولا تنجس اسم إلهك، أنا الله ربكم! لا تضاجعن الذكر، ولا ترتكب من الذكر ما ترتكب من المرأة، لأنه فعل نجس، ولا بهيمة، ولا تلق زرعك فيها فتنجس بها، والمرأة أيضاً لا تقوم بين يدي بهيمة تطأها، لأنه فعل نجس، لا تنجسوا منها بشيء، فبهذه كلها تنجست الشعوب التي أهلكتها من بين أيديكم وتنجست أرضهم بفعلهم وعاقبتها بإثمها وتعطلت الأرض من سكانها لحال خطاياهم؛ احفظوا عهودي وأحكامي ولا ترتكبوا شيئاً من هذه الخطايا لأن أهل البلاد التي ترثونها فعلوا هذه الأفاعيل كلها
250
وتنجست الأرض بهم، ولا تنجسوا الأرض لئلا تعطل منكم كما تعطلت من الشعوب التي كانوا يها قبلكم، لأن كل من يفعل هذه الخطايا يهلك؛ احفظوا شرائعي ولا ترتكبوا شيئاً من سير الخطايا التي فعلها من كان قبلكم، ولا تنجسوا بها، أنا الله ربكم!.
ثم كلم الرب موسى وقال له: كلم جميع بني إسرائيل وقل لهم: تقدسوا، لأني قدوس، أنا الله ربكم! يهاب كل امرىء منكم والديه ويكرمهما، واحفظوا وصاياي، لأني أنا الله ربكم! لا تقبلوا إلى الشيطان ولا تتخذوا آلهة مسبوكة، أنا الله ربكم وقال في السفر الثاني: ولا تصدقن الخبر الكاذب، لا توالِ الخبيث لتكون له شاهد زور، ولا تتبعن هوى الكبير فتنسى، ولا تشايعن الكبراء الذين يحيفون في القضاء فتحيف معهم، ولا تعن المسكين على الظلم، لا تحيفن في فضاء المسكين وتباعد عن القول الكاذب. وقال في السفر الخامس: ودعا موسى بجميع بني إسرائيل وقال لهم: اسمعوا يا بني إسرائيل السنن والأحكام التي أتلوا عليكم لتعلموها وتحفظوها وتعملوا بها، وتعلمون
251
أن الله ربنا عاهدنا عهداً بأرض حوريب، ولم يعاهد الله آباءنا بهذا العهد، بل إنما عاهدنا، نحن الذين ها هنا أحياناً سالمين، وجهاً قبل وجه كلمنا الرب في النار عن الجبل، فأنا كنت قائماً بين يدي الرب وبينكم لأظهر لكم ذلك الزمان أقول الله ربكم، حيث فرقتم من النار ولم تصعدوا إلى الجبل، وقال الرب: أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر وخلصتكم من العبودية! لا يكون لكم إله غيري، ولا تتخذوا أصناماً ولا أشباهاً، ولا تقسم باسم ربك كذباً، لأن الربّ لا يزكي من يحلف باسمه كذباً، احفظوا يوم السبت وطهروه - إلى أن قال؛ لا تعملوا فيه عملاً ليستريح عبيدكم وإماؤكم معكم، واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر فأخرجكم الله ربكم من هناك بيد منيعة وذراع عظيمة، لذلك أمركم ربكم أن تحفظوا يوم السبت، فيكرم كل امرىء منكم والديه كما أمركم الله ربكم لتطول أعماركم، وينعم عليكم في الأرض التي يعطيكم، لا تقتلوا، لا تزنوا، لا تسرقوا، لا يشتهين الرجل منكم امرأة صاحبه - إلى أن قال: ولا شيئاً مما لصاحبك - هذه الآيات
252
التي أمر بها الرب بني إسرائيل، وكلمهم بها في الجبل من النار بالسحاب والضباب بصوت عظيم لا يوصف ولا يحد، وهي التي كتبها على لوحي الحجارة ودفعها إلى موسى النبي - فما سمعتم صوتاً من الظلمة ورأيتم ناراً تشتعل في الجبل تقدم إليّ رؤساؤكم، وقالوا: قد أرانا الله ربنا مجده وكرامته وعظمته، اليوم رأينا أن كلم الله الناس وعاشوا، إن عدنا نسمع صوت الله ربنا متنا، تقدم أنت واسمع ما يقول الله ربنا وقص علينا فسمع الرب صوت كلامكم حين كلمتموني وقال لي الرب: قد سمعت صوت الشعب وما قالوا لك، نعم ما تكلموا به ويا ليت تكون لهم قلوب هكذا، فتكون تسمع وتطيع وتتقوى، ويفزعون من قولي، ويحفظون جميع وصاياي، كلها احفظوا، واعملوا بما أمركم الله ربكم ولا تحيدوا يمنة ولا يسرة، بل سيروا في كل الطريق الذي أمركم ربكم لتعيشوا، وينعم عليكم، وتطول
253
مدتكم في الأرض التي ترثون - هذه السنن والوصايا والأحكام التي أمرني الله ربكم أن أعلمكم لتعلموا وتتقوا الله ربكم أنتم وبنوكم كل أيام حياتكم فتطول أعماركم، اسمعوا يا بني إسرائيل! الله ربنا واحد، أحبوا الله ربكم في كل قلوبكم، ولتكن هذه الآيات التي أمركم في قلوبكم أبداً، وعلموها بنيكم، وتكلموا بها إذا حضرتم في منازلكم، وإذا سافرتم، وإذا رقدتم، وإذا قمتم، وشدوها علامة على أيديكم، ويكون ميسماً بين أعينكم، واكتبوها على قوائم بيوتكم وعلى أبوابكم، ولا تنسوا الله ربكم، وإياه فاعبدوا وباسمه فأقسموا، ولا تتبعوا الآلهة الأخرى التي تعبدها الشعوب التي حولكم، لأن الله ربكم الحالّ فيكم هو إله غيور فاتقوه، لا يشتد غضبه عليكم، ويهلككم عن حديد الأرض، ولا تجربوا الله ربكم كما جربتموه بالبلايا، ولكن احفظوا وصية الله ربكم وشهادته وسنته التي أمركم بها، فاعملوا الحسنات، وأنصفوا واعدلوا لينعم عليكم، وتدخلوا وترثوا الأرض المخصبة
254
التي أقسم الله لآبائكم، ويكسر جميع أعدائكم ويهزمهم قدامكم كما قال الرب، فإذا سألكم بنوكم غداً وقالوا: ما الشهادة والسنة والحكومة التي أمركم الله بها؟ قولوا لبنيكم: إنا كنا عبيداً لفرعون بأرض مصر، وأخرجنا الرب من أرض مصر بيد منيعة، وأنزل بأهل مصر بلاء شديداً، وفعل ذلك بفرعون وجميع أهل بيته تجاهنا، وأخرجنا الرب من هناك ليدخلنا ويعطينا الأرض التي أقسم لآبائنا، وأمرنا الرب أن نعمل هذه السنن كلها، وأن نتقي الله ربنا لينعم كل أيامنا، ويحيينا بالخير والنعم، ويكون ربنا بنا براً إذا حفظنا هذه الوصية كلها، وعلمناها أمام الله ربنا كما أمرنا.
وقال في السفر الخامس: ولا تكف يدك عن العطاء والصدقة على أخيك المسكين، ولكن يصدق بعضكم على بعض، ويعطي بعضكم بعضاً، ولا يضيق قلبك، ولا تحزن إذا صدقت على أخيك، لأنك إذا فعلت هذا القول وأوسعت على أخيك يبارك الله لك في جميع أعمالك، وفي كل ما تمد يدك إليه، من أجل أن الأرض لا تعدم المساكين، فلذلك
255
آمرك - والعزم إليك - أن تمد يدك إلى أخيك المسكين، وتصدق على الفقير في الأرض. وقال فيه: أنصفوا بين إخوتكم وأحكموا بالحق ولا تحيفوا في القضاء، واسمعوا من الصغير كما تسمعون من الكبير، ولا تهابوا الرجل ولو عظم شأنه وكثرت أمواله، لأن القضاء لله.
وقال فيه: صيروا لكم قضاة وكتاباً في جميع قراكم، وتقضون للشعب قضاء العدل والبر، ولا تحيفن في القضاء، ولا تحابوا ولا ترتشوا، لأن الرشوة تعمي أعين الحكام في القضاء، ولكن أقضي بالحق لتعيشوا وتبقوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم - فقد علم من هذا أصول غالب ما ذكره تعالى في هذه السورة مع ما تقدم من أشكاله في البقرة عند قوله تعالى: ﴿وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله﴾ [البقرة: ٨٣] وغيرها من الآيات، وفي آل عمران أيضاً، وأما حد الزاني وأمر القتل والجراح فسيذكر إن شاء الله تعالى في المائدة.
256
ولما قرر سبحانه وتعالى إرادته لصلاحهم ورغب في اتباع الهدى بعلمه وحكمته عطف على ذلك قوله: ﴿والله﴾ بلطف منه وعظم سلطانه ﴿يريد﴾ إي بإنزاله هذا الكتاب العظيم وإرساله هذا الرسول
256
الكريم ﴿أن يتوب عليكم﴾ أي يرجع لكم بالبيان الشافي عما كنتم عليه من طرق الضلال لما كنتم فيه من العمى بالجهل، وزادهم في ذلك رغبة بقوله: ﴿ويريد الذين يتبعون﴾ أي على سبيل المبالغة والاستمرار ﴿الشهوات﴾ أي من أهل الكتابين وغيرهم كشاش بن قيس وغيره من الأعداء ﴿أن تميلوا﴾ أي عن سبيل الرشاد ﴿ميلاً عظيماً *﴾ أي إلى أن تصيروا إلى ما كنتم فيه من الشرك والضلال، فقد أبلغ سبحانه في الحمل على الهدى بموافقة الولي المنعم الجليل الذي لا تلحقه شائبة نقص، ومخالفة العدو الحسود الجاهل النازل من أوج العقل إلى حضيض طباع البهائم.
ولما كان الميل متعباً لمرتكبه أخبرهم أن علة بيانه للهداية وإرادته التوبة الرفق بهم فقال: ﴿يريد الله﴾ أي وهو الذي له الجلال والجمال وجميع العظمة والكمال ﴿أن يخفف عنكم﴾ أي يفعل في هذا البيان وهذه الأحكام فعل من يريد ذلك، فيضع عنكم الآصار التي كانت على من كان قبلكم الحاملة على الميل، ويرخص لكم في
257
بعض الأشياء كنكاح الأمة - على ما تقدم، ودل على علة ذلك بالواو العاطفة؛ لأنكم خلقتم ضعفاء يشق عليكم الثقل ﴿وخلق الإنسان﴾ أي الذي أنتم بعضه ﴿ضعيفاً *﴾ مبناه الحاجة، فهو لا يصبر عن النكاح ولا غيره من الشهوات، ولا يقوى على فعل شيء إلا بتأييد منه سبحانه.
ولما كان غالب ما مضى مبنياً على الأموال تارة بالإرث، وتارة بالجعل في النكاح، حلالاً أو حراماً؛ قال تعالى - إنتاجاً مما مضى بعد أن بين الحق من الباطل وبين ضعف هذا النوع كله، فبطل تعليلهم لمنع النساء والصغار من الإرث بالضعف، وبعد أن بين كيفية الترصف في أمر النكاح بالأموال وغيرها حفظاً للأنساب، ذاكراً كيفية التصرف في الأموال، تطهيراً للإنسان، مخاطباً لأدنى الأسنان في الإيمان، ترفيعاً لغيرهم عن مثل هذا الشأن: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان والتزام الأحكام.
ولما كان الأكل أعظم المقاصد بالمال، وكان العرب يرون التهافت على الأكل أعظم العار وإن كان حلالاً؛ كنى به التناول
258
فقال: ﴿لا تأكلوا﴾ أي تتناولو ﴿أموالكم﴾ أي الأموال التي جعلها الله قياماً للناس ﴿بينكم بالباطل﴾ أي من التسبب فيها بأخذ نصيب النساء والصغار من الإرث، وبعضل بعض النساء وغير ذلك مما تقدم النهي عنه وغيره.
ولما نهى عن الأكل بالباطل، استدرك ما ليس كذلك فقال: ﴿إلا أن تكون﴾ أي المعاملة المدارة المتداولة بينكم ﴿تجارة﴾ هذا في قراءة الكوفيين بالنصب، وعلى قراءة غيرهم: إلا أن توجد تجارة كائنة ﴿عن تراض منكم﴾ أي غير منهي عنه من الشارع، ولعل الإتيان بأداة الاستثناء المتصل - والمعنى على المنقطع - للإشارة إلى أن تصرفات الدنيا كلها جديرة بأن يجري عليها اسم الباطل ولو لم يكن إلا معنياً بها تزهيداً فيها وصدّاً عن الاستكثار منها، وترغيباً فيما يدوم نفعه ببقائه، وهكذا كل استثناء منقطع في القرآن، من تأمله حق التأمل وجد للعدول عن الحرف الموضوع له - «وهو لكن» - إلى صورة الاستثناء حكمة بالغة - والله الموفق.
ولما كان المال عديل الروح ونهى عن إتلافه بالباطل، نهى عن
259
إتلاف النفس، لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات لنهب الأموال وما كان بسببها وتسبيبها على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل فقال تعالى: ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ أي حقيقة بأن يباشر الإنسان قتل نفسه، أو مجازاً بأن يقتل بعضكم بعضاً، فإن الأنفس واحدة، وذلك أيضاً يؤدي إلى قتل نفس القاتل، فلا تغفلوا عن حظ أنفسكم من الشكر فمن غفل عن حظها فكأنما مثلها، ثم علله بما يلين أقسى الناس فقال: ﴿إن الله﴾ أي مع ما له من صفات العظمة التي لا تدانيها عظمة ﴿كان بكم﴾ أي خاصة حيث خفف عليكم ما شدده على من كان قبلكم ﴿رحيماً *﴾ أي بليغ الرحمة حيث يسر لكم الطاعة ووفقكم لها فأبلغ سبحانه الترغيب في الامتثال؛ ثم قال ترهيباً من مواقعة الضلال: ﴿ومن يفعل ذلك﴾ أي المنهي عنه من القتل وغيره العظيم الإبعاد عن حضرات الإله ﴿عدواناً وظلماً﴾ أي بغير حق، وعطفه للوصف بالواو يدل على تناهي كل منهما، هذا مع ما أفهمه صفة الفعلان من المبالغة، فكان المراد العدو الشديد المفرط المتجاوز
260
للحدود الناشيء عن العهد وتناهي الظلم الذي لا شائبة فيه للحق ﴿فسوف نصليه ناراً﴾ أي ندخله إياها بوعيد لا خلف فيه وإن طال إمهاله ﴿وكان ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي توعد به ﴿على الله﴾ أي الذي له الجلال والجمال ﴿يسيراً *﴾ أي لأنه لا ينقصه من مكله شيئاً، ولا يمنع منه مانع.
ولما بين تعالى ما لفاعل ذلك تحذيراً، وكان قد تقدم جملة من الكبائر، أتبعه ما للمنتهي تبشيراً جواباً لمن كأنه قال: هذا للفاعل فما للمجتنب؟ فقال على وجه عام: ﴿إن تجتنبوا﴾ أي تجهدوا أنفسكم بالقصد الصالح في أن تتركوا تركاً عظيماً وتباعدوا ﴿كبائر ما تنهون عنه﴾ أي من أكل المال والقتل بالباطل والزنى وغير ذلك مما تقدم روى البزار - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أنه سئل عن الكبائر فقال: ما بين أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين قال الأصبهاني: وكل ذنب عظم الشرع الوعيد عليه بالعذاب وشدده، أو عظم ضرره في الخمس الضرورية: حفظ الدين والنفس والنسب والعقل والمال، فهو كبيرة، وما عداه صغيرة ﴿نكفر عنكم سيئاتكم﴾ أي التي هي دون الكبائر كلها، فإن ارتكبتم
261
شيئاً من الكبائر وأتيتم بالمكفرات من الصلوات الخمس والجمعة وصوم رمضان والحج، أو فرطتم في شيء منها فمنَّ الله عليكم بأن أتاكم بالمرض؛ كفر ذلك المأتي به الصغائر، ولم يقاوم تلك الكبيرة فلم يكفر جميع السيئات، لعدم إتيانه على تلك الكبيرة ﴿وندخلكم مدخلاً كريماً *﴾ أي يجمع الشرف والعمل والجود وكل معنى حسن، ومن فاته جميع ذلك لم يكفر عنه سيئاته، ولم يدخله هذا المدخل، ويكفي في انتفائه حصول القصاص في وقت ما؛ وقال الإمام أحمد: المسلمون كلهم في الجنة - لهذه الآية وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فالله تعالى يغفر ما دون الكبائر، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع في الكبائر، فأي ذنب على المسلمين! ذكره عنه الأصبهاني، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه.
ولما نهى عن القتل وعن الأكل بالباطل بالفعل وهما من أعمال الجوارح، ليصير الظاهر طاهراً عن المعاصي الوخيمة؛ نهى عن التمني الذي هو مقدمة الأكل، ليكون نهياً عن الأكل بطريق الأولى، فإن التمني قد يكون حسداً، وهو المنهي عنه هنا كما هو ظاهر الآية: وهو حرام والرضى بالحرام، والتمني على هذا
262
الوجه يجر إلى الأكل والأكل يعود إلى القتل، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، والنهي هنا للتحريم عند أكثر العلماء فقال: ﴿ولا تتمنوا﴾ أي تتابعوا أنفسكم في ذلك ﴿ما فضل الله﴾ أي الذي له العظمة كلها، فلا ينقصه شيء ﴿به﴾ اي من المال وغيره ﴿بعضكم عن بعض﴾ أي في الإرث وغيره من جميع الفضائل النفسانية المتعلقة بالقوة النظرية كالذكاء التام والحدس الكامل وزيادة المعارف بالكمية والكيفية، أو بالقوة العملية كالعفة التي هي وسط بين الجمود والفجور، والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن، والسخاء الذي هو وسط بين الإسراف والبخل، وكاستعمال هذه القوى على الوجه الذي ينبغي وهو العدالة، أو الفضائل البدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل مع اللذة والبهجة، أو الفضائل الخارجية مثل كثرة الأولاد الصلحاء، وكثرة العشائر والأصدقاء والأعوان، والرئاسة التامة ونفاذ القول، وكونه محبوباً للناس حسن الذكر فيهم؛ فهذه مجامع السعادات وبعضها نظرية لا مدخل للكسب فيها، وبعضها كسبية، ومتى تأمل العاقل في ذلك وجده محض عطاء من الله، فمن
263
شاهد غيره أرفع منه في شيء من هذه الأحوال تألم قلبه وكانت له حالتان: إحداهما أن يتمنى حصول مثل تلك السعادة له، والأخرى أن يتمنى زوالها عن صاحبها وهذا هو الحسد المذموم، لأنه كالاعتراض على الله الذي قسم هذه القسمة، فإن اعتقد أنه أحق منه فقد فتح على نفسه باب الكفر، واستجلب ظلمات البدعة، ومحا نور الإيمان، فإن الله فعال لما يريد، لا يسأل عما يفعل فلا اعتراض عليه، وكما أن الحسد سبب الفساد في الدين فهو سبب الفساد في الدنيا؛ فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ذلك مصلحة، ولو كان غير ذلك فسد، فإن ذلك كله قسمة من الله صادرة عن حكمه وتدبيره وعلمه بأحوال العباد فيما يصلحهم ويفسدهم.
وأما تمني المثل فإن كان دينياً كان حسناً، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا حسد إلا في اثنتين» وإن كان دنيوياً فمن الناس من جوز ذلك، ومنهم من قال - وهم المحققون: لا يجوز ذلك، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة في الدنيا كقصة قارون - قال معنى ذلك الإمام الرازي.
264
ولما نهى سبحانه عن ذلك علله بما ينبه على السعي في الاسترزاق والإجمال في الطلب، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» فقال مشيراً إلى أنه لا ينال أحد جميع ما يؤمل: ﴿للرجال نصيب﴾ أي قد فرغ من تقديره فهو بحيث لا يزيد ولا ينقص، وبين سبحانه أنه ينبغي الطلب والعمل، كما أشار إليه الحديث فقال: ﴿مما اكتسبوا﴾ أي كلفوا أنفسهم وأتعبوها في كسبه من أمور الدارين من الثواب وأسبابه من الطاعات ومن الميراث والسعي في المكاسب والأرباح «جعل رزقي تحت
265
ظل رمحي» «لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً» ﴿وللنساء نصيب مما اكتسبن﴾ أي وكذلك فالتمني حينئذ غير نافع، فالاشتغال به مجرد عناء.
ولما أشار بالتبعيض إلى أن الحصول بتقديره، لا بالكسب الذي جعله سبباً، فإنه تارة ينجحه وتارة يخيبه، فكان التقدير: فاكتسبوا ولا تعجزوا فتطلبوا بالتمني؛ أمر بالإقبال - في الغنى وكل شيء - عليه إشارة إلى تحريك السبب مع الإجمال في الطلب فقال: ﴿وسئلوا الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال.
ولما كان سبحانه تعالى عظمته لا ينقصه شيء وإن جل قال: ﴿من فضله﴾ أي من خزائنه التي لا تنفد ولا يقضيها شيء، وفي ذلك تنبيه على عدم التعيين، لأنه ربما كان سبب الفساد، بل يكون الطلب لما هو له صلاح، وأحسن الدعاء المأثور، وأحسنه ﴿ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار﴾ [البقرة: ٢٠١] ثم علل ذلك
266
بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم الذي بيده مقاليد كل شيء ﴿كان بكل شيء عليماً *﴾ أي فكان على كل شيء قديراً، فإن كمال العلم يستلزم شمول القدرة - كما سيبين إن شاء الله تعالى في سورة طه، والمعنى أنه قد فعل بعلمه ما يصلحكم فاسألوه بعلمه وقدرته ما ينفعكم، فإنه يعلم ما يصلح كل عبد وما يفسده. وعطف على ذلك ما هو من جملة لعلة فقال: ﴿ولكل﴾ أي من القبيلتين صغاراً كانوا أو كباراً ﴿جعلنا﴾ بعظمتنا التي لا تضاهى ﴿موالي﴾ أي حكمنا بأنهم هم الأولياء، أي الأنصار، والأقرباء لأجل الإرث، هم الذين يلون المال ويرثونه، سواء كانوا عصبة خاصة وهم الوراث، أو عصبة عامة وهم المسلمون.
ولما كان الاهتمام بتوريث الصغار أكثر قال: ﴿مما﴾ أي من أجل ما ﴿ترك﴾ أي خلفه ﴿الوالدان﴾ أي لكم، ثم أتبع ذلك ما يشمل حقي الأصل والفرع فقال: ﴿والأقربون﴾ أي إليكم، ثم عطف على ذلك قوله: ﴿والذين﴾ أي وما ترك الذين ﴿عقدت أيمانكم﴾ أي مما تركه من تدلون إليه بنسب أو سبب بالحلف أو الولاء أو الصهر، وذكر اليمين لأن العهد يكون مع
267
المصافحة بها، ثم سبب عن ذلك قوله: ﴿فآتوهم﴾ أي الموالي وإن كانوا صغاراً أو إناثاً على ما بينت لكم في آية المواريث السابقة، واتركوا كل ما خالف ذلك فقد نسخ بها ﴿نصيبهم﴾ أي الذي فرضناه لهم من الإرث موافراً غير منقوص، ولا تظنوا أن غيرهم أولى منهم أو مساوٍ لهم، ثم رهب من المخالفة، وأكد الأمر وعداً ووعيداً بقوله: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿كان على كل شيء شهيداً *﴾ أي فهو يعلم الولي من غيره والخائن من غيره وإن اجتهد في الإخفاء، لأنه لا يخفى عليه شيء، لأنه لا يغيب شيء ولا يغيب عنه شيء، فالمعنى: إنا لم نفعل سوى ما قصدتم من إعطاء المال لمن يحمي الذمار ويذب عن الحوزة، وأنتم كنتم غير منزليه حق منازله لغيبتكم عن حقائق الأمور وغيبتها عنكم، فإنا لم نخرج شيئاً منه لغير الموالي - أي الأنصار - إما بالقرابة أو بالمعاقدة بالولاء أو المصاهرة، فالحاصل أنه لمن يحمي بالفعل، أو بالقوة القريبة منه، أو البعيدة الآئلة إلى القرب، وأما التفضيل في الأنصباء فأمر استأثرنا بعلم مستحقيه، وفي البخاري في التفسير عن ابن عباس: «موالي: ورثة والذين عاقدت أيمانكم
268
كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجرين الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهم، فلما نزلت ﴿ولكل جعلنا موالي﴾ نسخت، ثم قال: ﴿والذي عاقدت أيمانكم﴾ من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له».
269
ثم بين سبحانه وجه استحقاق بعض المفضلين، فقال - جوباً لسؤال من كأنه قال: ما للرجال فضلوا؟ - ﴿الرجال قوامون﴾ أي قيام الولاة ﴿على النساء﴾ في التأديب والتعليم وكل أمر ونهي، وبين سببي ذلك بقوله: ﴿بما فضل الله﴾ أي الذي له الحكمة البالغة والكمال الذي لا يدانى، هبة منه وفضلاً نم غير تكسب ﴿بعضهم﴾ وهم الرجال، في العقل والقوة والشجاعة، ولهذا كان فيهم الأنيباء والولاة والإمامة الكبرى والولاية في النكاح ونحو ذلك من كل أمر يحتاج إلى فضل قوة في البدن والعقل والدين ﴿على بعض﴾ يعني النساء، فقال للرجال ﴿انفروا خفافاً وثقالاً﴾ [التوبة: ٤١] وقال للنساء: ﴿وقرن في بيوتكن﴾ [الأحزاب: ٣٣].
269
ولما ذكر السبب الموهبي أتبعه الكسبي فقال: ﴿وبما أنفقوا﴾ أي من المهور والكسى وغيرها ﴿من أموالهم﴾ أي عليهن، فصارت الزيادة في أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر.
ولما بان بذلك فضلهم، فأذعنت النفس لما فضلوا به في الإرث وغيره، وكان قد تقدم ذكر نكاحهم للنساء والحث على العدل فيهن؛ حسن بيان ما يلزم الزوجات من حقوقهم وتأديب من جحدت الحق، فقال مسبباً لما يلزمهن من حقوقهم عما ذكر من فضلهم ﴿فالصالحات قانتات﴾ أي مخلصات في طاعة الأزواج، ولذلك ترتب عليه ﴿حافظات للغيب﴾ أي لحقوق الأزواج من الأنفس والبيوت والأموال في غيبتهم عنهن ﴿بما﴾ أي بالأمر الذي ﴿حفظ الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة به غيبتهم بفعله فيه فعل من يحفظ من الترغيب في طاعتهم فيما يرضي الله والترهيب من عصيانهم بما يسخطه، ورعي الحدود التي أشار إليها سبحانه من البقرة، وشرحتها سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما عرف بالصالحات لاستحقاق الإنفاق في اللوازم أتبعه حكم غيرهن فقال: ﴿واللاّتي تخافون نشوزهن﴾ أي ترفعهن عليكم عن
270
الرتبة التي أقامهن الله بها، وعصيانهن لكم فيما جعل الله لكم من الحق، وأصل النشوز: الانزعاج في ارتفاع، قال الشافعي: دلالات النشوز قد تكون قولاً، وقد تكون فعلاً، فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها، وتخضع له بالقول إذا خاطبها، ثم تغيرت؛ والفعل مثل أن كانت تقوم له إذا دخل إليها، أو كانت تسارع إلى أمره، وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها، ثم إذا تغيرت فحينئذ ظن نشوزها؛ ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز ﴿فعظوهن﴾ أي ذكروهن من أمر الله بما يصدع قلوبهن ويرققها ويخيفهن من جلال الله.
ولما كان الوعظ موجباً لتحقق الطاعة أو المعصية قال: ﴿واهجروهن﴾ أي إن لم يرجعن بالوعظ ﴿في المضاجع﴾ أي التي كنتم تبيتون معهن فيها من البيت، وفي ضمن الهجر امتناعه من كلامها؛ قال الشافعي: ولا يزيد في هجرة الكلام على ثلاث ﴿واضربوهن﴾ أي إن أصررن ضرب تأديب غير مبرح، وهو ما لا يكسر عظماً ولا يشين عضواً، ويكون مفرقاً على بدناه ولا يوالي به في موضع واحد، ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، ويكون دون الأربعين؛ قال الشافعي: الضرب مباح وتركه أفضل ﴿فإن أطعنكم﴾ أي بشيء من الوعظ،
271
والهجر في موضع المبيت من البيت، أو الضرب ﴿فلا تبغوا﴾ أي تطلبوا ﴿عليهن سبيلاً﴾ أي طريقاً إلى الأذى على ما سلف من العصيان من توبيخ على ما سلف نحوه، بما لكم عليهن من العلو، بل اغفروا لهن ما سلف، ولا يحملنكم ما منحكم الله من العلو على المناقشة، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن الله﴾ أي وقد علمتم ما له من الكمال ﴿كان﴾ ولم يزل ﴿علياً كبيراً *﴾ أي له العلو والكبر على الاطلاق بكمال القدرة ونفوذ المشيئة فهو لا يحب الباغي ولا يقره على بغيه، وقدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن، وهو مع ذلك يعفو عمن عصاه وإن ملأ الأرض خطايا - إذا أطاعه، ولا يؤاخذه بشيء مما فرط في حقه، بل يبدل سيئاته حسنات، فلو أخذكم بذنوبكم أهلككم؛ فتخلقوا بما قدرتم عليه من صفاته لتنالوا جليل هباته، وخافوا سطواته، واحذروا عقوبته، بما له من العلو والكبر.
ولما بين حال الوفاق وما خالطه من شيء من الأخلاق التي يقوم بإصلاحها الزوج، أتبعه حال المباينة والشقاق المحوج إلى من ينصف أحدهما من الآخر فقال: ﴿وإن خفتم﴾ أي أيها المتقون القادرون على الإصلاح من الولاة وغيرهم ﴿شقاق بينهما﴾ أي الزوجين المفهومين من السياق، يكون كل واحد منهما في شق غير الشق الذي فيه الآخر،
272
ولا يكون ذلك إلا وأحدهما على باطل، وأضاف الشقاق إلى البين ليفيد أن هذا العمل إنما يكون عند الخوف من شقاق خاص، وهو أن يكون البين المضاف إليهما - وهو الذي يميز كل واحد منهما من الآخر - لا تمكن في العادة إزالته ليكونا شيئاً واحداً كما كانا لا بين لهما، وذلك بظن أنه لا صلاح في اجتماعهما ﴿فابعثوا﴾ أي إليهما للإصلاح بينهما بإنصاف المظلوم من الظالم ﴿حكماً من أهله﴾ أي الزوج ﴿وحكماً من أهلها﴾ أي الزوجة، هذا أكمل لأن أهلهما أقرب إلى إزالة أسباب الشقاق من بينهما، لأنهم أجدر بالإطلاع على بواطن أمورهما وعلى حقائق أحوالهما، والزوجان أقرب إلى إطلاعهما إن كانا قريبين على ضمائرهما، وأقرب إلى إخفاء ذلك عن الأجانب؛ وفائدة الحكمين أن يخلو كل منهما بصاحبة ويستكشف حقيقة الحال ليعرف وجه الصلاح.
ثم أجاب من كأنه قال: وماذا عسى أن يضيفا؟ بقوله: ﴿إن يريدا﴾ أي الحكمان ﴿إصلاحاً﴾ أي بينهما، وكأنه نكره لأن الإخلاص ووجود الكمال قليل ﴿يوفق الله﴾ الذي له الإحاطة بعلم الغيب والشهادة ﴿بينهما﴾ أي الزوجين لأن صلاح النية أكبر معين
273
على بلوغ المقاصد، وهذا دالعلى أنه لا يكون شيء إلا بالله، وأن الأسباب إنما هي محنة من الله، يسعد بها من يباشرها ويعتمد على الله دونها، ويشقى بها من يجعلها محط قصده، فيعتمد عليها.
ولما كان المصلح قد يظن مفسداً لصدعه بمر الحق من غير مداراة، والمفسد قد يعد مصلحاً لما يرى منه من المداهنة والمراءاة والمكر، فيظن من يخلق الوعد بالتوفيق غير ما في نفس الأمر؛ قال تعالى مزيلاً لهذا الوهم مرغباً ومرهباً: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال ﴿كان عليماً﴾ أي مطلقاً على ما يمكن الاطلاع عليه وإن غاب عن غيره ﴿خبيراً *﴾ أي لا يخفى عليه من ذلك خفي، ولا يغيب عنه خبيء، فصارت هذه الآيات كفيلة بغالب أحوال النكاح، ولم يذكر سبحانه وتعالى الطلاق عندما ذكر الشقاق لتقدمه في البقرة، ولأن مبنى هذه السورة على التواصل والتوادّ دون التفاصل والترادّ كما قال ابن الزبير، ولهذا - أي لبناء السورة على التواصل والائتلاف دون التفاصل والاختلاف - خصت من حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والعدالة إبقاء لذلك التواصل، فلم يكن الطلاق
274
ليناسب هذا، فلم يقع له هنا ذكر ولا إيماء إلا قوله: ﴿وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته﴾ [النساء: ١٣٠]- انتهى.
275
ولما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا بنتيجة التقوى: العدل والفضل، والترغيب في نواله، والترهيب من نكاله - إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى، وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخبر، وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها، فكان التقدير حتماً: فاتقوه؛ عطف عليه، أو على نحو ﴿وسئلوا الله من فضله﴾ [النساء: ٣٢] أو على ﴿اتقوا ربكم﴾ الخُلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة، وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق فقال: ﴿واعبدوا الله﴾ أي أطيعوا - الذي له الكمال كله فلا يشبهه شيء - طاعة محضة من غير شائبة خلاف مع الذل والانكسار، لأن ملاك ذلك كله التعبد بامتثال الأوامر واجتناب الزواجر.
ولما كان سبحانه غنياً لم يقبل إلا الخالص، فقال مؤكداً لما أفهمه
275
ما قبله: ﴿ولا تشركوا به شيئاً﴾.
ولما أمر للواحد الحقيقي بما ينبغي له، وكان لذلك درجتان: أولاهما الإيمان، وأعلاهما الإحسان، فصار المأمور بذلك مخلصاً في عبادته؛ أمره بالإحسان في خلافته، وبدأ بأولى الناس بذلك، وهو من جعله سبباً لإيجاده فقال - مشيراً إلى أنه لا يرضى له من ذلك إلا درجة الإحسان، وإلى أن من أخلص له أغناه عن كل ما سواه، فلا يزال منعماً على من عداه -: ﴿وبالوالدين﴾ أي وأحسنوا بهما ﴿إحساناً﴾ وكفى دلالة على تعظيم أمرهما جعل برهما قرين الأمر بتوحيده سبحانه.
ولما كان مبنى السورة على الصلة لا سيما لذي الرحم، قال مفصلاً لما ذكر أول السورة تأكيداً له: ﴿وبذي القربى﴾ لتأكد حقهم بمزيد قربهم، ولاقتضاء هذه السورة مزيد الحث على التعاطف أعاد الجار، ثم أتبع ذلك من تجب مراعاته لله، أو لمعنى تفسد بالإخلال به ذات البين، وبدأ بما لله لأنه إذا صح تبعه غيره فقال: ﴿واليتامى والمساكين﴾ أي وإن لم تكن رحمهم معروفة، وخصهم لضعفهم وقدم اليتيم لأنه أضعف، لأنه لصغره يضعف عن دفع حاجته ورفعها إلى غيره ﴿والجار ذي القربى﴾ أي لأن له حقين ﴿والجار الجنب﴾
276
أي الذي لا قرابة له، للبلوى بعشرته خوفاً من بالغ مضرته «اللهم! إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول» ﴿والصاحب الجنب﴾ أي الملاصق المخالط في أمر من الأمور الموجبة لامتداد العشرة ﴿وابن السبيل﴾ أي المسافر لغربته وقلة ناصره ووحشته ﴿وما ملكت أيمانكم﴾ أي من العبيد والإماء كذلك، فإن الإحسان إليهم طاعة عظيمة «آخر ما تكلم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة وما ملكت أيمانكم».
ولما ذكر الإحسان الذي عماده التواضع والكرم، ختم الآية ترغيباً فيه وتحذيراً من منعه معللاً للأمر به بقوله: ﴿إن الله﴾ أي بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى ﴿لا يحب﴾ أي لا يفعل فعل المحب مع ﴿من كان مختالاً﴾ أي متكبراً معجباً بنفسه متزيناً بحليته مرائياً بما آتاه الله تعالى من فضله على وجه العظم واحتقار الغير، يأنف من أن ينسب إليه أقاربه الفقراء، ويقذر جيرانه إذا كانوا ضعفاء، فلا يحسن إليهم لئلا يلمّوا به فيعيَّر بهم.
ولما كان المختال ربما أحسن رياء، قال معلماً أنه لا يقبل إلا الخالص: ﴿فخوراً *﴾ مبالغاً في التمدح بالخصال، يأنف من عشرة الفقراء
277
وفي ذلك أتم ترهيب من الخلق المانع من الإحسان، وهو الاختيال على عباد الله والافتخار عليهم ازدراء بهم، فإنه لا مقتضى لذلك لأن الكل من نفس واحدة، والفضل نعمة منه سبحانه، يجب شكرها بالتواضع لتدوم، ويحذر كفرها بالفخار خوفاً من أن تزول.
ولما كان الاختيال والفخر على الفرح بالأعراض الفانية والركون إليها والاعتماد عليها، فكانا حاملين على البخل خوفاً من زوالها؛ قال واصفاً لهم بجملة من الأخلاق الرديئة الجلية، ذلك منشأها: ﴿الذين يبخلون﴾ أي يوقعون البخل بما حملهم من المتاع الفاني على الفخار، وقصره ليعم كتم العلم ونحوه؛ ثم تلا ذلك بأسوأ منه فقال ﴿ويأمرون الناس بالبخل﴾ مقتاً للسخاء، وفي التعبير بما هو من النوس إشارة إلى أنهم لا يعلقون أطماعهم بذلك إلا بذوي الهمم السافلة والرتب القاصرة، ويحتمل أن يكون الأمر كناية عن حملهم غيرهم على البخل بما يرى من اختيالهم وافتخارهم عليهم؛ ثم أتبع ذلك أخبث منه، وهو الشح بالكلام الذي لا يخشى نقصه وجحد النعمة وإظهار الافتقار فقال: ﴿ويكتمون ما أتاهم الله﴾ أي الذي له الجلال
278
والإكرام ﴿من فضله﴾ أي من العلم جاحدين أن يكون لهم شيء يجودون به. قال الأصبهاني: ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر، مثل أن يظهر الشكاية لله سبحانه وتعالى ولا يرضى بالقضاء. ثم عطف على ﴿إن الله لا يحب﴾ ملتفتاً إلى مقام التكلم، دلالة على تناهي الغضب وتعييناً للمتوعد، مصرحاً بمظهر العظمة الذي دل عليه هناك بالاسم الأعظم قوله: ﴿وأعتدنا﴾ أي أحضرنا وهيأنا، وكان الأصل: لهم، ولكنه قال - تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، وإعلاماً بأن ذلك حامل على الكفر -: ﴿للكافرين﴾ أي بفعل هذه الخصال كفراً حقيقياً بما أوصلهم إليه لزوم الأخلاق الدنية، أو مجازياً بكتمان النعمة ﴿عذاباً مهيناً *﴾ أي بما اغتروا بالمال الحامل على الفخر والكبر والاختيال «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر».
ولما ذم المقترين، أتبعه ذم المسرفين المبذرين فقال - عطفاً على ﴿الكافرين﴾ أو ﴿الذين يبخلون﴾ معرفاً أن الذين لا يحسنون على الوجه المأمور به فيمن تقدم الأمر بالإحسان إليهم فرقتان: فرقة يمنعون النفقة أصلاً، وفرقة يمنعون وصفها ويفعلونها رياء، فيعدمون بذلك روحها -: ﴿والذين ينفقون﴾ وأشار إلى عظيم رغبتهم في نفقتهم
279
بقوله: ﴿أموالهم﴾ ودل على خسة مقاصدهم وسفول هممهم بقوله: ﴿رئاء الناس﴾ أي لقصور نظرهم وتقيده بالمحسوسات كالبهائم التي لا تدرك إلا الجزيئات المشاهدات.
ولما ذكر إخراج المال على وجه لا يرضاه ذو عقل، ذكر الحامل عليه مشيراً إلى أنهم حقروا أنفسهم بما عظموها به، وذلك أنهم تعبدوا للعبيد، وتكبروا على خالقهم العزيز المجيد فقال: ﴿ولا يؤمنون بالله﴾ وهو الملك الأعظم. ولما كان المأمور بالإحسان إليهم هنا من الوالدين ومن ذكر معهم أخص ممن أشير إليهم في البقرة، أكد بزيادة النافي فقال: ﴿ولا باليوم الآخر﴾ الحامل على كل خير، والنازع عن كل شر.
ولما كان التقدير: فكان الشيطان قرينهم، لكفره بإعجابه وكبره؛ عطف عليه قوله: ﴿ومن يكن الشيطان﴾ أي وهو عدوه البعيد من كل خير، المحترق بكل ضير ﴿له قريناً﴾ فإنه يحمله على كل شر، ويبعده عن كل خير؛ وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿فساء قريناً *﴾
ولما كان التقدير: فماذا لهم في الكفر والإنفاق رياء لمن لا ضر
280
ولا نفع بيده؟ عطف عليه قوله تعنيفاً لهم وإنكاراً عليهم: ﴿وماذا عليهم﴾ أي من حقير الأشياء وجليلها ﴿لو آمنوا بالله﴾ أي الذي له كل كمال، وبيده كل شيء ﴿واليوم الآخر﴾ الحامل على كل صلاح ﴿وأنفقوا﴾.
ولما وصفهم بإنفاق جميع أموالهم للعدو الحقير أشار إلى شحهم فيما هو لله العلي الكبير بشيء يسير يحصل لهم به خير كثير، فقال: ﴿مما رزقهم الله﴾ الذي له الغنى المطلق والجود الباهر، ولما كان التقدير: فقد كان الله عليهم لما بذروا أموالهم قديراً، عطف عليه قوله: ﴿وكان الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿بهم﴾ أي في كلتا الحالتين ﴿عليماً *﴾ أي بليغ العلم، وللإعلام بعظمة العلم بهم قدم الجار المفيد للاختصاص في غير هذا الموضع.
281
ولما فرغ من توبيخهم قال معللاً: ﴿إن الله﴾ أي الذي له كل كمال، فهو الغني المطلق ﴿لا يظلم﴾ أي لا يتصور أن يقع منه ظلم ما ﴿مثقال ذرة﴾ أي فما دونها، وإنما ذكرها لأنها كناية عن العدم، لأنها مثل في الصغر، أي فلا ينقص أحداً شيئاً مما عمله، ولا يثيب عليه شيئاً لم يعمله، فماذا على من آمن به وهو
281
بهذه الصفة العظمى.
ولما ذكر التخلي من الظلم، أتبعه التحلي بالفضل فقال عاطفاً على ما تقديره: فإن تك الذرة سيئة لم يزد عليها، ولا يجزي بها إلا مثلها: ﴿وإن﴾ ولما كان تشوف السامع إلى ذلك عظيماً، حذف منه النون بعد حذف المعطوف عليه تقريباً لمرامه فقال: ﴿تك﴾ أي مثقال الذرة، وأنثه لإضافته إلى مؤنث، وتحقيراً له، ليفهم تضعيف ما فوقه من باب الأولى، وهذا يطرد في قراءة الحرميين برفع ﴿حسنة﴾ أي وإن صغرت ﴿يضاعفها﴾ أي من جنسها بعشرة أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى أزيد من ذلك بحسب ما يعلم من حسن العمل بحسن النية ﴿ويؤت من لدنه﴾ أي من غريب ما عنده فضلاً من غير عمل لمن يريد. قال الإمام: وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية، وهذا الأجر إلى السعادات الروحانية ﴿أجراً عظيماً *﴾ وسماه أجراً - وهو من غير جنس تلك الحسنة - لابتنائه على الإيمان، أي فمن كان هذا شأنه لا يسوغ لعاقل توجيه الهمة إلا إليه، ولا الاعتماد أصلاً بإنفاق وغيره إلا عليه.
ولما تم تحذيره من اليوم الآخر وما ذكره من إظهار العدل
282
واستقصائه فيه كان سبباً للسؤال عن حال المبكتين في هذه الآيات إذ ذاك، فقال: ﴿فكيف﴾ أي يكون حالهم وقد حملوا أمثال الجبال من مساوي الأعمال! ﴿إذا جئنا﴾ على عظمتنا ﴿من كل أمة بشهيد﴾ أي يشهد عليهم ﴿وجئنا بك﴾ وأنت أشرف خلقنا ﴿على هؤلاء﴾ أي الذين أرسلناك إليهم وجعلناك شهيداً عليهم ﴿شهيداً *﴾ وفي التفسير من البخاري عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: «قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» اقرأ عليّ «قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال» إني أحب أن أسمعه من غيري «فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً﴾ قال» أمسك «فإذا عيناه تذرفان» ثم استأنف الجواب عن ذلك بقوله: ﴿يومئذ﴾ أي تقوم الإشهاد ﴿يود الذين كفروا﴾ أي ستروا ما تهدي إليه العقول من آياته وبين أنهم مخاطبون بالفروع في قوله: ﴿وعصوا الرسول﴾ بعد ستر ما أظهر من بيناته ﴿لو تسوى بهم الأرض﴾ أي تكون مستوية معتدلة بهم، ولا تكون كذلك إلا وقد غيبتهم واستوت بهم،
283
ولم يبق فيها شيء من عوج ولا نتوّ بسبب أحد منهم ولا شيء من أجسامهم؛ وإنما ودوا ذلك خوفاً مما يستقبلهم من الفضيحة بعتابهم ثم الإهانة بعقابهم.
ولما كان التقدير: فلا تسوى بهم، عطف عليه قوله: ﴿ولا يكتمون الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿حديثاً *﴾ أي شيئاً أحدثوه بل يفتضحون بسيىء أخبارهم، ويحملون جميع أوزارهم، جزاء لما كانوا يكتمون من آياته وما نصب للناس من بيناته.
ولما وصف الوقوف بين يديه في يوم العرض والأهوال الذي أدت فيه سطوة الكبرياء والجلال إلى تمني العدم، ومنعت قوة يد القهر والجبر أن يكتم حديثاً، وتضمن وصفه أنه لا ينجو فيه إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وصف الوقوف بين يديه في الدنيا في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الوقوف في ذلك اليوم، والذي خطرت معاني اللطف والجمال فهي الالتفات إلى غيره، وأمر بالطهارة في حال التزين به عن الخبائث فقال: ﴿يا أيها الذين أمنوا﴾ أي أقروا بالتصديق بالرسل وما أتوا به عن الله، وأوله وأولاه
284
أن لا تشركوا به شيئاً من الإشراك ﴿لا تقربوا الصلاة﴾ أي بأن لا تكونوا في موضعها فضلاً عن أن تفعلوها ﴿وأنتم﴾ أي والحال أنكم ﴿سكارى﴾ أي غائبو العقل من الخمر أو نحوها، فإنه يوشك أن يسبق اللسان - بتمكن الشيطان بزوال العقل - إلى شيء من الإشراك، فيكون شركاً لسانياً وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان، فيوشك أن يعرض ذلك عليه يوم الوقوف الأكبر، فإن من أنتم بين يديه لا يكتم حديثاً، فيود من نطق سانه بذلك - لما يحصل له من الألم - لو كان من أهل العدم! وأصل السكر في اللغة: سد الطريق؛ وسبب نزولها ما رواه مسدد بإسناد - قال شيخنا البوصيري: رجاله ثقات - عن علي رضي الله تعالى عنه «أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فسقاهما قبل أن تحرم الخمر، فأمهم علي رضي الله تعالى عنه في المغرب وقرأ ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ [الكافرون: ١] فنزلت» هكذا رواه، وقد رواه أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وعبد بن حميد والبزار والحاكم والطبري، فبينوا المراد، وهو أن الذي صلى بهم قرأ: أعبد ما تعبدون، وفي رواية الترمذي: ونحن نعبد ما تعبدون.
285
ولما أفهم النهي عن قربانها ي هذا الحال زواله بانقضائه، صرح به في قوله: ﴿حتى﴾ أي ولا يزال هذا النهي قائماً حتى ﴿تعلموا﴾ بزوال السكر ﴿ما تقولون﴾ فلا يقع منكم حينئذ تبديل؛ وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المراد بالصلاة نفسها وموضعها وهو المسجد، وذلك من أدلته على استعمال الشيء في حقيقته ومجازه؛ نهى السكران أن يصلي إلى أن يفهم، أي يصحو، ونهى كل واحد أن يكون في المسجد وهو جنب بقوله عطفاً على محل ﴿وأنتم سكارى﴾ :﴿ولا﴾ أي ولا تقربوا الصلاة بالكون في محالها فضلاً عنها ﴿جنباً﴾ أي ممنين بالفعل أو القوة القريبة منه بالتقاء الختانين، لأن الجنابة المني سواء كان عن جماع أو لا في حال من أحوال الجنابة ﴿إلا عابري سبيل﴾ أي مارين مروراً من غير مكث ولا صلاة؛ ولما غيَّى منع الجنابة بقوله: ﴿حتى تغتسلوا﴾ أي تغسلوا البدن عمداً، ولما كان للإنسان حالات يتعسر أو يتعذر فيها عليه استعمال الماء؛ ذكرها فقال مرتباً لها على الأحوج إلى الرخصة فالأحوج: ﴿وإن كنتم مرضى﴾ أي بجراحة أو غيرها مرضاً يمنع من طلب الماء أو استعماله ﴿أو على سفر﴾ كذلك سواء كان السفر طويلاً أو قصيراً ﴿أو جاء أحد منكم﴾ أي
286
أيها المؤمنون! ولو كان حاضراً صحيحاً ﴿من الغائط﴾ أي المكان المطمئن من الأرض الواسع الذي يقصد للتخلي، أي: أو جاء من التخلي فقضى حاجته التي لا بد له منها، فهو بها أحوج إلى التخفيف مما بعده.
ولما تقدم أمر الجنابة التي هي المني أعم من أن تكون بجماع أو غيره، ذكر هنا ما يعمها وغيرها من وجه فقال: ﴿أو لامستم النساء﴾ أي بمجرد التقاء البشرتين أو بالجماع سواء حصل إنزال أو لا، وأخر هذا لأنه مما منه بد، ولا يتكرر تكرر قضاء الحاجة ﴿فلم تجدوا ماء﴾ أي إما بفقده أو بالعجز عن استعماله ﴿فتيمموا﴾ أي اقصدوا قصداً صادقاً بأن تلابسوا ناوين ﴿صعيداً﴾ أي تراباً ﴿طيباً﴾ أي طهوراً خالصاً فهو بحيث ينبت ﴿والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه﴾ [الأعراف: ٥٨] ﴿فامسحوا﴾ وهذه عبادة خاصة بنا.
ولما كان التراب لا يتمكن من جميع العضو وإن اجتهد الإنسان في ذلك أدخل الباء قاصراً للفعل في قوله: ﴿بوجوهكم﴾ أي أوقعوا المسح بها سواء عم التراب منبت الشعر أم لا ﴿وأيديكم﴾ أي منه
287
كما صرح به في المائدة، لا فيه ولا عليه مثلاً، ليفهم التمعك أو أن الحجر مثلاً يكفي، والملامسة جوز الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضاً أن يراد بها المس - أي ملاقاة البشرتين - الذي هو حقيقة اللمس والجماع الذي هو مسبب عن المس، أو هو مماسة خاصة، فهو من تسمية الكل باسم البعض حينئذ.
ولما نهى عما يدني من وقوع صورة الذنب الذي هو جري اللسان بما لا يليق به سبحانه وتعالى، وخفف ما كان شديداً بالتيمم؛ ختم الآية بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي اختص بالكمال ﴿كان عفوّاً﴾ أي بترك العقاب على الذنب، وكأن هذا راجع إلى ما وقع حالة السكر ﴿غفوراً *﴾ أي بترك العقاب وبمحو الذنب حتى لا يذكر بعد ذلك أصلاً، وكأن هذا راجع إلى التيمم، فإن الصلاة معه حسنة، ولولاه كانت سيئة مذكورة ومعاقباً عليها، إما على تركها لمشقة استعمال الماء عند التساهل، أو على فعلها بغير طهارة في بعض وجوه التنطع، وذلك معنى قوله سبحانه وتعالى في المائدة ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج﴾ [المائدة: ٦] ومن كانت عادته العفو والمغفرة كان ميسراً غير معسر.
288
ولما أفهم ختام هذه الآية أن التشديد في الأحكام يكون سبباً للإجرام، فيكون سبباً في الانتقام؛ قرر ذلك بحال اليهود الذين أوجبت
288
لهم الآصار عذاب النار فقال - ليكون ذلك مرغباً في تقبل ما مر من التكاليف ليسره ولرجاء الثواب، مرهباً من تركها خوفاً من العقاب، وليصير الكلام حلواً رائقاً بهجاً بتفصيل نظمه تارة بأحكام، وتارة بأقاصيص عظام، فينشط الخاطر وتقوى القريحة -: ﴿ألم تر﴾ أو يقال: إنه لما حذر سبحانه وتعالى فيما مضى من أهل الكتاب بقوله سبحانه وتعالى ﴿ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً﴾ [النساء: ٢٧] ومر إلى أن أنزل هذه فيمن حرف في الصلاة لسانه فقط لا عن عمد الكلم عن واضعه؛ أتبعها التصريح بالتعجيب من حال المحرفين بالقلب واللسان عمداً وعدواناً اجتراء على الله سبحانه وتعالى، الملوح إليهم بالآية السابقة أنهم يريدون لنا الضلال عما هدينا إليه من سننهم فقال: ﴿ألم تر﴾.
ولما كانوا بمحل البعد - بما لهم من اللعن - عن حضرته الشريفة، عبر بأداة الانتهاء، بصرية كانت الرؤية أو قلبية، فقال: ﴿إلى الذين أوتوا﴾ وحقر أمرهم بالبناء للمفعول وبقوله: ﴿نصيباً من الكتاب﴾ أي كشاس بن قيس الذي أراد الخلف بين الأنصار، وفي ذلك أن أقل شيء من الكتاب يكفي في ذم الضلال، لأنه كاف في الهداية
289
﴿يشترون﴾ أي يتكلفون ويلحون - بما هم فيه من رئاسة الدنيا من المال والجاه - أن يأخذوا ﴿الضلالة﴾ معرضين عن الهدى غير ذاكريه بوجه، وسبب كثير من ذلك ما في دينهم من الآصال والأثقال، كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى ﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة﴾ [مريم: ٥٩] أي بسبب ما شدد عليهم فيها بأنها لا تفعل إلا في الموضع المبني لها، وبغير ذلك من أنواع الشدة، وكذا غيرها المشار إليه بقوله سبحانه وتعالى ﴿فبما نقضهم ميثاقهم﴾ [النساء: ١٥٥] وغير ذلك، ومن أعظمه ما يخفون من صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليتقربوا بذلك إلى أهل دينهم، ويأخذوا منهم الرشى على ذلك، ويجعلوهم عليهم رؤساء.
ولما ذكر ضلالهم المتضمن لإضلالهم، أتبعه ما يدل على إعراقهم فيه، فقال مخاطباً لمن يمكن توجيه هممهم بإضلال إليه: ﴿ويريدون أن تضلوا﴾ أي يا أيها الذين آمنوا ﴿السبيل *﴾ حتى تساووهم، فلذلك يذكرونكم بالأحقاد والأضغان والأنكاد - كما فعل شاس - لا محبة فيكم، ويلقون إليكم الشبهة، فالله سبحانه وتعالى أعلم بهم حيث
290
حذركم منه بقوله ﴿لا يألونكم خبالاً﴾ [آل عمران: ١١٨] وما بعده إلى هنا ﴿والله﴾ أي المحيط علمه وقدرته ﴿أعلم﴾ أي من كل أحد ﴿بأعدائكم﴾ أي كلهم هؤلاء وغيرهم، بما يعلم من البواطن، فمن حذركم منه كائناً من كان فاحذره.
ولما كان كل من قبيلتي الأنصار قد والوا ناساً من اليهود ليعتزوا بهم وليستنصروهم، قال تعالى فاطماً لهم عن موالاتهم: ﴿وكفى﴾ أي والحال أنه كفى به هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الاسم الأعظم لتستحضر عظمته، فيستهان أمر الأعداء فقال: ﴿بالله ولياً﴾ أي قريباً بعمل جميع ما يفعله القريب الشفيق.
ولما كان الولي قد تكون فيه قوة النصرة، والنصير قد لا يكون له شفقة الولي، وكانت النصرة أعظم ما يحتاج إلى الولي فيه؛ أفردها بالذكر إعلاماً باجتماع الوصفين مكرراً الفعل والاسم الأعظم اهتماماً بأمرها فقال: ﴿وكفى بالله﴾ أي الذي له العظمة كلها ﴿نصيراً *﴾ أي لمن والاه فلا يضره عداوة أحد، فثقوا بولايته ونصرته دونهم، ولا تبالوا بأحد منهم ولا من غيرهم، فهو يكفيكم الجميع.
291
ولما وفرت هذه الآيات الدواعي على تعيين هؤلاء الذين يريدون الإضلال، قال بعد الاعتراض بما بين المبين والمبين من الجمل لمزيد الاهتمام به: ﴿من الذين هادوا﴾ ثم بين ما يضلون به ويضلون بقوله - ويجوز أن يكون استئنافاً بمعنى: بعضهم، أو منهم من -: ﴿يحرفون الكلم﴾ أي الذي أتى به شرعهم من صفة النبي الأمي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفه دينه وأمته وغير ذلك مما يريدون تحريفه لغرض، فيتألفون في إمالته وتغييره عن حده وطرفه إلى حد آخر مجاوزين به ﴿عن﴾ ولما كانت الكلمة إذا غيرت تبعها الكلام وهو المقصود بالذات، نبه على ذلك بتذكير الضمير فقال: ﴿مواضعه﴾ أي التي هي به أليق، فيتم ضلالهم وإضلالهم، وهو يشمل ما إذا كان المعنى المغير إليه بعيداً عن المغير أو قريباً، فالذي في المائدة أخص.
ولما كان سبحانه وتعالى عالماً بجميع تحريفهم، أشار إليه بالعطف على ما تقديره: فيقولون كذا ويقولون كذا: ﴿ويقولون سمعنا﴾ أي ما تقول ﴿وعصينا﴾ موهمين أنهم يريدون أن ذلك حكاية ما وقع لأسلافهم قديماً، وإنما يريدون أنهم هم سمعوا ما تقول وخالفوه عمداً ليظن من سمع ذلك أنهم على بصيرة في المخالفة بسبب ما عندهم
292
من العلم الرباني ليورثه ذلك شكاً في أمره وحيرة في شأنه ﴿واسمع﴾ حال كونك ﴿غير مسمع﴾ موهمين عدم إسماعه ما يكره من قولهم: فلان أسمع فلاناً الكلام، وإنما يريدون الدعاء، كما يقال: اسمع لا سمعت! ﴿وراعنا﴾ موهمين إرادة المراعاة والإقبال عليهم، وإنما يريدون الشتم بالرعونة؛ وقال الأصفهاني: ويحتمل شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها وهي: راعينا، فكانوا - سخرية بالدين وهزءاً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والإكرام، ولذلك قال: ﴿ليّاً بألسنتهم﴾ أي صرفاً لها عن مخارج الحروف التي تحق لها في العربية إلى ما يفعله العبرانيون من تغليظ بعض الحروف وشوب بعضها بغيره، لإرادة معانٍ عندهم قبيحة مع احتمالها لإرادة معانٍ غير تلك يقصدها العرب مليحة ﴿وطعناً في الدين﴾ أي بما يفسرونه به لمن يطمعون فيه من تلك المعاني الخبيثة.
ولما ذكر هذه الكلمات الموجهة، بين ما كان عليهم لو وقفوا
293
فقال قاطعاً جدالهم: ﴿ولو أنهم قالوا﴾ أي في الجواب له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿سمعنا وأطعنا﴾ أي بدل الكلمة الأولى ﴿واسمع وانظرنا﴾ بدل ما بعدها ﴿لكان﴾ أي هذا القول ﴿خيراً لهم﴾ أي من ذلك، لعدم استيجابهم الإثم ﴿وأقوم﴾ أي لعدم الاحتمال الذم ﴿ولكن لعنهم الله﴾ أي طردهم الذي له جميع صفات العظمة والكمال، وأبعدهم عن الخير ﴿بكفرهم﴾ أي بدناءتهم بما يغطون من أنوار الحق ودلائل الخير، فلم يقولوا ذلك.
ولما سبب عن طردهم استمرار كفرهم قال: ﴿فلا يؤمنون﴾ أي يتجدد لهم إيمان ﴿إلا قليلاً *﴾ أي منهم؛ استثناء من الواو، فإنهم يؤمنون، أو هو استثناء مفرغ من مصدر يؤمن أي من إيمانهم ببعض الآيات الذي لا ينفعها لكفرهم بغيره.
294
ولما بكتهم على فعلهم وقولهم وصرح بلعنهم، خوَّفهم إظهار ذلك في الصور المحسوسة فقال مقبلاً عليهم إقبال الغضب: ﴿يا أيها الذين﴾ منادياً لهم من محل البعد ﴿أوتوا الكتاب﴾ ولم يسند الإيتاء إليه تحقيراً لهم، ولم يكتف بنصيب منه لأنه لا يكفي في العلم
294
بالمصادقة إلا الجميع ﴿آمنوا بما نزلنا﴾ أي تدريجاً كما نزلنا التوراة كذلك، على ما لنا من العظمة التي ظهرت في إعجازه وإخباره بالمغيبات ودقائق العلوم مما عندكم وغيره على رشاقته وإيجازه؛ وأعلم بعنادهم وحسدهم بقوله: ﴿مصدقاً لما معكم﴾ من حيث أنهم له مستحضرون، وبه في حد ذاته مُقِرّون.
ولما أمرهم وقطع حجتهم، حذرهم فقال - مخففاً عنهم بالإشارة بحرف الجر إلى أنه متى وقع منهم إيمان في زمن مما قبل الطمس أخره عنهم -: ﴿من قبل أن نطمس﴾ أي نمحو ﴿وجوهاً﴾ فإن الطمس في اللغة: المحو؛ وهو يصدق بتغيير بعض الكيفيات، ثم سبب عن ذلك قوله: ﴿فنردها﴾ فالتقدير: من قبل أن نمحو أثر وجوه بأن نردها ﴿على أدبارها﴾ أي بأن نجعل ما إلى جهة القبل من الرأس إلى جهة الدبر، وما إلى الدبر النقل من حال إلى ما دونها من ضدها بجعلها على حال القفا، ليس فيها معلم من فم ولا غيره، ليكون المعنى بالطمس مسح ما في الوجه من المعاني؛ قال ابن هشام: نطمس: نمسحها فنسويها، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم ولا شيء مما يرى في الوجه، وكذلك ﴿فطمسنا أعينهم﴾ [القمر: ٣٧] المطموس العين: الذي
295
ليس بين جفنيه شق، ويقال: طمست الكتاب والأثر فلا يرى منه شيء. ويكون الوجه في هذا التقدير على حقيقته؛ ثم خوفهم نوعاً آخر من الطمس فقال عاطفاً على (نردها) :﴿أو نلعنهم﴾ أي نبعدهم جداً عن صورة البشر أن نقلب وجوههم أو جميع ذواتهم على صورة القردة ﴿كما لعنا أصحاب السبت﴾ إذ قلنا لهم ﴿كونوا قردة خاسئين﴾ [البقرة: ٦٥] ويكون الوجه في هذا التقدير الأخير عبارة عن الجملة، فهو إذن مما استعمل في حقيقته ومجازه، ويجوز أن يكون واحد الوجهاء، فيكون عود الضمير إليه استخداماً، ويكون المراد بالرد على الأدبار جعلهم أدنياء صغرة من الأسافل - والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما كان ذلك أمراً غريباً ومقدوراً عجيباً، وكان التقدير: فقد كان أمر الله فيهم بذلك - كما علمتم - نافذاً؛ أتبعه الإعلام بأن قدرته شاملة، وأن وجوه مقدوراته لا تنحصر فقال عاطفاً على ما قدرته: ﴿وكان أمر الله﴾ أي حكمه وقضاؤه ومراده في كل شيء شاء منهم ومن غيره بذلك وبغيره، لأن له العظمة التي لا حد لها والكبرياء التي تعيي الأوصاف دونها ﴿مفعولاً *﴾ أي كائناً حتماً، لا تخلف
296
له أصلاً، فلا بد من وقوع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا، وقد آمن بعضهم فلم يصح أنهم لم يؤمنوا، لأنه قد وقع منهم إيمان.
ولما كانوا مع ارتكابهم العظائم يقولون: سيغفر لنا، وكان امتثالهم لتحريف أحبارهم ورهبانهم شركاً بالله - كما قال سبحانه وتعالى ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله﴾ [التوبة: ٣١] قال - معللاً لتحقيق وعيدهم، معلماً أن ما أشير إليه من تحريفهم أداهم إلى الشرك -: ﴿إن الله﴾ أي الجامع لصفات العظمة ﴿لا يغفر أن يشرك به﴾ أي على سبيل التجديد المستمر إلى الموت سواء كان المشرك من أهل الكتاب أم لا، وزاد ذلك حسناً انه في سياق ﴿واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً﴾ [النساء: ٣٦].
ولما أخبر بعدله أخبر بفضله فقال: ﴿ويغفر ما دون ذلك﴾ الأمر الكبير العظيم من كل معصيته سواء كانت صغيرة أو كبيرة، سواء تاب فاعلها أو لا، ورهب بقوله - إعلاماً بأنه مختار، لا يجب عليه شيء -: ﴿لمن يشاء﴾.
ولما كان التقدير: فإن من أشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً، عطف عليه قوله: ﴿ومن يشرك﴾ أي يوجد منه شرك في الحال أو المآل، وأما الماضي فجبته التوبة ﴿بالله﴾ أي الذي كل شيء
297
دونه ﴿فقد افترى﴾ أي تعمد كذباً ﴿إثماً عظيماً *﴾ أي ظاهراً في نفسه من جهة عظمه أنه قد ملأ أقطار نفسه وقلبه وروحه وبدنه مظهراً للغير أنه إثم، فهو في نفسه منادٍ بأنه باطل مصر، فلم يدع للصلح موضعاً، فلم تقتض الحكمة العفو عنه، لأنه قادح في الملك، وإنما طوى مقدمة الضلال وذكر مقدمة الافتراء - لكون السياق لأهل الكتاب الذين ضلالهم على علم منهم وتعمد وعناد، بخلاف ما يأتي عن العرب، وفي التعبير بالمضارع استكفاف مع استعطاف واستجلاب في استرهاب.
298
ولما كان في ذلك إشارة إلى أن المرادين بهذه الآيات من أهل الكتاب أضل الناس، وكانوا يقولون: إنهم أهدى الناس؛ عجب منهم منكراً عليهم بعد افترائهم تزكية أنفسهم فقال: ﴿ألم تر﴾ وأبعدهم بقوله: ﴿إلى الذين يزكون أنفسهم﴾ أي بما ليس لهم من قولهم ﴿لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة﴾ [البقرة: ٨٠] وقولهم ﴿لن يدخل الجنة لا من كان هوداً أو نصارى﴾ [البقرة: ١١١] وقوله: ﴿ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا﴾ [آل عمران: ١٨٨] ﴿ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً﴾ [النساء: ٢٧] فإن إبعاد غيرهم
298
في الميل مصحح لتزكيتهم أنفسهم بالباطل ونحو ذلك مما تقدم وغيره.
ولما كان معنى الإنكار: ليس لهم ذلك لأنهم كذبوا فيه وظلموا، أشار إليه بقوله: ﴿بل الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿يزكي من يشاء﴾ أي بما له من العلم التام والقدرة الشاملة والحكمة البالغة والعدل السوي بالثناء عليه وبخلق معاني الخير الظاهرة فيه لتنشأ عنها الأعمال الصالحة، فإذا زكي أحداً من أصفيائه بشيء كالنبوة، كان له أن يزكي نفسه بذلك حملاً على ما ينفع الناس به عن الله ﴿ولا﴾ أي والحال أن الذين يزكيهم أو يدسيهم لا ﴿يظلمون فتيلاً *﴾ أي مقدار ما في شق النواة من ذلك الشيء المفتول، أي قليلاً ولا كثيراً، لأنه عالم بما يستحقون وهو الحكم العدل الغني عن الظلم، لأن له صفات الكمال.
ولما أخبر تعالى أن التزكية إنما هي إليه بما له من العظمة والعلم الشامل، وكان ذلك أمراً لا نزاع فيه، وشهد عليهم بالضلال، وثبت أن ذلك كلامه بما له من الإعجاز في حالتي الإطناب والإيجاز؛ ثبت كذبهم فزاد في توبيخهم فقال - معجباً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
299
من وقاحتهم واجترائهم على من يعلم كذبهم، ويقدر على معالجتهم بالعذاب، مبيناً أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحضرة بعد بيان بعدهم -: ﴿انظر كيف يفترون﴾ أي يتعمدون ﴿على الله﴾ أي الذي لا يخفي عليه شيء ولا يعجزه شيء ﴿الكذب﴾ أي من غير خوف منهم لذلك عاقبة ﴿وكفى﴾ أي والحال أنه كفي ﴿به﴾ أي بهذا الكذب ﴿إثماً مبيناً *﴾ أي واضحاً في نفسه ومنادياً عليها بالبطلان.
ولما عجب من كذبهم دلَّ عليه بقوله: ﴿ألم تر﴾ وكان الأصل: إليهم، ولكنه قال - لزيادة التقريع والتوبيخ والإعلام بأن كفرهم عناد لكونه عن علم -: ﴿إلى الذين﴾ وعبر بإلى دلالة على بعدهم عن الحضرات الشريفة ﴿أوتوا نصيباً من الكتاب﴾ أي الذي هو الكتاب في الحقيقة لكونه من الله ﴿يؤمنون بالجبت﴾ وهو الصنم والكاهن والساحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله ﴿والطاغوت﴾ وهو اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله؛ وكل هذه المعاني تصح إرادتها هنا، وهي مما نهي عنه في كتابهم - وأصله ومداره مجاوزة الحد عدواناً، وهو واحد وقد يكون جمعاً، قال سبحانه وتعالى
﴿أوليائهم الطاغوت يخرجونهم﴾ [البقرة: ٢٥٧] والحال أن أقل نصيب من الكتاب كافٍ في النهي عن ذلك وتكفير فاعله.
300
ولما دل على ضلالهم دل على إضلالهم بقوله - معبراً بصيغة المضارع دلالة على عدم توبتهم -: ﴿ويقولون للذين كفروا﴾ ودل بالتعبير بالإشارة دون الخطاب على أنهم يقولون ذلك فيهم حتى في غيبتهم، حيث لا حامل لهم على القول إلا محض الكفر فقال: ﴿هؤلاء﴾ أي الكفرة العابدون للأصنام ﴿أهدى﴾ أي أقوم في الهداية ﴿من الذين آمنوا﴾ أي أوقعوا هذه الحقيقة، فيفهم ذمهم بالتفضيل على الذين يؤمنون ومن فوقهم من باب الأولى ﴿سبيلاً *﴾ مع أن في كتابهم من إبطال الشرك وهدمه وعيب مدانيه وذمه في غير موضع تأكيداً أكيداً وأمراً عظيماً شديداً.
ولما أنتج ذلك خزيهم قال: ﴿أولئك﴾ أي البعداء عن الحضرات الربانية ﴿الذين لعنهم الله﴾ أي طردهم بجميع ما له من صفات الكمال طرداً هم جديرون بأن يختصوا به. ولما كان قصدهم بهذا القول مناصرة المشركين لهم وكان التقدير: فنالوا بذلك اللعن الذل والصغار، عطف عليه قوله: ﴿ومن يلعن الله﴾ أي الملك الذي له الأمر كله منهم ومن غيرهم ﴿فلن تجد له نصيراً *﴾ أي في وقت من الأوقات أصلاً، وكرر التعبير بالاسم الأعظم لأن المقام يقتضيه إشعاراً لتناهي الكفر
301
الذي هو أعظم المعاصي بتناهي الغضب.
ولما كان التقدير: كذلك كان من إلزامهم الذل والصغار، عطف عليه قوله: ﴿أم﴾ أي ليس ﴿لهم نصيب﴾ أي واحد من الأنصباء ﴿من الملك فإذاً﴾ أي فيتسبب عن ذلك أنهم إذا كان لهم أدنى نصيب منه ﴿لا يؤتون الناس﴾ أي الذين آمنوا ﴿نقيراً *﴾ أي شيئاً من الدنيا ولا الآخرة من هدى ولا من غيره، والنقير: النقرة في ظهر النواة، قيل: غاية في القلة؛ فهو كناية عن العدم، فهو بيان لأنهم لإفراط بخلهم لا يصلحون إلا لما هم فيه من الذل فكيف بدرجة الملك لأن الملك والبخل لا يجتمعان ﴿أم﴾ أي ليس لهم نصيب ما من الملك، بل ذلهم لازم وصغارهم أبداً كائن دائم، فهم ﴿يحسدون الناس﴾ أي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جمع فضائل الناس كلهم من الأولين والآخرين وزاد عليهم ما شاء الله، أو العرب الذي لا ناس
302
الآن غيرهم، لأنَّا فضلناهم على العالمين - بأن يتمنوا دوام ذلهم كما دام لهم هم، ودل على نهاية حسدهم بأداة الاستعلاء في قوله: ﴿على ما آتاهم الله﴾ أي بما له من صفات الكمال ﴿من فضله﴾ حسدوهم لما رأوا من إقبال جدهم وظهور سعدهم وأنهم سادة الناس وقادة أهل الندى والبأس:
إن العرانين تلقاها محسدة ولن ترى للئام الناس حساداً
وقد آتاهم الله سبحانه وتعالى جميع أنواع الملك، فإنه على ثلاثة أقسام: ملك على الظواهر والبواطن معاً، وهو للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لهم من غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة والشفاعة والبر واللطف التي كل منها سبب للانقياد، وذلك مع ما لهم بالله سبحانه وتعالى من تمام الوصلة؛ وملك على الظواهر فقط، وهو ملك الملوك؛ وملك على البواطن فقط، وهو ملك العلماء.
ولما ذمهم سبحانه وتعالى أولاً بالجهل ومدح النفس تشبعاً بما لم يعطوا، وذلك سبب لجميع النقائص، وثانياً بأعظم منه: منع الحق من أهله بخلاً، وثالثاً بأعظم منهما: تمنى ألا يصل إلى أحد نعمة وإن كانت لا تنقصهم، فحازوا بذلك أعلى خلال الذم، وكانت
303
المساوي تضع والمحاسن ترفع، تسبب عن هذا توقع السامع لإعلاء العرب وإدامة ذل اليهود وموتهم بحسدهم فقال: ﴿فقد﴾ أي فتسبب عن هذا وتعقبه أنَّا آتيناهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر للتنبيه على التوصيف الذي شاركوهم به في استحقاق الفضائل فقال: ﴿آتينا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿آل إبراهيم﴾ أي الذي أعلمناكم في كتابكم أنا أقسمنا له أنَّا نعز ذريته ونهديهم ونجعل ابنة إسماعيل حالاً على جميع حدود إخوته، ويده في جميع الناس ويده على كل أحد ويد كل به ﴿الكتاب﴾ أي الذي لا كتاب إلا هو لما له من الحفظ والفضل بالإعجاز والفصل ﴿والحكمة﴾ أي النبوة التي ثمرتها العمل المتقن بالعلم المحرر المحكم ﴿وآتيناهم﴾ مع ذلك ﴿ملكاً عظيماً *﴾ أي ضخماً واسعاً باقياً إلى أن تقوم الساعة ﴿فمنهم﴾ أي من آل إبراهيم ﴿من آمن به﴾ وهم أغلب العرب ﴿ومنهم من صد عنه﴾ أي أعرض بنفسه، وصد غيره كبني إسرائيل وبعض العرب.
ولما كان قد علم من السياق أن الطاعن فيه ميت بحسده من غير أن يضره بأمر دنيوي، وكان التقدير لبيان أمرهم في الآخرة: فحكمنا أن تسعر بهم النار بعد الذل في هذه الدار والهوان والصغار، عطف
304
عليه قوله: ﴿وكفى بجهنم سعيراً *﴾ أي توقداً والتهاباً في غاية الإحراق والعسر والإسراع إلى الأذى، وفي آية الطاغوت أنهم سمحوا ببدل الدين - وهو لا أعز منه عند الإنسان - في شهادتهم للكفرة بالهداية، وفي آية الملك الإيماء إلى أنهم في الحضيض من الشح بالخسيس الفاني، وفي آية الحسد أنه لم يكفهم التوطن في حضيض الشح بما أوتوا مع الغنى حتى سفلوا عنه إلى أدنى من ذلك بالحسد لمن آتاه الله ما لا ينقصهم.
305
ولما أثبت لمن صد عنه النار علله بقوله: ﴿إن الذين كفروا بآياتنا﴾ أي ستروا ما أظهرته عقولهم بسببها ﴿سوف نصليهم﴾ أي بوعيد ثابت وإن طال معه الإمهال ﴿ناراً﴾ ولما كانت النار - على ما نعهده - مفنية ماحقة، استأنف قوله رداً لذلك: ﴿كلما نضجت جلودهم﴾ أي صارت بحرّها إلى حالة اللحم النضيج الذي أدرك أن يؤكل، فصارت كاللحم الميت الذي يكون في الجرح، فلا يحس بالألم ﴿بدَّلناهم﴾ أي جعلنا لهم ﴿جلوداً غيرها﴾ أي غير النضيجة بدلاً منها بأن أعدناها إلى ما كانت عليه قبل تسليط النار عليها،
305
كما إذا صُغتَ من خاتم خاتماً على غير هيئته، فإنه هو الأول لأن الفضة واحدة، وهو غيره لأن الهيئة متغايرة، وهكذا الجلد الثاني مغاير للنضيج في الهيئة ﴿ليذوقوا﴾ أي أصحاب الجلود المقصودون بالعذاب ﴿العذاب﴾ أي ليدوم لهم تجدد ذوقه، فتجدد لهم مشاهده الإعادة بعد البلى كل وقت، كما كانوا يجددون التكذيب بذلك كل وقت، ليكون الجزاء من جنس العمل، فإنه لو لم يُعِدْ منهم ما وهي لأداه وهيه إلى البلى، ولو بلى منهم شيء لبلوا كلهم فانقطع عذابهم.
ولما كان هذا أمراً لم يعهد مثله، دل على قدرته عليه بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿كان﴾ ولم يزل ﴿عزيزاً﴾ أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿حكيماً *﴾ ي يتقن صنعه، فجعل عذابهم على قدر ذنوبهم، لأن عزائمهم كانت على دوامهم على ما استحقوا به ذلك ما بقوا.
ولما ذكر الترهيب بعقاب الكافرين أتبعه الترغيب بثواب المؤمنين فقال: ﴿والذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان ﴿وعملوا﴾ بياناً لصدقهم فيه ﴿الصالحات سندخلهم﴾ أي بوعد لا خلف فيه، وربما أفهم التنفيس لهم بالسين دون سوف - كما في الكافرين - أنهم أقصر الأمم
306
مدة، أو أنهم أقصرهم أعماراً إراحة لهم من دار الكدر إلى محل الصفاء، وأنهم يدخلون الجنة قبل جميع الفرق الناجية من أهل الموقف ﴿جنات﴾ أي بساتين، ووصفها بما يديم بهجتها ويعظم نضرتها وزهرتها فقال: ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي إن أرضها في غاية الريّ، كل موضع منها صالح لأن تجري منه نهر.
ولما ذكر قيامها وما به دوامها، أتبعه ما تهواه النفوس من استمرار الإقامة بها فقال: ﴿خالدين فيها أبداً﴾ ولما وصف حسن الدار ذكر حسن الجار فقال: ﴿لهم فيها أزواج﴾ والمطرد في وصف جمع القلة لمن يفضل الألف والتاء، فعدل هنا عن ذلك إلى الوحدة لإفهام أنهن لشدة الموافقة في الطهر كذات واحد فقيل: ﴿مطهرة﴾ أي متكرر طهرها، لا توجد وقتاً ما على غير ذلك. ولما كانت الجنان في الدنيا لا تحسن إلا بتمكن الشمس منها وكانت الشمس تنسخ الظل فتخرج إلى التحول إلى مكان آخر، وربما آذى حرها، أمّن من ذلك فيها بقوله: ﴿وندخلهم﴾ أي فيها ﴿ظلاً﴾ أي عظيماً، وأكده بقوله ﴿ظليلاً *﴾
307
أي متصلاً لا فرج فيه، منبسطاً لا ضيق معه دائماً لا تصيبه الشمس يوماً ما، ولا حر فيه ولا برد، بل هو في غاية الاعتدال.
ولما تقدم في هذه السورة الأمر بالإحسان والعدل في النساء واليتامى في الإرث وغيره، وفي غير ذلك من الدماء والأموال والأقوال والأفعال، وذكر خيانة أهل الكتاب وما أحل بهم لذلك من العقاب، وذكر أنه آتى هذه الأمة الملك المقتضي للحكم، وآتاهم الحكمة بعد جهلهم وضعفهم؛ أقبل عليهم بلذيذ خطابه بعد ما وعدهم على امتثال أمره من كريم ثوابه بما ختمه بالظل الموعود على العدل في حديث «سبعة يظلمهم الله في ظله» فقال: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿يأمركم﴾ أي أيتها الأمة ﴿أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾ أي من غير خيانة ما، كما فعل أهل الكتاب في كتمان ما عندهم والإخبار بغيره، والأمانة: كل ما وجب لغيرك عليك.
ولما أمر بما يحق للإنسان في نفسه، أمر بما يحق له في معاملة غيره،
308
وحقق لهم ما لم يكونوا يرومونه من أمر الملك بقوله بأداة القطع عاطفاً شيئين على شيئين: ﴿إذا حكمتم﴾ وبين عموم ملكهم لسائر الأمم بقوله: ﴿بين الناس﴾ وبين المأمور به بقوله: ﴿أن تحكموا بالعدل﴾ أي السواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له، فإن ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل» الحديث.
ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله: ﴿إن الله﴾ معبراً أيضاً بالاسم الأعظم ﴿نعمَّا﴾ أي نعم شيئاً عظيماً ﴿يعظكم به﴾ وحثهم على المبادرة إلى حسن الامتثال بقوله: ﴿إن الله﴾ مكرراً لهذا الاسم الشريف ليجتهدوا في الترقي في طهارة الأخلاق إلى حد لم يبلغه غيرهم. ولما كان الرقيب في الأمانات لا بد له من أن يكون له من يد سمع وعلم قال: ﴿كان﴾ أي ولم يزل ولا يزال
309
﴿سميعاً﴾ أي بالغ السمع لكل ما يقولونه جواباً لأمره وغيره ذلك ﴿بصيراً *﴾ أي بالغ البصر والعلم بكل ما يفعلونه في ذلك وغيره من امتثال وغيره.
ولما أمر سبحانه بالعدل ورغب فيه، ورهب من تركه؛ أمر بطاعة المتنصبين لذلك الحاملة لهم على الرفق بهم والشفقة عليهم فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان، وبدأ بما هو العمدة في الحمل على ذلك فقال: ﴿أطيعوا﴾ أي بموافقة الأمر تصديقاً لدعواكم الإيمان ﴿الله﴾ أي فيما أمركم به في كتابه مستحضرين ما له من الأسماء الحسنى، وعظم رتبة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعادة العامل فقال: ﴿وأطيعوا الرسول﴾ فيما حده لكم في سنته عن الله وبينه من كتابه لأن منصب الرسالة مقتضٍ لذلك، ولهذا عبر به دون النبي ﴿وأولي الأمر منكم﴾ أي الحكام، فإن طاعتهم فيما لم يكن معصية - كما أشير إلى ذلك بعدم إعادة العامل - من طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطاعته من طاعة الله عز وجل؛ والعلماء من أولي الأمر أيضاً، وهم العاملون فإنهم يأمرون بأمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
310
ولما أبان هذا الحكم الأصول الثلاثة أتبعها القياس، فسبب عما تقديره: هذا في الأمور البينة من الكتاب والسنة والتي وقع الإجماع عليها، قوله: ﴿فإن تنازعتم في شيء﴾ أي لإلباسه فاختلفت فيه آراؤكم ﴿فردوه إلى الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة بالتضرع بين يديه بما شرعه لكم من الدعاء والعبادة، ليفتح لكم ما أغلق منه ويهديكم إلى الحق منه ﴿والرسول﴾ أي الكامل الرسالة بالبحث عن آثار رسالته من نص في ذلك بعينه أو أولى قياس، ودلت الآية على ترتيب الأصول الأربعة على ما هو فيها وعلى إبطال ما سواها، وعلم من إفراده تعالى وجمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أعلام أمته أن الأدب توحيد الله حتى في مجرد ذكره، وأكد البيان لدعوى الطاعة بقوله: ﴿إن كنتم تؤمنون﴾ أي دائمين على الإيمان بتجديده في كل أوان ﴿بالله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ﴿واليوم الآخر﴾ الحامل على الطاعة الحاجز عن المعصية، ثم دل على عظمة هذا الأمر وعميم نفعه بقوله مخصصاً رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي الرتبة ﴿خير﴾ أي وغيره شر ﴿وأحسن تأويلاً *﴾ أي عاقبة أو
311
ترجيعاً ورداً من ردكم إلى ما يقتضيه قويم العقل من غير ملاحظة لآثار الرسالة من الكتاب والسنة، فإن في الأحكام ما لا يستقل عنهما قال: «نزلت هذه الآية ﴿أطيعوا الله﴾ في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية» يعني فأمرهم أن يدخلوا في النار.
312
ولما كان التقدير - كما أفهمه آخر الآية وأشعر به أولها بعد أن جمع الخلق على طاعته بالطريق الذي ذكره: فمن أبى ذلك فليس بمؤمن، دل عليه بقوله معجباً مخاطباً لأكمل الخلق الذي عرفه الله المنافقين في لحن القول: ﴿ألم تر﴾ وأشار إلى بعدهم عن على حضرته بقوله: ﴿إلى الذين﴾ وإلى كذبهم ودوام نفاقهم بقوله: ﴿يزعمون أنهم آمنوا﴾ أي أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم ﴿بما أنزل إليك﴾ ودل على أن هذا الزاعم المنافق كان من أهل الكتاب قبل ادعاء الإسلام بقوله: ﴿وما﴾ أي ويزعمون أنهم آمنوا بما ﴿أنزل من قبلك﴾ أي من التوراة والإنجيل، قال الأصبهاني: ولا يستعمل - أي الزعم - في الأكثر
312
إلا في القول الذي لا يتحقق، يقال: زعم فلان - إذا شك فيه فلم يعرف كذبه أو صدقه، والمراد أن هؤلاء قالوا قولاً هو عند من لا يعلم البواطن أهل لأن يشك فيه بدليل أنهم ﴿يريدون أن يتحاكموا﴾ أي هم وغرماؤكم ﴿إلى الطاغوت﴾ أي إلى الباطل المعرق في البطلان ﴿وقد﴾ أي والحال أنهم قد ﴿أمروا﴾ ممن له الأمر ﴿أن يكفروا به﴾ في كل ما أنزل من كتابك وما قبله، ومتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين به كافرين بالله وهو معنى قوله: ﴿ويريد الشيطان﴾ بإرادتهم ذلك التحاكم ﴿أن يضلهم﴾ أي بالتحاكم إليه ﴿ضلالاً بعيداً *﴾ بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى. وهذه الآية سبب تسمية عمر رضي الله عنه بالفاروق لضربه عنق منافق لم يرض بحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة ذكرها الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما ذكر ضلالهم بالإرادة ورغبتهم في التحاكم إلى الطاغوت، ذكر فعلهم فيه في نفرتهم عن التحاكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿وإذا قيل لهم﴾ أي من أي قائل كان ﴿تعالوا﴾ أي أقبلوا رافعين أنفسكم من وهاد الجهل إلى شرف العلم ﴿إلى ما أنزل الله﴾
313
أي الذي عنده كل شيء ﴿وإلى الرسول﴾ أي الذي تجب طاعته لأجل مرسله مع أنه أكمل الرسل الذين هم أكمل الخلق رسالة، رأيتهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الوصف الذي دل على كذبهم فيما زعموه من الإيمان فقال: ﴿رأيت المنافقين يصدون﴾ أي يعرضون ﴿عنك﴾ وأكد ذلك بقوله: ﴿صدوداً﴾ أي هو في أعلى طبقات الصدود.
ولما تسبب عن هذا تهديدهم، قال - مهولاً لوعيدهم بالإبهام والتعجيب منه بالاستفهام، معلماً بأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار -: ﴿فكيف﴾ أي يكون حالهم ﴿إذا أصابتهم مصيبة﴾ أي عقوبة هائلة ﴿بما قدمت أيديهم﴾ مما ذكرنا ومن غيره.
ولما كان الذي ينبغي أن يكون تناقضهم بعيداً لأن الكذب عند العرب كان شديداً؛ قال: ﴿ثم جاءوك﴾ أي خاضعين بما لينت منهم تلك المصيبة حال كونهم ﴿يحلفون بالله﴾ أي الحاوي لصفات الكمال من الجلال والجمال غير مستحضرين لصفة من صفاته ﴿إن﴾ أي ما ﴿أردنا﴾ أي في جميع أحوالنا وبسائر أفعالنا ﴿إلا إحساناً وتوفيقاً *﴾ أي أن تكون الأمور على الوجه الأحسن والأوفق لما رأينا في ذلك مما خفي على غيرنا - وقد كذبوا في جميع ذلك.
314
ولما ذكر سبحانه وتعالى بعض ما يصدر منهم من التناقضات وهم غير محتشمين ولا هائبين، قال معلماً بشأنهم معلماً لما يصنع بهم: ﴿أولئك﴾ أي البعداء عن الخير ﴿الذين يعلم الله﴾ أي الحاوي لنعوت العظمة ﴿ما في قلوبهم﴾ أي من شدة البغض للإسلام وأهله وإن اجتهدوا في إخفائه عنه، ثم سبب تعليماً لما يصنع بهم وإعلاماً بأنهم لا يضرون إلا أنفسهم قوله: ﴿فأعرض عنهم﴾ أي عن عقابهم وعن الخشية منهم وعن عتابهم، لأنهم أقل من أن يحسب لهم حساب ﴿وعظهم﴾ أي وإن ظننت أن ذلك لا يؤثر، لأن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يصطنعها لما أراد متى أراد ﴿وقل لهم في أنفسهم﴾ أي بسببها وما يشرح أحوالها ويبين نقائصها من نفائسها، أو خالياً معهم، فإن ذلك أقرب إلى ترقيقهم ﴿قولاً بليغاً *﴾ أي يكون في غاية البلاغة في حد ذاته.
315
ولما أمر بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذم من حاكم إلى غيره وهدده، وختم تهديده بأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإعراض عنه والوعظ له، فكان التقدير: فما أرسلناك وغيرك من الرسل إلا الرفق بالأمة والصفح عنهم والدعاء لهم على غاية الجهد والنصيحة، عطف عليه قوله: ﴿وما أرسلنا﴾ أي بما لنا من العظمة، ودل على الإعراق في الاستغراق بقوله: ﴿من رسول﴾ ولما كان ما يؤتيهم
315
سبحانه وتعالى من الآيات ويمنحهم به من المعجزات حاملاً في ذاته على الطاعة شبهه بالحامل على إرساله فقال: ﴿إلا ليطاع﴾ أي لأن منصبه الشريف مقتض لذلك آمر به داعٍ إليه ﴿بإذن الله﴾ أي بعلم الملك الأعظم الذي له الإحاطة بكل شيء في تمكينه من أن يطاع، لما جعلنا له من المزية بالصفات العظيمة والمناصب الجليلة والأخلاق الشريفة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ما من الأنبياء نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولما كان التقدير: فلو أطاعوك لكان خيراً لهم، عطف عليه قوله: ﴿ولو أنهم إذ﴾ أي حين ﴿ظلموا أنفسهم﴾ أي بالتحاكم إلى الطاغوت أو غيره ﴿جاءوك﴾ أي مبادرين ﴿فاستغفروا الله﴾ أي عقبوا مجيئهم بطلب المغفرة من الملك الأكرم لما استحضروه له من الجلال ﴿واستغفر لهم الرسول﴾ أي ما فرطوا بعصيانه فيما استحقه عليهم من الطاعة ﴿لوجدوا الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿تواباً رحيماً *﴾ أي بليغ التوبة على عبيده والرحمة، لإحاطته بجميع صفات الكمال، فقبل توتبهم ومحا ذنوبهم وأكرمهم.
316
ولما أفهم ذلك أن إباءهم لقبول حكمه والاعتراف بالذنب لديه سبب مانع لهم من الإيمان، قال - مؤكداً للكلام غاية التأكيد بالقسم المؤكد لإثبات مضمونه و «لا» النافية لنقيضه: ﴿فلا وربك﴾ أي المحسن إليك ﴿لا يؤمنون﴾ أي يوجدون هذا الوصف ويجددونه ﴿حتى يحكموك﴾ أي يجعلوك حكماً ﴿فيما شجر﴾ أي اختلط واختلف ﴿بينهم﴾ من كلام بعضهم لبعض للتنازع حتى كانوا كأغصان الشجر في التداخل والتضايق.
ولما كان الإذعان للحكم بما يخالف الهوى في غاية الشدة على النفس أشار إليه بأداة التراخي فقال: ﴿ثم لا يجدوا في نفسهم حرجاً﴾ أي نوعاً من الضيق ﴿مما قضيت﴾ أي عليهم به، وأكد إسلامهم لأنفسهم بصيغة التفعيل فقال: ﴿ويسلموا﴾ أي يوقعوا التسليم البليغ لكل ما هو لهم من أنفسهم وغيرها لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالصاً عن شوب كره؛ ثم زاده تأكيداً بقوله: ﴿تسليماً *﴾ وفي الصحيح أن الآية نزلت في الزبير وخصم له من الأنصار، فلا التفات إلى من قال: إنه حاطب رضي الله عنه.
ولما كان التقدير: فقد كتبنا عليهم طاعتك والتسيم لك في هذه الحنيفية السمحة التي دعوتهم إليها وحملتهم عليها، عطف عليه قوله: ﴿ولو أنا كتبنا عليهم﴾ أي هذا المخاصم للزبير رضي الله تعالى عنه
317
وأشباه هذا المخاصم ممن ضعف إيمانه كتابة مفروضة ﴿إن اقتلوا أنفسكم﴾ أي كما كان في التوراة في كفارة بعض الذنوب مباشرة حقيقة، وكما فعل المهاجرون بتعريض أنفسهم لذلك ثلاث عشرة سنة، هم فيها عند أعداء الله مضغة لحم بين يدي نسور يتخاطفونها ﴿أو اخرجوا﴾ كما فعل المهاجرون - رضي الله تعالى عنهم - الذين الزبير من رؤوسهم ﴿من دياركم﴾ أي التي هي لأشباحكم كأشباحكم لأرواحكم - توبة لربكم ﴿ما فعلوه﴾ أي لقصور إيمانهم وضعف إيقانهم، ولو كتبناه عليهم ولم يرضوا به كفروا، فاستحقوا القتل.
ولما كان كل كدر لا يخلو عن خلاصه، قال: ﴿إلا قليل منهم﴾ أي وهم العالمون بأن الله سبحانه وتعالى خير لهم من أنفسهم، وأن حياتهم إنما هي في طاعته؛ روي أن من هؤلاء ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه، قال: أما والله! إن الله ليعلم مني الصدق، لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلها! وكذا قال ابن مسعود وعمار ابن ياسر رضي الله عنهما، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: والله لو أمرنا ربنا لفعلنا! والحمد الله الذي لم يفعل بنا ذلك. ولا ريب في أن التقدير: ولكنا لم نكتب عليهم فليشكروا لنا ويستمسكوا
318
بهذه الحنيفية السمحة.
ولما كان مبنى السورة على الائتلاف وكان السياق للاستعطاف، قال مرغباً: ﴿ولو أنهم﴾ أي هؤلاء المنافقين ﴿فعلوا ما يوعظون﴾ أي يجدد لهم الوعظ في كل حين ﴿به لكان﴾ أي فعلهم ذلك ﴿خيراً لهم﴾ أي مما اختاروه لأنفسهم ﴿وأشد تثبيتاً *﴾ أي مما ثبتوا به أنفسهم بالأيمان الحانثة ﴿وإذاً لآتيناهم﴾ أي وإذا فعلوا ما يوعظون به آتيناهم بما لنا من العظمة إيتاء مؤكداً لا مرية فيه. وأشار بقوله: ﴿من لدنا﴾ إلى أنه من غرائب ما عنده من خوارق خوارق العادات ونواقض نواقض المطردات ﴿أجراً عظيماً * ولهديناهم﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿صراطاً مستقيماً *﴾ أي يوصلهم إلى مرادهم، وقد عظم سبحانه وتعالى هذا الأجر ترغيباً في الطاعة أنواعاً من العظمة منها التنبيه ب «إذا»، والإتيان بصيغة العظمة و «لدن» مع العظمة والوصف بالعظيم.
319
ولما رغب في العمل بمواعظه، وكان الوعد قد يكون لغلظ في الموعوظ، وكان ما قدمه في وعظه أمراً مجملاً؛ رغب بعد ترقيقه بالوعظ في مطلق الطاعة التي المقام كله لها، مفصلاً إجمال ما وعد
319
عليها فقال: ﴿ومن يطع الله﴾ أي في امتثال أوامره والوقوف عند زواجره مستحضراً عظمته - طاعة هي على سبيل التجدد والاستمرار ﴿والرسول﴾ أي في كل ما أراده، فإن منصب الرسالة يقتضي ذلك، لا سيما من بلغ نهايتها ﴿فأولئك﴾ أي العالو الرتبة العظيمو الشرف ﴿مع الذين أنعم﴾ أي بما له من صفات الجلال والجمال ﴿عليهم﴾ أي معدود من حزبهم، فهو بحيث إذا أراد زيارتهم أو رؤيتهم وصل إليها بسهولة، لا أنه يلزم أن يكون في درجاتهم وإن كانت اعماله قاصرة. ثم بينهم بقوله: ﴿من النبيين﴾ أي الذين أنبأهم الله بدقائق الحكم، وأنبؤوا الناس بحلائل الكلم، بما لهم من طهارة الشيم والعلو والعظم ﴿والصديقين﴾ أي الذين صدقوا أول الناس ما أتاهم عن الله وصدقوا هم في أقوالهم وأفعالهم، فكانوا قدوة لمن بعدهم ﴿والشهداء﴾ أي الذين لم يغيبوا أصلاً عن حضرات القدس ومواطن الأنس طرفة عين، بل هم مع الناس بجسومهم ومع الله سبحانه وتعالى بحلومهم وعلومهم سواء شهدوا لدين الله بالحق، ولسواه بالبطلان بالحجة أو بالسيف، ثم قتلوا في سبيل الله ﴿والصالحين﴾ أي الذين لا يعتريهم في ظاهر ولا باطن بحول الله فساد أصلاً، وإلى
320
هذا يشير كلام العارف الشيخ رسلان حيث قال: ما صلحت ما دامت فيك بقية لسواه، وقد تجتمع الصفات الأربع في شخص وقد لا تجتمع، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أحق الأمة بالصديقية وإن قلنا: إن علياً وزيداً رضي الله تعالى عنهما أسلما قبله، لأنه - لكبره وكونه لم يكن قبل الإسلام تابعاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قدوة لغيره، ولذلك كان سبباً لإسلام ناس كثير وأولئك كانوا سبباً لإسلام غيرهم، فكان له مثل أجر الكل، وكان فيه حين إسلامه قوة الجهاد في الله سبحانه وتعالى بالمدافعة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغير ذلك من الأفعال الدالة على صدقه، ولملاحظة هذه الأمور كانت رتبتها تلي رتبة النبوة، ولرفع الواسطة بينهما وفق الله سبحانه وتعالى هذه الأمة التي اختارها بتولية الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودفنه إلى جانبه، ومن عظيم رتبتهم تنويه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر عمره بهم فقال: «مع الرفيق الأعلى» روى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا
321
والآخرة»
، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحّة شديدة، فسمعته يقول: ﴿مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين﴾ فعلمت أنه خيّر.
ولما أخبر أن المطيع مع هؤلاء، لم يكتف بما أفهم ذكرهم من جلالهم وجلال من معهم، بل زاد في بيان علو مقامهم ومقام كل من معهم بقوله: ﴿وحسن﴾ أي وما أحسن ﴿أولئك﴾ أي العالو الأخلاق السابقون يوم السباق ﴿رفيقاً *﴾ من الرفق، وهو لغة: لين الجانب ولطافة الفعل وهو مما يستوي واحده وجمعه. ثم أشار إلى تعظيم ما منحهم به مرغباً في العمل بما يؤدي إليه بأداة البعد فقال: ﴿ذلك الفضل﴾ وزاد في الترغيب فيه بالإخبار عن هذا الابتداء بالاسم الأعظم فقال: ﴿من الله﴾.
ولما كان مدار التفضيل على العلم، قال - بانياً على تقديره: لما يعلم من صحة بواطنهم اللازم منها شرف ظواهرهم -: ﴿وكفى بالله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة ﴿عليماً *﴾ يعلم من الظواهر والضمائر ما يستحق به التفضيل من فضله على غيره.
ولما دل على درجة الشهادة بعد ما ذكر من ثواب من قبل موعظته
322
ولو في قتل نفسه، وذم من أبى ذلك بعد ما حذر من الأعداء من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين المخادعين، فتوفرت دواعي الراغبين في المكارم على ارتقابها؛ التفت إلى المؤمنين ملذذاً لهم بحسن خطابه نادباً إلى الجهاد مع الإرشاد إلى الاستعداد له مما يروع الأضداد، فقال سبحانه وتعالى - منبهاً بأداة البعد وصيغة المضي إلى أن الراسخ لا ينبغي له أن يحتاج إلى تنبيه على مثل هذا -: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان.
ولما كان سبحانه وتعالى قد خلق للإنسان عقلاً يحمله على التيقظ والتحرز من الخوف، فكان كالآلة له، وكان - لما عنده من السهو والنسيان في غالب الأوقات - مهملاً له، فكان كأنه قد ترك آلة كانت منه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿خذوا حذركم﴾ أي من الأعداء الذين ذكرتهم لكم وحذرتكم منهم: المشاققين منهم والمنافقين ﴿فانفروا﴾ أي اخرجوا تصديقاً لما ادعيتم إلى جهادهم مسرعين ﴿ثبات﴾ أي جماعات متفرقين سرية في إثر سرية. لا تملوا ذلك أصلاً ﴿أو انفروا جميعاً *﴾ أي عسكراً واحداً، ولا تخاذلوا تهلكوا، فكأنه قال: خففت
323
عنكم قتل الأنفس على الصفة التي كتبتها على من قبلكم، ولم آمركم إلا بما تألفونه وتتمادحون به فيما بينكم وتذمون تاركه، من موارد القتال الذي هو مناهج الأبطال، ومشارع فحول الرجال، وجعلت للباقي منكم المحبوبين من الظفر وحل المغنم، وللماضي أحب المحبوب، وهو الدرجة التي ما بعدها إلا درجة النبوة، مع أنه لم ينقص من أجله شيء، ولو لم يقتل في ذلك السبيل المرضى لقتل في غيره في ذلك الوقت.
ولما كان التقدير: فإن منكم الخارج إلى الجهاد عن غير حزم ولا حذر، عطف عليه قوله - مبيناً لما هو من أجلّ مقاصد هذه الآيات من تبكيت المنافقين للتحذير منهم، ووصفهم ببعض ما يخفون، مؤكداً لأن كل ما ادعى الإيمان ينكر أن يكون كذلك -: ﴿وإن منكم﴾ أي يا أيها الذين آمنوا وعزتنا ﴿لمن ليبطئن﴾ أي يتثاقل في نفسه عن الجهاد لضعفه في الإيمان أو نفاقه، ويأمر غيره بذلك أمراً مؤكداً إظهاراً للشفقة عليكم وهو عين الغش فإنه يثمر الضعف المؤدي إلى جرأة العدو المفضي إلى التلاشي.
ولما كان لمن يتثاقل عنهم حالتا نصر وكسر، وسبب عن تثاقله
324
مقسماً لقوله فيهما: ﴿فإن أصابتكم مصيبة﴾ أي في وجهكم الذي قعدوا عنه ﴿قال﴾ ذلك القاعد جهلاً منه وغلظة ﴿قد أنعم الله﴾ أي الملك الأعظم، ذاكراً لهذا الاسم غير عارف بمعناه ﴿عليّ إذ﴾ أي حين، أو لأني ﴿لم أكن معهم شهيداً *﴾ أي حاضراً، ويجوز أن يريد الشهيد الشرعي، ويكون إطلاقه من باب التنزل، فكأنه يقول: هذا الذي هو أعلى ما عندهم أعدُّ فواته مني نعمة عظيمة ﴿ولئن أصابكم فضل﴾ أي فتح وظفر وغنيمة ﴿من الله﴾ أي الملك الأعلى الذي كل شيء بيده.
ولما كان تحسره إنما هو على فوات الأغراض الدنيوية أكد قوله: ﴿ليقولن﴾ أي في غيبتكم، واعترض بين القول ومقوله تأكيداً لذمهم بقوله: ﴿كأن﴾ أي كأنه ﴿لم﴾ أي مشبهاً حاله حال من لم ﴿يكن بينكم وبينه مودة﴾ أي بسبب قوله: ﴿يا ليتني كنت معهم فأفوز﴾ أي بمشاركتهم في ذلك ﴿فوزاً عظيماً *﴾ وذلك لأنه لو كان ذا مودة لقال حال المصيبة: يا ليتها لم تصبهم! ولو كنت معهم لدافعت عنهم! وحال الظفر: لقد سرني عزهم، ولكنه لم يجعل
325
محط همه في كلتا الحالتين غير المطلوب الدنيوي، ولعله خص الحالة الثانية بالتشبيه لأن ما نسب إليه فيها لا يقتصر عليه محب، وأما الحالة الأولى فربما اقتصر المحب فيها على ذلك قصداً للبقاء لأخذ الثأر ونكال الكفار، وذكر المودة لأن المنافقين كانوا يبالغون في إظهار الود والشفقة والنصيحة للمؤمنين.
326
ولما بين أن محط حال القاعد عن الجهاد الدنيا، علم أن قصد المجاهد الآخرة، فسبب عن ذلك قوله: ﴿فليقاتل في سبيل الله﴾ أي بسبب تسهيل طريق الملك الذي له الأمر كله وحفظ الناس عليه ﴿الذين يشرون﴾ أي يبيعون برغبة ولجاجة وهم المؤمنون، أو يأخذون وهم المنافقون - استعمالاً للمشترك في مدلوليه ﴿الحياة الدنيا﴾ فيتركونها ﴿بالآخرة﴾ ولما كان التقدير: فإنه من قعد عن الجهاد فقد رضي في الآخرة بالدنيا، عطف عليه قوله: ﴿ومن يقاتل في سبيل الله﴾ أي فيريد إعلاء كلمة الملك المحيط بصفات الجمال والجلال ﴿فيقتل﴾ أي في ذلك الوجه وهو على تلك النية بعد أن يغلب القضاء والقدر على نفسه ﴿أو يغلب﴾ أي الكفار فيسلم ﴿فسوف نؤتيه﴾ أي بوعد لا خلف فيه بما لنا من العظمة المحيطة بالخير والشر، والآية من الاحتباك:
326
ذكرُ القتل أولاً دليل على السلامة ثانياً، وذكر الغالبية ثانياً دليل على المغلوبية أولاً؛ وربما دل التعبير بسوف على طول عمر المجاهد غالباً خلافاً لما يتوهمه كثير من الناس - إعلاماً بأن المدار على فعل الفاعل المختار، لا على الأسباب ﴿أجراً عظيماً *﴾ أي في الدارين على اجتهاده في إعزاز دين الله سبحانه وتعالى، واقتصاره على هذين القسمين حث على الثبات ولو كان العدو أكثر من الضعف ﴿فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة﴾ [البقرة: ٢٤٩] ﴿والله يؤيد بنصره من يشاء﴾ [آل عمران: ١٣] والله مع الصابرين.
ولما كان التقدير: فما لكم لا تقاتلون في سبيل الله لهذا الأجر الكثير ممن لا يخلف الميعاد، وكانوا يقولون: إنا لا نعطي الميراث إلا لمن يحمي الذمار، ويذب عن الجار، ويمنع الحوزة؛ قال عاطفاً على هذا المقدر ملهباً لهم ومهيجاً، ومبكتاً للقاعدين وموبخاً: ﴿وما﴾ أي وأي شيء ﴿لكم﴾ من دنيا آو آخره حال كونكم ﴿لا تقاتلون﴾ أي تجددون القتال في كل وقت، لا تملونه ﴿في سبيل الله﴾ أي بسبب تسهيل طريق الملك الذي له العظمة الكاملة والغنى المطلق وبسبب خلاص ﴿والمستضعفين﴾ أي المطلوب من الكفار ضعفهم حتى صار موجوداً، ويجوز - وهو أقعد - أي يكون منصوباً
327
على الاختصاص تنبيهاً على أنه من أجل ما في سبيل الله.
ولما كان الإنكاء من هذا ما لمن كان رجاء نفعه أعظم، ثم ما لمن يكون العار به أقوى وأحكم؛ رتبهم هذا الترتيب فقال: ﴿من الرجال والنساء والولدان﴾ أي المسلمين الذين حبسهم الكفار عن الهجرة، وكانوا يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، وكل منهما كافٍ في بعث ذوي الهمم العالية والمكارم على القتال، ثم وصفهم بما يهيج إلى نصرهم ويحث على غياثهم فقال: ﴿الذين يقولون﴾ أي لا يفترون ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا بإخراجنا من الظلمات إلى النور ﴿أخرجنا من هذه القرية﴾ ثم وصفوها بالحامل على هذا الدعاء فقالوا: ﴿الظالم أهلها﴾ أي بما تيسره لنا من الأسباب ﴿واجعل لنا من لدنك﴾ أي من أمورك العجيبة في الأمور الخارقة للعادات ﴿ولياً﴾ يتولى مصالحنا.
ولما كان الولي قد لا يكون فيه قوة النصر قالوا: ﴿واجعل لنا﴾ ولما كانوا يريدون أن يأتيهم خوارق كرروا قولهم: ﴿من لدنك نصيراً *﴾ أي بليغ النصر إلى حد تعجب منه المعتادون للخوارق، فكان بهذا الكلام كأنه سبحانه وتعالى قال: قد جعلت لكم
328
الحظ الأوفر من الميراث، فما لكم لا تقاتلون في سبيلي شكراً لنعمتي وأين ما تدّعون من الحمية والحماية! ما لكم لا تقاتلون في نصر هؤلاء الضعفاء لتحقق حمايتكم للذمار ومنعكم للحوزة وذبكم عن الجار!.
ولما أخبر عن افتقارهم إلى الأنصار وتظلمهم من الكفار، استأنف الإخبار عن الفريقين فقال مؤكداً للترغيب في الجهاد: ﴿الذين آمنوا﴾ أي صدقوا في دعواهم الإيمان ﴿يقاتلون﴾ أي تصديقاً لدعواهم من غير فترة أصلاً ﴿في سبيل الله﴾ أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال قاصدين وجهه بحماية الذمار وغيره، وأما من لم يصدق دعواه بهذا فما آمن ﴿والذين كفروا يقاتلون﴾ أي كذلك ﴿في سبيل الطاغوت﴾ فلا ولي لهم ولا ناصر.
ولما كان الطاغوت الشيطان أو من زينه الشيطان، وكان كل من عصى الله منه وممن أغواه حقيراً؛ سبب عن ذلك قوله: ﴿فقاتلوا أولياء الشيطان﴾ ثم علل الجرأة عليهم بقوله: ﴿إن كيد الشيطان﴾ أي الذي هو رأس العصاة ﴿كان﴾ جبلة وطبعاً ﴿ضعيفاً *﴾.
ولما عرفهم هذه المفاوز الأخروية والمفاخر الدنيوية، وختم بما
329
ينهض الجبان، ويقوي الجنان، ورغبهم بما شوق إليه من نعيم الجنان؛ عجب من حال من توانى بعد ذلك واستكان، فقال تعالى مقبلاً بالخطاب على أعبد خلقه وأطوعهم لأمره: ﴿ألم تر﴾ وأشار إلى أنهم بمحل بعد عن حضرته تنهيضاً لهم بقوله: ﴿إلى الذين قيل لهم﴾ أي جواباً لقولهم: إنا نريد أن نبسط ايدينا إلى الكفار بالقتال لأن امتحاننا بهم قد طال ﴿كفوا أيديكم﴾ أي ولا تبسطوها إليهم فإنا لم نأمر بهذا ﴿وأقيموا الصلاة﴾ أي صلة بالخالق واستنصاراً على المشاقق ﴿وأتوا الزكاة﴾ منماة للمال وطهرة للأخلاق وصلة للخلائق ﴿فلما كتب عليهم القتال﴾ أي الذي طلبوه وهم يؤمرون بالصفح، كتابة لا تنفك إلى آخر الدهر ﴿إذا فريق منهم﴾ أي ناس تلزم عن فعلهم الفرقة، فأحبوا هذه الكتب بأنهم ﴿يخشون الناس﴾ أي الذين هم مثلهم، أن يضروهم، والحال أنه يقبح عليهم أن يكونوا أجراً منهم وهم ناس مثلهم ﴿كخشية الله﴾ أي مثل ما يخشون الله الذي هو القادر لا غيره.
330
ولما كان كفهم عن القتال شديداً يوجب لمن يراه منهم أن يظن بهم من الجبن ما يتردد به في الموازنة بين خوفهم من الناس وخوفهم من الله، عبر بأداة الشك فقال: ﴿أو أشد خشية﴾ أي أو كانت خشيتهم لهم عند الناظر لهم أشد من خشيتهم من الله، فقد أفاد هذا أن خوفهم من الناس ليس بأقل من خوفهم من الله جزماً بل إما مثله أو أشد منه؛ وقد يكون الإبهام لتفاوت بالنسبة إلى وقتين، فيكون خوفهم منه في وقت متساوياً، وفي آخر أزيد، فهو متردد بين هذين الحالين؛ ويجوز أن يكون ذلك كناية عن كراهتهم القتال في ذلك الوقت وتمنيهم لتأخيره إلى وقت ما.
وأيد ما تقدم من الظن بقوله ما هو كالتعليل للكراهة: ﴿وقالوا﴾ جزعاً من الموت أو المتاعب - إن كانوا مؤمنين، أو اعتراضاً - إن كانوا منافقين، على تقدير صحة ما يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا القريب منا ﴿لم كتبت علينا القتال﴾ أي ونحن الضعفاء ﴿لولا﴾ أي هلا ﴿أخرتنا﴾ أي عن الأمر بالقتال ﴿إلى أجل قريب﴾ أي لنأخذ راحة مما كنا فيه من الجهد من الكفار بمكة، «وسبب نزولها أن عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون وسعد بن
331
أبي وقاص وجماعة رضي الله عنهم كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيراً قبل أن يهاجروا، ويقولون: يا رسول الله! إئذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا، فيقول لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كفوا أيديكم، فإني لم أومر بقتالهم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله سبحانه وتعالى بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم» حكاه البغوي عن الكلبي، وحكاه الواحدي عنه بنحوه، وروي بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عبد الرحمن ابن عوف وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة فقالوا: يا رسول الله! كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال:» إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم «فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله عز وجل ﴿ألم إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم﴾ » الآية. وهذا يفهم أن نسبة القول إليهم إنما هي حالهم في التأخر عن المبادرة إلى القتال حال من يقول ذلك، فالمراد من الآية إلهابهم إلى القتال وتهييجهم، ليس غير.
ولما عجب عليه الصلاة والسلام منهم إنكاراً عليهم كان كأنه قال: فما أقول لهم؟ أمره بوعظهم وتضليل عقولهم وتقييل أرائهم
332
بقوله: ﴿قل متاع الدنيا قليل﴾ أي ولو فرض أنه مدّ في آجالكم إلى أن تملوا الحياة، فإن كل منقطع قليل، مع أن نعيمها غير محقق الحصول، وإن حصل كان منغصاً بالكدورات ﴿والآخرة خير لمن اتقى﴾ أي لأنها لا يفنى نعيمها مع أنه محقق ولا كدر فيه، وهي شر من الدنيا لمن لم يتق، لأن عذابها طويل لا يزول ﴿ولا تظلمون فتيلاً *﴾ أي لا في دنياكم بأن تنقص آجالكم بقتالكم، ولا أرزاقكم باشتغالكم، ولا في آخرتكم بأن يضيع شيء من ثوابكم على ما تنالونه من المشقة، لأنه سبحانه وتعالى حكيم لا يضع شيئاً في غير موضعه، ولا يفعل شيئاً إلا على قانون الحكمة، فما لكم تقولون قول المتهم: لم فعلت؟ أتخشون الظلم في إيجاب ما لم يجب عليكم وفي نقص الرزق والعمر؟ أتخشون الظلم في إيجاب العدل وله أن يفعل ما شاء،
﴿لا يسئل عما يفعل﴾ [الأنبياء: ٢٣] يحسن ويعطي من تقبل إحسانه أتم الفضل.
333
ولما زهدهم في دار المتاعب والأكدار على تقدير طول البقاء،
333
وكانوا كأنهم يرجون بترك القتال الخلود، أو تأخير موت يسببه القتال؛ نبههم على ما يتحققون من أن المنية منهل لا بد من وروده في الوقت الذي قدر له وإن امتنع الإنسان منه في الحصون، أو رمى نفسه في المتألف فقال تعالى - مبكتاً من قال ذلك، مؤكداً بما النافية لنقيض ما تضمنه الكلام لأن حالهم حال من ينكر الموت بغير القتال، مجيباً بحاق الجواب بعد ما أورد الجواب الأول على سبيل التنزل -: ﴿أينما تكونوا﴾ أيها الناس كلكم مطيعكم وعاصيكم ﴿يدرككم الموت﴾ أي فإنه طالب، لا يفوته هارب ﴿ولو كنتم في بروج﴾ أي حصون برج داخل برج، أو كل واحد منكم في برج.
ولما كان ذلك جمعاً ناسب التشديد المراد به الكثرة في ﴿مشيّدة﴾ أي مطولة، كل واحد منها شاهق في الهواء منيع، وهو مع ذلك مطلي بالشيد أي بالجص، فلا خلل فيه أصلاً، ويجوز أن يراد بالتشيد مجرد الإتقان، يعني أنها مبالغ في تحصينها - لأن السياق أيضاً يقتضيه، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يكون في الجهاد الذي يستعقب السعادة الأبدية أولى من أن يكون في غيره.
334
ثم عطف ما بقي من أقوالهم على ما سلف منها في قوله: ﴿ربنا لم كتبت﴾ [النساء: ٧٧] إلى آخره وإن كان هذا الناس منهم غير الأولين، ويجوز أن يقال: إنه لما أخبر أن الحذر لا يغني من القدر أتبع ذلك حالاً لهم مبكتاً به لمن توانى في أمره، مؤذناً بالالتفات إلى الغيبة إعراضاً عن خطابهم ببعض غضب، لأنهم جمعوا إلى الإخلال بتعظيمهم لله تعالى الإخلال بالأدب مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أرسله ليطاع بإذن الله فقال: ﴿وإن﴾ أي قالوا ذلك والحال أنه إن ﴿تصبهم﴾ أي بعض المدعوّين من الأمة، وهم من كان في قلبه مرض ﴿حسنة﴾ أي شيء يعجبهم، ويحسن وقعه عندهم من أي شيء كان ﴿يقولوا هذه من عند الله﴾ أي الذي له الأمر كله، لا دخل لك فيها ﴿وإن تصبهم سيئة﴾ أي حالة تسوءهم من أي جهة كانت ﴿يقولوا هذه من عندك﴾ أي من جهة حلولك في هذا البلد تطيراً بك.
ولما كان هذا أمراً فادحاً، وللفؤاد محرقاً وقادحاً، سهل عليه بقوله: ﴿قل كل﴾ أي من السيئة والحسنة في الحقيقة دنيوية كانت أو أخروية ﴿من عند الله﴾ أي الذي له كل شيء، ولا شيء لغيره، وذلك كما قالوا لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار رضي الله تعالى عنه عندما هاجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
335
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في السيرة -:
«بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب! يقولون: لو كان نبياً لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئاً». ولما تسبب عن هذا معرفة أنهم أخطؤوا في ذلك، فاستحقوا الإنكار قال منكراً عليهم: ﴿فما﴾ وحقرهم بقوله: ﴿لهؤلاء﴾ وكأنه قال: ﴿القوم﴾ الذي هو دال على القيام والكفاية، إما تهكماً بهم، وإما نسبة لهم إلى قوة الأبدان وضعف المكان ﴿لا يكادون يفقهون﴾ لا يقربون من أن يفهموا ﴿حديثاً *﴾ أي يلقي إليهم أصلاً فهما جيداً.
ولما أجابهم بما هو الحق إيجاداً علمهم ما هو الأدب لماحظة السبب فقال مستأنفاً: ﴿ما أصابك من حسنة﴾ اي نعمة دنيوية أو أخروية ﴿فمن الله﴾ أي إيجاداً وفضلاً، والإيمان أحسن الحسنات، قال الإمام: إنهم يقولون: إنهم اتفقوا على أن قوله ﴿ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله﴾ [فصلت: ٣٣] المراد به كلمة الشهادة ﴿وما أصابك﴾ وأنت خير الخلق ﴿من سيئة﴾ أي بلاء ﴿فمن نفسك﴾ أي بسببها فغيرك بطريق الأولى.
336
ولما اقتضى قولهم إنكار رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن فعل كل خارق، وأخبر سبحانه وتعالى بأنه مستو مع الخلق في القدرة قال سبحانه وتعالى مخبراً بما اختصه به عنهم: ﴿وأرسلناك﴾ أي مختصين لك بعظمتنا ﴿للناس﴾ أي كافة ﴿رسولاً﴾ أي تفعل ما على الرسل من البلاغ ونحوه، وقد اجتهدت في البلاغ والنصيحة، ولم نجعلك إلهاً تأتي بما يطلب منك من خير وشر، فإن أنكروا رسالتك فالله يشهد بنصب المعجزات والآيات البينات ﴿وكفى بالله﴾ المحيط علماً وقدرة ﴿شهيداً *﴾ لك بالرسالة والبلاغ. ولما نفى عللهم في التخلف عن طاعته إلى أن ختم بالشهادة برسالته؛ قال مرغباً مرهباً على وجه عام يسكن قلبه، ويخفف من دوام عصيانهم له، دالاً على عصمته في جميع حركاته وسكناته: ﴿من يطع الرسول﴾ أي كما هو مقتضى حاله ﴿فقد أطاع الله﴾ الملك الأعظم الذي لا كفوء له، لأنه داع إليه، وهو لا ينطق عن الهوى، إنما يخبر بما يوحيه إليه ﴿ومن تولى﴾ أي عن طاعته.
ولما كان التقدير: فإنما عصى الله. والله سبحانه وتعالى عالم به وقادر عليه، فلو راد لرده ولو شاء لأهلكه بطغيانه، فاتركه وذاك!
337
عبر عن ذلك كله بقوله: ﴿فما أرسلناك﴾ أي بعظمتنا ﴿عليهم حفيظاً﴾ إنما أرسلناك داعياً.
ولما كان من شأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحفظ من أطاعه ومن عصاه ليبلغ ذلك من أرسله، وكان سبحانه وتعالى قد أشار له إلى الإعراض عن ذلك، لكونه لا يحيط بذلك علماً وإن اجتهد؛ شرع يخبره ببعض ما يخفونه فقال حاكياً لبعض أقوالهم مبيناً لنفاقهم فيه وخداعهم ﴿ويقولون﴾ أي إذا أمرتهم بشيء من أمرنا وهم بحضرتك ﴿طاعة﴾ أي كل طاعة منا لك دائماً، نحن ثابتون على ذلك، والتنكير للتعظيم بالتعميم ﴿فإذا برزوا﴾ أي خرجوا ﴿من عندك بيَّت طائفة﴾ هم في غاية التمرد ﴿منهم﴾ أي قدرت وزورت على غاية من التقدير والتحرير مع الاستدارة والتقابل كفعل من يدبر الأمور ويحكمها ويتقنها ليلاً ﴿غير الذي تقول﴾ أي تجدد قوله لك في كل حين من الطاعة التي أظهروها أو غير قولك الذي بلغته لهم، وأدغم أبو عمرو وحمزة التاء بعد تسكينها استثقالاً لتوالي الحركات في الطاء لقرب المخرجين، والطاء تزيد بالإطباق، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد؛ وأظهر الباقون، والإدغام أوفق لحالهم، والإظهار أوفق لما
338
فصح من محالهم.
ولما كان الإنسان من عادته إثبات الأمور التي يريد تخليدها بالكتابة أجرى الأمر على ذلك فقال: ﴿والله﴾ أي والحال أن الملك المستجمع لصفات الكمال ﴿يكتب ما يبيتون﴾ أي يجددون تبييته كلما فعلوه، وهو غني عنه ولكن ذلك ليقربهم إياه يوم يقوم الأشهاد، ويقيم به الحجة عليهم على ما جرت به عاداتهم، أو يوحى به إليك فيفضحهم بكتابته وتلاوته مدى الدهر، فلا يظنوا أن تبييتهم يغنيهم شيئاً.
ولما تسبب عن ذلك كفايته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المهم قال: ﴿فأعرض عنهم﴾ أي فإنهم بذلك لا يضرون إلا أنفسهم ﴿وتوكل﴾ أي في شأنهم وغيره ﴿على الله﴾ أي الذي لا يخرج شيء عن مراده ﴿وكفى بالله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿وكيلاً *﴾ فستنظر كيف تكون العاقبة في أمرك وأمرهم.
339
ولما كان سبب إبطانهم خلاف ما يظهرونه اعتقاد أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رئيس، لا يعلم إلا ما أظهروه، لا رسول من الله الذي يعلم السر وأخفى؛ سبب عن ذلك على وجه الإنكار إرشادهم
339
إلى الاستدلال على رسالته بما يزيح الشك ويوضح الأمر، وهو تدبر هذا القرآن المتناسب المعاني المعجز المباني، الفائت لقوى المخاليق، المظهر لخفاياهم على اجتهادهم في إخفائها، فقال سبحانه وتعالى دالاً على وجوب النظر في القرآن والاستخراج للمعاني منه: ﴿أفلا يتدبرون﴾ أي يتأملون، يقال: تدبرت الشيء - إذا تفكرت في عاقبته وآخر أمره ﴿القرآن﴾ أي الجامع لكل ما يراد علمه من تمييز الحق من الباطل على نظام لا يختل ونهج لا يمل؛ قال المهدوي: وهذا دليل على وجوب تعلم معاني القرآن وفساد قول من قال: لا يجوز أن يؤخذ منه إلا ما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب، وفيه دليل على النظر والاستدلال.
ولما كان التقدير: فلو كان من عند غير الله لم يخبر بأسرارهم، عطف عليه قوله: ﴿ولو كان من عند غير الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة - كما زعم الكفار ﴿لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً *﴾ أي في المعنى بالتناقض والتخلف عن الصدق في الإخبار بالمغيبات أو بعضها، وفي النظم بالتفاوت في الإعجاز؛ فإذا علموا أنه من عند الله بهذا الدليل القطعي حفظوا سرائرهم كما يحفظون علانياتهم، لأن الأمر بالطاعة مستوٍ عند السر والعلن؛ والتقيد بالكثير يفيد أن المخلوق عاجز عن
340
التحرز من النقص العظيم بنفسه، وإفهامه - عند استثناء نقيض التالي - وجود الاختلاف اليسير فيه تدفعه الصرائح.
ولما أمر سبحانه وتعالى بالنفر إلى الجهاد على الحزم والحذر، وأولاه الإخبار بأن من الناس المغرر والمخذل تصريحاً بالثاني وتلويحاً إلى الأول، وحذر منهما ومن غيرهما إلى أن ختم بأمر الماكرين، وبأن القرآن قيم لا عوج فيه؛ ذكر أيضاً المخذلين والمغررين على وجه أصرح من الأول مبيناً ما ان عليهم فقال: ﴿وإذا جاءهم﴾ أي هؤلاء المزلزلين ﴿أمر من الأمن﴾ من غير ثبت ﴿أو الخوف﴾ كذلك ﴿أذاعوا﴾ أي أوقعوا الإذاعة لما يقدرون عليه من المفاسد ﴿به﴾ أي بسببه نم غير علم منهم بصدقه من كذبه، وحقه من باطله، ومتفقه من مختلفه، فيحصل الضرر البالغ لأهل الإسلام، أقله قلب الحقائق؛ قال في القاموس: أذاعه وبه: أفشاه ونادى به في الناس. وذلك كما قالوا في أمر الأمن حين انهزم أهل الشرك بأحد، فتركوا المركز الذي وضعهم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخالفوا أمره وأمر أميرهم، فكان سبب كرة المشركين وهزيمة المؤمنين، وفي أمر الخوف حين صاح الشيطان: إن محمداً قد قتل، فصدقوه وأذاعه بعضهم لبعض، وانهزموا وأرادوا الاستجارة بالكفار من أبي سفيان
341
وأبي عامر، وكذا ما أشاعوه عند الخروج إلى بدر الموعد من أن أبا سفيان قد جمع لهم ما لا يحصى كثرة، وأنهم إن لقوة لم يبق منهم أحد - إلى غير ذلك من الإرجاف إلى أن صارت المدينة تفور بالشر فوران المرجل، حتى أحجموا كلهم - أو إلا أقلهم - حتى قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد» فاستجابوا حينئذ، وأكسبهم هذا القول شجاعة وأنالهم طمأنينة، فرجعوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء كما وعدهم الله سبحانه وتعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن صبروا واتقوا، فكذب ظنهم وصدق الله ورسوله، وفي هذا إرشاد إلى الاستدلال على كون القرآن من عنده سبحانه وتعالى بما يكذب من أخبارهم هذه التي يشيعونها ويختلف، وأن ما كان من غيره تعالى فمختلف - وإن تحرى فيه متشبه - وإن دل عقله وتناهي نبله إلا أن استند عقله إلى ما ورد عن العالم بالعواقب، المحيط بالكوائن على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام، وإلى أن القياس حجة. وأن تقليد القاصر للعالم واجب، وأن الاستنباط واجب على العلماء، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
342
رأس العلماء، وإلى ذلك يومي قوله تعالى: ﴿ولو ردوه﴾ أي ذلك الأمر الذي لا نص فيه من قبل أن يتكلموا به ﴿إلى الرسول﴾ أي نفسه إن كان موجوداً، وأخباره إن كان مفقوداً ﴿وإلى أولي الأمر منهم﴾ أي المتأهلين لأن يأمروا وينهوا من الأمراء بالفعل أو بالقوة من العلماء وغيرهم ﴿لعلمه﴾ أي ذلك الأمر على حقيقته وهل هو مما يذاع أو لا ﴿الذين يستنبطونه﴾ أي يستخرجونه بفطنتهم وتجربتهم كما يستخرج الإنباط المياه ومنافع الأرض ﴿منهم﴾ أي من الرسول وأولي الأمر.
ولما كان التقدير: فلولا فضل الله عليكم ورحمته بالرسول وورّاث علمه لاستبيحت بإشاعاتهم هذه بيضة الدين واضمحلت أمور المسلمين؛ عطف عليه قوله: ﴿ولولا فضل الله عليكم﴾ أي أيها المتسمون بالإسلام بإنزال الكتاب وتقويم العقول ﴿ورحمته﴾ بإرسال الرسول ﴿لاتبعتم الشيطان﴾ أي المطرود المحترق ﴿إلا قليلاً *﴾ أي منكم فإنهم لا يتبعونه حفظاً من الله سبحانه وتعالى بما وهبهم من صحيح العقل من غير واسطة رسول؛ وهذه الآية من المواضع المستصعبة على الأفهام بدون توقيف على المراد بالفضل إلا عند من آتاه الله سبحانه وتعالى علماً بالمناسبات، وفهماً ثاقباً بالمراد بالسياقات، وفطنة بالأحوال والمقامات
343
تقرب من الكشف، وذلك أن من المقرر أنه لا بد من مخالفة حكم المستثنى لحكم المستثنى منه وهو هنا من وجد عليهم الفضل والرحمة فاهتدوا ومخالفة المستثنى لهم تكون بأحد أمور ثلاثة كل منها فاسد، إما بأن يعدموا الفضل فيتبعوه، ويلزم عليه أن يكون الضال أقل من المهتدي، وهو خلاف المشاهد؛ أو بأن يعدموه فلا يتبعوه، فيكونوا مهتدين من غير فضل؛ أو بأن يوجد عليهم الفضل فيتبعوه، فيكونوا ضالين مع الفضل والرحمة اللذين كانا سبباً في امتناع الضلال عن المخاطبين.
فيكونان تارة مانعين، وتارة غير مانعين، فلم يفيدا إذن مع أن أيضاً يلزم عليه أن يكون الضال أقل من المهتدي؛ فإذا حمل الكلام على أن المراد بالفضل الإرسال وضح المعنى ويكون التقدير: ولولا إرسال الرسول لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم، فإنهم لا يتبعونه من غير إرشاد الرسول، بل بهداية من الله سبحانه وتعالى وفضل بلا واسطة كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل؛ والدليل على هذا المقدر أن السياق لرد الأشياء كلها إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمنع من الاستقلال بشيء دونه.
ولما بين سبحانه وتعالى نفاقهم المقتضي لتقاعدهم عن الجهاد بأنفسهم
344
وتنشيطهم لغيرهم، كان ذلك سبباً لأن يمضي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمره سبحانه وتعالى من غير التفات إليهم وافقوا أو نافقوا، فقال سبحانه وتعالى بعد الأمر بالنفر ثبات وجميعاً، وبيان أن منهم المبطىء، مشيراً إلى أن الأمر باق وإن بطّأ الكل: ﴿فقاتل في سبيل الله﴾ أي الذي له الأمر كله ولو كنت وحدك.
ولما كان كأنه قيل: فما أفعل فيمن أرسلت إليهم إن لم يخرجوا؟ قال - معلماً بأنه قد جعله أشجع الناس وأعلمهم بالحروب وتدبيرها، وهو مع تأييده بذلك قد تكفل بنصرته ولم يكله إلى أحد -: ﴿لا تكلف إلا نفسك﴾ أي ليس عليك إثم أتباعك لو تخلفوا عنك، وقد أعاذهم الله سبحانه وتعالى من ذلك، ولا ضرر عليك في الدنيا أيضاً من تخليهم، فإن الله سبحانه وتعالى ناصرك وحده، وليس النصر إلا بيده سبحانه وتعالى، وما كان سبحانه وتعالى ليأمره بشيء إلا وهو كفوء له، فهو ملىء بمقاتلة الكفار كلهم وحده وإن كانوا أهل الأرض كلهم، ولقد عزم في غزوة بدر الموعد - التي قيل: إنها سبب نزول هذه الآية - على الخروج إلى الكفار ولو لم يخرج معه أحد؛ وقد اقتدى به صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه في قتال أهل الردة فقال للصحابة رضي الله تعالى عنهم: والله لو لم أجد إلا هاتين - يعني ابنتيه:
345
عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما - لقاتلتهم بهما.
ولما كان ذلك قد يفتر عن الدعاء قال: ﴿وحرض المؤمنين﴾ أي مرهم بالجهاد وانههم عن تركه وعن مواصلة كل من يثبطهم عنه وعظمهم واجتهد في أمرهم حتى يكونوا مستعدين للنفر متى ندبوا حتى كأنهم لشدة استعدادهم حاضرون في الصف دائماً. ثم استأنف الذكر لثمرة ذلك فقال: ﴿عسى الله﴾ أي الذي استجمع صفات الكمال ﴿أن يكف﴾ بما له من العظمة ﴿بأس الذين كفروا﴾ أي عن أن يمنعوك من إظهار الدين بقتالك وقتال من تحرضه، ولقد فعل سبحانه وتعالى ذلك، فصدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، حتى ظهر الدين، ولا يزال ظاهراً حتى يكون آخر ذلك على يد عيسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان السامع ربما فهم أنه لا يتأتى كفهم إلا بذلك، قال ترغيباً وترهيباً واحتراساً: ﴿والله﴾ أي الذي لا مثل له ﴿أشد بأساً﴾ أي عذاباً وشدة من المقاتِلين والمقاتَلين ﴿وأشد تنكيلاً *﴾ أي تعذيباً بأعظم العذاب، ليكون ذلك مهلكاً للمعذب ومانعاً لغيره عن مثل فعله؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز: يقال: نكلته تنكيلاً - إذا عملت به عملاً يكون نكالاً لغيره، أي عبرة فيرجع عن المراد من
346
أجله، وهو أن الناظر إليه والذي يبلغه ذلك يخاف أن يحل به مثله، أي فيكون له ذلك قيداً عن الإقدام؛ والنكل - بالكسر: القيد.
347
ولما كان ذلك موجباً للرغبة في طاعة النبي صلى الله عليه وسم لا سيما في الجهاد، وللرغبة فيمن كان بصفة المؤمنين من الإقبال على الطاعة، والإعراض عن كل من كان بصفة المنافقين، والإدامة لطردهم وإبعادهم والغلظة عليهم والحذر من مجالستهم حتى يتبين إخلاصهم، وكان بين كثير من خلص الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبينهم قرابات توجب العطف المقتضي للشفقة عليهم، الحاملة للشفاعة فيهم، إما بالإذن في التخلف عن الجهاد لما يزخرفون القول من الأعذار الكاذبة، أو في العفو عنهم عند العثور على نقائصهم، أو في إعانتهم أو إعانة غيرهم بالمال والنفس في أمر الجهاد عند ادعاء أن المانع له عنه العجز - وفي غير ذلك، وكانت التوبة معروضة لهم ولغيرهم، وكان البر ما سكن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر، والإنسان على نفسه بصيرة، وكانت البواطن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وكان الإنسان ربما أظهر شراً في صورة خير؛ رغب سبحانه وتعالى في البر، وحذر من الإثم بقوله - معمماً مستأنفاً في جواب من كأنه قال:
347
أما تقبل فيهم شفاعة -: ﴿من يشفع﴾ أي يوجد ويجدد، كائناً من كان، في أي وقت كان ﴿شفاعة حسنة﴾ أي يقيم بها عذر المسلم في كل ما يجوز في الدين ليوصل إليه خيراً، أو يدفع عنه ضيراً ﴿يكن له نصيب منها﴾ بأجر تسببه في الخير ﴿ومن يشفع﴾ كائناً من كان، في أي زمان كان ﴿شفاعة سيئة﴾ أي بالذب عن مجرم في أمر لا يجوز، والتسبب في إعلائه وجبر دائه؛ وعظّم الشفاعة السيئة لأن درء المفاسد أولى من جلب المصلح، فقال - معبراً بما يفهم النصيب ويفهم أكثر مه تغليظاً في الزجر -: ﴿يكن له كفل منها﴾ وهذا بيان لأن الشفاعة فيهم سيئة إن تحقق إجرامهم، حسنة إن علمت توبتهم وإسلامهم.
ولما كان كل من تحريض المؤمنين على الجهاد والشفاعة الحسنة من وادي «من سنَّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» حَسُنَ اقترانهما جداً، والنصيب قدر متميز من الشيء يخص من هو له، وكذا الكفل إلا أن الاستعمال يدل على أنه أعظم من النصيب، ويؤيده ما قالوا من أنه قد يراد به الضعف، فكأنه نصيب متكفل بما هو له
348
من إسعاد وإبعاد؛ قال أهل اللغة: النصيب: الحظ، والكفر - بالكسر: الضعف والنصيب والحظ، ومادة «نصب» يدور على العلم المنصوب، ويلزمه الرفع والوضع والتمييز والأصل والمرجع والتعب، فيلزمه الوجع، ومن لوازمه أيضاً الحد والغاية والجد الوقوف؛ ومادة «كفل» تدور على الكفل - بالتحريك وهو العجز أو ردفه، ويلزمه الصحابة واللين والرفق والتأخر؛ وقال الإمام: الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، والمقصود هنا حصول ضد ذلك كقوله
﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ [آل عمران: ٢١ والتوبة: ٣٤ والانشقاق: ٢٤] والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سيقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله سبحانه وتعالى - انتهى. وما غلظ هذا الزجر إلا للعلم بأن أكثر النفوس ميالة بأصحابها للشفاعة بالباطل.
ولما كان الأليق بالرغبة أن لا يقطع في موجبها وإن عظم بالحقية، ليكون ذلك زاجراً عن مقارفة شيء منها وإن صغر؛ عبر في الحسنة بالنصيب، وفي السيئة بالكفل؛ ويؤيد إرادة هذا أنه
349
تعالى لما ذكر ما يوجب الجنة من الإيمان والتقوى، وكان في سياق الوعظ لأهل الكتاب الذين هم على شرع أصله حق بتشريع رسول من عند الله، فتركهم لذلك بعيد يحتاج إلى زيادة ترغيب؛ عبر بالكفل فقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته﴾ [الحديد: ٢٨] إلى آخرها.
ولما كان النصيب مبهماً بالنسبة إلى علمنا لتفاوته بالنسبة إلى قصور الشافعين، وإقدامهم على الشفاعة على علم أو جهل وغير ذلك مما لا يمكن الإحاطة به إلا الله سبحانه وتعالى علماً وقدرة؛ قال تعالى مرغباً ومرهباً: ﴿وكان الله﴾ أي ذو الجلال والإكرام ﴿على كل شيء﴾ من الشافعين وغيرهم وجزاء الشفاعة ﴿مقيتاً *﴾ أي حفيظاً وشهيداً وقديراً على إعطاء ما يقوت من أخلاق النفوس وأحوال القلوب وأرزاق الأبدان وجميع ما به القوام جزاء وابتداء من جميع الجهات، وعلى تقدير ما يستحق كل أحد من الجزاء على الشفاعة وكل خير وشر.
ولما كان ذلك موجباً للإعراض عنهم رأساً ومنابذتهم قولاً وفعلاً، وبين سبحانه وتعالى أن التحية ليست من وادي الشفاعة، وأن الشفاعة تابعة للعمل، والتحية تابعة للظاهر، فقال سبحانه وتعالى عاطفاً
350
على ما تقديره: فلا تشفعوا فيهم وأنتم تعلمون سوء مقاصدهم، فقال معبراً بأداة التحقق بشارة لهم بأنهم يصيرون - بعد ما هم فيه الآن من النكد - ملوكاً، وفي حكم الملوك، يحبون ويشفع عندهم، وحثاً على التواضع: ﴿وإذا حييتم بتحية﴾ أي أي تحية كانت إذا كانت مشروعة، وأصل التحية الملك، واشتقاقها من الحياة، فكأن حياة الملك هي الحياة وما عداها عدم ثم أطلقت على كل دعاء يبدأ به عند اللقاء؛ وقال الأصبهاني: لفظ التحية صار كناية عن الإكرام، فجميع أنواع الإكرام تدخل تحت لفظ التحية ﴿فحيوا بأحسن منها﴾ كأن تزيدوا عليها ﴿أو ردوها﴾ أي من غير زيادة ولا نقص، وذلك دال على وجوب رد السلام - من الأمر، وعلى الفور - من الفاء والإجماع موافق لذلك، وترك الجواب إهانة، والإهانة ضرر، والضرر حرام؛ قال الأصبهاني: والمبتدىء يقول: السلام عليكم، والمجيب يقول: وعليكم السلام، ليكون الافتتاح والاختتام بذكر الله سبحانه وتعالى.
وما أحسن جعلها تالية لآية الجهاد إشارة إلى أن من بذل السلام وجب الكف عنه ولو كان في الحرب، على أن من مقتضيات هاتين الآيتين أن مبني هذه السورة على الندب إلى الإحسان والتعاطف
351
والتواصل، وسبب ذلك إما المال وقد تقدم الأمر به في قوله تعالى ﴿وإذا حضر القسمة﴾ [النساء: ٨]، وإما غيره ومن أعظمه القول، لأنه ترجمان القلب الذي به العطف، ومن أعظم ذلك الشفاعة والتحية، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم والأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه «والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم» فناسب ذكر هاتين الآيتين بعد ذكر آية الجهاد المختتمة بالبأس والتنكيل.
ولما كانت الشفاعة أعظمها في الإحسان قدمت ولا سيما وموجبها الإعراض، ومقصد السورة التواصل، فشأنها أهم والنظر إليها آكد، ثم رغب في الإحسان في الرد، ورهب من تركه بقوله معللاً: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة ﴿كان﴾ أي أزلاً وأبداً ﴿على كل شيء حسيباً *﴾ أي محصياً لجميع المتعددات دقيقها وجليلها، كافياً لها في أقواتها ومثوباتها، محاسباً بها، مجازياً عليها، وذلك كله شأن المقيت؛ ثم علل ذلك بقوله دالاً على تلازم التوحيد والعدل: ﴿الله﴾ أي الذي لا مثل له ﴿لا إله إلا هو﴾ أي وقد أمركم بالعدل في الشفاعة والسلام، فإن لم تفعلوه - لما لكم من النقائص
352
التي منها عدم الوحدانية - فهو فاعله ولا بد فاحذروه لأنه واحد فلا معارض له في شيء من الحساب ولا غيره، ولا يخفى عليه شيء فالحكم على البواطن إنما هو له تعالى، وأما أنتم فلم تكلفوا إلا بالظاهر.
ولما تبين أنه لا معارض له أنتج قوله مبيناَ لوقت الحساب الأعظم: ﴿ليجمعنكم﴾ وأكده باللام والنون دلالة على تقدير القسم لإنكار المنكرين له، ولما كان التدريج بالإماتة شيئاً فشيئاً، عبر بحرف الغاية فقال: ﴿إلى يوم القيامة﴾ والهاء للمبالغة، ثم آكده بقوله: ﴿لا ريب فيه﴾ أي فيفصل بينكم وبين من أخبركم بهم من المنافقين ونقد أحوالهم وبين محالهم، فيجازي كلاً بما يستحق.
ولما كان التقدير: فمن أعظم من الله قدرة! عطف عليه قوله: ﴿ومن أصدق من الله﴾ أي الذي له الكمال كله فلا شوب نقص يلحقه ﴿حديثاً﴾ وهو قد وعد بذلك لأنه عين الحكمة، وأقسم عليه، فلا بد من وقوعه، وإذ قد تحرر بما مضى أن المنافقين كفرة، لا لبس في أمرهم، وكشف سبحانه وتعالى الحكم في باطن أمرهم بالشفاعة وظاهره بالتحية، وحذر من خالف ذلك بما أوجبته على نفسه حكمته من الجمع ليوم الفصل للحكم بالعدل، وختم بأن الخبر عنهم وعن جميع ذلك صدق؛ كان ذلك سبباً لجزم القول بشقاوتهم والإعراض
353
عنهم والبعد عن الشفاعة فيهم، والإجماع على ذلك من كل مؤمن وإن كان مبنى السورة على التواصل، لأن ذلك إنما هو حيث لا يؤدي إلى مقاطعة أمر الله، فقال تعالى مبكتاً لمن توقف عن الجزم بإبعادهم: ﴿فما لكم﴾ أيها المؤمنون ﴿في المنافقين﴾ أي أيّ شيء لكم من أمور الدنيا أو الآخرة في افتراقكم فيهم ﴿فئتين﴾ بعضكم يشتد عليهم وبعضكم يرفق بهم.
ولما كان هذا ظاهراً في بروز الأمر المطاع بين القول بكفرهم وضحه بقوله؛ ﴿والله﴾ أي والحال أن الملك الذي لا أمر لأحد معه ﴿أركسهم﴾ أي ردهم منكوسين مقلوبين ﴿بما كسبوا﴾ أي بعد إقرارهم بالإيمان من مثل هذه العظائم، فاحذروا ذلك ولا تختلفوا في أمرهم بعد هذا البيان؛ وفي عزوة أحد والتفسير من البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: «لما خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: ﴿فما لكم في المنافقين﴾ - الآية، وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب وفي رواية: - كما تنفي النار خبث الفضة» انتهى. فالمعنى حينئذ: اتفقوا على أن تسيروا فيها بما ينزل عليكم في هذه الآيات.
354
ولما كان حال من يرفق بهم حال من يريد هدايتهم، أنكر سبحانه وتعالى ذلك عليهم صريحاً لبت الأمر في كفرهم فقال ﴿أتريدون﴾ أي أيها المؤمنون ﴿أن تهدوا﴾ أي توجدوا الهداية في قلب ﴿من أضل الله﴾ أي وهو الملك الأعظم الذي لا يرد له أمر، وهو معنى قوله: ﴿ومن﴾ أي والحال أنه من ﴿يضلل الله﴾ أي بمجامع أسمائه وصفاته ﴿فلن تجد﴾ أي أصلاً أيها المخاطب كائناً من كان ﴿له سبيلاً *﴾ أي إلى ما أضله عنه أصلاً، والمعنى: إن كان رفقكم بهم رجاء هدايتهم فذلك أمر ليس إلا الله، وإنما عليكم أنتم الدعاء، فمن أجاب صار أهلاً للمواصلة، ومن أبى صارت مقاطعته ديناً، وقتله قربة، والإغلاظ واجباً.
355
ولما أخبر بضلالهم وثباتهم عليه، أعلم بأعراقهم فيه فقال: ﴿ودّوا﴾ أي أحبوا وتمنوا تمنياً واسعاً ﴿لو تكفرون﴾ أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائماً ﴿كما كفروا﴾ ولما لم يكن بين ودهم لكفرهم وكونهم مساوين لهم تلازم، عطف على الفعل المودود - ولم يسبب - قوله: ﴿فتكونون﴾ أي وودوا
355
أن يتسبب عن ذلك ويتعقبه أن تكونوا أنتم وهم ﴿سواء﴾ أي في الضلال، أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائماً، فأنتم ترجون في زمان الرفق بهم هدايتهم وهم يودون فيه كفركم وضلالكم، فقد تباعدتم في المذاهب وتباينتم في المقاصد.
ولما أخبر بهذه الودادة، سبب عنه أمرهم بالبراءة منهم حتى يصلحوا، بياناً لأن قولهم في الإيمان لا يقبل ما لم يصدقوه بفعل فقال: ﴿فلا تتخذوا﴾ أي أيها المؤمنون ﴿منهم أولياء﴾ أي أقرباء منكم ﴿حتى يهاجروا﴾ أي يوقعوا المهاجرة ﴿في سبيل الله﴾ أي يهجروا من خالفهم في ذات من لا شبه له، ويتسببوا في هجرانه لهم إن كانوا في دار الحرب فبتركها، وإن كانوا عندكم فبترك موادة الكفرة والموافقة لهم في أقوالهم وأفعالهم وإن كانوا أقرب أقربائهم، وهجرتهم في جميع ذلك بمواصلتكم في جميع أقوالكم وأفعالكم، والهجرة العامة هي ترك ما نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه.
356
ولما نهى عن موالاتهم وغيّي النهي بالهجرة، سبب عنه قوله: ﴿فإن تولوا﴾ أي عن الهجرة المذكورة ﴿فخذوهم﴾ أي اقهروهم بالأسر وغيره ﴿واقتلوهم حيث وجدتموهم﴾ أي في حل أو حرم. ولما كانوا في هذه الحالة لا يوالون المؤمنين إلا تكلفاً قال: ﴿ولا تتخذوا﴾ أي تتكلفوا أن تأخذوا ﴿منهم ولياً﴾ أي من تفعلون معه فعل المقارب المصافي ﴿ولا نصيراً﴾ على أحد من أعدائكم، بل جانبوهم مجانبة كلية.
ولما كان سبحانه وتعالى قد أمر فيهم على تقدير توليهم بما أمر، استثنى منه فقال: ﴿إلا الذين يصلون﴾ فراراً منكم، وهم من الكفار عند الجمهور ﴿إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق﴾ أي عهد وثيق بأن لا تقاتلوهم ولا تقاتلوا من لجأ إليهم أو دخل فيما دخلوا فيه فكفوا حينئذ عن أخذهم وقتلهم ﴿أو﴾ الذين ﴿جاءوكم﴾ حال كونهم ﴿حصرت﴾ أي ضاقت وهابت وأحجمت ﴿صدورهم أن﴾ أي عن أن ﴿يقاتلوكم﴾ أي لأجل دينهم وقومهم ﴿أو يقاتلوا قومهم﴾ أي لأجلكم فراراً أن يكفوا عن قتالكم وقتال قومهم فلا تأخذوهم ولا تقاتلوهم، لأنهم كالمسالمين بترك القتال، ولعله عبر بالماضي في «جاء»
357
إشارة إلى أن شرط مساواتهم للواصلين إلى المعاهدين عدم التكرر، فإن تكرر ذلك منهم فهم الآخرون الآتي حكمهم.
ولما كان التقدير: فلو شاء الله لجعلهم مع قومهم إلباً واحداً عليكم، عطف عليه قوله: ﴿ولو﴾ أي يكون المعنى: والحال أنه لو ﴿شاء الله﴾ أي وهو المتصف بكل كمال ﴿لسلطهم﴾ أي هؤلاء الواصلين والجائين على تلك الحال من الكفار ﴿عليكم﴾ ينوع من أنواع التسليط، تسليطاًَ جارياً على الأسباب ومقتضى العوائد، لأن بهم قوة على قتالكم ﴿فلقاتلوكم﴾ أي فتسبب عن هذا التسليط أنهم قاتولكم منفردين أو مع غيرهم من أعدائكم، واللام فيه جواب «لو» على التكرير، أو البدل من سلط.
ولما كان المغيّي على النهي عن قتالهم حينئذ، صرح به في قوله: ﴿فإن اعتزلوكم﴾ أي هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عنهم من المنافقين، فكفوا عنكم ﴿فلم يقاتلوكم﴾ منفردين ولا مجتمعين مع غيرهم ﴿وألقوا إليكم السلم﴾ أي الانقياد ﴿فما جعل الله﴾ أي الذي
358
لا أمر لأحد معه بجهة من الجهات ﴿لكم عليهم سبيلاً *﴾ أي إلى شيء من أخذهم ولا قتلهم.
ولما كان كأنه قيل: هل بقي من أقسام المنافقين شيء؟ قيل: نعم! ﴿ستجدون﴾ أي عن قرب بوعد لا شك فيه ﴿آخرين﴾ أي من المنافقين ﴿يريدون أن يأمنوكم﴾ أي فلا يحصل لكم منهم ضرر ﴿ويأمنوا قومهم﴾ كذلك، لضعفهم عن كل منكم. فهم يظهرون لكم الإيمان إذا لقوكم، ولهم الكفر إذا لقوهم، وهو معنى ﴿كلما ردوا إلى الفتنة﴾ أي الابتلاء بالخوف عند المخالطة ﴿أركسوا﴾ أي قلبوا منكوسين ﴿فيها﴾.
ولما كان هؤلاء أعرق في النفاق وأردى وأدنى من الذين قبلهم وأعدى، صرح بمفهوم ما صرح به في أولئك، لأنه أغلظ وهم أجدر من الأولين بالإغلاظ، وطوى ما صرح به، ثم قال: ﴿فإن لم يعتزلوكم﴾ ولما كان الاعتزال خضوعاً لا كبراً، صرح به في قوله: ﴿ويلقوا إليكم السلم﴾ أي الانقياد. ولما كان الإلقاء لا بد له من قرائن يعرف بها قال: ﴿ويكفوا أيديهم﴾ أي عن قتالكم وأذاكم ﴿فخذوهم﴾ أي اقهروهم بكل نوع من أنواع القهر تقدرون عليه ﴿واقتلوهم﴾.
359
ولما كان نفاقهم - كما تقدم - في غاية الرداءة، وأخلاقهم في نهاية الدناءة، أشار إلى الوعد بتيسير التمكين منهم فقال: ﴿حيث ثقفتموهم﴾ فإن معناه: صادفتموهم وأدركتموهم وأنتم ظافرون بهم، حاذقون في قتالهم، فطنون به، خفيفون فيه، فإن الثقف: الحاذق الخفيف الفطن، ولذلك أشار إليهم بأداة البعد فقال: ﴿وأولئكم﴾ أي البعداء عن منال الرحمة من النصر والنجاة وكل خير ﴿جعلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿لكم عليهم سلطاناً﴾ أي تسلطاً ﴿مبيناًَ *﴾ أي ظاهراً قوته وتسلطه. وهذه الآيات منسوخة بآية براءة، فإنها متأخرة النزول فإنها بعد تبوك.
ولما بين أقسامهم بياناً ظهر منه أن أحوالهم ملبسة، وأمر بقتالهم مع الاجتهاد في تعرف أحوالهم، وختم بالتسلط عليهم، وكان ربما قتل من لا يستحق القتل بسبب الإلباس؛ أتبع ذلك بقوله المراد به التحريم، مخرجاً له في صورة النفي المؤكد بالكون لتغليظ الزجر عنه لما للنفوس عند الحظوظ من الدواعي إلى القتل: ﴿وما كان لمؤمن﴾ أي يحرم عليه ﴿أن يقتل مؤمناً﴾ أي في حال من الحالات ﴿إلا خطأ﴾ أي في حالة الخطأ بأن لا يقصد القتل، أو لا يقصد الشخص، أو يقصده
360
بما لا يقصد به زهوق الروح، أو لا يقصد ما هو ممنوع منه كمن يرمي إلى صف الكفار وفيهم مسلم، أو بأن يكون غير مكلف، فإن القتل على هذا الوجه ليس بحرام، وهذا الذي ذكره في أقسام المنافقين إشارة إلى أنه ينبغي التثبت والتحري في جميع أمر القتل متى احتمل أن يكون القاتل مؤمناً احتمالاً لا تقضي العادة بقربه، فلزم من ذلك بيان حكم الخطأ، ولام الاختصاص قد تطلق على ما لا مانع منه «فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب» وكأنه عبر به ليفيد بإيجاب الكفارة والدية غاية الزجر عن قتل المؤمن، لأنه إذا كان هذا جزاء ما هو له فما الظن بما ليس له! فقال تعالى: ﴿ومن قتل مؤمناً﴾ صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، ولعله عبَّر سبحانه وتعالى بالوصف تنبيهاً على أنه إن لم يكن كذلك في نفس الأمر لم يكن عليه شيء في نفس الأمر وإن ألزم به في الظاهر ﴿خطأ﴾.
ولما كان الخطأ مرفوعاً عن هذه الأمة، فكان لذلك يظن أنه لا شيء على المخطىء؛ بين أن الأمر في القتل ليس كذلك حفظاً للنفوس، لأن الأمر فيها خطر جداً، فقال - مغلظاً عليه حثاً على زيادة النظر والتحري عند فعل ما قد يقتل -: ﴿فتحرير﴾ أي فالواجب عليه تحرير ﴿رقبة﴾ أي نفس، عبر بها عنها لأنها لا تعيش بدونها
361
كاملة الرق ﴿مؤمنة﴾ ولو ببيع الدار أو البساتين، سليمة عما يخل بالعمل، وقدم التحرير هنا حثاً على رتق ما خرق من حجاب العبد، وإيجاب ذلك في الخطأ إيجاب له في العمد بطريق الأولى، وكأنه لم يذكره في العمد لأنه تخفيف في الجملة والسياق للتغليظ ﴿ودية مسلّمة﴾ أي مؤداة بيسر وسهولة ﴿إلى أهله﴾ أي ورثته يقتسمونها كما يقسم الميراث ﴿إلا أن يصدّقوا﴾ أي يجب ذلك عليه في كل حال إلا في حال تصدقهم بالعفو عن القاتل بإبرائه من الدية، فلا شيء عليه حينئذ، وعبر بالصدقة ترغيباً ﴿فإن كان﴾ أي المقتول ﴿من قوم﴾ أي فيهم منعة ﴿عدو لكم﴾ أي محاربين ﴿وهو﴾ أي والحال أنه ﴿مؤمن فتحرير﴾ أي فالواجب على القاتل تحرير ﴿رقبة مؤمنة﴾ وكأنه عبر بذلك إشارة إلى التحري في جودة إسلامها، وقد أسقط هذا حرمة نفسه بغير الكفارة بسكناه في دار الحرب التي هي دار الإباحة أو وقوعه في صفهم، ولعده في عدادهم قال: ﴿من﴾ ومعناه - كما قال الشافعي وغيره تبعاً لابن عباس رضي الله تعالى عنهما -: في ﴿وإن كان﴾ أي المقتول ﴿من قوم﴾ أي كفرة أيضاً عدو لكم ﴿بينكم وبينهم ميثاق﴾ وهو كافر مثلهم ﴿فدية﴾ أي فالواجب فيه كالواجب
362
في المؤمن المذكور قبله دية ﴿مسلّمة إلى أهله﴾ على حسب دينه، إن كان كتابياً فثلث دية المسلم، وإن كان مجوسياً فثلثا عشرها ﴿وتحرير رقبة مؤمنة﴾ وكأنه قدم الدية هنا إشارة إلى المبادرة بها حفظاً للعهد، ولتأكيد أمر التحرير بكونه ختاماً كما كان افتتاحاً حثاً على الوفاء به، لأنه أمانة لا طالب له إلا الله؛ وقال الأصبهاني: إن سر ذلك أن إيجابه في المؤمن أولى من الدية، وبالعكس ها هنا - انتهى.
وكان سره النظر إلى خير الدين في المؤمن، وإلى حفظ العهد في الكافر ﴿فمن لم يجد﴾ أي الرقبة ولا ما يتوصل به إليها ﴿فصيام﴾ أي فالواجب عليه صيام ﴿شهرين متتابعين﴾ حتى لو أفطر يوماً واحداً بغير حيض أو نفاس وجب الاستئناف، وعلل ذلك بقوله عادا للخطأ - بعد التعبير عنه باللام المقتضية أنه مباح - ذنباً تغليظاً للحث على مزيد الاحتياط: ﴿توبة﴾ أي أوجب ذلك عليكم لأجل قبول التوبة ﴿من الله﴾ أي الملك الأعظم الذي كل شيء في قبضته.
ولما كان الكفارات من المشقة على النفس بمكان، رغب فيها سبحانه وتعالى بختم الآية بقوله: ﴿وكان الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال
363
﴿عليماً﴾ أي بما يصلحكم في الدنيا والآخرة، وبما يقع خطأ في نفس الأمر أو عمداً، فلا يغتر أحد بنصب الأحكام بحسب الظاهر ﴿حكيماً *﴾ في نصبه الزواجر بالكفارات وغيرها، فالزموا أوامره وباعدوا زواجره لتفوزوا بالعلم والحكمة.
364
ولما ساق تعالى الخطأ مساق ما هو للفاعل منفراً عنه هذا التنفير، ناسب كل المناسبة أن يذكر ما ليس له من ذلك، إذ كان ضبط النفس بعد إرسالها شديداً، فربما سهلت قتل من تحقق إسلامه إحنة، وجرت إليه ضغينة وقوت الشبه فيه شدة شكيمة، ولعمري إن الحمل على الكف بعد الإرسال أصعب من الحمل على الإقدام! وإنما يعرف ذلك من جرب النفوس حال الإشراف على الظفر واللذاذة بالانتقام مع القوى والقدرة فقال: ﴿ومن يقتل مؤمناً﴾ ولعله أشار بصيغة المضارع إلى دوم العزم على ذلك لأجل الإيمان، وهو لا يكون إلا كفراً، وترك الكلام محتملاً زيادة تنفير من قتل المسلم ﴿متعمّداً﴾ أي وأما الخطأ فقد تقدم حكمه في المؤمن وغيره ﴿فجزاؤه﴾ أي على ذلك ﴿جهنم﴾ أي تتلقاه بحالة كريهة جداً كما تجهم المقتول
364
﴿خالداَ فيها﴾ أي ماكثاً إلى ما لا آخر له ﴿وغضب الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له مع ذلك ﴿عليه ولعنه﴾ أي وأبعده من رحمته ﴿وأعد له عذاباً عظيماً *﴾ أي لا تبلغ معرفته عقولكم، وإن عمم القول في هذه الآية كان الذي خصها ما قبلها وما بعدها من قوله تعالى ﴿ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ [النساء: ٤٨ و١١٦] لا آية الفرقان فإنها مكية وهذه مدنية.
ولما تبين بهذا المنع الشديد من قتل العمد، وما في قتل الخطأ من المؤاخذة الموجبة للتثبت، وكان الأمر قد برز بالقتال والقتل في الجهاد ومؤكداً بأنواع التأكيد، وكان ربما التبس الحال؛ أتبع ذلك التصريح بالأمر بالتثبت جواباً لمن كأنه قال: ماذا نفعل بين أمري الإقدام والإحجام؟ فقال: ﴿يا أيها الذين أمنوا﴾ مشيراً بأداة البعد والتعبير بالماضي الذي هو لأدنى الأسنان إلى أن الراسخين غير محتاجين إلى مزيد التأكيد في التأديب، وما أحسن التفاته إلى قوله تعالى ﴿وحرض المؤمنين﴾ [النساء: ٨٤] إشارة منه تعالى إلى أنهم يتأثرون من تحريضه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
365
وينقادون لأمره، بما دلت عليه كلمة «إذا» في قوله تعالى: ﴿إذا ضربتم﴾ أي سافرتم وسرتم في الأرض ﴿في سبيل الله﴾ أي الذي له الكمال كله، لأجل وجهه خالصاً ﴿فتبينوا﴾ أي اطلبوا بالتأني والتثبت بيان الأمور والثبات في تلبسها والتوقف الشديد عند منالها، وذلك بتميز بعضها من بعض وانكشاف لبسها غاية الانكشاف؛ ولا تقدموا إلا على ما بان لكم ﴿ولا تقولوا﴾ قولاً فضلاً عما هو أعلى منه ﴿لمن ألقى﴾ أي كائناً من كان ﴿إليكم السلام﴾ أي بادر بأن حياكم بتحية افسلام ملقياً قياده ﴿لست مؤمناً﴾ أي بل متعوذ - لتقتلوه.
ولما كان اتباع الشهوات عند العرب في غاية الذم قال موبخاً منفراً عن مثل هذا في موضع الحال من فاعل «تقولوا» ﴿تبتغون﴾ أي حال كونكم تطلبون طلباً حثيثاً بقتله ﴿عرض الحياة الدنيا﴾ أي بأخذ ما معه من الحطام الفاني والعرض الزائل، أو بإدراك ثأر كان لكم قبله؛ روى البخاري ي التفسير ومسلم في آخر كتابه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
« ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام﴾ قال:
366
كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم: فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك إلى قوله ﴿عرض الحياة الدنيا﴾ » ورواه الحارث بن أبي أسامة عن سعيد بن جبير وزاد ﴿كذلك كنتم من قبل﴾ تخفون إيمانكم وأنتم مع المشركين، ﴿فمنَّ الله عليكم﴾ وأظهر الإسلام ﴿فتبينوا﴾ ثم علل النهي عن هذه الحالة بقوله: ﴿فعند الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام ﴿مغانم كثيرة﴾ أي يغنيكم بها عما تطلبون من العرض مع طيبها؛ ثم علل النهي من أصله بقوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الذي قتلتموه بجعلكم إياه بعيداً عن الإسلام ﴿كنتم﴾ وبعّض زمان القتل - كما هو الواقع - بقوله: ﴿من قبل﴾ أي قبل ما نطقتم بكلمة الإسلام ﴿فمنّ الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿عليكم﴾ أي بأن ألقى في قلوب المؤمنين قبول ما أظهرتم امتثالاً لأمره سبحانه وتعالى بذلك، فقوى أمر الإيمان في قلوبكم قليلاً قليلاً
367
حتى صرتم إلى ما أنتم عليه في الرسوخ في الدين والشهرة به والعز، ولو شاء لقسى قلوبكم وسلطهم عليكم فقتلوكم. فإذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الدين من القبول ما فعل بكم، وهو معنى ما سبب عن الوعظ من قوله تأكيداً لما مضى إعلاماً بفظاعة أمر القتل: ﴿فتبينوا﴾ أي الأمور وتثبتوا فيها حتى تنجلي؛ ثم علل هذا الأمر بقوله مرغباً مرهباً: ﴿إن الله﴾ أي المختص بأنه عالم الغيب والشهادة ﴿كان بما تعملون خبيراً *﴾ أي يعلم ما أقدمتم عليه عن تبيين وغيره فاحذروه بحفظ بواطنكم وظواهركم.
ولما ناسبت هذه الآية ما قبلها من آية القتل العمد، والتفتت إلى ﴿وحرض المؤمنين﴾ [النساء: ٨٤] وإلى آية التحية، فاشتد اعتناقها لهما، وعلم بها أن في الضرب في سبيل الله هذا الخطر، فكان ربما فتر عنه؛ بين فضله لمن كأنه قال: فحينئذ نقعد عن الجهاد لنسلم، بقوله: ﴿لا يستوي القاعدون﴾ أي عن الجهاد حال كونهم ﴿من المؤمنين﴾ أي الغريقين في الإيمان، ليفيد التصريح بتفضيل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد لئلا يخصه أحد بالكافر الجاحد.
ولما كان من الناس من عذره سبحانه وتعالى برحمته استثناهم،
368
فقال واصفاً للقاعدين أو مستثنياً منهم: ﴿غير أولي الضرر﴾ أي المانع أو العائق عن الجهاد في سبيل الله من عوج أو مرض أو عمى ونحوه، وبهذا بان أن الكلام في المهاجرين؛ وفي البخاري في التفسير عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه
«أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أملى عليه ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله﴾ فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها عليّ فقال: يا رسول الله! والله لو استطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى؛ فأنزل الله ع وجل على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سرى عنه فأنزل الله ﴿غير أولي الضرر﴾ » وأخرجه في فضائل القرآن عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: «لما نزلت ﴿لا يستوي القاعدون﴾ - الآية، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادع لي زيداً وليجىء باللوح والدواة والكتف؛ ثم قال: اكتب - فذكره» وحديث زيد أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي، وفي رواية أبي داود: قال: «كنت إلى جنب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فخذي، فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم سرى عنه فقال لي: اكتب،
369
فكتبت في كتف ﴿لا يستوي القاعدون﴾ إلى آخرها؛ فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلاً أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، فسرى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: اقرأ يا زيد! فقرأت ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين﴾ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿غير أولي الضرر﴾ - الآية كلها، قال زيد: أنزلها الله وحدها فألحقتها والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف» ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو يعلى الموصلي وفيه: «إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا نزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل».
ولما ذكر القاعد أتبعه قسيمه المجاهد بقوله: ﴿والمجاهدون في سبيل الله﴾ أي دين الملك الأعظم الذي من سلكه وصل إلى رحمته ﴿بأموالهم وأنفسهم﴾ ولما كان نفي المساواة سبباً لترقب كل من الحزبين الأفضليبة، لأن القاعد وإن فاته الجهاد فقد تخلف الغازي في أهله، إذ يحيي الدين بالاشتغال بالعلم ونحوه؛ قال
370
متسأنفاً: ﴿فضل الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿المجاهدين﴾ ولما كان المال في أول الأمر ضيقاً قال مقدماً للمال: ﴿بأموالهم وأنفسهم﴾ أي جهاداً كائناً بالفعل ﴿على القاعدين﴾ أي عن ذلك وهم متمكنون منه بكونهم في دار الهجرة ﴿درجة﴾ أي واحدة كاملة لأنهم لم يفوقوهم بغيرها، وفي البخاري في المغازي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
«لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر».
ولما شرك بين المجاهدين والقاعدين بقوله: ﴿وكلاً﴾ أي من الصنفين ﴿وعد الله﴾ أي المحيط بالجلال والإكرام أجراً على إيمانهم ﴿الحسنى﴾ بين أن القاعد المشارك إنما هو الذي يه قوة الجهاد القريبة من الفعل، وهو التمكن من تنفيذ الأمر بسبب هجرته لأرض الحرب وكونه بين أهل الإيمان، وأما القاعد عن الهجرة مع التمكن فليس بمشارك في ذلك، بل هو ظالم لنفسه فإنه ليس متمكناً من تنفيذ الأوامر فلا هو مجاهد بالفعل ولا بالقوة القريبة منه، فقال: ﴿وفضل الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له فلا يجبر عليه ﴿المجاهدين﴾ أي بالفعل مطلقاً بالنفس أو المال ﴿على القاعدين﴾ أي عن الأسباب الممكنة من الجهاد ومن الهجرة ﴿أجراً عظيماً *﴾ ثم بينه بقوله: ﴿درجات﴾
371
وعظمها بقوله: ﴿منه﴾ وهي درجة الهجرة، ودرجة التمكن من الجهاد بعد الهجرة ودرجة مباشرة الجهاد بالفعل.
ولما كان الإنسان لا يخلو عن زلل وإن اجتهد في العمل قال: ﴿ومغفرة﴾ أي محواً لذنوبهم بحيث أنها لا تذكر ولا يجازى عليها ﴿ورحمة﴾ أي كرامة ورفعة ﴿وكان الله﴾ أي المحيط بالأسماء الحسنى والصفات العلى ﴿غفوراً رحيماً *﴾ أزلاً وأبداً، لم يتجدد له ما لم يكن؛ ثم علل ذلك بأبلغ حث على الهجرة فقال: ﴿إن الذين توفاهم الملائكة﴾ أي تقبض أرواحهم كاملة على ما عندهم من نقص بعض المعاني بما تركوا من ركن الهجرة بما أشارة إليه حذف التاء، وفي الحذف إرشاد إلى أنه إذا ترك من يسعى في جبره بصدقة أو حج ونحوه من أفعال البر جُبر، لأن الأساس الذي تبنى عليه الأعمال الصالحة موجود وهو الإيمان ﴿ظالمي أنفسهم﴾ أي بالقعود عن الجهاد بترك الهجرة والإقامة في بلاد الحرب حيث لا يتمكنون من إقامة شعائر الدين كلها ﴿قالوا﴾ أي الملائكة موبخين لهم ﴿فيم كنتم﴾ أي في أي شيء من الأعمال والأحوال كانت إقامتكم في بلاد الحرب.
ولما كان المراد من هذا السؤال التوبيخ لأجل ترك الهجرة
372
﴿قالوا﴾ معتذرين ﴿كنا مستضعفين في الأرض﴾ أي أرض الكفار، لا نتمكن من إقامة الدين، وكأنهم أطلقوها إشارة إلى أنها عندهم لا تساعها لكثرة الكفار هي الأرض كلها، فكأنه قيل: هل قنع منهم بذك؟ فقيل: لا، لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة، فكأنه قال: فما قيل لهم؟ فقيل: ﴿قالوا﴾ أي الملائكة بياناً لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة إلى موضع يأمنون فيه على دينهم ﴿ألم تكن أرض الله﴾ أي المحيط بكل شيء، الذي له كل شيء ﴿واسعة فتهاجروا﴾ أي بسبب اتساعها كل من يعاديكم في الدين ضاربين ﴿فيها﴾ أي إلى حيث يزول عنكم المانع، فالآية من الاحتباك: ذكر الجهاد أولاً في ﴿وفضل الله المجاهدين﴾ [النساء: ٩٥] دليل عى حذفه ثانياً بعد ﴿ظالمي أنفسهم﴾ [النساء: ٩٧]، وذكر الهجرة ثانياً دليل على حذفها أولاً بالقعود عنها، ولذلك خص الطائفة الأولى بوعد الحسنى.
ولما وبخوا على تركهم الهجرة، سبب عنه جزاؤهم فقيل: ﴿فأولئك﴾ أي البعداء من اجتهادهم لأنفسهم ﴿مأواهم جهنم﴾ أي لتركهم الواجب وتكثيرهم سواد الكفار وانبساطهم في
373
وجوه أهل الناس ﴿وساءت مصيراً *﴾ روى البخاري في التفسير والفتن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى ﴿إن الذين توافاهم﴾ [النساء: ٩٧].
374
ولما توعد على ترك الهجرة، أتبع ذلك بما زاد القاعد عنها تخويفاً بذكر من لم يدخل في المحكوم عليه بالقدرة على صورة الاستثناء تنبيهاً على أنهم جديرون بالتسوية في الحكم لولا فضل الله عليهم، فقال بياناً لأن المستثنى منهم كاذبون في ادعائهم الاستضعاف: ﴿إلا المستضعفين﴾ أي الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعُدوا ضعفاء وتقوى عليهم غيرهم ﴿من الرجال والنساء والولدان﴾ ثم بين ضعفهم بقوله: ﴿لا يستطيعون حيلة﴾ أي في إيقاع الهجرة ﴿ولا يهتدون سبيلاً *﴾ أي إلى ذلك.
ولما كانت الهجرة شديدة، وكان ربما تركها بعض الأقوياء واعتل بالضعف، وربما ظن القادر مع المشقة أنه ليس بقادر؛ نفر من ذلك بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال: ﴿فأولئك﴾ ولما كان الله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء، لا يجب عليه شيء
374
ولا يقبح منه شيء، بل له أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ويفعل ويقول ما يشاء ﴿لا يسأل عما يفعل﴾ [الأنبياء: ٢٣] أحل هؤلاء المعذورين محل الرجاء إيذاناً بأن ترك الهجرة في غاية الخطر فقال: ﴿عسى الله﴾ أي المرجو والخليق والجدير من الملك المحيط بأوصاف الكمال ﴿أن يعفو عنهم﴾ أي ولو آخذهم لكان له ذلك، وكل ما جاء في القرآن من نحو هذا فهو للإشارة إلى هذا المعنى، وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن عسى من الله واجبة، معناه أنه مع أن له أن يفعل ما يشاء لا يفعل إلا ما يقتضيه الحكمة على ما يستصوبه منهاج العقل السليم ﴿وكان الله﴾ أي الملك الذي له كل شيء فلا اعتراض عليه أزلاً وأبداً ﴿عفواً﴾ أي يمحو الذنب إذا أراد فلا يعاقب عليه وقد يعاتب عليه ﴿غفوراً *﴾ أي يزيل أثره أصلاً ورأساً بحيث لا يعاقب عليه ولا يعاتب ولا يكون بحيث يذكر أصلاً، ولعل العفو راجع إلى الرجال، والغفران إلى النساء والولدان.
ولما رهب من ترك الهجرة، رغب فيها بما يسلي عما قد يوسوس به الشيطان من أنه لو فارق رفاهية الوطن وقع في شدة الغربة، وأنه ربما تجشم المشقة فاخترم قبل بلوغ القصد، فقال تعالى: ﴿ومن يهاجر﴾ أي يوقع الهجرة لكل ما أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهجرته ﴿في سبيل الله﴾ أي الذي لا أعظم من
375
ملكه ولا أوضح من سبيله ولا أوسع ﴿يجد في الأرض﴾ أي في ذات الطول والعرض ﴿مراغماً﴾ أي مهرباً ومذهباً ومضطرباً يكون موضعاً للمراغمة، يغضب الأعداء به ويرغم أنوفهم بسبب ما يحصل له من الرفق وحسن الحال، فيخجل مما جروه من سوء معاملتهم له؛ من الرغم وهو الذل والهوان، وأصله: لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، تقول: راغمت فلاناً، أي هجرته وهو يكره مفارقتك لذلة تلحقه بذلك.
ولما كان ذلك الموضع وإن كان واحداً فإنه لكبره ذو أجزاء عديدة، وصف بما يقتضي العدد فقال ﴿كثيراً﴾.
ولما كانت المراغمة لذة الروح، فكانت أعز من لذة البدن فقدمها؛ أتبعها قوله: ﴿وسعة﴾ أي في الرزق، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صوموا تصحوا وسافروا تغنموا» أخرجه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه «واغزوا، وهاجروا تفلحوا».
ولما كان ربما مات المهاجر قبل وصوله إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فظن أنه لم يدرك الهجرة مع تجشمه لفراق بلده قال: ﴿ومن يخرج من بيته﴾ أي فضلاً عن بلده ﴿مهاجراً إلى الله﴾ أي رضى الملك
376
الذي له الكمال كله ﴿ورسوله﴾ أي ليكون عنده ﴿ثم يدركه الموت﴾ أي بعد خروجه من بيته ولو قبل الفصول من بلده ﴿فقد وقع أجره﴾ أي في هجرته بحسب الوعد فضلاً، لا بحسب الاستحقاق عدلاً ﴿على الله﴾ أي الذي له تمام الإحاطة فلا ينقصه شيء، وكذا كل من نوى خيراً ولم يدركه «لا حسد إلا في اثنتين» فهو موفيه إياه توفية ما يلتزمه الكريم منكم.
ولما كان بعضهم ربما قصر به عن البلوغ توانيه في سيره أو عن خروجه من بلده فظن أن هجرته هذه لم تجبُر تقصيره قال: ﴿وكان الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿غفوراً﴾ أي لتقصير إن كان ﴿رحيماً *﴾ يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات.
ولما أوجب السفر للجهاد والهجرة، وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء؛ ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وإذا ضربتم﴾ أي بالسفر ﴿في الأرض﴾ أيّ سفر كان لغير معصية. ولما كان القصر رخصة غير عزيمة، بينه بقوله: ﴿فليس عليكم جناح﴾ أي إثم وميل في ﴿أن تقصروا﴾ ولما كان القصر خاصاً ببعض الصلوات، أتى بالجار لذلك ولإفادة أنه في الكم لا في الكيف فقال: {من
377
الصلاة} أي فاقصروا إن أردتم وأتموا إن أردتم، وبينت السنة أعيان الصلوات المقصورات، وكم يقصر منها من ركعة، وأن القصر من الكمية لا من الكيفية بالإيماء مثلاً في صلاة الخوف بقول عمر رضي الله تعالى عنه ليعلى بن أمية - حين قال له: كيف تقصر وقد أمنا -: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك -، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» وهذا هو حقيقة القصر والذي دلت عليه «من»، وأما الإيماء ونحوه من كيفيات صلاة الخوف فإبدال لا قصر، والسياق كام ترى مشير إلى شدة الاهتمام بشأنها، وأنه لا يسقطها عن المكلف شيء، وقاض بأن المخاطرة بالنفس والمال لا تسقط الجهاد ولا الهجرة إذ الخوف والخطر مبنى أمرهما ومحط قصدهما، فهذا سر قوله: ﴿وإن خفتم أن يفتنكم﴾ أي يخالطم مخالطة مزعجة ﴿الذين كفروا﴾ لا أنه شرط في القصر، كما بينت نفي شرطيته السنة، والحاصل أن هذا الشرط ذكر لهذا المقصد، لا لمخالفة المفهوم للمنطوق بشهادة السنة؛ وقد كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين، فأتمت بعد الهجرة إشارة إلى أن المدينة دار الإقامة وما قبلها كان محل سفر ونقلة؛
378
روى الشيخان وأحمد - وهذا لفظه - عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
«فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر».
ولما ذكر الخوف منهم، علله مشيراً بالإظهار موضع الإضمار، وباسم الفاعل إلى أن من تلبس بالكفر ساعة ما، أعرق فيه، أو إلى أن المجبول على العداوة المشار إليه بلفظ الكون إنما هو الراسخ في الكفر المحكوم بموته عليه فقال: ﴿إن الكافرين﴾ أي الراسخين منهم في الكفر ﴿كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً. ولعله اشار إلى أنهم مغلوبون بقوله: ﴿لكم﴾ دون عليكم ﴿عدواً﴾ ولما كان العدو مما يستوي فيه الواحد والجمع قال: ﴿مبيناً﴾ أي ظاهر العداوة، يعدون عليكم لقصد الأذى مهما وجدوا لذلك سبيلاً، فربما وجدوا الفرصة في ذلك عند طول الصلاة فلذلك قصرتها، ولولا أنها لا رخصة فيها بوجه لوضعتها عنكم في مثل هذه الحالة، أو جعلت التخفيف في الوقت فأمرت بالتأخير، ولكنه لا زكاء للنفوس بدون فعلها على ما حددت من الوقت وغيره.
379
ولما أتم سبحانه وتعالى بيان القصر في الكمية مقروناً بالخوف لما ذكر، وكان حضور النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مظنة الأمن بالتأييد بالملائكة ووعد العصمة من الناس، وما شهر به من الشجاعة ونصر به من الرعب وغير ذلك من الأمور القاضية بأن له العاقبة؛ بيَّن سبحانه وتعالى حال الصلاة في الكيفية عند الخوف، وأن صلاة الخوف تفعل عند الأنس بحضرته كما تفعل عند الاستيحاش بغيبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجوازها لقوم ليس هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم مفهوم موافقة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وإذا كنت﴾ حال الخوف الذي تقدم فرضه ﴿فيهم﴾ أي في أصحابك سواء كان ذلك في السفر أو في الحضر ﴿فأقمت﴾ أي ابتدأت وأوجدت ﴿لهم الصلاة﴾ أي الكاملة وهي المفروضة ﴿فلتقم طائفة منهم معك﴾ أي في الصلاة ولتقم الطائفة الأخرى وجاه العدو ويطوفون في كل موضع يمكن أن يأتي منه العدو ﴿وليأخذوا﴾ أي المصلون لأنهم المحتاجون إلى هذا الأمر لدخولهم في حالة هي بترك السلاح أجدر ﴿أسلحتهم﴾ كما يأخذها من هو خارج الصلاة، وسبب الأمر بصلاة الخوف - كما في صحيح مسلم وغيره عن جابر رضي الله تعالى عنه «أنهم غزوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاتلوا قوماً من جهينة فقاتلوا قتالاً شديداً، قال جابر رضي الله تعالى عنه: فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم،
380
فأخبر جبرئيل عليه الصلاة والسلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فذكر ذلك لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد فلما حضرت العصر صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة» الحديث ﴿فإذا سجدوا﴾ يمكن أن يكون المراد بالسجود ظاهره، فيكون الضمير في ﴿فليكونوا﴾ للجمع الذين منهم هذه الطائفة - المذكورين بطريق الإضمار في قوله ﴿وإذا كنت فيهم﴾ وفي ﴿فلتقم طائفة منهم﴾ أي فإذا سجد الذين قاموا معك في الصلاة فليكن المحدث عنهم وهم الباقون الذين أنت فيهم وهذه الطائفة منهم ﴿من ورائكم﴾ فإذا أتمت هذه الطائفة صلاتها فلتذهب إلى الحراسة ﴿ولتأت طائفة أخرى﴾ أي من الجماعة ﴿لم يصلوا فليصلوا معك﴾ كما صلت الطائفة الأولى، فإن كانت الصلاة ثنائية ولم تصل بكل طائفة جميع الصلاة فلتسلم بالطائفة الثانية، وإن كانت رباعية ولم تصل بكل فرقة جميع الصلاة فلتتم صلاتها، ولتذهب إلى وجاه العدو ولتأت طائفة أخرى - هكذا حتى تتم الصلاة؛ ويمكن أن يكون المراد بالسجود الصلاة - من إطلاق اسم الجزء على الكل، فكأنه قال: فإذا صلوا، أي أتموا صلاتهم - على ما مضت الإشارة إليه، والضمير حينئذ
381
في «فليكونوا» للطائفة الساجدة، وقوله: ﴿وليأخذوا﴾ يمكن أن يكون ضميره للكل، لئلا يتوهم أن الأمر بذلك يختص بالمصلي، لأن غيره لا عائق له عن الأخذ متى شاء، أو ولتأخذ جميع الطوائف الحارسون والمصلون ﴿حذرهم وأسلحتهم﴾ في حال صلاتهم وحراستهم وإتيانهم إلى الصلاة وانصرافهم منها فجعل الحذر الذي هو التيقظ والتحرز بإقبال الفكر على ما يمنع كيد العدو كالآلة المحسوسة، وخص في استعماله في الصلاة في شأن العدو وخص آخر الصلاة بزيادة لاحذر إشارة إلى أن العدو في أول الصلاة قلما يفطنون لكونهم في الصلاة بخلاف الآخر، فلهذا خص بمزيد الحذر، وهذا الكلام على وجازته محتمل - كما ترى - لجميع الكيفيات المذكورة في الفقه لصلاة الخوف إذا لم يكن العدو في وجه القبلة على أنها تحتمل التنزيل على ما إذا كان في وجه القبلة بأن يحمل الواء على ما واراه السجود عنكم وإتيان الطائفة الأخرى على الإقبال على المتابعة للامام في الأفعال ﴿ولم يصلوا﴾ اي بقيد المتابعة له فيها - والله سبحانه وتعالى الهادي.
وما أحسن اتصال ذلك بأول آيات الجهاد في هذه السورة ﴿يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم﴾ [النساء: ٧١] فهو من رد المقطع على المطلع، ثم علل أمره بهذه الكيفية على هذا الاحتياط والحزم بقوله مقوياً لترغيبهم في ذلك بإقبال الخطاب
382
عليهم: ﴿ودَّ﴾ أي تمنى تمنياً عظيماً ﴿الذين كفروا﴾ أي باشروا الكفر وقتاً ما، فكيف بمن هو غريق فيه ﴿لو تغفلون﴾ أي تقع لكم غفلة في وقت ما ﴿عن أسلحتكم﴾.
ولما كانت القوة بالآلات مرهبة للعدو ومنكبة قال: ﴿وأمتعتكم﴾ ولما كانت الغفلة ضعفاً ظاهراً، تسبب عنها قوله: ﴿فيميلون﴾ وأشار إلى العلو والغلبة بقوله: ﴿عليكم﴾ وأشار إلى سرعة الأخذن بقوله: ﴿ميلة﴾ وأكده بقوله: ﴿واحدة﴾.
ولما كان الله - وله المنّ - قد رفع عن هذه الأمة الحرج، وكان المطر والمرض شاقين قال: ﴿ولا جناح﴾ أي حرج ﴿عليكم إن كان بكم أذى﴾ أي وإن كان يسيراً ﴿من مطر﴾ أي لأن حمل السلاح حينئذ يكون سبباً لبلّه ﴿أو كنتم مرضى﴾ أي متصفين بالمرض وكأن التعبير بالوصف إشارة إلى أن أدنى شيء منه لا يرخص ﴿أن تضعوا أسلحتكم﴾ أي لأن حملها يزيد المريض وهنا.
ولما خفف ما أوجبه أولاً من أخذ السلاح برفع الجناح في حال العذر، فكان التقدير: فضعوه إن شئتم؛ عطف عليه بصيغة الأمر إشارة إلى وجوب الحذر منهم في كل حال قوله: ﴿وخذوا حذركم﴾ أي في كل حالة، فإن ذلك نفع لا يتوقع منه ضرر؛ ثم علل ذلك بما بشر فيه بالنصر تشجيعاً للمؤمنين، وإعلاماً بأن الأمر بالحزم إنما هو
383
للجري على ما رسمه من الحكمة في قوله - ربط المسببات بالأسباب، فهو من باب «اعقلها وتوكل» فقال: ﴿إن الله﴾ المحيط علماً وقدرة ﴿أعدَّ﴾ أي في الأزل ﴿للكافرين﴾ أي الدائمين على الكفر، لا من اتصف به وقتاً ما وتاب منه ﴿عذاباً مهيناً *﴾ أي يهينهم به، من أعظمه حذركم الذي لا يدع لهم عليكم مقدماً، ولا تمكنهم معه منكم فرصة.
384
ولما علمهم بما يفعلون في الصلاة حال الخوف، أتبع ذلك ما يفعلون بعدها لئلا يظن أنها تغني عن مجرد الذكر، فقال مشيراً إلى تعقيبه به: ﴿فإذا قضيتم الصلاة﴾ أي فرغتم من فعلها وأديتموها على حالة الخوف أو غيرها ﴿فاذكروا الله﴾ أي بغير الصلاة لأنه لإحاطته بكل شيء يستحق أن يراقب فلا ينسى ﴿قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم﴾ أي في كل حالة، فإن ذكره حصنكم في كل حالة من كل عدو ظاهر أو باطن.
ولما كان الذكر أعظم حفيظ للعبد، وحارس من شياطين الإنس والجن، ومسكن للقلوب ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ [الرعد: ٢٨] ؛ أشار
384
إلى ذلك بالأمر بالصلاة حال الطمأنينة، تنبيهاً على عظم قدرها، وبياناً لأنها أوثق عرى الدين وأقوى دعائمه وأفضل مجليات القلوب ومهذبات النفوس، لأنها مشتملة على مجامع الذكر ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر﴾ [العنكبوت: ٤٨] فقال: ﴿فإذا اطمأننتم﴾ أي عما كنتم فيه من الخوف ﴿فأقيموا الصلاة﴾ أي فافعلوها قائمة المعالم كلها على الحالة التي كنتم تفعلونها قبل الخوف؛ ثم علل الأمر بها في الأمن والخوف والسعة والضيق سفراً أو حضراً بقوله: ﴿إن الصلاة﴾ مظهراً لما كان الأصل فيه الإضمار تنيبهاً على عظيم قدرها بما للعبد فيها من الوصلة بمعبوده ﴿كانت على المؤمنين كتاباً﴾ أي هي - مع كونها فرضاً - جامعة على الله جمعاً لا يقارنها فيه غيره ﴿موقوتاً *﴾ أي وهي - مع كونها محدودة - مضبوطة بأوقات مشهورة، فلا يجوز إخراجها عنها في أمن ولا خوف فوت - بما أشارت إليه مادة وقت للأبدان بما تسبب من الأرزاق. وللقلوب بما تجلب من المعارف والأنوار.
ولما عرف من ذلك أن آيات الجهاد في هذه السورة معلمة للحذر خوف الضرر، مرشدة إلى إتقان المكائد للتخلص من الخطر،
385
وكان ذلك مظنة لمتابعة النفس والمبالغة فيه، وهو مظنة للتواني في أمر الجهاد؛ أتبع ذلك قوله تعالى منبهاً على الجد في أمره، وأنه لم يدع في الصلاة ولا غيرها ما يشغل عنه، عاطفاً على نحو: فافعلوا ما أمرتكم به، أو على ﴿فأقيموا الصلاة﴾ :﴿ولا تهنوا﴾ أي تضعفوا وتتوانوا بالاشتغال بذكر ولا صلا، فقد يسرت ذلك لكم تيسيراً لا يعوق عن شيء من أمر الجهاد ﴿في ابتغاء القوم﴾ أي طلبهم بالاجتهاد وإن كانوا في غاية القوم والقيام بالأمور؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن تكونوا تألمون﴾ أي يحصل لكم ألم ومشقة بالجهاد من القتل وما دونه ﴿فإنهم يألمون كما تألمون﴾ أي لأنهم يحصل لهم من ذلك ما يحصل لكم، فلا يكونن على باطلهم اصبر منكم على حقكم.
ولما بين ما يكون مانعاً لهم من الوهن دونهم، لأنه مشترك بينهم؛ بيّن ما يحملهم على الإقدام لاختصاصه به فقال: ﴿وترجون﴾ أي أنتم ﴿من الله﴾ أي الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى ﴿ما لا يرجون﴾ أي من النصر والعزم والكرم واللطف، لأنكم تقاتلون فيه وهم يقاتلون في الشيطان، وهذا لكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سواء كان ذلك في جهاد الكفار أو لا.
386
ولما كان العلم مبنى كل خير، وكانت الحكمة التي هي نهاية العلم وغاية القدرة مجمع الصفات العلى قال تعالى؛ ﴿وكان الله﴾ أي الآمر لكم بهذه الأوامر وهو المحيط بكل شيء ﴿عليماً﴾ أي بالغ العلم فهو لا يأمر إلا بما يكون بالغ الحسن مصلحاً للدين والدنيا ﴿حكيماً﴾ فهو يتقن لمن يأمره الأحوال، ويسدده في المقال والفعال، فمن علم منه خيراً أراده ورقاه في درج السعادة، ومن علم منه شراً كاده فنكس مبدأه ومعاده.
ولما كان أول هذه القصص والتعجيب من حال الذين أوتوا نصيباً من الكتاب في ضلالهم وإضلالهم، ثم التعجيب من إيمانهم بالجبت والطاغوت، ثم التعجيب من حال من ادعى الإيمان بهذا الكتاب مع الكتب السالفة، ثم رضي بحكم غيره، وساق سبحانه وتعالى أصول ذلك وفروعه، ونصب الأدلة حتى علت على الفرقدين، وانتشر ضياؤها على جميع الخافقين، وختم ذلك بمجاهدة المبطلين بالحجة والسيف، وسوّر ذلك بصفتي العلم والحكمة؛ ناسب أتم مناسبة الإخبار بأنه أنزل هذا الكتاب بالحق وبين فائدته التي عدل عنها المنافقون في استحكام غيره فقال: ﴿إنا أنزلنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي تتقاصر دونها كل عظمة ﴿إليك﴾ أي خاصة وأنت أكمل الخلق ﴿الكتاب﴾ أي الكامل الجامع لكل خير ﴿بالحق﴾ أي ملتبساً بما يطابقه الواقع
387
﴿لتحكم بين الناس﴾ أي عامة، لأن دعوتك عامة فلا أضل ممن عدل عن حكمك وابتغى خيراً من غير كتابك، وأشار إلى أنه لا ينطق عن الهوى بقوله: ﴿بما أراك الله﴾ أي عرفكه الذي له القدرة الشاملة والعلم الكامل، فإن كان قد بين لك شيئاً غاية البيان فافعله، وإلا فانتظر منه البيان؛ ثم شرع سبحانه وتعالى في إتمام ما بقي من أخبارهم، وكشف ما بطن من أسرارهم، وبيان علاماتهم ليعرفوا، ويجتنبها المؤمنون لئلا يوسموا بميسمهم.
ولما كان سبحانه وتعالى قد خفف عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن شرع له القناعة في الحكم بالظاهر وعدم التكليف بالنقب عن سرائرهم بالدفع عن طعمة بن أبيرق، لأن أمره كان مشكلاً، فإنه سرق درعاً وأودعها عند يهودي، فوجدت عنده فادعى أن طعمة أودعها عنده، ولم يثبت ذلك على طعمة حتى أنزل الله سبحانه وتعالى الآية، فأراد تعالى إنزاله في هذه النازلة وغيرها مما يريده سبحانه وتعالى في المقام الخضري من الحكم بما في نفس الأمر مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى إذ كان الصحيح الذي عليه الجمهور - كما نقله شيخنا قاضي الشافعية بمصر أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر رحمه الله تعالى
388
في الإصابة في أسماء الصحابة - أن الخضر عليه الصلاة والسلام نبي، وكان نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أعطى مثل جميع معجزات الأنيباء صلوات الله عليهم مع ما اختص به دونهم - على جميعهم أفضل الصلاة وأتم التسليم والبركات، فقال تعالى عاطفاً على ما علم تقديره من نحو: فاحكم بما نريك من بحار العلوم التي أودعناها هذا الكتاب: ﴿ولا تكن للخائنين﴾ أي لأجلهم، من طعمة وغيره ﴿خصيماً *﴾ أي مخاصماً لمن يخاصمهم، وأتبع ذلك قوله: ﴿واستغفر الله﴾ أي الذي له الإحاطة التامة والغنى المطلق ﴿كان﴾ أي أزلاً وأبداً ﴿غفوراً رحيماً *﴾ وهذا الاستغفار لا عن ذنب إذ هو منزه عن ذلك، معصوم منه، ولكن عن مقام عال تام للارتقاء إلى أعلى منه وأتم؛ وقد روى الترمذي سبب نزول هذه الآيات إلى قوله تعالى ﴿فقل ضل ضلالاً بعيداً﴾ من وجه مستقص مبين بياناً شافياً وسمى بني أبيرق بشراً وبشيراً ومبشراً، ولم يذكر طعمة - والله
389
سبحانه وتعالى أعلم، قال: عن قتادة بن النعمان قال: «كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبشير ومبشر، فكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث! قال: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح درع وسيف، فعدى عليه من تحت البيت فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي! إنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، قال: فتحسسنا في الدار، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق
390
استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار -؛ والله ما نرى صابحكم إلا لبيد بن سهل - رجل منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق! فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقةَ! قالوا: إليك عنا أيها الرجل! فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي! لو أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له! قال قتادة: فأتيته، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سآمر في ذلك، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت! قال
391
قتادة: فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح! ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة! قال: فقال لي عمي: يا ابن أخي! ما صنعت؟ فأخبرته بام قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: الله المستعان! فلم يلبث أن نزل القرآن ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق﴾ إلى ﴿خصيماً﴾ بني أبيرق، ﴿واستغفر الله﴾ مما قلت لقتادة، ﴿إن الله كان غفوراً رحيماًْ﴾ إلى قوله: ﴿فسوق نؤتيه أجراً عظيماً﴾ ؛ فلا نزل القرآن أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسلاح فرده إلى رفاعة، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله سبحانه وتعالى ﴿ومن يشاقق الرسول﴾ إلى قوله: ﴿ضلالاً بعيداً﴾ » وروى الحديث ابن إسحاق في السيرة وزاد: إن حساناً قال في نزوله عندها أبياتاً فطردته، فلحق بالطائف فدخل بيتاً ليسرق منه، فوقع عليه فمات، فقالت قريش: والله ما يفارق محمداً من أصحابه أحد فيه خير.
392
ولما نهاه عن الخصام لمطلق الخائن، وهو من وقعت منه خيانة ما؛ أتبعه النهي عن المجادلة عمن تعمد الخيانة فقال سبحانه وتعالى: ﴿ولا تجادل﴾ أي في وقت ما ﴿عن الذين يختانون﴾ أي يتجدد منهم تعمد أن يخونوا ﴿أنفسهم﴾ بأن يوقعوها في الهلكة بالعصيان فيما اؤتمنوا عليه من الأمور الخفية، والتعبير بالجمع - مع أن الذي نزلت فيه الآية واحد - للتعميم وتهديد من أعانه من قومه، ويجوز أن يكون أشار بصيغة الافتعال إلى أن الخيانة لا تقع إلا مكررة، فإنه يعزم عليها أولاً ثم يفعلها، فأدنى لذلك أن يكون قد خان من نفسه مرتين، قال الإمام ما معناه أن التهديد في هذه الآية عظيم جداً، وذلك أنه سبحانه وتعالى عاتب خير الخلق عنده وأكرمهم لديه هذه المعاتبة وما فعل إلا الحق في الظاهر، فكيف بمن يعلم الباطن ويساعد أهل الباطل؟ فكيف إن كان بغيرهم؟ ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن من خان غيره كان مبالغاً في الخيانة بالعزم وخيانة الغير المستلزمة لخيانة النفس فلذا ختمت بالتعليل بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الجليل العظيم ذا الجلال والإكرام ﴿لا يحب﴾ أي لا يكرم {من كان
393
خواناً أثيماً} بصيغتي المبالغة - على أن مراتب المبالغين في الخيانة متفاوتة، وفيه مع هذا استعطاف لمن وقعت منه الخيانة مرة واحدة وقدم سبحانه وتعالى ذلك، لأن فيه دفعاً للضر عن البريء وجلباً للنفع إليه؛ ثم أتبعه بعيب هذا الخائن وقلة تأمله والإعلام بأن المجادلة عنه قليلة الجدوى، فقال سبحانه وتعالى معجباً منهم بما هو كالتعليل لما قبله: ﴿يستخفون﴾ أي هؤلاء الخونة: طعمة ومن مالأه وهو يعلم باطن أمره ﴿من الناس﴾ حياء منهم وخوفاً من أن يضروهم لمشاهدتهم لهم وقوفاً مع الوهم كالبهائم ﴿ولا يستخفون﴾ أي يطلبون ويوجدون الخفية بعدم الخيانة ﴿من الله﴾ أي الذي لا شيء أظهر منه لما له من صفات الكمال ﴿وهو﴾ أي والحال أنه ﴿معهم﴾ لا يغيب عنه شيء من أحوالهم، ولا يعجزه شيء من نكالهم، فالاستخفاء منه لا يكون إلا بترك الخيانة ومحض الإخلاص، فواسوأتاه من أغلب الأفعال والأقوال والأحوال! ﴿إذ﴾ أي حين ﴿يبيتون﴾ أي يرتبون ليلاً على طريق الإمعان في الفكر والإتقان للرأي ﴿ما لا يرضى من القول﴾ أي من البهت والحلف عليه، فلا يستحيون منه ولا يخافون، لاستيلاء الجهل والغفلة على قلوبهم وعدم إيمانهم بالغيب.
394
ولما أثبت علمه سبحانه وتعالى بهذا من حالهم عمم فقال: ﴿وكان الله﴾ أي الذي كل شيء في قبضته لأنه الواحد الذي لا كفوء له ﴿بما يعملون﴾ أي من هذا وغيره ﴿محيطاً *﴾ أي علماً وقدرة.
ولما وبخهم سبحانه وتعالى على جهلهم، حذر من مناصرتهم فقال مبنياً أنها لا تجديهم شيئاً، مخوفاً لهم جداً بالمواجهة بمثل هذا التنبيه والخطاب ثم الإشارة بعد: ﴿هاأنتم هؤلاء﴾ وزاد في الترهيب للتعيين بما هو من الجدل الذي هو أشد الخصومة - من جدل الحبل الذي هو شدة فتله - وإظهاره في صيغة المفاعلة، فقال مبيناً لأن المراد من الجملة السابقة التهديد: ﴿جادلتم عنهم﴾ في هذه الواقعة أو غيرها ﴿في الحياة الدنيا﴾ أي بما جعل لكم من الأسباب.
ولما حذرهم وبخهم على قلة فطنتهم وزيادة في التحذير بأن مجادلتهم هذه سبب لوقوع الحكومة بين يديه سبحانه وتعالى فقال: ﴿فمن يجادل الله﴾ أي الذي له الجلال كله ﴿عنهم﴾ أي حين تنقطع الأسباب ﴿يوم القيامة﴾ ولا يفترق الحال في هذا بين أن تكون «ها» من ﴿هأنتم﴾ للتنبيه أو بدلاً عن همزة استفهام - على ما تقدم، فإن معنى الإنكار هنا واضح على كلا الأمرين.
395
ولما كان من أعظم المحاسن كف الإنسان عما لا علم له به، عطف على الجملة من أولها من غير تقييد بيوم القيامة منبهاً على قبح المجادلة عنهم بقصور علم الخلائق قوله: ﴿أم من يكون﴾ أي فيما يأتي من الزمان ﴿عليهم وكيلاً *﴾ أي يعلم منهم ما يعلم الله سبحانه وتعالى بأن يحصي أعمالهم فلا يغيب عنه منها شيء ليجادل الله عنهم، فيثبت لهم ما فارقوه، وينفي عنهم ما لم يلابسوه ويرعاهم ويحفظهم مما يأتيهم به القدر من الضرر والكدر.
ولما نهى عن نصرة الخائن وحذر منها، ندب إلى التوبة من كل سوء فقال - عاطفاً على ما تقديره: فمن يصر على مثل هذه المجادلة يجد الله عليماً حكيماً -: ﴿من يعمل سوءاً﴾ أي قبيحاً متعدياً يسوء غيره شرعاً، عمداً - كما فعل طعمة - أو غير عمد ﴿أو يظلم نفسه﴾ بما لا يتعداه إلى غيره شركاً كان أو غيره، أو بالرضى لها بما غيره أعلى منه، ولم يسمه بالسوء لأنه لا يقصد نفسه بما يضرها في الحاضر ﴿ثم يستغفر الله﴾ أي يطلب من الملك الأعظم غفرانه بالتوبة بشروطها ﴿يجد الله﴾ أي الجامع لكل كمال ﴿غفوراً﴾ أي ممحيّاً للزلات
396
﴿رحيماً *﴾ أي مبالغاً في إكرام من يقبل إليه «من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» روى إسحاق بن راهويه عن عمر رضي الله تعالى عنه وأبو يعلى الموصلي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية نسخت ﴿من يعمل سوءاً يجز به﴾ [النساء: ١٢٣] وأنها نزلت بعدها.
ولما ندب إلى التوبة ورغب فيها، بين أن ضرر إثمه لا يتعدى نفسه، حثاً على التوبة وتهييجاً إليها لما جبل عليه كل أحد من محبة نفع نفسه ودفع الضر عنها فقال: ﴿ومن يكسب إثماً﴾ أي إثم كان ﴿فإنما يكسبه على نفسه﴾ لأن وباله راجع عليه إذ الله له بالمرصاد، فهو مجازيه على ذلك لا محالة غير حامل لشيء من إثمه على غيره كما أنه غير حامل لشيء من إثم غيره عليه، والكسب: فعل ما يجر نفعاً أو يدفع ضراً.
ولما كان هذا لا يكون إلا مع العلم والحكمة قال تعالى: ﴿وكان الله﴾ أي الذي له كمال الإحاطة أزلاً وأبداً ﴿عليماً﴾ أي بالغ العلم بدقيق ذلك وجليله، فلا يترك شيئاً منه ﴿حكيماً *﴾ فلا يجازيه إلا بمقدار ذنبه، وإذا أراد شيئاً وضعه في أحكم مواضعه فلا يمكن غيره شيء من نقضه.
397
ولما ذكر ما يخص الإنسان من إثمه أتبعه ما يعديه إلى غيره فقال: ﴿ومن يكسب خطيئة﴾ أي ذنباً غير متعمد له ﴿أو إثماً﴾ أي ذنباً تعمده. ولما كان البهتان شديداً جداً قلَّ من يجترىء عليه، أشار إليه بأداة التراخي فقال: ﴿ثم يرم به بريئاً﴾ أي ينسبه إلى من لم يعمله - كما فعل طعمة باليهودي، وابن أبي بالصديقة رضي الله تعالى عنها. وعظم جرم فاعل ذلك بصيغة الافتعال في قوله: ﴿فقد احتمل﴾ وبقوله: ﴿بهتاناً﴾ أي خطر كذب يبهت المرمى به لعظمه، وكأنه إشارة إلى ما يلحق الرامي في الدنيا من الذم ﴿وإثماًَ﴾ أي ذنباً كبيراً ﴿مبيناً﴾ يعاقب به في الآخرة، وإنما كان مبيناً لمعرفته بخيانة نفسه وبراءة المرمى به، ولأن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته الجميلة أن يظهر براءة المقذوف به يوماً ما بطريق من الطرق ولو لبعض الناس.
ولما وعظ سبحانه وتعالى في هذه النازلة وحذر ونهى وأمر، بين نعمته على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عصمته عما أرادوه من مجادلته عن الخائن بقوله تعالى: ﴿ولولا فضل الله﴾ أي الملك الأعلى
398
﴿عليك﴾ أي بإنزال الكتاب ﴿ورحمته﴾ أي بإعلاء أمرك وعصمتك من كل ذي كيد وحفظك في أصحابك الذين أتوا يجادلون عن ابن عمهم سارق الدرع في التمسك بالظاهر وعدم قصد العناد ﴿لهمت طائفة منهم﴾ أي فرقة فيها أهلية الاستدارة والتخلق، لا تزال تتخلق فتفيل الآراء وتقلب الأمور وتدير الأفكار في ترتيب ما تريد ﴿أن يضلوك﴾ أي يوقعوك في ذلك بالحكم ببراءة طعمة، ولكن الله حفظك في أصحابك فما هموا بذلك، وإنما قصدوا المدافعة عن صاحبهم بما لم يتحققوه، ولو هموا لما أضلوك ﴿وما يضلون﴾ أي على حالة من حالات هذا الهم ﴿إلا أنفسهم﴾ إذ وبال ذلك عليهم ﴿وما يضرونك﴾ أي يجددون في ضرك حالاً ولا مالاً بإضلال ولا غيره ﴿من شيء﴾ وهو وعد بدوام العصمة في الظاهر والباطن كآية المائدة أيضاً وإن كانت هذه بسياقها ظاهرة في الباطن وتلك ظاهرة في الظاهر ﴿وأنزل الله﴾ أي الذي له جميع العظمة ﴿عليك﴾ وأنت أعظم الخلق عصمة لأمتك ﴿الكتاب﴾ أي الذي تقدم أول القصة الإشارة إلى كماله وجمعه لخيري الدارين ﴿والحكمة﴾
399
أي الفهم لجميع مقاصد الكتاب فتكون أفعالك وأفعال من تابعك فيه على أتم الأحوال، فتظفروا بتحقيق العلم وإتقان العمل، وعمم بقوله: ﴿وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ أي من المشكلات وغيرها غيباً وشهادة من أحوال الدين والدنيا ﴿وكان فضل الله﴾ أي المتوحد بكل كمال ﴿عليك عظيماَ *﴾ أي بغير ذلك من أمور لا تدخل تحت الحصر، وهذا من أعظم الأدلة على أن العلم أشرف الفضائل.
ولما كان قوم طعمة قد ناجوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدفع عنه، نبههم سبحانه وغيرهم على ما ينبغي أن يقع به التناجي، ويحسن فيه التفاؤل والتجاذب على وجه ناه عن غيره أشد نهي بقوله سبحانه وتعالى: ﴿لا خير في كثير من نجواهم﴾ أي نجوى جميع المناجين ﴿إلا من﴾ أي نحوى من ﴿أمر بصدقة﴾ ولما خص الصدقة لعزة المال في ذلك الحال، عمم بقوله: ﴿أو معروف﴾ أيّ معروف كان مما يبيحه الشرع من صدقة وغيرها.
ولما كان إصلاح ذات البين أمراً جليلاً، نبه على عظمه بتخصيصه بقوله: ﴿أو إصلاح بين الناس﴾ أي عامة، فقد بين سحانه وتعالى أن غير المستثنى من التناجي لا خير فيه، وكل ما انتقى عنه الخير كان مجتنباً - كما روى أحمد والطبراني في الكبير بسند لا بأس به وهذا لفظه
400
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال: إنما الأمور ثلاثة: أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالمه».
ولما كان التقدير: فمن أمر بشي من ذلك فنجواه خير، وله عليها أجر؛ عطف عليه قوله: ﴿من يفعل ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي أمر به من هذه الأشياء ﴿ابتغاء مرضاة الله﴾ الذي له صفات الكمال، لأن العمل لا يكون له روح إلا بالنية ﴿فسوف نؤتيه﴾ أي في الآخرة بوعد لا خلف فيه ﴿أجراًَ عظيماً *﴾ وهذه الآية من أعظم الدلائل على أن المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض دنيوي، فإن كان رياء انقلبت فصارت من أعظم المفاسد.
ولما رتب سبحانه وتعالى الثواب العظيم على الموافقة، رتب العقاب الشديد على المخالفة والمشاققة، ووكل المخالف إلى نفسه بقوله تعالى: ﴿ومن يشاقق الرسول﴾ أي الكامل في الرسلية، فيكون بقلبه أو شيء من فعله في جهة غير جهته على وجه المقاهرة، وعبر بالمضارع رحمة منه سبحانه بتقييد الوعيد بالاستمرار، وأظهر القاف إشارة إلى تعليقه بالمجاهرة، ولأن السياق لأهل الأوثان وهم مجاهرون، وقد جاهر سارق الدرعين الذي كان سبباً لنزول الآية في آخر قصته - كما مضى.
401
ولما كان في سياق تعليم الشريعة التي لم تكن معلومة قبل الإيحاء بها، لا في سياق الملة المعلومة بالعقل، أتى ب «من» تقييداً للتهديد بما بعد الإعلام بذلك فقال: ﴿من بعد ما﴾ ولو حذفت لفهم اختصاص الوعيد بمن استغرق زمان البعد بالمشاققة. ولما كان ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غاية الظهور قال: ﴿تبين له الهدى﴾ أي الدليل الذي هو سببه.
ولما كان المخالف للإجماع لا يكفر إلا بمنابذة المعلوم بالضرورة، عبر بعد التبين بالاتباع فقالك ﴿ويتبع غير سبيل﴾ أي طريق ﴿المؤمنين﴾ أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة، والمراد الطريق المعنوي، وجه الشبه الحركة البدنية الموصلة إلى المطلوب في الحسي، والنفسانية في مقدمات الدليل الموصل إلى المطلوب في المعنوي ﴿نوله﴾ أي بعظمتنا في الدنيا والآخرة ﴿ما تولى﴾ أي نكله إلى ما اختار لنفسه وعالج فيه فطرته الأولى خذلاناً منا له ﴿ونصله﴾ أي في الآخرة ﴿جهنم﴾ أي تلقاه بالكراهة والغلظة والعبوسة كما تجهم أولياءنا وشاققهم.
ولما كان التقدير: فهو صائر إليها لا محالة، بين حالها في ذلك فقال: ﴿وساءت مصيراً *﴾ وهذه الآية دالة على أن الإجماع حجة لأنه لا يتوعد إلا على مخالفة الحق، وكذا حديث «لا تزال طائفة من أمتي
402
قائمة بأمر الله - وفي رواية: ظاهرين على الحق - حتى يأتي أمر الله» رواه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثوبان والمغيرة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله ومعاوية وأنس وأبو هريرة، بعض أحاديثهم في الصحيحين، وبعضها في السنن، وبعضها في المسانيد، وبعضها في المعاجيم وغير ذلك؛ ووجه الدلالة أن الطائفة التي شهد لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق في جملة أهل الإجماع والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما كان فاعل ذلك بعد بيان الهدى هم أهل الكتاب ومن أضلوه من المنافقين بما ألقوه إليهم من الشبه، فردوهم إلى ظلام الشرك والشك بعد أن بهرت أبصارهم أشعة التوحيد؛ حسن إيلاؤه قوله سبحانه وتعالى - معللاً تعظيماً لأهل الإسلام، وحثاً على لزوم هديهم، وذما لمن نابذهم وتوعداً له، إشارة إلى أن من خرق إجماع المسلمين صار حكمه حكم المشركين، فكيف بمن نابذ المرسلين: ﴿إن الله﴾ أي الأحد المطلق فلا كفوء له ﴿لا يغفر أن يشرك به﴾ أي وقوع الشرك به، من أي شخص كان، وبأي شيء كان، لأن من قدح في الملك استحق البوار والهلك، وسارق الدرع أحق الناس بذلك ﴿ويغفر ما﴾ أي كل شيء هو ﴿دون ذلك﴾ أي الأمر الذي لم يدع للشناعة
403
موضعاً - كما هو شأن من ألقى السلم ودخل في ربقة العبودية، ثم غلبته الشهوة فقصر في بعض أنواع الخدمة. ثم دل على نفوذ أمره بقوله: ﴿لمن يشاء﴾.
ولما كان التقدير: فإن من أشرك به فقد افترى إثماً مبيناً، عطف عليه قوله: ﴿ومن يشرك﴾ أي يوقع هذا الفعل القذر جداً في أي وقت كان من ماض أو حال أو استقبال مداوماً على تجديده ﴿بالله﴾ أي الملك الذي لا نزاع في تفرده بالعظمه لأنه لا خفاء في ذلك عند أحد ﴿فقد ضل﴾ أي ذهب عن السنن الموصل ﴿ضلالاً بعيداً *﴾ لا تمكن سلامة مرتكبه، وطوزى مقدمة الافتراء الذي هو تعمد الكذب، وذكر مقدمة الضلال، لأن معظم السياق للعرب أهل الأوثان والجهل فيهم فاش، بخلاف ما مضى لأهل الكتاب فإن كفرهم عن علم فهو تعمد للكذب.
404
ولما كان المنافقون هم المقصودين بالذات بهذه الآيات، وكان أكثرهم أهل أوثان؛ ناسب كل المناسبة قوله معللاً لأن الشرك ضلال: ﴿إن﴾ أي ما ﴿يدعون﴾ وما أنسب التعبير لعباد الأوثان عن العبادة بالدعاء إشارة إلى أن كل معبود لا يدعي في الضرورات فيسمع، فعابده أجهل الجهلة. ولما كان كل شيء دونه سبحانه
404
وتعالى، لأنه تحت قهره؛ قال محتقراً لما عبدوه: ﴿من دونه﴾ أي وهو الرحمن.
ولما كانت معبوداتهم أوثاناً متكثرة، وكل كثرة تلزمها الفرقة والحاجة والضعف مع أنهم كانوا يسمون بعضها بأسماء الإناث من اللات والعزى، ويقولون في الكل: إنها بنات الله، ويقولون عن كل صنم: أنثى بني فلان؛ قال: ﴿إلا إناثاً﴾ أي فجعلوا أنفسهم للإناث عباداً وهم يأنفون من أن يكون لهم لهم أولاداً، وفي التفسير من البخاري: إناثاً يعني الموات حجراً أو مدراً - أو ما أشبه ذلك؛ هذا مع أن مادة «أنث» و «وثن» يلزمها في نفسها الكثرة والرخاوة والفرقة، وكل ذلك في غاية البعد عن رتبة الإلهية، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في سورة العنكبوت وأن هذا القصر قلب قصر لاعتقادهم أنها آلهة، ومعنى الحصر: ما هي إلا غير آلهة لما لها من النقص ﴿وإن يدعون﴾ أي يعبدون في الحقيقة ﴿إلا شيطاناً﴾ أي لأنه هو الآمر لهم بذلك، المزين لهم ﴿مريداً﴾ أي عاتياً صلباً عاصياً ملازماً للعصيان، مجرداً من كل خير، محترقاً بأفعال الشر، بعيداً من كل أمن، من: شاط وشطن؛ ومرد - بفتح عينه وضمها، وعبر بصيغة فعيل التي هي للمبالغة في سياق ذمهم تنبيهاً على أنهم تعبدوا لما لا إلباس في شرارته، لأنه شر كله، بخلاف ما في سورة الصافات، فإن سياقه يقتضي
405
عدم المبالغة - كما سيأتي إن شاء الله تعالى؛ ثم بين ذلك بقوله: ﴿لعنه الله﴾ أي أبعده الملك الأعلى منكل خير فبعد فاحترق.
ولما كان التقدير: فقال إصراراً على العداوة بالحسد: وعزتك لأجتهدن في إبعاد غيري كما أبعدتني! عطف عليه قوله: ﴿وقال لأتخذنَّ﴾ أي والله لأجتهدن في أن آخذ ﴿من عبادك﴾ الذين هم تحت قهرك، ولا يخرجون عن مرادك ﴿نصيباً مفروضاً *﴾ أي جزءاً أنت قدرته لي ﴿ولأضلنهم﴾ أي عن طريقك السوي بما سلطتني به من الوساوس وتزيين الأباطيل ﴿ولأمنينّهم﴾ أي كل ما أقدر عليه من الباطل من عدم البعث وغيره من طول الأعمال وبلوغ الآمال من الدنيا والآخرة بالرحمة والعفو والإحسان ونحوه مما هو سبب للتسويف بالتوبة ﴿ولآمرنهم﴾.
ولما كان قد علم مما طبعوا عليه من الشهوات والحظوظ التي هيأتهم لطاعته، وكانت طاعته في الفساد عند كل عاقل في غاية الاستبعاد؛ أكد قوله: ﴿فليبتكن﴾ أي يقطعن تقطيعاً كثيراً ﴿آذان الأنعام﴾ ويشققونها علامة على ما حرموه على أنفسهم ﴿ولآمرنهم فليغيرن خلق الله﴾ أي الذي له الحكمة الكاملة فلا كفوء له، بأنواع التغيير من تغيير الفطرة الأولى السليمة إلى ما دون ذلك من فقء عين الحامي
406
ونحو ذلك، وهو إشارة إلى ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم بالتقريب للأصنام من السائبة وما معها، المشار إلى إبطاله في أول المائدة بقوله
﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم﴾ [المائدة: ١] المصرح به في آخرها بقوله: ﴿ما جعل الله من بحيرة﴾ [المائدة: ١٠٣] ويكون التغيير بالوشم والوشر، ويدخل فيه كل ما خالف الدين، فإن الفطرة الأولى داعية إلى خلاف ذلك حتى أدخلوا فيه تشبيه الرجال بالنساء في التخنث وما يتفرع عنه في تشبيه النساء بالرجال في السحق ومانحاً فيه نحوه.
ولما كان التقدير: فقد خسر من تابعه في ذلك، لأنه صار للشيطان ولياً؛ عطف عليه معمماً قوله: ﴿ومن يتخذ﴾ أي يتكلف منهم ومن غيرهم تغيير الفطرة الأولى فيأخذ ﴿الشيطان ولياً﴾ ولما كان ذلك ملزوماً لمحادة الله سبحانه وتعالى، وكان ما هو أدنى من رتبته في غاية الكثرة؛ بعّض ليفهم الاستغراق من باب الأولى فقال: ﴿من دون الله﴾ أي المستجمع لكل وصف جميل ﴿فقد خسر﴾ باتخاذه ذلك ولو على أدنى وجوه الشرك ﴿خسراناً مبيناً *﴾ أي في غاية الظهور والرداءة بما تعطيه صيغة الفعلان، لأنه تولى من لا خير عنده؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿يعدهم﴾ أي بأن يخيل إليهم بما يصل إلى قلوبهم بالوسوسة في شيء من الأباطيل أنه قريب الحصول، وأنه
407
لا درك في تحصيله، وأنه إن لم يحصل كان في فواته ضرر، فيسعون في تحصيله، فيضيع عليهم في ذلك الزمانُ، ويرتكبون فيه ما لا يحل من الأهوال والهوان ﴿ويمنيهم﴾ أي يزين لهم تعليق الآمال بما لا يتأتى حصوله، ثم بين ذلك بقوله: ﴿وما﴾ أي والحالة أنه ما ﴿يعدهم﴾ وأظهر في موضع الإضمار تنبيهاً على مزيد النفرة فقال: ﴿الشيطان﴾ أي المحترق البعيد عن الخير ﴿إلا غروراًَ *﴾ أي تزييناً بالباطل خداعاً ومكراً وتلبيساً، إظهاراً - لما لا حقيقة له أو له حقيقة سيئة - في أبهى الحقائق وأشرفها وألذها إلى النفس وأشهاها إلى الطبع، فإن مادة «غر» و «رغ» تدول على الشرف والحسن ورفاهة العيش، فالغرور إزالة ذلك.
408
ولما أثبت لهم ذلك أنتج بلا شك قوله: ﴿أولئك﴾ أي البعداء من كل خير ﴿مأواهم جهنم﴾ أي تتجهمهم وتتقد عليهم بما اتخذوا من خلق منها ولياً ﴿ولا يجدون عنها محيصاً *﴾ أي موضعاً ما يميلون إليه شيئاً من الميل.
ولما ذكر ما للكافرين ترهيباً أتبعه ما لغيرهم ترغيباً فقال: ﴿والذين آمنوا﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿جنات تجري﴾
408
وقرب وبعض بقوله: ﴿من تحتها الأنهار﴾ أي لرّي أرضها، فحيث ما أجرى منها نهر جرى.
ولما كان الانزعاج عن مطلق الوطن - ولو لحاجة تعرض - شديداً، فكيف بهذا! قال: ﴿خالدين فيها﴾ ولما كان الخلود يطلق على مجرد المكث الطويل، دل على أنه لا بإلى آخر بقوله: ﴿أبداً﴾ ثم أكد ذلك بأن الواقع يطابقه، وهويطابق الواقع فقال: ﴿وعد الله حقاً﴾ أي يطابقه الواقع، لأنه الملك الأعظم وقد برز وعده بذلك، ومن أحق من الله وعداً، وأخبر به خبراً صاداقً يطابق الواقع ﴿ومن أصدق من الله﴾ أي المختص بصفات الكمال ﴿قيلاً *﴾ وأكثر من التأكيد هنا لأنه في مقابلة وعد الشيطان، ووعد الشيطان موافق للهوى الذي طبعت عليه النفوس فلا تنصرف عنه إلا بعسر شديد.
ولما أخبر تعالى عما أعد لهم ولمن أضلهم من العقاب وعما أعد للمؤمنين من الثواب، وكانوا يمنون أنفسهم الأماني الفارغة من أنه لا تبعة عليهم في التلاعب بالدين، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ويشجعهم على ذلك أهل الكتاب ويدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، لا يؤاخذهم بشيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى أو من شفعوا فيه، ونحو هذه التكاذيب مما يطمعون به من والاهم بأنهم ينجونه، وكان
409
المشركون يقولون: ﴿نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين﴾ [سبأ: ٣٥]، ونحو ذلك - كنا قال العاصي بن وائل لخباب بن الأرت وقد تقاضاه ديناً كان له عليه: دعني إلى تلك الدار فأقضيك مما لي فيها، فوالله لا تكون أنت وصاحبك فيها آثر عند الله مني ولا أعظم حظاً، فأنزل الله في ذلك: ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا﴾ [مريم: ٧٧] الآيات من آخر مريم، ويقول لهم أهل الكتاب: أنتم أهدى سبيلاً، لما كان ذلك قال تعالى راداً على الفريقين: ﴿ليس﴾ أي ما وعده الله وأوعده ﴿بأمانيكم﴾ أي أيها العرب ﴿ولا أماني أهل الكتاب﴾ أي التي يمنيكم جميعاً بها الشيطان.
ولما اكنت أمانيهم أنهم لا يجازون بأعمالهم الخبيثة، أنتج ذلك لا محالة قوله: ﴿ومن يعمل سوءاً يجز به﴾ أي بالمصائب من الأمراض وغيرها، عاجلاً إن أريد به الخير، وآجلاًَ إن أريد به الشر، وما أحسن إيلاؤها لتمنيه الشيطان المذكورة في قوله ﴿يعدهم ويمنيهم﴾
[النساء: ١٢٠] فيكون الكلام وافياً بكشف عوار شياطين الجن ثم الإنس في غرورهم لمن خف معهم مؤيساً لمن قبل منهم، وما أبدع ختامها بقوله: {ولا
410
يجد له} ولما كان كل أحد قاصراً عن مولاه، عبر بقوله: ﴿من دون الله﴾ أي الذي حاز جميع العظمة ﴿ولياً﴾ أي قريباً يفعل معه ما يفعل القريب ﴿ولا نصيراً *﴾ أي ينصره في وقت ما! وما أشد التئامها بختام أول الآيات المحذرة منهم ﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة﴾ [النساء: ٤٤] إلى قوله ﴿وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً﴾ [النساء: ٤٥] إشارة إلى أن مقصود المنافقين من مشايعة أهل الكتاب ومتابعتهم إنما هو الولاية والنصرة، وأنهم قد ضيعوا منيتهم فاستنصروا بمن لا نصرة له، وتركوا من ليست النصرة إلا له.
411
ولما أبدى جزاء المسيء تحذيراً، أولاه أجر المحسن تبشيراً فقال: ﴿ومن يعمل﴾ وخفف تعالى عن عباده بقوله: ﴿من الصالحات﴾ ولما عمم بذكر (من) صرح بما اقتضته في قوله: ﴿من ذكر وأنثى﴾ وقيد ذلك بقوله: ﴿وهو﴾ أي والحال أنه ﴿مؤمن﴾ ليكون بناؤه الأعمال على أساس الإيمان ﴿فأولئك﴾ أي العالو الرتبة، وبنى فعل الدخول للمفعول في قراءة ابن كثير وأبي عمروا وأبي جعفر وأبي بكر عن عاصم وروح عن يعقوب، وللفاعل في قراءة غيرهم، لأن المقصود نفس الفعل، لا كونه من فاعل معين؛ وإن كانت قراءة الأولين أكثر فائدة ﴿يدخلون﴾ أي يدخلهم الله ﴿الجنة﴾ أي الموصوفة ﴿ولا يظلمون﴾ وبنى الفعل للمجهول، لأن المقصود الخلاص
411
منه لا بقيد فاعل معين ﴿نقيراً *﴾ أي لا يظلم الله المطيع منهم بنقص شيء ما، ولا العاصي بزيادة شيء ما، والنقير: ما في ظهر النواة من تلك الوقبة الصغيرة جداً، كني بها عن العدم، وهذا على ما يتعارفه الناس وإلا فالله تعالى له أن يفعل ما يشاء، فإن مِلكه ومُلكه عام، لا يتصور منه ظلم كيف ما فعل.
ولما كشف سبحانه زورهم وبيَّن فجورهم، أنكر أن يكون أحد أحسن ديناً ممن اتبع ملة إبراهيم الذي يزعمون أنه كان على دينهم زعماًَ تقدم كشف عواره وهتك أستاره في آل عمران، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن أحسن دائناً ومجازياً وحاكماً منه سبحانه وتعالى: ﴿ومن أحسن ديناً﴾ أو يكون التقدير: لأنهم أحسنوا في دينهم ومن أحسن ديناً منهم! لكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به وتعليماً لما يفعل يفعل المؤمن وحثاً عليه فقال: ﴿ممن أسلم﴾ أي أعطى.
ولما كان المراد الإخلاص الذي هو أشرف الأشياء، عبر عنه بالوجه الذي هو أشرف الأعضاء فقال: ﴿وجهه﴾ أي قياده، أي الجهة التي يتوجه إليها بوجهه أي قصده كله الملازم للإسلام نفسه كلها ﴿لله﴾ فلا حركة له سكنة إلا فيما يرضاه، لكونه الواحد الذي لا مثل له، فهو حصر بغير صيغة الحصر، فأفاد فساد طريق من
412
لفت وجهه نحو سواه باستعانة أو غيرها ولا سيما المعتزلة الذين يرون الطاعة من أنفسهم، ويرون أنها موجبة لثوابهم، والمعصية كذلك وأنها موجبة لعقابهم، في الحقيقة لا يرجون إلا أنفسهم، ولا يخافون غيرها؛ وأهل السنة فوّضوا التدبير والتكوين والخلق إلى الحق، فهم المسلمون.
ولما عبر تعالى عن كمال الاعتقاد بالماضي، شرط فيه الدوام والأعمال الظاهرة بقوله: ﴿وهو﴾ أي والحال أنه ﴿محسن﴾ أي مؤمن مراقب، لا غفلة عنده أصلاً، بل الإحسان صفة له راسخة، لأنه يعبد الله كأنه يراه، فقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح الكامل لمتبعه وإفهام الذم الكامل لغيره.
ولما كان هذا ينتظم مَنَ كان على دين أي نبي كان قبل نسخه، قيده بقوله: ﴿واتبع﴾ أي بجهد منه ﴿ملة إبراهيم﴾ الذي اشتهر عند جميع الطوائف أنه ما دعا إلا إلى الله سبحانه وتعالى وحده، وتبرأ مما سواه من فلك وكوكب وصنم وطبيعة وغيرها حال كون ذلك المتبع ﴿حنيفاً﴾ أي ليناً سهلاً ميّالاً مع الدليل، والملة: ما دعت إليه الفطرة الأولى بمساعدة العقل السليم من كمال الإسلام بالتوحيد.
413
ولما كان التقدير ترغيباً في هذا الاتباع: فقد جعل الله سبحانه وتعالى ملة إبراهيم أحسن الملل، وخلقه يوم خلقه حنيفاً، عطف عليه قوله: ﴿واتخذ الله﴾ أي الملك الأعظم أخذ من معين بذلك مجتهد فيه ﴿إبراهيم خليلاً *﴾ لكونه كان حنيفاً، وذلك عبارة عن اختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله من ترديد الرسل بالوحي بينه وبينه، وإجابة الدعوة، وإظهار الخوارق عليه وعلى آله، والنصرة على الأعداء وغير ذلك من الألطاف، وأظهر اسمه في موضع الإضمار تصريحاً بالمقصود احتراساً من الإبهام وإعلاءً لقدره تنويهاً بذكره.
414
ولما أخبر بمن يحبه ومن يبغضه وبما يرضيه وما يغضبه، وكان ربما توهم عدم القدرة على أخذه لغير ما أخذ، وجعله لغير ما جعل، أو تعنت بذلك متعنت فظن أن في الكلام دخلاً بنوع احتياج إلى المحالة أو غيرها قال: ﴿ولله﴾ أي والحال أن للمختص بالوحدانية - فلا كفوء له ﴿ما في السماوات﴾.
ولما كان السياق للمنافقين والمشركين أكد فقال: ﴿وما في الأرض﴾ من إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن غيره إشارة إلى أنه التام المُلك العظيم المِلك، فلا يعطي إلا من تابع أولياءه وجانب أعداءه، ولا يختار إلا من علمه خياراً
414
وهو مع ذلك قادر على ما يريد من إقرار وتبديل، ولذلك قال: ﴿وكان الله﴾ أي الملك الذي له الكمال كله ﴿بكل شيء﴾ أي منهما ومن غيرهما ﴿محيطاً *﴾ علماً وقدرة، فمهما راد كان في وعده ووعيده للمطيع والعاصي، لا يخفى عليه أحد منهم، ولا يعجزه شيء.
ولما كان سبحانه وتعالى قد رتب هذا الكتاب على أنه يذكر أحكاماً من الأصول والفروع، ثم يفصلها بوعد ووعيد وترغيب وترهيب، وينظمها بدلائل كبريائه وجلاله وعظيم بره وكماله، ثم يعود إلى بيان الأحكام على أبدع نظام لأن إلقاء المراد في ذلك القالب أقرب إلى القبول، والنظم كذلك أجدر بالتأثير في القلوب، لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا تنقاد له النفوس إلا إذا كان مقروناً ببشارة ونذارة، وذلك لا يؤثر إلا عند القطع بغاية الكمال لمن صدر عنه ذلك المقال، ولا ينتقل مع ذلك من أسلوب إلى آخر إلا على غاية ما يكون من المناسبة بين آخر كل نوع وأول ما بعده بكمال التعلق لفظاً ومعنى، وفعل سبحانه وتعالى في هذه السورة في أحكام العدل الذي بدأ السورة به في المواصلة التي مبناها النكاح والإرث وغير ذلك مما اتصل به - كما بين - إلى أن ختم هنا بالإسلام المثمر لقبول ذلك
415
كله وعظمة الملك الموجبة لتمام الإسلام، وقامت البراهين وسطعت الحجج، وكان من أعظم مقاصد السورة العدل في الضعفاء من الأيتام وغيرهم في الميراث وغيره، وكان توريث النساء والأطفال - ذكوراً كانوا أو إناثاً - مما أبته نفوسهم، وأشربت بغضه قلوبهم، وكان التفريق في إثبات ما هذا سبيله أنجع، وإلقاؤه شيئاً فشيئاً في قوالب البلاغة أنفع؛ وصل بذلك قوله تعالى: ﴿ويستفتونك﴾ في جملة حالية من اسم الجلالة التي قبلها، أي له ما ذكر فلا مساغ للاعتراض عليه والحال أنهم يسألونك طلباً لأن تتفتى عليهم بالجواب في بعض ما أعطى من ملكه لبعض مخلوقاته ﴿في النساء﴾ طمعاً في الاستئثار عليهم بالمال وغيره محتجين بأنه لا ينبغي أن يكون المال إلا لمن يحمي الذمار والحال أنهم قد عبدوا من دونه إناثاً، وجعلوا لهم مما خولهم فيه من الرزق الذي ملكهم له بضعف من الحرث والأنعام نصيباً، فلا تعجب من حال من كرر الاستفتاء - الذي لا يكون في العرف غالباً إلا فيما فيه اعتراض - في إناث أحياء وأطفال ذكور وأعطاهم المِلك التام المُلك العظيم المِلك بعض ما يريد، ولم يعترض على نفسه حيث أعطى إناثاً
416
لا حياة لها ولا منفعة مما في يده، وملكه في الحقيقة لغيره، ولم يأذن فيه المالك ما لا ينتفع به المعطي.
ولما كان المقام بكثرة الاستفتاء محتاجاً إلى زيادة الاعتناء قال: ﴿قل الله﴾ آمراً معبراً بالاسم الأعظم منبهاً على استحضار ما ذكر أول السورة ﴿يفتيكم﴾ أي يبين لكم حكمه ﴿فيهن﴾ أي الآن لأن تقوموا لهن بالقسط ﴿وما﴾ أي مع ما ﴿يتلى عليكم﴾ أي تجدد فيكم تلاوته إلى آخر الدهر سيفاً قاطعاً وحكماً ماضياً جامعاً ﴿في الكتاب﴾ أي فيما سبق أول السورة في قوله: ﴿وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء﴾، وغير ذلك ﴿في يتامى النساء﴾ أي في شأن التيامى من هذا الصنف ﴿اللاّتي لا تؤتونهن﴾ أي بسبب التوقف في ذلك وتكرير الاستفتاء عنه ﴿ما كتب لهن﴾ أي ما فرض من الميراث وسائر الحقوق فرضاً وهو في غاية اللزوم ﴿وترغبون أن﴾ أي في أن أو عن أن ﴿تنكحوهن﴾ لجمالهن أو لدمامتهن ﴿و﴾ يفتيكم في ﴿المستضعفين﴾ أي الموجود ضعفهم والمطلوب إضعافهم، يمنعهم حقوقهم ﴿من الولدان﴾.
ولما كان التقدير؛ في أن تقوموا لهم بالقسط، أي في ميراثهم وسائر حقوقهم ولا تحقروهم لصغرهم؛ عطف عليه قوله: ﴿وأن تقوموا﴾ أي تفعلوا فيه من القوة والمبادرة فعل القائم المنشط ﴿لليتامى﴾
417
من الذكور والإناث ﴿بالقسط﴾ أي بالعدل من الميراث وغيره.
ولما كان التقدير: فما تفعلوا في ذلك من شر فإن الله كان به عليماً وعليكم قديراً؛ عطف عليه قوله ترغيباً: ﴿وما تفعلوا من خير﴾ أي في ذلك أو في غيره ﴿فإن الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿كان به عليماً *﴾ أي فهو جدير - وهو أكرم الأكرمين وأحكم الحاكمين - بأن يعطي فاعله على حسب كرمه وعلو قدره، فطيبوا نفساً وتقروا عيناً؛ روى البخاري في الشركة والنكاح ومسلم في آخر الكتاب وأبو داود والنسائي في النكاح «عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن قول الله عز وجل: ﴿فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى﴾ إلى ﴿رباع﴾ قالت: يا ابن أختي! هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن؛ قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
418
بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله عز وجل (ويستفتونك - إلى - وترغبون أن تنكحوهن) »
والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب: الآية الأولى التي قال فيها: ﴿وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء﴾ قالت عائشة رضي الله عنها: وقول الله تعالى في الآية الأخرى: ﴿وترغبون أن تنكحوهن﴾ هي رغبة أحدكم يتيمته - وقال مسلم: عن يتيمته - التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، زاد مسلم: إذا كن قليلات المال والجمال، وقال البخاري في النكاح: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق؛ وفي البخاري
419
ومسلم في التفسير عن عروة أيضاً ﴿يستفتونك في النساء﴾ الآية قالت: «هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته - وقال مسلم: لعلها أن تكون قد شركته، في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية؛ وفي رواية مسلم: نزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينحكها لمالها فيضر بها ويسيء صحبتها فقال: ﴿وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء﴾ يقول: ما حللت لكم، ودع هذه التي تضر بها» وفي رواية له وللبخاري في النكاح «فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في ماله - وقال البخاري: فيدخل عليه في ماله - فيعضلها ولا يتزوجها ولا يزوجها، زاد البخاري: فنهاهم الله سبحانه وتعالى» عن ذلك، وحاصل ذلك ما نقله الأصبهاني أنه كان الرجل في الجاهلية
420
تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت، فإذا ماتت ورثها.
وما أنسب ذكر هذا الحكم الذي كثرت فيه المراجع على وجه يؤذن بعدم إذعان بعض النفوس له عقب آية الإسلام الذي معناه الانقياد والخضوع والإحسان الذي صار في العرف أكثر استعماله للاعطاء والتألف والعطف لا سيما للضعيف، وذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم أنه أتم ما ابتلاه الله تعالى به من الكلمات ووفي بها من غير مراجعة ولا تلعثم، وأنه كان حنيفاً ميالاً مع الدليل، تعنيفاً لمن قام عليه دليل العقل وأتاه صريح النقل وهو يراجع! وإذا تأملت قوله تعالى: ﴿من يعمل سوءاً يجز به﴾ [النساء: ١٢٣] مع قوله فيما قبل ﴿وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم﴾ [النساء: ٩] لاحت لك أيضاً مناسبة بديعة.
421
ولما صاروا يعطفون اليتامى أموالهم، وصاروا يتزوجون ذوات الأموال منهن ويضاجرون بعضهن؛ عقب ذلك تعالى بالإفتاء في أحوال المشاققة بين الأزواج فقال: ﴿وإن امرأة﴾ أي واحدة أو على ضرائر.
ولما كان ظن المكروه مخوفاً قال: ﴿خافت﴾ أي توقعت
421
وظنت بما يظهر لها من القرائن ﴿من بعلها نشوزاً﴾ أي ترفعاً بما ترى من استهانته لها بمنع حقوقها أو إساءة صحبتها ﴿أو إعراضاً﴾ عنها بقلبه بأن لا ترى من محادثته ومؤانسته ومجامعته ما كانت ترى قبل ذلك، تخشى أن يجر إلى الفراق وإن كان متكلفاً لملاطفتها بقوله وفعله ﴿فلا جناح﴾ أي حرج وميل ﴿عليهما أن يصلحا﴾ أي يوقع الزوجان ﴿بينهما﴾ تصالحاً ومصالحة، هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة الكوفيين بضم الياء وإسكان الصاد وكسر اللام التقدير: إصلاحاً، لكنه لما كان المأمور به يحصل بأقل ما يقع عليه اسم الصلح بنى المصدر على غير هذين الفعلين فقال مجرداً له: ﴿صلحاً﴾ بأن تلين هي بترك بعض المهر أو بعض القسم أو نحو ذلك، وأن يلين لها هو بإحسان العشرة في مقابلة ذلك.
ولما كان التقدير: ولا حناح عليهما أن يتفارقا على وجه العدل، عطف عليه قوله: ﴿والصلح﴾ أي بترك كل منهما حقه أو بعض حقه ﴿خير﴾ أي المفارقة التي أشارت إليها الجملة المطوية لأن الصلح مبناه الإحسان الكامل بالرضى من الجانبين، والمفارقة مبناها العدل الذي يلزمه في الأغلب غيظ أحدهما وإن كانت مشاركة للصلح في الخير، لكنها مفضولة، وتخصيصُ المفارقة بالطي لأن مبنى السورة على المواصلة.
422
ولما كان منشأ التشاجر المانع من الصلح شكاسة في الطباع، صوَّر سبحانه وتعالى ذلك تنفيراً عنه، فقال اعتراضاً بين هذه الجمل للحث على الجود بانياً الفعل للمجهول إشارة إلى أن هذا المُحِضر لا يرضى أحد نسبته إليه: ﴿وأحضرت الأنفس﴾ أي الناظرة إلى نفاستها عجباً ﴿الشح﴾ أي الحرص وسوء الخلق وقلة الخير والنكد والبخل بالموجود، وكله يرجع إلى سوء الخلق والطبع الرديء واعوجاج الفطرة الأولى الذي كني عنه بالإحضار الملازم الذي لا انفكاك له إلا بجهاد كبير يناله به الأجر الكثير.
ولما كان هذا خلقاً رديئاً لم يذكر فاعله، والمعنى: أحضرها إياه مُحضر. فصار ملازماً لها، لا تنفك عنه إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى في قهرها عليه بتذكير ما عنده سبحانه وتعالى من حسن الجزاء، ولما كان التقدير: فإن شححتم فإنه أعلم بها في الشح من موجبات الذم، عطف عليه قوله: ﴿وإن تحسنوا﴾ أي توقعوا الإحسان بالإقامة على نكاحكم وما ندبتم إليه من حسن العشرة وإن كنتم كارهين ﴿وتتقوا﴾ أي توقعوا التقوى بمجانبة كل ما يؤذي نوع أذى إشارة إلى أن الشحيح لا محسن ولا متق ﴿فإن الله﴾ أي وهو الجامع لصفات الكمال
423
﴿كان﴾ أزلاً وأبداً ﴿بما تعملون﴾ أي في كل شح وإحسان ﴿خبيراً *﴾ أي بالغ العلم به وأنتم تعلمون أنه أكرم الأكرمين، فهو مجازيكم عليه أحسن جزاء.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الوقوف على الحق فضلاً عن الإحسان - وإن كانت المرأة واحدة - متعسر، أتبعه أن ذلك عند الجمع أعسر، فقال تعالى معبراً بأداة التأكيد: ﴿ولن تستطيعوا﴾ أي توجدوا من أنفسكم طواعية بالغة دائمة ﴿أن تعدلوا﴾ أي من غير حيف أصلاً ﴿بين النساء﴾ في جميع ما يجب لكل واحدة منهن عليكم من الحقوق ﴿ولو حرصتم﴾ أي على فعل ذلك، وهذا مع قوله تعالى: ﴿فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة﴾ [النساء: ٣] كالمختم للاختصار على واحدة.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأن لا يخلو نكاح العدد عن ميل، سبب عنه قوله: ﴿فلا﴾ أي فإن كان لا بد لكم من العدد، أو فإن وقع الميل والزوجة واحدة فلا ﴿تميلوا﴾ ولما كان مطلق الميل غير مقدور على تركه فلم يكلف به، بين المراد بقوله: ﴿كل الميل﴾ ثم سبب عنه قوله: ﴿فتذروها﴾ أي المرأة ﴿كالمعلقة﴾ أي بين النكاح والعزوبة والزواج والانفراد.
ولما كان الميل الكثير مقدوراً على تركه، فكان التقدير: فإن
424
ملتم كل الميل مع إبقاء العصمة فإن الله كان منتقماً حسيباً، عطف عليه قوله: ﴿وإن تصلحوا وتتقوا﴾ أي بأن توجدوا الإصلاح بالعدل في القسم والتقوى في ترك الجور على تجدد الأوقات ﴿فإن الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿كان غفوراً رحيماً *﴾ أي محّاء للذنوب بليغ الإكرام فهو جدير بأن يغفر لكم مطلق الميل، ويسبغ عليكم ملابس الإنعام.
ولما كان من الإصلاح المعاشرة بالمعروف، ذكر قسيمه فقال: ﴿وإن يتفرقا﴾ أي يفترق كل من الزوجين من صاحبه ﴿يغن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿كلاًّ﴾ أي منهما، أي يجعله غنياً هذه برجل وهذا بامرأة أو بغير ذلك من لطفه، وبين منشأ هذا الغني فقال: ﴿من سعته﴾ أي من شمول قدرته وغير ذلك من كل صفة كمال، ولمزيد الاعتناء بتقرير هذه المعاني في النفوس لإحضارها الشح، كرر اسمه الأعظم الجامع فقال: ﴿وكان الله﴾ أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً ﴿واسعاً﴾ أي محيطاً بكل شيء ﴿حكيماً *﴾ أي يضع الأشياء في أقوم محالها.
425
ولما كان مبنى هذه السورة على التعاطف والتراحم والتواصل،
425
لم يذكر فيها الطلاق إلا على وجه الإيماء في هذه الآية على وجه البيان لرأفته وسعة رحمته وعموم تربيته، وفي ذلك معنى الوصلة والعطف، قال ابن الزبير: ولكثرة ما يعرض من رعى حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة - ويدق ذلك ويغمض - لذلك ما تكرر كثيراً في هذه السورة الأمرُ بالاتقاء، وبه افتتحت ﴿اتقوا ربكم﴾ [النساء: ١]، ﴿واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام﴾ [النساء: ١]، ﴿ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم﴾ [النساء: ١٣١].
ولما ذكر تعالى آية التفرق وختمها بصفتي السعة والحكمة دل على الأول ترغيباً في سؤاله: ﴿ولله﴾ أي الذي له العظمة كلها ﴿ما في السماوات﴾ ولما كان في السياق بيان ضعف النفوس وجبلها على النقائص، فكانت محتاجة إلى تقوية الكلام المخرج لها عما ألفت من الباطل قال: ﴿وما في الأرض﴾ وعلى الثانية بالوصية بالتقوى لأنه كرر الحث على التقوى في هذه الجمل في سياق الشرط بقوله: ﴿وإن تحسنوا وتتقوا﴾ [النساء: ١٢٨] ﴿وإن تصلحو وتتقوا﴾ [النساء: ١٢٩] فأخبر تعالى بعد اللطف بذلك السياق أن وصيته بها مؤكدة، لم تزل قديماً وحديثاً، لأن العلم بالمشاركة في الأمر يكون أدعى للقبول، وأهون على النفس، فقال تعالى: ﴿ولقد وصينا﴾ أي على ما لنا من العظمة.
426
ولما كان الاشتراك في الأحكام موجباً للرغبة فيها والتخفيف لثقلها، وكانت الوصية للعالم أجدر بالقبول قال: ﴿الذين أوتوا الكتاب﴾ أي التوراة والإنجيل وغيرهما وبنى الفعل للمجهول لأن القصد بيان كونهم أهل علم ليرغب فيما أوصوا به، ودلالة على أن العلم في نفسه مهيىء للقبول، ولإفادة أن وصيتهم أعم من أن تكون في الكتاب، أو على لسان الرسول من غير كتاب، ولما كان إيتاؤهم الكتاب غير مستغرق للماضي وكذا الإيصاء قال: ﴿من قبلكم﴾ أي من بني إسرائيل وغيرهم ﴿وإياكم﴾ أي ووصيانكم مثل ما وصيناهم؛ ولما كانت التوصية بمعنى القول فسرها بقوله: ﴿أن اتقوا الله﴾ أي الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له.
ولما كان التقدير: فإن تتقوا فهو حظكم وسعادتكم في الدارين، عطف عليه قوله: ﴿وإن تكفروا﴾ أي بترك التقوى ﴿فإن الله﴾ أي الذي له الكمال المطلق ﴿ما في السماوات﴾ ولما كان السياق لفرض الكفر حسن التأكيد في قوله: ﴿وما في الأرض﴾ منكم ومن غيركم من حيوان وجماد أجساداً وأروحاً وأحوالاً.
ولما كان المعنى: لا يخرج شيء عن ملكه ولا إرادته، ولا يلحقه ضرر بكفركم، ولم تضروا إن فعلتم إلا أنفسكم، لأنه غني عنكم،
427
لا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات؛ أكده بقوله دالاً على غناه واستحقاقه للمحامد: ﴿وكان الله﴾ أي الذي له الإحاطة كلها ﴿غنياً﴾ أي عن كل شيء الغنى المطلق لذاته ﴿حميداً *﴾ أي محموداً بكل لسان قالي وحالي، كفرتم أو شكرتم، فكان ذلك غاية في بيان حكمته.
ولما كان الملك قد لا يمنع الاعتراض على المالك بين أن ذلك إنما هو في الملك الناقص وأنه ملكه تام: ﴿ولله﴾ أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة ﴿ما في السماوات﴾ وأكد لمثل ما مضى فقال: ﴿وما في الأرض﴾ أي هو قائم بمصالح ذلك كله، يستقل بجميع أمره، لا معترض عليه، بل هما وكل من فيهما مظهر العجز عن أمره، معلق مقاليد نفسه وأحواله إليه طوعاً أو كرهاً، فهو وكيل على كل ذلك فاعل به ما يفعل الوكيل من الأخذ والقبض والبسط، ولمثل ذلك كرر الاسم الأعظم فقال: ﴿وكفى بالله﴾ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ﴿وكيلاً *﴾ أي قائماً بالمصالح قاهراً متفرداً بجميع الأمور، قادراً على جميع المقدور، وقد بان - كما ترى - أن جملة «لله» المكررة ثلاث مرات ذكرت كل مرة دليلاً على شيء غير الذي قبله وكررت، لأن الدليل الواحد إذا كان دالاً على مدلولات كثيرة يحسن
428
أن يستدل به على كل واحد منها. وإعادته مع كل واحد أولى من الاكتفاء بذكره مرة واحدة، لأن عند إعادته يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فيكون العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل؛ وفي ختم كل جملة بصفة من الصفات الحسنى تنبيه الذهن بها إلى أن هذا الدليل دال على أسرار شريفة ومطالب جليلة لا تنحصر، فيجتهد السامع في التفكر لإظهار الأسرار والاستدلال عل صفات الكمال لأن الغرض الكلي من هذا الكتاب صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله تعالى إلى الاستغراق في معرفته سبحانه، وهذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، فكان في غاية الحسن والكمال.
ولما تقرر بهذا شمول علم من هذا من شأنه وتمام قدرته أنتج قوله مهدداً مخوفاً مرهباً: ﴿إن يشأ يذهبكم﴾ وصرح بالعموم إشارة إلى عموم الإرسال بقوله: ﴿أيها الناس﴾ أي المتفرعون من تلك النفس الواحدة كافة لغناه عنكم وقدرته على ما يريد منكم ﴿ويأت بآخرين﴾ أي من غيركم يوالونه ﴿وكان الله﴾ أي الواحد الذي لا شريك له أزلاً وأبداً ﴿على ذلك﴾ أي الأمر العظيم من الإيجاد والإعدام ﴿قديراً *﴾ أي بالغ القدرة، وهذا غاية البيان لغناه وكونه حميداً وقاهراً وشديداً، وإذا تأملت ختام قوله تعالى في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام
429
في آخر هذه السورة ﴿سبحانه أن يكون له ولد﴾ [النساء: ١٧١] زاد ذلك هذا السر - وهو كونه لا اعتراض عليه - وضوحاً.
ولما كان في هذا تهديد بليغ وتعريف بسعة الملك وكمال التصرف، وكان مدار أحوال المتشاححين في الإرث وحقوق الأزواج وغيرها الأمرَ الدنيوي، وكان سبحانه وتعالى قد بين فيما مضى أن مبنى أحوال المنافقين على طلب العرض الفاني خصوصاً قصة طعمة بن أبيرق الراضي لنفسه بالفضيحة في نيل شيء تافه؛ قال تعالى تفييلاً لآرائهم وتخسيساً لهممهم حيث نزلوا إلى الأدنى مع القوة على طلب الأعلى مع طلب الأدنى أيضاً منه تعالى، فلا يفوتهم شيء من معوّلهم مع إحراز الأنفس: ﴿ما كان يريد ثواب الدنيا﴾ لقصور نظره على المحسوس الحاضر مع خسته كالبهائم ﴿فعند﴾ أي فليقبل إلى الله فإنه عند ﴿الله﴾ أي الذي له الكمال المطلق ﴿ثواب الدنيا﴾ الخسيسة الفانية ﴿والآخرة﴾ أي النفسية الباقية فليطلبها منه، فإنه يعطي من أراد ما شاء، ومن علت همته عن ذلك فأقبل بقلبه إليه وقصر همه عليه فلم يطلب إلا الباقي جمع سبحانه وتعالى له بينهما، كمن يجاهد الله خالصاً، فإنه يجمع له بين الأجر والمغنم، وما أشد التئامها مع ذلك بما قبلها، لأن من كان تام القدرة واسع الملك كان كذلك.
430
ولما كان الناشيء عن الإرادة إما قولاً أو فعلاً، وكان الفعل قد يكون قلبياً قال: ﴿وكان الله﴾ أي المختص بجميع صفات الكمال ﴿سميعاً﴾ أي بالغ السمع لكل قول وإن خفي، نفسياً كان أو لسانياً ﴿بصيراً *﴾ أي بالغ البصر لكل ما يمكن أن يبصر من الأفعال، والعلم بكل ما يبصر وما لا يبصر منها ومن غيرها فيكون من البصر ومن البصيرة، فليراقبه العبد قولاً وفعلاً.
431
ولما كان ذلك من أحسن المواعظ لقوم طعمة الذين اعتصبوا له، التفت إليهم مستعطفاً بصيغة الإيمان، جائياً بصيغة الأمر على وجه يعم غيرهم، قائلاً ما هو كالنتيجة لما مضى من الأمر بالقسط من أول السورة إلى هنا على وجه أكده وحث عليه: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان بألسنتهم ﴿كونوا قوَّامين﴾ أي قائمين قياماً بليغاً مواظباً عليه مجتهداً فيه.
ولما كان أعظم مباني هذه السورة العدل قدمه فقال: ﴿بالقسط﴾ بخلاف ما يأتي في المائدة فإن النظر فيها إلى الوفاء الذي إنما يكون بالنظر إلى الموفى له ﴿شهداء﴾ أي حاضرين متيقظين حضور المحاسب لكل شيء أردتم الدخول فيه ﴿لله﴾ أي لوجه الذي كل شيء بيده لا لشيء غيره ﴿ولو﴾ كان ذلك القسط ﴿على أنفسكم﴾ أي فإني لا أزيدكم بذلك إلا عزاء، وإلا تفعلوا ذلك قهرتكم على الشهادة على أنفسكم على
431
رؤوس الأشهاد، ففضحتم في يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون من جميع العباد.
ولما كان ذكر أعز ما عند الإنسان أتبعه ما يليه وبدأ منه بمن جمع إلى ذلك الهيبة فقال: ﴿أو﴾ أي أو كان ذلك القسط على ﴿الوالدين﴾ وأتبعه ما يعمهما وغيرها فقال: ﴿والأقربين﴾ أي من الأولاد وغيرهم، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن يكن﴾ أي المشهود له أو عليه ﴿غنياً﴾ أي ترون الشهادة له بشيء باطل دافعة ضراً منه للغير من المشهود عليه أو غيره، أو مانعة فساداً أكبر منها، أو عليه بما لم يكن صلاحاً طمعاً في نفع الفقير بما لا يضره ونحو ذلك ﴿أو فقيراً﴾ فيخيل إليكم أن الشهادة له بما ليس له نفعه رحمة له أو بما ليس عليه لمن هو أقوى منه تسكن فتنة ﴿فالله﴾ أي ذو الجلال والإكرام ﴿أولى بهما﴾ أي بنوعي الغني والفقير المندرج فيهما هذان المشهود بسببهما منكم، فهو المرجو لجلب النفع ودفع الضر بغير ما ظننتموه، فالضمير من الاستخدام، ولو عاد للمذكور لوحد الضمير لأن المحدث عنه واحد مبهم.
432
ولما كان هذا، تسبب عنه قوله: ﴿فلا تتبعوا﴾ أي تتكلفوا تبع ﴿الهوى﴾ وتنهمكوا فيه انهماك المجتهد في المحب له ﴿أن﴾ أي إرادة أن ﴿تعدلوا﴾ فقد بان لكم أنه لا عدل في ذلك.
ولما كان التقدير: فإن تتبعوه لذلك أو لغيره فإن الله كان عليكم قديراً، عطف عليه قوله: ﴿وإن تلوا﴾ أي ألسنتكم لتحرفوا الشهادة نوعاً من التحريف أو تديروا ألسنتكم أي تنطقوا بالشهادة باطلاً، وقرأ ابن عامر وحمزة بضم اللام - من الولاية أي تؤدوا الشهادة على وجه من العدل، أو الليّ ﴿أو تعرضوا﴾ أي عنها وهي حق فلا تؤدوها لأمر ما ﴿فإن الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿كان﴾ أي لم يزل ولا يزال ﴿بما تعملون خبيراً *﴾ أي بالغ العلم باطناً وظاهراً، فهو يجازيكم على ذلك بما تستحقونه، فاحذروه إن خنتم، وارجوه إن وفيتم، وذلك بعد ما مضى من تأديبهم على وجه الإشارة والإيماء من غير أمر، وما أنسبها لختام التي قبلها وأشد التئام الختامين: ختام هذه بصفة الخبر وتلك بصفتي السمع والبصر.
433
ولما أمر بالعدل على هذا الوجه أمر بالحامل على ذلك، وهو الإيمان بالشارع والمبلغ والكتاب الناهج لشرائعه المبين لسرائره الذي افتتح القصة بحقيته وبيان فائدته فقال: ﴿يا أيها الذين ءامنوا﴾ أي أقروا بالإيمان؛ ولما ناداهم بوصف الإيمان أمرهم بما لا يحصل إلا به فقال مفصلاً له: ﴿ءامنوا بالله﴾ أي لأنه أهل لذلك لذاته المستجمع لجميع صفات الكمال كلها.
ولما كان الإيمان بالله لا يصح إلا بالإيمان بالوسائط، وكان أقرب الوسائط إلى الإنسان الرسول قال: ﴿ورسوله﴾ أي لأنه المبلغ عنه سواء كان من الملك أو البشر ﴿والكتاب الذي نزل﴾ أي مفرقاً بحسب المصالح تدريجاً تثبيتاً وتفهيماً ﴿على رسوله﴾ أي لأنه المفصل لشريعتكم المتكفل بما تحتاجون إليه من الأحكام والمواعظ وجميع ما يصلحكم، وهو القرآن الواصل إليكم بواسطة أشرف الخلق ﴿والكتاب الذي أنزل﴾ أي أوجد إنزاله ومضى؛ ولما لم يكن إنزاله مستغرقاً للزمان الماضي بين المراد بقوله: ﴿من قبل﴾ من الإنجيل والزبور
434
والتوراة وغيرها لأن رسولكم بلغكم ذلك فلا يحصل الإيمان إلا بتصديقه في كل ما يقوله.
ولما كان المؤمن الذي الخطاب معه عالماً بأن التنزيل والإنزال لا يكون إلا من الله بنياً للمفعول في قراءة ابن كثير وأبي عمروا وابن عامر للعلم بالفاعل، وصرحت قراءة الباقين به.
ولما كان التقدير: فمن آمن بذلك فقد اهتدى وآمن قطعاً بالملائكة واليوم الآخر وغير ذلك من كل ما دعا إليه الكتاب والرسول، عطف عليه قوله: ﴿ومن يكفر﴾ أي يوجد الكفر ويجدده وقتاً من الأوقات ﴿بالله وملائكته وكتبه﴾ أي التي أنزلها على أنبيائه بواسطة ملائكته أو بغير واسطة ﴿ورسله﴾ أي من الملائكة والبشر، فكان الإيمان بالترقي للاحتياج إليه، وكان الكفر بالتدلي للاجتراء عليه.
ولما كان الإيمان بالبعث - وإن كان أظهر شيء - مما لا تستقل به العقول فلا تصل إليه إلا بالرسل، ذكره بعدهم فقال: ﴿واليوم الآخر﴾ أي الذي أخبرت به رسله، وقضت به العقول الصحيحة وإن كانت لا تستقل بإدراكه قبل تنبيه الرسل لها عليه، وهو روح الوجود وسره وقوامه وعماده، فيه تكشف الحقائق وتجمع الخلائق،
435
ويظهر شمول العلم وتمام القدرة ويبسط ظل العدل وتجتني ثمرات الفضل ﴿فقد ضل﴾ وأبلغ في التأكيد لكثرة المكذبين فقال: ﴿ضلالاً بعيداً *﴾ أي لا حيلة في رجوعه معه.
436
ولما كان المتمادي بعد نزول هذا الهدي موجداً للكفر مجدداً له، نبه على إغراقه في البعد بغضبه سبحانه وتعالى لتماديه معلماً أن الثبات على الكفر عظيم جداً، وصوّره بأقبح صورة، وفي ذلك ألطف استعطاف إلى النزوع عن الخلاف فقال: ﴿إن الذين ءامنوا﴾ أي بما كانوا مهيئين له من الإيمان بالفطرة الأولى ﴿ثم كفروا﴾ أي أوقعوا الكفر فعوَّجوا ما أقامه الله من فطرهم ﴿ثم ءامنوا﴾ أي حقيقة أو بالقوة بعد مجيء الرسول بما هيأهم له بإظهار الأدلة وإقامة الحجج ﴿ثم كفروا﴾ أي بذلك الرسول أو برسول آخر بتجديد الكفر أو التمادي فيه ﴿ثم ازدادوا﴾ أي بإصرارهم على الكفر إلى الموت ﴿كفراً لم يكن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿ليغفر لهم﴾ أي ما داموا على هذا الحال لأنه لا يغفر أن يشرك به ﴿ولا ليهديهم سبيلاً *﴾ أي من السبل الموصلة إلى المقصود.
ولما كانت جميع صور الآية منطبقة على النفاق، بعضها حقيقة
436
وبعضها مجازاً، قال جواباً لمن كأنه سأل عن جزائهم متهكماً بهم: ﴿بشر المنافقين﴾ فأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ﴿بأن لهم عذاباً أليماً *﴾ ثم وصفهم بما يدل على أنهم المساترون بالكفر بقوله تعالى: ﴿الذين يتخذون الكافرين﴾ أي المجاهرين بالكفر ﴿أولياء﴾ أي يتعززون بهم تنفيراً من مقاربة صفتهم ليتميز المخلص من المنافق، وبياناً لأن مرادهم بولايتهم إنما هو التعزز بهم فإن محط أمرهم على العرض الدنيوي، ونبه على دناءة أمرهم على أن الغريق في الإيمان أعلى الناس بقوله: ﴿من دون المؤمنين﴾ أي الغريقين في الإيمان، ثم أنكر عليهم هذا المراد بقوله: ﴿أيبتغون﴾ أي المنافقون يتطلبون، تطلباً عظيماً ﴿عندهم﴾ أي الكافرين ﴿العزة﴾ فكأنه قال: طلبهم العزة بهم سفه من الرأي وبُعد من الصواب، لأنه لا شيء من العزة عندهم.
ولما أنكر عليهم هذا الابتغاء علله بقوله: ﴿فإن العزة لله﴾ أي الذي لا كفوء له ﴿جميعاً *﴾ أي وهم أعداء الله فإنما يترقب لهم ضرب الذلة والمسكنة، وما أحسن التفات هذه الآية إلى أول الآيات المحذرة من أهل الكتاب ﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب﴾ [النساء: ٤٤] المختتمة بقوله: ﴿وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً﴾ [النساء: ٤٥] ﴿وقد﴾
437
أي يتخذونهم والحال أنه قد ﴿نزل عليكم﴾ أي أيتها الأمة، الصادقين منكم والمنافقين ﴿في الكتاب﴾ أي في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم، أفلا تخافون عزة من نهاكم عن ذلك أن يضربكم بذل لا تخلصون منه أبداً، لأنهم لا ينفكون عن الكفر بآيات الله فإنه لا تباح ولايتهم في حال من الأحوال إلا عند الإعراض عن الكفر، وذلك هو المراد من قوله: ﴿أنْ﴾ أي إنه ﴿إذا سمعتم آيات الله﴾ أي ذي الجلال والإكرام.
ولما كان السماع مجملاً بين المراد بقول: ﴿يكفر بها﴾ أي يستر ما أظهرت من الأدلة من أي كافر كان من اليهود وغيرهم ﴿ويستهزأ بها﴾ أي يطلب طلباً شديداً أن تكون مما يهزأ به ﴿فلا تقعدوا معهم﴾ أي الذين يفعلون ذلك بها ﴿حتى يخوضوا﴾ وعبر عن الشروع بالخوض إيماء إلى أن كلامهم لا يخلو عن شيء في غير موضعه، رمزاً إلى عدم مجالستهم على كل حال ﴿في حديث غيره﴾ فهذا نهي من مجرد مجالستهم فكيف بولايتهم.
ولما كانت آية الأنعام مكية اقتصر فيها على مجرد الإعراض وقطع المجالسة لعدم التمكن من الإنكار بغير القلب، وأما هذه الآية فمدنية فالتغيير عند إنزالها باللسان واليد ممكن لكل مسلم، فالمجالس من
438
غير نكير راض، فلهذا علل بقوله: ﴿إنكم إذاً﴾ أي إذا قعدتم معهم وهم يفعلون ذلك ﴿مثلهم﴾ أي في الكفر لأن مجالسة المظهر للإيماء المصرح بالكفران دالة على أن إظهاره لما أظهر نفاق، وأنه راض بما يصرح به هذا الكافر والرضى بالكفر كفر، فاشتد حسن ختم الآية بجمع الفريقين في جهنم بقوله مستأنفاً لجواب السؤال عما تكون به المماثلة: ﴿إن الله﴾ أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته ﴿جامع﴾.
ولما كان حال الأخفى أهم قدم قوله: ﴿المنافقين﴾ أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر فيقعدون مع من يسمعونه بكفر ﴿والكافرين﴾ أي الذين يجاهرون بكفرهم لرسوخهم فيه ﴿في جهنم﴾ التي هي سجن الملك ﴿جميعاً﴾ كما جمعهم معهم مجلس الكفر الذي هو طعن في ملك الملك، والتسوية بينهم في الكفر بالقعود معهم دالة على التسوية بين العاصي ومجالسه بالخلطة من غير إنكار؛ ثم وصفهم سبحانه وتعالى بما يعرف بهم فقال: ﴿الذين يتربصون بكم﴾ أي يثبتون على حالهم انتظاراً لوقوع ما يغيظكم ﴿فإن كان لكم فتح﴾ أي ظهور وعز وظفر، وقال: ﴿من الله﴾ أي الذي له العظمة كلها - تذكيراً للمؤمنين بما يديم اعتمادهم عليه وافتقارهم إليه ﴿قالوا﴾ أي الذين آمنوا نفاقاً لكم أيها المؤمنون ﴿ألم نكن معكم﴾ أي ظاهراً بأبداننا بما تسمعون من
439
أقوالنا فأشركونا في فتحكم ﴿وإن كان للكافرين﴾ أي المجاهرين، وقال: ﴿نصيب﴾ تحقيراً لظفرهم وأنه لا يضر بما حصل للمؤمنين من الفتح ﴿قالوا﴾ للكافرين ليشركوهم في نصيبهم ﴿ألم نستحوذ عليكم﴾ أي نطلب حياطتكم والمحافظة على مودتكم حتى غلبنا على جميع أسراركم واستولينا عليها، وخالطناكم مخالطة الدم للبدن، من قولهم: حاذه، أي حاطه وحافظ عليه ﴿ونمنعكم من المؤمنين﴾ أي من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به، ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرغبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد، لتصديقهم لنا لأظهارنا الإيمان، ورضانا من مداهنة من نكره بما لا يرضاه إنسان.
ولما كان هذا لأهل الله سبحانه وتعالى أمراً غائظاً مقلقاً موجعاً؛ سبب عنه قوله: ﴿فالله﴾ أي بما له من جميع صفات العظمة ﴿يحكم بينكم﴾ أي أيها المؤمنون والكافرون المساترون والمجاهرون.
ولما كان الحكم في الدارين بين أنه في الدار التي لا يظهر فيها لأحد غيره أمر ظاهراً ولا باطناً، وتظهر فيها جميع المخبئات فقال: ﴿يوم القيامة﴾ ولما كان هذا ربما أيأسهم من الدنيا قال: ﴿ولن يجعل الله﴾ عبر بأداة التأكيد وبالاسم الأعظم لاستبعاد الغلبة
440
على الكفرة لما لهم في ذلك الزمان من القوة والكثرة ﴿للكافرين﴾ أي سواء كانوا مساترين أو مجاهرين ﴿على المؤمنين﴾ أي كلهم ﴿سبيلاً *﴾ أي بوجه في دنيا ولا آخرة، وهذا تسفيه لآرائهم واستخفاف بعقولهم فكأنه يقول: يا أيها المتربصون بأحباب الله الدوائر، المتمنون لأعدائه النصر - وقد قامت الأدلة على أن العزة جميعاً لله -! ما أضلكم في ظنكم أنه يخذل أولياءه! وما أغلظ أكبادكم! ويدخل في عمومها أنه لا يقتل مسلم بذمي، ولا يملك كافر مال مسلم قهراً؛ ثم بين أن صورتهم في ضربهم الشقة بالوجهين صورة المخادع، وما أضلهم حيث خادعوا من لا يجوز عليه الخداع لعلمه بالخافيا، فقال معاللاً لمنعهم السبيل.
441
﴿إن المنافقين﴾ لإظهارهم لكل من غلب أنهم منه ﴿يخادعون الله﴾ أي يفعلون بإظهار ما يسر وإبطان ما يضر فعل المخادع مع من له الإحاطة الكاملة بكل شيء لأنه سبحانه وتعالى يستدرجهم من حيث لا يشعرون، وهم يخدعون المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر ﴿وهو﴾ الذي أمر المؤمنين بما أمرهم فكأنهم يفعلون ذلك معه وهو ﴿خادعهم﴾ باستدراجهم من حيث لا يعلمون، لأنه قادر على أخذهم من مأمنهم وهم ليسوا قادرين على خدعه بوجه ﴿وإذا﴾ أي يخادعونه والحال أنهم قد فضحوا أنفسهم بما أظهر مكرهم للمستبصرين وهو أنهم إذا ﴿قاموا إلى الصلاة﴾ أي المكتوبة ﴿قاموا كسالى﴾
441
متقاعسين متثاقلين عادة، لا ينفكون عنها، بحيث يعرف ذلك منهم كل من تأملهم، لأنهم يرون أناه تعب من غير أرب، فالداعي إلى تركها - وهو الراحة - أقوى من الداعي إلى فعلها وهو خوف الناس؛ ثم استأن في جواب من كأنه قال: ما لهم يفعلون ذلك؟ فقال: ﴿يرآءون الناس﴾ أي يفعلون ذلك ليراهم الناس، ليس إلا ليظنوهم مؤمنين، ويريهم الناس لأجل ذلك ما يسرهم من عدهم في عداد المؤمنين لما يرون هم المؤمنين حين يصلون ﴿ولا يذكرون الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال في الصلاة وغيرها ﴿إلا قليلاً *﴾ أي حيث يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم، يفعلون ذلك حال كونهم ﴿مذبذبين﴾ أي مضطربين كما يضطرب الشيء الخفيف المعلق في الهواء، وحقيقة: الذي يذب عن كلا الجانبين ذباً عظيماً.
ولما كان ما تقدم يدل على إيمانهم تارة وكفرهم أخرى قال: ﴿بين ذلك﴾ أي الإيمان والكفر؛ ولما كان الإيمان يدل على أهله والكفر كذلك قال: ﴿لا إلى﴾ أي لا يجدون سبيلاً مفر إلى ﴿هؤلاء﴾ أي المؤمنين ﴿ولا إلى هؤلاء﴾ أي الكافرين؛ ولما كان التقدير! لأن الله أضلهم، بنى عليه قوله: ﴿ومن يضلل الله﴾ أي
442
الشامل القدرة الكامل العلم ﴿فلن تجد﴾ أي أصلاً ﴿له سبيلاً *﴾ أي طريقاً إلى شيء يريده.
ولما انقضى ما أراد من الإنكار على من ادعى الإيمان في اتخاذ الكافرين أولياء، المستلزم للنهي عن ذلك الاتخاذ، صرح به مخاطباً للمؤمنين فقال: ﴿يا أيها الذين ءامنوا﴾ أي أقروا بالإيمان بألسنتهم صدقاً أو كذباً ﴿لا تتخذوا﴾ أي تكلفوا أنفسكم غير ما تدعوا إليه الفطرة الأولى السليمة فتأخذوا ﴿الكافرين﴾ أي المجاهرين بالكفر الغريقين فيه ﴿أولياء﴾ أي أقرباء، تفعلون معهم من الود والنصرة ما يفعل القريب مع قريبه.
ولما كان الغريق في الإيمان أعلى الناس، وكان تحت رتبته رتب متكاثره، نبه على ذلك وعلى دناءة مقصدهم بالجار فقال: ﴿من دون المؤمنين﴾ أي الغريقين في الإيمان، وهذا إشارة إلى أنه لا يصح لمن يواليهم دعوى الإيمان، ولذلك قال منكراً: ﴿أتريدون﴾ أي بموالاتهم ﴿أن تجعلوا لله﴾ أي الذي لا تطاق سطوته لأن له الكمال كله ﴿عليكم﴾ أي في النسبة إلى النفاق ﴿سلطاناً﴾ أي دليلاً اضحاً على كفركم باتباعكم غير سبيل المؤمنين ﴿مبيناً *﴾ واضحاً مسوِّغاً لعقابكم وخزيكم
443
وجعلكم في زمرة المنافقين.
444
ولما نهاهم عن فعل المنافقين استأنف بيان جزائهم عنده فقال: ﴿إن المنافقين في الدرك﴾ أي البطن والمنزل ﴿الأسفل من النار﴾ لأن ذلك أخفى ما في النار وأستره وأدناه وأوضعه كما أن كفرهم أخفى الكفر وأدناه، وهو أيضاً أخبث طبقات النار كما أن كفرهم أخبث أنواع الكفر، وفيه أن من السلطان وضع فاعل ذلك في دار المنافقين لفعله مثل فعلهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وسميت طبقات النار أدراكاً لأناه متداركة متتابعة إلى أسفل كما أن الدرج متراقية إلى فوق.
ولما أخبر أنهم من هذا المحل الضنك، أخبر بدوامه لهم على وجه مؤلم جداً فقال: ﴿ولن تجد﴾ أي أبداً ﴿لهم نصيراً *﴾ وأشار بالنهي عن موالاتهم وعدم نصرهم إلى ختام أول الآيات المحذرة من الكافرين ﴿وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً﴾ [النساء: ٤٥].
ولما كان فيما تقدم أن الغفران للكافر - أعم من أن يكون منافقاً أولاً - متعذر، وأتبعه ما لاءمه إلى أن ختم بما دل على أن النفاق أغلظ أنواع الكفر استثنى منه دلالة على أن غيره من الكفرة في هذا الاستثناء أولى، تنبيهاً على أن ذلك النفي المبالغ فيه إنما هو لمن
444
مات على ذلك، ولكنه سيق على ذلك الوجه تهويلاً لما ذكره في حيزه وتنفيراً منه فقال تعالى: ﴿إلا الذين تابوا﴾ أي رجعوا عما كانوا عليه من النفاق بالندم والإقلاع ﴿وأصلحوا﴾ أي أعمالهم الظاهرة من الصلاة التي كانوا يراؤون فيها وغيرها بالإقلاع عن النفاق ﴿واعتصموا بالله﴾ أي اجتهدوا في أن تكون عصمتهم - أي ارتباطهم - بالملك الأعظم في عدم العود إلى ما كانوا عليه.
ولما كان الإقلاع عن النفاق الذي من أنواعه الرياء - أصلاً ورأساً في غاية العسر قال حثاً على مجاهدة النفس فيه: ﴿وأخلصوا دينهم﴾ أي كله ﴿لله﴾ أي الذي له الكمال كله، فلم يريدوا بشيء من عبادتهم غير وجهه لا رياء ولا غيره ﴿فأولئك﴾ أي العالو الرتبة ﴿مع المؤمنين﴾ أي الذي صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً في الجنة، وإن عذبوا على معاصيهم ففي الطبقة العليا من النار ﴿وسوف يؤت الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿المؤمنين﴾ أي بوعد لا خلف فيه وإن أصابهم قبل ذلك ما أصابهم وإن طال عذابهم، تهذيباً لهم من المعاصي بما أشار إليه لفظ «سوف» ﴿أجراً عظيماً *﴾ أي بالخلود في الجنة التي لا ينقضي نعيمها، ولا يتكدر يوماً نزيلها، فيشاركهم من كان معهم، لأنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
445
ولما كان معنى الاستثناء أنه لا يعذبهم، وأنهم يجدون الشفيع بإذنه؛ قال مؤكداً لذلك على وجه الاستنتاج منكراً على من ظن أنه لا يقبلهم بعد الإغراق في المهالك: ﴿ما يفعل الله﴾ أي وهو المتصف بصفات الكمال التي منها الغنى المطلق ﴿بعذابكم﴾ أي أيها الناس، فإنه لا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضراً.
ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا قال: ﴿إن شكرتم﴾ أي نعمه التي من أعظمها إنزال الكتاب الهادي إلى الرشاد، المنقذ من كل ضلال، المبين لجميع ما يحتاج إليه العباد، فأداكم التفكر في حالها إلى معرفة مسديها، فأذعنتم له وهرعتم إلى طاعته بالإخلاص في عبادته وأبعدتم عن معصيته.
ولما كان الشكر هو الحامل على الإيمان قدمه عليه، ولما كان لا يقبل إلا به قال: ﴿وآمنتم﴾ أي به إيماناً خالصاً موافقاً فيه القلب ما أظهره اللسان؛ ولما كان معنى الإنكار أنه لا يعذبكم، بل يشكر ذلك قال عاطفاً عليه: ﴿وكان الله﴾ أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً ﴿شاكراً﴾ لمن شكره بإثابته على طاعته فوق ما يستحقه ﴿عليماً *﴾ بمن عمل له شيئاً وإن دق، لا يجوز عليه سهو ولا غلط ولا اشتباه.
446
ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من تقبيح حال المجالسين الخائضين في آياته بما هي منزهة عنه، ومما يتبعه من وصفهم وبيان قصدهم
446
بتلك المجالسة من النهي عن مثل حالهم، ومن جزاء من فعل مثل فعلهم - إلى أن ختم بأشد عذاب المنافقين، وحث على التوبة بما ختمه بصفتي الشكر والعلم؛ أخبر أنه يبغض خوض الكافرين الذين قبح مجالستهم حال التلبس به، وكذا كل جهر بسوء إلا ما استثناه، فمن أقدم على ما لا يحبه لم يقم بحق عبوديته، فقال معللاً ما مضى قبل افتتاح أمر المنافقين من الأمر بإحسانه التحية: ﴿لا يحب الله﴾ أي المختص بصفات الكمال ﴿الجهر﴾ أي ما يظهر فيصير في عداد الجهر ﴿بالسوء﴾ أي الذي يسوء ويؤذي ﴿من القول﴾ أي لأحد كائناً من كان، فإن ذلك ليس من شكر الله تعالى في الإحسان إلى عباده وعياله ولا من شكر الناس في شيء ولا يشكر الله من لا يشكر الناس ﴿إلا من﴾ أي جهر من ﴿ظلم﴾ أي كان من أحد من الناس ظلم إليه كائناً من كان فإنه يجوز له الجهر بشكواه والتظلم منه والدعاء عليه وإن ساءه ذلك بحيث لا يعتدي.
ولما كان القول مما يسمع، وكان من الظلم ما قد يخفي، قال مرغباً مرهباً: ﴿وكان الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة ﴿سمعياً﴾ أي لكل ما يمكن سماعه من جهر وغيره ﴿عليماً *﴾ أي بكل ما يمكن أن يعلم
447
فاحذروه لئلا يفعل بكم فعل الساخط، وجهر ومن ظلم - وإن كان داخلاً فيما يحبه الله تعالى على تقدير كون الاستثناء متصلاً - لكن جعله من جملة السوء وإن كان من باب المشاكلة فإن فيه لطيفة، وهي نهي الفطن عن تعاطيه وحثه على العفو، لأن من علم أن فعله بحيث ينطلق اسم السوء - على أي وجه كان إطلاقه - كف عنه إن كان موفقاً.
ولما كانت معاقد الخيرات على كثرتها منحصرة في قسمين: إيصال النفع إبداء وإخفاء، ودفع الضرر، فكان قد أشار سبحانه وتعالى إلى العفو، وختم بصفتي السمع والعلم؛ قال مصرحاً بالندب إلى العفو والإحسان، فكان نادباً إليه مرتين: الأولى بطريق الإشارة لأولى البصارة، والثانية بطريق العبارة للراغبين في التجارة، حثاً على الأحب إليه سبحانه والأفضل عنده والأدخل في باب الكرم: ﴿إن تبدوا خيراً﴾ أي من قول أو غيره ﴿أو تخفوه﴾ أي تفعلوه خفية ابتداء أو في مقابلة سوء فعل إليكم؛ ولما ذكر فعل الخير أتبعه نوعاً منه هو أفضله فقال: ﴿أو تعفوا عن سوء﴾ أي فعل بكم.
ولما كان التقدير: يعلمه بما له من صفتي السمع والعلم فيجازي عليه بخير أفضل منه وعفو أعظم من عفوكم؛ سبب عنه قوله: ﴿فإن﴾
448
أي فأنتم جديرون بالعفو بسبب علمكم بأن ﴿الله كان﴾ أي دائماً أزلاً وأبداً ﴿عفواً﴾ ولما كان ترك العقاب لا يسمى عفواً إلا إذا كان من قادر وكان الكف - عند القدرة عن الانتقام، ممن أثر في القلوب الآثار العظام - بعيداً، شاقاً على النفس شديداً؛ قال تعالى مذكراً للعباد بذنوبهم إليه وقدرته عليهم: ﴿قديراً *﴾ أي بالغ العفو عن كل ما يريد العفو عنه من أفعال الجانين والقدرة على كل ما يريد ومن يريد، فالذي لا ينفك عن ذنب وعجز أولى بالعفو طمعاً في عفو القادر عنه وخوفاً من انتقامه منه وتخلقاً بخلقه العظيم والاقتداء بسنته.
ولما انقضى ذلك على أتم وجه وأحسن سياق ونحو، وختم بصفتي العفو والقدرة؛ شرع في بيان أحوال من لا يعفى عنه من أهل الكتاب، وبيان أنهم هم الذين أضلوا المنافقين بما يلقون إليهم من الشبه التي وسَّعَ عقولهم لها ما أنعم به عليهم سبحانه وتعالى من العلم، فأبدوا الشر وكتموا الخير، فوضعوا نعمته حيث يكره، ثم كشف سبحانه وتعالى بعض شبههم، فقال مبيناً لما افتتح به قصصهم من أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، ويريدون ضلال غيرهم، بعد أن كان ختم هناك
449
ما قبل قصصهم بقوله عفواً قديراً: ﴿إن الذين يكفرون﴾ أي يسترون ما عندهم من العلم ﴿بالله﴾ أي الذي له الاختصاص بالجلال والجمال ﴿ورسله﴾.
ولما ذكر آخر أمرهم ذكر السبب الموقع فيه فقال: ﴿ويريدون أن يفرقوا بين الله﴾ أي الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه ﴿ورسله﴾ أي فيصدقون بالله ويكذبون ببعض الرسل فينفون رسالاتهم، المستلزم لنسبتهم إلى الكذب على الله المقتضي لكون الله سبحانه وتعالى بريئاً منهم.
ولما ذكر الإرادة ذكر ما نشأ عنها فقال: ﴿ويقولون نؤمن ببعض﴾ أي من الله ورسله كاليهود الذين آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام وغيره إلا عيسى ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكفروا بهما ﴿ونكفر ببعض﴾ أي من ذلك وهم الرسل كمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿ويريدون أن يتخذوا﴾ أي يتكلفوا أن يأخذوا ﴿بين ذلك﴾ أي الإيمان والكفر ﴿سبيلاً *﴾ أي طريقاً يكفرون به، وعطف الجمل بالواو - وإن كان بعضها سبباً لبعض - إشارة إلى أنهم جديرون بالوصف بكل منها على انفراده، وأن كل خصلة كافية في نسبة الكفر إليهم، وقدم نتيجتها،
450
وختم بالحكم بها على وجه أضخم، تفظيعاً لحالهم، وأصل الكلام: أرادوا سبيلاً بين سبيلين، فقالوا: نكفر ببعض، فأرادوا التفرقة، فكفروا كفراً هو في غاية الشناعة على علم منهم، فأنتج ذلك: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿هم الكافرون﴾ أي الغريقون في الكفر ﴿حقاً﴾ ولزمهم الكفر بالجميع لأن الدليل على نبوة البعض لزم منه القطع بنبوة كل من حصل منه مثل ذلك الدليل، وحيث جوز حصول الدليل بدون المدلول تعذر الاستدلال به على شيء كالمعجزة، فلزم حينئذ الكفر بالجميع، فثبت أن من كذب بنبوة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لزمه الكفر بجميع الأنبياء، ومن لزمه الكفر بهم لزمه الكفر بالله وكل ما جاء به.
ولما كان التقدير: فلا جرم أنا أعتدنا - أي هيأنا - لهم عذاباً مهيناً، عطف عليه تعميماً: ﴿وأعتدنا للكافرين﴾ أي جميعاً ﴿عذاباً مهيناً *﴾ أي كما استهانوا ببعض الرسل وهم الجديرون بالحب والكرامة، والآية شاملة لهم ولغيرهم ممن كان حاله كحالهم، وإيلاء ذلك بيان أحوال المنافقين أنسب شيء وأحسنه للتعريف بأنهم منافقون، من حيث أنهم يظهرون شيئاً من أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبطنون غيره وإن كان ما يظهرونه على الضد مما يظهره المنافقون، وبأنهم هم الذين أضلوا
451
المنافقين، وللتحذير من أقوالهم وتزييف ما حرفوا من محالهم، وفي ذلك التفات إلى أول هذه القصة ﴿يا أيها الذين ءامنوا ءامِنوا بالله ورسوله﴾ [النساء: ١٣٦].
452
ولما بين سبحانه وتعالى ما أعد لهم بيّن ما أعد لأضدادهم من أهل طاعته بقوله: ﴿والذين ءامنوا بالله﴾ أي الذي له الكمال والجمال ﴿ورسله﴾ ولما جمعوهم في الإيمان ضد ما فعل أهل الكفران، صرح بما أفهمه فقال: ﴿ولم يفرقوا﴾ أي في اعتقادهم ﴿بين أحد منهم﴾ أي لم يجعلوا أحداً منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه بأن كفروا ببعض وآمنوا ببعض - كما فعل الأشقياء، والتفرقة تقتضي شيئين فصاعداً، و «أحد» عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، فلذلك صح التعبير به بمعنى: بين اثنين أو جماعة، وكأنه اختير للمبالغة بأن لو أن الواحد يمكن فيه التفرقة فكان الإيمان بالبعض دون البعض كفراً ﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة في رتب السعادة.
ولما كان المراد تأكيد وعدهم، وكان المشاهد فيه غالباً التأخر قال: ﴿سوف نؤتيهم﴾ أي بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه وإن تأخر، فالمراد تحقيقه، لا تحقيق تأخره، ولكنه أتى بالأداة التي هي أكثر حروفاً وأشد تنفيساً، لأن هذا السياق لأهل الإيمان المجرد، الشامل
452
لمن لم يكن له عمل، ولذا أضاف الأجور إليهم، وختم بالمغفرة لئلا يحصل لهم بأس وإن طال المدى ﴿أجورهم﴾ أي كاملة بحسب نياتهم وأعمالهم.
ولما كان الإنسان محل النقصان قال: ﴿وكان الله﴾ أي الذي لا يبلغ الواصفون كنه ما له من صفات الكمال ﴿غفوراً﴾ لما يريد من الزلات ﴿رحيماً *﴾ أي بمن يريد إسعادة بالجنات.
ولما أخبر تعالى بما على المفرقين بين الله ورسله وما لأضدادهم أتبعه بعض ما أرادوا به الفرقة، وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا من اليهود قالا كذباً: إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء نعاينه حين ينزل - كما أتى موسى عليه الصلاة والسلام بكتابه كذلك، فأنزل الله تعالى موبخاً لهم على هذا الكذب مشيراً إلى كذبهم فيه موهياً لسؤالهم محذراً من غوائله مبيناً لكفرهم بالله ورسله: ﴿يسألك﴾.
ولما كانت هذه من أعظم شبههم التي أضلوا بها من أراد الله، وذلك أنهم رأوا أن هذا الكتاب المبين أعظم المعجزات، وأن العرب لم يمكنهم الطعن فيه على وجه يمكن قبوله، فوجهوا مكايدهم نحوه
453
بهذه الشبهة ونحوها، زيفها سبحانه وتعالى أتم تزييف، وفضحهم بسببها غاية الفضيحة، وزاد سبحانه في تبكيتهم بقوله: ﴿أهل الكتاب﴾ إشارة إلى أن العالم ينبغي له أن يكون أبعد الناس من التمويه فضلاً عن الكذب الصريح ﴿أن تنزل عليهم﴾ أي خاصاً بهم بإثبات أسمائهم ﴿كتاباً من السماء﴾ ؛ وما أوهموا به في قولهم هذا من أن موسى عليه الصلاة والسلام أتى بالتوراة جملة كذبة تلقفها منهم من أراد الله تعالى من أهل الإسلام، ظناً منهم أن الله تبارك وتعالى أقرهم عليها وليس كذلك - كما يفهمه السياق كله، ويأتي ما هو كالصريح فيه في قوله: ﴿إنا أوحينا إليك﴾ - الآية كما سيأتي بيانه، واليهود الآن معترفون بأنها لم تنزل جملة، وقال الكلبي في قصة البقرة التي ذبحوها لأجل القتيل الذي تداروا فيه: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة.
ولما كان هذا مما يستعظمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشار إلى ذلك مبيناً تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عادتهم التعنت، وديدنهم الكفر وأنهم أغرق الناس في غلظ الأكباد وجلافة الطبائع، وأن أوائلهم تعنتوا على من يدعون الإيمان به الآن، وأنهم على شريعته، وأحب شيء فيه ما أراهم من تلك الآيات العظام التي منها استنقاذهم من العبودية بل من الذبح وأن ذلك تكرر منهم مع ما يشاهدونه من القوارع والعفو
454
فقال: ﴿فقد﴾ أي إن تستعظم ذلك فقد ﴿سألوا﴾ أي آباؤهم، أي وهم على نهجهم في التعنت فهم شركاؤهم ﴿موسى﴾ لغير داع سوى التعنت ﴿أكبر﴾ أي أعظم ﴿من ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي واجهوك به بعد ما ظهرت من المعجزات ما أوجبنا على كل من علمها الإيمان بك والتأديب معك، ثم بينه بقوله: ﴿فقالوا أرنا الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا شبيه له وتقصر العقول عن الإحاطة بعظمته ﴿جهرة﴾ أي عياناً من غير ستر ولا حجاب ولا نوع من خفاء بل تحيط به أبصارنا كما يحيط السمع بالقول الجهر، وهذا يدل على أن كلاً من السؤالين ممنوع لكونه ظلماً، لأدائه إلى الاستخفاف بما نقدمه من المعجزات، وعده غير كاف مع أن إنزا الكتاب جملة غير مناسب للحكمة التي بنيت عليها هذه الدار من ربط المسببات بالأسباب وبنائها عليها، لأن من المعلوم أن تفريق الأوامر سبب لخفة حملها، وذلك أدعى لامتثالها وايسر لحفظها وأعون على فهمها، وأعظم تثبيتاً للمنزل عليه وأشرح لصدره وأقوى لقلبه وأبعث لشوقه، والرؤية على هذا الوجه الذي طلبوه - وهو الإحاطة - محال فسؤالهم لذلك استخفاف مع أنه تعنت، ولذلك سبب عن سؤالهم قوله: ﴿فأخذتهم﴾ أي عقب هذا السؤال وبسببه من غير إمهال أخذ قهر وغلبة ﴿الصاعقة﴾ أي نار نزلت من
455
السماء بصوت عظيم هو جدير بأن لا يسمى غيره - إذا نسب إليه - صاعقة، فأهلكتهم ﴿بظلمهم﴾ أي بسبب ظلمهم بهذا السؤال وغيره، لكونه تعنتاً من غير مقتض له أصلاً، وبطلب الرؤية على وجه محال وهو طلب الإحاطة ﴿ثم﴾ بعد العفو عنهم وإحيائهم من إماتة هذه الصاعقة ﴿اتخذوا العجل﴾ أي تكلفوا أخذه وعتوا أنفسهم باصطناعه.
ولما كان الضال بعد فرط البيان أجدر بالتبكيت قال: ﴿من بعد﴾ وأدخل الجار إعلاماً بأن اتخاذهم لم يستغرق زمان البعد، بل تابوا عنه ﴿ما جاءتهم البينات﴾ أي بهذا الإحياء وغيره من المعجزات ﴿فعفونا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿عن ذلك﴾ أي الذنب العظيم بتوبتنا عليهم من غير استئصال لهم ﴿وآتينا﴾ أي بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة ﴿موسى سلطاناً﴾ أي تسلطاًَ واستيلاء قاهراً ﴿مبيناً *﴾ أي ظاهراً فإنه أمرهم بقتل أنفسهم فبادروا الامتثال بعد ما ارتكبوا من عظيم هذا الضلال، وفي رمز ظاهر إلى أنه سبحانه وتعالى يسلط محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كل من يعانده أعظم من هذا التسليط.
456
ولما بيَّن هذا من عظمته أتبعه أمراً آخر أعظم منه فقال: ﴿ورفعنا﴾ أي بعظمتنا؛ ولما كان قد ملأ جهة الفوق بأن وارى جميع أبدانهم ولم يسلم أحد منهم من ذلك؛ نزع الجار فقال: ﴿فوقهم الطور﴾ أي الجبل العظيم، ثم ذكر سبب رفعه فقال: ﴿بميثاقهم﴾
456
أي حتى التزموه وأذعنوا له وقبلوه.
ولما ذكر الميثاق على هذا الوجه العجيب أتبعه ما نقضوا فيه على سهولته دليلاً على سوء طباعهم فقال: ﴿وقلنا لهم﴾ أي بما تكرر لهم من رؤية عظمتنا ﴿ادخلوا الباب﴾ أي الذي لبيت المقدس ﴿سجداً﴾ أي فنقضوا ذلك العهد الوثيق وبدلوا ﴿وقلنا لهم﴾ أي على لسان موسى عليه الصلاة والسلام في كثير من التوراة ﴿لا تعدوا﴾ أي لا تتجاوزوا ما حددناه لكم ﴿في السبت﴾ أي لا تعملوا فيه عملاً من الأعمال - تسمية للشيء باسم سببه سمي عدواً لأن العالم للشيء يكون لشدة إقباله عليه كأنه يعدو ﴿وأخذنا منهم﴾ أي في جميع ذلك ﴿ميثاقاً غليظاً *﴾ وإنما جزمت بأن المراد بهذا - والله تعالى أعلم - على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، لأنه تعالى كرر التأكيد عليهم في التوراة في حفظ السبت، وأوصاهم به، وعهد إليهم فيه ما قل أن عهده في شيء من الفروع غيره، قال بعض المترجمين للتوراة في السفر الثاني في العشر الآيات التي أولها «أنا إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا يكون لك إله غيري» ما
457
نصه: اذكر حفظ يوم السبت وطهره ستة أيام، كد فيها واصنع جميع ما ينبغي لك أن تصنعه، واليوم السابع سبت الله ربك، لا تعملن فيه شيئاً من الأعمال أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك ودوابك والساكن في قراك، لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام والبحور وجميع ما فيها، واستراح في اليوم السابع، ولذلك بارك الله اليوم السابع وقدسه، أكرم أباك - إلى آخر ما مر في سورة البقرة؛ ثم عاد العشر الآيات في أوائل السفر الخامس وقال في السبت: احفظوا يوم السبت وظهوره كما أمركم الله ربكم، واعملوا الأعمال في ستة أيام كما أمركم الله ربكم، واعملوا الأعمال في ستة أيام، فاصنعوا ما أردتم أن تصنعوا فيها، فأما يوم السبت فأسبوع ربكم، لا تعملوا فيه عملاً أنتم وبنوكم وعبيدكم وإماؤكم وثيرانكم وحميركم وكل بهائمكم والساكن الذي في قراكم ليستريح عبيدكم - إلى آخر ما في أوائل هذه السورة عند ﴿ويهديكم سنن الذين من قبلكم﴾ وقال في الثاني بعد ذلك: وقال الرب لموسى: وأنت فأمر بني إسرائيل أن تحفظوا السبوت، لأنها أمارة العهد وعلامة فيما بيني وبينكم لأحقابكم، فتعلموا أني أنا الرب إلهكم مقدسكم، احفظوا يوم السبت
458
فإنه مطهر مخصوص لكم، ومن نقصه وأخذ العمل فيه فليقتل، ومن عمل عملاً فليهلك ذلك الإنسان من شعبه، اعملوا أعمالكم ستة أيام، واليوم السابع فهو يوم سبت قدس للرب، لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام والبحور وما فيها، وهذا في اليوم السابع ودفع إلى موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ كلامه له في طور سيناء لوحي الشهادة، وأبلغ في تأكيد حفظه عليهم في غير ذلك من المواضع، حتى أنه شرع لهم أسباب الأرض ونحوها، فقال في السفر الثاني أيضاً: ازرع أرضك ست سنين واحمل أثقالها وفي السنة السابعة ابذرها ودعها فيأكل مسكين شعبك، وما يبقى بعد ذلك يأكله حيوان البر وكذلك فافعل بكرومك وزيتونك، اعمل عملك في ستة أيام وفي اليوم السابع تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك، وتستريح أمتك وابن أمتك والساكن في قراك، ثم ذكر الأعياد في السفر الثالث، وحرم العمل فيها؛ وقال في بعضها: وكل نفس يعمل عملاً في هذا اليوم تهلك تلك النفس من شعبها، فلا تعملوا فيه عملاً، لأنه سنة جارية لكم إلى الأبد في جميع مساكنكم، فليكن هذا اليوم سبت السبوت؛ ثم أمرهم بعيد المظال سبعة أيام وقال: ليعلم أحقابكم أنني
459
أجلست بني إسرائيل في المظال حيث أخرجتهم من أرض مصر، ثم ذكر بعض القرابين وقال: ويصف هارون الخبز صفين في اليوم السادس وهو يوم الجمعة، ويكون ذلك من عيد بني إسرائيل؛ وكلم الرب موسى وقال له في طور سيناء كلم بني إسرائيل وقل لهم: إذا دخلتم الأرض التي أعطيكم ميراثاً تسبت الأرض سبتاً للرب، ازرعوا مزارعكم ست سنين واكسحوا كرومكم ست سنين، واستغلوا غلاتكم ست سنين، فأما السنة السابعة فلتكن سبت الراحة للأرض، لا تزرعوا مزارعكم، ولا تكسحوا كرومكم، ول تحصدوا ما ينبت في أرضكم في تلك السنة من غير أن يزرع، ولا تقطعوا عنب كرومكم، بل يكون سبت الراحة للأرض لكم ولبنيكم ولإمائكم ولإخوانكم وللسكان الذين يسكنون معكم، وأحصوا سبع مرات سبعاً سبعاً: تسعاً وأربعين سنة، وقدسوا سنة خمسين، وليكن رد الأشياء إلى أربابها، ولا تزرعوا أرضكم في تلك السنة، ولا تحصدوا ما نبت فيها، ولا تقطعوا عشبها لأنها سنة الرد، واتقوا الله لأني أنا الله ربكم، احفظوا وصاياي واعملوا بها، واحفظوا أحكامي واعملوا بها، واسكنوا أرضكم بالسكون والطمأنينة لتغل لكم الأرض غلاتها، وتأكلوا وتشبعوا وتسكنوها مطمئنين، وإن قلتم: من أين نأكل في السنة السابعة التي لا نزرع فيها
460
فلا تهتموا! أنا منزل لكم بركاتي في السادسة، وتغل لكم أرضكم في تلك السنة غلة ثلاث سنين، حتى إذا زرعتم في السنة الثامنة لم تحتاجوا إلى غلتها، لأنكم تأكلون من السنة السادسة إلى التاسعة، وأما الأرض فلا تباع بيعاً صحيحاً أبداً، لن الأرض لي، وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا نسبة الاستراحة إليه سبحانه هذا مع أنه أكد سبحانه العهود عليهم في التوحيد وحفظ الأحكام في جميع التوراة على نحو ما تراه فيما أنقله منها في هذا الكتاب.
فلما بين سبحانه أنه أكد عليهم الميثاق، وأكثر من التقدم في حفظ العهد؛ بين أنهم نقضوا، فأقبهم بسبب ذلك ما هددوا به في التوراة من الخزي وضرب الذلة مع ما ادخر لهم في الآخرة فقال: ﴿فبما﴾ مؤكداً بإدخال «ما» ﴿نقضهم ميثاقهم﴾ أي فعلنا بهم بسبب ذلك جميع ما ذكرنا في التوراة من الخزي، وقد تقدم كثير منه في القرآن، ولا يبعد عندي تعليقه بقوله الآتي «حرمنا عليهم طيبات - واعتدنا» ويكون من الطيبات العز ورغد العيش، وذلك جامع لنكد الدارين وعطف على هذا الأمر العام ما اشتدت به العناية من إفراده عطف الخاص على العام فقال: ﴿وكفرهم بآيات الله﴾ مما جاءهم على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واقتضت حكمته سبحانه أن يكون عظمتها مناسبة لعظمة اسمه
461
الأعظم الذي هو مسمى جميع الأسماء، فاستلزم كفرهم به كفرهم بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أعظم ما نقضوا فيه وأخص من مطلق النقض ﴿وقتلهم الأنبياء﴾ وهو أعظم من مطلق كفرهم، لأن ذلك سد لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم، لأن الأنبياء سبب الإيمان وفي محو السبب محو المسبب.
ولما كان الأنيباء معصومين من كل نقيصة، ومبرئين من كل دنية، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه؛ قال: ﴿بغير حق﴾ أي كبير ولا صغير أصلاً. وهذا الحرف - لكونه في سياق طعنهم في القرآن الذي هو أعظم الآيات - وقع التعبير فيه أبلغ مما في آل عمران الذي هو أبلغ مما سبق عليه، لأن هذا مع جمع الكثرة وتنكير الحق عبر فيه بالمصدر المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقاً وصفة راسخة، بخلاف ما مضى، فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض؛ ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال: ﴿وقولهم قلوبنا غلف﴾ أي لا ذنب لنا لأن قلوبنا خلقت من أصل الفهم بعيدةً عن فهم مثل ما يقول الأنبياء، لكونها في أغشية، فهي شديدة الصلابة، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم، ويشهدون له بالرسالة وبأنه خاتم الأنبياء، ويصفون
462
بأشهر صفاته، ويترقبون إتبانه، لا جرم رد الله عليهم بقوله عطفاً على ما تقديره: وقد كذبوا لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان، فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفاً: ﴿بل طبع الله﴾ أي الذي له معاقد العز ومجامع العظمة ﴿عليها﴾ طبعاً عارضاً ﴿بكفرهم﴾ بل إنه خلقها أولاً على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقض - عن الخير، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم، وترك ما تدعو إليه عقولهم، طبع سبحانه وتعالى عليها.
فجعلها قاسية محجوبة عن رحمته، ولذا سبب عنه قوله: ﴿فلا يؤمنون﴾ أي يجددون الإيمان في وقت من الأوقات الآتية، ويجوز أن يتعلق بما تقديره تتمة لكلامهم: طبع الله عليها فهي لا تعي، وتكون «بل» استدراكاً للطبع بالكفر وحده، لأنه ربما انضم إليه، وأن يكون أضرب عن قولهم: إنها في غلف، لكون ما في الغلاف قد يكون مهيئاً لإخراجه من الغلاف إلى الطبع الذي من شأنه الدوام ﴿إلا قليلاً *﴾ من الإيمان بأن يؤمنوا وقتاً يسيراً كوجه النهار ويكفروا في غيره، ويؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، أو إلا إناساً قليلاً منهم - كما كان أسلافهم يؤمنون بما يأتي به موسى عليه الصلاة والسلام
463
من الآيات، ثم لم يكن بأسرع من كفرهم وتعنتهم بطلب آية أخرى كما هو مذكور في توراتهم التي بين أظهرهم، ونقلت كثيراً منه في هذا الكتاب، فقامت الحجة عليهم بأنهم يفرقون بين قدرتهم على الإيمان وقدرتهم على الطيران.
464
ولما بين كفرانهم بقتل الأنبياء بين كفرهم بالبهتان الذي هو سبب القتل، والفتنة أكبر من القتل، فقال معظماً له باعادة العامل: ﴿وبكفرهم﴾ أي المطلق الذي هو سبب اجترائهم على الكفر بنبي معين كموسى عليه الصلاة والسلام، وعلى القذف، ليكون بعض كفرهم معطوفاً على بعض آخر، ولذلك قال: ﴿وقولهم على مريم﴾ أي بعد علمهم بما ظهر على يديها من الكرامات الدالة على براءتها وأنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات ﴿بهتاناً عظيماً *﴾ ثم علمهم بما لم ينالوا من قتل أعظم من جاء من أنبيائهم بأعظم ما رأوا من الآيات من بعد موسى وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام، ثم بادعائهم لقتله وصلبه افتخاراً به مع شكهم فيه فقال: ﴿وقولهم إنا قتلنا المسيح﴾ ثم بينه بقوله: ﴿عيسى ابن مريم﴾ ثم تهكموا به بقولهم ﴿رسول الله﴾
464
أي الذي له أنهى العظمة، فجمعوا بين أنواع من القبائح، منها التشيع بما لم يعطوا، ومنها أنه على تقدير صدقهم جامع لأكبر الكبائر مطلقاً، وهو الكفر بقتل النبي لكونه نبياً، وأكبر الكبائر بعده وهو مطلق القتل، ولم يكفهم ذلك حتى كانوا يصفونه بالرسالة مضافة إلى الاسم الأعظم استهزاء به وبمن أرسله عزَّ اسمه وجلت عظمته وتعالى كبرياؤه وتمت كلماته ونفذت أوامره لكونه لم يمنعه منهم على زعمهم ﴿وما﴾ أي والحالة أنهم ما ﴿قتلوه وما صلبوه﴾ وإن كثر قائلو ذلك منهم، وسلمه لهم النصارى ﴿ولكن﴾ لما كان المقصود وقوع اللبس عليهم الضار لهم، لا لكونه من معين قال: ﴿شبه لهم﴾ أي فكانوا في عزمهم بذلك متشيعين بما لم يعطوا.
ولما أفهم التشبيه الاختلاف، فكان التقدير: فاختلفوا بسبب التشبيه في قتله، فمنهم من قال: قتلناه جازماً، ومنهم من قال: ليس هو المقتول، ومنهم من قال: الظاهر أنه هو، عطف عليه قوله دالاً على شكهم باختلافهم: ﴿وإن الذين اختلفوا فيه﴾ أي في قتله ﴿لفي شك منه﴾ أي تردد مستوى الطرفين، كلهم وإن جزم بعضهم، ثم أكد هذا المعنى بقوله: ﴿ما لهم به﴾ وأغرق في النفي بقوله: ﴿من علم﴾.
465
ولما كانوا يكلفون أنفسهم اعتقاد ذلك بالنظر في شهادته، فربما قويت عندهم شبهة فصارة أمارة أوجبت لهم - لشغفهم بآمالها - ظناً ثم اضمحلت في الحال لكونها لا حقيقة لها، فعاد الشك وكان أبلغ في التحير؛ قال: ﴿إلا﴾ أي لكن ﴿اتباع الظن﴾ أي يكلفون أنفسهم الارتقاء من درك الشك إلى رتبة الظن، وعبر بأداة الاستثناء دون «لكن» الموضوعة للانقطاع إشارة إلى أن إدراكهم لما زعموه من قتله مع كونه في الحقيقة شكاً يكلفون أنفسهم جعله ظناً، ثم يجزمون به، ثم صار عندهم متواتراً قطعياً، فلا أجهل منهم.
ولما أخبر بشكهم فيه بعد الإخبار بنفيه أعاد ذلك على وجه أبلغ فقال: ﴿وما قتلوه﴾ أي انتفى قتلهم له انتفاء ﴿يقيناً *﴾ أي انتفاؤه على سبيل القطع، ويجوز أن يكون حالاً من «قتلوه» أي ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى عليه الصلاة والسلام، بل فعلوه شاكين فيه والحق أنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقى شبهه عليه، والوجه الأول أولى لقوله: ﴿بل رفعه الله﴾ بما له من العظمة البالغة والحكمة الباهرة، رفع عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿إليه﴾ أي
466
إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي، وعن وهب أنه أوحى إليه ابن ثلاثين، ورفع ابن ثلاث وثلاثين فكانت رسالته ثلاثاً وثلاثين سنة ﴿وكان الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال في كل حال عند قصدهم له وقبله وبعده ﴿عزيزاً﴾ أي يغلب ولا يغلب ﴿حكيماً *﴾ أي إذا فعل شيئاً أتقنه بحيث لا يطمع أحد في نقض شيء منه، وختمُ الآية بما بين الصفتين يدل على أن المراد ما قررته من استهزائهم، وأنه قصد الرد عليهم، أي إنه قد فعل ما يمنع من استهزائكم، فرفعه إليه بعزته وحفظه بحكمته، وسوف ينزله ببالغ قدرته، فيردكم عن أهوائكم، ويسفك دماءكم، ويبيد خضراءكم، وله في رفعه وإدخاله الشهبة عليكم حكمة تدق عن أفكار أمثالكم.
قصة رفعه عليه الصلاة والسلام من الإنجيل الموجود اليوم بين أظهر النصارى، وهي تتضمن الإنذار بالدجال والإخبار بنزوله صعيد، والبشارة بنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي وصفه بالفارقليط وبالأركون، وأن إخبارهم بقتله وصلبه ليس مستنداً إلا إلى شك - كما قال الله تعالى، وأحسن ما رد على الإنسان بما يعتقده، قال مترجمهم في إنجيل متى: إنه عليه الصلاة والسلام دخل إلى الهيكل في يروشليم -
467
وهي القدس - وجرت بينه وبين الأحبار محاورات كان آخرها أن قال لهم: إني أقول لكم: إنكم لا تروني الآن حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب، ثم خرج من الهيكل، فجاء إليه تلاميذه كي يُروه بناء الهيكل، فأجاب وقال لهم: انظروا هذا كله، الحق أقول لكم: إنه لا يترك هنا حجر على حجر إلا نقض، ثم جلس على جبل الزيتون - قال مرقس: قدام الهيكل - فجاء إليه تلاميذه قائلين: قل لنا: متى هذا وما علامة مجيئك وانقضاء الزمان؟ فقال لهم: انظروا لا يضلنكم أحد - قال مرقس ولوقا: فإن كثيراً يأتون باسمي قائلين: إنما هو المسيح، ويضلون كثيراً - فإذا سمعتم بالحروب وأخبار الحروب انظروا لا تقلقوا، فلا بد أن يكون هذا كله، تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، ويكون خوف عظيم واضطراب وجوع ووباء - قال لوقا: وعلامات عظيمة من السماء - وزلازل في أماكن، وكل هذا أول المخاض - وقال مرقس: وهذه بداية الطلق، انظروا أنتم! إنهم يسلمونكم إلى المجامع والمحافل وتضربون - وقال لوقا: وقبل هذا كله يضعون أيديهم عليكم، ويطردونكم إلى المجامع والسجون وتقامون أمام الملوك والقواد
468
شهادة عليهم وعلى كل الأمم، ينبغي أولاً أن يكرز بالإنجيل، فإذا قدّموكم وأسلموكم فلا تهتموا بما تقولون ولا ماذا تجيبون، فإنكم تعطون في تلك الساعة الذي تتكلمون به ولستم المتكلمين، لكن روح القدس؛ قال لوقا: فإني معطيكم فماً وحكمة لا يقدر الذين يناصبونكم يقاومونها ولا الجواب عنها، ويسلم الأخ أخاه للموت، والأب ابنه، ويثب الأبناء على آبائهم؛ قال متى: حينئذ يسلمونكم إلى الضيق ويقتلونكم، وتكونون مبغوضين من كل الأمم، وحينئذ يشك كثير، ويسلم بعضكم بعضاً، ويبغض بعضكم بعضاً، ويقوم كثير من المنتهى يخلص، ويكرز بهذه البشارة في الملكوت في جميع المسكونة بشهادة لكل الأمم؛ قال مرقس: فإذا رأيتم فساد الحراب المذكور في دانيال النبي قائماً حيث لا ينبغي - فليفهم القارىء - حينئذ الذين تهودوا يهربون إلى
469
الجليل، والذي فوق السطح لا يقدر أن ينزل إلى بيته ليأخذ شيئاً، والويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام؛ وقال لوقا: وحينئذ الذين في اليهودية يهربون إلى الجبال، والذين في وسطها يفرون خارجاً، والذين في الكورة لا يدخلونها، لأن هذه في أيام الانتقام لكي يتم كل ما هو مكتوب، يكون على الأرض ضر وشدة عظيمة، وسخط على هذا الشعب، ويقعون في فم السيف، ويسبون في كل الأمم.
ويكون يروشليم موطىء الأمم حتى يكمل الزمان، وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم، وتخرج نفوس أناس من الخوف؛ وقال متى: وحينئذ يأتي الانفصال، ثم قال: سيكون ضيق عظيم - قال مرقس: تلك الأيام - لم يكن مثله في أول العالم حتى الآن ولا يكون، ولولا أن تلك الأيام قصرت لم يخلص ذو جسد - وقال مرقس: فلولا أن الرب أقصر تلك الأيام لم يحيى ذو جسد - لكن لأجل المتحببين قصرت تلك الأيام، فإن قال لكم أحد: إن المسيح ها هنا فلا تصدقوا، فسيقوم مسيحو كذب وأنبياء كذبة، ويعطون علامات عظاماً وآيات، ويضلون المختارين إن قدروا، هو ذا قد تقدمت وأخبرتكم، فإن قالوا لكم: إنه في البرية، فلا تخرجوا، أو فيّ المخادع، فلا تصدقوا، وكما أن البرق يخرج من المشرق فيظهر في المغرب، كذلك يكون حضور ابن البشر، لأنه حيث تكون الجثة
470
تجتمع النسور وتلوف بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه، والكواكب تتساقط من السماء، وقوات ترتج، وحينئذ تظهر علامات ابن الإنسان في السماء، وتنوح كل قبائل الأرض، وترون ابن الإنسان آتياً في سحاب السماء مع قوات ومجد كثير، ويرسل الملائكة مع صوت الناقور العظيم، ويجمع مختاريه من الأربعة الأزياج من أقصى السماوات - وقال مرقس: من أطراف الأرض إلى أطراف السماء - فمن شجرة التينة - وقال لوقا: ومن كل الأشجار - تعلمون المثل، إذا لانت أغصانها وفرعت أوراقها علمتم أن الصيف قد دنا.
كذلك أنتم إذا رأيتم هذا كله علمتم أنه قد قرب على الأبواب، الحق أقول لكم! إن هذا الجيل لا يزول حتى يتم هذا كله، والأرض والسماء تزولان وكلامي لا يزول، لأجل ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفها أحد ولا ملائكة السماوات - وقال مرقس: ولا الابن - إلا الأب وحده، وقال لوقا: سأله الفريسيون: متى يأتي ملكوت الله؟ فقال: ليس يأتي ملكوت الله برصد ولا يقولون: هوذا هاهنا
471
أو هناك! ها هو ذا ملكوت الله؛ ثم قال لتلاميذه: ستأتي أيام تشتهون أن تروا يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان ولا ترون، فإن قالوا لكم: هوذا هاهنا أو هناك، فلا تذهبوا ولا تسرعوا، لأنه كمثل البرق الذي يضيء في السماء فيضيء تحت السماء، كذلك تكون أيام ابن البشر - انتهى. وكما كان في أيام نوح عليه الصلاة والسلام كذلك يكون استعلاء ابن الإنسان، لأنه كما كنوا قبل أيام الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح إلى السفينة، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان فأدرك جميعهم، كذلك يكون حضور ابن الإنسان؛ وقال لوقا: ومثل ما كان في أيام لوط يأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون ويغرسون ويبنون إلى اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم، وأمطر من السماء ناراً وكبريتاً، وأهلك جميعهم، كذلك في اليوم الذي يظهر فيه ابن الإنسان، وفي ذلك اليوم من كان في السطح وآلته في البيت لا ينزل كي يأخذها، ومن كان في الحقل أيضاً لا يرجع هكذا إلى ورائه. انظروا إلى امرأة لوط، من أراد أن يحيي نفسها فليهلكها، ومن أهلكها أحياها، أقول لكم: إن في هذه الليلة - وقال متى: حينئذ - يكون اثنان في الحقل، يؤخذ واحد، ويترك الآخر، واثنتان تطحنان على رحى واحدة، تؤخذ الواحدة، وتترك
472
الأخرى، وقال مرقس: فانظروا واسهروا وصلّوا، لأنكم لا تعلمون متى يكون الزمان! اسهروا فإنكم لا تعملون متى يأتي رب البيت ليلاً! يأتي بغتة فيجدكم نياماً، والذي أقول لكم أقوله للجميع، اسهروا! قال لوقا: في كل حين وتضرعوا لكي تقووا على الهرب في هذه الأمور الكائنة كلها، وتقفوا قدام ابن الإنسان، وقال متى: فاسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم، واعلموا أنه لو علم رب البيت في أي هجعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب، كذلك كونوا مستعدين لأن ابن الإنسان يأتي ساعة لا تظنونها، من ترى هو العبد الأمين الحليم الذي يقيمه سيده على بيته ليعطيهم الطعام في حينه! طوبى لذلك العبد، يأتي سيده فيجده يعمل هكذا، الحق أقول لكم! إنه يقيمه على جميع ماله، فإن قال ذلك العبد الرديء في قلبه: إن سيدي يبطىء، فيبدأ يأكل ويشرب مع المسكرين فيأتي سيده في يوم لا يظنه وساعة لا يعرفها، فيجعل نصيبه مع المرائين، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.
يشبه ملكوت السماوات عشرة عذاراى أخذن
473
مصابيحهن وخرجن للقاء العريس، خمس منهن جاهلات، وخمس حليمات، فأما الجاهلات فأخذن مصابيحهن ولم يأخذن زيتاً، وأما الحليمات فأخذن زيتاً في إناء مع مصابيحهن، فلما أبطأ العريس نعسن كلهن ونمن، وانتصف الليل فُصرِخ: هذا العريس قد أقبل، اخرجن للقائه! حينئذ قام جميع العذارى وزين مصابيحهن، فقال الجاهلات للحليمات: أعطيننا من زيتكن، فإن مصابيحنا قد طفئت! فقلن: ليس معنا ما يكفينا وإياكن، فاذهبن إلى الباعة وابتعن لكنّ، فلما ذهبن ليبتعن جاء العريس، فالمستعدات ذهبن معه وأُغلِقَ، فجاء بقية العذارا قائلات: يا رب! افتح لنا، فأجاب وقال: الحق أقول لكنّ! إني لا أعرفكن؛ اسهروا الآن فإنكم لا تعرفون ذلك اليوم ولا تلك الساعة، كمثل إنسان أراد السفر، فدعا عبيداً له فأعطاهم ماله، فأعطى خمس وزنات لواحد، ووزنتين للآخر، وواحداً وزنة، كل منهم على قدر قوته، وسافر للوقت، فمضى الذي أخذ الخمس فاتجر فيها، فربح خمس وزنات أخرى وهكذا الذي أخذ الوزنتين ربح فيهما وزنتين أخريين، وأما الذي أخذ الوزنة فمضى وحفر في الأرض ودفن حصة سيده، وبعد زمان كثير جاء سيد هؤلاء فحاسبهم، فجاء الذي أخذ الخمس وزنات فأعطى خمس وزنات أخرى قائلاً: يا رب! خمس وزنات أعطيتني، وهذه خمس وزنات أخرى ربحتها، قال له سيده - قال لوقا-:
474
حبذا أيها العبد الصالح! ألفيت أميناً على القليل، وقال متى: نعم يا عبد صالح أمين! وجدت في القليل أميناً، أنا أقيمك على الكثير أميناً، ادخل إلى فرح سيدك، وجاء الذي أخذ الوزنتين فقال: يا سيد! وزنتين دفعت إليّ وهذان وزنتان أخريان ربحتهما فقال له سيده: نعم يا عبد صالح أمين! وجدت في القليل أميناً، أنا أقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح سيدك، فجاء الغير مصيب الذي أخذ الوزنة فقال: يا سيد! عرفت أنك إنسان شديد، تحصد ما لم تزرع، وتجمع من حيث لا تبذر، فخفت ومضيت فدفنت مالك في الأرض، هذا مالك، فأجاب سيده وقال: أيها العبد الشرير الكسلان! علمت أنني أحصد من حيث لا أزرع، وأجمع من حيث لا أبذر، كان ينبغي لك أن تجعل حصتي على مائدة، فأنا آتي وآخذه إليّ مع أرباحه، خذوا منه الوزنة، وأعطوها للذي له عشر وزنات، لأن من له يعطي ويزاد، والذي ليس له يؤخذ منه ما معه، والعبد الشرير الغير نافع ألقوه في الظلمة القصياء، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان؛ إذا جاء ابن الإنسان في مجده، وجميع الملائكة المقدسين معه، حينئذ يجلس على
475
كرسي مجده، ، ويجمع إليه كل الأمم، فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء، ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن شماله، حينئذ يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي رِثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم، جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وغريباً كنت فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضاً فعدتموني، ومحبوساً فأتيتم إليّ، حينئذ يجيب الصديقون ويقولون: يا رب! متى رأيناك جائعاً فأطعمناك؟ أو عطشاناً فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك؟ أو عرياناً فكسوناك؟ أو مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك؟ فيجيب الملك ويقول: الحق أقول لكم! الذي فعلتموه بأحد هؤلاء الحقيرين فبي فعلتم، حينئذ يقول للذين عن يساره: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدّة لإبليس وجنوده، جعت فلم تطعموني - إلى آخره، فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم، والصديقون إلى الحياة الأبدية.
ولما أكمل يسوع هذا الكلام كله قال لتلاميذه: علمتم أن بعد يومين يكون الفسح - وقال مرقس: وكان الفسح والفطير بعد يومين - واجتمع رؤساء الكيسر والكهنة ومشايخ الشعب في دار رئيس الكهنة الذي يقال له قيافاً، فتشاوروا على يسوع ليمسكوه - قال
476
مرقس: بمكر - ويقتلوه، وقالوا: ليس في العيد لئلا يكون شجن؛ وقال مرقس: شغب في الشعب؛ وقال يوحنا: فجمع عظماء الكهنة والفريسيين محفلاً وقالوا: ماذا نصنع إذا كان هذا الرجل يعمل آيات كثيرة، وإن تركناه هكذا فسيؤمن به جميع الناس، وتأتي الروم فتتغلب على أمتنا، وإن واحداً منهم اسمه قيافا كان رئيس الكهنة فقال: إنه خير لنا أن يموت رجل واحد عن الشعب من أن تهلك الأمة كلها، لأن يسوع كان مزمعاً أن يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد؛ وفي تلك الساعة تشاوروا على قتله، فأما يسوع فلم يكن يمشي بين اليهود علانية، ولكنه انطلق من هناك إلى البرية إلى كورة تسمى مدينة أفريم، وكان يتردد هناك مع تلاميذه، وكان عيد فسح اليهود قد قرب فصعد كثير من القرى إلى يروشليم قبل الفسح ليطهروا أنفسهم، فطلب اليهود يسوع، وكانوا أمروا إن علم إنسان مكانه أن يدلهم عليه، وإن يسوع قبل ستة أيام من الفسح قصد إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الميت الذي أقامه يسوع، فصنعوا له هناك وليمة، وجعلت
477
مرتا تخدم، وعلم جمع كثير من اليهود فجاؤوا إليه، ولينظروا إلى لعازر الذي أقامه من بين الأموات، وتشاور عظماء الكهنة أن يقتلوا لعازر، لأن كثيراً من اليهود من أجله كانوا يؤمنون بيسوع، وكان الجمع الذي معه يشهد له أنه دعا لعازر من القبر وأقامه، ومن الغد سمعوا أن يسوع يأتي إلى يروشليم، فخرجوا للقائه يصرخون: مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل! ووجد يسوع حماراً فركبه - كما هو مكتوب: لا تخافي يا بنت صيون! هوذا ملكك يأتيك راكباً على جحش - ابن أتان - ثم قال: وقال يسوع: قد قربت الساعة التي يمجد فيها ابن البشر، الحق الحق أقول لكم! إنه حبة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتَمُتْ بقيت وحدها، وإن هي ماتت أتت بثمار كثيرة، من أحب نفسه فليهلكها، ومن أبغض نفسه في هذا العالم فإنه يحفظها لحياة الأبد، وقال: يا رباه! مجد اسمك، فجاء صوت من السماء: قد مجدتُ وأيضاً أمجد، فسمع الجمع الذي كان واقفاً فقال بعضهم: إنما كان رعداً، وقال آخرون: إن ملاكاً كلمه، قال يسوع: ليس من أجلي كان هذا الصوت، ولكن من أجلكم،
478
وقد حضر الآن دينونة هذا العالم، الآن يلقى رئيس هذا العالم إلى خارج، وأنا إذا ارتفعت من الأرض جبيت إليّ كل واحد، فأجاب الجمع: نحن سمعنا في الناموس أن المسيح يدوم إلى الأبد، فكيف تقول أنت: يرتفع ابن البشر، فقال لهم يسوع: إن النور معكم زماناً يسيراً، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام، إن الذي يمشي في الظلام ليس يدري أين يتوجه، فما دام لكم النور آمنوا بالنور لتكونوا أبناء النور؛ تكلم يسوع بهذا ثم مضى وتوارى عنهم، وقال: يا بني! أنا معكم زماناً قليلاً، وتطلبوني فلا تجدوني، وكما قلت لليهود: إن الموضع الذي امضي إليه أنا، لستم تقدرون على المضي إليه، قال يوحنا في محاورته ليهود في الهيكل: قال يسوع: أنا أمضى وتطلبوني وتموتون بخطاياكم، وحيث أنا أذهب لستم تقدرون على إتيانه، فقال اليهود: لعله يريد أن يقتل نفسه، فقال لهم: أنتم من أسفل، وأنا من فوق، أنتم من هذا العالم، وأما أنا فلست من هذا العالم، قد أخبرتكم أنكم تموتون بخطاياكم، فقالوا له: أنت من أنت؟ ثم قال: وقالوا له: إن أبانا هو إبراهيم، قال: لو كنتم بني إبراهيم كنتم تعملون أعمال إبراهيم، لكنكم تريدون قتل إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله تعالى، ولم يفعل إبراهيم هذا، أنتم تعملون أعمال أبيكم؟ فقالوا: أما نحن فلسنا مولودين من زنى،
479
فقال لهم: أنتم من أبيكم إبليس، وشهوة أبيكم تهوون إن لم تعملوا ذلك، الذي هو من البدء قتّال الناس ولم يلبث على الحق لأنه ليس فيه حق، وإذا ما تكلم بالكذب فإنما يتكلم بما هو له، وأما أنا فأتكلم بالحق ولستم تؤمنون بي، من منكم يوبخني على خطيئة - انتهى، وأقول لكم الآن أن يحب بعضكم بعضاً كما أحببتكم، فبهذا يعرف كل أحد أنكم تلاميذي، وقال يسوع: من يؤمن بي ليس من يؤمن بي فقط، بل وبالذي أرسلني، ومن رآني فقد رأى الذي أرسلني، أنا جئت نور العالم لكي ينجو كل من يؤمن بي من الظلام، ومن يسمع كلامي ولا يؤمن بي أنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم، بل لأحيي العالم، من جحدني ولم يقبل كلامي فإن له من يدينه، الكلمة التي نطقت بها هي تدينه في اليوم الآخر، لأني لم أتكلم من نفسي، لأن الرب الذي أرسلني هو أعطاني الوصية، ثم قال: الحق الحق أقول لكم! من يؤمن بي يعمل الأعمال التي أعملها، وأفضل منها يصنع، إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب يعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد - روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه، لأنهم لم يروه ولم يعرفوه، وأنتم تعرفونه، لأنه مقيم عندكم وهو فيكم، لست أدعكم يتامى لأني سوف أجيئكم عن قليل، من يحبّني يحفظ كلمتي، ومن لا يحبني ليس يحفظ كلامي، الكلمة التي تسمعونها
480
ليست لي، بل للرب الذي أرسلني، كلمتكم بهذا لأني عندكم مقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله ربي باسمي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلت لكم، السلام استودعتكم، سلامي خاصة أعطيكم، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع، قد سمعتم أني قلت لكم: إني منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبوني لكنتم تفرحون بمضيّي إلى الرب، لأن الرب أعظم مني، وها قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون، ولست أكلمكم كثيراً لأن أركون العالم يأتي وليس له فيّ شيء، ولكن ليعلم العالم أني أحب الرب، وكما أوصاني الرب كذلك أفعل، أنا هو الكرمة الحقيقية وربي الغارس، كل غصن لا يأتي بثمار ينزعه، والذي يأتي بثمار ينقيه ليأتي بثمار كثيرة، أنتم لتيامن هذا الكلام الذي كلمتكم به اثبتوا فيّ وأنا فيكم، كما أن الغصن لا يطيق أن يأتي بالثمار من عنده إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم إن لم تثبتوا فيّ، أنا هو الكرمة وأنتم الأغصان، من ثبت فيّ وأنا فيه يأتي بثمار كثيرة، وبغيري لستم تقدرون تعملون شيئاً، فإن لم يثبت أحد فيّ طرح خارجاً مثل الغصن الذي يجني فيأخذونه ويطرحونه في النار فيحترق، وإن أنتم ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم كان لكم كل ما تريدونه، وبهذا يمجد ربي بأن تأتوا
481
بثمار كثيرة، وأنتم أحبابي إن علمتم كل ما وصيتكم به، إنما وصيتكم بهذا لكي يحب بعضكم بعضاً، فإن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم، لو كنتم من العالم كان العالم يحب من هو منه، لكنكم لستم من العالم، بل اخترتكم من العالم، من أجل هذا يبغضكم العالم، لو لم آت وأكلمهم لم يكن لهم خطيئة، والآن ليس لهم حجة في خطيئتهم، لو لم أعمل أعمالاً لم يعملها أحد لم يكن لهم خطيئة، لتتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني باطلاً، إذا جاء الفارقليط الذي أرسله إليكم - روح الحق الذي من الرب بسق - هو يشهد وأنتم تشهدون، لأنكم معي صفوة، كلمتكم بهذا لكيلا تشكون، فإنهم سوف يخرجونكم من مجامعهم، ولم أخبركم بهذا من قبل لأني كنت معكم، والآن فإني منطلق إلى من أرسلني، أقول لكم الحق! إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط، فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك فهو موبخ العالم على الخطيئة، وإن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقول لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن، وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي، وهو
482
مجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم، قليلاً ولا ترونني، وقليلاً وترونني، قالوا: ما هذا القليل الذي يقول؟ فقال لهم: أفي هذا يراطن بعضكم بعضاً، الحق أقول لكم! إنكم تبكون وتنوحون والعالم يفرح، وأنتم تحزنون لكن حزنكم يؤول إلى فرح، كالمرأة إذا حضر ولادها تحزن لأن قد جاءت ساعتها، فإذا ولدت ابناً لم تذكر الشدة من أجل الفرح، لأنها ولدت إنساناً في العلم؛ تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء وقال: يا رب! قد حضرت الساعة فمجد عبدك ليمجدك عبدك، كما أعطيته السلطان على كل ذي جسد، ليعطي كل من أعطيته حياة الأبد، وهذه هي حياة الأبد أن يعرفوك أنك أنت إله الحق وحدك، والذي أرسلته يسوع المسيح، أنا قد مجدتك على الأرض، ذلك العمل الذي أعطيتني لأصنعه قد أكمت، والآن مجدني أنت يا رباه بالمجد الذي عندك، قد أظهرت اسمك للناس، الآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك، وعلموا حقاً أني من عندك أتيت، وآمنوا أنك أرسلتني، وأنا أجيء إليك أيها الرب القدوس! احفظهم باسمك الذي أعطيتني كي يكونوا واحداً كما نحن، إذ كنت معهم في العالم أنا كنت أحفظهم باسمك، ليس أسأل أن تنزعهم من العالم، بل أن نحفظهم من الشرير، لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لست من العالم، قدسهم بحقك فإذا كلمتك خاصة هي الحق، كما أرسلتني إلى العالم
483
أرسلتهم أنا أيضاً إلى العالم، ولست أسأل في هؤلاء فقط، بل وفي الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بأجمعهم واحداً،