ﰡ
مدنيةٌ، وآيُها (١) مئةٌ وسبعون وست آيات، وحروفها ستةَ عَشَرَ ألفًا، وثلاثون حرفًا، وكَلِمُها ثلاثةُ آلافٍ وتسعُ مئةٍ وخمسٌ وأربعونَ كلمة.
بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيمِ
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾.[١] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾ خطابٌ لجميعِ بني آدَم (يا) حرفُ نداء و (أَيُّ) منادى مفَردٌ، و (ها) تنبيهٌ، و (الناسُ) نعتٌ لأيُّ، والناسُ والمؤمنون ونحوُهما تعمُّ العبيدَ عندَ أحمدَ وأصحابِه وأكثرِ أتباع الأئمة.
﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ والربُّ: المالكُ.
﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني: آدمَ. قرأ أبو عمرو: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ بإدغام القاف في الكاف، ولم يدغم من المتقاربين في كلمة إلا القاف في الكاف التي تكون في ضمير الجمع المذكَّرِينَ إذا تحركَ ما قبلَ القافِ لا غيرُ،
﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي: وخلق منهُ أمكم حَوَّاءَ من ضِلَعٍ من أضلاعِه اليسرى.
﴿وَبَثَّ﴾ نشرَ وأظهَر.
﴿مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ أي: نشرَ من تلكَ النفسِ والزوجِ المخلوقةِ منها بنينَ وبناتٍ كثيرةً (٢).
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ أي: تتساءلون: تقسمون. قرأ عاصمٌ، وحمزةٌ، والكسائيُّ، وخَلَفٌ: (تَسْألونَ) بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين.
﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ القرابات، قراءةُ العامة: بالنصب؛ أي: واتقوا الأرحامَ أَنْ تقطعوها، وقرأ حمزةُ: بالخفض، أي: به وبالأرحامِ، والأولى أفصحُ (٣).
(٢) من قوله: "لا يفلح قوم شجوا... " (ص: ٢٣) من هذا الجزء، إلى هنا ساقط من "ش"، بمقدار عشر لوحات من النسخ الخطية الأخرى.
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٨٩ - ٣٩٠)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٨٨)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٦)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٨)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٧٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٧١)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٧)، =
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢)﴾.
[٢] ونزل في رجل من غَطَفانَ كان معه مالٌ كثيرٌ لابنِ أخٍ له يتيمٍ، فلما بلغَ، طلبَ المالَ، فمنعَه عمُّهُ.
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ (١) سلِّموها إليهم إذا بلَغوا، واليتامى: جمعُ يتيمٍ، وهو الذي مات أبوه؛ من اليتمِ، وهو الانفراد.
﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ﴾ أي: الحرام.
﴿بِالطَّيِّبِ﴾ بالحلالِ؛ لأنهم كانوا يأخذون الجيدَ من مالِ اليتيم، وهو خبيثٌ في حَقِّهم، ويضعون مكانه الرديءَ من أموالهم، وهو طَيِّبٌ لهم.
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ أي: معها.
﴿إِنَّهُ﴾ أي: الأكلَ.
﴿كَانَ حُوبًا﴾ إثمًا.
﴿كَبِيرًا﴾ فلما سمعَها العمُّ، قال: "أَطَعْنا اللهَ وأطعْنا الرسولَ، نعوذُ بالله من الحُوبِ الكبير"، فدفع إليه ماله.
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٧٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٧١).
[٣] ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ يا أولياءَ اليتامى.
﴿أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ أي: لا تَعْدِلوا.
﴿فِي الْيَتَامَى﴾ إذا نكحتموهُنَّ.
﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ أي: ما حلَّ لكم غيرَهُنَّ. قرأ حمزةُ (طَابَ) بالإمالةِ (١).
﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ الغرائبِ.
﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ أي: تزوَّجوا إن شئتُم مَثْنى، وإن شئتم ثُلاثَ، وإن شئتم رُباعَ، أنتم مُخَيَّرون في ذلك، وهذا إجماع أن أحدًا من الأمة لا يجوزُ له أن يزيد على أربعِ نسوةٍ إذا كان حُرًّا، وأما العبدُ، فلا يجوز له أن يجمعَ بينَ أكثرَ من زوجتين عندَ الثلاثة، وقال مالكٌ: هو كالحرِّ في جواز جمعِ الأربعِ إليه، وكانت الزيادةُ على الأربع من خصائصِ النبيِّ - ﷺ -، لا يشاركه أحدٌ من الأمة فيه، روُي أن قيسَ بنَ الحارثِ كان تحتَه ثمان نسوة، فلما نزلت هذه الآيةُ، قال له رسول الله - ﷺ -: "طَلِّقْ أَرْبَعًا، وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا"، قال:
﴿خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ بينَ هذه الأعداد.
﴿فَوَاحِدَةً﴾ أي: فانكحوا واحدةً. قرأ أبو جعفرٍ (فَوَاحِدَةٌ) بالرفع خبرُ مبتدأ؛ أي: فالمُقنعِ واحدةٌ، وقرأ الباقون: بالنصب على المعنى الأول (٢).
﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ من السراري؛ لأنه لا يلزمُ فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر.
﴿ذَلِكَ أَدْنَى﴾ أقربُ.
﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ تَجُوروا.
﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (٤)﴾.
[٤] ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ أي: مهورَهُنَّ، جمعُ صَدُقَةٍ.
﴿نِحْلَةً﴾ عطيَّةً عن طيبِ نفسٍ.
﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ﴾ أي: من المال؛ لأن الصدقاتِ مالٌ.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٩٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٧٤)، و"الكشاف" للزمخشري (١/ ٢٤٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٠٧).
﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا﴾ طيبًا.
﴿مَرِيئًا﴾ سائغًا لا يُنَغِّصُه شيء. قرأ أبو جعفرٍ (هَنِيًّا مَرِيًّا) بتشديد الياء منهما من غير همز، والباقون: بهمزهما (١).
﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٥)﴾.
[٥] ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾ أي: المبذِّرين من الرجال والنساء والصبيان.
﴿أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ أي: قوامَ عيشكم. قرأ أبو عمرٍو، وقالونُ، والبزيُّ: (السُّفَهَا أَمْوَالَكُمْ) بإسقاطِ الهمزةِ الأولى بلا عِوَضٍ منها، ويَهْمزون الثانية، وقرأ ورشٌ، وقنبلٌ، وأبو جعفرٍ، ورُويسٌ: بتسهيل الثانية، فيجعلونها بين الهمزة والألف، ويفتحونها شبه مدة (٢)، وقرأ الباقون، وهم عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ورَوْحٌ:
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٩٦)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٩٠) و"الكشف" لمكي (١/ ٣٧٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٧٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٠٩).
﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ أي: أطعموهم واكسوهم منها لمن يجبُ عليكم رزقُه ومؤنتُه.
﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ عِدَةً جَميلةً تطيبُ بها نفوسُهم.
﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٦)﴾.
[٦] ونزل في ثابتِ بنِ رفاعةَ، وفي عمِّه، وذلك أن رفاعةَ تُوُفِّيَ وتركَ ابنَهُ ثابتًا وهو صغيرٌ، فجاء عمُّه إلى رسول الله - ﷺ -، وقال: إن ابن أخي يتيمٌ في حِجْري، فما يحلُّ لي من مالِهِ، وما أدفعُ إليه؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿وَابْتَلُوا﴾ (١) أي: اختبروا.
﴿الْيَتَامَى﴾ في عقولهم وتصرُّفاتهم في أموالهم.
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ أي: صاروا أهلًا أن يَنْكِحوا أو يُنْكَحوا، ويحصلُ البلوغُ عندَ أبي حنيفةَ في حقِّ الغلامِ بالاحتلامِ والإحبالِ والإنزالِ إذا وطئ، أو إكمالِ ثماني عشرةَ سنةً، وفي حقِّ الجاريةِ بالحيضِ والاحتلامِ
﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ أي: أبصرتم.
﴿مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ هدايةً إلى مصالحهم، والرشدُ: الصلاحُ في المال فقط عندَ الثلاثة، وعند الشافعيِّ إصلاحُ الدينِ والمال.
﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ من غير تأخير عن حدِّ البلوغ.
﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا﴾ أيها الأوصياء.
﴿إِسْرَافًا﴾ بغير حَقٍّ.
﴿وَبِدَارًا﴾ سراعًا.
﴿أَنْ يَكْبَرُوا﴾ أي: لا تبادروا بالتفريط في إنفاقها قبلَ أن يكبروا حَذَرًا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمُها إليهم، ثم بَيَّنَ حالَ الأوصياءِ فقال:
﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ أي: يطلبِ العفةَ من نفسِه، ويمتنعْ عن أكلها، والعِفَّةُ: الامتناع مما لا يَحِلُّ.
﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا﴾ محتاجًا إلى مال اليتيم، وهو يحفظُه.
﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يأخذْ قدرَ أجرته إذا عملَ.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ كافيًا.
﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (٧)﴾.
[٧] وكانوا في الجاهلية لا يورِّثون النساءَ ولا الصبيانَ، فَتُوفي أوسُ بنُ ثابتٍ الأنصاريُّ، وتركَ امرأتَه أُمَّ كُحَّةَ وثلاثَ بناتٍ، فأخذَ سُوَيْدُ وعَرْفَجَةُ ابنا عَمِّهِ ووصيَّاه جميعَ تركته، فنزل:
﴿لِّلرِّجَالِ﴾ (١) أي: الذكرِ من أولادِ الميت.
﴿نَصِيبٌ﴾ حَظٌّ.
﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ هم المتوارثون من ذوي القرابات دونَ غيرهم.
﴿وَلِلنِّسَاءِ﴾ أي: الوارثاتِ منهنَّ.
﴿نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ﴾ أي: من المال.
﴿أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ حظًّا مقطوعًا بوجوب تسليمِه إليهم.
[٨] ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ يعني: قسمةَ الميراثِ.
﴿أُولُو الْقُرْبَى﴾ للميتِ ممَّنْ لا يرثُ.
﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ أي: فارْضَخُوا لهم من المال قبلَ القسمةِ، وحكمُ هذهِ الآيةِ منسوخٌ.
﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ تقدَّم تفسيره قريبًا.
﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٩)﴾.
[٩] ثم حضَّ على الشَّفَقَةِ على الأيتام فقال:
﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ أي: بعدهم.
﴿ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ أي: أولادًا صغارًا. قرأ حمزةُ: (ضِعَافًا) بالإمالة، بخلافٍ عن خلاد (١).
﴿خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ الفقرَ، أَمْرٌ للحاضرينَ المريضَ عندَ الإيصاء.
﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ﴾ في أمرِهم الميتَ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠)﴾.
[١٠] ونزل في الأوصياء الذين يأكلون ما لم يُبَحْ لهم من مالِ اليتيم، وهي تتناولُ كلَّ أَكْلٍ من أولياءِ السوءِ وقُضاتِه، وإن لم يكنْ وَصِيًّا (١):
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ بغير حَقٍّ.
﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ أي: ملءَ بطونهم.
﴿نَارًا﴾ ما يجرُّ إلى النار، ويَؤُول إليها.
﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾. قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ: بضم الياء؛ أي: (يُدْخَلُونَ نَارًا) مُسَعَّرَةً، وقرأ الباقون: بالفتح من صَلِيَ النارَ يَصْلاها: إذا حَلَّها وقاساها (٢).
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٩٨)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٩١)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٧)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١٢٠)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٧٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٨٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢٤٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١١٢).
[١١] ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ أي: يأمرُكم، ويعهدُ إليكُم في شأن أولادكم إذا مِتُّمْ.
﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ إذا اجتمعَ مع الإناثِ بالاتفاق، وإلا فالذكرُ عصبةٌ منفردًا بالاتفاق، وفُضِّل الذكرُ على الأنثى في الميراث بجعلِ حظِّه مِثْلَي حَظِّ الأنثى؛ لأن الذكرَ في مَظِنَّةِ الحاجةِ أكثرَ من الأنثى، فإن كلَّ واحدٍ منهما في العادة يتزوَّجُ، ويكون له الولدُ، فالذكرُ يجبُ عليه نفقةُ امرأتِهِ وأولادِه، والمرأةُ يُنْفِقُ عليها زوجُها، ولا يلزمها نفقةُ أولادِها، وقد فضل الله الذكرَ على الأنثى في الميراثِ على وَفْقِ ذلك.
﴿فَإِن كُنَّ﴾ أي: المتروكاتُ.
﴿نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ أي: جماعةً.
﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ الميتُ بالاتفاق.
﴿وَإِنْ كَانَتْ﴾ الوارثة.
﴿وَاحِدَةً﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ (وَاحِدَةٌ) بالرفع على معنى: إن وقعتْ
﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ يعني: لأبوي الميت.
﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أرادَ: أن الأبَ والأمَّ يكون لكلِّ واحدٍ سدسُ الميراثِ عندَ وجود الولد، أو ولدِ الابن، بالاتفاق، والأبُ يكونُ صاحبَ فرضٍ.
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ من جميع الميراث، إلا أن يكون مع الأبوين زوجٌ أو زوجةٌ، فللأم ثلثُ ما يبقى بالاتفاق.
﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ أي: اثنان فصاعدًا، ذكورًا أو إناثًا.
﴿فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ والباقي للأب إن كان معها أبٌ، فالإخوة لا ميراثَ لهم مع الأب، ولكنهم يحجُبون الأمَّ من الثلثِ إلى السدس، سواءٌ كانوا أشقاءَ، أو لأبٍ، أو لأمٍّ، بالاتفاق. قال قتادةُ: وإنما أخذهُ الأبُ دونَهم؛ لأنه يمونُهم، ويلي نكاحَهم والنفقةَ عليهم. قال ابنُ عطية: هذا في الأغلب (٢). وعن ابن عباسٍ: أن الإخوة يأخذون السدسَ الذي حجبوا الأمَّ عنه (٣). قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (فَلإِمِّهِ) بكسر الهمزة في الحرفين استثقالًا
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٢/ ١٧).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٤٨٩)، و"تفسير القرطبي" (٥/ ٧٢).
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا﴾ الميتُ.
﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (يُوصَى) بفتح الصاد على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، وكذلك الحرفُ الآتي، ووافق حفصٌ في الثاني، وقرأ الباقون: بكسر الصاد فيهما.
ثم حضَّ على تنفيذ وصايا الميت، وقضاء ديونه بقوله: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ الذين يرثونكم.
﴿لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ في الدِّينِ والدنيا والآخرة. المعنى: منكم من يَظُنَّ أن ابنَهُ أنفعُ له بأنْ يبادرَ إلى مصالحِهِ وقضاءِ ديونه، فيكونُ الأبُ أنفعَ، وبالعكس، وأنا العالمُ بمن أنفعُ لكم، وقد دبَّرْتُ أمرَكم على ما فيه المصلحةُ، فاتبعوه. ورُوي أنَّ الولدَ إِن كانَ أرفعَ درجةً في الجنة، رُفع إليه والداه (٢)، وإن كان الوالدُ أرفَع درجةً، رُفع إليه ولدُه؛ لتقرَّ بذلك أعينُهم.
﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي: فرضَ الله الميراث فريضةً.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ﴾ أي: لم يَزَلْ.
(٢) في "ن": "والده".
﴿حَكِيمًا﴾ فيما قضى وقَدَّرَ، فلا يُقْسَمُ إرثٌ إلا بعدَ قضاءِ دَيْنِ الميتِ، وإخراجِ ما أوصى به، بالاتفاق.
﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ منكم، أو من غيرِكم.
﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ هذا في ميراثِ الأزواج.
﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ هذا في ميراث الزوجات، للواحدةِ الربعُ أو الثمنُ، وإن كنَّ أكثرَ من واحدة، اشتركْنَ فيه، والحكم في ذلك كلِّه متفقٌ عليه.
﴿يُورَثُ﴾ أي موروثٌ منه.
﴿كَلَالَةً﴾ خبرُها، والكلالةُ: مَنْ لا ولدَ لهُ ولا والدَ، فالأبُ والابنُ طرفان للرجل، فإذا ذهبا، تكَلَّلَهُ النسبُ؛ لأنَّ الورثةَ من جميع الإخوة وغيرِهم يحيطونَ بالميت كالإكليل يحيطُ بالرأسِ من جميعِ جوانبِه، وأعلاه وأسفلُه خاليان.
﴿أَوِ امْرَأَةٌ﴾ عطفٌ على (رجلٌ).
﴿وَلَهُ﴾ الضميرُ عائد على الرجل، واكتفى بإعادته عليه دون المرأة إذ المعنى فيهما واحدٌ، والحكمُ قد ضبطه العطفُ الأول.
﴿أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ أي: من الأم.
﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ بالاتفاق.
﴿فَإِنْ كَانُوا﴾ أي: أولادُ الأم.
﴿أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي: من واحد.
﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ بالسوية، لا يزيدُ نصيبُ ذكرِهم على أنثاهم، بالاتفاق.
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أي: مُدْخِلٍ الضررَ على ورثته بمجاوزةِ الثلثِ، ونصب (غير) على الحال، وتقدَّم خلاف القراء في قولِه: (يوصي) في الحرفِ المتقدِّم (١).
﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ مصدرٌ مؤكِّدٌ؛ أي: يوصيكم الله وصيةً.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿تِلْكَ﴾ أي: الفروضُ المذكورةُ.
﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ شرائعهُ التي كالحدود المحدودة.
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ بكفره.
﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ جَمَعَ خالدين، وأفرد خالدًا؛ نظرًا إلى معنى (مَنْ) ولفظِها، ونصبَهُما على الحال. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (نُدْخِلْهُ) في الحرفين بالنون، والباقون: بالياء (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٤)، =
[١٥] ثم خاطب الحكام فقال: ﴿وَاللَّاتِي﴾ مبتدأ.
﴿يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ أي: الزنا.
﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ وخبرُ اللاتي:
﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ من المسلمين، وفيه بيانُ أن الزنا لا يثبتُ إلا بأربعةٍ من الشهودِ، بالاتفاق، فيسألُهم الحاكمُ عن ماهيته، وكيفيته، ومكانه، وزمانه، والمزنيِّ بها، فإن بينوه وقالوا: رأيناه وَطِئَها كالميلِ في المكحلةِ، وعُدِّلوا سرًّا وجهرًا، حكم به بالاتفاق، ويُشترط عند أبي حنيفةَ ومالكٍ حضورُهم للشهادة مجتمعين غيرَ مفترقين، فإن افترقوا في الشهادة، كانوا قَذَفَةً.
قال أبو حنيفة: إلا أن يكونَ في مجلسٍ واحدٍ في ساعةٍ واحدةٍ. وعندَ الشافعيِّ: تصحُّ شهادتهم متفرقين؛ كما في سائر الحقوق؛ لإطلاق الآية.
وعند أحمدَ: يشترط مجيئُهم في مجلس واحد، سواءٌ جاؤوا متفرقين، أو مجتمعين، فإن جاء بعضُهم بعدَ أن قام الحاكم، أو شهد ثلاثةٌ وامتنع الرابعُ، أو لم يكمِلْها، فهم قذفةٌ، وعليهم الحد.
﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ عليهنَّ بالزنا.
﴿فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ أي: ملائكةُ الموت (١).
﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ طريقًا في النكاح المغني عن السفاح، ثم نُسخ ذلك بنزول الحدِّ، وهو في حقِّ البِكْر جَلْدُ مئةٍ، وفي حَقِّ الثيِّبِ الجلدُ، والرجمُ، ثم نُسخ الجلدُ، وبقي الرجمُ، واختلف الأئمةُ في تغريبِ البكرِ الحرِّ بعدَ الجلد، فقال أبو حنيفة: لا يُغرَّبُ إلا أن يرى الإمامُ ذلك مصلحةً، فيغربُه على قدرِ ما يرى، وقال مالك: يُغَرَّبُ الرجلُ دونَ المرأة وتغريبهُ أن ينفَى سنةً إلى غيرِ بلده، فيُحْبس فيه، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: يُجمع في حق الزانيينِ البكرينِ بينَ الجلدِ والتغريبِ سنةً إلى مسافةِ قصرٍ، وتُغَرَّبُ المرأةُ مع مَحْرَمٍ، فإن امتنعَ، لم يُجبر.
وأما ثبوتُ الزنا بالإقرار، فعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ لا يثبتُ حتى يقرَّ أربعَ مراتٍ، فأبو حنيفة يشترطُ أن يكونَ الإقرارُ في أربعةِ مجالسَ، وأحمدُ لا يشترطُ المجالس، فلو أقرَّ أربعًا في مجلس واحد، أو مجالسَ، ثبتَ عليه، وعندَ مالكٍ والشافعيِّ يثبتُ بإقراره مرةً واحدة، وإذا أقرَّ بالزنا ثم رجعَ عنه، قُبِلَ رجوعُه، وسقطَ الحدُّ عندَ الثلاثة، وقال مالكٌ: إن رجعَ بشبهةٍ يُعْذَرُ بها؛ كقوله: وطئتُ في نكاحٍ فاسدٍ ونحوِه، قُبِلَ وسقطَ عنه الحدُّ، وإن لم يرجعْ إلى شبهة، فعنه روايتان.
واختلفوا في اللوطيِّ، فقال أبو حنيفة: يُعَزَّرُ، ولا حدَّ عليه، خلافًا لصاحبيه، وقال مالكٌ: يجبُ على الفاعلِ والمفعولِ به الرجمُ، أحصنا أو لم يُحصنا، وعند الشافعيِّ وأحمدَ: حكمُه حكمُ الزاني على ما تقدَّم.
[١٦] ﴿وَاللَّذَانِ﴾ أي: الرجلُ والمرأةُ. قرأ ابنُ كثيرٍ: (وَاللَّذَانِّ) و (اللَّذَيْنِ) و (هَاذَانِ) و (هَاذَيْنِ): مشدَّدَةَ النونِ للتأكيد (١).
﴿يَأْتِيَانِهَا﴾ أي: الفاحشةَ.
﴿مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ عَيِّروهما باللسان. قال ابنُ عباسٍ: سُبُّوهُما، وقال: يُؤْذَى بالتعييرِ وضَرْبِ النِّعِال (٢)، ذكر في الأولى الحبس، وهنا الإيذاء، قالوا: لأنَّ الأُولى في النساء، وهذه في الرجال.
﴿فَإِنْ تَابَا﴾ من الفاحشة.
﴿وَأَصْلَحَا﴾ العملَ.
﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ لا تُؤْذوهما ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾.
وهذا كلُّه قبلَ نزولِ الحدود، فَنُسِخَتْ بالجلدِ والرَّجْمِ، فالجلدُ في القرآن، قال الله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: ٢]، والرجمُ في السنةِ وردَ به الحديثُ الصحيحُ عن النبي - ﷺ - أنه قَضَى به، ويأتي الكلام على الجلد والرجم، وحكمُه، واختلافُ الأئمة فيه في أول سورة النور إن شاء الله تعالى.
(٢) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (٨/ ٢١١).
[١٧] ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ﴾ أي: قبولُ التوبةِ.
﴿عَلَى اللَّهِ﴾ أي: من الله.
﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ أي: جاهلين سفهًا. قالوا: وأجمعتِ (١) الصحابة أن كلَّ ما عُصِيَ اللهُ تعالى به فهو جهالةٌ، عَمْدًا كان أو سَهْوًا، وكلُّ من عصى الله فهو جاهلٌ.
﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ أي: زمان قريب قبلَ مرضِ موته، قال - ﷺ -: "إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" (٢).
﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ تأكيدًا لقوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ﴾.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ يعلمُ إخلاصَ التائب، ولا يعاقبهُ.
﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٨)﴾.
(٢) رواه الترمذي (٣٥٣٧)، كتاب: الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (٤٢٥٣)، كتاب: الزهد، باب: ذكر التوبة، والإمام أحمد في "المسند" (٢/ ١٣٢)، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ أي: وقعَ في النَّزْعِ.
﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ وهي حالةُ السوق؛ يعني: تسُاقُ رُوحُه، لا يُقبلُ من كافر إيمانٌ، ولا من عاصٍ توبةٌ.
﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ سَوَّى بينَ مُسَوِّفي التوبةِ إلى حضورِ الموت، وبينَ الكفار؛ تغليظًا.
﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا﴾ أي: هَيَّأْنا ﴿لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (١٩)﴾.
[١٩] كانوا في الجاهليةِ وفي أولِ الإسلام إذا ماتَ الرجلُ وله امرأةٌ، جاء ابنُه من غيرِها، أو قريبُهُ من عَصبَةٍ، فألقى ثوبَه عليها، وقال: أنا أحقُّ بها، ثم إن شاءَ تزوَّجَها بصداقِها الأولِ، وإن شاءَ زوَّجَها غيرَهُ وأخذَ صداقَها، وإن شاءَ عَضَلَها؛ لتفتديَ بما ورثَتْ من زوجِها، وكان الزوجُ أيضًا يُضارُّ زوجَتَهُ إِذا كَرِهَها لتفتديَ منه، فنزل:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ (١) قرأ حمزةُ،
﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ أي: لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساءَ، ولا أن تمنعوهنَّ عما يحلُّ لهنَّ.
﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ من الصَّداقِ وغيرِه.
﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ أي: لا تعضلوهن لعلَّة من العِلل إلا لعلَّةِ إتيانهنَّ بالفاحشة (٢)، وهي النشوزُ، أو الزنا. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ (مُبَيَّنَةٍ) بفتح الياء، والباقون: بكسرها (٣).
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بالإجمال في القول، والمبيت، والنفقة.
﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ المعنى: فإن كرهتموهنَّ، فاصبروا عليهنَّ، فلعلَّ كراهَتكم لهنَّ مع الصبرِ عليهنَّ يُحْدِثُ بينكم ولدًا صالحًا، أو ألفةً ومحبةً.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١١٩).
(٢) في "ن": "الفاحشة".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٣٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٩٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٨ - ٢٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٢٠).
[٢٠] ونزل فيمنْ كان إذا رأى امرأةً فأعجبَتْهُ، قذفَ التي تحتَهُ؛ ليستبدِلَها بها.
﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ وأرادَ بالزوجِ: الزوجةَ، ولم يكن من قبلِها نشوزٌ ولا فاحشةٌ.
﴿وَآتَيْتُمْ﴾ أعطيتم.
﴿إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ مالًا كثيرًا صَداقًا.
﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ﴾ أي: القنطار.
﴿شَيْئًا﴾ ثم بَشَّعَ الأخذَ فقال:
﴿أَتَأْخُذُونَهُ﴾ استفهامُ نهيٍ وتوبيخٍ.
﴿بُهْتَانًا﴾ هو أن يَبْهَتَها بأمرٍ قبيحٍ يقذِفُها به.
﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ تقديرُه: تُصيبون في أَخْذِه بهتانًا وإثمًا.
﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٢١)﴾.
[٢١] ثم استفهم منكرًا فقال: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ كناية عن الجِماع، والإفضاءُ: الوصول إلى الشيء من غير واسطة.
﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (٢٢)﴾.
[٢٢] ونزل نهيًا عن نكاحِ نساءِ الآباء ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناء منقطع، معناه: لكنْ ما قد سَلَفَ؛ أي: مضى في الجاهلية، فإنه معفوٌّ عنه. وتقدَّم اختلافُ القراء في حكم الهمزتين من كلمتين في سورة البقرة عند تفسير قوله: ﴿هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٣١]، وكذلك اختلافهم في قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في الموضعين، ﴿مِنَ السَّمَاءِ إِن﴾ [الشعراء: ١٨٧] و ﴿أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ﴾ [سبأ: ٤٠] وشبهه حيثُ وقعَ.
﴿إِنَّهُ﴾ أي: نكاحَ زوجةِ الأبِ.
﴿كَانَ فَاحِشَةً﴾ أقبحَ المعاصي.
﴿وَمَقْتًا﴾ أي: بغضًا؛ لأنه يووِثُ بغضَ الله تعالى، والمقتُ: أشدُّ البغضِ، وكانوا يسمونه: نكاحَ المقتِ، وإذا وُلد لرجلٍ من امرأةِ أبيهِ يقالُ للمولود: المَقْتِيُّ.
﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ قَبُحَ طريقًا، فتحرُمُ زوجةُ الأبِ على ابنِه بمجرَّدِ العَقْد، بالاتقاق.
[٢٣] ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ أي: نكاحُهن؛ لقوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ [النساء: ٢٢]، وهي جمعُ أُمٍّ (١)، فيدخل فيهنَّ الجدَّاتُ من قِبَلِ الأمِّ والأبِ وإنْ عَلَوْنَ.
﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ جمعُ بِنْتٍ، فيدخل فيهنَّ بناتُ الأولادِ وإن سَفُلْنَ.
﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ جمعُ أختٍ، سواءٌ كانت من قِبَلِ الأبِ والأمِّ، أو من قبل أحدِهما.
﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾ جمعُ عَمَّةٍ، فيدخل فيهنَّ أخواتُ الآباء والأجداد وإن علونَ.
﴿وَخَالَاتُكُمْ﴾ جمعُ خالَةٍ، فيدخل فيهنَّ جميعُ أخواتِ الأمهاتِ والجدَّاتِ.
﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ يدخلُ فيهنَّ بناتُ أولادِ الأخِ والأختِ وإن
﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ فكلُّ مَنْ عقدَ النكاحَ على امرأةٍ حرمَتْ عليه أمهاتُها وجدّاتُها من الرضاعِ والنسبِ بنفسِ العقدِ بالاتفاق.
﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾ جمع رَبيبة، وهي بنتُ المرأة؛ لأن زوجَ الأمِّ يُرَبِّيها غالبًا.
﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ جمعُ حِجْرٍ، والمرادُ: البيوتُ؛ لأنها بمثابة الولد في التربية غالبًا.
(٢) في "ن": "ترضع".
(٣) في "ن": "يثبت".
﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ في نكاح بناتِهِنَّ إذا فارقتموهُنَّ، أو مُتْنَ فلا تحرمُ الربيبةُ عليه إلا بالدخولِ بأُمِّها بالاتفاق.
﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ جمعُ حليلةٍ، والذَّكَرُ حليلٌ؛ لأن كلَّ واحدٍ حلالٌ لصاحبه، يعني: أزواجُ أبنائكم.
﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ أي: ظهوركم، فتحرمُ زوجةُ الابنِ على أبيه بمجرَّدِ العقدِ بالاتفاق، وقولُه: ﴿مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ ليعلم أن حليلةَ المتبنَّى لا تحرُمُ على الذي تبناه بالاتفاق؛ لأن النبي - ﷺ - تزوَّجَ امرأةَ زيدٍ، وكان قد تَبَنَّاه، وكلُّ امرأةٍ تحرمُ بعقدِ النكاح فتحرمُ بالوطءِ في ملكِ اليمين، والوطءِ بشبهةِ النكاح، فيحرُمُ على الواطئ أمُّ الموطوءة وابنتُها، وتحرُمُ الموطوءةُ على أبي الواطئ وابنِهِ بالاتفاق.
واختلفَ الأئمةُ في إثباتِ تحريمِ المصاهرةِ بالزنا المحرَّمِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: يثبتُ تحريمُ المصاهرةِ، فلا يحلُّ للرجلِ أن يتزوجَ امرأةً زنى بها ابنُه، أو أبوه، وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا يثبتُ التحريمُ.
واختلفوا في إثباتِ التحريمِ باللِّواطِ، فقال الثلاثةُ: لا يثبتُ التحريمُ، وقال أحمد: يثبته، فمن تَلَوَّطَ بغلامٍ، حرمَ على كلِّ واحدٍ منهما أمُّ الآخرِ وابنتُه.
واختلفوا في المخلوقة من ماءِ الزنا، هل يجوزُ لمن خُلقت من مائِه أنْ يتزوَّجَها؟ فقال الشافعي: يجوزُ، وقال الثلاثة: لا يجوز.
﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا﴾ أي: وحرم عليكم الجمعُ.
واختلفَ الأئمةُ هل يجوزُ للرجلِ أن يتزوَّجَ امرأةً والرابعةُ من نسائِه في عِدَّتِهِ من طلاقٍ بائنٍ، أو يتزوَّجَ الأختَ وأختُها في عِدَّته من طلاقٍ بائنٍ، أو يتزوَّجَ بكلِّ واحدةٍ ممن يحرُمُ عليه الجمعُ بينها وبينَ الثانيةِ وهي في العِدَّة، فقالَ مالكٌ والشافعيُّ: يجوز، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا يجوزُ.
وأما إذا كان الطلاقُ رجعيًّا، فلا يجوزُ باتفاقهم، وكذلك لو ملكَ أُختين لا يجوز له أن يجمعَ بينَهما في الوطء، فإذا وَطِىَ إحداهُما، لم يحلَّ له وطءُ الأخرى حتى يحرِّمَ الأولى على نفسِه بإخراجٍ عن ملكِه، أو تزويجٍ، بالاتفاق.
﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناءٌ منقطعٌ؛ أي: لكنْ ما مضى في الجاهلية، فإنه معفوٌّ عنه؛ لأنهم كانوا يفعلونه.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
[٢٤] ونزلَ في نساءٍ كُنَّ يُهاجرْنَ إلى رسولِ الله - ﷺ - ولهنَّ أزواجٌ، فيتزوَّجُهُنَّ بعضُ المسلمين، ثم يقدُمُ أزواجُهُنَّ مُهاجرينَ: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ عطفٌ على ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ﴾ يعني: الحرائرَ المزوَّجاتِ؛ لأن الزوجَ قد أحصنَهُنَّ، لا يحلُّ للغيرِ نكاحُهن قبلَ مفارقةِ الأزواجِ، ثم استثنى فقال:
﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني: السبايا اللواتي سُبين ولهنَّ أزواجٌ في دار الحرب، فيحلُّ لمالِكِهِنَّ وَطْؤُهُنَّ بعد الاستبراء؛ لأن بالسبي يرتفعُ النكاح بينَها وبينَ زوجها، بالاتفاق، وتقدَّم التنبيهُ على اختلافِ القراء في قوله: ﴿النِّسَاءِ إِلَّا﴾ عند قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢].
﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ مصدرٌ مؤكِّدٌ؛ أي: كتبَ اللهُ ما حَرَّمَ عليكم كِتابًا، وفَرَضَهُ فَرْضًا.
﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ، وخلفٌ: (وَأُحِلَّ) بضم الألف وكسر الحاء؛ لقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾، وقرأ الباقون: بالنصب (١)؛ يعني: أَحَلَّ اللهُ لكم.
﴿أَنْ تَبْتَغُوا﴾ أي: تطلبوا النساءَ.
﴿بِأَمْوَالِكُمْ﴾ أي: تنكحوا بصداقِكم، أو تشتروا بثمنٍ.
﴿مُحْصِنِينَ﴾ متزوِّجينَ، وأصلُ الإحصانِ: الحفظُ، والمرادُ هنا: العِفَّةُ عن الوقوعِ في الحرامِ.
﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ أي: زانِينَ، مأخوذٌ من سفحَ الماءَ وصَبَّهُ، وهو المنيُّ.
﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ﴾ أي: فالذي انتفعتم به من النساء بالنكاح الصحيح.
﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ أي: مهورهُنَّ على الاستمتاع.
﴿فَرِيضَةً﴾ نصب على المصدر في موضع الحال.
﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ﴾ بأن تهبَ المرأةُ جميعَ مهرِها أو بعضَه لزوجِها، أو يزيدُها الزوجُ على أكثرَ منه.
﴿مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ﴾ المفروضةِ للزوجةِ.
واختلف الأئمة في الزيادة على الصَّداق المسمَّى بعدَ العقد، فقال أحمد: حكمُها حكمُ الأصل، تلحق به فيما يقرره وينصفه، وتُملك من حينها، واستدلَّ بهذه الآية، وقال أبو حنيفة: هي ثابتة إن دخل بها، أو مات عنها، فإن طلَّقها قبلَ الدخول، أو ماتتْ هي قبلَ الدخول والقبضِ، سقطت، وخالفه أبو يوسفَ، فقال كقول أحمد، وقال مالك: تستقرُّ بالدخول، وتتشطَّر بالطلاق قبلَه، فإن مات أحدُهما قبل القبض، سقطت؛
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فيما شرعَ من الأحكام. وأما تقديرُ الصَّداق فلا حدَّ لأكثره؛ لقوله تعالى: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء: ٢٠]، وكان صداق أزواج النبيِّ - ﷺ - خمسَ مئة درهمٍ، وبناتِه أربعَ مئةٍ، فيسنُّ أن يكونَ من أربعِ مئةٍ إلى خمسِ مئةٍ، وإن زادَه، فلا بأسَ، وإِن النجاشي أصدقَ أُمَّ حبيبةَ بنتَ أبي سفيانَ عن النبيِّ - ﷺ - أربعَ مئةِ دينارٍ.
واختلفَ الأئمةُ في أقلِّه، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: لا حدَّ لأقلِّه، فكلُّ ما جاز أن يكونَ ثمنًا، جاز أن يكون صَداقًا، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: يتقدَّرُ بنصاب السرقة، واختلفا في قدره، فعندَ أبي حنيفةَ: عشرةُ دراهمَ، أو ما قيمتُه عشرةُ دراهمَ، وعند مالكٍ: ربعُ دينار من الذهب، أو ثلاثةُ دراهمَ من الوَرِق، أو عرضٌ يساوي أحدَهما.
واختلفوا في تعليم القرآن هل يجوز أن يكون صَداقًا؟ فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا يجوزُ، وقال مالكٌ والشافعيُّ: يجوزُ.
واختلفوا في منافعِ الحر، فقال أبو حنيفة: لا يجوز أن تكونَ صداقًا، وقال الثلاثة: يجوزُ، إلا أن مالكًا يكرهُه.
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
[٢٥] ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا﴾ فضلًا وسَعَةً.
﴿أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ الحرائرَ.
﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾ قرأ الكسائيُّ (المُحْصِنَاتِ) و (مُحْصِنَاتٍ) بكسر الصاد حيثُ وقع، سوى (وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) في هذه السورة، وقرأ الباقون: بفتح جميعها، فالقراءة بكسر الصاد؛ أي: أَحْصَنَّ أنفسَهُنَّ بالحريَّة، وبالفتح؛ أي: أحصنَهُنَّ غيرهن من زوجٍ أو وليٍّ (١).
﴿فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ﴾ إمائِكم.
﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾ المعنى: من لم يجدْ طولَ حرةٍ، فليتزوج أمةً مؤمنةً، وفيه دليل على أنه لا يجوز للحرِّ نكاحُ الأمةِ إلا بشرطين:
أحدُهما: ألَّا يجد طَوْلًا لنكاح حرة.
والثاني: أن يخاف على نفسِهِ العَنَتَ، وهو الزنا؛ لقوله تعالى في آخر الآية: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ﴾ وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ.
وجَوَّزَ أبو حنيفةَ للحرِّ نكاحَ الأمة، إلا أن يكونَ في نكاحه أو عِدَّتِهِ
﴿فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ وإليه ذهبَ الأئمةُ الثلاثة، وجَوَّزَ أبو حنيفةَ للمسلمِ نكاحَ الأمةِ الكتابيةِ، واتفقوا على إباحةِ وطئها بملكِ اليمين، وتقدَّمَ الحكمُ في نكاح الوثنيات والمجوسيات (١) وغيرِهنَّ من أنواعِ المشركات في سورة البقرة.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ﴾ فاكتفوا بظاهرِ الإيمان؛ فإنه العالمُ بالسرائرِ، والمرادُ: تأنيسُهُمْ بنكاح الإماء، ومنعُهم عن الاستنكاف منه، ثم نفى التفاخر فقال:
﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ كلكم ولدُ اَدمَ، ودينُكم الإسلام؛ أي: هنَّ مثلُكم.
﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ أي: مَواليهِنَّ.
﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ مهورهُنَّ.
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ من غيرِ مطْلٍ.
﴿مُحْصَنَاتٍ﴾ عفائفَ بالنكاحِ.
﴿غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ﴾ أي: زانياتٍ جهرًا.
﴿وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ أي: أحبابٍ يزنون بهنَّ في السرِّ.
﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ﴾ أي: زُوِّجْنَ. وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ،
﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ﴾ أي: زَنَيْنَ.
﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ﴾ الحرائرِ الأبكارِ إذا زنينَ.
﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي: الحدِّ، فيُجلد الرقيقُ خمسينَ جلدة ولو لم يكنْ تزوَّجَ، ذكرًا كان أو أنثى، ولا يُرجَمُ بالاتفاق، وهل يُغَرَّبُ؟ قال الشافعي: يغرَّبُ نصفَ سنةٍ، وقال الثلاثة: لا يغرَّبُ. فإن كان بعضُه حرًّا، فقال أحمد: يجلَدُ ويغرَّبُ بحسابه.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: نكاح الأمة.
﴿لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ﴾ أي: الزنا.
﴿مِنْكُمْ﴾ بغلبةِ الشهوةِ، وأصلُ العَنَتِ: الضيقُ والمشقَّةُ.
﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ عن النساء متعفِّفينَ.
﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من نكاحِ الإماء؛ لئلا يخلقَ الولدُ رقيقًا.
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن رَخَّصَ له.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿يريِدُ اَللَّهُ﴾ بما شرعَ من التحليل والتحريم.
﴿وَيَهْدِيَكُمْ﴾ يُرشدَكم.
﴿سُنَنَ﴾ شرائعَ.
﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من الأنبياء في تحريم الأمهاتِ والبناتِ والأخواتِ، فإنها كانت محرمةً على مَنْ قبلكم.
﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ يُوفِّقَكم للتوبة، ويتجاوزَ عنكم إن تبتم.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بمصالح عباده.
﴿حَكِيمٌ﴾ فيما دَبَّرَ من أمورهم.
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ إن وقع منكم تقصيرٌ.
﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ﴾ هم الزُّناةُ والكفارُ.
﴿أَنْ تَمِيلُوا﴾ عن الحقِّ.
﴿مَيْلًا عَظِيمًا﴾ بإتيانِكم ما حُرِّمَ عليكم.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ بنكاحِ الإماءِ واتِّبَاع الشريعةِ السمحةِ السهلةِ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ أي: الحرامِ؛ كالقمارِ والسرقةِ ونحوِهما.
﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ استثناءٌ منقطعٌ، ولكنْ تكونُ تجارةً عن تراضٍ منكم غير منهي عنه. قرأ عاصمٌ وحمزةُ والكسائيُّ وخلفٌ: (تِجَارَةً) بالنصب على خبر كان؛ أي: إلا أن تكونَ الأموالُ تجارةً، وقرأ الباقون: بالرفع؛ أي: إلا أن تقعَ تجارة عن تراضٍ منكم؛ أي: بطيبةِ (١) نفسِ كلِّ واحدٍ منكم (٢)، ورُوي عن قنبلٍ، ويعقوبَ: الوقفُ بالياء على (تَرَاضِي)، والتراضي عندَ الشافعيِّ وأحمدَ: الافتراقُ عن مجلسِ البيعِ بتمامِه، فلكلِّ واحدٍ منهما الخيارُ ما داما في المجلس، وعند أبي حنيفةَ ومالكٍ: هو رضا المتبايعين بما تعاقدا عليه، فإذا وجبَ البيعُ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢١٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥١١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٩)، و "معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٢٦).
﴿وَلَا تَقْتُلُوا﴾ أي: لا (١) تهلكوا.
﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ بأكل الأموالِ بالباطل.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ يا أمةَ محمدٍ.
﴿رَحِيمًا﴾ لِما أمرَ بني إسرائيل بقتلِ الأنفس، ونهاكم عنه.
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أي: ما حُرِّمَ قبلُ.
﴿عُدْوَانًا﴾ تجاوزًا للحد.
﴿وَظُلْمًا﴾ وهو وضعُ الشيءِ في غيرِ محلِّه.
﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ﴾ أي: نُدخله.
﴿نَارًا﴾ ليحترقَ.
﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ لا عسرَ فيه.
﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)﴾.
﴿نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ نغفرْ لكم صغائركم.
﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ هو الجنةُ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (مَدْخَلًا) بفتح الميم، وهو موضعُ الدخول، وقرأ الباقون: بالضم، بمعنى: الإدخال (٣).
﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٢)﴾.
[٣٢] ونزل نهيًا عن التحاسُد: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٥/ ٤١)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٣/ ٩٣٤).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٣٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥١٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٢٨)، وذُكر في "المعجم" أنَّ قراءة "قدْ خلا" قرأ بها -أيضًا- أبو بكر وعاصم.
﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ فلا يعاقَبُ أحدٌ إلا بعمله، ولا يُجازى أحد (١) إلا به، فنهى الله عن التمني؛ لما فيه من دواعي الحسد.
﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي: رزقه. قرأ ابن كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَسَلُوا الله) و (سَلْهُمْ) (فَسَلِ الَّذِينَ) وشبهَه إذا كان أمرًا مواجَهًا به، وقبلَ السينِ واو أو فاء: بغير همزٍ، ونقل حركة الهمز إلى السين، والباقون: بسكون السين مهموزًا (٢).
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ فهو يعلمُ ما يستحقُّه كلُّ إنسانٍ فيفضِّلُ عن علمٍ وتبيان. يسكتُ حمزةُ في (شَيْءٌ) و (شَيْءٍ) و (شَيْئًا) حيثُ وقعَ.
﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَلِكُلٍّ﴾ أي: لكلِّ مالٍ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٣٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥١٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٢٨).
﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ أي: ولكلِّ تركةٍ جعلنا ورّاثًا يلونها ويحرزونها.
﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي: عاهدت أيديكم. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (عَقَدَتْ) بغير ألف (١)؛ أي: عقدَتْ لهم أيمانكم، والمعاقدةُ: المحالفة، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يتحالفون، فيكون للحليف السدسُ من مال الحليف، وكان ذلك ثابتًا في ابتداء الإسلام، فذلك قوله تعالى:
﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ أي: حظَّهم من الميراث، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦].
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ أي: عالمًا، وهو تهديدٌ على من منعَ نصيبهم.
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (٣٤)﴾.
﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ﴾ بتفضيلِ اللهِ.
﴿بَعْضَهُمْ﴾ أي: الرجالَ.
﴿عَلَى بَعْضٍ﴾ على النساء؛ بكمالِ العقل، وحسنِ التدبير، ومزيدِ القوة في الأعمال والطاعات.
﴿وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ في نكاحهنَّ؛ كالمهر والنفقة.
روي أن سعدَ بنَ الربيعِ أحدَ نُقباءِ الأنصار نَشَزَتْ عليه امرأتُه حبيبةُ بنتُ زيدِ بنِ أبي زهير، فلطمَها، فانطلقَ بها أبوها إلى رسول الله - ﷺ -، فشكا، فقالَ رسولُ الله - ﷺ -: "لِيُقْتَصَّ مِنْهُ"، فنزلت، فقال: "أَرَدْنَا أَمْرًا، وَأَرَادَ اللهُ أَمْرًا، وَالَّذِي أَرَادَ اللهُ خَيْرٌ" (١).
وعنه - ﷺ - أنه قال: "لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا" (٢).
(٢) رواه الترمذي (١١٥٩)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وقال: حسن غريب. ورواه ابن ماجه (١٨٥٢)، كتاب: النكاح، باب: حق الزوج على المرأة، عن عائشة -رضي الله عنها-.
﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ أي: لفروجهنَّ وأموالِ أزواجهنَّ في غَيْبَتِهم.
﴿بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ أي: بحفظِه. قرأ أبو جعفرٍ (بِمَا حَفِظَ الله} بالنصب؛ أي: بحفظهنَّ اللهَ في الطاعة، وقراءةُ العامة بالرفعِ (١).
﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ عِصيانهنَّ، وأصلُ النشوزِ: التكبُّرُ والارتفاعُ.
﴿فَعِظُوهُنَّ﴾ بالتخويفِ من الله.
﴿وَاهْجُرُوهُنَّ﴾ اجتنبوهنَّ.
﴿فِي الْمَضَاجِعِ﴾ المراقدِ، والمرادُ: المجامعة.
﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ إن لم يرجعْنَ ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ، أي: شديد.
﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾ لا تطلبوا عليهنَّ طريقًا بالتوبيخِ والإيذاءِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ فاحذَروه؛ فإنه أقدرُ عليكم منكم على مَنْ تحتَ أيديكم.
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ خلافًا بينَ المرأةِ وزوجِها.
﴿حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [الحَكَمُ: القَيِّمُ بما يُسْنَدُ إليه، وخُصَّ الحكمُ بالأهل؛ لأن الأقارب أَعْرَفُ بأغراضِ] (١) أقاربهم، وأنصحُ لهم، وهذا على وجهِ الاستحباب، فلو نُصبا من الأجانب، جاز.
﴿إِنْ يُرِيدَا﴾ يعني: الحكمينِ.
﴿إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ بينَ الزوجينِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ بالظواهرِ والبواطنِ.
وهل يجوزُ بعثُ الحكمينِ بغير رِضا الزوجين؟ قال أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ: لا يجوز إلا برضاهما، فليس لحكمِ الزوجِ أن يطلِّقَ إلا بإذنه، ولا لحكمِ الزوجة أن يختلعَ على مالِها إلَّا بإذنِها، وقال مالك: يجوزُ بغيرِ رِضاهما؛ كالحاكمِ يحكمُ بين الخصمينِ، وإن لم يكنْ على وفْقِ مُرادِهما، فيطلِّقُ حكمُ الزوجِ بغير إذنِه، ويختلعُ حكمُ الزوجةِ بغير إذنها.
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وَحِّدوهُ، والعبادةُ هي الطاعةُ عندَ الشافعيةِ والمالكيةِ والحنابلةِ، وعند الحنفية بشرطِ الأمر.
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ بِرًّا بهما، وعَطْفًا عليهما.
﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ أي: أَحْسِنوا بذي القربى.
﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ أي: ذي القرابةِ.
﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ القريبِ المنزلِ منك. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (القُرْبَى واليَتَامَى) بالإمالة، وقرأ ورشٌ، والدوريُّ عن الكسائيِّ: (وَالْجَارِ) بالإمالة، بخلافٍ عن ورشٍ (١).
﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ هي الزوجةُ، أو الرفيقُ في السفر. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ: (وَالصَّاحِب بالْجَنْبِ) بإدغام الباء الأولى في الثانية (٢).
﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هو الضيفُ في قولِ الأكثر، وقيل: المسافر.
﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم﴾ من الرقيقِ، أحسنوا إلى جميع المذكورين تُثابوا.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ تَيَّاهًا متكبرًا.
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٣١).
[٣٧] ونزلَ في اليهودِ، وهم: حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ وأصحابُه حيثُ كانوا يبخلونَ، ويأمرون الصحابةَ بالبخل.
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ بما مُنِحُوا به.
﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ به، قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (بِالْبَخَلِ) بفتح الباء والخاء (١)، والبخلُ في كلام العربِ: منعُ السائل من فضلِ ما لديه، وفي الشرعِ: منعُ الواجب.
﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ من صفةِ النبيِّ - ﷺ -، أو العلم.
﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ شديدًا يُهانون به.
﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ أي: مُرائينَ، عطفٌ على ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ قرأ أبو جعفرٍ: (رِيَا النَّاسِ) بفتح الياء بغيرِ همزٍ (٢).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٣٣).
﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا﴾ صاحِبًا وخَليلًا.
﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾ المعنى: فبئسَ الشيطانُ صاحبًا؛ لأنه هو حملَهم على البُخل والرياء وكلِّ شرّ.
﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ استفهامُ توبيخٍ؛ أي: وما الذي عليهم.
﴿لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: يوم القيامة.
﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ تلخيصُه: لو آمنوا واتقوا، لم يضرَّهم ذلك.
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ وعيدٌ لهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ أي: وزنَ ذَرَّةٍ، والذَّرَّةُ: هي النملةُ الحمراءُ الصغيرةُ.
﴿وَإِن تَكُ﴾ مثقال ذرةٍ.
﴿حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ اللهُ، يجعلها أضعافًا كثيرة. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ،
﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ﴾ أي: من عندِه على سبيل التفضُّل.
﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ لا يقدِّرُ قدرَهُ غيرُ الله تعالى؛ لكثرتِهِ.
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)﴾.
[٤١] ﴿فَكَيْفَ﴾ يصنعُ الكفارُ.
﴿إِذَا جِئْنَا﴾ المعنى: كيف يصنعونَ وقتَ مجيئنا.
﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ عليها، وهو نبيُّها.
﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمدُ.
﴿عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ المذكورينَ.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ٢٠٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٣٤).
ولما بلغَ ابنُ مسعودٍ في قراءتِهِ على النبيِّ - ﷺ - من أولِ السورةِ إلى هنا، بكى، وقال: "حَسْبُكَ" (١).
﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي: يومَ القيامةِ.
﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ المعنى: يودُّون أن دُفنوا فَتُسَوَّى بهم الأرضُ كالموتى، وأصلُ التسويةِ: المعادلةُ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ (تَسَّوَى) بفتح التاء وتشديد السين على معنى: تَتَسَّوى، فأُدغمت التاءُ الثانية في السين، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بفتح التاء وتخفيف السين على حذف إحدى التاءين؛ كقوله: ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفسٌ إِلَّا بِإِذنِه﴾ [هود: ١٠٥] وقرؤوا بإِمالة الواو، وقرأ الباقون: بضم التاء وتخفيف السين على المجهول (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٣٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥٢٩)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٩٠ - ٣٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٣٤ - ١٣٥).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ أي: لا تصلوا ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ (سُكَارَى) بالإمالة، بخلافٍ عنه (١)، واتفقَ الأئمةُ على أن السكرانَ الذي يُمَيِّزُ مُكَلَّفٌ، وكذا من لا يميز عندَ الثلاثة، خلافًا لمالكٍ، والمراد: السكرُ من الخمرِ عندَ الأكثر.
سببُ نزولها: أن عبدَ الرحمنِ بن عوفٍ صنعَ طعامًا، وجمعَ عليه جماعةً من الصحابة، فأكلوا وشربوا الخمرَ قبلَ تحريِمها، فأخذَتْ منهم، فقدَّموا واحدًا منهم، فصلَّى بهم المغربَ، فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبدُ ما تعبدون، بحذفِ (لا) إلى آخرها، فصاروا يجتنبون السكرَ وقتَ الصلاة حتى نزلَ تحريمُ الخمر (٢).
(٢) رواه أبو داود (٣٦٧١)، كتاب: الأشربة، باب: في تحريم الخمر، والترمذي (٣٠٢٦)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النساء، وقال: حسن صحيح غريب، عن علي -رضي الله عنه-.
﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ مجتازي سبيلٍ.
﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ أي: لا تقربوا الصلاةَ في حالِ سكرٍ ولا جنابةٍ إلا في حالِ السفرِ عُبورًا في المسجدِ، وذلك إذا لم يجد الماء، وتيمم، وقيل معناهُ: لا تقربوا المسجدَ وأنتمْ جنبٌ إلا مجتازينَ فيه للخروجِ منه.
واختلفَ الأئمةُ فيه، فأباح الشافعيُّ وأحمدُ المرورَ فيه، ومنع منه أبو حنيفةَ ومالكٌ، وقال أبو حنيفةَ: إنِ احتاجَ إلى ذلك تَيَمَّمَ، ودخلَ، وأما اللبثُ فيه، فلا يجوزُ عند الثلاثة، وعندَ أحمد إذا توضأ جازَ له اللبثُ، فلو تعذَّرَ، واحتاجَ إليه، جازَ من غير تيممٍ، ويتيممُ لأجل لبثهِ للغسل.
وحكمُ الخلافِ في الحائضِ والنفساءِ كالجنبِ في ذلك، إلا أن الشافعيَّ لا يُبيح للحائض دخولَ المسجد إلا إذا أَمِنَتْ تلويثَهُ، وأحمدُ لا يبيح للحائض والنفساء اللبثَ فيه إذا توضَّأَتا إلا بعد انقطاعِ دَمِهما.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ مرضًا يضرُّهُ مَسُّ الماء، أو يُخشى منه زيادةُ الألم، أو تطاولُه.
واختلف الأئمة فيمن بعضُ بدنه صحيحٌ، والبعضُ جريحٌ، فقال أبو حنيفةَ: الاعتبارُ بالأكثر، فإن كان هو الصحيحَ، غسله فقط، وسقطَ حكم الجريح إلا أنه يُستحبُّ مسحُه، وإن كان الأكثرُ جريحًا، اقتصرَ على التيمم، وسقطَ الغسلُ، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: يغسلُ الصحيحَ، ويتيمم للجريح، وقال مالكٌ: يغسل الصحيحَ، ويمسح الجريحَ، ولا يتيمم.
﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ طويلًا كان السفرُ أو قضيرًا، فيتيمم عندَ فقدِ الماء،
﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ أي: الحَدَثِ، والغائِطُ: المكان (١) المُطْمَئِنُّ من الأرضِ، وكانت عادةُ العربِ إتيانَ الغائطِ للحدث، فكنى به عن الحدث. وتقدَّم اختلافُ القراء في حكم الهمزتين من كلمتين عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]، وكذلك اختلافهم في قوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ﴾.
﴿أوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (لَمَسْتُمْ) بغيرِ ألفٍ بعدَ اللام، وقرأ الباقون: بالألف (٢)، واللمسُ والملامسةُ واحدٌ، وهو عبارةٌ عن الجِماعِ عندَ بعضِهم، وقال بعضهم: هو التقاءُ البشرتين بِجماعٍ أو غيرِه.
واختلفَ الأئمةُ في نقضِ الوضوءِ بملاقاةِ بَشَرَتي الرجلِ والمرأةِ من غيرِ حائلٍ، فقال أبو حنيفةَ: لا ينتقضُ، وقال الشافعيُّ: ينتقضُ بلمسِ غيرِ المحارمِ، وقال مالكٌ وأحمدُ: إن كان اللمسُ بشهوةٍ، نقضَ، وإلَّا فلا.
وهل ينتقضُ وضوءُ الملموس؟ قال مالكٌ والشافعيُّ: حكمُه حكمُ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٣٤)، و"الكشف"، لمكي (١/ ٣٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٣٧).
﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ فلم تتمكَّنوا من استعمالِه إِذِ الممنوعُ عنه كالمفقودِ.
﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ اقصدوا.
﴿صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ ترابًا طاهِرًا، والتيمُّمُ من خصائصِ هذه الأمة، وهو مبيحٌ للمحدِثِ والجنبِ بالاتفاق.
واختلف الأئمةُ فيما يجوزُ به التيممُ، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: يجوز بسائر أنواعِ الأرضِ؛ من ترابِها وحجرِها ورملِها ومَدَرِها وحَصَائِها، وما ينطبعُ؛ كالنُّورَةِ والجِصِّ والزِّرْنيخِ وغيرِها من طبقاتِ الأرضِ، وقالا: الصعيدُ: وجهُ الأرض، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: لا يجوزُ التيمم إلا بترابٍ طهورٍ له غبارٌ يعلَقُ باليد، فإن خالطه ذو غبار؛ كالجصِّ ونحوه لم يجزِ التيممُ به.
﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ أي: فامسحوا وجوهَكم وأيديَكم منه.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ واختلفوا في صفةِ التيمُّمِ، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ: يضربُ بيديه على الصعيدِ ضربتين: إحداهما للوجهِ، والأخرى لليدين إلى المرفقين، والاستيعابُ شرطٌ، حتى يخلل أصابعَهُ، وقال أحمدُ: السنةُ في التيمُّمِ أن ينويَ، ثم يسمِّيَ، ويضربَ بيديه مُفَرَّجَتي الأصابعِ ضربةً واحدةً على التراب، فيمسحَ وجهَهُ بباطنِ أصابعه، وكَفَّيه براحتيهِ، وخالفه القاضي من أصحابه، فوافقَ الجماعةَ.
واتفقوا على أنه يجوزُ أن يصلِّي بتيمُّمٍ واحدٍ مع الفريضة ما شاء من النوافل، وأن يقرأَ القرآن إن كانَ جنبًا.
واختلفوا في طلبِ الماء هل هو شرط؟ فقال الثلاثة: هو شرطٌ، وقال أبو حنيفة: ليسَ بشرطٍ، فيجوزُ التيممُ قبلَ الطلب؛ لأنه عادمٌ حقيقة، إلا إذا غلب على ظنه أن بقربه ماءً، فلا يجوز ما لم يطلبْهُ.
واختلفوا فيمن عدمَ الماءَ والترابَ، فقال أحمد: يصلِّي، ولا إعادةَ عليه، وعن مالكٍ أربعُ روايات: إحداهنَّ كمذهب أحمدَ، والثانيةُ: لا يصلِّي حتى يجدَ الماءَ أو الصعيدَ، وهو مذهبُ أبي حنيفة، والثالثة: يصلِّي ويعيد، وهو مذهبُ الشافعي، والرابعة: لا يصلي، ولا إعادةَ عليه، وجزم به الشيخُ خليلٌ في "مختصره"، فقال: وتسقطُ صلاةٌ وقضاؤها بعدمِ ماءٍ وصعيدٍ (٢)، ونقل القرطبيُّ في "تفسيره" أن هذا الصحيحُ من مذهب مالك، ثم نَقَل عن أبي عمرَ بنِ عبدِ البرِّ إنكارَه (٣).
واتفقوا على أن النيةَ في التيمم واجبةُ.
واختلفوا في التسمية فيه، فقال أحمدُ: هي واجبةٌ، وتسقط سهوًا، وقال الثلاثةُ: هي غيرُ واجبةٍ.
(٢) انظر: "مختصر الشيخ خليل" (ص: ٢٠).
(٣) انظر: "تفسير القرطبي" (٥/ ٢٣٧).
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي: ألم يَنْتَهِ علمك.
﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ هم اليهودُ، أُعطوا حظًّا من التوراة.
﴿يَشْتَرُونَ﴾ يستبدِلون.
﴿الضَّلَالَةَ﴾ يعني: بالهدى.
﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ تُخْطِئُوا طريقَ السعادة أيُّها المؤمنون.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾ منكم.
﴿بِأَعْدَائِكُمْ﴾ فاحذَروهم.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا﴾ يلي أمرَكُمْ.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ يُعينكم.
[٤٦] ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ قومٌ.
﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ أي: يُميلونه.
﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ التي وضعَهُ الله فيها، وهو تغييرُهم صفةَ محمدٍ - ﷺ - في التوراة.
﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا﴾ قولَكَ ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أَمْرَكَ.
﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ أي: اسمعْ مِنَّا ولا نسمعُ منكَ، أي: غير (١) مُجابٍ إلى ما تدعو إليه.
﴿وَرَاعِنَا﴾ يريدون نسبتَهُ - ﷺ - إلى الرُّعونةِ.
﴿لَيًّا﴾ تحريفًا ﴿بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ استهزاءً به.
﴿وَطَعْنًا﴾ قَدْحًا.
﴿فِي الدِّينِ﴾ لأن قول راعِنا من المراعاة، وهم يحرِّفونه فيريدونَ الرُّعونةَ.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا﴾ بدلَ ذلكَ (٢).
(٢) في "ت": "بذلك".
﴿لَكَانَ﴾ ذلكَ القولُ.
﴿خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ أي: أعدلَ.
﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أي: خَذَلهم وأَبْعَدَهم.
﴿بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ منهم؛ كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِه.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٤٧)﴾.
[٤٧] ولما كَلَّمَ النبيّ - ﷺ - أحبارَ اليهود عبدَ اللهِ بنَ صوريا، وكعبَ بنَ أَسَدٍ، فقال: "يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ! اتَّقُوا اللهَ، وَأَسْلِمُوا، فَوَاللهِ إِنَّكمْ لَتَعْلَمُونَ إِنَّ الَّذِي جِئْتْكُمْ بِهِ لَحَقٌّ" قالوا: ما نعرفُ ذلك، وأَصَرُّوا على الكفرِ، فنزل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ (١) أي: القرآنِ.
﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أي: التوراةِ.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ فنجعَلَها كَخُفِّ البعيرِ بلا أَنْفٍ ولا عينٍ ولا حاجبٍ كالأقفاء، وهذا معنى:
﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ وأصلُ الطَّمْسِ: إزالةُ الأثرِ بالمحوِ. فإنْ قيلَ: قد أوعدَهُمُ اللهُ بالطَّمسِ إنْ لم يؤمنوا، ثم لم يؤمنوا، ولم يفعلْ بهم ذلك،
﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ فنجعلَهم قردةً وخنازيرً، وتقدَّمَ خبرُ أصحاب السبت في سورة البقرة عندَ تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [الآية: ٦٥].
﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ أي: قضاؤه.
﴿مَفْعُولًا﴾ نافِذًا.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨)﴾.
[٤٨] ولما أحبَّ وَحْشِيٌّ التوبةَ بعدَ قتله حمزة رضي الله عنه يومَ أحدُ، نزلَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ مع التوبةِ، فبعثَ بها رسولُ الله - ﷺ - إلى وحشيٍّ بمكَّةَ، فقالَ وحشيٌّ: لعلِّي مِمَّنْ لَمْ يَشَأِ اللهُ، فنزل: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ﴾ [الزمر: ٥٣]، فبعثَ بها إليه، فدخلَ في الإسلام، ورجعَ إلى النبي - ﷺ -، فقبلَ منه، ثم قال له: "أَخْبِرْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ" فلما أخبره، قال: "وَيْحَكَ غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي" (١) فلحقَ بالشام، فكانَ بها إلى أن ماتَ.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩)﴾.
[٤٩] ونزلَ فيمن زَكَّى نَفْسَه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ فأنكرَ ذلكَ عليهم بصيغةِ الإضرابِ فقالَ:
﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي﴾ أي: يطهِّرُ.
﴿مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ هو ما في شِقِّ النَّواةِ طُولًا.
﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾.
[٥٠] ﴿انْظُرْ﴾ يا محمدُ.
﴿كَيْفَ يَفْتَرُونَ﴾ يختلقون.
﴿عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ بتغييرهم كتابَهُ.
﴿وَكَفَى بِهِ﴾ أي: بالكذب.
﴿إِثْمًا مُبِينًا﴾ لا يخفى كونُه مأثمًا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ،
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١)﴾.
[٥١] ولما خرج حُيَيُّ بنُ أخطبَ مع أصحابِه إلى قرُيش ليحالفَهم على النبيِّ - ﷺ -، فقالوا: لا نفعلُ حتى تسجُدوا لِصَنَمينا، فسجدوا، فنزل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ (١) هما الصنمانِ المذكوران.
﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهم قريشٌ.
﴿هَؤُلَاءِ﴾ يعنون: أبا سفيانَ وأصحابَه.
﴿أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعنون: محمدًا - ﷺ - وأصحابَه.
﴿سَبِيلًا﴾ دينًا. وتقدَّمَ اختلافُ القُرَّاء في حكمِ الهمزتينِ من كلمتينِ في سورة البقرة عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٥]، وكذلك اختلافَهم في قوله: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى﴾.
[٥٢] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢)﴾ يمنعُ العذابَ عنه.
﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿أَمْ لَهُمْ﴾ يعني: أَلَهُمْ ﴿نَصِيبٌ﴾ أي: حَظٌّ.
﴿مِنَ الْمُلْكِ﴾ وهذا على وجهِ الإنكار، يعني: ليسَ لهم من الملكِ شيءٌ، ولو كانَ لهم حظٌّ مما يُمْلَكُ ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ﴾ أي: أحدًا منهم.
﴿نَقِيرًا﴾ لحسدِهِمْ وبخلِهم، والنقيرُ: هو النقطةُ التي تكونُ على ظهرِ النواةِ، ومنها تنبتُ النخلة، ويأتي تفسيرُ القِطْمير في سورةِ فاطر -إن شاء الله تعالى-.
﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ﴾ أي: اليهودُ.
﴿النَّاسَ﴾ العربَ، والنبيَّ - ﷺ -.
﴿عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ من النبوةِ والإسلامِ والتقدُّمِ عليهم، فقال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ داودَ وسليمانَ ﴿الْكِتَابَ﴾ المنزلَ عليهما.
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ النبوة.
﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ فلا يبعدُ أن يؤتي اللهُ محمدًا مثلَ ما آتاهم.
[٥٥] ﴿فَمِنْهُمْ﴾ أي: اليهودِ.
﴿مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ بمحمدٍ - ﷺ -، وهم عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ وأصحابُه.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ﴾ أي: أعرض.
﴿عَنْهُ﴾ ولم يؤمنْ به.
﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي: نارًا مُسَعَّرَةً يُعَذَّبون بها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ﴾ نُدْخِلُهم.
﴿نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ﴾ احترقَتْ.
﴿جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ بأنْ يعُاد ذلكَ الجلدُ بعينِهِ على صورةٍ أخرى. قرأ ابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وأبو جعفرِ، ويعقوبُ، وقالونُ، وورشٌ من طريقِ الأصبهانيِّ، وابنُ عامرٍ: (نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) بإظهارِ التاءِ عندَ الجيم، والباقون: بالإدغام (١).
﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ أي: ليدومَ بهم ذوقُه.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا﴾ شديدَ النِّقْمَةِ.
عنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنه قالَ: قُرِئ عندَ عمرَ قولُه تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، فقال معاذٌ: عندي تفسيرُها: تبُدَّلُ في كلَّ ساعةٍ مئةَ مرة، فقال عمر: هكذا سمعتُها من رسولِ الله - ﷺ - (١).
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ مبتدأ، خبرُه ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ من الأقذارِ.
﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ كثيفًا، لا تنسخُهُ الشمسُ، ولا يُؤْذيهم بردٌ ولا حر. قرأ أبو عمرٍو: (الصَّالِحَات سنُدْخِلُهُمْ) بإدغام التاء في السين.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ قرأ أبو عمرٍو: ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ باختلاسِ الحركةِ من طريقِ البغداديين، ورُوي عنهُ من طريق
﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ أي: بالقسط.
﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا﴾ أي: نعمَ الشيءُ الذي.
﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ وتقدَّمَ اختلافُ القراء في (نِعِمَّا) في سورةِ البقرة عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾ [البقرة: ٢٧١].
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.
قال - ﷺ -: "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٩٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٤١).
(٣) في "ت": "سادان".
(٤) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٨٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥٥٠)، و"العجاب" لابن حجر (٢/ ٨٩٣).
وقال - ﷺ -: "عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَأَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارِ، فَأَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي، فَالشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكُ لَمْ يَشْغَلْهُ رِقُّ الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَفَقِيرٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، وَالثَّلاَثة الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَأَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لاَ يُؤَدِّي حَقَّ اللهِ مِنْ مَالِهِ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ" أخرجه الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه (٢).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ﴾ أي: الولاة.
﴿مِنْكُمْ﴾ إذا أمروا بطاعةِ اللهِ.
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ﴾ اختلفتم أنتم وأمراءُ العدلِ.
﴿فِي شَيْءٍ﴾ من أمرِ دينِكم، والتنازُعُ: اختلافُ الآراءَ.
﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ﴾ إلى كتابِه.
(٢) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٢/ ٤٢٥)، وابن خزيمة في "صحيحه" (٢٢٤٩) وابن حبان في "صحيحه" (٤٦٥٦)، وغيرهم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ﴾ أي: الردُّ إلى الكتابِ والسنَّةِ.
﴿خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ مآلًا وعاقبةً.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ هو كعبُ بنُ الأشرفِ، سُمِّيَ به؛ لإفراطِه في الطغيانِ.
﴿وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ أي: بالطاغوت.
﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ لا غايةَ له، فلا يهتدون.
نزلت في بشر المنافقِ ويهوديٍّ كان بينَهما حكومةٌ، فطلبَ المنافقُ الحكومةَ إلى ابنِ الأشرفِ، فطلبَ اليهوديُّ الحكومةَ إلى النبيِّ - ﷺ -، فحكم - ﷺ - على المنافقِ، فلم يرضَ، فأتيا عمرَ رضي الله عنه، فقال اليهوديُّ: إن النبيَّ حكمَ لي، فلم يرضَ، قال عمرُ للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقتله عمرُ، فقال: هكذا أفعلُ بمن لم يرضَ بقضاءِ اللهِ وقضاءِ رسوله، فنزلت الآيةُ، وقال جبريل عليه السلام: "إن عمرَ فرقَ بينَ الحقِّ والباطلِ"، فسمِّي الفاروقَ (١).
[٦١] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ للتحاكُم.
﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ أي: يُعرضون عنك إعراضًا. قرأ الكسائيُّ، وهشامٌ، ورُويس: (قِيلَ) بإشمِام القافِ الضمَّ (١).
﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿فَكَيْفَ﴾ يكونُ حالُهم.
﴿إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ من قتلِ عمرَ للمنافق.
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من التحاكُم إلى غيرِك، واتهامِكَ في الحكم.
﴿ثُمَّ جَاءُوكَ﴾ أي: يجيئونك يطلبونَ ديةَ المقتول، ثم:
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا﴾ بالمحاكمة إلى عمرَ.
﴿إِلَّا إِحْسَانًا﴾ في القولِ.
﴿وَتَوْفِيقًا﴾ بين الخصمين، ولم نردْ مخالفتَكَ.
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٤٢).
[٦٣] ثم أومأَ تعالى إلى كذبِهم بقولِه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ من النفاق.
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ لا تعاقِبْهم.
﴿وَعِظْهُمْ﴾ بينَ الناسِ ليتوبوا.
﴿وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: في الخلاء.
﴿قَوْلًا بَلِيغًا﴾ يبلغ منهم ويؤثر فيهم، وهو التخويف بالله تعالى، وتوعدهم بالقتل إن لم يؤمنوا.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ يعني: بتيسيره وقضائِه؛ أي: وما أرسلْنا رسولًا قَطُّ إلا لِيُطاع، وبطاعِتِه يُطاعُ اللهُ.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بالتحاكُم إلى الطاغوت.
﴿جَاءُوكَ﴾ معتذرينَ.
﴿فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ﴾ من نفاقِهم.
﴿وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ يقبلُ توبةَ التائبينَ.
[٦٥] ﴿فَلَا وَرَبِّكَ﴾ أي: فَوَرَبِّكَ، و (لا) مزيدةٌ لتوكيدِ القسمِ.
﴿لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾ أي: يجعلوكَ حَكَمًا.
﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: اختلفَ، وأصلُ التشاجرِ: الاختلاط والتنازعُ.
﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا﴾ ضِيقًا.
﴿مِمَّا قَضَيْتَ﴾ أي: لا تضيقُ صدورُهم بحكمِك.
﴿وَيُسَلِّمُوا﴾ ينقادوا.
﴿تَسْلِيمًا﴾ بطيبِ نفسٍ.
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا﴾ أَوْجَبْنا.
﴿عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ كما قُتِل بنو إسرائيلَ.
﴿أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ كما أَمَرْنا بني إسرائيلَ بالخروجِ من مصرَ. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ: (أنِ اقْتُلُوا) بكسر النونِ على أصل التحريك، (أَوُ اخْرُجُوا) بضمِّ الواو للإتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو {وَلَا تَنْسَوُا
﴿مَا فَعَلُوهُ﴾ أي: المكتوبَ عليهم.
﴿إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ: (إِلَّا قَلِيلًا) بالنصبِ على أصلِ الاستثناء، وكذلك هو في مُصحفِ أهل الشام، وقرأ الباقون: بالرفع على ضمير الفاعل في قوله: (فعلوه) تقديره: إلا نفرٌ قليلٌ فعلوه (٢)، والقليلٌ جماعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: عمر، وعمارُ بنُ ياسر، وعبدُ الله بنُ مسعود، وثابتُ بنُ قيسٍ، قالوا: واللهِ لو أمرَنا محمدٌ بذلكَ، لفعلنا، فقال - ﷺ -: "إِنَّ مِنْ أُمَّتِي رِجَالًا، الإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي" (٣).
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ﴾ أي: ما يؤمرونَ به من طاعةِ الرسولِ.
﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ في عاجِلِهم وآجِلِهم ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ تحقيقًا لإيمانِهم.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٣٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥٥٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٤٣).
(٣) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (٥/ ١٦٠)، عن أبي إسحاق السبيعي. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٣/ ٩٩٥)، عن الحسن البصري.
[٦٧] ﴿وَإِذًا﴾ جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ تقديرُه: ماذا يكونُ لهم بعدَ التثبيت؟ فقال: وإذًا لو ثبتوا.
﴿لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا﴾ ثواب وافرًا؛ لأن (إذًا) جوابٌ وجزاء.
﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ وَفَّقْناهم لازديادِ الخيراتِ.
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩)﴾.
[٦٩] ونزلَ في ثوبانَ مولى رسولِ الله - ﷺ -، وكانَ شديدَ الحبِّ له حينَ قالَ للنبيِّ - ﷺ -: "إِنِّي أخشى أَلَّا أراكَ يومَ القيامةِ لِعُلُوِّ منزلتِكَ" (١):
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ﴾ في أداءِ الفرائضِ ﴿وَالرَّسُولَ﴾ في السُّنَنِ.
﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ أي: لا تفوتُهم رؤيةُ الأنبياءِ ومجالستُهم.
﴿وَالصِّدِّيقِينَ﴾ هم أفاضلُ الصحابةِ المبالِغينَ في الصِّدقِ.
﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ سائرِ الصحابةِ، واللفظُ يعمُّ كلَّ صالحٍ وشهيدٍ، والله أعلم. قال - ﷺ -: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (١).
﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ أي: ما أحسنَ أولئكَ رفقاءَ في الجنةِ بأن يُستمتَعَ فيها برؤيتِهم وزيارتِهم والحضورِ معهم، وإن كانَ مقرُّهم في درجاتٍ عاليةٍ بالنسبةِ إلى غيرِهم، ومن فضلِ الله تعالى على غيرِهم أنَّه قد رُزِقَ الرِّضا بحالِه، وذهبَ عنه أن يعتقدَ أنه مفضولٌ؛ انتفاءً للحسرةِ في الجنةِ التي تختلفُ المراتبُ فيها على قَدْرِ الأعمالِ، وعلى قدرِ فضلِ اللهِ على مَنْ يشاء.
﴿ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿ذَلِكَ﴾ إشارةٌ إِلى ما للمطيعينَ من الأجرِ.
﴿الْفَضْلُ﴾ صفتُهُ.
﴿مِنَ اللَّهِ﴾ خبرُهُ.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ بجزاءِ مَنْ أطاعَهُ، فإنَّهُ يعطيهم ما عَلِمَهُ لهم.
[٧١] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ أي: تَيَقَّظوا لعدوِّكم، والحِذْرُ والحَذَرُ واحدٌ، وهو الاحترازُ.
﴿فَانْفِرُوا﴾ فاخرُجوا.
﴿ثُبَاتٍ﴾ سرايا متفرِّقينَ.
﴿أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ كلُّكم مع نبيِّكم - ﷺ -، وأصلُ النَّفْرِ: الانزعاجُ من الشيءِ أو إلى الشيءِ.
﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ واللام في ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾ لامُ القسم، والتبطئةُ: التأخُّرُ عن الأمر، والخطابُ لعسكرِ النبيِّ - ﷺ -. المعنى: وإن منكم؛ أي: عبدَ اللهِ بنَ أُبي وأصحابَه ليتأخَّرَنَّ عن الغزو تثَاقُلًا. قرأ أبو جعفرٍ: (لَيُبَطِّيَنَّ) بفتح الياء بغير همز، والباقون: بالهمز.
﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ قتلٌ أو هزيمةٌ.
﴿قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ﴾ بالقعودِ.
﴿إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا﴾ حاضرًا، فيصيبني ما أصابَهُمْ.
[٧٣] ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ﴾ سلامةٌ وغنيمةٌ.
﴿لَيَقُولَنَّ﴾ هذا المنافقُ، وفيه تقديمٌ وتأخيرٌ.
﴿كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾ متصلٌ بقوله: ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ تقديره: فإن أصابتكم مصيبةٌ، قال: قد أنعمَ الله عليَّ إذ لم أكنْ معهم شهيدًا؛ كأن لم تكنْ بينَكم وبينَهم مودة؛ أي: معرفة. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ، ورويسٌ: (تَكُنْ) بالتاءِ، والباقون: بالتاء (١)، ولئن أصابكم فضلٌ من الله ليقولن:
﴿يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ﴾ في تلكَ الغَزاةِ.
﴿فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ آخذَ نصيبًا وافرًا من الغنيمةِ (فأفوزَ) نُصب على جوابِ التمنيِّ.
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (٧٤)﴾.
﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ ومعناه: آمِنوا أيُّها المنافقونَ، وجاهِدوا في سبيلِ الله. وقيل: نزلَتْ في المؤمنين، فيكونُ معناه: فليقاتلْ في سبيلِ اللهِ الذين يختارونَ الأُخرى على الدنيا.
﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ﴾ يُسْتَشْهَدْ.
﴿أَوْ يَغْلِبْ﴾ يظفرْ بعدوِّهِ.
﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ في كِلا الحالتين. قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلادٌ: (يَغْلِب فسَوْفَ) و (تَعْجَب فعَجَبٌ) وشبهَه حيثُ وقعَ بإدغامِ الباءِ في الفاء، والباقون: بالإظهار (١).
﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾.
[٧٥] ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في طاعةِ اللهِ، استفهامُ توبيخٍ على تركِ الجهادِ.
﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ أي: وفي سبيل المستضعفين.
﴿مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ﴾ بمكةَ، صَدَّهم المشركونَ عن الهجرة وآذَوْهم.
﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ هي مكةُ.
﴿الظَّالِمِ﴾ أي: التي ظلمَ.
﴿أَهْلُهَا﴾ بكفرِهم وصَدِّهم المسلمينَ عن الهجرةِ.
﴿وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ أي: ارزقنا مَنْ يتولى أمرَنا.
﴿وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ ينصرُنا على أعدائنا، فاستجابَ اللهُ دعاءَهم، فلما فُتحت مكةُ، ولَّى النبيُّ - ﷺ - عليهم عَتَّابَ بنَ أُسيد، فكان ينصفُ المظلومينَ من الظالمين.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: طاعتِه.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ الشيطانِ والأصنامِ.
﴿فَقَاتِلُوا﴾ أيُّها المؤمنونَ.
﴿أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾ جنودَه، وهم الكفارُ.
﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ﴾ مكرَه.
﴿كَانَ ضَعِيفًا﴾ واهِنًا لا يثبتُ للحقِّ (١).
[٧٧] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ عن القتالِ. نزلتْ في جماعةٍ من الصحابةِ كانوا يَلْقَوْنَ من المشركينَ بمكة أذًى كثيرًا قبلَ الهجرة، فقالوا: يا رسول الله! ائذنْ لنا في قتالِهم، فإنهم قد آذَوْنا، فقال لهم رسولُ الله - ﷺ -: "كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ؛ فَإِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ" (١).
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ فلما هاجروا إلى المدينة، وأمرهم الله بقتالِ المشركينَ، شَقَّ ذلك على بعضِهم، قال الله تعالى:
﴿فَلَمَّا كُتِبَ﴾ أي: فُرِض.
﴿عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ﴾ يعني: مشركي مكةَ.
﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي: كخشيتِهم منَ اللهِ.
﴿أَوْ أَشَدَّ﴾ أكبرَ.
﴿خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ﴾ الجهاد.
﴿لَوْلَا﴾ أي: هَلَّا.
﴿أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ إلى أن نجدَ من نستنصرُ به.
﴿قَلِيلٌ﴾ سريعُ التَّقَضِّي.
﴿وَالْآخِرَةُ﴾ أي: وثوابُ الآخرةِ.
﴿خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾ الشركَ.
﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ هو ما في شقِّ النواةِ طولًا، وتقدمَ تفسيرُه. المعنى: لا يقعُ نقصٌ في شيءٍ من الحسناتِ ثَمَّ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وروحٌ: (يُظْلَمُوَن) بالغيب، والباقون: بالخطاب (١).
﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي: ينزلْ بكمُ الموتُ. نزلت في المنافقينَ الذين قالوا في قَتْلَى أُحد: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران: ١٥٦]، فردَّ الله عليهم، وأخبرَ أنَّ الحذرَ لا ينُجي من القَدَرِ.
﴿وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ﴾ حُصونٍ.
﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ﴾ أي: المنافقينَ ومَنْ جرى مجراهُمْ.
﴿حَسَنَةٌ﴾ خصبٌ وظفرٌ يومَ بدرٍ.
﴿يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ لنا.
﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ جَدْبٌ وهزيمة يومَ أُحُدٍ.
﴿يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾ يا محمدُ؛ أي: بسبب شُؤْمِكَ، فقال تعالى لنبيه - ﷺ -: ﴿قُلْ﴾ لهم ﴿كُلٌّ﴾ الحسنة والسيئة.
﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ بقضائه وقَدَرِهِ، ثم عَيَّرَهم بالجهلِ فقال:
﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ﴾ يعني: المنافقين.
﴿لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ والفقهُ لغةً: الفَهْمُ. وقف أبو عمرٍو، والكسائيُّ بخلافٍ عنه على الألف دونَ اللام من قوله (فَمَالِ هَؤُلاَءِ) (١)، و (مَالِ هذَا الكِتابِ) في سورةِ الكهفِ، و (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ) في الفرقان، (فَمَالِ الَّذِينَ) في سألَ، ووقف الباقون (فمال) على اللام اتباعًا للخَطِّ، بخلافٍ عن الكسائيِّ، قالَ ابنُ عطية: ومنعه قومٌ جملةً؛ لأنها حرف جر، فهي بعضُ المجرور، وهذا كله بحسب ضرورةِ أو (٢) انقطاعِ نفسٍ، وأما أن يختارَ أحدٌ الوقفَ فيما ذكرناه ابتداءً، فلا، انتهى (٣).
(٢) في "ظ": "و".
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" (٢/ ٨١).
[٧٩] ثم خاطب النبيَّ - ﷺ -، والمرادُ غيرُه فقال:
﴿وَمَا أَصَابَكَ﴾ يا إنسانُ.
﴿مِنْ حَسَنَةٍ﴾ خيرٍ ونعمةٍ.
﴿فَمِنَ اللَّهِ﴾ تفضُّلًا.
﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ﴾ بَلِيَّةٍ.
﴿فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ أي: بذنبِك؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠]، وتعلَّق القدريَّةُ بظاهرِ هذه الآيةِ، فقالوا: نفى الله عز وجل السيئةَ عن نفِسه، ونسبهَا إلى العبدِ، ولا متعلّقَ لهم فيه؛ بدليل قوله تعالى:
﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ غيرَ أن الحسنةَ إحسانٌ وامتحانٌ، والسيئة مجازاةٌ وانتقامٌ.
عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ نَصَبٌ وَلاَ وَصَبٌ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا الْعَبْدُ، وَحَتَّى انْقِطَاعُ شِسْعِ نَعْلِهِ، إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللهُ أَكْثَرُ" (١).
﴿لِلنَّاسِ رَسُولًا﴾ حالٌ مؤكِّدَةٌ، أي: ذا رسالةٍ.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ على رسالتِك وصدقِك.
﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ﴾ فيما أَمَرَ به.
﴿فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ كانَ - ﷺ - يقولُ: "مَنْ أَطَاعَنِي، فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ أَحَبَّنِي، فَقَدْ أَحَبَّ اللهَ"، فقال بعضُ اليهود: ما يريدُ محمدٌ إلا أنْ يُتَّخَذَ رَبًّا، فنزلتِ الآية (١).
﴿وَمَنْ تَوَلَّى﴾ أعرضَ عن طاعِته.
﴿فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ أي: حافظًا ورقيبًا، بلْ كِلْ أمورَهُم إلى الله، قيل: نُسخ هذا بآيةِ السيف.
(١) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (١/ ٣٣٦): غريب جدًّا، ونقل المناوي في "الفتح السماوي" (٢/ ٥٠٤) عن الولي العراقي أنه قال: لم أقف عليه هكذا، وعن ابن حجر: لم أجده.
[٨١] ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ يعني: المنافقينَ، يُظهرونَ أنهم يطيعونَكَ.
﴿فَإِذَا بَرَزُوا﴾ خرجوا.
﴿مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ﴾ أي: دَبَّرَ ليلًا.
﴿طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ (بَيَّت طائِفَةٌ) بسكونِ التاء وإدغامِها في الطاء، والباقون: بإظهار التاءِ مفتوحةً (١). المعنى: جماعةُ المنافقينَ تُظهر في حضورِكَ خِلافَ ما تُضْمِرُ، وتقولُ في غَيْبَتِكَ قولًا.
﴿غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾ في مجلسِك.
﴿وَاللَّهُ يَكْتُبُ﴾ يُثْبِتُ في صحائِفِهم للمجازاةِ.
﴿مَا يُبَيِّتُونَ﴾ يُزَوِّرونَ.
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ لا تُعاقِبْهم.
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ أي: اتَّخِذهُ وكيلًا، فهو كافيكَ.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ ناصِرًا.
[٨٢] ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ يتأمَّلون القرآنَ؛ أي: لو اعتبروا القرآن، لتيقنوا أنه من عندِ الله؛ لعدمِ تناقضِه.
﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا﴾ تناقُضًا.
﴿كَثِيرًا﴾.
﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (٨٣)﴾.
[٨٣] ونزل فيمن كان يُفْشي ما يسمعُ؛ ليضعفَ قلوبَ المؤمنينَ:
﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ يعني: المنافقينَ.
﴿أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ﴾ من الفتحِ والغنيمةِ.
﴿أَوِ الْخَوْفِ﴾ القتلِ والهزيمةِ.
﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ أَفْشَوْهُ.
﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ أي: الخبرَ.
﴿إِلَى الرَّسُولِ﴾ أي: لو لم يحدِّثوا به حتى يكونَ النبيُّ - ﷺ - هو الذي يحدّثُ به.
﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ أصحابِ الرأيِ من الصحابةِ.
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلامِ.
﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ بالقرآنِ.
﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ أي: لضللتم باتباعِه.
﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ منكم، والمرادُ: الذين اهتدَوْا قبلَ مجيءِ النبيِّ - ﷺ -؛ كزيدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ، وَوَرَقَة بنِ نَوْفَلٍ، أو: إلَّا اتِّباعًا قليلًا.
﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (٨٤)﴾.
[٨٤] وكان النبيُّ - ﷺ - وعدَ أبا سفيان بعدَ حربِ أُحُدٍ موسمَ بدرٍ الصُّغرى في ذي القعدةِ، فلما بلغَ الميعاد، دعا الناسَ إلى الخروج، فكرهَهُ بعضُهم، فأنزل الله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ (١) أي: قاتلِ المشركينَ، وانصرِ المستضعفينَ بمكَّةَ، ولو وحدَكَ؛ فإنَّكَ موعودٌ بالنصرِ.
﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حُثَّهم على الجهاد، فخرجَ رسولُ الله - ﷺ - في سبعينَ راكبًا، فكفاهُمُ اللهُ لقتالَ، فقال جل ذكرُه:
﴿عَسَى اللَّهُ﴾ أي: لعلَ اللهَ ﴿أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ﴾ صولةَ وحربَ.
﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا﴾ صولةً وأعظمُ سلطانًا من قريشٍ.
﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ عقوبةً، وهو تقريعٌ وتهديدٌ لمن لم يتبعْه.
﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ هي الإصلاحُ بينَ الناسِ.
﴿يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ وهو ثوابُ الشفاعةِ.
﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً﴾ هيَ المشيُ بالنميمةِ بينَ الناسِ.
﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ أي: نصيبٌ من وِزْرِها، والكِفْل: الضِّعْفُ من الشيء، واشتقاقُه من الكَفَلِ؛ لمشقَّةِ الركوبِ عليه.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ مجازِيًّا.
﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ إذا قال: السلامُ عليكم، فقلْ: وعليكُمُ السلامُ ورحمةُ اللهِ، وإذا قال: السلامُ عليكم ورحمةُ الله، فقلْ: وعليكم السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه، وإذا قال: السلامُ عليكم
﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ أي: رُدُّوا مثلَها.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ محاسبًا على السلام وغيره، والسلامُ سنةٌ على الكِفاية مرغَّبٌ فيها، وإذا سلَّم واحدٌ من الجماعةٍ، أجزأَهم، بالاتفاق، والردُّ فرضٌ على الكفايةِ عندَ الثلاثةِ، وذهبَ أبو حنيفةَ إلى أنَّ ردَّ السلامِ من الفروضِ المتعيِّنَةِ، قالَ: والسلامُ خِلافُ الردِّ، لأنَّ الابتداءَ به تطوُّع، وردَّه فَريضةٌ، فإذا ردَّ واحدٌ من جماعةٍ، سقطَ عن الباقينَ باتفاقهم.
ويحرمُ بداءةُ أهلِ الذمَّةِ بالسَّلامِ عندَ مالكٍ والشافعيِّ، وعندَ أبي حنيفةَ يُكْرَه؛ لما فيه منْ تعظيمِهم، فإنْ سلَّمَ على ذميٍّ جاهلًا أو ناسيًا، ثم علمَ، فمذهبُ مالكٍ لا يستقيلُه، واختارَ ابنُ عطيةَ المالكيُّ أن يستقيلَه سلامَه، ومذهبُ الشافعيِّ يقولُ: استرجَعْتُ سلامي تحقيرًا له، ومذهبُ أحمدَ يُسَنُّ قولُه: رُدَّ عَلَيَّ سلامي، وإذا سَلَّم ذميٌّ على مسلمٍ، فعندَ أحمدَ وأبي حنيفةَ يقولُ في الرد: وعليكم، وعندَ الشافعيِّ يقول: وعليكَ، وعند مالكٍ يقول: عليكَ، بغير واو، واختارَ بعضُ أصحابه السِّلام بكسرِ السين؛ يعني به الحجارةَ.
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (٨٧)﴾.
[٨٧] ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ اللامُ في (ليجمعنكم) لامُ القسم، تقديره: اللهُ واللهِ ليحشرنَّكُم.
﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شكَّ في ذلك اليوم (١).
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ أي: لا حديثَ أصدقُ من حديثِ الله؛ لأنه سبحانه منزَّهٌ عن الكذب. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ورويسٌ بخلاف عنه: (أَصْدَقُ) و (يَصْدِفونَ) و (تَصْدِيَةً) و (تَصْدِيق) و (فَاصْدَعْ) بإشمام الصاد الزاي حيثُ وقعَ، والباقون بالصادِ الخالصةِ (٢).
﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (٨٨)﴾.
[٨٨] ونزل فيمن أسلمَ، ثم ندمَ، ثم ارتدَّ:
﴿فَمَا لَكُمْ﴾ يا معشر المؤمنين.
﴿فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ أي: اختلفْتُم فافترقْتُم فرقتينِ، ولم تقطعوا جميعًا بكفرِهم.
﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ نَكَّسَهُمْ وردَّهم إلى الكفرِ، وأصلُ الركْسِ: ردُّ الشيءِ مقلوبًا.
﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ بسببِ كسبِهم، وهو ارتدادُهم عن الإسلام.
﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ أتطلبون هدايةَ مَنْ أضلَّ اللهُ.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ عن الهدى.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥٧٠)، و"النشر في القراءات العشر"، لابن الجزري (٢/ ٢٥٠ - ٢٥١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٥٠).
﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿وَدُّوا﴾ تمنوا؛ يعني: أولئكَ الذين (١) رَجَعوا عن الدين.
﴿لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ﴾ عطفٌ على ﴿تَكْفُرُونَ﴾.
﴿سَوَاءً﴾ أي: مستوينَ أنتمْ وهُمْ في الكفرِ.
﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ وإنْ أظهروا الإيمانَ.
﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هجرةً للهِ ورسوله، لا لأغراضِ الدنيا.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرَضُوا عن الإيمانِ والهجرةِ.
﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أُسارى، ومنهُ يُقال للأسير: أَخيذٌ.
﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ في الحلِّ والحرمِ.
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ أي: لا تقبلوا منهم ولايةً ونصرةً.
﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (٩٠)﴾.
﴿إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ عهدٌ، وهم قيل (١) قومُ هلالِ بنِ عويمرٍ الأسلميِّ، كان قد وادعَهُ النبيُّ - ﷺ - قبلَ خروجِه إلى مكةَ ألا يُعينَه ولا يُعينَ عليه، ومن وصلَ إلى هلالٍ من قومِه وغيرِهم فلهُ من الجوارِ مثل ما لهلالٍ.
﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ أي: يَتَّصلونَ بقومٍ جاؤوكم.
﴿حَصِرَتْ﴾ ضاقَتْ.
﴿صُدُورُهُمْ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وأبو جعفرٍ، وقالونُ، وورشٌ، وهشامٌ: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) بإظهار التاء عند الصاد، والباقون: بالإدغام، وقرأ يعقوبُ: (حَصِرَةً) بالفتح والتنوين؛ أي: ضَيِّقَةً صدورُهم (٢).
﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ أي: ضاقت قلوبُهم عن قتالِكم وقتالِ قومِهم، وهم الذين عاهدوا النبيَّ - ﷺ - تلخيصُه: إن لم يأتوا بالإسلامِ كما ينبغي، فاقتلوهم، واجتنبوهم، إلا المتَّصفينَ بهذهِ الصفاتِ، فاتركوهم.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ لِحكَمٍ يعلَمُها.
﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ مع قومِهم، ولم يكفُّوا عنكم.
﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ ولم يتعرَّضوا لكم.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٩٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٥١ - ١٥٢).
﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ طريقًا بالقتل.
﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (٩١)﴾.
[٩١] ونزل في أُسْدٍ وغَطفانَ ومَنْ جرى مجراهم حيثُ أظهروا الإيمانَ وهم غيرُ مؤمنين، فلما رجعوا إلى قومهم، كفروا:
﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ﴾ بقولهم لكم: آمَنَّا.
﴿وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ بكفرِهم عندَ عودِهم إليهم.
﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ دُعوا إلى الكفرِ و (١) إلى قتالكم.
﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ عادُوا إلى الشِّركِ.
﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ حتى يسيروا إلى مكةَ.
﴿وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي: الصلحَ.
﴿وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ عن قتالِكم.
﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ تمكَّنْتُم من قتلِهم.
﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ حجةً ظاهرةً بالقتل.
[٩٢] ونزل في عَيَّاشِ بنِ أبي (١) ربيعةَ أخي أبي جهلٍ من الأمِّ لما لقيَ حارثَ بنَ زيدٍ في طريقٍ، وكانَ قد أسلمَ، ولم يشعرْ به عياشٌ، فقتلَه:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ (٢) أي: ما ينبغي لمؤمنٍ.
﴿أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ استثناءٌ منقطعٌ، معناه: لكنْ إن وقعَ خطأٌ، فتحريرُ رقبةٍ، والخطأُ: ما لم يتعمَّدِ الإنسانُ.
﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ﴾ أي: فالواجبُ على القاتل عتقُ.
﴿رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ كفارةً باتفاقِ الأئمةِ إذا كان المقتول حُرًّا مسلمًا، فإن كان المقتولُ ذِمِّيًّا أو عبدًا، قال أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ: تجبُ الكفارةُ في قتلِه كوجوبِها في حقِّ الحرِّ المسلمِ، وقال مالكٌ: لا تجبُ بقتلِ عبدٍ ولا كافرٍ، فإن كانَ القتلُ عمدًا، فقال الشافعيُّ: تجبُ الكفارة، وقال الثلاثة: لا تجبُ، وإذا قتلَ الكافرُ مسلِمًا خطأً، فقال الشافعيُّ وأحمدُ:
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٥/ ٢١٥)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ٩٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥٧٥).
﴿وَدِيَةٌ﴾ هي المالُ المؤدَّى إلى مَجْنِيٍّ عليه، أو وليِّه بسببِ جنايةٍ (١).
﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ مُؤَدَّاةٌ.
﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾ إلى وَرَثَةِ القتيلِ بدلَ النفسِ، والرقبةُ في مالِ القاتلِ، والديةُ على عاقلتِه، فإن لم يكن له ورثةٌ، فلبيتِ المال.
﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ يعفوا ويتركوا الديةَ.
﴿فَإِنْ كَانَ﴾ المقتولُ.
﴿مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ أي: حربٍ للمسلمين، لا عهدَ بينَكم وبينَهم.
﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ محكومٍ بإسلامِها، وإن كانتْ صغيرةً، ولا ديةَ فيه بالاتفاق؛ إذ لا وراثةَ بينَه وبينَ أهله؛ لأنهم كفارٌ محاربون.
﴿وَإِنْ كَانَ﴾ المقتول ذميًّا، أو معاهدًا.
﴿مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ لأن حكمَهُ حكمُ المسلمِ بالاتفاق.
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ أي: لم (٢) يملكِ الرقبةَ، ولا يقدرُ على تحصيلِها.
﴿فَصِيَامُ﴾ أي: فعليه صيامُ.
﴿شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي: جعل اللهُ ذلكَ توبةً لقاتلِ الخطأ.
(٢) "لم" ساقطة من "ن".
واعلمْ أن القتلَ على ثلاثةِ أقسامٍ:
عَمْدٌ محضٌ: وهو أن يقتلَه بما يغلبُ على الظنِّ موته به؛ كالسيفِ ونحوِه، ففيه القصاصُ بشروطِه، أو الديةُ بالاتفاقِ.
وشِبْهُ عمدٍ: وهو أن يقصدَ الجنايةَ بما لا يقتُلُ غالبًا؛ كالحجرِ والعصا ونحوِهما، ففيهِ الديةُ دونَ القصاصِ عندَ الثلاثةِ، ومالكٌ رحمه الله لا يرى شبهَ العمد، ولا يقولُ به في شيء، وإنما القتلُ عندَه عمدٌ أو خطأٌ، لا غيرُ، فإذا أصابَه بما لا يقتلُ غالبًا، فماتَ، فعندَه يجبُ فيه القصاصُ.
وخطأ: وهو أن يرمي شخصًا يظنُّه صيدًا أو حربيًّا، فإذا هو مسلمٌ، ففيه الديةُ، ولا قصاصَ فيه بالاتفاق.
وأما قدرُ ديةِ الحرِّ المسلمِ، فعند أبي حنيفةَ مئةٌ من الإبل، فالمغلَّظَةُ: وهي التي بسببِ العمدِ المحضِ وشبهِ العمدِ تجبُ أرباعًا: خمسًا وعشرينَ بنتَ مخاضٍ، وهي التي طعنَتْ في السنة الثانية، وخمسًا وعشرين بنتَ لَبونٍ، وهي التي طعنت في السنةِ الثالثة، وخمسًا وعشرين حِقَّةً، وهي التي طعنتْ في السنةِ الرابعة، وخمسًا وعشرين جَذَعَةً، وهي التي طعنت في السنة الخامسة، والمخفَّفَةُ: وهي التي بسبب قتلِ الخطأ تجبُ أخماسًا: عشرينَ ابنَ مخاضٍ، ومثلُها بناتُ مخاض، وبناتُ لَبون، وحقاقٌ، وجذعٌ، أو ألفُ دينار، أو عشرةُ آلافِ درهم، كلُّ عشرةٍ وزنُ سبعةِ مثاقيلَ.
وديةُ العمدِ المحضِ في مال القاتل مؤجَّلَةٌ في ثلاثِ سنينَ، وديةُ شبهِ العمدِ والخطأ على العاقلةِ مؤجلةٌ كذلك.
وعند مالكٍ إن كان الجاني من أهل البادية، فالدية مئةٌ من الإبل تجبُ
وعندَ الشافعيِّ مئةُ بعيرٍ مثلثةٌ في العمدِ وشبهِه؛ كقولِ مالكٍ في التغليظ، وفي الخطأ مخمسةٌ كقول مالكٍ، فلو عُدمَتْ، فالقديمُ من مذهبه ألفُ دينارٍ، أو اثنا عشرَ ألفَ درهمٍ، والجديدُ قيمتُها بنقدِ بلدِه، وديةُ العمدِ على الجاني معجَّلَةٌ، وشبهِ العمدِ والخطأ على العاقلةِ مؤجَّلَةٌ.
وعندَ أحمدَ مئةٌ من الإبلِ، أو مئتا بقرةٍ، أو ألفا شاةٍ، أو ألفُ مثقالٍ ذهبًا، أو اثنا عشرَ ألفَ درهمٍ فضةً، فهذه الخمسُ أصول في الدية، إذا أحضرَ (١) مَنْ عليه الديةُ شيئًا منها، لزمَ قبولُه، وتجبُ الإبلُ في العمدِ وشبهِه أرباعًا، وفي الخطأ أخماسًا كقولِ أبي حنيفةَ، ويؤخذ في البقر النصفُ مُسِنَّاتٌ، وهي التي لها سنتانِ، والنصفُ أَتْبِعَةٌ، وهي التي لها سنةٌ، وفي الغنم النصفُ ثَنايا، وهي التي لها سنةٌ، والنصفُ جذعَةٌ، وهي التي لها ستة أشهر، ولا تعتبرُ القيمةُ في شيء من ذلك بعدَ أن يكون سليمًا من العيب، وديةُ العمدِ المحضِ في مال الجاني حالَّةٌ، وشبهِ العمدِ والخطأ
واختلفوا في ديةِ الذمِّيِّ والمجوسيِّ، فقال أبو حنيفةَ: هي كديةِ المسلم سواء، وقال مالكٌ وأحمدُ: ديةُ الذميِّ نصفُ ديةِ المسلم، والمجوسيِّ ثمانُ مئةِ درهمٍ، وقال الشافعيُّ: ديةُ اليهوديِّ والنصرانيِّ ثلثُ ديةِ مسلمٍ، والمجوسيِّ ثلثا عُشْرِ دية (١) مسلمٍ، وديات نسائِهم نصفُ دياتِ رجالِهم بالاتفاق.
وديةُ العبدِ والأمةِ قيمتُهما بالغةً ما بلغَتْ عندَ الثلاثة، وقال أبو حنيفةَ: من قتلَ عبدًا خَطَأً، فعليه قيمتُه، لا يُزاد على عشرةِ آلافٍ إلا عشرةٌ، وفي الأمةِ خمسةُ آلافٍ إلا عشرةً، وإن كانَ أقلَّ من ذلك، فعليه قيمتُه، وخالفه أبو يوسفَ، فوافق الجماعةَ.
واختلفوا في العاقلة، فقال الثلاثة: هم العصبة قَرُبوا أو بَعُدوا، ومنهم الأصولُ والفروعُ، وقال الشافعيُّ: هم عصبته إلا الأصلَ والفرعَ، يقدَّمُ الأقربُ فالأقربُ.
ولا عقلَ على الصبيانِ والنساءِ بالاتفاقِ.
فإن فُقِدَ العاقلُ، عقلَ بيتُ المالِ عن المسلمِ، فإن فُقِدَ، فكلُّ الديةِ على الجاني بالاتفاق.
﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)﴾.
[٩٣] ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ بأنْ يقصدَ قتلَه بنيتِهِ وفعلِه مع علمِه بإيمانِه.
﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ طردَهُ عن الرحمةِ.
﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾.
واختلِفَ في قبولِ توبةِ القاتلِ، فجماعةٌ على أن لا تقبلَ توبتُه، والذي عليه الجمهورُ، وهو مذهبُ أهل السنَّةِ: أنَّ قاتلَ المسلمِ عمدًا توبتُه مقبولةٌ؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [طه: ٨٢]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، ولقوله - ﷺ -: "مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ" (٢)، ويحملون الآيةَ على من قَتَلَ مؤمنًا مستحِلًا لقتله ولم يتبْ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤)﴾.
(٢) تقدم تخريجه.
﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ تأمَّلُوا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَتَثَبَّتُوا) في الحرفين؛ من الثباتِ والتأَنِّي، وقرأ الباقون: [بالياء والنون من التبيُّن، وهو التأمُّلُ (٢).
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾ وهو تحية الإسلام. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وخلفٌ: (السَّلَمَ) بغير ألفٍ، وهو المفاداةُ، وهو قولُ لا إلهَ إلا اللهُ محمدٌ رسولُ الله. وقرأ الباقونَ] (٣) بالأول (٤)؛ أي: إذا رأيتم أَمارةً ظاهرةً على إسلامِ شخصٍ، فلا تقتلوه، ولا تقولوا:
﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ إنما تفعلُ هذا تقيَّةَّ لحفظِ مالك ونفسِكَ. قرأ أبو جعفر بخلافٍ عنه (مُوْمِنًا) بإسكانِ الواو بغير همز (٥).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٧)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٩٤ - ٣٩٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥٨١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٥٤).
(٣) من قوله: "بالياء والنون" إلى قوله: "وقرأ الباقون" ساقط من "ت".
(٤) المصادر السابقة.
(٥) انظر: "الكشاف" للزمخشري (١/ ٢٩١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٥٥).
﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ أي: غنائمُ.
﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ تكتمون إيمانَكم من المشركين.
﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالهدايةِ وإظهارِ الإسلام، ورُويَ أنه - ﷺ - قال: "أَقَتَلْتُمُوهُ إِرَادَةَ مَا مَعَهُ؟ "، ووجَدَ عليه، فقالَ أسامة: استغفرْ لي يا رسولَ الله، فقال: "فكيفَ بِلا إلهَ إلا الله؟ " مرارًا، قال أسامة: فوددْتُ أَني لم أكنْ أسلمتُ إلا يومَئِذٍ" (١). قرأ أبو عمرو: (كَذَلِك كنْتُمْ) بإدغام الكاف في الكاف.
﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أن تقتلوا مؤمنًا خطأً، كرَّرها تأكيدًا وزجرًا عن الإقدامِ على القتل.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ عالمًا به، فلا تُقدموا على القتلِ، واحتاطوا فيه.
﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥)﴾.
[٩٥] ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عن الجهادِ. نزلتْ في فضلِ
﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ (١) أي: المرض؛ من عمًى وغيرِه. قرأ نافعٌ وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ (غَيْرَ) بنصبِ الراء؛ أي: إلا أولي الضرر، وقرأ الباقون: برفع الراء على نعتِ (القاعِدون) (٢)، يريدُ: لا يستوي القاعدونَ الذين هم غيرُ أولي الضرر.
﴿وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ أي: لا مساواةَ بينهم وبينَ من قعدَ عن الجهاد من غيرِ عذرٍ.
﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ للعذرِ.
﴿دَرَجَةً﴾ فضيلةً؛ لأن المجاهدَ مباشِرٌ مع النية، والقاعدَ له نيةٌ، ولكن لم يباشرْ، فنزلوا عنهم بدرجةٍ.
﴿وَكُلًّا﴾ من الفريقين.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ وهي الجنةُ.
﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ﴾ مطلقًا.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥٨٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٥٥).
﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي: أَجَرَهم أجرًا عظيمًا.
﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾ نصبٌ بدلٌ من ﴿أجرًا﴾.
﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ عطفٌ على درجات.
عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله - ﷺ - قال: "يَا أَبَا سَعِيدٍ! مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ" فعجبَ بها أبو سعيدٍ، قال: أَعِدْها عليَّ يا رسولَ اللهِ، ففعلَ، قالَ رسول الله - ﷺ -: "وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا الْعَبْدَ مِئَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" فقال: وما هي يا رسولَ الله؟ قال: "الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ" (١).
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ لِما (٢) عساه يفرطُ منهم.
﴿رَحِيمًا﴾ بما وعدَ لهم.
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا
(٢) في "ن": "لمن".
[٩٧] ونزلَ في أُناسٍ من مكةَ أسلموا ولم يهاجروا حينَ كانتِ الهجرةُ واجبةً، فلما خرجَ المشركونَ إلى بدرٍ، خرجوا معهم، فقُتلوا مع الكفار:
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ أي: ملكُ الموتِ وأعوانهُ.
﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ بتركِ الهجرةِ وموافقةِ الكفرةِ. قرأ أبو عمرٍو: (الملائكَة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بإدغام التاء في الظاء (١)، وقرأ البزي: (إِنَّ الَّذِين توَفَّاهُمُ) بتشديد التاء حالةَ الوصل (٢).
﴿قَالُوا﴾ أي: الملائكةُ توبيخًا لهم:
﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ في أيِّ شيءٍ كنتُم من أمرِ دينِكم.
﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ﴾ عاجزينَ عن الهجرةِ.
﴿فِي الْأَرْضِ﴾ أرضِ مكةَ.
﴿قَالُوا﴾ أي: الملائكةُ؛ تكذيبًا (٣) لهم.
﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً﴾ في الرزقِ.
﴿فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ إلى قطر آخرَ.
(٢) وهي قراءة البزي، كما في "التيسير" للداني (ص: ٨٣)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٥١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٥٦).
(٣) في "ن": "توبيخًا".
﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أي: بئسَ المصيرُ إلى جهنمَ.
﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨)﴾.
[٩٨] ثم استثنى أهلَ العذرِ منهم فقال: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ أي: هم عاجزونَ (١) عن الهجرةِ؛ لضعفِهم وفقرِهم ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ أي: لا يعرفون طريقًا إلى الخروج.
﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (٩٩)﴾.
[٩٩] ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ و (عسى) من اللهِ واجب؛ لأنه للإطماع.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾.
قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: كنتُ أنا وأُمي ممَّنْ عذرَ الله (٢)؛ يعني: من المستضعفينَ، وكانَ رسولُ اللهِ يدعو لهؤلاءِ المستضعفينَ في الصلاة.
(٢) رواه البخاري (٤٣١١)، كتاب: التفسير، باب: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾.
[١٠٠] ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا﴾ مُتَحَوَّلًا ومُهاجَرًا.
﴿كَثِيرًا﴾ المعنى: مكانًا يتحول به على رغمِ أنفِهم، وأصلُ الرَّغْمِ: لصوقُ الأنفِ بالرّغامِ ذُلًّا، وهو الترابُ.
﴿وَسَعَةً﴾ في الرزقِ، فلما سمعَ جُنْدَعُ بنُ ضَمْرةَ هذه الآيةَ، وكان شيخًا كبيرًا، خرجَ من مكةَ محمولًا على سريرِه مهاجِرًا إلى المدينة، فماتَ في الطريقِ، فقالَ بعضُ المسلمينَ: لو وصلَ إلى المدينةِ، لكانَ أتمَّ أجرًا، وضحكَ المشركون، وقالوا: ما أدركَ هذا ما طلبَ، فنزل:
﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾ (١) قبلَ بلوغِه مُهاجَرَهُ.
﴿فَقَدْ وَقَعَ﴾ أي: وجبَ.
﴿أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ بإيجابِه على نفسِه فضلًا منه سبحانه.
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ لِما كانَ منه في الشِّركِ.
﴿رَحِيمًا﴾ حينَ قبلَ توبتَهُ؛ فعندَ الإمامِ أحمدَ والأكثر: لا يجبُ على اللهِ شيءٌ، لا عقلًا، ولا شرعًا، وقال جمعٌ: يجبُ عليه شرعًا بفضلِه وكرمِه، وحكي عن أهل السُّنِة، وعندَ المعتزلة يجبُ علية رعايةُ الأصلحِ.
[١٠١] ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ سافَرْتُم.
﴿فِي الْأَرْضِ﴾ أي: سفرًا يبيحُ القصرَ، وهو مسيرةُ ثلاثةِ أيامٍ بسيرِ الإبلِ ومشيِ الأقدام عند أبي حنيفةَ، ومسيرةُ يومين قاصِدَينِ، وهو ستةَ عشرَ فرسخًا أربعةُ بُرُدٍ عندَ الثلاثةِ.
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ حرجٌ ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ بأن تردُّوها من أربعٍ إلى اثنتين، وذلك في الظهرِ والعصرِ والعشاءِ، وهو عزيمةٌ عندَ أبي حنيفةَ، وشدَّد فيه حتى قَال: إذا صلَّى الظهرَ أربعًا، ولم يجلسْ بعدَ الركعتين، بطلَ ظُهره، وإن قعدَ (١) في الثانية، أجزأتْهُ اثنتانِ عن الفرضِ، وركعتانِ عن النافلةِ، وقال الثلاثةُ: هو رخصةٌ، واتفقوا على أن القصرَ أفضلُ من الإتمام، وعلى أن المغربَ والصبحَ لا يقصران، واختلفوا في سفرِ المعصيةِ هل يبيحُ الرخصَ الشرعيةَ من القصرِ وغيرِه؟ (٢) فقال أبو حنيفةَ: يبيحُ، وقال الثلاثة: لا يبيحُ، وتقدَّم نظيرُ ذلك في سورة البقرة عندَ تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [الآية: ١٧٣].
﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ﴾ أي: يقتلَكُم وينالَكم بما تكرهونَ.
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فظاهرُ الآيةِ: لا يجوزُ القصرُ إلا عندَ الخوفِ، وليسَ كذلكَ، بل الصحيحُ أن الخوفَ ليسَ بشرطٍ بالاتفاق؛ لأن النبيَّ - ﷺ - سافرَ
(٢) "من القصر وغيره" ساقطة من "ت".
﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾.
﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٠٢)﴾.
[١٠٢] عن ابنِ عباسٍ وجابرٍ: أنَّ المشركينَ لما رأَوا رسولَ اللهِ - ﷺ - وأصحابَه قامُوا إلى الظُّهرِ يصلُّونَ جميعًا، ندموا ألَّا كانوا أَكَبُّوا عليهِم، فقالَ بعضُهم لبعضٍ: دَعوهُم؛ فإنَّ لهم بعدَها صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائِهم وأبنائِهم، يعني: صلاةَ العصر، فإذا قاموا إليها، فشدُّوا عليهم فاقتلوهم،
(٢) رواه مسلم (٦٨٦)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
قال الإمامُ أبو عبدِ اللهِ أحمدُ بنُ محمدِ بنِ حنبلٍ رضي الله عنه: صحَّ عن النبيِّ - ﷺ - صلاةُ الخوفِ من خمسةِ أوجهٍ أو ستةٍ، كلُّ ذلك جائزٌ لمنْ فعلَهُ (٣)، فمنْ ذلكَ:
إذا كان العدوُّ في جهةِ القِبلَةِ، صَفَّ الإمامُ المسلمينَ خلفَه صَفَّينِ، فصلَّى بهم جميعًا إلى أن يسجدَ، فيسجدُ معه الصفُّ الذي يليه، ويحرسُ الآخَرُ حتى يقومَ الإمامُ إلى الثانيةِ، فيسجدُ ويلحقُه، فاذا سجدَ في الثانيةِ، سجدَ معه الصفُّ الذي حرسَ أولًا (٤)، وحرسَ الآخرُ حتى يجلسَ في التشهُّدِ، فيسجدُ ويلحقُه، فيتشهَّدُ ويسلِّمُ بهم، وهذهِ صلاةُ رسولِ اللهِ - ﷺ - بعسفانَ.
الوجه الثاني: إذا كانَ العدوُّ في غير جهةِ القبلةِ، جعلَ طائفةً حذاءَ العدوِّ، وطائفةً تصلِّي معه ركعةً، فإذا قاموا إلى الثانيةِ، ثبتَ قائمًا، وأتمتْ لأنفسِها أخرى، وسلمتْ ومضت إلى العدو، وجاءت الطائفةُ الأخرى
(٢) انظر: "صحيح مسلم" (٨٤٠)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ٩٩)، و "تفسير البغوي" (١/ ٥٨٨).
(٣) انظر: "المغني" لابن قدامة (٢/ ١٣٨).
(٤) "أولًا": زيادة من "ن".
فصلَّت معه الركعةَ الثانيةَ، فإذا جلسَ للتشهدِ، أتمت لأنفسِها أخرى، وتشهدتْ، وسلَّم بهم.
فإن كانت الصلاةُ مغرِبًا صلَّى بالأولى ركعتين، وبالثانيةِ ركعةً، وإن كانت رباعيةً غيرَ مقصورةٍ، صلَّى بكلِّ طائفةٍ ركعتين، وأتمتِ الأولى بالحمدُ لله في كلّ ركعةٍ، والأخرى تتمُّ بالحمدُ لله وسورة، وتفارقُه الأولى عندَ فراغ التشهدِ، وينتظر الإمامُ الطائفةَ الثانيةَ جالسًا، يكررُ التشهدَ، فإذا أتتْ، قامَ، وهذه صلاةُ رسولِ الله - ﷺ - بذاتِ الرقاع، وهي عندَ الشافعيِّ أفضلُ من صلاتِه ببطنِ نَخْلٍ على ما يأتي، وإلى هذا الوجهِ ذهبَ مالكٌ.
الوجه الثالث: أن يصلِّي بطائفةٍ ركعةً، ثم تمضي إلى العدو، وتأتي الأخرى فيصلِّي بها ركعةً، ويسلِّم وحدَه، وتمضي هي، ثم تأتي الأولى فتتمُّ صلاتَها، ثم تأتي الأخرى فتممُّ صلاتها، وهذا الوجهُ مذهبُ أبي حنيفة.
الوجه الرابع: أن يصلي بكلِّ طائفةٍ صلاةً، ويسلِّم بها، وهذه صلاةُ رسولِ الله - ﷺ - ببطنِ نخلٍ.
الوجه الخامس: أن يصلي الرباعيةَ المقصورةَ تامةً، وتصلي معه كلُّ طائفة ركعتين، ولا تقضي شيئًا، فتكون له تامةً، ولهم مقصورةً.
واتفقوا على أن صلاةَ الخوفِ في الحضر أربعُ ركعاتٍ غير مقصورة، وفي السفر ركعتان إذا كانت رباعيةً، وغيرُ الرباعية على عددها، لا يختلف حكمُها حضرًا ولا سفرًا ولا خوفًا.
فإذا اشتدَّ الخوفُ، صلَّوا رجالًا وركبانًا، إلى القبلةِ وغيرها يومئون بالركوعِ والسجودِ على قدرِ الطاقةِ، ويجعلون السجودَ أخفضَ من الركوع،
﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ يا محمدُ حاضرًا في أصحابِك.
﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ تقدَّمَ مذهبُ ورشٍ في تغليظِ لامِ (الصَّلاَة).
﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ مصليةً، وطائفةٌ وِجاهَ العدوِّ.
﴿وَلْيَأْخُذُوا﴾ أي: غيرُ المصلين.
﴿أَسْلِحَتَهُمْ﴾ وقيل: المرادُ: المصلُّونَ والآيةُ تتناول الكلَّ، ولكنَّ سلاحَ المصلِّين ما خفَّ مما لا يشغلُه عن الصلاة.
﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ أي: المصلُّون معكَ.
﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ مكانَ الذين هم وِجاهَ العدوِّ.
﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا﴾ وهمُ الذين في وجهِ العدوِّ.
﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا﴾ أي: الآتون، وقيل: المصلُّون.
﴿حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ جعلَ الحذرَ آلةً يتحصَّنُ بها الغازي مع الأسلحةِ.
﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يتمنى الكفارُ.
﴿لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ فيقصدونَكُم، ويحملونَ عليكم حملةً واحدةً، ورَخَّصَ لهم في تركِ السلاحِ للعذر فقال:
﴿وَلَا جُنَاحَ﴾ لا إثمَ.
﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ كيلا يهجُم عليكم العدوُّ.
﴿إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ يُهانون فيه.
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣)﴾.
[١٠٣] ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ فَرَغتم من صلاةِ الخوفِ.
﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بالتسبيحِ والتهليلِ.
﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ أي: اذكروه في هذهِ الأحوالِ.
﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ أي: أَمِنْتُمْ.
﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أَتِمُّوها بأركانِها وشروطِها.
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ واجبًا مفروضًا.
﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ولما رجعَ أبو سفيانَ وأصحابُه يومَ أُحدٍ بعثَ رسولُ اللهِ - ﷺ -
﴿ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ في طلبِ الكفارِ.
﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ تتوجَّعونَ من الجراحِ.
﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ أي: ذلكَ مشترَكٌ بينكم وبينهم.
﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ من الثوابَ.
﴿مَا لَا يَرْجُونَ﴾ لأنهم لا يؤمنونَ بالبعثِ.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بأعمالِكم.
﴿حَكِيمًا﴾ فيما يأمر وينهى.
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ بالحدودِ والأحكامِ.
﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ بما علَّمك وأوحى إليك. نزلتْ هذه الآيةُ في طُعْمَةَ بنِ أُبَيْرِقٍ الأنصاريِّ، سرقَ درعًا من قَتَادَةَ بنِ النعمان، وخبأَها عندَ زيدٍ السَّمينِ اليهوديِّ، ثم حلفَ أنه ما سرقَ شيئًا، وظهرتِ الدرعُ عند اليهوديِّ، فقال اليهوديُّ: دفعها إليَّ طعمةُ، فهمَّ النبيُّ - ﷺ - أن يقطعَ يدَ اليهوديِّ، فنزلت الآية (٢).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٥/ ٢٦٧)، و"المستدرك" للحاكم (٤/ ٤٢٧)، و"أسباب =
﴿خَصِيمًا﴾ مخاصِمًا عنهم.
﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٦)﴾.
[١٠٦] ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ مما هممتَ به من معاقبةِ اليهوديِّ.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لمن يستغفرُه.
﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿وَلَا تُجَادِلْ﴾ تخاصِمْ.
﴿عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ هم طعمةُ وقومُه.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا﴾ في الدرع.
﴿أَثِيمًا﴾ في رميهِ اليهوديَّ، والخطابُ مع النبيِّ - ﷺ - والمرادُ غيرُه.
﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨)﴾.
[١٠٨] ﴿يَسْتَخْفُونَ﴾ يستترونَ حياء.
﴿مِنَ النَّاسِ﴾ وأصلُه: طلبُ الخفاءِ.
﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾ يُدَبِّرون ليلًا.
﴿مَا لَا يَرْضَى﴾ اللهُ.
﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾ وهو حَلْفُ طعمةَ أنه ما سرقَ شيئًا، وذلك أنَّ قومَ طعمةَ قالوا فيما بينَهم: نرفعُ الأمرَ إلى النبيِّ - ﷺ -، فإنه يسمعُ (١) قولَه ويمينه؛ لأنه مسلمٌ، ولا يسمعُ من اليهوديِّ؛ لأنه كافرٌ، فلم يرضَ الله تعالى منه.
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ لا يفوتُ عنه شيء.
﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ﴿هَاأَنْتُمْ﴾ يا قومَ طعمةَ مبتدأ، خبرُه:
﴿هَؤُلَاءِ﴾ وتقدم في سورة آل عمران اختلافُ القراء (٢) في قولِه تعالى: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾.
﴿جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ خاصمتُم عن الخائنين.
﴿فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ﴾ إذا عُذِّبوا.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ محاميًا عنهم.
(٢) "القراء" ساقطة من "ن".
[١١٠] ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ يعني: السرقةَ.
﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ بما يختصُّ به ولا يتعدَّاهُ بما دونَ الشِّركِ.
﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ يتوبُ إليه.
﴿يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فيه حثٌّ لطعمةَ وقومِه على التوبةِ والاستغفارِ.
﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١١)﴾.
[١١١] ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ فلا يتعداهُ وَبالُهُ.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بفعلِهِ.
﴿حَكِيمًا﴾ في مجازاتِه.
﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (١١٢)﴾.
[١١٢] ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾ هي سرقةُ الدرعِ.
﴿أَوْ إِثْمًا﴾ ذنبًا، وهو يمينُه الكاذبةُ.
﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾ أي: بالإثمِ.
﴿فَقَدِ احْتَمَلَ﴾ أي: تحمل.
﴿بُهْتَانًا﴾ أصلُه كلُّ ما يَبْهَتُ له الإنسانُ من ذنبٍ وغيره.
﴿وَإِثْمًا﴾ ذنبًا.
﴿مُبِينًا﴾ ظاهرًا.
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (١١٣)﴾.
[١١٣] ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ يا محمدُ؛ بإعلامِ ما هم عليه بالوحي.
﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ يعني: قومَ طعمةَ.
﴿أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ عن الحقِّ، مع علمِهم بالحال.
﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لأن وبالَ أفعالِهم راجعٌ عليهم.
﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ لأن الله يعصمُك منهم.
﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآنَ.
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ القضاءَ بالوحي.
﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ إذ لا فضلَ أعظمُ من النبوَّةِ.
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١١٤)﴾.
[١١٤] ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ أي: تنَاجِيهم فيما يديرونه بينهم. قرأ حمزةُ: (لا خَيْرَ) بالمدِّ بحيثُ لا يبلغ الإشباعَ.
﴿إِلَّا﴾ أي: إلا نجوى.
﴿مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ أي: حثَّ عليها إن لم يكنْ له مالٌ.
﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ وهو كلُّ ما يستحسنُه الشرعُ، ولا ينكرُه العقلُ، وجميعُ أعمالِ البرِّ معروف.
﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ قال - ﷺ -: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِن دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ؟ "، قيل: بلى، قال: "إِصْلاَح ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ" (٢) الَّتِي تَحْلِقُ الدِّينَ لاَ الشَّعْرَ.
(٢) رواه أبو داود (٤٩١٩)، كتاب: الأدب، باب: في إصلاح ذات البين، والترمذي (٢٥٠٩)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: (٥٦)، وقال: صحيح، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-.
﴿ابْتِغَاءَ﴾ أي: طلبَ.
﴿مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ أي: رضاه. قرأ الكسائيُّ (مَرْضَاتِ) بالإمالة، ووقف عليها بالهاء حيثُ وقعَ (١).
﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ (يُؤْتيهِ) بالياء؛ يعني: يؤتيهِ اللهُ، وقرأ الباقونَ: (نُؤْتيهِ) بالنون (٢).
﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥)﴾.
[١١٥] ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ﴾ أي: يخالفِ (٣).
﴿الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ من بعد وضوحِ الدليلِ.
﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ﴾ أي: طريقِ.
﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ وهو الإسلامُ.
﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ نَكِلُهُ إلى ما اختارَ من الكفرِ في الدنيا. قرأ أبو عمرٍو، وأبو بكرٍ، وحمزةُ: (نُوَلِّهْ) و (نُصْلِهْ) بسكون الهاء، واختلِفَ عن
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٧)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٩٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥٩٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٦١).
(٣) "أي: يخالف" ساقطة من "ن".
﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ في العُقْبى.
﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ نزلتْ في طعمةَ، وذلك أنه لما ظهرتْ عليه السرقةُ، خافَ من قطعِ اليدِ والفضيحةِ، فهربَ إلى مكةَ وارتدَّ، ونقبَ حائطًا بها ليسرقَ أهلَها، فسقطَ الحائطُ عليه فقتلَه.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١١٦)﴾.
[١١٦] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ بَعُدَتْ غايتُه عن كلِّ خيرٍ، فلا يُرجى له الفلاحُ.
عن ابن عباسٍ: "أنَّ هذهِ الآيةَ نزلتْ في شيخٍ من الأحزابِ جاء إلى رسولِ الله - ﷺ -، فقال: يا نبيَّ الله! إني شيخٌ منهمكٌ في الذنوب، إلا أني لا أشركُ بالله شيئًا منذُ عرفتُه وآمنتُ به، ولم أتخذْ من دويه أولياءَ، ولم أواقعِ المعاصيَ جرأةً على الله، وما توهَّمْتُ طرفةَ عينٍ أَني أُعجِزُ الله هَرَبًا،
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٦٢)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٩٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٦٢).
﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (١١٧)﴾.
[١١٧] ونزلَ في أهلِ مكَّةَ.
﴿إِنْ يَدْعُونَ﴾ أي: ما يعبدون.
﴿مِنْ دُونِهِ﴾ أي: من دون الله.
﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ يعني: الأوثانَ، وكانوا يسمُّونها باسمِ الإناثِ، كمناةَ واللاتِ والعُزَّى.
﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ خارجًا عن الطاعةِ، وهو إبليسُ.
﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (١١٨)﴾.
[١١٨] ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ أبعدَه اللهُ من رحمتِه.
﴿وَقَالَ﴾ إبليسُ.
﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ أي: حظًّا معلومًا؛ أي: طائفةً أنهم يطيعوني.
[١١٩] ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ عن الحقِّ.
﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أُلقي في أمانيّهم ركوبَ الأهواء.
﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ﴾ يقطِّعُنَّ.
﴿آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ يعني: البَحائرَ؛ لأنهم كانوا يشقُّون آذنَ الناقةِ إذا ولدَتْ خمسةَ أَبْطُنٍ، وجاء الخامسُ ذكرًا، ويحرِّمونَ الانتفاع بها.
﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ﴾ لَيبدِّلُنَّ.
﴿خَلْقَ اللَّهِ﴾ بالخِصاءِ ونتفِ اللحيةِ والوَشْم ونحوِها.
﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا﴾ أي: ربًّا.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يطيعُه.
﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ أي: نقصَ نفسَه، وعَيَّبَها؛ بأن أعطى الشيطانَ حقَّ اللهِ تعالى فيه، وتركَه من أجلِه.
﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (١٢٠)﴾.
[١٢٠] ﴿يَعِدُهُمُ﴾ ما لا ينجزُ، وهو طولُ العمرِ.
﴿وَيُمَنِّيهِمْ﴾ ما لا ينالونَ من الدنيا.
﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ باطلًا.
[١٢١] ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (١٢١)﴾ مَفَرًّا.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (١٢٢)﴾.
[١٢٢] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي: من تحت غرفِها ومساكِنها.
﴿الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ﴾ نصبٌ مصدرٌ مؤكَّدٌ.
﴿حَقًّا﴾ حالٌ من (وعد الله)
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾. أي: قولًا.
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣)﴾.
[١٢٣] ولما افتخرَ اليهودُ والنصارى، وقالوا للمسلمين: نبيُّنا قبلَ نبيِّكم، وكتابُنا قبلَ كتابِكم، فنحن أَوْلى بالله منكم، فقال المسلمون: نبيُّنا خاتمُ الأنبياء، وكتابنا يقضي على الكتبِ، وقد آمنَّا بكتابِكم، ولم تؤمنوا بكتابِنا، فنحن أَوْلى بالله منكم، فنزل قوله تعالى:
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ (١) أيُّها المسلمونَ.
﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ مبتدأٌ، وهو شرطٌ جوابُه:
﴿يُجْزَ بِهِ﴾ عاجِلًا أو آجلًا.
وهذه الآية عامة في حقِّ كلِّ عاملٍ، فأما مجازاةُ الكافرِ، فالنارُ، وأما المؤمنُ، فنكباتُ الدنيا، قال أبو بكر رضي الله عنه: لما نزلَتْ ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قلتُ: يا رسولَ الله! ما أشدَّ هذهِ الآيةَ! فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ! أَمَا تَحْزَنُ، أَمَا تَمْرَضُ، أَمَا تُصِيبُكَ اللأْوَاءُ؟ فَهَذَا بِذلكَ" (٢).
﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا﴾ يواليه.
﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصُره في دفعِ العذابِ.
وفي قولِه تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: ما تَزْرَعْ تَحْصُدْ.
(١) انظر: "تفسير القرطبي" (٥/ ٣٩٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٧ - ٢٥٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٦٥).
(٢) رواه الإمام أحمد في "المسند" (١/ ١١)، وأبو يعلى في "مسنده" (٩٨)، وابن حبان في "صحيحه" (٢٩١٠)، والحاكم في "المستدرك" (٤٤٥٠).
[١٢٤] ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ بعضها وشيئًا منها، فإن كلَّ أحدٍ لا يتمكَّن من كلِّها، وليس مكلَّفًا بها.
﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وأبو بكرٍ، ورَوْحٌ: (يُدْخَلُونَ) بضمِّ الياءِ وفتحِ الخاء، وقرأ الباقونَ: بفتح الياء وضمِّ الخاء (١).
﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ أي: لا ينقصُ شيءٌ من ثوابِهم.
﴿نَقِيرًا﴾ هو النقطةُ التي تكونُ على ظهر النواةِ، ومنها تنبتُ النخلةُ.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (١٢٥)﴾.
[١٢٥] ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾ أي: أحكمُ.
﴿دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أي: أخلصَ عملَه لله.
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ موحِّدٌ.
﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ دينَهُ.
﴿حَنِيفًا﴾ حالٌ مِنْ ﴿وَاتَّبَعَ﴾.
﴿خَلِيلًا﴾ والخليلُ: الذي ليسَ في محبته خَلَلٌ، والخُلَّةُ: الصداقةُ؛ لأن الله أحبَّه واصطفاه، قال - ﷺ -: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا، لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخِي، وَصَاحِبِي، وَلَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ صاحِبَكُمْ خَلِيلًا" (٢).
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (١٢٦)﴾.
[١٢٦] ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ خَلْقًا وَمُلْكًا، يختارُ منها من يشاءُ وما يشاءُ.
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ إحاطةَ علمٍ وقدرةٍ.
﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (١٢٧)﴾.
[١٢٧] ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾ يستخبرونَكَ.
(٢) رواه مسلم (٢٣٨٣)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.
﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أي: ويُفتيكم فيما يُتلى عليكم.
﴿فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ﴾ أي: تعطوهُنَّ.
﴿مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ من الصَّداقِ والميراثِ.
﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ أي: عن أن تنكحوهنَّ؛ فإن أولياءَ اليتامى كانوا يرغبون فيهنَّ إنْ كُنَّ جميلاتٍ، ويأكلونَ مالهنَّ، وإن كانتْ مرغوبةً عنها في قلةِ المالِ والجمالِ، تركَها، وفي رواية: "هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ في حِجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شركَتْهُ في مالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْها أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِذَمَامَتِهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ، فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ في مَالِهِ، فَيَحْبسُهَا حَتَّى تَمُوتَ، فَيَرِثُهَا"، فنهاهم اللهُ عن ذلك (١).
﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ أي: ويفتيكُم في المستضعفينَ.
﴿مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ أن تعطوهُم حقَّهم، وكانوا لا يُوَرِّثون إلا الرجالَ دون النساءِ والأطفالِ.
﴿وَأَنْ تَقُومُوا﴾ أي: ويُفتيكم أن تقوموا.
﴿لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ بالعدلِ في إيتائهنَّ مهورَهُنَّ.
﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ يجازيكم عليه.
[١٢٨] ونزلَ في أمرِ المرأةِ التي تكونُ ذاتَ سِنٍّ وذمامةٍ، أو نحو ذلك مما يرغِّبُ زوجَها، عنها فيذهبُ الزوجُ إلى طلاقِها، أو (١) إلى إيثارِ شابَّةٍ عليها، ونحو هذا مما يقصدُ به صلاحَ نفسِه، ولا يضرُّها هي ضِرارًا يلزمُه إياها، بل يعرضُ عليها الفُرقةَ، أو الصبرَ على الأثرةِ، فتريدُ هي بقاءَ العصمةِ، فهذه التي أباحَ اللهُ تعالى بينَهما الصلحَ، ورفع الجناحَ فيه؛ إذ الجناحُ في كلِّ صلحٍ يكونُ عن ضررٍ من الزوجِ يفعلُه حتى تصالحَهُ، وأباحَ اللهُ الصلحَ مع الخوفِ وظُهورِ علاماتِ النشوزِ والإعراضِ، وهو مع وقوعِها مباح أيضًا، فقال تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ﴾ (٢) توقَّعْتَ.
﴿مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا﴾ بُغْضًا.
﴿أَوْ إِعْرَاضًا﴾ بوجْهِهِ وقلةِ نفقتِه والتفاتِه إليها.
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا﴾. قرأ حمزةُ، وعاصم، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يُصْلِحَا) بضمِّ الياء وكسر اللام مخفَّفًا من أصلحَ، قرأ الباقون: بفتحِ الياء وتشديدِ الصاد مع فتحها، وبعد الصاد ألفٌ بعدَها لامٌ مفتوحة (٣).
(٢) رواه البخاري (٢٣١٨)، كتاب: المظالم، باب: إذا حلله من ظلمه فلا رجوع فيه، ومسلم (٣٠٢١)، في أول كتاب: التفسير، عن عائشة -رضي الله عنها-.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٠٦).
﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ من الفُرقةِ والنشوز.
﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ المعنى: إن النفوسَ قد جُبلت على الشحِّ، فهي حاضرتُه لا تفارقُه أبدًا؛ لأن كلَّ واحدٍ من الزوجين يُغَلِّبُ ما فيه راحتُه، والشحُّ: الإفراطُ في البخلِ.
﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ العشرةَ.
﴿وَتَتَّقُوا﴾ الفُرقةَ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الإحسانِ بالخصومةِ.
﴿خَبِيرًا﴾ عليمًا به، والصلحُ: هو التوفيقُ والسَّلْمُ، فيكون بين مسلمينَ وأهلِ حربٍ، وبين أهلِ بغيٍ وعدلٍ، وبين زوجين إذا خيفَ الشقاقُ بينهما، أو خافتِ امرأةٌ إعراضَ زوجِها عنها، وبين متخاصِمَيْنِ في غيرِ مالٍ، وفي مال عبارةٌ عن معاقدةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى موافقةٍ بين مختلفين، وهو عقدٌ يرفعُ النزاعَ، وأصلُه من الصَّلاحِ، وهو ضِدُّ الفسادِ، ومعناه دالٌّ على حسنِهِ الذاتيِّ، بدليلِ ما نطقَ به الكتابُ العزيزُ.
واختلفَ الأئمةُ في حكمِه بينَ متخاصِمَيْنِ في مالٍ، فعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ يصحُّ مع الإقرارِ والإنكارِ والسكوتِ، وعند مالكٍ يصحُّ مع الإنكارِ والسكوتِ، ويجوز على الافتداءِ من اليمينِ بمالٍ، وعند الشافعيِّ يصحُّ مع الإقرارِ فقط.
[١٢٩] ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ في القَسْمِ والنفقةِ وميلِ القلبِ.
﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ على العدلِ، والحرصُ: شدةُ الإرادةِ.
﴿فَلَا تَمِيلُوا﴾ إلى التي تحبونها.
﴿كُلَّ الْمَيْلِ﴾ في القسمةِ والنفقةِ باتبِّاع أهوائِكم.
﴿فَتَذَرُوهَا﴾ أي: فتدَعُوا الأخرى.
﴿كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ التي ليستْ أَيِّمًا، ولا ذاتَ بعلٍ، كان - ﷺ - يقسمُ بينَ نسائِه ويقول: "اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تلمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ" (١) يعني: حبَّهُ عائشةَ رضي الله عنها، وقال: "مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ" (٢).
(٢) رواه أبو داود (٢١٣٣)، كتاب: النكاح، باب، في القسم بين النساء، والترمذي (١١٤١)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر، وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
﴿وَتَتَّقُوا﴾ الجَوْرَ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يغفرُ لكم ما مضى من مَيْلِكم.
﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (١٣٠)﴾.
[١٣٠] ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا﴾ أي: الزوجانِ.
﴿يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا﴾ أي: كلَّ واحدٍ منهما.
﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾ رزقِهِ؛ بأن تتزوَّجَ غيرَه، ويتزوَّجَ غيرَها.
﴿وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا﴾ أي: واسعَ الفضلِ.
﴿حَكِيمًا﴾ في القولِ والفعلِ.
ويجبُ على الرجلِ التسويةُ في القَسْمِ والنفقةِ، ويعصي بتركِه، وعليهِ القضاءُ للمظلومةِ، ولا يلزمُ التسويةُ في الجِماع، بالاتفاق؛ لأنه يدورُ على النشاط، وليسَ ذلكَ إليه، وإذا كان في نكاحه حرةٌ وأمةٌ، قسمَ للحرةِ ليلتينِ، وللأمةِ ليلةً عندَ الثلاثة، وقال مالكٌ في المشهور عنه: القسمُ بينَهما سواء، وإذا تزوَّجَ بِكْرًا وله نساءٌ سواها، أقامَ عندَها سَبْعًا، ثم دارَ، وإن كانتْ ثَيِّبًا، أقامَ ثلاثًا، وبه قالَ الأئمةُ الثلاثةُ، وقال أبو حنيفةَ: لا يفضِّلُ الجديدةَ في القسم، بل يسوِّي بينَها وبينَ مَنْ عندَه.
[١٣١] ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تنبيهٌ على كمالِ سَعَته وقدرتِهِ.
﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يعني: التوراةَ والإنجيلَ وسائرَ الكتبِ المتقدمةِ في كتبِهم.
﴿وَإِيَّاكُمْ﴾ يا أهلَ القرآنِ في كتابِكم.
﴿أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أطيعوه.
﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ بما وُصِّيتُم به.
﴿فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الملائكةِ وغيرِهم، فهم أطوعُ منكم.
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا﴾ عن الخلقِ وعبادتِهم ﴿حَمِيدًا﴾ محمودًا على نِعَمِهِ.
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٣٢)﴾.
[١٣٢] ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ مُجيرًا، فلا تتوكَّلوا على غيرِه.
[١٣٣] ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ أي: يُعْدِمْكم، تهديدٌ للكفارِ.
﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ يوجِدْ غيرَكم أطوعَ له منكُم.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ﴾ على الإعدامِ والإيجادِ.
﴿قَدِيرًا﴾ لا يُعجزه مُرادٌ.
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (١٣٤)﴾.
[١٣٤] ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ حُطامُها.
﴿فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فمَنْ أرادَ بعملِه عَرَضًا من الدنيا، آتاه اللهُ ما أراد، وليس له في الآخرة من ثوابٍ، ومن أرادَ ثوابَ الآخرةِ، آتاه اللهُ ما أحبَّ من الدنيا، وجزاؤهُ الجنةَ في الآخرة.
﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ عالمًا بالأغراضِ، فيجازي كلًّا بحسبِ قصدِه.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا
[١٣٥] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ مجتهدينَ في إقامةِ العدلِ.
﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ تُقيمون شهادَتَكم بالحقِّ لوجهِ الله.
﴿وَلَوْ﴾ كانتِ الشهادةُ.
﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ بأن تُقِرُّوا عليها.
﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ ولو على والدِيكم وأقارِبِكم.
﴿إِنْ يَكُنْ﴾ المشهودُ له أو عليه.
﴿غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ فأقيموها، ولا تُحابُوا غنيًّا لغناه، ولا ترحموا فقيرًا لفقره. اتفقَ القراءُ سوى أبي جعفرٍ على إظهارِ النونِ عندَ الغينِ والخاء نحو (مِنْ غِلٍّ) و (مِنْ خَيْرٍ) وشبهِه، وقرأ أبو جعفرٍ: بإخفاءِ النونِ عندَهما، واستثنى بعضُ أهلِ الأداءِ عنه: (إِنَ يَكُنْ غَنِيًّا) (والْمُنْخَنِقَةُ) في المائدة، (فَسَيُنْغِضُونَ) في الإسراء، فأظهرَ النونَ عنه في هذهِ الثلاثةِ، وروي عنه الإخفاءُ فيها أيضًا، والاستثناءُ أظهرُ، وعدمُه أقيسُ.
﴿فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ منكم، فكِلُوا أمرَهما إليه.
﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾ إرادةَ.
﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ عن الحق من العدولِ.
﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ تحرفوا الشهادةَ. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ: (تَلُوْا) بضم اللام وواو ساكنة؛ من الولاية؛ أي: تَلُوا أمرَ الناس، وقرأ الباقون: بإسكان
﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ عن أدائِها فتكتُموها.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فيجازيكم به.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١٣٦)﴾.
[١٣٦] ثم خاطبَ مؤمني أهلِ الكتابِ فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بموسى وعيسى عليهما السلام.
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ محمدٍ - ﷺ -.
﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ القرآنِ.
﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ المرادُ جنسُ الكتبِ المنزلةَ؛ أي: اثبتوا على الإيمان بذلك. قرأ ابن كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو عمرٍو (نُزِّلَ) و (أُنْزِلَ) بضم النون في الحرف الأول، وضم الهمزة في الثاني، وكسر الزاي فيهما، وقرأ الباقون: بفتح النون والهمزة والزاي فيهما؛ أي: أنزل الله (٢)، ثم قال متهددًا:
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٣٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٨)، =
﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ عن الهداية. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وابنُ عامرٍ، وخلفٌ (فَقَد ضَّلَّ) وشبهه بإدغام الدال في الضاد، والباقون: بالإظهار (١).
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (١٣٧)﴾.
[١٣٧] ثم تهدَّد المتلعِّبين بالدِّين فقال:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بموسى عليه السلام، وهم اليهود.
﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ بعبادتِهم العجلَ.
﴿ثُمَّ آمَنُوا﴾ بالتوراةِ.
﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ بعيسى عليه السلام.
﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بمحمدٍ - ﷺ -.
﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ ما أقاموا على ذلكَ.
﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ طريقًا إلى الحقِّ.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٩٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٧١).
[١٣٨] ﴿بَشِّرِ﴾ أي: أخبرْ يا محمدُ.
﴿الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ والبشارةُ: كلُّ خبرٍ تتغيرُ به بشرةُ الوجهِ، سارًّا كانَ أو غيرَ سارٍّ.
﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (١٣٩)﴾.
[١٣٩] ثم وصفَ المنافقين فقال:
﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ﴾ أي: اليهودَ والنصارى.
﴿أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: يتخذونهم أنصارًا وبطانةً.
﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ يطلبونَ منهم المعونةَ والظهورَ على محمدٍ - ﷺ - وأصحابِه.
﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ﴾ أي: القوةَ والغلبةَ والقدرةَ.
﴿لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ لا يتعزَّزُ إلا من أَعَزَّه.
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠)﴾.
[١٤٠] ﴿وَقَدْ نَزَّلَ﴾ قرأ عاصمٌ، ويعقوبُ: بفتح النون والزاي؛ أي:
﴿عَلَيْكُمْ﴾ يا معشرَ المسلمينَ.
﴿فِي الْكِتَابِ﴾ يعني: القرآنَ.
﴿أَنْ﴾ أي: أنه.
﴿إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ أي: إذا سمعتُم الكفرَ والاستهزاءَ بآيات الله.
﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ﴾ أي: مع الكافرين والمستهزئين.
﴿حَتَّى يَخُوضُوا﴾ يَشْرَعوا.
﴿فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ أي: اجتنبوهُم حينَ استهزائِهم بمحمدٍ - ﷺ - والقرآنِ.
﴿إِنَّكُمْ إِذًا﴾ أي: إذا قعدتُم عندَهم، وسمعتُم استهزاءَهُم، ورضيتُم به، فأنتم كفار.
﴿مِثْلُهُمْ﴾ لأن الرضا بالكفرِ كفر.
﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ تهديدٌ للخائضينَ والمستمعينَ الراضين بجمعِهم في جهنَّمَ.
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[١٤١] ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ يعني: المنافقون ينتظرونَ هلاكَكُم، ولمن تكونُ العاقبةُ، لكم أم لعدوِّكم.
﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ﴾ ظفرٌ وغنيمةٌ.
﴿مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ في الجهادِ، فلنا نصيبٌ من الغنيمة.
﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ دولةٌ وظهورٌ على المسلمينَ.
﴿قَالُوا﴾ يعني: المنافقينَ للكفارِ.
﴿ألم نستحوذ﴾ نستولِ.
﴿عَلَيْكُمْ﴾ ونخبرْكم بعورةِ محمدٍ وأصحابِه، ونطلعْكم على سرِّهم.
﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ندفعْ عنكم صولةَ المؤمنين، ونخذلْهم عنكُم.
﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ أيها المؤمنونَ والمنافقونَ.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ حجةً شرعيةً يستظهرون بها.
فيه دليلٌ على أن الكافرَ لا يملكُ العبدَ المسلم. واختلفَ الأئمةُ، فقال أحمدُ والشافعيُّ: لا يصحُّ بيعُ عبدٍ مسلمٍ لكافرٍ، إلا أنْ يكونَ ممن يعتَقُ عليه، فيصحُّ، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: يصحُّ، ويُجبر على إزالةِ ملكهِ عنه، ولو أسلمَ عبدُ الكافرِ، أُجبرَ على إزالةِ ملكِه عنه، بالاتفاق.
[١٤٢] ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ يعاملونه معاملةَ المخادِعين بإظهارِ الإيمانِ وإبطانِ الكفر.
﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ مُجازيهم جزاءَ خداعِهم.
﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ متثاقلينَ، صلاتهم لغير الله. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (كُسَالَى) بالإمالة (١).
﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ بفعلِهم.
﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا﴾ ذكرًا.
﴿قَلِيلًا﴾ قال ابن عباسٍ: "لو أردوا بذلكَ القليل وجهَ اللهِ، لكانَ كثيرًا" (٢).
﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (١٤٣)﴾.
[١٤٣] ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ مضطربينَ.
﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ بين الكفرِ والإيمان.
﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ لا منسوبينَ إلى المؤمنينَ، ولا إلى
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٥/ ٣٣٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦١٤).
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ طريقًا إلى الحقِّ والصوابِ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (١٤٤)﴾.
[١٤٤] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنه صَنيعُ المنافقينَ.
﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ حُجَّةً بينةً في عذابِكم.
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥)﴾.
[١٤٥] ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ﴾ وهو أخفضُ مكانٍ.
﴿مِنَ النَّارِ﴾ قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (فِي الدَّرْكِ) بسكونِ الراءِ، والباقون: بفتحها، وهما لغتان؛ كالنَّهْرِ والنَّهَرِ (٢).
﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ يخرجُهم منه.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٣٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦١٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٧٥).
[١٤٦] ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ من النفاقِ.
﴿وَأَصْلَحُوا﴾ ما أفسدُوا من عملِهم.
﴿وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ﴾ وَثِقوا بهِ.
﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ بقلوبهم.
﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في الجنةِ.
﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ في الجنةِ. أثبتَ يعقوبُ الياءَ في (يُؤْتِي) حالةَ الوقفِ (١).
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (١٤٧)﴾.
[١٤٧] ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ﴾ أي: أيُّ شيءٍ يفعلُ.
﴿بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ﴾ اللهَ.
﴿وَآمَنْتُمْ﴾ بهِ أَيتشفَّى به غيظًا، أو يدفعُ ضرًّا، أو يستجلبُ به نفعًا، وهو الغنيُّ المتعالي عن النفعِ والضرِّ.
﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا﴾ مثيبًا.
﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (١٤٨)﴾.
[١٤٨] ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ القبيحِ.
﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ فيدعو على ظالمِهِ، فيقولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عليهِ، اللهمَ خذْ لي حقِّي منه.
﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا﴾ لدعائِكُم ﴿عَلِيمًا﴾ بأحوالِكُم.
﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (١٤٩)﴾.
[١٤٩] ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا﴾ حسنةً.
﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ أي: الخيرَ.
﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ أي: مَظْلَمَةٍ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ يُكْثِرُ العفوَ عن العُصاة، مع قدرتهِ على الانتقامِ منهم، فاستنوا بهِ وبرسولِه.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠)﴾.
﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ نؤمنُ ببعضِ الأنبياء، ونكفرُ ببعضِهم.
﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي: الكفرِ والإيمانِ.
﴿سَبِيلًا﴾ طريقًا وَسَطًا بينَ الإيمانِ والكفرِ.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٥١)﴾.
[١٥١] ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ أي: هم الكاملونَ في الكفر.
﴿حَقًّا﴾ مصدرٌ مؤكِّدٌ، فالكافرُ ببعضِ الأنبياءِ كالكافرِ بجميعِهم.
﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ أي: لجميعِ أصنافِهم.
﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ مُذِلًّا.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٥٢)﴾.
[١٥٢] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ كلِّهم.
﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ تلخيصُه: من أَمنَ باللهِ وجميعِ رسلِه.
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ بتضعيفِ حسناتِهم.
﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (١٥٣)﴾.
[١٥٣] ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ نزلَتْ في اليهودِ لما قالوا للنبي - ﷺ -: إن كنتَ صادقًا، فَأْتِنا بكتابٍ من السماءِ جملةً (٣)؛ أي: كما أُوتي به موسى عليه السلام، وكان سؤالُهم سؤالَ تهكُّم لا انقيادٍ.
﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي: أعظمَ من سؤالك.
﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ عيانًا. قرأ ابنُ كثيرٍ، والسوسيُّ، ويعقوبُ: (أَرْنَا) بإسكانِ الراء، والباقونَ: بكسرها (٤).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣١٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٧٦).
(٣) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٠٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦١٧).
(٤) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٩٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =
﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ أي: بسببِ ظلمِهم.
﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ إلهًا.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ المعجزاتُ.
﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ ولم نستأصِلْهم. تلخيصُه: تابَ أولئكَ فعفونا عنهم، فتوبوا أنتم، فنعفوَ عنكم.
﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ حجةً ظاهرةً، وهي الآياتُ التي جاء بها.
﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (١٥٤)﴾.
[١٥٤] ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ الجبلَ.
﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾ أي: بسبب نقضِهم الميثاقَ الذي أُخِذَ منهم، وهو العمل بما في التوراة.
﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ على لسانِ موسى عليه السلام.
﴿وَقُلْنَا لَهُمْ﴾ على لسانِ داودَ عليه السلام: ﴿لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ أي: لا تعتدوا باصطيادِ الحيتانِ فيه. قرأ أبو جعفرٍ (تَعدُّوا) بجزم العينِ وتشديدِ الدال، وورشٌ: بفتح العين وتشديد الدال مضمومةً، وقالون: باختلاسِ فتحةِ العينِ مع تشديد الدال، والباقونَ: بإسكانِ العينِ والتخفيف (١).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٨)، =
﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ على ذلك، وهو قولُهم: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [المائدة: ٧].
﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥)﴾.
[١٥٥] ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ أي: فبنقضِهم.
﴿مِيثَاقَهُمْ﴾ و (ما) صلةٌ؛ كقوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] ونحوِه.
﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ لا تَعِي كلامَكَ يا محمدُ، فعلْنا بهم ما فعلْنا.
﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ﴾ أي: ختم.
﴿عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ فجعلَها محجوبةً عن العلم. قرأ هشامٌ، والكسائيُّ، وخلادٌ بخلاف عن الثالث: (بَل طَبَعَ) بإدغامِ اللام في الطاء، والباقون: بالإظهار (٢).
(١) في "ن": "في تفسيرها".
(٢) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =
﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (١٥٦)﴾.
[١٥٦] ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ بعيسى.
﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ حينَ رموها بالزنا. قرأ السوسيُّ عن أبي عمرٍو: (مَرْيَمْ بُهْتَانًا) بإسكان الميم عند الباء، وتقدمَ الكلامُ عليه في سورة البقرة.
﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧)﴾.
[١٥٧] ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ سموه رسعولَ اللهِ استهزاءً بهٍ، فأكذبَهم اللهُ تعالى في دَعْواهم بقوله:
﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى أَلْقى شبهَ عيسى على الذي دَلَّهم عليه، وتقدَّمَ الكلامُ على ذلك في سورةٍ آلِ عمران.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي: في شأن عيسى.
﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ لأن طائفةً من اليهود قالوا: نحن قتلناه، وطائفةٌ من
﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ استثناء منقطعٌ؛ أي: لكنْ يَتَّبِعونَ ظنَّهم.
﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ أي: عيسى قتلًا.
﴿يَقِينًا﴾ كما زعموه بقولهم: إنا قتلْنا المسيحَ.
﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨)﴾.
[١٥٨] ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ ردٌّ وإنكارٌ لقتله، وإثباتٌ لرفعِه.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا﴾ لا يُغْلَبُ على ما يريدُه.
﴿حَكِيمًا﴾ فيما دَبَّرَ لعيسى، وتقدَّم في سورة آل عمران قصةُ الصلبِ ورفعِ عيسى عليه السلام إلى السماء.
﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (١٥٩)﴾.
[١٥٩] ﴿وَإِنْ﴾ أي: وما مِنْ أحدٍ.
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ أي: بعيسى.
﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي: موتِ المؤمنِ عندَ معاينةِ الموتِ حينَ لا ينفعُ نفسًا إيمانُها، وقيلَ غيرُ ذلك.
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ﴾ عيسى.
﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠)﴾.
[١٦٠] ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ وهو ما تقدَّم ذكرُه من نقضِهم الميثاقَ، وكفرِهم بآياتِ الله، وبهتانِهم على مريمَ، وقولهم: إنا قتلْنا المسيحَ.
﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ وهي ما ذُكر في سورةِ الأنعامِ في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الآية: ١٤٦]، المعنى: بظلمٍ صدرَ من اليهودِ حَرَّمْنا عليهم ذلك.
﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: عن دينِهِ ﴿كَثِيرًا﴾ من الناس.
﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦١)﴾.
[١٦١] ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ في التوراةِ.
﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ من الرِّشَا في الحكم، والمآكلِ يُصيبونها من عَوامِّهم؛ أي: بمجموعِ هذهِ الأشياءِ حَرَّمْنا عليهم تلكَ الطيباتِ.
﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ دونَ مَنْ تابَ وآمنَ.
[١٦٢] ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ﴾ المتمكِّنونَ.
﴿فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِه.
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ من المهاجرينَ والأنصارِ، وقيلَ: من أهلِ الكتابِ.
﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي: القرآنِ.
﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يعني: جميعَ الكتبِ المنزلةِ.
﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ نصبٌ على المدحِ، أو بإِضمارِ فعلٍ تقديرُه: أَعني المقيمينَ الصلاةَ.
﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ رفعُه عطفٌ على ﴿الرَّاسِخُونَ﴾، وكذلك.
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ قدَّمَ عليهِ الإيمانَ بالأنبياءِ والكتبِ وما يصدِّقُه من اتباعِ الشرائع؛ لأنه المقصودُ بالآية.
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأٌ، خبرُه:
﴿سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ على جمعِهم بين الإيمانِ الصحيحِ والعملِ الصالح. قرأ حمزةُ، وخلفٌ: (سَيُؤْتيهِمْ) بالياء، والباقون: بالنون (١).
[١٦٣] ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ الوحيُ: إلقاءُ المعنى في الخفاء (١)، وعَرَّفه في الأنبياء بواسطة جبريل عليه السلام، وذلك هو المراد بقوله:
﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ جوابٌ لأهل الكتابِ عن اقتراحهم أن ينزلَ عليهم كتابًا من السماءِ، واحتجاجٌ عليهم بأنَّ أمره في الوحي كسائر الأنبياءِ، وبدأ بنوحٍ؛ لأنه أولُ نبيٍّ مبن أنبياءِ الشريعةِ، وأولُ نبيٍّ بُعِثَ إلى الكفارِ، وكان أطولَ الأنبياءِ عُمْرًا، وجُعِلَت معجزتُه في نفسِه؛ فإنَّه عُمِّرَ ألفًا وأربعَ مئةِ سنةٍ، فلم تنقصْ له سِنٌّ، ولم تَشِبْ له شعرةٌ، ولم تنقصْ له قوةٌ، وتقدَّم ذكرُه ووفاتُه في سورةِ آلِ عمرانَ عند تفسيرِ قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ [الآية: ٣٣] وصَرَفَ نوحًا مَعَ العُجْمَةِ والتعريفِ لِخِفَّتِهِ.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ قرأ هشامٌ: (أَبْرَاهَامَ) بالألف (٢).
﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ وهم أولادُ يعقوبَ، وتقدَّم ذكرُ هؤلاء الأنبياءِ في سورة البقرة.
﴿وَعِيسَى﴾ تقدَّمَ ذكرُه في البقرة وآل عمران.
(٢) كما تقدم عنه. انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢١ - ٢٢٢ و ٢٥٢)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٨٠).
﴿وَيُونُسَ﴾ هو ابنُ مَتَّى، ومَتَّى أبوهُ في قولِ الأكثرِ، قيل: إنه من بني إسرائيلَ من سبطِ بنيامينَ، بُعِثَ إلى أهلِ نينوى قبالةَ الموصِلِ، بينهما دجلةُ، وسيأتي ذكرُ قصته في سورةِ الأنبياءِ إن شاء الله تعالى، وكانت وفاته في سنةِ خمسَ عشرةَ وثماني مئة لوفاةِ موسى عليهما السلام، وقبرُه في قرية تسمَّى حلحول بينَ بيتِ المقدس وبلدةِ سيدِنا الخليلِ عليه الصلاة والسلام.
﴿وَهَارُونَ﴾ هو ابنُ عمرانَ أخو موسى عليهما السلام، وكان أكبرَ من موسى بثلاث سنين، وتوفي قبلَ موسى بأحدَ عشرَ شهرًا، ودُفِنَ في التيه بكهفٍ في بعضِ الجبالِ على سرير وجدَ به، وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ ذكرُ موسى ووفاتُه، فيُعلم من ذلكَ تاريخُ وفاةِ هارون.
﴿وَسُلَيْمَانَ﴾ تقدَّمَ ذكرُه ووفاته في سورة البقرة.
﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ﴾ هو ابنُ بشَيِّ بنِ عوفيد بنِ بوعزَ بنِ سَلَمُون بنِ نحشون بنِ عَمِينا ذَاب بنِ رَمْ بنِ حَصْرُون بنِ بارَص بنِ يَهُودا بنِ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليه الصلاة والسلام، كان مقامُه بحبرون، ثم انتقلَ إلى بيتِ المقدسِ، وأَسَّسَ مسجدَه، وهو الأقصى، وماتَ قبل إتمامِه، وله سبعونَ سنةً، وقيلَ غيرُ ذلكَ، وملك أربعينَ سنةً، ودُفِنَ
﴿زَبُورًا﴾ قرأ حمزةُ، وخلفٌ: بضمِّ الزاي حيثُ وقعَ، جمع زَبْرٍ؛ كدَهْرٍ ودُهور، بمعنى: مزبور؛ أي: مكتوبٍ، وقرأ الباقون: بالفتحِ اسمٌ للكتاب المنزَلِ عليه (٢)، وهو مئةٌ وخمسونَ سورةً بالعبرانيةِ في خمسينَ منها: ما يلقونه من بُخْتَ نَصَّرَ، وفي خمسينَ: ما يلقونَهُ من الرومِ، وفي خمسين: مواعظُ وحكمٌ، ولم يكنْ فيه حلالٌ ولا حرامٌ ولا أحكامٌ، وتقدَّم في سورةِ البقرةِ ذكرُ ما آتاهُ اللهُ من الملكِ والحكمةِ وطيبِ الصوتِ والألحانِ في قراءةِ الزَّبورِ.
﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (١٦٤)﴾.
[١٦٤] ﴿وَرُسُلًا﴾ منصوبٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ؛ أي: وأرسلْنا رسلًا؛ لأن معنى ﴿أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ﴾ أرسلْنا نوحًا.
﴿قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبلِ هذهِ السورة، أو اليومَ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٢٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٨١).
﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ مصدرٌ معناهُ التأكيدُ، يدلُّ على بُطلانِ قولِ مَنْ يقول: خَلَقَ لنفسِه كلامًا في شجرةٍ، فسمعَهُ موسى، بل هو الكلامُ الحقيقيُّ الذي يكونُ به المتكلِّمُ متكلمًا، وكلامُ الله تعالى للنبيِّ موسى دونَ تكييفٍ ولا تحديدٍ؛ فإنه سبحانه موجودٌ لا كالموجودات، معلومٌ لا كالمعلوماتِ، فكذلكَ كلامُه لا كالكلامِ.
﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥)﴾.
[١٦٥] ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ نصبٌ على المدحِ، ثم عَلَّلَ الإرسالَ فقال:
﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ﴾ إرسالِ.
﴿الرُّسُلِ﴾ إليهم، فيقولوا: ما أرسلتَ إلينا، فكيفَ تعذبنا؟! وفيه دليلٌ على أنَّ اللهَ لا يعذِّبُ الخلقَ قبلَ بعثةِ الرسلِ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥].
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا﴾ لا يغلب فيما يريد (١).
﴿حَكِيمًا﴾ فيما دَبَّرَ من أمرِ النبوةِ، وخَصَّ كلَّ نبيٍّ من الوحيِ
﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (١٦٦)﴾.
[١٦٦] قال ابن عباس: إن رؤساءَ مكةَ أَتَوا رسولَ الله - ﷺ -، فقالوا: يا محمدُ! إنا سألْنا عنكَ اليهودَ، وعن صفتِك في كتابِهم، فزعموا أنَّهم لا يعرفونَكَ، ودخلَ عليه جماعةٌ من اليهودِ، فقال لهم: "وَاللهِ إِنَكمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ"، فقالوا: ما نعلمُ ذلك، فأنزلَ الله عز وجل: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ (١) من الوحيِ والقرآنِ إن جحدوكَ وكَذَّبوكَ.
﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي: وهو عالمٌ بأنَّكَ أهلٌ لإنزالهِ عليكَ، وأَنَّكَ تبُلِّغُهُ.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ أيضًا على صدقِكَ.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ لو لم يشهدْ غيرُه.
[١٦٧] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا﴾ جمعوا بينَ الكفرِ والصَّدِّ.
﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عن طريقِ الهدى بكتمِ نعتِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨)﴾.
[١٦٨] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ باللهِ.
﴿وَظَلَمُوا﴾ بكتمِ نعتِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ من الطرقِ.
﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٦٩)﴾.
[١٦٩] ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ وهو دينُ الكفرِ؛ أي: لم يجعلْهم مسلِمينَ، بل جعلَهم كافرين، وهذا فيمَنْ سبقَ حكمُه تعالى فيهم أنَّهم لا يؤمنونَ.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ لا يصعُبُ عليه.
[١٧٠] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ﴾ محمدٌ - ﷺ -.
﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: بالشرعِ.
﴿مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا﴾ الإيمانُ.
﴿خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فهو غنيٌّ عنكُمْ.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بأحوالِهم.
﴿حَكِيمًا﴾ فيما دَبَّرَ لهم.
﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٧١)﴾.
[١٧١] ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ﴾ الخطابُ لليهودِ والنصارى؛ [فإنهم جميعًا غَلَوا في أمرِ عيسى، فقالَتْ طائفةٌ من النصارى] (١)، وهم اليعقوبيةُ والملكائيةُ: عيسى هو اللهُ، وقالتْ طائفةٌ، وهم النسطوريةُ: عيسى ابنُ الله، وقالَتِ المرقوسيةُ: عيسى ثالثُ ثلاثةِ آلهةٍ: عيسى ومريمَ واللهِ،
﴿لَا تَغْلُوا﴾ لا تتجاوزوا الحدَّ.
﴿فِي دِينِكُمْ﴾ بزيادةٍ ولا نقصانٍ، ولا تشركوا، وقوله: ﴿فِي دِينِكُمْ﴾ معناه: في الدِّينِ الذي أنتم مطلوبون (١) به، وأضافَه إليهم بيانًا أنهم مأخوذونَ بهِ، وليستِ الإشارةُ إلى دينِهم المضلِّلِ، ولا أُمروا بالثبوتِ عليهِ دونَ غلُوٍّ، وإنما أُمِروا بتركِ الغُلُوِّ في دينِ الله، وأن يوحِّدوا.
﴿وَلَا تَقُولُوا﴾ أي: تَذْكُروا.
﴿عَلَى اللَّهِ إِلَّا﴾ القولَ.
﴿الْحَقَّ﴾ يعني: تنزيهَهُ عن الصاحبةِ والولدِ.
﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ﴾ وهي قولُه لعيسى: كُنْ، فكانَ من غيرِ أبٍ.
﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ أوصلَها إليها، وحصَّلَها فيها.
﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ سُمِّي عيسى رُوحًا؛ لأنه ذو رُوحٍ وجسدٍ كغيره، وأُضيف إلى الله تشريفًا له، المعنى: لا نسبةَ ولا اتصالَ بينَ اللهِ وعيسى، وليسَ بجزءٍ منه، إلا أنه رسولُه؛ لأن عيسى مركَّبٌ، والله مُنزَّهٌ عن التركيبِ، وإنما هو ابنُ مريمَ، وهو جزءٌ منها، خُلِقَ من غيرِ أبٍ؛ لأنه مركَّبٌ مثلَها.
تلخيصُه: ليسَ عيسى إلا بعضَ أمِّه لا غيرُ؛ لأن (إنما) للحصر.
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا﴾ هم.
﴿انْتَهُوا﴾ عن التثليثِ يكنِ الانتهاءُ.
﴿خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ بالذاتِ، لا تعدَّدَ فيهِ بوجهٍ.
﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي: هو منزَّهٌ عن:
﴿أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ كما تزعمونَ أيُّها النصارى.
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ مُلْكًا وخَلْقًا، لا يماثلُه شيءٌ من ذلك فيتخذَه ولدًا.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ فإنه مستغنٍ عن الولدِ المحتاجِ إليه ليكونَ وكيلًا لأبيه؛ لأنه سبحانه قائمٌ بحفظِ الأشياءِ، غيرُ محتاجٍ إلى مَنْ يُعينهُ.
﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (١٧٢)﴾.
[١٧٢] ولما قال وفدُ نجرانَ للنبيِّ - ﷺ -: إنَّكَ تسبُّ عيسى، تقولُ: إنه عبدُ الله، فقال: "إِنَّهُ لاَ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ"، نزل:
﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ﴾ (١) أي: لن يأنفَ عِزَّةً.
﴿أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾ فإن عبوديتَهُ شرفٌ يتباهى به.
﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ عطفٌ على المسيح، وهم حَمَلَةُ العرشِ لا يأنفونَ أن يكونوا عبيدًا لله، واستدلَّ بهذه الآيةِ من يقولُ بتفضيلِ الملائكةِ
﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ﴾ يترفعْ عنها، والاستكبار دون الاستنكاف.
﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ فيجازيهِمْ.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧٣)﴾.
[١٧٣] ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ من الحسناتِ ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أذنٌ سمعَتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ وعيدٌ للذين يَدَعون عبادةَ الله أنفةً وتكبُّرًا.
[١٧٤] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لهُ حجَّةٌ عليكم بالمعجزاتِ، وهو محمدٌ - ﷺ -.
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ هو القرآنُ.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (١٧٥)﴾.
[١٧٥] ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ امتنعوا بهِ من زَيْغِ الشيطانِ.
﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ﴾ يعني: الجنةَ ونعيمَها.
﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ﴾ أي: إلى الفضلِ، وهذه هداية طريق الجِنانِ.
﴿صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ طريقًا واضحًا.
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)﴾.
[١٧٦] عن جابرٍ قال: "عادني رسولُ الله - ﷺ - وأنا مريضٌ لا أعقلُ،
﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ يستخبرونَكَ فيسألونَكَ.
﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ وتقدَّمَ تفسيرُ الكلالَةِ في أول السورة.
﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ المرادُ بالولدِ: الابنُ.
﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ لأبوينِ، أو لأب.
﴿فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ لأن الابنَ يُسْقِطُ الأختَ، والبنتُ لا تسقطُها باتفاقِ الأئمة.
﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ ابنٌ؛ لأن البنتَ لا تسُقطُ الأخَ بالاتفاق، وإن كانَ (١) ولدُها أنثى، فللأخِ ما فَضَلَ عن فرضِ البناتِ بالاتفاق (٢).
﴿فَإِنْ كَانَتَا﴾ أي: الأختانِ.
﴿اثْنَتَيْنِ﴾ فصاعِدًا.
﴿فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ فَمَنْ ماتَ وله أخواتٌ، فلهنَّ الثلثانِ بالاتفاقِ.
﴿وَإِنْ كَانُوا﴾ أي: الورثةُ.
﴿إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً﴾ أي: ذكورًا وإناثًا.
﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ أصلُه: وإن كانوا إخوةً وأخواتٍ، فَغُلِّبَ المذكَّرُ (٣).
(٢) "بالاتفاق" ساقطة من "ن".
(٣) في "ن": "الذكر".
﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات.
رُويَ أن آخرَ آيةٍ نزلت: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ (٢) ونزلَتْ في طريقِ حجةِ الوداعِ في زمنِ الصيفِ، فسمِّيَتْ: آيةَ الصيفِ، ورُوي أنَّ رسولَ اللهِ - ﷺ - عاشَ بعدَها خمسين يومًا (٣)، والله أعلم.
...
(٢) رواه البخاري (١٩١)، كتاب: الوضوء، باب: صب النبي - ﷺ - وضوءه على المغمى عليه، ومسلم (١٦١٦)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الكلالة.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٢٨).