تفسير سورة سورة النساء من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة في كلام السلف سورة النساء ؛ ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده. وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة وكتب التفسير، ولا يعرف لها اسم آخر، لكن يؤخذ مما روي في صحيحي البخاري عن ابن مسعود من قوله :<< لنزلت سورة النساء القصرى>> يعني سورة الطلاق أنها شاركت هذه السورة في التسمية الطولى، ولم أقف عيه صريحا. ووقع في كتاب بصائر ذوي خبرة التمييز للفيروز أبادي أن هذه السورة تسمى سورة النساء الكبرى، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى. ولم أره لغيره١.
ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم، ثم بأحكام تخص النساء، وأن بها أحكاما كثيرة من أحكام النساء : الأزواج، والبنات، وختمت بأحكام تخص النساء.
وكان ابتداء نزولها بالمدينة، لما صح عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده. وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة في المدينة في شوال، لثمان أشهر خلت من الهجرة، واتفق العلماء على أن سورة النساء نزلت بعد البقرة، فتعين أن يكون نزولها متأخرا عن الهجرة بمدة طويلة. والجمهور قالوا : نزلت بعد آل عمران، ومعلوم أن آل عمران نزلت في خلال ثلاث أي بعد أحد، فيتعين أن تكون سورة النساء نزلت بعدها. وعن ابن عباس : أن أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة، ثم الأنفال ثم آل عمران، ثم سورة الاحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، فإذا كان كذلك تكون سورة النساء نازلة بعد الأحزاب التي هي في أواخر سنة أربع أو أول سنة خمس من الهجرة، وبعد صلح الحديبية الذي هو في سنة ست حيث تضمنت سورة الممتحنة شرط إرجاع من يأتي المشركين هاربا إلى المسلمين عدا النساء، وهي آية ﴿ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ﴾ الآية. وقد قيل : إن آية ﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ﴾ نزلت في رجل من غطفان له ابن أخ له يتيم، وغطفان أسلموا بعد وقعة الأحزاب، إذ هم من جملة الاحزاب، أي بعد سنة خمس. ومن العلماء من قال : نزلت سورة النساء عند الهجرة. وهو بعيد. وأغرب منه من قال : إنها نزلت بمكة لأنها افتتحت بـ﴿ يا أيها الناس ﴾، وما كان ﴿ يا أيها الناس ﴾ فهو مكي، ولعله يعني أنها نزلت بمكة أيام الفتح لا قبل الهجرة لأنهم يطلقون المكي بإطلاقين. وقال بعضهم : نزل صدرها بمكة وسائرها بالمدينة. والحق أن الخطاب ب﴿ يا أيها الناس ﴾ لا يدل إلا على إرادة دخول أهل مكة في الخطاب، ولا يلزم أن يكون ذلك بمكة، ولا قبل الهجرة، فإن كثيرا مما فيه ﴿ يا أيها الناس ﴾ مدني بالاتفاق. ولا شك في أنها نزلت بعد آل عمران لأن في سورة النساء من تفاصيل الأحكام ما شأنه أن يكون بعد استقرار المسلمين بالمدينة، وانتظام أحواله وأمنهم من أعدائهم. وفيها آية التيمم، والتيمم شرع يوم غزوة المريسيع سنة خمس، وقيل : سنة ست. فالذي يظهر أن نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدة نزولها، ويؤيد ذلك أن كثيرا من الأحكام التي جاءت فيها مفصلة تقدمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الموال والمعاشرة والحكم وغير ذلك، على أنه قد قيل : إن آخر آية منها، آية الكلالة، هي آخر آية نزلت من القرآن، على أنه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة، التي في آخرها مدة طويلة، وأنه لما نزلت آية الكلالة الأخيرة أمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى. ووردت في السنة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف. ويتعين ابتداء نزولها قبل فتح مكة لقوله تعالى ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ﴾ يعني مكة. وفيها آية ﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ نزلت يوم فتح مكة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي، صاحب مفتاح الكعبة، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم، نحو قوله ﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾ الخ، وسوى التهديد بالقتال، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة. وتوهين بأسهم عن المسلمين، مما يدل على أن أمر المشركين قد صار إلى وهن، وصار المسلمون في قوة عليهم، وأن معظمها، بعد التشريع، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين، وجدال مع النصارى ليس بكثير، ولكنه أوسع مما في سورة آل عمران، مما يدل على أن مخاطبة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة.
وقد عدت الثالثة والتسعين من السور، نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة ﴿ إذا زلزلت الأرض ﴾.
وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكة والبصرة، ومائة وست وسبعون في عدد أهل الكوفة، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام.
وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله، وأهم محقوقون بأن يشكروا ربهم على ذلك، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن، والإشارة إلى النكاح والصداق، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين، ومعاشرتهن والمصالحة معهن، وبيان ما يحل للتزوج منهن، والمحرمات بالقرابة أو الصهر، وأحكام الجواري بملك اليمين. وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة، وتقسيم ذلك، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم.
ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة، والتحذير من اتباع الهوى، والأمر بالبر، والمواساة، وأداء الأمانات، والتمهيد لتحريم شرب الخمر.
وطائفة من أحكام الصلاة، والطهارة، وصلاة الخوف. ثم أحوال اليهود، لكثرتهم بالمدينة، وأحوال المنافقين وفضائحهم، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين. وأحكام معاملة المشركين ومساويهم، ووجوب هجرة المؤمنين من مكة، وإبطال مآثر الجاهلية.
وقد تخلل ذلك مواعظ وترغيب، ونهي عن الحسد، وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع، أو بحكم الفطرة. والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح. وبث المحبة بين المسلمين.
ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم، ثم بأحكام تخص النساء، وأن بها أحكاما كثيرة من أحكام النساء : الأزواج، والبنات، وختمت بأحكام تخص النساء.
وكان ابتداء نزولها بالمدينة، لما صح عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده. وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة في المدينة في شوال، لثمان أشهر خلت من الهجرة، واتفق العلماء على أن سورة النساء نزلت بعد البقرة، فتعين أن يكون نزولها متأخرا عن الهجرة بمدة طويلة. والجمهور قالوا : نزلت بعد آل عمران، ومعلوم أن آل عمران نزلت في خلال ثلاث أي بعد أحد، فيتعين أن تكون سورة النساء نزلت بعدها. وعن ابن عباس : أن أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة، ثم الأنفال ثم آل عمران، ثم سورة الاحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، فإذا كان كذلك تكون سورة النساء نازلة بعد الأحزاب التي هي في أواخر سنة أربع أو أول سنة خمس من الهجرة، وبعد صلح الحديبية الذي هو في سنة ست حيث تضمنت سورة الممتحنة شرط إرجاع من يأتي المشركين هاربا إلى المسلمين عدا النساء، وهي آية ﴿ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ﴾ الآية. وقد قيل : إن آية ﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ﴾ نزلت في رجل من غطفان له ابن أخ له يتيم، وغطفان أسلموا بعد وقعة الأحزاب، إذ هم من جملة الاحزاب، أي بعد سنة خمس. ومن العلماء من قال : نزلت سورة النساء عند الهجرة. وهو بعيد. وأغرب منه من قال : إنها نزلت بمكة لأنها افتتحت بـ﴿ يا أيها الناس ﴾، وما كان ﴿ يا أيها الناس ﴾ فهو مكي، ولعله يعني أنها نزلت بمكة أيام الفتح لا قبل الهجرة لأنهم يطلقون المكي بإطلاقين. وقال بعضهم : نزل صدرها بمكة وسائرها بالمدينة. والحق أن الخطاب ب﴿ يا أيها الناس ﴾ لا يدل إلا على إرادة دخول أهل مكة في الخطاب، ولا يلزم أن يكون ذلك بمكة، ولا قبل الهجرة، فإن كثيرا مما فيه ﴿ يا أيها الناس ﴾ مدني بالاتفاق. ولا شك في أنها نزلت بعد آل عمران لأن في سورة النساء من تفاصيل الأحكام ما شأنه أن يكون بعد استقرار المسلمين بالمدينة، وانتظام أحواله وأمنهم من أعدائهم. وفيها آية التيمم، والتيمم شرع يوم غزوة المريسيع سنة خمس، وقيل : سنة ست. فالذي يظهر أن نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدة نزولها، ويؤيد ذلك أن كثيرا من الأحكام التي جاءت فيها مفصلة تقدمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الموال والمعاشرة والحكم وغير ذلك، على أنه قد قيل : إن آخر آية منها، آية الكلالة، هي آخر آية نزلت من القرآن، على أنه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة، التي في آخرها مدة طويلة، وأنه لما نزلت آية الكلالة الأخيرة أمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى. ووردت في السنة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف. ويتعين ابتداء نزولها قبل فتح مكة لقوله تعالى ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ﴾ يعني مكة. وفيها آية ﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ نزلت يوم فتح مكة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي، صاحب مفتاح الكعبة، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم، نحو قوله ﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾ الخ، وسوى التهديد بالقتال، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة. وتوهين بأسهم عن المسلمين، مما يدل على أن أمر المشركين قد صار إلى وهن، وصار المسلمون في قوة عليهم، وأن معظمها، بعد التشريع، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين، وجدال مع النصارى ليس بكثير، ولكنه أوسع مما في سورة آل عمران، مما يدل على أن مخاطبة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة.
وقد عدت الثالثة والتسعين من السور، نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة ﴿ إذا زلزلت الأرض ﴾.
وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكة والبصرة، ومائة وست وسبعون في عدد أهل الكوفة، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام.
وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله، وأهم محقوقون بأن يشكروا ربهم على ذلك، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن، والإشارة إلى النكاح والصداق، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين، ومعاشرتهن والمصالحة معهن، وبيان ما يحل للتزوج منهن، والمحرمات بالقرابة أو الصهر، وأحكام الجواري بملك اليمين. وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة، وتقسيم ذلك، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم.
ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة، والتحذير من اتباع الهوى، والأمر بالبر، والمواساة، وأداء الأمانات، والتمهيد لتحريم شرب الخمر.
وطائفة من أحكام الصلاة، والطهارة، وصلاة الخوف. ثم أحوال اليهود، لكثرتهم بالمدينة، وأحوال المنافقين وفضائحهم، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين. وأحكام معاملة المشركين ومساويهم، ووجوب هجرة المؤمنين من مكة، وإبطال مآثر الجاهلية.
وقد تخلل ذلك مواعظ وترغيب، ونهي عن الحسد، وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع، أو بحكم الفطرة. والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح. وبث المحبة بين المسلمين.
١ - صفحة ١٦٩ جزء ١ مطابع شركة الإعلانات الشرقية بالقاهرة سنة ١٣٨٥..
ﰡ
وَطَائِفَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَالطَّهَارَةِ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ. ثُمَّ أَحْوَالُ الْيَهُودِ، لِكَثْرَتِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، وَأَحْوَالُ الْمُنَافِقِينَ وَفَضَائِحُهُمْ، وَأَحْكَامُ الْجِهَادِ لِدَفْعِ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَحْكَامُ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ وَمَسَاوِيهِمْ، وَوُجُوبُ هِجْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ، وَإِبْطَالُ مَآثِرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ مَوَاعِظُ، وَتَرْغِيبٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْحَسَدِ، وَعَنْ تَمَنِّي مَا لِلْغَيْرِ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي حُرِمَ مِنْهَا مَنْ حُرِمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، أَوْ بِحُكْمِ الْفِطْرَةِ. وَالتَّرْغِيبُ فِي التَّوَسُّطِ فِي الْخَيْرِ وَالْإِصْلَاحِ. وَبَثُّ الْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
[١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
جَاءَ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ: لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ يَوْمَئِذٍ وَفِيمَا يَأْتِي مِنَ الزَّمَانِ. فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، أَيْ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِالْمُؤْمِنِينَ،- إِذْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَئِذٍ هُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ- وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ جَمِيعِ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَاءَ بِلُغَتِهِمْ، وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَمِ، وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ لِلرُّومِ وَفَارِسَ وَمِصْرَ بِالْعَرَبِيَّةِ لِتُتَرْجَمَ لَهُمْ بِلُغَاتِهِمْ.
فَلَمَّا كَانَ مَا بَعْدُ هَذَا النِّدَاءِ جَامِعًا لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، نُودِيَ جَمِيعُ النَّاسِ، فَدَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى التَّذَكُّرِ بِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَاحِدٌ، إِذْ قَالَ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ دَعْوَةً تَظْهَرُ فِيهَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ وَحْدَةِ النَّوْعِ وَوَحْدَةِ الِاعْتِقَادِ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْوَى فِي اتَّقُوا رَبَّكُمُ اتِّقَاءُ غَضَبِهِ، وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِهِ، وَذَلِكَ حَقُّ تَوْحِيدِهِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشُّرَكَاءِ فِي الْوُجُودِ وَالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ.
وَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ مُنَاسِبَةٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْأَصْلِيَّةِ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ.
وَعَبَّرَ بِ (رَبَّكُمْ)، دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ، لِأَنَّ فِي مَعْنَى الرَّبِّ مَا يَبْعَثُ الْعِبَادَ عَلَى
وَقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ مَوَاعِظُ، وَتَرْغِيبٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْحَسَدِ، وَعَنْ تَمَنِّي مَا لِلْغَيْرِ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي حُرِمَ مِنْهَا مَنْ حُرِمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، أَوْ بِحُكْمِ الْفِطْرَةِ. وَالتَّرْغِيبُ فِي التَّوَسُّطِ فِي الْخَيْرِ وَالْإِصْلَاحِ. وَبَثُّ الْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
[١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
جَاءَ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ: لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ يَوْمَئِذٍ وَفِيمَا يَأْتِي مِنَ الزَّمَانِ. فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، أَيْ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِالْمُؤْمِنِينَ،- إِذْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَئِذٍ هُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ- وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ جَمِيعِ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَاءَ بِلُغَتِهِمْ، وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَمِ، وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ لِلرُّومِ وَفَارِسَ وَمِصْرَ بِالْعَرَبِيَّةِ لِتُتَرْجَمَ لَهُمْ بِلُغَاتِهِمْ.
فَلَمَّا كَانَ مَا بَعْدُ هَذَا النِّدَاءِ جَامِعًا لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، نُودِيَ جَمِيعُ النَّاسِ، فَدَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى التَّذَكُّرِ بِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَاحِدٌ، إِذْ قَالَ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ دَعْوَةً تَظْهَرُ فِيهَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ وَحْدَةِ النَّوْعِ وَوَحْدَةِ الِاعْتِقَادِ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْوَى فِي اتَّقُوا رَبَّكُمُ اتِّقَاءُ غَضَبِهِ، وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِهِ، وَذَلِكَ حَقُّ تَوْحِيدِهِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشُّرَكَاءِ فِي الْوُجُودِ وَالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ.
وَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ مُنَاسِبَةٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْأَصْلِيَّةِ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ.
وَعَبَّرَ بِ (رَبَّكُمْ)، دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ، لِأَنَّ فِي مَعْنَى الرَّبِّ مَا يَبْعَثُ الْعِبَادَ عَلَى
214
الْحِرْصِ فِي الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، إِذِ الرَّبُّ هُوَ الْمَالِكُ الَّذِي يَرُبُّ مَمْلُوكَهُ أَي، يدبّر شؤونه، وَلِيَتَأَتَّى بِذِكْرِ لَفْظِ (الرَّبِّ) طَرِيقُ الْإِضَافَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِتَقْوَاهُ حَقَّ التَّقْوَى، وَالدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْمُخَاطَبِينَ صِلَةً تُعَدُّ إِضَاعَتُهَا حَمَاقَةً وَضَلَالًا. وَأَمَّا التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ:
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ فَالْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنْهَا: تقوى الْمُؤمنِينَ بِالْحَذَرِ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْيَتَامَى مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. ثُمَّ جَاءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَّقَى.
وَوَصْلُ خَلَقَكُمْ بِصِلَةِ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَجِيبِ هَذَا الْخَلْقِ وَحَقِّهِ بِالِاعْتِبَارِ. وَفِي الْآيَةِ تَلْوِيحٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَحَقِّيَّةِ اتِّبَاعِهِمْ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَبْنَاءُ أَبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الدِّينُ يَدْعُو النَّاسَ كُلَّهُمْ إِلَى مُتَابَعَتِهِ وَلَمْ يَخُصَّ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ أَوْ نَسَبًا مِنَ الْأَنْسَابِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ دِينُ جَمِيعِ الْبَشَرِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ فَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِاخْتِصَاصِهَا بِأُمَمٍ مُعَيَّنَةٍ. وَفِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ يَتَّبِعُوهُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُبَيَّنُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ.
وَالنَّفْسُ الْوَاحِدَةُ: هِيَ آدَمُ. وَالزَّوْجُ: حَوَّاءُ، فَإِنَّ حَوَّاءَ أُخْرِجَتْ مِنْ آدَمَ. مِنْ ضِلْعِهِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِنْها.
وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ. وَمَعْنَى التَّبْعِيضِ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ جُزْءٍ مِنْ آدَمَ. قِيلَ: مِنْ بَقِيَّةِ الطِّينَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا آدَمُ. وَقِيلَ: فُصِلَتْ قِطْعَةٌ مِنْ ضِلْعِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى وَخَلَقَ زَوْجَهَا مِنْ نَوْعِهَا لَمْ يَأْتِ بِطَائِلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ أُنْثَى كُلِّ نَوْعٍ هِيَ مِنْ نَوْعِهِ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها عَلَى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، فَهُوَ صِلَةٌ ثَانِيَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُما صِلَةٌ ثَالِثَةٌ لِأَنَّ الَّذِي يَخْلُقُ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ جَدِيرٌ بِأَنْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ فَالْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنْهَا: تقوى الْمُؤمنِينَ بِالْحَذَرِ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْيَتَامَى مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. ثُمَّ جَاءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَّقَى.
وَوَصْلُ خَلَقَكُمْ بِصِلَةِ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَجِيبِ هَذَا الْخَلْقِ وَحَقِّهِ بِالِاعْتِبَارِ. وَفِي الْآيَةِ تَلْوِيحٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَحَقِّيَّةِ اتِّبَاعِهِمْ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَبْنَاءُ أَبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الدِّينُ يَدْعُو النَّاسَ كُلَّهُمْ إِلَى مُتَابَعَتِهِ وَلَمْ يَخُصَّ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ أَوْ نَسَبًا مِنَ الْأَنْسَابِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ دِينُ جَمِيعِ الْبَشَرِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ فَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِاخْتِصَاصِهَا بِأُمَمٍ مُعَيَّنَةٍ. وَفِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ يَتَّبِعُوهُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُبَيَّنُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ.
وَالنَّفْسُ الْوَاحِدَةُ: هِيَ آدَمُ. وَالزَّوْجُ: حَوَّاءُ، فَإِنَّ حَوَّاءَ أُخْرِجَتْ مِنْ آدَمَ. مِنْ ضِلْعِهِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِنْها.
وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ. وَمَعْنَى التَّبْعِيضِ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ جُزْءٍ مِنْ آدَمَ. قِيلَ: مِنْ بَقِيَّةِ الطِّينَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا آدَمُ. وَقِيلَ: فُصِلَتْ قِطْعَةٌ مِنْ ضِلْعِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى وَخَلَقَ زَوْجَهَا مِنْ نَوْعِهَا لَمْ يَأْتِ بِطَائِلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ أُنْثَى كُلِّ نَوْعٍ هِيَ مِنْ نَوْعِهِ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها عَلَى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، فَهُوَ صِلَةٌ ثَانِيَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُما صِلَةٌ ثَالِثَةٌ لِأَنَّ الَّذِي يَخْلُقُ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ جَدِيرٌ بِأَنْ
215
يُتَّقَى، وَلِأَنَّ فِي مَعَانِي هَذِهِ الصِّلَاتِ زِيَادَةَ تَحْقِيقِ اتِّصَالِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، إِذِ الْكُلُّ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ خَلْقُهُمْ مَا حَصَلَ إِلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ فَكُلُّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِمْ يَنْتَمِي إِلَى أَصْلٍ فَوْقَهُ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَاتِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ خَلْقِ اللَّهِ النَّاسَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ تَوْفِيَةً بِمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِلْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ، وَمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِتَفْصِيلِ حَالَةِ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ. وَلَوْ غُيِّرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فَجِيءَ بِالصُّورَةِ الْمُفَصَّلَةِ دُونَ سَبْقِ إِجْمَالٍ، فَقِيلَ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَثَّ مِنْهَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً لَفَاتَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ
، فَلِذَلِكَ يَكُونُ حَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْها لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ أَخْرَجَ خَلْقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ. وَالزَّوْجُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ الْأُنْثَى الْأُولَى الَّتِي تَنَاسَلَ مِنْهَا الْبَشَرُ، وَهِيَ حَوَّاءُ. وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُنْفَرِدًا فَإِذَا اتَّخَذَ امْرَأَةً فَقَدْ صَارَا زَوْجًا
فِي بَيْتٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ لَفْظِ الزَّوْجِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَجْمُوعِ الْفَرْدَيْنِ، فَإِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَسَامُحٌ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجَامِدِ، فَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ (زَوْجَةٌ)، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ عَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَحْنًا. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ قيل لَهُ: فقد قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَقَالَ: إِنَّ ذَا الرُّمَّةِ طَالَمَا أَكَلَ الْمَالِحَ وَالْبَقْلَ فِي حَوَانِيتِ الْبَقَّالِينَ، يُرِيدُ أَنَّهُ مُوَلَّدٌ.
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، قَصَدُوا بِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَحْكَامِ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَاتِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ خَلْقِ اللَّهِ النَّاسَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ تَوْفِيَةً بِمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِلْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ، وَمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِتَفْصِيلِ حَالَةِ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ. وَلَوْ غُيِّرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فَجِيءَ بِالصُّورَةِ الْمُفَصَّلَةِ دُونَ سَبْقِ إِجْمَالٍ، فَقِيلَ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَثَّ مِنْهَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً لَفَاتَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ
، فَلِذَلِكَ يَكُونُ حَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْها لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ أَخْرَجَ خَلْقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ. وَالزَّوْجُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ الْأُنْثَى الْأُولَى الَّتِي تَنَاسَلَ مِنْهَا الْبَشَرُ، وَهِيَ حَوَّاءُ. وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُنْفَرِدًا فَإِذَا اتَّخَذَ امْرَأَةً فَقَدْ صَارَا زَوْجًا
فِي بَيْتٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ لَفْظِ الزَّوْجِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَجْمُوعِ الْفَرْدَيْنِ، فَإِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَسَامُحٌ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجَامِدِ، فَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ (زَوْجَةٌ)، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ عَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَحْنًا. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ قيل لَهُ: فقد قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
أَذُو زَوْجَةٍ بِالْمِصْرِ أَمْ ذُو خُصُومَةٍ | أَرَاكَ لَهَا بِالْبَصْرَةِ الْعَامَ ثَاوِيَا |
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي | كَسَاعٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا |
216
وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) الْعِبْرَةَ بِهَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ الَّذِي أَصْلُهُ وَاحِدٌ، وَيَخْرُجُ هُوَ مُخْتَلِفَ الشَّكْلِ وَالْخَصَائِصِ، وَالْمِنَّةُ عَلَى الذُّكْرَانِ بِخَلْقِ النِّسَاءِ لَهُمْ، وَالْمِنَّةُ عَلَى النِّسَاءِ بِخَلْقِ الرِّجَالِ لَهُنَّ، ثُمَّ مَنَّ عَلَى النَّوْعِ بِنِعْمَةِ النَّسْلِ فِي قَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ.
وَالْبَثُّ: النَّشْرُ وَالتَّفْرِيقُ لِلْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤].
وَوَصَفَ الرِّجَالَ، وَهُوَ جَمْعٌ، بِكَثِيرٍ، وَهُوَ مُفْرد، لأنّ كثير يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٦]. وَاسْتَغْنَى عَنْ وَصْفِ النِّسَاءِ بِكَثِيرٍ لدلَالَة وصف الرجل بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْبَثِّ مِنَ الْكَثْرَةِ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.
شُرُوعٌ فِي التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ، وَأُعِيدَ فِعْلُ اتَّقُوا: لِأَنَّ هَذِهِ التَّقْوَى مَأْمُورٌ بِهَا الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُمْ قَدْ بَقِيَتْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا،
وَهِيَ التَّسَاهُلُ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْأَيْتَامِ.
وَاسْتَحْضَرَ اسْمَ اللَّهِ الْعَلَمَ هُنَا دُونَ ضَمِيرٍ يَعُودُ إِلَى رَبِّكُمْ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِ السَّامِعِينَ. لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَشْرِيعٍ يُنَاسِبُهُ إِيثَارُ الْمَهَابَةِ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ فَهُوَ مَقَامُ ترغيب. وَمعنى تَسائَلُونَ بِهِ يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهِ فِي الْقَسَمِ فَالْمُسَايَلَةُ بِهِ تُؤْذِنُ بِمُنْتَهَى الْعَظَمَةِ، فَكَيْفَ لَا تَتَّقُونَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور تسائلون- بِتَشْدِيدِ السِّينِ- لِإِدْغَامِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي السِّينِ، لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ وَاتِّحَادِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْهَمْسُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: تَسَاءَلُونَ- بِتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى أَنَّ تَاءَ الِافْتِعَالِ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا.
وَالْأَرْحامَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِالْجَرِّ- عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ الْأَرْحَامَ مَأْمُورًا بِتَقْوَاهَا عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ أَيِ اتِّقَائِهَا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ اتِّقَاءِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ
وَالْبَثُّ: النَّشْرُ وَالتَّفْرِيقُ لِلْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤].
وَوَصَفَ الرِّجَالَ، وَهُوَ جَمْعٌ، بِكَثِيرٍ، وَهُوَ مُفْرد، لأنّ كثير يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٦]. وَاسْتَغْنَى عَنْ وَصْفِ النِّسَاءِ بِكَثِيرٍ لدلَالَة وصف الرجل بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْبَثِّ مِنَ الْكَثْرَةِ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.
شُرُوعٌ فِي التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ، وَأُعِيدَ فِعْلُ اتَّقُوا: لِأَنَّ هَذِهِ التَّقْوَى مَأْمُورٌ بِهَا الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُمْ قَدْ بَقِيَتْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا،
وَهِيَ التَّسَاهُلُ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْأَيْتَامِ.
وَاسْتَحْضَرَ اسْمَ اللَّهِ الْعَلَمَ هُنَا دُونَ ضَمِيرٍ يَعُودُ إِلَى رَبِّكُمْ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِ السَّامِعِينَ. لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَشْرِيعٍ يُنَاسِبُهُ إِيثَارُ الْمَهَابَةِ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ فَهُوَ مَقَامُ ترغيب. وَمعنى تَسائَلُونَ بِهِ يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهِ فِي الْقَسَمِ فَالْمُسَايَلَةُ بِهِ تُؤْذِنُ بِمُنْتَهَى الْعَظَمَةِ، فَكَيْفَ لَا تَتَّقُونَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور تسائلون- بِتَشْدِيدِ السِّينِ- لِإِدْغَامِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي السِّينِ، لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ وَاتِّحَادِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْهَمْسُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: تَسَاءَلُونَ- بِتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى أَنَّ تَاءَ الِافْتِعَالِ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا.
وَالْأَرْحامَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِالْجَرِّ- عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ الْأَرْحَامَ مَأْمُورًا بِتَقْوَاهَا عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ أَيِ اتِّقَائِهَا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ اتِّقَاءِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ
217
فِي مَعْنَيَيْهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْآيَةُ ابْتِدَاءُ تَشْرِيعٍ وَهُوَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْأَرْحَامِ أَيِ الَّتِي يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: «نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ» كَمَا رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» :
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَرَأَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ سُورَةَ فُصِّلَتْ حَتَّى بَلَغَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] فَأَخَذَتْ عُتْبَةَ رَهْبَةٌ وَقَالَ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَحْمَلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ أَبَاهُ جُمْهُورُ النُّحَاةِ اسْتِعْظَامًا لِعَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، حَتَّى قَالَ الْمُبَرِّدُ: «لَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ بِهَاتِهِ الْقِرَاءَةِ لَأَخَذْتُ نَعْلِي وَخَرَجْتُ مِنَ الصَّلَاةِ» وَهَذَا مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ وَغُرُورٍ بِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا يَعْلَمُهُ، وَلَقَدْ أَصَابَ ابْنُ مَالِكٌ فِي تَجْوِيزِهِ الْعَطْفَ عَلَى الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، فَتَكُونُ تَعْرِيضًا بِعَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِذْ يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ بِالرَّحِمِ وَأَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ ثُمَّ يُهْمِلُونَ حُقُوقَهَا وَلَا يَصِلُونَهَا، وَيَعْتَدُونَ عَلَى الْأَيْتَامِ مِنْ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ، فَنَاقَضَتْ أَفْعَالُهُمْ أَقْوَالَهُمْ، وَأَيْضًا هم قد آذَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَلَمُوهُ، وَهُوَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِصِلَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: ١٢٨] وَقَالَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: ١٦٤]. وَقَالَ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]. وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ تَتِمَّةً لِمَعْنَى الَّتِي قبلهَا.
[٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
مُنَاسَبَةُ عَطْفِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ، لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ هُمْ أَهْلُ قَرَابَتِهِمْ، أَوْ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ فَيَجْعَلُونَ لِلْأَرْحَامِ مِنَ الْحَظِّ مَا جَعَلَهُمْ يُقْسِمُونَ بِهَا كَمَا يُقْسِمُونَ بِاللَّهِ. وَشَيْءٌ هَذَا شَأْنُهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تُرَاعَى أَوَاصِرُهُ وَوَشَائِجُهُ وَهُمْ لَمْ يَرْقُبُوا ذَلِكَ.
وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً... [النِّسَاء: ١].
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَرَأَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ سُورَةَ فُصِّلَتْ حَتَّى بَلَغَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] فَأَخَذَتْ عُتْبَةَ رَهْبَةٌ وَقَالَ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَحْمَلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ أَبَاهُ جُمْهُورُ النُّحَاةِ اسْتِعْظَامًا لِعَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، حَتَّى قَالَ الْمُبَرِّدُ: «لَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ بِهَاتِهِ الْقِرَاءَةِ لَأَخَذْتُ نَعْلِي وَخَرَجْتُ مِنَ الصَّلَاةِ» وَهَذَا مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ وَغُرُورٍ بِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا يَعْلَمُهُ، وَلَقَدْ أَصَابَ ابْنُ مَالِكٌ فِي تَجْوِيزِهِ الْعَطْفَ عَلَى الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، فَتَكُونُ تَعْرِيضًا بِعَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِذْ يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ بِالرَّحِمِ وَأَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ ثُمَّ يُهْمِلُونَ حُقُوقَهَا وَلَا يَصِلُونَهَا، وَيَعْتَدُونَ عَلَى الْأَيْتَامِ مِنْ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ، فَنَاقَضَتْ أَفْعَالُهُمْ أَقْوَالَهُمْ، وَأَيْضًا هم قد آذَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَلَمُوهُ، وَهُوَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِصِلَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: ١٢٨] وَقَالَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: ١٦٤]. وَقَالَ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]. وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ تَتِمَّةً لِمَعْنَى الَّتِي قبلهَا.
[٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
مُنَاسَبَةُ عَطْفِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ، لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ هُمْ أَهْلُ قَرَابَتِهِمْ، أَوْ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ فَيَجْعَلُونَ لِلْأَرْحَامِ مِنَ الْحَظِّ مَا جَعَلَهُمْ يُقْسِمُونَ بِهَا كَمَا يُقْسِمُونَ بِاللَّهِ. وَشَيْءٌ هَذَا شَأْنُهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تُرَاعَى أَوَاصِرُهُ وَوَشَائِجُهُ وَهُمْ لَمْ يَرْقُبُوا ذَلِكَ.
وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً... [النِّسَاء: ١].
218
وَالْإِيتَاءُ حَقِيقَتُهُ الدَّفْعُ وَالْإِعْطَاءُ الْحِسِّيُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَجَعْلِهِ حَقًّا لَهُ، مِثْلُ إِطْلَاقِ الْإِعْطَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرَ: ١] وَفِي الْحَدِيثِ: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا».
وَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ وَجَمْعُ يَتِيمَةٍ، فَإِذَا جُمِعَتْ بِهِ يَتِيمَةٌ فَهُوَ فَعَائِلُ أَصْلُهُ يَتَائِمُ، فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مكانيّ فَقَالُوا يتامىء ثُمَّ خَفَّفُوا الْهَمْزَةَ فَصَارَتْ أَلِفًا وَحُرِّكَتِ الْمِيمُ بِالْفَتْحِ، وَإِذَا جُمِعَ بِهِ يَتِيمٌ فَهُوَ إِمَّا جَمْعُ الْجَمْعِ بِأَنْ جُمِعَ أَوَّلًا عَلَى يَتْمَى، كَمَا قَالُوا: أَسِيرٌ وَأَسْرَى، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى يَتَامَى مِثْلُ أَسَارَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَوْ جَمْعُ فَعِيلٍ عَلَى فَعَائِلَ لِكَوْنِهِ صَارَ اسْمًا مِثْلَ أَفِيلٍ وَأَفَائِلَ، ثُمَّ صُنِعَ بِهِ مِنَ الْقَلْبِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ نَطَقَتِ الْعَرَبُ بِجَمْعِ يَتِيمَةٍ عَلَى يَتَائِمَ، وَبِجَمْعِ فَعِيلٍ عَلَى فَعَائِلَ فِي قَوْلِ بِشْرٍ النَّجْدِيِّ:
وَاشْتِقَاقُ الْيَتِيمِ مِنَ الِانْفِرَادِ، وَمِنْهُ الدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ أَيِ الْمُنْفَرِدَةُ بِالْحُسْنِ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَهُوَ قَاصِرٌ، وَأَطْلَقَهُ الْعَرَبُ عَلَى مَنْ فُقِدَ أَبُوهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ كَأَنَّهُ بَقِيَ مُنْفَرِدًا لَا يَجِدُ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْتَدَّ الْعَرَبُ بِفَقْدِ الْأُمِّ فِي إِطْلَاقِ وَصْفِ الْيَتِيمِ إِذْ لَا يَعْدَمُ الْوَلَدُ كَافِلَةً، وَلَكِنَّهُ يُعْدَمُ بِفَقْدِ أَبِيهِ مَنْ يُدَافِعُ عَنْهُ وَيُنْفِقُهُ. وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا رَاعَوْهُ فِي الِاشْتِقَاقِ أَنَّ الَّذِي يَبْلُغُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى يَتِيمًا إِذْ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ هُوَ إِطْلَاق الشَّرِيعَة لَا سم الْيَتِيمِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ.
وَقِيلَ: هُوَ فِي اللُّغَةِ مَنْ فُقِدَ أَبُوهُ، وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا، أَوْ كَانَ صَغِيرًا وَكَبِرَ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْإِطْلَاقَ صَحِيحًا. وَقَدْ أُرِيدَ بِالْيَتَامَى هُنَا مَا يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَغَلَبَ فِي ضَمِيرِ
التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ: أَمْوالَهُمْ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْيَتِيمِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ لَهُ مَا دَامَ مُطْلَقًا عَلَيْهِ اسْمُ الْيَتِيمِ، إِذِ الْيَتِيمُ خَاصٌّ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَهُوَ حِينَئِذٍ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ إِمَّا بِتَأْوِيلِ لَفْظِ الْإِيتَاءِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْيَتِيمِ، فَلَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ آتُوا بِغَيْرِ مَعْنَى ادْفَعُوا. وَذَلِكَ بِمَا نُقِلَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ لَا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ مَعَ وُجُودِ الْكِبَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَكُونُ آتُوا
وَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ وَجَمْعُ يَتِيمَةٍ، فَإِذَا جُمِعَتْ بِهِ يَتِيمَةٌ فَهُوَ فَعَائِلُ أَصْلُهُ يَتَائِمُ، فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مكانيّ فَقَالُوا يتامىء ثُمَّ خَفَّفُوا الْهَمْزَةَ فَصَارَتْ أَلِفًا وَحُرِّكَتِ الْمِيمُ بِالْفَتْحِ، وَإِذَا جُمِعَ بِهِ يَتِيمٌ فَهُوَ إِمَّا جَمْعُ الْجَمْعِ بِأَنْ جُمِعَ أَوَّلًا عَلَى يَتْمَى، كَمَا قَالُوا: أَسِيرٌ وَأَسْرَى، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى يَتَامَى مِثْلُ أَسَارَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَوْ جَمْعُ فَعِيلٍ عَلَى فَعَائِلَ لِكَوْنِهِ صَارَ اسْمًا مِثْلَ أَفِيلٍ وَأَفَائِلَ، ثُمَّ صُنِعَ بِهِ مِنَ الْقَلْبِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ نَطَقَتِ الْعَرَبُ بِجَمْعِ يَتِيمَةٍ عَلَى يَتَائِمَ، وَبِجَمْعِ فَعِيلٍ عَلَى فَعَائِلَ فِي قَوْلِ بِشْرٍ النَّجْدِيِّ:
أَأَطْلَالَ حُسْنٍ فِي الْبِرَاقِ الْيَتَائِمِ | سَلَامٌ عَلَى أَطْلَالِكُنَّ الْقَدَائِمِ |
وَقِيلَ: هُوَ فِي اللُّغَةِ مَنْ فُقِدَ أَبُوهُ، وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا، أَوْ كَانَ صَغِيرًا وَكَبِرَ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْإِطْلَاقَ صَحِيحًا. وَقَدْ أُرِيدَ بِالْيَتَامَى هُنَا مَا يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَغَلَبَ فِي ضَمِيرِ
التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ: أَمْوالَهُمْ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْيَتِيمِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ لَهُ مَا دَامَ مُطْلَقًا عَلَيْهِ اسْمُ الْيَتِيمِ، إِذِ الْيَتِيمُ خَاصٌّ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَهُوَ حِينَئِذٍ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ إِمَّا بِتَأْوِيلِ لَفْظِ الْإِيتَاءِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْيَتِيمِ، فَلَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ آتُوا بِغَيْرِ مَعْنَى ادْفَعُوا. وَذَلِكَ بِمَا نُقِلَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ لَا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ مَعَ وُجُودِ الْكِبَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَكُونُ آتُوا
219
بِمَعْنَى عَيِّنُوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَلِيَكُونَ هَذَا الْأَمْرُ وَمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ تَأْسِيسَاتِ أَحْكَامٍ، لَا تَأْكِيدَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، أَوْ تَقْيِيدَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :«يُرَادُ بِإِيتَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ أَنْ لَا يَطْمَعَ فِيهَا الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَوْصِيَاءُ وَوُلَاةُ السُّوءِ وَقُضَاتِهِ وَيَكُفُّوا عَنْهَا أَيْدِيَهُمُ الْخَاطِفَةَ حَتَّى تَأْتِيَ الْيَتَامَى إِذَا بَلَغُوا سَالِمَةً» فَهُوَ تَأْوِيلٌ لِلْإِيتَاءِ بِلَازِمَةٍ وَهُوَ الْحِفْظُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِيتَاءُ كِنَايَةً بِإِطْلَاقِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ، أَو مجَاز بالمئال إِذِ الْحِفْظُ يُؤَوَّلُ إِلَى الْإِيتَاءِ، وَعَلِيهِ فَيَكُونُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَالْمُرَادُ هُنَا الْأَمْرُ بِحِفْظِ حُقُوقِ الْيَتَامَى مِنَ الْإِضَاعَةِ لَا تَسْلِيمُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ إِذْ سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى [النِّسَاء: ٦] الْآيَةَ. وَلَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ الْيَتَامَى بِالَّذِينَ جَاوَزُوا حَدَّ الْيُتْمِ وَيَبْقَى الْإِيتَاءُ بِمَعْنَى الدَّفْعِ، وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْيَتَامَى لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ فِي فَوْرِ خُرُوجِهِمْ مِنْ حَدِّ الْيَتِيمِ، أَوْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ وَيَكُونُ هَذَا الْإِطْلَاقُ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ الْآتِي: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٦].
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْيَتِيمُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنَى الِانْفِرَادِ أَيِ انْفِرَادِهِ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جُمُودٌ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الِانْفِرَادَ حَقِيقِيٌّ وَإِنَّمَا وُضِعَ اللَّفْظُ لِلِانْفِرَادِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ انْعِدَامُ الْأَبِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ بَقَاءِ الْوَلَدِ مُنْفَرِدًا وَمَا هُوَ بِمُنْفَرِدٍ فَإِنَّ لَهُ أُمًّا وَقَوْمًا.
قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ كَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ فِي حِجْرِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ طَلَبَ مَالَهُ، فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَرَدَّ الْمَالَ لِابْنِ أَخِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أَيْ لَا تَأْخُذُوا الْخَبِيثَ وَتُعْطُوا الطَّيِّبَ.
وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ تَبَدَّلَ وَنَظَائِرِهِ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَة فالبقرة [٦١] قَالَ:
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَعَلَى مَا تَقَرَّرَ هُنَاكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْخَبِيثُ هُوَ
الْمَأْخُوذَ، وَالطَّيِّبُ هُوَ الْمَتْرُوكَ.
وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ أُرِيدَ بِهِمَا الْوَصْفُ الْمَعْنَوِيُّ دُونَ الْحِسِّيِّ، وَهُمَا اسْتِعَارَتَانِ فَالْخَبِيثُ الْمَذْمُومُ أَوِ الْحَرَامُ، وَالطَّيِّبُ عَكْسُهُ وَهُوَ الْحَلَالُ: وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فِي الْبَقَرَةِ [١٦٨]. فَالْمَعْنَى: وَلَا تَكْسِبُوا الْمَالَ الْحَرَامَ
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْيَتِيمُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنَى الِانْفِرَادِ أَيِ انْفِرَادِهِ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جُمُودٌ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الِانْفِرَادَ حَقِيقِيٌّ وَإِنَّمَا وُضِعَ اللَّفْظُ لِلِانْفِرَادِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ انْعِدَامُ الْأَبِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ بَقَاءِ الْوَلَدِ مُنْفَرِدًا وَمَا هُوَ بِمُنْفَرِدٍ فَإِنَّ لَهُ أُمًّا وَقَوْمًا.
قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ كَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ فِي حِجْرِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ طَلَبَ مَالَهُ، فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَرَدَّ الْمَالَ لِابْنِ أَخِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أَيْ لَا تَأْخُذُوا الْخَبِيثَ وَتُعْطُوا الطَّيِّبَ.
وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ تَبَدَّلَ وَنَظَائِرِهِ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَة فالبقرة [٦١] قَالَ:
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَعَلَى مَا تَقَرَّرَ هُنَاكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْخَبِيثُ هُوَ
الْمَأْخُوذَ، وَالطَّيِّبُ هُوَ الْمَتْرُوكَ.
وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ أُرِيدَ بِهِمَا الْوَصْفُ الْمَعْنَوِيُّ دُونَ الْحِسِّيِّ، وَهُمَا اسْتِعَارَتَانِ فَالْخَبِيثُ الْمَذْمُومُ أَوِ الْحَرَامُ، وَالطَّيِّبُ عَكْسُهُ وَهُوَ الْحَلَالُ: وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فِي الْبَقَرَةِ [١٦٨]. فَالْمَعْنَى: وَلَا تَكْسِبُوا الْمَالَ الْحَرَامَ
220
وَتَتْرُكُوا الْحَلَالَ أَيْ لَوِ اهْتَمَمْتُمْ بِإِنْتَاجِ أَمْوَالِكُمْ وَتَوْفِيرِهَا بِالْعَمَلِ وَالتَّجْرِ لَكَانَ لَكُمْ مِنْ خِلَالِهَا مَا فِيهِ غُنْيَةٌ عَنِ الْحَرَامِ، فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُنَا هُوَ ضِدُّ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ قَبْلُ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ، وَلَكِنَّ النَّهْيَ بَيَّنَ مَا فِيهِ مِنَ الشَّنَاعَةِ إِذَا لَمْ يُمْتَثَلِ الْأَمْرُ، وَهَذَا الْوَجْه ينبىء عَن جعل التبدّل مَجَازًا وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا الِاسْتِعْمَالِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ مَا يَقْتَضِي خِلَافَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ نَهْيٌ ثَالِثٌ عَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِ أَوْلِيَائِهِمْ، فَيَنْتَسِقُ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ وَنَهْيَانِ: أُمِرُوا أَنْ لَا يَمْنَعُوا الْيَتَامَى مِنْ مَوَارِيثِهِمْ ثُمَّ نُهُوا عَنِ اكْتِسَابِ الْحَرَامِ، ثُمَّ نُهُوا عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَوْ بَعْضِهَا، وَالنَّهْيُ وَالْأَمْرُ الْأَخِيرُ تَأْكِيدَانِ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَالْأَكْلُ اسْتِعَارَةٌ لِلِانْتِفَاعِ الْمَانِعِ مِنَ انْتِفَاعِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمِلْكُ التَّامُّ، لِأَنَّ الْأَكْلَ هُوَ أَقْوَى أَحْوَالِ الِاخْتِصَاصِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّهُ يُحْرِزُهُ فِي دَاخِلِ جَسَدِهِ، وَلَا مَطْمَعَ فِي إِرْجَاعِهِ، وَضَمَّنَ تَأْكُلُوا مَعْنَى تَضُمُّوا فَلذَلِك عدي بإلى أَيْ: لَا تَأْكُلُوهَا بِأَنْ تَضُمُّوهَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ.
وَلَيْسَ قَيْدُ إِلى أَمْوالِكُمْ مَحَطَّ النَّهْيِ، بَلِ النَّهْي وَاقع على أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِلْآكِلِ مَالٌ يَضُمُّ إِلَيْهِ مَالَ يَتِيمِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ وُجُودَ أَمْوَالٍ لِلْأَوْصِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى التَّكَثُّرَ، ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ رَعْيًا لِلْغَالِبِ، وَلِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي النَّهْيِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يَأْكُلُونَ حُقُوقَ النَّاسِ مَعَ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ عَلَى أَنَّ التَّضْمِينَ لَيْسَ مِنَ التَّقْيِيدِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ نَهْيَيْنِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَجَنَّبُوا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مُخَالَطَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَنَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ [٢٢٠] : وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
فَقَدْ فَهِمُوا أَنَّ ضَمَّ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَى مَالِ الْوَصِيِّ حَرَامٌ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَشْمُولًا لِلنَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ وَلَكِنْ لِلنَّهْيِ عَنِ الضَّمِّ. وَهُمَا فِي فَهْمِ الْعَرَبِ نَهْيَانِ، وَلَيْسَ هُوَ نَهْيًا عَنْ أَكْلِ الْأَغْنِيَاءِ أَمْوَالَ الْيَتَامَى حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْفُقَرَاءِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ لَا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ إِذْ لَيْسَ الْأَدْوَنُ بِصَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ.
وَالْحُوبُ- بِضَمِّ الْحَاءِ- لُغَةُ الْحِجَازِ، وَبِفَتْحِهَا- لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقِيلَ: هِيَ حَبَشِيَّةٌ،
وَمَعْنَاهُ الْإِثْمُ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ: لِمَوْقِعِ إِنَّ مِنْهَا، أَيْ نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ
وَقَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ نَهْيٌ ثَالِثٌ عَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِ أَوْلِيَائِهِمْ، فَيَنْتَسِقُ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ وَنَهْيَانِ: أُمِرُوا أَنْ لَا يَمْنَعُوا الْيَتَامَى مِنْ مَوَارِيثِهِمْ ثُمَّ نُهُوا عَنِ اكْتِسَابِ الْحَرَامِ، ثُمَّ نُهُوا عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَوْ بَعْضِهَا، وَالنَّهْيُ وَالْأَمْرُ الْأَخِيرُ تَأْكِيدَانِ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَالْأَكْلُ اسْتِعَارَةٌ لِلِانْتِفَاعِ الْمَانِعِ مِنَ انْتِفَاعِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمِلْكُ التَّامُّ، لِأَنَّ الْأَكْلَ هُوَ أَقْوَى أَحْوَالِ الِاخْتِصَاصِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّهُ يُحْرِزُهُ فِي دَاخِلِ جَسَدِهِ، وَلَا مَطْمَعَ فِي إِرْجَاعِهِ، وَضَمَّنَ تَأْكُلُوا مَعْنَى تَضُمُّوا فَلذَلِك عدي بإلى أَيْ: لَا تَأْكُلُوهَا بِأَنْ تَضُمُّوهَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ.
وَلَيْسَ قَيْدُ إِلى أَمْوالِكُمْ مَحَطَّ النَّهْيِ، بَلِ النَّهْي وَاقع على أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِلْآكِلِ مَالٌ يَضُمُّ إِلَيْهِ مَالَ يَتِيمِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ وُجُودَ أَمْوَالٍ لِلْأَوْصِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى التَّكَثُّرَ، ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ رَعْيًا لِلْغَالِبِ، وَلِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي النَّهْيِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يَأْكُلُونَ حُقُوقَ النَّاسِ مَعَ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ عَلَى أَنَّ التَّضْمِينَ لَيْسَ مِنَ التَّقْيِيدِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ نَهْيَيْنِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَجَنَّبُوا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مُخَالَطَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَنَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ [٢٢٠] : وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
فَقَدْ فَهِمُوا أَنَّ ضَمَّ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَى مَالِ الْوَصِيِّ حَرَامٌ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَشْمُولًا لِلنَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ وَلَكِنْ لِلنَّهْيِ عَنِ الضَّمِّ. وَهُمَا فِي فَهْمِ الْعَرَبِ نَهْيَانِ، وَلَيْسَ هُوَ نَهْيًا عَنْ أَكْلِ الْأَغْنِيَاءِ أَمْوَالَ الْيَتَامَى حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْفُقَرَاءِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ لَا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ إِذْ لَيْسَ الْأَدْوَنُ بِصَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ.
وَالْحُوبُ- بِضَمِّ الْحَاءِ- لُغَةُ الْحِجَازِ، وَبِفَتْحِهَا- لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقِيلَ: هِيَ حَبَشِيَّةٌ،
وَمَعْنَاهُ الْإِثْمُ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ: لِمَوْقِعِ إِنَّ مِنْهَا، أَيْ نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ
221
إِثْمٌ عَظِيمٌ. وَلِكَوْنِ إِنَّ فِي مِثْلِهِ لمُجَرّد الاهتمام لتفيد التَّعْلِيلِ أَكَّدَ الْخَبَرَ بكان الزَّائِدَة.
[٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
اشْتِمَالُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَلِمَةِ الْيَتامى يُؤْذِنُ بِمُنَاسَبَتِهَا لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ، بَيْدَ أَنَّ الْأَمْرَ بِنِكَاحِ النِّسَاءِ وَعَدَدِهِنَّ فِي جَوَابِ شَرْطِ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ فِي الْيَتَامَى مِمَّا خُفِيَ وَجْهُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، إِذْ لَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ أَيْ مُلَازَمَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِيجَازًا بَدِيعًا إِذْ أَطْلَقَ فِيهَا لَفْظَ الْيَتَامَى فِي الشَّرْطِ وَقُوبِلَ بِلَفْظِ النِّسَاءِ فِي الْجَزَاءِ فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْيَتَامَى هُنَا جَمْعُ يَتِيمَةٍ وَهِيَ صِنْفٌ مِنَ الْيَتَامَى فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢]. وَعلم أَنَّ بَيْنَ عَدَمِ الْقِسْطِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِنِكَاحِ النِّسَاءِ، ارْتِبَاطًا لَا مَحَالَةَ وَإِلَّا لَكَانَ الشَّرْطُ عَبَثًا. وَبَيَانُهُ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» :
أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَتْ: «يَا بْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَلَا يُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرِهِنَّ. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: ١٢٧]. فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: ١٢٧] رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ». وَعَائِشَةُ لَمْ تُسْنِدْ هَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ سِيَاقَ كَلَامِهَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عَنْ تَوْقِيفٍ،
[٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
اشْتِمَالُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَلِمَةِ الْيَتامى يُؤْذِنُ بِمُنَاسَبَتِهَا لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ، بَيْدَ أَنَّ الْأَمْرَ بِنِكَاحِ النِّسَاءِ وَعَدَدِهِنَّ فِي جَوَابِ شَرْطِ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ فِي الْيَتَامَى مِمَّا خُفِيَ وَجْهُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، إِذْ لَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ أَيْ مُلَازَمَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِيجَازًا بَدِيعًا إِذْ أَطْلَقَ فِيهَا لَفْظَ الْيَتَامَى فِي الشَّرْطِ وَقُوبِلَ بِلَفْظِ النِّسَاءِ فِي الْجَزَاءِ فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْيَتَامَى هُنَا جَمْعُ يَتِيمَةٍ وَهِيَ صِنْفٌ مِنَ الْيَتَامَى فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢]. وَعلم أَنَّ بَيْنَ عَدَمِ الْقِسْطِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِنِكَاحِ النِّسَاءِ، ارْتِبَاطًا لَا مَحَالَةَ وَإِلَّا لَكَانَ الشَّرْطُ عَبَثًا. وَبَيَانُهُ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» :
أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَتْ: «يَا بْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَلَا يُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرِهِنَّ. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: ١٢٧]. فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: ١٢٧] رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ». وَعَائِشَةُ لَمْ تُسْنِدْ هَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ سِيَاقَ كَلَامِهَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عَنْ تَوْقِيفٍ،
222
وَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ بِسِيَاقِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ اعْتِدَادًا بِأَنَّهَا مَا قَالَتْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ مُعَايَنَةِ حَالِ النُّزُولِ، وَأَفْهَامِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَقَرَّهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَتْ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ إِيجَازُ لَفْظِ الْآيَةِ اعْتِدَادًا بِمَا فَهِمَهُ النَّاسُ مِمَّا يَعْلَمُونَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَتَكُونُ قَدْ جَمَعَتْ إِلَى حُكْمِ حِفْظِ حُقُوقِ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ حِفْظَ حُقُوقِهِمْ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الْبَنَاتُ الْيَتَامَى مِنْ مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ، وَمَوْعِظَةُ الرِّجَالِ بِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَجْعَلُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ
شَافِعَةَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا مُرَغِّبَ فِيهِنَّ لَهُمْ فَيَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِهِنَّ، فَكَذَلِكَ لَا يَجْعَلُونَ الْقَرَابَةَ سَبَبًا لِلْإِجْحَافِ بِهِنَّ فِي مُهُورِهِنَّ. وَقَوْلُهَا: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ، مَعْنَاهُ اسْتَفْتَوْهُ طَلَبًا لِإِيضَاحِ هَذِهِ الْآيَةِ. أَوِ اسْتَفْتَوْهُ فِي حُكْمِ نِكَاح الْيَتَامَى، وَله يَهْتَدُوا إِلَى أَخْذِهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ الْآيَةَ، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ أَيْ مَا يُتْلَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْأُولَى، أَيْ كَانَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءُ فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَكَلَامُهَا هَذَا أَحْسَنُ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَحَرَّجُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَلَا تَتَحَرَّجُ فِي الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَكَانُوا يَتَزَوَّجُونَ الْعَشْرَ فَأَكْثَرَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا القَوْل فمحلّ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا تَفَرَّعَ عَنِ الْجَزَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً، فَيكون نسج الْآيَةِ قَدْ حِيكَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِيُدْمَجَ فِي خِلَالِهِ تَحْدِيدُ النِّهَايَةِ إِلَى الْأَرْبَعِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْعَشْرَ فَأَكْثَرَ فَإِذَا ضَاقَ مَالُهُ عَنْ إِنْفَاقِهِنَّ أَخَذَ مَالَ يَتِيمِهِ فَتَزَوَّجَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُلَازَمَةُ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ تَزَوُّجَ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الْقِيَامُ بِهِ صَارَ ذَرِيعَةً إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِذَا غَلَبَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ تَحْذِيرٌ مِنَ الزِّنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَلَا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الزِّنَا، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَخَافُوا الزِّنَا، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَنَسِّكَ أَنْ يَهْجُرَ جَمِيعَ الْمَآثِمِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَشَدَّ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَضْعُفُ الْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَيَكُونُ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا لَفْظًا وَمَعْنًى. وَقِيلَ فِي هَذَا وُجُوهٌ أُخَرُ هِيَ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرْنَا.
شَافِعَةَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا مُرَغِّبَ فِيهِنَّ لَهُمْ فَيَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِهِنَّ، فَكَذَلِكَ لَا يَجْعَلُونَ الْقَرَابَةَ سَبَبًا لِلْإِجْحَافِ بِهِنَّ فِي مُهُورِهِنَّ. وَقَوْلُهَا: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ، مَعْنَاهُ اسْتَفْتَوْهُ طَلَبًا لِإِيضَاحِ هَذِهِ الْآيَةِ. أَوِ اسْتَفْتَوْهُ فِي حُكْمِ نِكَاح الْيَتَامَى، وَله يَهْتَدُوا إِلَى أَخْذِهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ الْآيَةَ، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ أَيْ مَا يُتْلَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْأُولَى، أَيْ كَانَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءُ فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَكَلَامُهَا هَذَا أَحْسَنُ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَحَرَّجُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَلَا تَتَحَرَّجُ فِي الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَكَانُوا يَتَزَوَّجُونَ الْعَشْرَ فَأَكْثَرَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا القَوْل فمحلّ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا تَفَرَّعَ عَنِ الْجَزَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً، فَيكون نسج الْآيَةِ قَدْ حِيكَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِيُدْمَجَ فِي خِلَالِهِ تَحْدِيدُ النِّهَايَةِ إِلَى الْأَرْبَعِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْعَشْرَ فَأَكْثَرَ فَإِذَا ضَاقَ مَالُهُ عَنْ إِنْفَاقِهِنَّ أَخَذَ مَالَ يَتِيمِهِ فَتَزَوَّجَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُلَازَمَةُ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ تَزَوُّجَ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الْقِيَامُ بِهِ صَارَ ذَرِيعَةً إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِذَا غَلَبَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ تَحْذِيرٌ مِنَ الزِّنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَلَا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الزِّنَا، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَخَافُوا الزِّنَا، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَنَسِّكَ أَنْ يَهْجُرَ جَمِيعَ الْمَآثِمِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَشَدَّ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَضْعُفُ الْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَيَكُونُ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا لَفْظًا وَمَعْنًى. وَقِيلَ فِي هَذَا وُجُوهٌ أُخَرُ هِيَ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرْنَا.
223
وَمَعْنَى مَا طابَ مَا حَسُنَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَكُمْ وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مِمَّا حَلَّ لَكُمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي سِيَاقِ التشريع.
وَمَا صدق مَا طابَ النِّسَاءُ فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُؤْتَى بِ (مِنْ) الْمَوْصُولَةِ لَكِنْ جِيءَ بِ (مَا) الْغَالِبَةِ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، لِأَنَّهَا نُحِيَ بِهَا مَنْحَى الصِّفَةِ وَهُوَ الطَّيِّبُ بِلَا تَعْيِينِ ذَاتٍ، وَلَوْ قَالَ (مَنْ) لَتَبَادَرَ إِلَى إِرَادَةِ نِسْوَةٍ طَيِّبَاتٍ مَعْرُوفَاتٍ بَيْنَهُمْ، وَكَذَلِكَ حَالُ (مَا) فِي الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَصَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ». فَإِذَا قُلْتَ: مَا تَزَوَّجْتَ؟ فَأَنْتَ تُرِيدُ مَا صِفَتُهَا أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا مَثَلًا، وَإِذَا قَلْتَ: مَنْ تَزَوَّجْتَ؟ فَأَنْتَ تُرِيدُ تَعْيِينَ اسْمِهَا وَنَسَبِهَا.
وَالْآيَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْمُثْبِتَةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا مُعَلَّقٌ عَلَى حَالَةِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَوْرِ فِي الْيَتَامَى، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْإِرْشَادِ، وَأَنَّ النِّكَاحَ شُرِّعَ بِالتَّقْرِيرِ لِلْإِبَاحَةِ
الْأَصْلِيَّةِ لِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَعَ إِبْطَالِ مَا لَا يَرْضَاهُ الدِّينُ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَكَنِكَاحِ الْمَقْتِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَالْأَمْرِ بِأَنْ لَا يُخْلُوهُ عَنِ الصَّدَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أَحْوَالُ مَنْ طابَ وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهَا أَحْوَالًا مِنَ النِّسَاءِ لِأَنَّ النِّسَاءَ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ كُلُّهُ لِأَنَّ (مِنْ) إِمَّا تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ بَيَانِيَّةٌ وَكِلَاهُمَا تَقْتَضِي بَقَاءَ الْبَيَانِ عَلَى عُمُومِهِ، لِيَصْلُحَ لِلتَّبْعِيضِ وَشَبَهِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ فَلَكُمْ فِي نِكَاحِ غَيْرِ أُولَئِكَ الْيَتَامَى مَنْدُوحَةٌ عَنْ نِكَاحِهِنَّ مَعَ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَفِي هَذَا إِدْمَاجٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ آخَرَ فِي خِلَالِ حُكْمِ الْقِسْطِ لِلْيَتَامَى إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا.
وَصِيغَةُ مَفْعَلٍ وَفُعَالٍ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى أَرْبَعَةٍ، وَقِيلَ إِلَى سِتَّةٍ وَقِيلَ إِلَى عَشَرَةٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَصَحَّحَهُ الْمَعَرِّيُّ فِي «شَرْحِ دِيوَانِ الْمُتَنَبِّي» عِنْدَ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:
وَكَأَنَّ اخْتِيَارَ آنَسْتُمْ هُنَا دُونَ عَلِمْتُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ أَوَّلُ الْعِلْمِ بِرُشْدِهِمْ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مَالُهُمْ دُونَ تَرَاخٍ وَلَا مَطْلٍ.
وَالرُّشْدُ- بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَتُفْتَحُ الرَّاءُ فَيُفْتَحُ الشِّينُ، وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ وَهُوَ انْتِظَامُ تَصَرُّفِ الْعَقْلِ، وَصُدُورِ الْأَفْعَالِ عَنْ ذَلِكَ بِانْتِظَامٍ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا حِفْظُ الْمَالِ وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ابْتَلُوا الْيَتامى.
وَالْمُخَاطَبُ فِي الْآيَةِ الْأَوْصِيَاءُ، فَيَكُونُ مُقْتَضَى الْآيَةِ أَنَّ الْأَوْصِيَاءَ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ حُكْمًا، فَقَالُوا: يَتَوَلَّى الْوَصِيُّ دَفْعَ مَال مَحْجُوره عِنْد مَا يَأْنَسُ مِنْهُ الرُّشْدَ، فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى تَرْشِيدَ مَحْجُورِهِ بِتَسْلِيم مَاله إِلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: مَنْ أَقَامَهُ الْأَبُ وَالْقَاضِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِتَرْشِيدِ الْمَحْجُورِ إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ لِفَسَادِ النَّاسِ الْيَوْمَ وَعَدَمِ أَمْنِهِمْ أَنْ يَتَوَاطَئُوا مَعَ الْمَحَاجِيرِ لِيُرْشِدُوهُمْ فيسمحوا لَهُم بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ فِي أَوْصِيَاءِ زَمَانِنَا أَنْ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ رَفْعِهِمْ إِلَى السُّلْطَانِ وَثُبُوتِ الرُّشْدِ عِنْدَهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَوَاطُؤِ الْأَوْصِيَاءِ عَلَى أَنْ يُرْشِدَ الوصيّ مَحْجُوره ويبرىء الْمَحْجُورُ الْوَصِيَّ لِسَفَهِهِ وَقِلَّةِ تَحْصِيلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. إِلَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَلَكِنِ اسْتَحْسَنَ الْمُوَثَّقُونَ الْإِشْهَادَ بِثُبُوتِ رُشْدِ الْمَحْجُورِ الْمُوصَى عَلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ لِلِاحْتِيَاطِ، أَمَّا وَصِيُّ الْقَاضِي فَاخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُرَشِّدُ مَحْجُورَهُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ لَدَى الْقَاضِي، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْخِطَابَ فِي مِثْلِهِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَيَتَوَلَّى تَنْفِيذَهُ مَنْ إِلَيْهِ تَنْفِيذُ ذَلِكَ الْبَابِ مِنَ الْوُلَاةِ، كَشَأْنِ خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ الْوَارِدَةِ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي إِلَيْهِ تَنْفِيذُ أُمُورِ الْمَحَاجِيرِ وَالْأَوْصِيَاءِ هُوَ الْقَاضِي، وَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ بِلَا كُلْفَةٍ.
وَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي تَقَدُّمِ الِابْتِلَاءِ وَالِاسْتِينَاسِ عَلَى الْبُلُوغِ لِمَكَانٍ (حَتَّى) الْمُؤْذِنَةِ بِالِانْتِهَاءِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ لِلْمَحْجُورِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ لِلِابْتِلَاءِ إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تُفِيدُ تَكْرِيرَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتَامَى، جَرَّتْهُ مُنَاسَبَةُ التَّعَرُّضِ لِقِسْمَةِ أَمْوَالِ الْأَمْوَاتِ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَكْثُرُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ يَتَامَى لِكَثْرَةِ تَزَوُّجِ الرِّجَالِ فِي مُدَّةِ أَعْمَارِهِمْ، فَقَلَّمَا يَخْلُو مَيِّتٌ عَنْ وَرَثَةٍ صِغَارٍ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِشِدَّةِ عِنَايَةِ الشَّارِعِ بِهَذَا الْغَرَض، فَلذَلِك عَادَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ.
وَقَوْلُهُ: ظُلْماً حَالٌ مِنْ يَأْكُلُونَ مُقَيِّدَةٌ لِيَخْرُجَ الْأَكْلُ الْمَأْذُونُ فِيهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:
وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: ٦]، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النِّسَاء: ٢٩].
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (نَارًا) مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا مُرَادًا بِهَا نَارُ جَهَنَّمَ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ فَفِعْلُ يَأْكُلُونَ نَاصِبٌ (نَارًا) الْمَذْكُورَ عَلَى تَأْوِيلِ يَأْكُلُونَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَأَطْلَقَ النَّارَ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ أَيْ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ حِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى قَدْ أَكَلُوا مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ.
وَعَلَى هَذَا فَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً عَطْفُ مُرَادِفٍ لِمَعْنَى جُمْلَةِ يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ النَّارِ مُسْتَعَارًا لِلْأَلَمِ بِمَعْنَى أَسْبَابِ الْأَلَمِ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا بِعَذَابٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ مُسْتَعَارًا لِلتَّلَفِ لِأَنَّ شَأْنَ النَّارِ أَنْ تَلْتَهِمَ مَا تُصِيبُهُ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَأْخُذُونَ أَمْوَالًا هِيَ سَبَبٌ فِي مَصَائِبَ تَعْتَرِيهِمْ فِي ذَوَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَالنَّارِ إِذَا تَدْنُو مِنْ أَحَدٍ فَتُؤْلِمُهُ وَتُتْلِفُ مَتَاعَهُ، فَيَكُونُ هَذَا تَهْدِيدًا بِمَصَائِبَ فِي الدُّنْيَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٦] وَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً جَارِيًا عَلَى ظَاهِرِ الْعَطْفِ مِنَ اقْتِضَاءِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى تَهْدِيدٌ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَعِيدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
عَطْفٌ عَلَى وَأَنْ تَجْمَعُوا [النِّسَاء: ٢٣] وَالتَّقْدِيرُ:
وَالْمُحْصَنَاتُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- مِنْ أَحْصَنَهَا الرَّجُلُ إِذَا حَفِظَهَا وَاسْتَقَلَّ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ،
وَيُقَالُ: امْرَأَةٌ مُحْصِنَةٌ- بِكَسْرِ الصَّادِ- أَحْصَنَتْ نَفْسَهَا عَنْ غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَمْ يُقْرَأْ قَوْلُهُ:
وَالْمُحْصَناتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا بِالْفَتْحِ.
وَيُقَالُ أَحْصَنَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُحْصِنٌ- بِكَسْرِ الصَّادِ- لَا غَيْرُ، وَلَا يُقَالُ مُحْصَنٌ: وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ: مُحْصَنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ- بِفَتْح الصَّاد-، وقريء قَوْلُهُ: ومحصنات- بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ- وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ [النِّسَاء: ٢٥]- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ-. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مَا دُمْنَ فِي عِصْمَةِ أَزْوَاجِهِنَّ، فَالْمَقْصُودُ تَحْرِيمُ اشْتِرَاكِ رَجُلَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي عِصْمَةِ امْرَأَةٍ، وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِنَوْعٍ مِنَ النِّكَاحِ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى الضِّمَادَ، وَلِنَوْعٍ آخَرَ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنْ يَشْتَرِكَ الرِّجَالُ فِي الْمَرْأَةِ وَهُمْ دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ، فَتَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مَنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ، تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ. وَنَوْعٌ آخَرُ يُسَمَّى نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ، فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا رَغْبَةً فِي
أَمْسَكَ عَنِ الْفَتْوَى وَقَالَ: إِنَّمَا أَحْلَلْتُ مِثْلَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ، يُرِيدُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ثَبَاتِ عَلِيٍّ عَلَى إِبَاحَتِهَا، وَفِي رُجُوعِهِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إِبَاحَتِهَا. أَمَّا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فَثَبَتَ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى «الصَّحِيحِ». وَقَالَ مَالِكٌ: يُفْسَخُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ، وَفَسْخُهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَقِيلَ: بِطَلَاقٍ، وَلَا حَدَّ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا رُخْصَةٌ لِلْمُسَافِرِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَحْوَالِ الضَّرُورَاتِ، وَوَجْهُ مُخَالَفَتِهَا لِلْمَقْصِدِ مِنَ النِّكَاحِ مَا فِيهَا مِنَ التَّأْجِيلِ. وَلِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ.
وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُتْعَةَ أَذِنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ، وَنَهَى عَنْهَا مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ مُكَرَّرٍ وَلَكِنَّهُ إِنَاطَةُ إِبَاحَتِهَا بِحَالِ الِاضْطِرَارِ، فَاشْتَبَهَ عَلَى الرُّوَاةِ تَحْقِيقُ عُذْرِ الرُّخْصَةِ بِأَنَّهُ نَسْخٌ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْنَاهُ فِي حُكْمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَأْجِيلِ مُدَّةِ الْعِصْمَةِ، مِثْلُ الْغُرْبَةِ فِي سَفَرٍ أَوْ غَزْوٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَ الرَّجُلِ زَوْجُهُ. وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي النِّكَاحِ مِنْ صَدَاقٍ وَإِشْهَادٍ وَوَلِيٍّ حَيْثُ يُشْتَرَطُ، وَأَنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَجَلِ، وَأَنَّهَا لَا مِيرَاثَ فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي مُدَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الْأَوْلَادَ لَاحِقُونَ بِأَبِيهِمُ الْمُسْتَمْتِعِ. وَشَذَّ النَّحَّاسُ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِأَبِيهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ تَكُونَ نَازِلَةً فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَلَيْسَ سِيَاقُهَا سَامِحًا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا صَالِحَةٌ لِانْدِرَاجِ الْمُتْعَةِ فِي عُمُوم فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ فَيُرْجَعُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إِلَى مَا سَمِعت آنِفا.
عُطِفَ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ [النِّسَاء: ٢٤] تَخْصِيصًا لِعُمُومِهِ بِغَيْرِ الْإِمَاءِ، وَتَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهِ بِاسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ.
وَالطَّوْلُ- بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ- الْقُدْرَةُ، وَهُوَ مَصْدَرُ طَالَ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى قَدَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّوْلَ يَسْتَلْزِمُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: تَطَاوَلَ لِكَذَا، أَيْ تَمَطَّى لِيَأْخُذَهُ، ثُمَّ قَالُوا: تَطَاوَلَ، بِمَعْنَى تَكَلَّفَ الْمَقْدِرَةَ «وَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنْ يَدِ الْمُتَطَاوِلِ» فَجَعَلُوا لِطَالَ الْحَقِيقِيِّ مَصْدَرًا- بِضَمِّ الطَّاءِ- وَجَعَلُوا لِطَالَ الْمَجَازِيِّ مَصْدَرًا- بِفَتْحِ الطَّاءِ- وَهُوَ مِمَّا فَرَّقَتْ فِيهِ الْعَرَبُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ المشتركين.
وَالْمُحْصَناتُ [النِّسَاء: ٢٤] قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- عَلَى اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْ (أُحْصِنَّ) كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيِ اللَّاتِي أَحْصَنَّ أَنْفُسَهُنَّ، أَوْ أَحْصَنَهُنَّ أَوْلِيَاؤُهُنَّ، فَالْمُرَادُ الْعَفِيفَاتُ. وَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا وَصْفٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا إِلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ عَفِيفَةٍ، قَالَ تَعَالَى: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النُّور: ٣٠] أَيْ بِحَسَبِ خُلُقِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِحْصَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَاللُّغَةُ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الطَّوْلَ هُنَا هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى بَذْلِ مَهْرٍ لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ احْتَاجَ لِتَزَوُّجِهَا:
أُولَى، أَوْ ثَانِيَةٍ، أَوْ ثَالِثَةٍ، أَوْ رَابِعَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ:
وَمَا صدق مَا طابَ النِّسَاءُ فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُؤْتَى بِ (مِنْ) الْمَوْصُولَةِ لَكِنْ جِيءَ بِ (مَا) الْغَالِبَةِ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، لِأَنَّهَا نُحِيَ بِهَا مَنْحَى الصِّفَةِ وَهُوَ الطَّيِّبُ بِلَا تَعْيِينِ ذَاتٍ، وَلَوْ قَالَ (مَنْ) لَتَبَادَرَ إِلَى إِرَادَةِ نِسْوَةٍ طَيِّبَاتٍ مَعْرُوفَاتٍ بَيْنَهُمْ، وَكَذَلِكَ حَالُ (مَا) فِي الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَصَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ». فَإِذَا قُلْتَ: مَا تَزَوَّجْتَ؟ فَأَنْتَ تُرِيدُ مَا صِفَتُهَا أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا مَثَلًا، وَإِذَا قَلْتَ: مَنْ تَزَوَّجْتَ؟ فَأَنْتَ تُرِيدُ تَعْيِينَ اسْمِهَا وَنَسَبِهَا.
وَالْآيَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْمُثْبِتَةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا مُعَلَّقٌ عَلَى حَالَةِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَوْرِ فِي الْيَتَامَى، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْإِرْشَادِ، وَأَنَّ النِّكَاحَ شُرِّعَ بِالتَّقْرِيرِ لِلْإِبَاحَةِ
الْأَصْلِيَّةِ لِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَعَ إِبْطَالِ مَا لَا يَرْضَاهُ الدِّينُ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَكَنِكَاحِ الْمَقْتِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَالْأَمْرِ بِأَنْ لَا يُخْلُوهُ عَنِ الصَّدَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أَحْوَالُ مَنْ طابَ وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهَا أَحْوَالًا مِنَ النِّسَاءِ لِأَنَّ النِّسَاءَ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ كُلُّهُ لِأَنَّ (مِنْ) إِمَّا تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ بَيَانِيَّةٌ وَكِلَاهُمَا تَقْتَضِي بَقَاءَ الْبَيَانِ عَلَى عُمُومِهِ، لِيَصْلُحَ لِلتَّبْعِيضِ وَشَبَهِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ فَلَكُمْ فِي نِكَاحِ غَيْرِ أُولَئِكَ الْيَتَامَى مَنْدُوحَةٌ عَنْ نِكَاحِهِنَّ مَعَ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَفِي هَذَا إِدْمَاجٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ آخَرَ فِي خِلَالِ حُكْمِ الْقِسْطِ لِلْيَتَامَى إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا.
وَصِيغَةُ مَفْعَلٍ وَفُعَالٍ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى أَرْبَعَةٍ، وَقِيلَ إِلَى سِتَّةٍ وَقِيلَ إِلَى عَشَرَةٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَصَحَّحَهُ الْمَعَرِّيُّ فِي «شَرْحِ دِيوَانِ الْمُتَنَبِّي» عِنْدَ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:
أُحَادٌ أَمْ سُدَاسٌ فِي آحَاد | ليبلتنا الْمَنُوطَةُ بِالتَّنَادِي |
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ | كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ |
231
يُجْرَى اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٨].
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ضَمِيرٍ (مِثْلَهُ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣٦].
وَجِيءَ بِلَفْظِ نَفْساً مُفْرَدًا مَعَ أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ طِبْنَ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ اسْمُ جِنْسٍ نَكِرَةٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَأُسْنِدَ الطَّيِّبُ إِلَى ذَوَاتِ النِّسَاءِ ابْتِدَاءً ثُمَّ جِيءَ بِالتَّمْيِيزِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الطَّيِّبِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي: مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَبَيْنَ اشْتَعَلَ شَيْبُ رَأْسِي، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ طِيبُ نَفْسٍ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الضَّغْطِ وَالْإِلْجَاءِ.
وَحَقِيقَةُ فِعْلِ (طابَ) اتِّصَافُ الشَّيْءِ بِالْمُلَاءَمَةِ لِلنَّفْسِ، وَأَصْلُهُ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ لِحُسْنِ مَشْمُومِهَا، وَطَيِّبُ الرِّيحِ مُوَافَقَتُهَا لِلسَّائِرِ فِي الْبَحْرِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُس: ٢٢]، وَمِنْهُ أَيْضًا مَا تَرْضَى بِهِ النَّفْسُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَة: ١٦٨] ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِمَا يَزْكُو بَيْنَ جِنْسِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
[النِّسَاء: ٢] وَمِنْهُ فِعْلُ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً هُنَا أَيْ رَضِينَ
بِإِعْطَائِهِ دُونَ حَرَجٍ وَلَا عَسْفٍ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ.
وَقَوْلُهُ: فَكُلُوهُ اسْتَعْمَلَ الْأَكْلَ هُنَا فِي مَعْنَى الِانْتِفَاعِ الَّذِي لَا رُجُوعَ فِيهِ لِصَاحِبِ الشَّيْءِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، أَيْ فِي مَعْنَى تَمَامِ التَّمَلُّكِ. وَأَصْلُ الْأَكْلِ فِي كَلَامِهِمْ يُسْتَعَارُ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ اسْتِيلَاءً لَا رُجُوعَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ حَائِلًا بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ رُجُوعِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَلَكِنَّهُ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الِانْتِفَاعِ لِأَجْلِ الْمُشَاكَلَةِ مَعَ قَوْلِهِ السَّابِقِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢] فَتِلْكَ مُحَسِّنُ الِاسْتِعَارَةِ.
وهَنِيئاً مَرِيئاً حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ وَهُمَا صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ من هُنَا وهنيء- بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا- بِمَعْنَى سَاغَ وَلَمْ يُعَقِّبْ نَغْصًا. وَالْمَرِيءُ مِنْ مَرُوَ الطَّعَامَ- مُثَلَّثُ الرَّاء- بِمَعْنى هنىء، فَهُوَ تَأْكِيدٌ يُشْبِهُ الِاتِّبَاعَ. وَقِيلَ: الْهَنِيءُ الَّذِي يَلَذُّهُ الْآكِلُ وَالْمَرِيءُ مَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ. وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ يَجُوزُ كَوْنُهُمَا ترشيحا لاستعارة فَكُلُوهُ بِمَعْنَى خُذُوهُ أَخْذَ مِلْكٍ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُمَا مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي انْتِفَاءِ التَّبِعَةِ عَنِ الْأَزْوَاجِ فِي أَخْذِ مَا طَابَتْ لَهُمْ بِهِ نُفُوسُ أَزْوَاجِهِمْ، أَيْ حَلَالًا مُبَاحًا، أَوْ حَلَالًا لَا غُرْمَ فِيهِ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ضَمِيرٍ (مِثْلَهُ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣٦].
وَجِيءَ بِلَفْظِ نَفْساً مُفْرَدًا مَعَ أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ طِبْنَ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ اسْمُ جِنْسٍ نَكِرَةٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَأُسْنِدَ الطَّيِّبُ إِلَى ذَوَاتِ النِّسَاءِ ابْتِدَاءً ثُمَّ جِيءَ بِالتَّمْيِيزِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الطَّيِّبِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي: مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَبَيْنَ اشْتَعَلَ شَيْبُ رَأْسِي، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ طِيبُ نَفْسٍ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الضَّغْطِ وَالْإِلْجَاءِ.
وَحَقِيقَةُ فِعْلِ (طابَ) اتِّصَافُ الشَّيْءِ بِالْمُلَاءَمَةِ لِلنَّفْسِ، وَأَصْلُهُ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ لِحُسْنِ مَشْمُومِهَا، وَطَيِّبُ الرِّيحِ مُوَافَقَتُهَا لِلسَّائِرِ فِي الْبَحْرِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُس: ٢٢]، وَمِنْهُ أَيْضًا مَا تَرْضَى بِهِ النَّفْسُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَة: ١٦٨] ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِمَا يَزْكُو بَيْنَ جِنْسِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
[النِّسَاء: ٢] وَمِنْهُ فِعْلُ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً هُنَا أَيْ رَضِينَ
بِإِعْطَائِهِ دُونَ حَرَجٍ وَلَا عَسْفٍ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ.
وَقَوْلُهُ: فَكُلُوهُ اسْتَعْمَلَ الْأَكْلَ هُنَا فِي مَعْنَى الِانْتِفَاعِ الَّذِي لَا رُجُوعَ فِيهِ لِصَاحِبِ الشَّيْءِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، أَيْ فِي مَعْنَى تَمَامِ التَّمَلُّكِ. وَأَصْلُ الْأَكْلِ فِي كَلَامِهِمْ يُسْتَعَارُ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ اسْتِيلَاءً لَا رُجُوعَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ حَائِلًا بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ رُجُوعِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَلَكِنَّهُ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الِانْتِفَاعِ لِأَجْلِ الْمُشَاكَلَةِ مَعَ قَوْلِهِ السَّابِقِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢] فَتِلْكَ مُحَسِّنُ الِاسْتِعَارَةِ.
وهَنِيئاً مَرِيئاً حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ وَهُمَا صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ من هُنَا وهنيء- بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا- بِمَعْنَى سَاغَ وَلَمْ يُعَقِّبْ نَغْصًا. وَالْمَرِيءُ مِنْ مَرُوَ الطَّعَامَ- مُثَلَّثُ الرَّاء- بِمَعْنى هنىء، فَهُوَ تَأْكِيدٌ يُشْبِهُ الِاتِّبَاعَ. وَقِيلَ: الْهَنِيءُ الَّذِي يَلَذُّهُ الْآكِلُ وَالْمَرِيءُ مَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ. وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ يَجُوزُ كَوْنُهُمَا ترشيحا لاستعارة فَكُلُوهُ بِمَعْنَى خُذُوهُ أَخْذَ مِلْكٍ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُمَا مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي انْتِفَاءِ التَّبِعَةِ عَنِ الْأَزْوَاجِ فِي أَخْذِ مَا طَابَتْ لَهُمْ بِهِ نُفُوسُ أَزْوَاجِهِمْ، أَيْ حَلَالًا مُبَاحًا، أَوْ حَلَالًا لَا غُرْمَ فِيهِ.
232
وَإِنَّمَا قَالَ: عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَجِيءَ بِحَرْفِ التَّبْعِيضِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الشَّأْنَ أَنْ لَا يَعْرَى الْعَقْدُ عَنِ الصَّدَاقِ، فَلَا تُسْقِطْهُ كُلَّهُ إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمَّا تَأَوَّلُوا ظَاهِرَ الْآيَةِ مِنَ التَّبْعِيضِ، وَجَعَلُوا هِبَةَ جَمِيعِ الصَّدَاقِ كَهِبَتِهِ كُلِّهِ أَخْذًا بِأَصْلِ الْعَطَايَا، لِأَنَّهَا لَمَّا قَبَضَتْهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهَا إِيَّاهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا بِالتُّهْمَةِ لِأَنَّ مَبْنَى النِّكَاحِ عَلَى الْمُكَارَمَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي مَسَائِلِ الْبَيْعِ: إِنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْيَدِ ثُمَّ الرَّاجِعَ إِلَيْهَا يُعْتَبَرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ، وَهَذَا عِنْدَنَا فِي الْمَالِكَاتِ أَمْرَ أَنْفُسِهِنَّ دُونَ الْمَحْجُورَاتِ تَخْصِيصًا لِلْآيَةِ بِغَيْرِهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْحَجْرِ فَإِنَّ الصَّغِيرَاتِ غَيْرَ دَاخِلَاتٍ هُنَا بِالْإِجْمَاعِ. فَدَخَلَ التَّخْصِيصُ لِلْآيَةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: ذَلِكَ لِلثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ، تَمَسُّكًا بِالْعُمُومِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي حَمْلِ الْأَدِلَّةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رُجُوعِ الْمَرْأَةِ فِي هِبَتِهَا بَعْضَ صَدَاقِهَا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا رُجُوعَ لَهَا، وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: لَهَا الرُّجُوعِ، لِأَنَّهَا لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا لَمَا رَجَعَتْ. وَرَوَوْا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى قُضَاتِهِ «إِنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً فَأَيُّمَا امْرَأَةً أَعْطَتْهُ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَذَلِكَ لَهَا» وَهَذَا يَظْهَرُ إِذا كَانَ مَا بَيْنَ الْعَطِيَّةِ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ قَرِيبًا، وَحَدَثَ مِنْ مُعَامَلَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ الْعَطِيَّةِ خِلَافُ مَا يُؤْذَنُ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ السَّابِقِ لِلْعَطِيَّةِ.
وَحَكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاء:
١].
[٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ [النِّسَاءَ: ٤] لِدَفْعِ تَوَهُّمِ إِيجَابِ أَنْ يُؤْتَى كُلُّ مَالٍ لِمَالِكِهِ مِنْ أَجْلِ تَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِإِتْيَانِ الْأَمْوَالِ مَالِكِيهَا مَرَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ [النِّسَاءَ: ٢، ٤]. أَوْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رُجُوعِ الْمَرْأَةِ فِي هِبَتِهَا بَعْضَ صَدَاقِهَا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا رُجُوعَ لَهَا، وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: لَهَا الرُّجُوعِ، لِأَنَّهَا لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا لَمَا رَجَعَتْ. وَرَوَوْا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى قُضَاتِهِ «إِنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً فَأَيُّمَا امْرَأَةً أَعْطَتْهُ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَذَلِكَ لَهَا» وَهَذَا يَظْهَرُ إِذا كَانَ مَا بَيْنَ الْعَطِيَّةِ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ قَرِيبًا، وَحَدَثَ مِنْ مُعَامَلَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ الْعَطِيَّةِ خِلَافُ مَا يُؤْذَنُ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ السَّابِقِ لِلْعَطِيَّةِ.
وَحَكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاء:
١].
[٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ [النِّسَاءَ: ٤] لِدَفْعِ تَوَهُّمِ إِيجَابِ أَنْ يُؤْتَى كُلُّ مَالٍ لِمَالِكِهِ مِنْ أَجْلِ تَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِإِتْيَانِ الْأَمْوَالِ مَالِكِيهَا مَرَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ [النِّسَاءَ: ٢، ٤]. أَوْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
233
وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ الْحَالِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا السَّفِيهُ مِنْ مَالِهِ، وَالْحَالِ الَّتِي يُؤْتَى فِيهَا مَالَهُ، وَقَدْ يُقَالُ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَدَّمَ هُنَالِكَ حُكْمُ مَنْعِ تَسْلِيمِ مَالِ الْيَتَامَى لِأَنَّهُ أَسْبَقُ فِي الْحُصُولِ، فَيَتَّجِهُ لِمُخَالَفَةِ هَذَا الْمُقْتَضَى أَنْ نَقُولَ قَدَّمَ حُكْمَ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَحْرَصُ عَلَى ضِدِّهِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَمْوَالِ لِلسُّفَهَاءِ لَاتَّخَذَهُ الظَّالِمُونَ حُجَّةً لَهُمْ، وَتَظَاهَرُوا بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَمْنَعُونَ الْأَيْتَامَ أَمْوَالَهُمْ خَشْيَةً مِنَ اسْتِمْرَارِ السَّفَهِ فِيهِمْ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْآنَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ وَالْمُقَدَّمِينَ غَيْرُ الْأَتْقِيَاءِ، إِذْ يَتَصَدَّوْنَ لِلْمُعَارَضَةِ فِي بَيِّنَاتِ ثُبُوتِ الرُّشْدِ لِمُجَرَّدِ الشَّغَبِ وَإِمْلَالِ الْمَحَاجِيرِ مِنْ طَلَبِ حُقُوقِهِمْ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ كَمِثْلِ الْخِطَابِ فِي وَآتُوا الْيَتامى وَآتُوا النِّساءَ هُوَ لِعُمُومِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [الْحَج: ١] لِيَأْخُذَ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْحُكْمِ حَظَّهُ مِنَ الِامْتِثَالِ.
والسفهاء يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْيَتَامَى، لِأَنَّ الصِّغَرَ هُوَ حَالَةُ السَّفَهِ الْغَالِبَةِ، فَيَكُونُ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيتَاءِ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْإِيتَاءِ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ، وَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْيَتَامَى إِلَى التَّعْبِيرِ هُنَا بِالسُّفَهَاءِ لِبَيَانِ عِلَّةِ الْمَنْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ مَنْ ثَبَتَ لَهُ السَّفَهُ، سَوَاءً كَانَ عَنْ صِغَرٍ أَمْ عَنِ اخْتِلَالِ تَصَرُّفٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ تَعَرَّضَتْ لِلْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ الْكَبِيرِ اسْتِطْرَادًا لِلْمُنَاسَبَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ مَعْنًى وَأَوْسَعُ تَشْرِيعًا. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعَانِي السَّفَهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٠].
وَالْمُرَادُ بِالْأَمْوَالِ أَمْوَالُ الْمَحَاجِيرِ الْمَمْلُوكَةُ لَهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ
فِيها
وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) إِشَارَةً بَدِيعَةً إِلَى أَنَّ الْمَالَ الرَّائِجَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ حَقٌّ لِمَالِكِيهِ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ تَلُوحُ فِيهِ حُقُوق الْأمة جَمْعَاءَ لِأَنَّ فِي حُصُولِهِ مَنْفَعَةً لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا، لِأَنَّ مَا فِي أَيْدِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا مِنَ الثَّرْوَةِ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ بِالصَّالِحَةِ، فَمِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ يُنْفِقُ أَرْبَابُهَا وَيَسْتَأْجِرُونَ وَيَشْتَرُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ثُمَّ تُورَثُ عَنْهُمْ إِذَا مَاتُوا فَيَنْتَقِلُ الْمَالُ بِذَلِكَ مِنْ يَدٍ إِلَى غَيْرِهَا فَيَنْتَفِعُ الْعَاجِزُ وَالْعَامِلُ وَالتَّاجِرُ وَالْفَقِيرُ وَذُو الْكَفَافِ، وَمَتَى قَلَّتِ الْأَمْوَالُ
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ كَمِثْلِ الْخِطَابِ فِي وَآتُوا الْيَتامى وَآتُوا النِّساءَ هُوَ لِعُمُومِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [الْحَج: ١] لِيَأْخُذَ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْحُكْمِ حَظَّهُ مِنَ الِامْتِثَالِ.
والسفهاء يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْيَتَامَى، لِأَنَّ الصِّغَرَ هُوَ حَالَةُ السَّفَهِ الْغَالِبَةِ، فَيَكُونُ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيتَاءِ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْإِيتَاءِ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ، وَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْيَتَامَى إِلَى التَّعْبِيرِ هُنَا بِالسُّفَهَاءِ لِبَيَانِ عِلَّةِ الْمَنْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ مَنْ ثَبَتَ لَهُ السَّفَهُ، سَوَاءً كَانَ عَنْ صِغَرٍ أَمْ عَنِ اخْتِلَالِ تَصَرُّفٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ تَعَرَّضَتْ لِلْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ الْكَبِيرِ اسْتِطْرَادًا لِلْمُنَاسَبَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ مَعْنًى وَأَوْسَعُ تَشْرِيعًا. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعَانِي السَّفَهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٠].
وَالْمُرَادُ بِالْأَمْوَالِ أَمْوَالُ الْمَحَاجِيرِ الْمَمْلُوكَةُ لَهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ
فِيها
وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) إِشَارَةً بَدِيعَةً إِلَى أَنَّ الْمَالَ الرَّائِجَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ حَقٌّ لِمَالِكِيهِ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ تَلُوحُ فِيهِ حُقُوق الْأمة جَمْعَاءَ لِأَنَّ فِي حُصُولِهِ مَنْفَعَةً لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا، لِأَنَّ مَا فِي أَيْدِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا مِنَ الثَّرْوَةِ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ بِالصَّالِحَةِ، فَمِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ يُنْفِقُ أَرْبَابُهَا وَيَسْتَأْجِرُونَ وَيَشْتَرُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ثُمَّ تُورَثُ عَنْهُمْ إِذَا مَاتُوا فَيَنْتَقِلُ الْمَالُ بِذَلِكَ مِنْ يَدٍ إِلَى غَيْرِهَا فَيَنْتَفِعُ الْعَاجِزُ وَالْعَامِلُ وَالتَّاجِرُ وَالْفَقِيرُ وَذُو الْكَفَافِ، وَمَتَى قَلَّتِ الْأَمْوَالُ
234
مِنْ أَيْدِي النَّاسِ تَقَارَبُوا فِي الْحَاجَةِ وَالْخَصَاصَةِ، فَأَصْبَحُوا فِي ضَنْكٍ وَبُؤْسٍ، وَاحْتَاجُوا إِلَى قَبِيلَةٍ أَوْ أُمَّةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ ابْتِزَازِ عِزِّهِمْ، وَامْتِلَاكِ بِلَادِهِمْ، وَتَصْيِيرِ مَنَافِعِهِمْ لِخِدْمَةِ غَيْرِهِمْ، فَلِأَجْلِ هَاتِهِ الْحِكْمَةِ أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْوَالَ إِلَى جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَكُونَ لَهُمُ الْحَقُّ فِي إِقَامَةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْفَظُ الْأَمْوَالَ وَالثَّرْوَةَ الْعَامَّةَ.
وَهَذِهِ إِشَارَةٌ لَا أَحْسَبُ أَنَّ حَكِيمًا مِنْ حُكَمَاءِ الِاقْتِصَادِ سَبَقَ الْقُرْآنَ إِلَى بَيَانِهَا. وَقَدْ أَبْعَدَ جَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ فِي يَدِ الْأَوْلِيَاءِ، وَجَعَلُوا الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ خَاصَّةً. وَجَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِلْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مِنْ نَوْعِ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمْوَالُهُمْ حَقِيقَةً، وَإِلَيْهِ مَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَجَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِأَنَّ السُّفَهَاءَ مِنْ نَوْعِ الْمُخَاطَبِينَ فَكَأَنَّ أَمْوَالَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَإِلَيْهِ مَالَ فَخْرُ الدِّينِ. وقارب ابْن الْعَرَب إِذْ قَالَ: «لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ تَنْتَقِلُ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ وَتَخْرُجُ مِنْ مِلْكٍ إِلَى مِلْكٍ» وَبِمَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْبَيَانِ كَانَ لِكَلِمَتِهِ هَذِهِ شَأْنٌ. وَأَبْعَدَ فَرِيقٌ آخَرُونَ فَجَعَلُوا الْإِضَافَةَ حَقِيقِيَّةٌ أَيْ لَا تُؤْتُوا- يَا أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ- أَمْوَالَكُمْ لِمَنْ يُضَيِّعُهَا مِنْ أَوْلَادِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، وَهَذَا أَبْعَدُ الْوُجُوهِ، وَلَا إِخَالُ الْحَامِلَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا الْحَيْرَةَ فِي وَجه الْجمع بَيْنَ كَوْنِ الْمَمْنُوعِينَ مِنَ الْأَمْوَالِ السُّفَهَاءِ، وَبَيْنَ إِضَافَةِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِنَّمَا وَصَفْتُهُ بِالْبُعْدِ لِأَنَّ قَائِلَهُ جَعَلَهُ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ وَلَوْ جَعَلَهُ وَجْهًا جَائِزًا يَقُومُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ.
وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَمْوَالِ صِفَةٌ تَزِيدُ إِضَافَتُهَا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وُضُوحًا وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً فَجَاءَ فِي الصِّفَةِ بِمَوْصُولٍ إِيمَاءً إِلَى تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَإِيضَاحًا لِمَعْنَى الْإِضَافَة، فإنّ (قِياماً) مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ بِمَعْنَى فِعَالٍ: مِثْلُ عِوَذٍ بِمَعْنَى عِيَاذٍ، وَهُوَ مِنَ الْوَاوِيِّ وَقِيَاسُهُ قِوَمٌ، إِلَّا أَنَّهُ أُعِلَّ بِالْيَاءِ شُذُوذًا كَمَا شَذَّ جِيَادٌ فِي جَمْعِ جَوَادٍ وَكَمَا شَذَّ طِيَالٌ فِي لُغَةِ ضَبَّةَ فِي جَمْعِ طَوِيلٍ، قَصَدُوا قَلْبَ الْوَاوِ أَلِفًا بَعْدَ الْكَسْرَةِ كَمَا فَعَلُوهُ فِي قِيَامٍ وَنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي وَزْنِ فِعَالٍ مُطَّرِدٌ، وَفِي غَيْرِهِ شَاذٌّ لِكَثْرَةِ فِعَالٍ فِي الْمَصَادِرِ، وَقِلَّةِ
فِعَلٍ فِيهَا، وَقِيَمٌ مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ. كَذَا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: «قِيَمًا» بِوَزْنِ فِعَلٍ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ «قِيَامًا»، وَالْقِيَامُ مَا بِهِ يُتَقَوَّمُ الْمَعَاشُ وَهُوَ وَاوِيٌّ أَيْضًا
وَهَذِهِ إِشَارَةٌ لَا أَحْسَبُ أَنَّ حَكِيمًا مِنْ حُكَمَاءِ الِاقْتِصَادِ سَبَقَ الْقُرْآنَ إِلَى بَيَانِهَا. وَقَدْ أَبْعَدَ جَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ فِي يَدِ الْأَوْلِيَاءِ، وَجَعَلُوا الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ خَاصَّةً. وَجَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِلْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مِنْ نَوْعِ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمْوَالُهُمْ حَقِيقَةً، وَإِلَيْهِ مَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَجَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِأَنَّ السُّفَهَاءَ مِنْ نَوْعِ الْمُخَاطَبِينَ فَكَأَنَّ أَمْوَالَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَإِلَيْهِ مَالَ فَخْرُ الدِّينِ. وقارب ابْن الْعَرَب إِذْ قَالَ: «لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ تَنْتَقِلُ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ وَتَخْرُجُ مِنْ مِلْكٍ إِلَى مِلْكٍ» وَبِمَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْبَيَانِ كَانَ لِكَلِمَتِهِ هَذِهِ شَأْنٌ. وَأَبْعَدَ فَرِيقٌ آخَرُونَ فَجَعَلُوا الْإِضَافَةَ حَقِيقِيَّةٌ أَيْ لَا تُؤْتُوا- يَا أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ- أَمْوَالَكُمْ لِمَنْ يُضَيِّعُهَا مِنْ أَوْلَادِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، وَهَذَا أَبْعَدُ الْوُجُوهِ، وَلَا إِخَالُ الْحَامِلَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا الْحَيْرَةَ فِي وَجه الْجمع بَيْنَ كَوْنِ الْمَمْنُوعِينَ مِنَ الْأَمْوَالِ السُّفَهَاءِ، وَبَيْنَ إِضَافَةِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِنَّمَا وَصَفْتُهُ بِالْبُعْدِ لِأَنَّ قَائِلَهُ جَعَلَهُ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ وَلَوْ جَعَلَهُ وَجْهًا جَائِزًا يَقُومُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ.
وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَمْوَالِ صِفَةٌ تَزِيدُ إِضَافَتُهَا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وُضُوحًا وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً فَجَاءَ فِي الصِّفَةِ بِمَوْصُولٍ إِيمَاءً إِلَى تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَإِيضَاحًا لِمَعْنَى الْإِضَافَة، فإنّ (قِياماً) مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ بِمَعْنَى فِعَالٍ: مِثْلُ عِوَذٍ بِمَعْنَى عِيَاذٍ، وَهُوَ مِنَ الْوَاوِيِّ وَقِيَاسُهُ قِوَمٌ، إِلَّا أَنَّهُ أُعِلَّ بِالْيَاءِ شُذُوذًا كَمَا شَذَّ جِيَادٌ فِي جَمْعِ جَوَادٍ وَكَمَا شَذَّ طِيَالٌ فِي لُغَةِ ضَبَّةَ فِي جَمْعِ طَوِيلٍ، قَصَدُوا قَلْبَ الْوَاوِ أَلِفًا بَعْدَ الْكَسْرَةِ كَمَا فَعَلُوهُ فِي قِيَامٍ وَنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي وَزْنِ فِعَالٍ مُطَّرِدٌ، وَفِي غَيْرِهِ شَاذٌّ لِكَثْرَةِ فِعَالٍ فِي الْمَصَادِرِ، وَقِلَّةِ
فِعَلٍ فِيهَا، وَقِيَمٌ مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ. كَذَا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: «قِيَمًا» بِوَزْنِ فِعَلٍ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ «قِيَامًا»، وَالْقِيَامُ مَا بِهِ يُتَقَوَّمُ الْمَعَاشُ وَهُوَ وَاوِيٌّ أَيْضًا
235
وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأَمْوَالِ بِهِ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ قَوْلِ الْخَنْسَاءِ:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَقْوِيمٌ عَظِيمٌ لِأَحْوَالِ النَّاسِ. وَقِيلَ: قِيَمًا جَمْعُ قِيمَةٍ أَيِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ قِيَمًا أَيْ أَثْمَانًا لِلْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِيذَانٌ بِالْمَعْنَى الْجَلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ أَيْ لَا تُؤْتُوهُمُ الْأَمْوَالَ إِيتَاءَ تَصَرُّفٍ مُطْلَقٍ، وَلَكِنْ آتَوْهُمْ إِيَّاهَا بِمِقْدَارِ انْتِفَاعِهِمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا: تُسَلَّمُ لِلْمَحْجُورِ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ إِذَا أَمِنَ عَلَيْهَا بِحَسَبِ حَالِهِ وَمَالِهِ، وَعَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ ارْزُقُوهُمْ واكْسُوهُمْ بِ (مِنْ) إِلَى تَعْدِيَتِهَا بِ (فِي) الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ، حِينَ لَا يَقْصِدُ التَّبْعِيضَ الْمُوهِمَ لِلْإِنْقَاصِ مِنْ ذَاتِ الشَّيْءِ، بَلْ يُرَادُ أَنَّ فِي جُمْلَةِ الشَّيْءِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْفِعْلُ: تَارَةً مِنْ عَيْنِهِ، وَتَارَةً مِنْ ثَمَنِهِ، وَتَارَةً مِنْ نِتَاجِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ مُكَرَّرًا مُسْتَمِرًّا. وَانْظُرْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:
يُرِيدُ الْإِبِلَ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ فِي دِيَةِ قَتِيلٍ مِنْهُمْ، أَيْ نَشْرَبُ بِأَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ، فَإِمَّا شَرِبْنَا بِجَمِيعِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا أَوْ نَسْتَرْجِعُ مِنْهَا فِي الْقِمَارِ، وَهَذَا مَعْنًى بَدِيعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا، فَأَهْمَلَ مُعْظَمُهُمُ التَّنْبِيهَ عَلَى وَجْهِ الْعُدُولِ إِلَى (فِي)، وَاهْتَدَى إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بَعْضَ الِاهْتِدَاءِ فَقَالَ: أَيِ اجْعَلُوهَا مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ تَتَّجِرُوا فِيهَا وَتَتَرَبَّحُوا حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الرِّبْحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ. فَقَوْلُهُ: «لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ» مُسْتَدْرَكٌ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَاقْتَضَى نَهْيًا عَنِ الْإِنْفَاقِ مَنْ صُلْبِ الْمَالِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً لِيَسْلَمَ إِعْطَاؤُهُمُ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ مِنَ الْأَذَى، فَإِنَّ شَأْنَ مَنْ يُخْرِجُ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ أَنْ يَسْتَثْقِلَ سَائِلَ الْمَالِ، وَذَلِكَ سَوَاءٌ فِي الْعَطَايَا الَّتِي مِنْ مَالِ الْمُعْطِي، وَالَّتِي مِنْ مَالِ الْمُعْطَى، وَلِأَنَّ جَانِبَ السَّفِيهِ مَلْمُوزٌ بِالْهَوْنِ،
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَقْوِيمٌ عَظِيمٌ لِأَحْوَالِ النَّاسِ. وَقِيلَ: قِيَمًا جَمْعُ قِيمَةٍ أَيِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ قِيَمًا أَيْ أَثْمَانًا لِلْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِيذَانٌ بِالْمَعْنَى الْجَلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ أَيْ لَا تُؤْتُوهُمُ الْأَمْوَالَ إِيتَاءَ تَصَرُّفٍ مُطْلَقٍ، وَلَكِنْ آتَوْهُمْ إِيَّاهَا بِمِقْدَارِ انْتِفَاعِهِمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا: تُسَلَّمُ لِلْمَحْجُورِ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ إِذَا أَمِنَ عَلَيْهَا بِحَسَبِ حَالِهِ وَمَالِهِ، وَعَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ ارْزُقُوهُمْ واكْسُوهُمْ بِ (مِنْ) إِلَى تَعْدِيَتِهَا بِ (فِي) الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ، حِينَ لَا يَقْصِدُ التَّبْعِيضَ الْمُوهِمَ لِلْإِنْقَاصِ مِنْ ذَاتِ الشَّيْءِ، بَلْ يُرَادُ أَنَّ فِي جُمْلَةِ الشَّيْءِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْفِعْلُ: تَارَةً مِنْ عَيْنِهِ، وَتَارَةً مِنْ ثَمَنِهِ، وَتَارَةً مِنْ نِتَاجِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ مُكَرَّرًا مُسْتَمِرًّا. وَانْظُرْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:
نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا | وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ |
وَإِنَّمَا قَالَ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً لِيَسْلَمَ إِعْطَاؤُهُمُ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ مِنَ الْأَذَى، فَإِنَّ شَأْنَ مَنْ يُخْرِجُ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ أَنْ يَسْتَثْقِلَ سَائِلَ الْمَالِ، وَذَلِكَ سَوَاءٌ فِي الْعَطَايَا الَّتِي مِنْ مَالِ الْمُعْطِي، وَالَّتِي مِنْ مَالِ الْمُعْطَى، وَلِأَنَّ جَانِبَ السَّفِيهِ مَلْمُوزٌ بِالْهَوْنِ،
236
لِقِلَّةِ تَدْبِيرِهِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَحْمِلُ وَلِيَّهُ عَلَى الْقَلَقِ مِنْ مُعَاشَرَةِ الْيَتِيمِ فَيُسْمِعُهُ مَا يَكْرَهُ مَعَ أَنَّ نُقْصَانَ عَقْلِهِ خَلَلٌ فِي الْخِلْقَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَمَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ السَّفِيهَ غَالِبًا يَسْتَنْكِرُ مَنْعَ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ وَاسِعِ الْمَطَالِبِ، فَقَدْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ، أَوْ يَصْدُرُ مِنْهُ كَلِمَاتٌ مَكْرُوهَةٌ لِوَلِيِّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ الْأَوْلِيَاءَ بِأَنْ لَا يَبْتَدِئُوا مَحَاجِيرَهُمْ بِسَيِّئِ الْكَلَامِ، وَلَا يُجِيبُوهُمْ بِمَا يَسُوءُ، بَلْ يَعِظُونَ
الْمَحَاجِيرَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ طُرُقَ الرَّشَادِ مَا اسْتَطَاعُوا، وَيُذَكِّرُونَهُمْ بِأَنَّ الْمَالَ مَالُهُمْ، وَحِفْظَهُ حِفْظٌ لِمَصَالِحِهِمْ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَهُوَ بَقَاءُ الْكَرَامَةِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ وَمَوَالِيهِمْ، وَرَجَاءُ انْتِفَاعِ الْمَوَالِي بِتِلْكَ الْمَوَاعِظِ فِي إِصْلَاحِ حَالِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونُوا كَمَا قَالَ:
وَقَدْ شَمِلَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ كُلَّ قَوْلٍ لَهُ موقع فِي حَالَ مَقَالِهِ. وَخَرَجَ عَنْهُ كُلُّ قَوْلٍ مُنْكَرٍ لَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ وَلَا الْخُلُقُ بِمُصَادَفَتِهِ الْمَحَزَّ، فَالْمَعْرُوفُ قَدْ يَكُونُ مِمَّا يَكْرَهُهُ السَّفِيهُ إِذَا كَانَ فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِهِ.
[٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ وَابْتَلُوا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النِّسَاء: ٥] لِتَنْزِيلِهَا مِنْهَا مَنْزِلَةَ الْغَايَةِ لِلنَّهْيِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ السُّفَهَاءِ هُنَالِكَ خُصُوصَ الْيَتَامَى فَيَتَّجِهُ أَن يُقَال: لماذَا عُدِلَ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَعَنِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ الْمُسَاوِي لِلْأَوَّلِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِآخَرَ أَخَصَّ وَهُوَ الْيَتَامَى، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ، وَأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ إِعَادَةِ لَفْظِ السُّفَهَاءِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ فِي حَالَةِ الِابْتِلَاءِ مَرْجُوٌّ كَمَالُ عُقُولِهِمْ، وَمُتَفَاءَلٌ بِزَوَالِ السَّفَاهَةِ عَنْهُمْ، لِئَلَّا يَلُوحَ شِبْهُ تَنَاقُضٍ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِالسَّفَهِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ السُّفَهَاءِ هُنَالِكَ أَعَمَّ مِنَ الْيَتَامَى، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَيُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ حُكْمِ الِابْتِلَاءِ وَالِاسْتِينَاسِ بِالْيَتَامَى دُونَ السُّفَهَاءِ؟ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي يُرْجَى
الْمَحَاجِيرَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ طُرُقَ الرَّشَادِ مَا اسْتَطَاعُوا، وَيُذَكِّرُونَهُمْ بِأَنَّ الْمَالَ مَالُهُمْ، وَحِفْظَهُ حِفْظٌ لِمَصَالِحِهِمْ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَهُوَ بَقَاءُ الْكَرَامَةِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ وَمَوَالِيهِمْ، وَرَجَاءُ انْتِفَاعِ الْمَوَالِي بِتِلْكَ الْمَوَاعِظِ فِي إِصْلَاحِ حَالِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونُوا كَمَا قَالَ:
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ | وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ |
[٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ وَابْتَلُوا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النِّسَاء: ٥] لِتَنْزِيلِهَا مِنْهَا مَنْزِلَةَ الْغَايَةِ لِلنَّهْيِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ السُّفَهَاءِ هُنَالِكَ خُصُوصَ الْيَتَامَى فَيَتَّجِهُ أَن يُقَال: لماذَا عُدِلَ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَعَنِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ الْمُسَاوِي لِلْأَوَّلِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِآخَرَ أَخَصَّ وَهُوَ الْيَتَامَى، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ، وَأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ إِعَادَةِ لَفْظِ السُّفَهَاءِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ فِي حَالَةِ الِابْتِلَاءِ مَرْجُوٌّ كَمَالُ عُقُولِهِمْ، وَمُتَفَاءَلٌ بِزَوَالِ السَّفَاهَةِ عَنْهُمْ، لِئَلَّا يَلُوحَ شِبْهُ تَنَاقُضٍ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِالسَّفَهِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ السُّفَهَاءِ هُنَالِكَ أَعَمَّ مِنَ الْيَتَامَى، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَيُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ حُكْمِ الِابْتِلَاءِ وَالِاسْتِينَاسِ بِالْيَتَامَى دُونَ السُّفَهَاءِ؟ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي يُرْجَى
237
فِيهِ تغيّر الْحَالِ، وَهُوَ مُرَاهَقَةُ الْبُلُوغِ، حِينَ يُرْجَى كَمَالُ الْعَقْلِ وَالتَّنَقُّلُ مِنْ حَالِ الضَّعْفِ إِلَى حَالِ الرُّشْدِ، أَمَّا مَنْ كَانَ سَفَهُهُ فِي حِينِ الْكِبَرِ فَلَا يُعْرَفُ وَقْتٌ هُوَ مَظِنَّةٌ لِانْتِقَالِ حَالِهِ وَابْتِلَائِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَابْتَلُوا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء:
٢] لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِيتَاءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَعَلَيْهِ فَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ: الْيَتامى لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَعَادِ وَالضَّمِيرِ، لَوْ عَبَّرَ بِالضَّمِيرِ.
وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِلْغَايَةِ، لِأَنَّ إِفَادَتَهَا الْغَايَةَ بِالْوَضْعِ، وَكَوْنَهَا ابْتِدَائِيَّةً أَوْ جَارَّةً اسْتِعْمَالَاتٌ بِحَسَبِ مَدْخُولِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٢]. وَ (إِذا) ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجُمْهُورُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ (حَتَّى) الدَّاخِلَةِ عَلَى (إِذا) ابْتِدَائِيَّةٌ لَا جَارَّةٌ.
وَالْمَعْنَى: ابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى وَقَتِ إِنْ بَلَغُوا النِّكَاحَ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَهِي عِنْدَهُ الِابْتِلَاءُ، وَحَيْثُ عُلِمَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ لِأَجْلِ تَسْلِيمِ الْمَالِ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُرَادٌ مِنْهُ لَازِمُهُ وَأَثَرُهُ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الْأَمْوَالِ. وَسَيُصَرَّحُ بِذَلِكَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الثَّانِي.
وَالِابْتِلَاءُ هُنَا: هُوَ اخْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْيَتِيمِ فِي الْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُدْفَعُ لِلْيَتِيمِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِجْحَافٍ، وَيَرُدُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الدَّارِ شَهْرًا كَامِلًا، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا يُفَوَّضُ إِلَيْهَا مَا يُفَوَّضُ لِرَبَّةِ الْمَنْزِلِ، وَضَبْطِ أُمُورِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْجَيِّدِ مِنَ الرَّدِيءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْأَزْمَانِ وَالْبُيُوتِ. وَزَادَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاخْتِبَارَ فِي الدِّينِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ شَرْطٍ إِذْ مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ هُنَا حِفْظُ الْمَالِ، وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ آثَارِ كُلِّيَّةِ حِفْظِ الدِّينِ.
وَبُلُوغُ النِّكَاحِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ بُلُوغُ وَقْتِ النِّكَاحِ أَيِ التَّزَوُّجِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ حَالَةِ الصِّبَا لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِلْبُلُوغِ عَلَامَاتٌ مَعْرُوفَةٌ، عُبِّرَ عَنْهَا فِي الْآيَةِ بِبُلُوغِ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ التَّبْكِيرِ بتزويج الْبِنْت عَن
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَابْتَلُوا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء:
٢] لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِيتَاءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَعَلَيْهِ فَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ: الْيَتامى لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَعَادِ وَالضَّمِيرِ، لَوْ عَبَّرَ بِالضَّمِيرِ.
وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِلْغَايَةِ، لِأَنَّ إِفَادَتَهَا الْغَايَةَ بِالْوَضْعِ، وَكَوْنَهَا ابْتِدَائِيَّةً أَوْ جَارَّةً اسْتِعْمَالَاتٌ بِحَسَبِ مَدْخُولِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٢]. وَ (إِذا) ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجُمْهُورُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ (حَتَّى) الدَّاخِلَةِ عَلَى (إِذا) ابْتِدَائِيَّةٌ لَا جَارَّةٌ.
وَالْمَعْنَى: ابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى وَقَتِ إِنْ بَلَغُوا النِّكَاحَ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَهِي عِنْدَهُ الِابْتِلَاءُ، وَحَيْثُ عُلِمَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ لِأَجْلِ تَسْلِيمِ الْمَالِ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُرَادٌ مِنْهُ لَازِمُهُ وَأَثَرُهُ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الْأَمْوَالِ. وَسَيُصَرَّحُ بِذَلِكَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الثَّانِي.
وَالِابْتِلَاءُ هُنَا: هُوَ اخْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْيَتِيمِ فِي الْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُدْفَعُ لِلْيَتِيمِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِجْحَافٍ، وَيَرُدُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الدَّارِ شَهْرًا كَامِلًا، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا يُفَوَّضُ إِلَيْهَا مَا يُفَوَّضُ لِرَبَّةِ الْمَنْزِلِ، وَضَبْطِ أُمُورِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْجَيِّدِ مِنَ الرَّدِيءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْأَزْمَانِ وَالْبُيُوتِ. وَزَادَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاخْتِبَارَ فِي الدِّينِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ شَرْطٍ إِذْ مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ هُنَا حِفْظُ الْمَالِ، وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ آثَارِ كُلِّيَّةِ حِفْظِ الدِّينِ.
وَبُلُوغُ النِّكَاحِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ بُلُوغُ وَقْتِ النِّكَاحِ أَيِ التَّزَوُّجِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ حَالَةِ الصِّبَا لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِلْبُلُوغِ عَلَامَاتٌ مَعْرُوفَةٌ، عُبِّرَ عَنْهَا فِي الْآيَةِ بِبُلُوغِ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ التَّبْكِيرِ بتزويج الْبِنْت عَن
238
الْبُلُوغِ. وَمِنْ طَلَبِ الرَّجُلِ الزَّوَاجَ عِنْدَ بُلُوغِهِ، وَبُلُوغِ صَلَاحِيَّةِ الزَّوَاجِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَبِاخْتِلَافِ أَمْزِجَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْمِزَاجِ الدَّمَوِيِّ وَالْمِزَاجِ الصَّفْرَاوِيِّ، فَلِذَلِكَ أَحَالَهُ الْقُرْآنُ عَلَى بُلُوغِ أَمَدِ النِّكَاحِ، وَالْغَالِبُ فِي بُلُوغِ الْبِنْتِ أَنَّهُ أَسْبَقُ مِنْ بُلُوغِ الذَّكَرِ، فَإِنْ تَخَلَّفَتْ عَنْ وَقْتِ مَظِنَّتِهَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُسْتَدَلُّ بِالسِّنِّ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَقْصَى الْبُلُوغِ عَادَةً، فَقَالَ مَالِكٌ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ: هُوَ ثَمَانُ عَشْرَةَ سَنَةً لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الذُّكُورِ، وَقَالَ: فِي الْجَارِي سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَوَى غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِلذُّكُورِ وَسَبْعَ عَشْرَةَ لِلْبَنَاتِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمَاجِشُونَ، وَبِهِ قَالَ أَصْبَغُ، وَابْنُ وَهْبٍ، مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَرَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ
ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ، وَعَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَهُ. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بُلُوغُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هُوَ مِعْيَارُ بُلُوغِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَصَادَفَ أَنْ رَآهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ مَلَامِحُ الرِّجَالِ، فَأَجَازَهُ، وَلَيْسَ ذِكْرُ السِّنِّ فِي كَلَامٍ ابْنِ عُمَرَ إِيمَاءً إِلَى ضَبْطِ الْإِجَازَةِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، فَتَعَجَّبْ مِنْ ترك هَؤُلَاءِ الأئمّة تَحْدِيدَ سِنِّ الْبُلُوغِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَشَدُّ مِنْ عَجَبِهِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ ابْنِ عُمَرَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي قَضَايَا الْأَعْيَانِ مَعْلُومٌ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا اسْتَكْمَلَ الْوَلَدُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كَتَبَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ
. وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَنْبَغِي الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.
وَوَقْتُ الِابْتِلَاءِ يَكُونُ بَعْدَ التَّمْيِيزِ لَا مَحَالَةَ، وَقَبْلَ الْبُلُوغِ: قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمَالِ لِلْإِضَاعَةِ لِأَنَّ عَقْلَ الْيَتِيمِ غَيْرُ كَامِلٍ، وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الِابْتِلَاءُ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَعُبِّرَ عَنِ اسْتِكْمَالِ
قَالَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمَاجِشُونَ، وَبِهِ قَالَ أَصْبَغُ، وَابْنُ وَهْبٍ، مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَرَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ
ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ، وَعَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَهُ. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بُلُوغُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هُوَ مِعْيَارُ بُلُوغِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَصَادَفَ أَنْ رَآهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ مَلَامِحُ الرِّجَالِ، فَأَجَازَهُ، وَلَيْسَ ذِكْرُ السِّنِّ فِي كَلَامٍ ابْنِ عُمَرَ إِيمَاءً إِلَى ضَبْطِ الْإِجَازَةِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، فَتَعَجَّبْ مِنْ ترك هَؤُلَاءِ الأئمّة تَحْدِيدَ سِنِّ الْبُلُوغِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَشَدُّ مِنْ عَجَبِهِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ ابْنِ عُمَرَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي قَضَايَا الْأَعْيَانِ مَعْلُومٌ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا اسْتَكْمَلَ الْوَلَدُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كَتَبَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ
. وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَنْبَغِي الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.
وَوَقْتُ الِابْتِلَاءِ يَكُونُ بَعْدَ التَّمْيِيزِ لَا مَحَالَةَ، وَقَبْلَ الْبُلُوغِ: قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمَالِ لِلْإِضَاعَةِ لِأَنَّ عَقْلَ الْيَتِيمِ غَيْرُ كَامِلٍ، وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الِابْتِلَاءُ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَعُبِّرَ عَنِ اسْتِكْمَالِ
239
قُوَّةِ النَّمَاءِ الطَّبِيعِيِّ بِ بَلَغُوا النِّكاحَ، فَأُسْنِدَ الْبُلُوغُ إِلَى ذَوَاتِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ يَدْعُو الرَّجُلَ لِلتَّزَوُّجِ وَيَدْعُو أَوْلِيَاءَ الْبِنْتِ لِتَزْوِيجِهَا، فَهُوَ الْبُلُوغُ الْمُتَعَارَفُ الَّذِي لَا مُتَأَخَّرَ بَعْدَهُ، فَلَا يُشْكَلُ بِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يُزَوِّجُونَ بَنَاتِهُمْ قَبْلَ سِنِّ الْبُلُوغِ، وَأَبْنَاءَهُمْ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَعَجُّلٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لِأَغْرَاضٍ عَارِضَةٍ، وَلَيْسَ بُلُوغًا مِنَ الْأَبْنَاءِ أَوِ الْبَنَاتِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً شَرْطٌ ثَانٍ مُقَيِّدٌ لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ إِذا بَلَغُوا. وَهُوَ وَجَوَابُهُ جَوَابُ (إِذا)، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْفَاءِ لِيَكُونَ نَصًّا فِي الْجَوَابِ، وَتَكُونَ (إِذا) نَصًّا فِي الشَّرْطِ، فَإِنَّ جَوَابَ (إِذا) مُسْتَغْنٍ عَنِ الرَّبْطِ بِالْفَاءِ لَوْلَا قَصْدُ التَّنْصِيصِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ.
وَجَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ انْتِهَاءَ الْحَجْرِ إِلَى الْبُلُوغِ بِالْأَصَالَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْرَفَ مِنَ الْمَحْجُورِ الرُّشْدُ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَطْعٌ لِمَعَاذِيرِ الْأَوْصِيَاءِ مِنْ أَنْ يُمْسِكُوا أَمْوَالَ مَحَاجِيرِهِمْ عِنْدَهُمْ مُدَّةً لِزِيَادَةِ التَّمَتُّعِ بِهَا.
وَيَتَحَصَّلُ مِنْ مَعْنَى اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ فِي الْكَلَامِ هُنَا، إِذْ كَانَ بِدُونِ عَطْفٍ ظَاهِرٍ أَوْ مُقَدَّرٍ بِالْقَرِينَةِ، أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا سَبَبٌ لِتَسْلِيمِ الْمَالِ إِلَى الْمَحْجُورِ، فَلَا يَكْفِي حُصُولُ أَحَدِهِمَا وَلَا نَظَرَ إِلَى الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً، وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي كُلِّ جُمْلَةِ شَرْطٍ بُنِيَتْ عَلَى جُمْلَةِ شَرْطٍ آخَرَ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُمَا إِلَّا عَلَى لُزُومِ حُصُولِ الْأَمْرَيْنِ فِي مَشْرُوطٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَرْتِيبَ
الشَّرْطَيْنِ يُفِيدُ كَوْنَ الثَّانِي مِنْهُمَا فِي الذِّكْرِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْحُصُولِ. وَنَسَبَهُ الزَّجَّاجِيُّ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» إِلَى ثَعْلَبٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَقَالَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْبَغَوِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَرْتِيبَ الشَّرْطَيْنِ فِي الْحُصُولِ يَكُونُ عَلَى نَحْوِ تَرْتِيبِهِمَا فِي اللَّفْظِ، وَنَسَبَهُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَفَّالِ، وَالْقَاضِي الْحُسَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ فِي «الْوَجِيزِ»، وَالْإِمَامِ الرَّازِّيِّ فِي «النِّهَايَةِ»، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا فِي تَعْلِيقِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْإِيمَانِ، وَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُهَا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَلَا يَظْهَرُ أَثَرٌ لِلْخِلَافِ
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً شَرْطٌ ثَانٍ مُقَيِّدٌ لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ إِذا بَلَغُوا. وَهُوَ وَجَوَابُهُ جَوَابُ (إِذا)، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْفَاءِ لِيَكُونَ نَصًّا فِي الْجَوَابِ، وَتَكُونَ (إِذا) نَصًّا فِي الشَّرْطِ، فَإِنَّ جَوَابَ (إِذا) مُسْتَغْنٍ عَنِ الرَّبْطِ بِالْفَاءِ لَوْلَا قَصْدُ التَّنْصِيصِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ.
وَجَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ انْتِهَاءَ الْحَجْرِ إِلَى الْبُلُوغِ بِالْأَصَالَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْرَفَ مِنَ الْمَحْجُورِ الرُّشْدُ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَطْعٌ لِمَعَاذِيرِ الْأَوْصِيَاءِ مِنْ أَنْ يُمْسِكُوا أَمْوَالَ مَحَاجِيرِهِمْ عِنْدَهُمْ مُدَّةً لِزِيَادَةِ التَّمَتُّعِ بِهَا.
وَيَتَحَصَّلُ مِنْ مَعْنَى اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ فِي الْكَلَامِ هُنَا، إِذْ كَانَ بِدُونِ عَطْفٍ ظَاهِرٍ أَوْ مُقَدَّرٍ بِالْقَرِينَةِ، أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا سَبَبٌ لِتَسْلِيمِ الْمَالِ إِلَى الْمَحْجُورِ، فَلَا يَكْفِي حُصُولُ أَحَدِهِمَا وَلَا نَظَرَ إِلَى الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً، وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي كُلِّ جُمْلَةِ شَرْطٍ بُنِيَتْ عَلَى جُمْلَةِ شَرْطٍ آخَرَ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُمَا إِلَّا عَلَى لُزُومِ حُصُولِ الْأَمْرَيْنِ فِي مَشْرُوطٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَرْتِيبَ
الشَّرْطَيْنِ يُفِيدُ كَوْنَ الثَّانِي مِنْهُمَا فِي الذِّكْرِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْحُصُولِ. وَنَسَبَهُ الزَّجَّاجِيُّ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» إِلَى ثَعْلَبٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَقَالَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْبَغَوِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَرْتِيبَ الشَّرْطَيْنِ فِي الْحُصُولِ يَكُونُ عَلَى نَحْوِ تَرْتِيبِهِمَا فِي اللَّفْظِ، وَنَسَبَهُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَفَّالِ، وَالْقَاضِي الْحُسَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ فِي «الْوَجِيزِ»، وَالْإِمَامِ الرَّازِّيِّ فِي «النِّهَايَةِ»، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا فِي تَعْلِيقِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْإِيمَانِ، وَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُهَا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَلَا يَظْهَرُ أَثَرٌ لِلْخِلَافِ
240
فِي الْإِخْبَارِ وَإِنْشَاءِ الْأَحْكَامِ، كَمَا هُنَا، وَإِنَّمَا قَدْ يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي إِنْشَاءِ التَّعَالِيقِ فِي الْأَيْمَانِ، وَأَيْمَانُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا يَرَوْنَ لِذَلِكَ تَأْثِيرًا. وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ جَعْلُ الشَّرْطَيْنِ شَرْطًا فِي الْجَوَابِ، وَذَلِكَ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَلَوْ تَقْدِيرًا، فَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ جَعْلُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ الثَّانِي وَجَوَابُهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ، سَوَاءً ارْتَبَطَتْ بِالْفَاءِ- كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ- أَمْ لَمْ تَرْتَبِطْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:
٣٤]. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطَانِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا جَوَابٌ مُسْتَقِلٌّ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها [الْأَحْزَاب: ٥٠]. فَقَوْلُهُ: إِنْ وَهَبَتْ شَرْطٌ فِي إِحْلَالِ امْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَهُ، وَقَوْلُهُ: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ هِبَةَ الْمَرْأَة نَفسهَا للنَّبِي تُعَيِّنُ عَلَيْهِ تَزَوُّجَهَا، فَتَقْدِيرُ جَوَابِهِ: إِنْ أَرَادَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَا شَرْطَيْنِ لِلْإِحْلَالِ لِظُهُورِ أَنَّ إِحْلَالَ الْمَرْأَةِ لَا سَبَبَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَّا أَنَّهَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا.
وَفِي كِلْتَا حَالَتَيِ الشَّرْطِ الْوَارِدِ عَلَى شَرْطٍ يَجْعَلُ جَوَابَ أَحَدِهِمَا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، أَوْ جَوَابَ أَحَدِهِمَا جَوَابًا لِلْآخَرِ: عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْأَخْفَشِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تَعَدُّدِ الشُّرُوطِ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: «إِنْ دَخَلْتَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنْ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْتَ آمِنٌ» وَفِي نَحْوِ قَوْلِكَ: «إِنْ صَلَّيْتَ إِنْ صُمْتَ أُثِبْتَ» مِنْ كُلِّ تَرْكِيبٍ لَا تَظْهَرُ فِيهِ مُلَازَمَةٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ، حَتَّى يَصِيرَ أَحَدُهُمَا شَرْطًا فِي الْآخَرِ.
هَذَا تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي أَطَالَ فِيهِ كثير وَخَصَّهَا تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ بِرِسَالَةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ سَأَلَ عَنْهَا الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ الشَّيْخَ ابْنَ الْحَاجِبِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ كِتَابِ «الْوَفَيَاتِ»، وَلم يفصّلها، وفصّلها، الدَّمَامِينِيُّ فِي «حَاشِيَةِ مُغْنِي اللَّبِيبِ».
وَإِينَاسُ الرُّشْدِ هُنَا عِلْمُهُ، وَأَصْلُ الْإِينَاسِ رُؤْيَةُ الْإِنْسِيِّ أَيِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى أَوَّلِ مَا يُتَبَادَرُ مِنَ الْعِلْمِ، سَوَاءٌ فِي الْمُبْصَرَاتِ، نَحْوَ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارا [الْقَصَص: ٢٩] أَمْ فِي الْمَسْمُوعَاتِ، نَحْوَ قَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ فِي بَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ:
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ جَعْلُ الشَّرْطَيْنِ شَرْطًا فِي الْجَوَابِ، وَذَلِكَ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَلَوْ تَقْدِيرًا، فَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ جَعْلُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ الثَّانِي وَجَوَابُهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ، سَوَاءً ارْتَبَطَتْ بِالْفَاءِ- كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ- أَمْ لَمْ تَرْتَبِطْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:
٣٤]. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطَانِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا جَوَابٌ مُسْتَقِلٌّ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها [الْأَحْزَاب: ٥٠]. فَقَوْلُهُ: إِنْ وَهَبَتْ شَرْطٌ فِي إِحْلَالِ امْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَهُ، وَقَوْلُهُ: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ هِبَةَ الْمَرْأَة نَفسهَا للنَّبِي تُعَيِّنُ عَلَيْهِ تَزَوُّجَهَا، فَتَقْدِيرُ جَوَابِهِ: إِنْ أَرَادَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَا شَرْطَيْنِ لِلْإِحْلَالِ لِظُهُورِ أَنَّ إِحْلَالَ الْمَرْأَةِ لَا سَبَبَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَّا أَنَّهَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا.
وَفِي كِلْتَا حَالَتَيِ الشَّرْطِ الْوَارِدِ عَلَى شَرْطٍ يَجْعَلُ جَوَابَ أَحَدِهِمَا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، أَوْ جَوَابَ أَحَدِهِمَا جَوَابًا لِلْآخَرِ: عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْأَخْفَشِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تَعَدُّدِ الشُّرُوطِ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: «إِنْ دَخَلْتَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنْ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْتَ آمِنٌ» وَفِي نَحْوِ قَوْلِكَ: «إِنْ صَلَّيْتَ إِنْ صُمْتَ أُثِبْتَ» مِنْ كُلِّ تَرْكِيبٍ لَا تَظْهَرُ فِيهِ مُلَازَمَةٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ، حَتَّى يَصِيرَ أَحَدُهُمَا شَرْطًا فِي الْآخَرِ.
هَذَا تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي أَطَالَ فِيهِ كثير وَخَصَّهَا تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ بِرِسَالَةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ سَأَلَ عَنْهَا الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ الشَّيْخَ ابْنَ الْحَاجِبِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ كِتَابِ «الْوَفَيَاتِ»، وَلم يفصّلها، وفصّلها، الدَّمَامِينِيُّ فِي «حَاشِيَةِ مُغْنِي اللَّبِيبِ».
وَإِينَاسُ الرُّشْدِ هُنَا عِلْمُهُ، وَأَصْلُ الْإِينَاسِ رُؤْيَةُ الْإِنْسِيِّ أَيِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى أَوَّلِ مَا يُتَبَادَرُ مِنَ الْعِلْمِ، سَوَاءٌ فِي الْمُبْصَرَاتِ، نَحْوَ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارا [الْقَصَص: ٢٩] أَمْ فِي الْمَسْمُوعَاتِ، نَحْوَ قَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ فِي بَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ:
241
آنَسَتْ نبأة وأفزعها الْقِنّـ | ـاص عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ |
وَالرُّشْدُ- بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَتُفْتَحُ الرَّاءُ فَيُفْتَحُ الشِّينُ، وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ وَهُوَ انْتِظَامُ تَصَرُّفِ الْعَقْلِ، وَصُدُورِ الْأَفْعَالِ عَنْ ذَلِكَ بِانْتِظَامٍ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا حِفْظُ الْمَالِ وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ابْتَلُوا الْيَتامى.
وَالْمُخَاطَبُ فِي الْآيَةِ الْأَوْصِيَاءُ، فَيَكُونُ مُقْتَضَى الْآيَةِ أَنَّ الْأَوْصِيَاءَ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ حُكْمًا، فَقَالُوا: يَتَوَلَّى الْوَصِيُّ دَفْعَ مَال مَحْجُوره عِنْد مَا يَأْنَسُ مِنْهُ الرُّشْدَ، فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى تَرْشِيدَ مَحْجُورِهِ بِتَسْلِيم مَاله إِلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: مَنْ أَقَامَهُ الْأَبُ وَالْقَاضِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِتَرْشِيدِ الْمَحْجُورِ إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ لِفَسَادِ النَّاسِ الْيَوْمَ وَعَدَمِ أَمْنِهِمْ أَنْ يَتَوَاطَئُوا مَعَ الْمَحَاجِيرِ لِيُرْشِدُوهُمْ فيسمحوا لَهُم بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ فِي أَوْصِيَاءِ زَمَانِنَا أَنْ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ رَفْعِهِمْ إِلَى السُّلْطَانِ وَثُبُوتِ الرُّشْدِ عِنْدَهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَوَاطُؤِ الْأَوْصِيَاءِ عَلَى أَنْ يُرْشِدَ الوصيّ مَحْجُوره ويبرىء الْمَحْجُورُ الْوَصِيَّ لِسَفَهِهِ وَقِلَّةِ تَحْصِيلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. إِلَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَلَكِنِ اسْتَحْسَنَ الْمُوَثَّقُونَ الْإِشْهَادَ بِثُبُوتِ رُشْدِ الْمَحْجُورِ الْمُوصَى عَلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ لِلِاحْتِيَاطِ، أَمَّا وَصِيُّ الْقَاضِي فَاخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُرَشِّدُ مَحْجُورَهُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ لَدَى الْقَاضِي، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْخِطَابَ فِي مِثْلِهِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَيَتَوَلَّى تَنْفِيذَهُ مَنْ إِلَيْهِ تَنْفِيذُ ذَلِكَ الْبَابِ مِنَ الْوُلَاةِ، كَشَأْنِ خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ الْوَارِدَةِ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي إِلَيْهِ تَنْفِيذُ أُمُورِ الْمَحَاجِيرِ وَالْأَوْصِيَاءِ هُوَ الْقَاضِي، وَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ بِلَا كُلْفَةٍ.
وَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي تَقَدُّمِ الِابْتِلَاءِ وَالِاسْتِينَاسِ عَلَى الْبُلُوغِ لِمَكَانٍ (حَتَّى) الْمُؤْذِنَةِ بِالِانْتِهَاءِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ لِلْمَحْجُورِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ لِلِابْتِلَاءِ إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ.
242
وَالْآيَةُ أَيْضًا صَرِيحَةٌ فِي أنّه إِذا لَمْ يَحْصُلِ الشَّرْطَانِ مَعًا: الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، لَا يُدْفَعُ الْمَالُ لِلْمَحْجُورِ. وَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا بَعْدَ بُلُوغِهِ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ: يُنْتَظَرُ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ أُطْلِقَ مِنَ الْحَجْرِ. وَهَذَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الشَّرْطِ، وَهُوَ أَيْضًا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ إِذْ لَيْسَ الْحَجْرُ إِلَّا لِأَجْلِ السَّفَهِ وَسُوءِ التَّصَرُّفِ فَأَيُّ أَثَرٍ لِلْبُلُوغِ لَوْلَا أَنَّهُ مَظِنَّةُ الرُّشْدِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَ الْبُلُوغِ فَمَا أَثَرُ سَبْعِ السِّنِينَ فِي تَمَامِ رُشْدِهِ.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ بِحُكْمِ الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ السَّفَهُ وَهُوَ بَالِغٌ أَوِ اخْتَلَّ عَقْلُهُ لِأَجْلِ مَرَضٍ فِي فِكْرِهِ، أَوْ لِأَجَلِ خَرَفٍ مِنْ شِدَّةِ الْكِبَرِ، أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِذْ عِلَّةُ التَّحْجِيرِ ثَابِتَةٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ: لَا حَجْرَ عَلَى بَالِغٍ.
وَحُكْمُ الْآيَةِ شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاث بطرِيق التغليب: فَالْأُنْثَى الْيَتِيمَةُ إِذَا بَلَغَتْ رَشِيدَةً دُفِعَ مَالُهَا إِلَيْهَا.
وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُشْداً تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ إِرَادَةُ نَوْعِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ الْمَوَاهِي الْعَقْلِيَّةَ مُتَّحِدَةٌ لَا أَفْرَادَ لَهَا، وَإِنَّمَا أَفْرَادُهَا اعْتِبَارِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمَحَالِّ أَوْ تَعَدُّدِ الْمُتَعَلَّقَاتِ، فَرُشْدُ زَيْدٍ غَيْرُ رُشْدِ عَمْرٍو، وَالرُّشْدُ فِي الْمَالِ غَيْرُ الرُّشْدِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: ٩٧]، وَقَالَ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: ٨٧]. وَمَاهِيَّةُ الرُّشْدِ هِيَ انْتِظَامُ الْفِكْرِ وَصُدُورُ الْأَفْعَالِ عَلَى نَحْوِهِ بِانْتِظَامٍ، وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الرُّشْدُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ، فَالْمُرَادُ مِنَ النَّوْعِيَّةِ نَحْوَ الْمُرَادِ مِنَ الْجِنْسِ، وَلِذَلِكَ سَاوَى الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ النَّكِرَةِ، فَمِنَ الْعَجَائِبِ تَوَهُّمُ الْجَصَّاصِ أَنَّ فِي تَنْكِيرِ (رُشْداً) دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ حُسْنِ التَّصَرُّفِ وَاكْتِفَائِهِ بِالْبُلُوغِ، بِدَعْوَى أَنَّ اللَّهَ شَرَطَ رُشْدًا مَا وَهُوَ صَادِقٌ بِالْعَقْلِ إِذِ الْعَقْلُ رُشْدٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الرُّشْدَ كُلَّهُ. وَهَذَا ضَعْفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْعُمُومُ فِي الْمَوَاهِي الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا أَفْرَادَ لَهَا. وَقَدْ أُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ الْيَتَامَى: لِأَنَّهَا قَوِيَ اختصاصها بهم عِنْد مَا صَارُوا رُشَدَاءَ فَصَارَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا لَا يُخَافُ مِنْهُ إِضَاعَةُ مَا لِلْقَرَابَةِ وَلِعُمُومِ الْأُمَّةِ مِنَ الْحَقِّ فِي الْأَمْوَالِ.
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الشَّرْطِ، وَهُوَ أَيْضًا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ إِذْ لَيْسَ الْحَجْرُ إِلَّا لِأَجْلِ السَّفَهِ وَسُوءِ التَّصَرُّفِ فَأَيُّ أَثَرٍ لِلْبُلُوغِ لَوْلَا أَنَّهُ مَظِنَّةُ الرُّشْدِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَ الْبُلُوغِ فَمَا أَثَرُ سَبْعِ السِّنِينَ فِي تَمَامِ رُشْدِهِ.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ بِحُكْمِ الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ السَّفَهُ وَهُوَ بَالِغٌ أَوِ اخْتَلَّ عَقْلُهُ لِأَجْلِ مَرَضٍ فِي فِكْرِهِ، أَوْ لِأَجَلِ خَرَفٍ مِنْ شِدَّةِ الْكِبَرِ، أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِذْ عِلَّةُ التَّحْجِيرِ ثَابِتَةٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ: لَا حَجْرَ عَلَى بَالِغٍ.
وَحُكْمُ الْآيَةِ شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاث بطرِيق التغليب: فَالْأُنْثَى الْيَتِيمَةُ إِذَا بَلَغَتْ رَشِيدَةً دُفِعَ مَالُهَا إِلَيْهَا.
وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُشْداً تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ إِرَادَةُ نَوْعِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ الْمَوَاهِي الْعَقْلِيَّةَ مُتَّحِدَةٌ لَا أَفْرَادَ لَهَا، وَإِنَّمَا أَفْرَادُهَا اعْتِبَارِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمَحَالِّ أَوْ تَعَدُّدِ الْمُتَعَلَّقَاتِ، فَرُشْدُ زَيْدٍ غَيْرُ رُشْدِ عَمْرٍو، وَالرُّشْدُ فِي الْمَالِ غَيْرُ الرُّشْدِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: ٩٧]، وَقَالَ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: ٨٧]. وَمَاهِيَّةُ الرُّشْدِ هِيَ انْتِظَامُ الْفِكْرِ وَصُدُورُ الْأَفْعَالِ عَلَى نَحْوِهِ بِانْتِظَامٍ، وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الرُّشْدُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ، فَالْمُرَادُ مِنَ النَّوْعِيَّةِ نَحْوَ الْمُرَادِ مِنَ الْجِنْسِ، وَلِذَلِكَ سَاوَى الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ النَّكِرَةِ، فَمِنَ الْعَجَائِبِ تَوَهُّمُ الْجَصَّاصِ أَنَّ فِي تَنْكِيرِ (رُشْداً) دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ حُسْنِ التَّصَرُّفِ وَاكْتِفَائِهِ بِالْبُلُوغِ، بِدَعْوَى أَنَّ اللَّهَ شَرَطَ رُشْدًا مَا وَهُوَ صَادِقٌ بِالْعَقْلِ إِذِ الْعَقْلُ رُشْدٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الرُّشْدَ كُلَّهُ. وَهَذَا ضَعْفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْعُمُومُ فِي الْمَوَاهِي الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا أَفْرَادَ لَهَا. وَقَدْ أُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ الْيَتَامَى: لِأَنَّهَا قَوِيَ اختصاصها بهم عِنْد مَا صَارُوا رُشَدَاءَ فَصَارَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا لَا يُخَافُ مِنْهُ إِضَاعَةُ مَا لِلْقَرَابَةِ وَلِعُمُومِ الْأُمَّةِ مِنَ الْحَقِّ فِي الْأَمْوَالِ.
243
وَقَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً عُطِفَ عَلَى وَابْتَلُوا الْيَتامى بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً إِلَخْ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى
الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢] وَتَفْضِيحٌ لِحِيلَةٍ كَانُوا يَحْتَالُونَهَا قَبْلَ بُلُوغِ الْيَتَامَى أَشُدَّهُمْ: وَهِيَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْأَوْلِيَاءُ اسْتِهْلَاكَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى قَبْلَ أَنْ يَتَهَيَّئُوا لِمُطَالَبَتِهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ، فَيَأْكُلُوهَا بِالْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ فِي وَقْتِ النُّزُولِ كَانَتْ أَعْيَانًا مِنْ أَنْعَامٍ وَتَمْرٍ وَحَبٍّ وَأَصْوَافٍ فَلَمْ يَكُنْ شَأْنُهَا مِمَّا يُكْتَمُ وَيُخْتَزَنُ، وَلَا مِمَّا يَعْسُرُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ كَالْعَقَارِ، فَكَانَ أَكْلُهَا هُوَ اسْتِهْلَاكُهَا فِي مَنَافِعِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَهْلِيهِمْ، فَإِذَا وَجَدَ الْوَلِيُّ مَالَ مَحْجُورِهِ جَشَعَ إِلَى أَكْلِهِ بِالتَّوَسُّعِ فِي نَفَقَاتِهِ وَلِبَاسِهِ وَمَرَاكِبِهِ وَإِكْرَامِ سُمَرَائِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يُنْفِقُ فِيهِ مَالَ نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِسْرَافِ، فَإِنَّ الْإِسْرَافَ الْإِفْرَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ والتوسّع فِي شؤون اللَّذَّاتِ.
وَانْتَصَبَ (إِسْرافاً) عَلَى الْحَالِ: أَوْ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَأَيًّا مَا كَانَ، فَلَيْسَ الْقَصْدُ تَقْيِيدَ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ بِذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ تَشْوِيهُ حَالَةِ الْأَكْلِ.
وَالْبِدَارُ مَصْدَرُ بَادَرَهُ، وَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبَدْرِ، وَهُوَ الْعَجَلَةُ إِلَى الشَّيْءِ، بَدَرَهُ عَجِلَهُ، وَبَادَرَهُ عَاجَلَهُ، وَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا قُصِدَ مِنْهَا تَمْثِيلُ هَيْئَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي إِسْرَافِهِمْ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ مَحَاجِيرِهِمْ عِنْدَ مُشَارَفَتِهِمُ الْبُلُوغَ، وَتَوَقُّعِ الْأَوْلِيَاءِ سُرْعَةَ إِبَّانِهِ، بِحَالِ مَنْ يَبْدُرُ غَيْرَهُ إِلَى غَايَةٍ وَالْآخَرُ يَبْدُرُ إِلَيْهَا فَهُمَا يَتَبَادَرَانِهَا، كَأَنَّ الْمَحْجُورَ يُسْرِعُ إِلَى الْبُلُوغِ لِيَأْخُذَ مَالَهُ، وَالْوَصِيَّ يُسْرِعُ إِلَى أَكْلِهِ لِكَيْلَا يَجِدُ الْيَتِيمُ مَا يَأْخُذُ مِنْهُ، فَيَذْهَبُ يَدَّعِي عَلَيْهِ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَاتِ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْ إِثْبَاتِ حُقُوقِهِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْبَرُوا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِمَصْدَرِ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَكْبَرُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مُضَارِعُ كَبِرَ كَعَلِمَ إِذَا زَادَ فِي السِّنِّ، وَأَمَّا كَبُرَ- بِضَم الْمُوَحدَة- فَهُوَ إِذَا عَظُمَ فِي الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَبُرَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ- بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ- شَقَّ.
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
عُطِفَ عَلَى وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً إِلَخْ الْمُقَرَّرِ بِهِ قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢]
الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢] وَتَفْضِيحٌ لِحِيلَةٍ كَانُوا يَحْتَالُونَهَا قَبْلَ بُلُوغِ الْيَتَامَى أَشُدَّهُمْ: وَهِيَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْأَوْلِيَاءُ اسْتِهْلَاكَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى قَبْلَ أَنْ يَتَهَيَّئُوا لِمُطَالَبَتِهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ، فَيَأْكُلُوهَا بِالْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ فِي وَقْتِ النُّزُولِ كَانَتْ أَعْيَانًا مِنْ أَنْعَامٍ وَتَمْرٍ وَحَبٍّ وَأَصْوَافٍ فَلَمْ يَكُنْ شَأْنُهَا مِمَّا يُكْتَمُ وَيُخْتَزَنُ، وَلَا مِمَّا يَعْسُرُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ كَالْعَقَارِ، فَكَانَ أَكْلُهَا هُوَ اسْتِهْلَاكُهَا فِي مَنَافِعِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَهْلِيهِمْ، فَإِذَا وَجَدَ الْوَلِيُّ مَالَ مَحْجُورِهِ جَشَعَ إِلَى أَكْلِهِ بِالتَّوَسُّعِ فِي نَفَقَاتِهِ وَلِبَاسِهِ وَمَرَاكِبِهِ وَإِكْرَامِ سُمَرَائِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يُنْفِقُ فِيهِ مَالَ نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِسْرَافِ، فَإِنَّ الْإِسْرَافَ الْإِفْرَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ والتوسّع فِي شؤون اللَّذَّاتِ.
وَانْتَصَبَ (إِسْرافاً) عَلَى الْحَالِ: أَوْ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَأَيًّا مَا كَانَ، فَلَيْسَ الْقَصْدُ تَقْيِيدَ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ بِذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ تَشْوِيهُ حَالَةِ الْأَكْلِ.
وَالْبِدَارُ مَصْدَرُ بَادَرَهُ، وَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبَدْرِ، وَهُوَ الْعَجَلَةُ إِلَى الشَّيْءِ، بَدَرَهُ عَجِلَهُ، وَبَادَرَهُ عَاجَلَهُ، وَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا قُصِدَ مِنْهَا تَمْثِيلُ هَيْئَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي إِسْرَافِهِمْ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ مَحَاجِيرِهِمْ عِنْدَ مُشَارَفَتِهِمُ الْبُلُوغَ، وَتَوَقُّعِ الْأَوْلِيَاءِ سُرْعَةَ إِبَّانِهِ، بِحَالِ مَنْ يَبْدُرُ غَيْرَهُ إِلَى غَايَةٍ وَالْآخَرُ يَبْدُرُ إِلَيْهَا فَهُمَا يَتَبَادَرَانِهَا، كَأَنَّ الْمَحْجُورَ يُسْرِعُ إِلَى الْبُلُوغِ لِيَأْخُذَ مَالَهُ، وَالْوَصِيَّ يُسْرِعُ إِلَى أَكْلِهِ لِكَيْلَا يَجِدُ الْيَتِيمُ مَا يَأْخُذُ مِنْهُ، فَيَذْهَبُ يَدَّعِي عَلَيْهِ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَاتِ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْ إِثْبَاتِ حُقُوقِهِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْبَرُوا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِمَصْدَرِ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَكْبَرُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مُضَارِعُ كَبِرَ كَعَلِمَ إِذَا زَادَ فِي السِّنِّ، وَأَمَّا كَبُرَ- بِضَم الْمُوَحدَة- فَهُوَ إِذَا عَظُمَ فِي الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَبُرَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ- بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ- شَقَّ.
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
عُطِفَ عَلَى وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً إِلَخْ الْمُقَرَّرِ بِهِ قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢]
244
لِيَتَقَرَّرَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ. وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِلتَّرْخِيصِ فِي ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الْأَكْلِ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الْوَصِيُّ الْفَقِيرُ مِنْ مَالِ مَحْجُورِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِنْفَاقِ بَعْضِ مَالِ الْيَتِيمِ فِي مَصْلَحَتِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْطِ وَصِيَّهُ الْفَقِيرَ بِالْمَعْرُوفِ أَلْهَاهُ التَّدْبِيرُ لِقُوتِهِ عَنْ تَدْبِيرِ مَالِ مَحْجُورِهِ.
وَفِي لَفْظِ الْمَعْرُوفِ (حَوَالَةٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُ حَالَ الْوَصِيِّ وَيَتِيمِهِ بِحَسَبِ الْأَزْمَانِ
وَالْأَمَاكِنِ وَقَدْ أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ
حَدِيث أبي دَاوُود: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي فَقِيرٌ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ» قَالَ: «كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِف وَلَا مبادر وَلَا مُتَأَثِّلٍ»
. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَائِشَةَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَأْخُذُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْقَرْضِ لَا غَيْرَ. قَالَ عُمَرُ: «إِنِّي نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ مَنْزِلَةَ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنِ احْتَجْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ» وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: لَا قَضَاءَ عَلَى الْوَصِيِّ إِنْ أَيْسَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَشْرَبَ اللَّبَنَ وَيَأْكُلَ مِنَ الثَّمَرِ وَيَهْنَأَ الْجَرْبَى مِنْ إِبِلِهِ وَيَلُوطَ الْحَوْضَ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ اللَّهَ نَاطَ الْحُكْمَ بِالْفَقْرِ لَا بِالِاضْطِرَارِ، وَنَاطَهُ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَالِاضْطِرَارُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّسْلِيطِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ بَلْ عَلَى كُلِّ مَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يَأْخُذُ إِلَّا إِذَا سَافَرَ مِنْ أَجْلِ الْيَتِيمِ يَأْخُذُ قُوتَهُ فِي السَّفَرِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَصِيِّ الْحَاكِمِ هَلْ هُوَ مِثْلُ وَصِيِّ الْأَبِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْوَصِيِّ الْغَنِيِّ هَلْ يَأْخُذُ أَجْرَ مِثْلِهِ عَلَى عَمَلِهِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَعْفِفْ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ، فَمَنْ قَالَ لِلْوُجُوبِ قَالَ: لَا يَأْكُلُ الْغَنِيُّ شَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ مَنَعَهُ الِانْتِفَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ السَّلَفِ وَالشَّيْءِ الْقَلِيلِ، وَهُمْ جُمْهُور تقدّمت أَسْمَاءَهُم. وَقِيلَ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَجْرَ مِثْلِهِ جَازَ لَهُ إِذَا كَانَ لَهُ عَمَلٌ وَخِدْمَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَمَلُهُ مُجَرَّدَ التَّفَقُّدِ لِلْيَتِيمِ وَالْإِشْرَافِ عَلَيْهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ.
وَفِي لَفْظِ الْمَعْرُوفِ (حَوَالَةٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُ حَالَ الْوَصِيِّ وَيَتِيمِهِ بِحَسَبِ الْأَزْمَانِ
وَالْأَمَاكِنِ وَقَدْ أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ
حَدِيث أبي دَاوُود: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي فَقِيرٌ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ» قَالَ: «كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِف وَلَا مبادر وَلَا مُتَأَثِّلٍ»
. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَائِشَةَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَأْخُذُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْقَرْضِ لَا غَيْرَ. قَالَ عُمَرُ: «إِنِّي نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ مَنْزِلَةَ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنِ احْتَجْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ» وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: لَا قَضَاءَ عَلَى الْوَصِيِّ إِنْ أَيْسَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَشْرَبَ اللَّبَنَ وَيَأْكُلَ مِنَ الثَّمَرِ وَيَهْنَأَ الْجَرْبَى مِنْ إِبِلِهِ وَيَلُوطَ الْحَوْضَ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ اللَّهَ نَاطَ الْحُكْمَ بِالْفَقْرِ لَا بِالِاضْطِرَارِ، وَنَاطَهُ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَالِاضْطِرَارُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّسْلِيطِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ بَلْ عَلَى كُلِّ مَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يَأْخُذُ إِلَّا إِذَا سَافَرَ مِنْ أَجْلِ الْيَتِيمِ يَأْخُذُ قُوتَهُ فِي السَّفَرِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَصِيِّ الْحَاكِمِ هَلْ هُوَ مِثْلُ وَصِيِّ الْأَبِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْوَصِيِّ الْغَنِيِّ هَلْ يَأْخُذُ أَجْرَ مِثْلِهِ عَلَى عَمَلِهِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَعْفِفْ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ، فَمَنْ قَالَ لِلْوُجُوبِ قَالَ: لَا يَأْكُلُ الْغَنِيُّ شَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ مَنَعَهُ الِانْتِفَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ السَّلَفِ وَالشَّيْءِ الْقَلِيلِ، وَهُمْ جُمْهُور تقدّمت أَسْمَاءَهُم. وَقِيلَ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَجْرَ مِثْلِهِ جَازَ لَهُ إِذَا كَانَ لَهُ عَمَلٌ وَخِدْمَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَمَلُهُ مُجَرَّدَ التَّفَقُّدِ لِلْيَتِيمِ وَالْإِشْرَافِ عَلَيْهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ.
245
وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاء: ١٠] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
[الْبَقَرَة: ١٨٨] وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ سَلَكَ بِالْآيَةِ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ فَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْمُرَادُ فَمَنْ كَانَ غَنِيًّا أَيْ مِنَ الْيَتَامَى، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا كَذَلِكَ، وَهِيَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتَامَى فَالْغَنِيُّ يُعْطَى كِفَايَتَهُ، وَالْفَقِيرُ يُعْطَى بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ فِعْلَ (اسْتَعْفَفَ:
يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِصَادِ وَالتَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ بِمَالِهِ وَلَا يَتَوَسَّعْ بِمَالِ مَحْجُورِهِ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَإِنَّهُ يُقَتِّرُ عَلَى نَفْسِهِ لِئَلَّا يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَالِ يَتِيمِهِ.
وَاسْتَحْسَنَهُ النَّحَّاسُ وَالْكِيَا الطَّبَرِيُّ (١) فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ.
فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً.
تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَهُوَ أَمر بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الدَّفْعِ، لِيَظْهَرَ جَلِيًّا مَا يُسَلِّمُهُ الْأَوْصِيَاءُ لِمَحَاجِيرِهِمْ، حَتَّى يُمْكِنَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ يَوْمًا مَا بِمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِمَّا تَخَلَّفَ عِنْدَ الْأَوْصِيَاءِ، وَفِيهِ بَرَاءَةٌ لِلْأَوْصِيَاءِ أَيْضًا مِنْ دَعَاوِي الْمَحَاجِيرِ مِنْ بَعْدُ. وَحَسْبُكَ بِهَذَا التشريع قعطا لِلْخُصُومَاتِ.
وَالْأَمْرُ هُنَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ، وَبِكُلٍّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُسَمَّ أَصْحَابُهَا: فَإِنْ لُوحِظَ مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِحَقِّ الْوَصِيِّ كَانَ الْإِشْهَادُ مَنْدُوبًا
_________
(١) هُوَ عَليّ بن عَليّ الطّبري- نِسْبَة إِلَى طبرستان كورة قرب الرّيّ- الملقب الكيا الطَّبَرِيّ وَيُقَال الكيا الهرّاسي- والكيا بِهَمْزَة مَكْسُورَة فِي أَوله فكاف مَكْسُورَة، مَعْنَاهُ الْكَبِير بلغَة الْفرس. والهراسي بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الرَّاء نِسْبَة إِلَى الهريسة إمّا إِلَى بيعهَا أَو صنعها. الشَّافِعِي ولد سنة ٤٥٠ وتوفّي فِي بَغْدَاد سنة ٥٠٤.
[الْبَقَرَة: ١٨٨] وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ سَلَكَ بِالْآيَةِ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ فَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْمُرَادُ فَمَنْ كَانَ غَنِيًّا أَيْ مِنَ الْيَتَامَى، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا كَذَلِكَ، وَهِيَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتَامَى فَالْغَنِيُّ يُعْطَى كِفَايَتَهُ، وَالْفَقِيرُ يُعْطَى بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ فِعْلَ (اسْتَعْفَفَ:
يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِصَادِ وَالتَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ بِمَالِهِ وَلَا يَتَوَسَّعْ بِمَالِ مَحْجُورِهِ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَإِنَّهُ يُقَتِّرُ عَلَى نَفْسِهِ لِئَلَّا يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَالِ يَتِيمِهِ.
وَاسْتَحْسَنَهُ النَّحَّاسُ وَالْكِيَا الطَّبَرِيُّ (١) فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ.
فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً.
تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَهُوَ أَمر بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الدَّفْعِ، لِيَظْهَرَ جَلِيًّا مَا يُسَلِّمُهُ الْأَوْصِيَاءُ لِمَحَاجِيرِهِمْ، حَتَّى يُمْكِنَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ يَوْمًا مَا بِمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِمَّا تَخَلَّفَ عِنْدَ الْأَوْصِيَاءِ، وَفِيهِ بَرَاءَةٌ لِلْأَوْصِيَاءِ أَيْضًا مِنْ دَعَاوِي الْمَحَاجِيرِ مِنْ بَعْدُ. وَحَسْبُكَ بِهَذَا التشريع قعطا لِلْخُصُومَاتِ.
وَالْأَمْرُ هُنَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ، وَبِكُلٍّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُسَمَّ أَصْحَابُهَا: فَإِنْ لُوحِظَ مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِحَقِّ الْوَصِيِّ كَانَ الْإِشْهَادُ مَنْدُوبًا
_________
(١) هُوَ عَليّ بن عَليّ الطّبري- نِسْبَة إِلَى طبرستان كورة قرب الرّيّ- الملقب الكيا الطَّبَرِيّ وَيُقَال الكيا الهرّاسي- والكيا بِهَمْزَة مَكْسُورَة فِي أَوله فكاف مَكْسُورَة، مَعْنَاهُ الْكَبِير بلغَة الْفرس. والهراسي بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الرَّاء نِسْبَة إِلَى الهريسة إمّا إِلَى بيعهَا أَو صنعها. الشَّافِعِي ولد سنة ٤٥٠ وتوفّي فِي بَغْدَاد سنة ٥٠٤.
246
لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَإِنْ لُوحِظَ مَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ رفع التهارج وَقع الْخُصُومَاتِ، كَانَ الْإِشْهَادُ وَاجِبًا نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٨٢] وَلِلشَّرِيعَةِ اهْتِمَامٌ بِتَوْثِيقِ الْحُقُوقِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَمُ لنظام الْمُعَامَلَات. وأياما كَانَ فقد جعل الله الْوَصِيُّ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الدَّفْعِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: لَوْلَا أَنَّهُ يَضْمَنُ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمَحْجُورُ لَمْ يكن لِلْأَمْرِ بالتوثّق فَائِدَةٌ، وَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ قَوْلِ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّ الْفَخْرَ احْتَجَّ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ احْتِجَاجٌ وَاهٍ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِكَوْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ فِي تَرَتُّبِ حُكْمِ الضَّمَانِ، إِذِ الضَّمَانُ مِنْ آثَارِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَسَبَبُهُ هُوَ انْتِفَاءُ الْإِشْهَادِ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ فَمِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَأَثَرُهُمَا الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُصَدَّقٌ بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ عَدَّهُ أَمِينًا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رَأَى الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَحْمَلَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ. وَجَاءَ بِقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً تَذْيِيلًا لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا وَصِيَّاتٌ وَتَحْرِيضَاتٌ فَوَكَلَ
الْأَمْرَ فِيهَا إِلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْحَسِيبُ: الْمُحَاسِبُ. وَالْبَاءُ زَائِدَة للتوكيد.
[٧]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ جَارٍ مَجْرَى النَّتِيجَةِ لِحُكْمِ إِيتَاءِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَمَجْرَى الْمُقَدِّمَةِ لِأَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: ١١].
وَمُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ الْآيِ السَّابِقَةِ بِهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوا إِيثَارَ الْأَقْوِيَاءِ وَالْأَشِدَّاءِ بِالْأَمْوَالِ، وَحِرْمَانَ الضُّعَفَاءِ، وَإِبْقَاءَهُمْ عَالَةً عَلَى أَشِدَّائِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا فِي مَقَادَتِهِمْ، فَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ يَمْنَعُونَ عَنْ مَحَاجِيرِهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ أَكْبَرُ الْعَائِلَةِ يَحْرِمُ إِخْوَتَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَعَهُ فَكَانَ أُولَئِكَ لِضَعْفِهِمْ يَصْبِرُونَ عَلَى الْحِرْمَانِ، وَيَقْنَعُونَ بِالْعَيْشِ فِي ظِلَالِ أَقَارِبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ نَازَعُوهُمْ أَطْرَدُوهُمْ وَحَرَمُوهُمْ، فَصَارُوا عَالَةً عَلَى النَّاسِ.
وَأَخَصُّ النَّاسِ بِذَلِكَ النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ يَجِدْنَ ضَعْفًا مِنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَيَخْشَيْنَ عَارَ الضَّيْعَةِ،
الْأَمْرَ فِيهَا إِلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْحَسِيبُ: الْمُحَاسِبُ. وَالْبَاءُ زَائِدَة للتوكيد.
[٧]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ جَارٍ مَجْرَى النَّتِيجَةِ لِحُكْمِ إِيتَاءِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَمَجْرَى الْمُقَدِّمَةِ لِأَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: ١١].
وَمُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ الْآيِ السَّابِقَةِ بِهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوا إِيثَارَ الْأَقْوِيَاءِ وَالْأَشِدَّاءِ بِالْأَمْوَالِ، وَحِرْمَانَ الضُّعَفَاءِ، وَإِبْقَاءَهُمْ عَالَةً عَلَى أَشِدَّائِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا فِي مَقَادَتِهِمْ، فَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ يَمْنَعُونَ عَنْ مَحَاجِيرِهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ أَكْبَرُ الْعَائِلَةِ يَحْرِمُ إِخْوَتَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَعَهُ فَكَانَ أُولَئِكَ لِضَعْفِهِمْ يَصْبِرُونَ عَلَى الْحِرْمَانِ، وَيَقْنَعُونَ بِالْعَيْشِ فِي ظِلَالِ أَقَارِبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ نَازَعُوهُمْ أَطْرَدُوهُمْ وَحَرَمُوهُمْ، فَصَارُوا عَالَةً عَلَى النَّاسِ.
وَأَخَصُّ النَّاسِ بِذَلِكَ النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ يَجِدْنَ ضَعْفًا مِنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَيَخْشَيْنَ عَارَ الضَّيْعَةِ،
247
وَيَتَّقِينَ انْحِرَافَ الْأزْوَاج، فيتّخذن رضى أَوْلِيَائِهِنَّ عُدَّةً لَهُنَّ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، أَمَرَ عَقِبَهُ بِأَمْرِهِمْ بِأَنْ يَجْعَلُوا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نَصِيبًا مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
فَإِيتَاءُ مَالِ الْيَتِيمِ تَحْقِيقٌ لِإِيصَالِ نَصِيبِهِ مِمَّا تَرَكَ لَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَتَوْرِيثُ الْقَرَابَةِ إِثْبَاتٌ لِنَصِيبِهِمْ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَذُكِرَ النِّسَاءُ هُنَاكَ تَمْهِيدًا لِشَرْعِ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى [النِّسَاء: ٨] فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ الْمِيرَاثَ، وَلَا يُنَاسِبُ إِيتَاءَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى.
وَلَا جَرَمَ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ شرائع الْإِسْلَام شرع الْمِيرَاث، فقد كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِعُظَمَاءِ الْقَبَائِلِ وَمَنْ تَلْحَقُهُمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ حُسْنُ الْأُحْدُوثَةِ، وَتَجْمَعُهُمْ بِهِمْ صِلَاتُ الْحِلْفِ أَوِ الِاعْتِزَازِ وَالْوِدِّ، وَكَانُوا إِذَا لَمْ يُوصُوا أَوْ تَرَكُوا بَعْضَ مَالِهِمْ بِلَا وَصِيَّةٍ يُصْرَفُ لِأَبْنَاءِ الْمَيِّتِ الذُّكُورِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُكُورٌ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّهُمْ يصرفونه إِلَى عصبته مِنْ أُخْوَةٍ وَأَبْنَاءِ عَمٍّ، وَلَا تُعْطَى بَنَاتُهُ شَيْئًا، أَمَّا الزَّوْجَاتُ فَكُنَّ مَوْرُوثَاتٍ لَا وَارِثَاتٍ.
وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ بِالْبُنُوَّةِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَبْنَاءُ ذُكُورًا، فَلَا مِيرَاثَ لِلنِّسَاءِ
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا يَرِثُ أَمْوَالَنَا مَنْ طَاعَنَ بِالرُّمْحِ، وَضَرَبَ بِالسَّيْفِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَبْنَاءُ الذُّكُورُ وَرِثَ أَقْرَبُ الْعُصْبَةِ: الْأَبُ ثُمَّ الْأَخُ ثُمَّ الْعَمُّ وَهَكَذَا، وَكَانُوا يُوَرِّثُونَ بِالتَّبَنِّي وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ ابْنَ غَيْرِهِ ابْنًا لَهُ فَتَنْعَقِدُ بَيْنَ الْمُتَبَنِّي جَمِيعُ أَحْكَامِ الْأُبُوَّةِ.
وَيُوَرِّثُونَ أَيْضًا بِالْحِلْفِ وَهُوَ أَنْ يَرْغَبَ رَجُلَانِ فِي الْخُلَّةِ بَيْنَهُمَا فَيَتَعَاقَدَا عَلَى أَنَّ دَمَهُمَا وَاحِدٌ وَيَتَوَارَثَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ لَمْ يَقَعْ فِي مَكَّةَ تَغْيِيرٌ لِأَحْكَامِ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِتَعَذُّرِ تَنْفِيذِ مَا يُخَالِفُ أَحْكَامَ سُكَّانِهَا، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ مُعْظَمُ أَقَارِبِ الْمُهَاجِرِينَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ صَارَ التَّوْرِيثُ: بِالْهِجْرَةِ، فَالْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْمُهَاجِرَ، وَبِالْحِلْفِ، وَبِالْمُعَاقَدَةِ، وَبِالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَاهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ
فَإِيتَاءُ مَالِ الْيَتِيمِ تَحْقِيقٌ لِإِيصَالِ نَصِيبِهِ مِمَّا تَرَكَ لَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَتَوْرِيثُ الْقَرَابَةِ إِثْبَاتٌ لِنَصِيبِهِمْ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَذُكِرَ النِّسَاءُ هُنَاكَ تَمْهِيدًا لِشَرْعِ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى [النِّسَاء: ٨] فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ الْمِيرَاثَ، وَلَا يُنَاسِبُ إِيتَاءَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى.
وَلَا جَرَمَ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ شرائع الْإِسْلَام شرع الْمِيرَاث، فقد كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِعُظَمَاءِ الْقَبَائِلِ وَمَنْ تَلْحَقُهُمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ حُسْنُ الْأُحْدُوثَةِ، وَتَجْمَعُهُمْ بِهِمْ صِلَاتُ الْحِلْفِ أَوِ الِاعْتِزَازِ وَالْوِدِّ، وَكَانُوا إِذَا لَمْ يُوصُوا أَوْ تَرَكُوا بَعْضَ مَالِهِمْ بِلَا وَصِيَّةٍ يُصْرَفُ لِأَبْنَاءِ الْمَيِّتِ الذُّكُورِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُكُورٌ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّهُمْ يصرفونه إِلَى عصبته مِنْ أُخْوَةٍ وَأَبْنَاءِ عَمٍّ، وَلَا تُعْطَى بَنَاتُهُ شَيْئًا، أَمَّا الزَّوْجَاتُ فَكُنَّ مَوْرُوثَاتٍ لَا وَارِثَاتٍ.
وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ بِالْبُنُوَّةِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَبْنَاءُ ذُكُورًا، فَلَا مِيرَاثَ لِلنِّسَاءِ
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا يَرِثُ أَمْوَالَنَا مَنْ طَاعَنَ بِالرُّمْحِ، وَضَرَبَ بِالسَّيْفِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَبْنَاءُ الذُّكُورُ وَرِثَ أَقْرَبُ الْعُصْبَةِ: الْأَبُ ثُمَّ الْأَخُ ثُمَّ الْعَمُّ وَهَكَذَا، وَكَانُوا يُوَرِّثُونَ بِالتَّبَنِّي وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ ابْنَ غَيْرِهِ ابْنًا لَهُ فَتَنْعَقِدُ بَيْنَ الْمُتَبَنِّي جَمِيعُ أَحْكَامِ الْأُبُوَّةِ.
وَيُوَرِّثُونَ أَيْضًا بِالْحِلْفِ وَهُوَ أَنْ يَرْغَبَ رَجُلَانِ فِي الْخُلَّةِ بَيْنَهُمَا فَيَتَعَاقَدَا عَلَى أَنَّ دَمَهُمَا وَاحِدٌ وَيَتَوَارَثَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ لَمْ يَقَعْ فِي مَكَّةَ تَغْيِيرٌ لِأَحْكَامِ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِتَعَذُّرِ تَنْفِيذِ مَا يُخَالِفُ أَحْكَامَ سُكَّانِهَا، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ مُعْظَمُ أَقَارِبِ الْمُهَاجِرِينَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ صَارَ التَّوْرِيثُ: بِالْهِجْرَةِ، فَالْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْمُهَاجِرَ، وَبِالْحِلْفِ، وَبِالْمُعَاقَدَةِ، وَبِالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَاهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ
248
جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: ٣٣] الْآيَةَ مِنْ هَاتِهِ السُّورَةِ. وَشَرَعَ اللَّهُ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ تَوَالَدَ الْمُسْلِمُونَ وَلَحِقَ بِهِمْ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ مُؤْمِنِينَ، فَشَرَعَ اللَّهُ الْمِيرَاثَ بِالْقَرَابَةِ، وَجَعَلَ لِلنِّسَاءِ حُظُوظًا فِي ذَلِكَ فَأَتَمَّ الْكَلِمَةَ، وَأَسْبَغَ النِّعْمَةَ، وَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ حِكْمَةَ الْمِيرَاثِ صَرْفُ الْمَالِ إِلَى الْقَرَابَةِ بِالْوِلَادَةِ وَمَا دُونَهَا.
وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أَوَّلَ إِعْطَاءٍ لِحَقِّ الْإِرْثِ لِلنِّسَاءِ فِي الْعَرَبِ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْمُقَدِّمَةِ جَاءَتْ بِإِجْمَالِ الْحَقِّ وَالنَّصِيبِ فِي الْمِيرَاثِ وَتَلَاهُ تَفْصِيلُهُ، لِقَصْدِ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الْإِجْمَالِ حِكْمَةُ وُرُودِ الْأَحْكَامِ الْمُرَادِ نَسْخُهَا إِلَى أَثْقَلَ لِتَسْكُنَ النُّفُوسُ إِلَيْهَا بِالتَّدْرِيجِ.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ، فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُحَّةٍ (١) فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «إِنَّ زَوْجِي قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهَاتَانِ بِنْتَاهُ وَقَدِ اسْتَوْفَى عَمُّهُمَا مَالَهُمَا فَمَا تَرَى يَا رَسُول الله؟ فو اللَّهِ مَا تُنْكَحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ». فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ
وَفِيهَا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: ١١].
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «ادْعُ لِي الْمَرْأَةَ وصاحبها» فَقَالَ لعمتهما «أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَلَكَ»
. وَيُرْوَى: أَنَّ ابْنَيْ عَمِّهِ
سُوَيْدٌ وَعُرْفُطَةُ، وَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَتَادَةُ وَعُرْفُجَةُ،
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا الْعَمَّ أَوِ ابْنَيِ الْعَمِّ قَالَ، أَوْ قَالَا لَهُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نُعْطِي مَنْ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا وَلَا يَنْكَى عَدُوًّا» فَقَالَ «انْصَرِفْ أَوِ انْصَرِفَا، حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِيهِنَّ» فَنَزَلَتْ
آيَةُ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الْآيَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ أَرْسَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَلِيِّ الْبِنْتَيْنِ فَقَالَ: «لَا تُفَرِّقُ مِنْ مَالِ أَبِيهِمَا شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهُنَّ نَصِيبًا»
_________
(١) الكحّة بضمّ الْكَاف وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة لُغَة فِي القحة وَهِي الْخَالِصَة.
وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أَوَّلَ إِعْطَاءٍ لِحَقِّ الْإِرْثِ لِلنِّسَاءِ فِي الْعَرَبِ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْمُقَدِّمَةِ جَاءَتْ بِإِجْمَالِ الْحَقِّ وَالنَّصِيبِ فِي الْمِيرَاثِ وَتَلَاهُ تَفْصِيلُهُ، لِقَصْدِ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الْإِجْمَالِ حِكْمَةُ وُرُودِ الْأَحْكَامِ الْمُرَادِ نَسْخُهَا إِلَى أَثْقَلَ لِتَسْكُنَ النُّفُوسُ إِلَيْهَا بِالتَّدْرِيجِ.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ، فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُحَّةٍ (١) فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «إِنَّ زَوْجِي قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهَاتَانِ بِنْتَاهُ وَقَدِ اسْتَوْفَى عَمُّهُمَا مَالَهُمَا فَمَا تَرَى يَا رَسُول الله؟ فو اللَّهِ مَا تُنْكَحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ». فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ
وَفِيهَا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: ١١].
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «ادْعُ لِي الْمَرْأَةَ وصاحبها» فَقَالَ لعمتهما «أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَلَكَ»
. وَيُرْوَى: أَنَّ ابْنَيْ عَمِّهِ
سُوَيْدٌ وَعُرْفُطَةُ، وَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَتَادَةُ وَعُرْفُجَةُ،
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا الْعَمَّ أَوِ ابْنَيِ الْعَمِّ قَالَ، أَوْ قَالَا لَهُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نُعْطِي مَنْ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا وَلَا يَنْكَى عَدُوًّا» فَقَالَ «انْصَرِفْ أَوِ انْصَرِفَا، حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِيهِنَّ» فَنَزَلَتْ
آيَةُ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الْآيَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ أَرْسَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَلِيِّ الْبِنْتَيْنِ فَقَالَ: «لَا تُفَرِّقُ مِنْ مَالِ أَبِيهِمَا شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهُنَّ نَصِيبًا»
_________
(١) الكحّة بضمّ الْكَاف وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة لُغَة فِي القحة وَهِي الْخَالِصَة.
249
وَالنَّصِيبُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٣].
وَقَوْلُهُ: بَيَان ل مِمَّا تَرَكَ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ مَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَتَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ، حَتَّى لَا يَسْتَأْثِرَ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْطِي أَبْنَاءَهُ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ مَيْلِهِ كَمَا أَوْصَى نزار بن معّد بْنُ عَدْنَانَ لِأَبْنَائِهِ:
مُضَرَ، وَرَبِيعَةَ، وَإِيَادٍ، وَأَنْمَارٍ، فَجَعَلَ لِمُضَرَ الْحَمْرَاءَ كُلَّهَا، وَجَعَلَ لِرَبِيعَةَ الْفَرَسَ، وَجَعَلَ لِإِيَادٍ الْخَادِمَ، وَجَعَلَ لِأَنْمَارٍ الْحِمَارَ، وَوَكَلَهُمْ فِي إِلْحَاقِ بَقِيَّةِ مَالِهِ بِهَاتِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمَيِّ فِي نَجْرَانَ، فَانْصَرَفُوا إِلَيْهِ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الْمَثَلَ: إِنَّ الْعَصَا مِنَ الْعُصَيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: نَصِيباً مَفْرُوضاً حَالٌ مِنْ (نَصِيبٌ) فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ وَحَيْثُ أُرِيدَ بِنَصِيبٍ الْجِنْسُ جَاءَ الْحَالُ مِنْهُ مُفْرَدًا وَلَمْ يُرَاعَ تَعَدُّدُهُ، فَلَمْ يَقُلْ:
نَصِيبَيْنِ مَفْرُوضَيْنِ، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ نَصِيبَيْنِ، وَلَا قيل: أنصباء مَفْرُوضَةٌ، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ مُوَزَّعًا لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ، بَلْ روعي الْجِنْسُ فَجِيءَ بِالْحَالِ مُفْرَدًا ومَفْرُوضاً وَصْفٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَفْرُوضًا أَنَّهُ مُعَيَّنُ الْمِقْدَارِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١١]. وَهَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تشريع الْمَوَارِيث.
[٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] إِلَى آخِرِهَا. وَهَذَا أَمْرٌ بِعَطِيَّةٍ تُعْطَى مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ: أَمَرَ الْوَرَثَةَ أَنْ يُسْهِمُوا لِمَنْ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِمْ غَيْرِ الَّذِينَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْإِرْثِ، مِمَّنْ شَأْنُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا مَجَالِسَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ.
وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] وَقَوْلُهُ: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] يَقْتَضِيَانِ مَقْسُومًا، فَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْقِسْمَةَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ.
وَقَوْلُهُ: بَيَان ل مِمَّا تَرَكَ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ مَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَتَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ، حَتَّى لَا يَسْتَأْثِرَ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْطِي أَبْنَاءَهُ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ مَيْلِهِ كَمَا أَوْصَى نزار بن معّد بْنُ عَدْنَانَ لِأَبْنَائِهِ:
مُضَرَ، وَرَبِيعَةَ، وَإِيَادٍ، وَأَنْمَارٍ، فَجَعَلَ لِمُضَرَ الْحَمْرَاءَ كُلَّهَا، وَجَعَلَ لِرَبِيعَةَ الْفَرَسَ، وَجَعَلَ لِإِيَادٍ الْخَادِمَ، وَجَعَلَ لِأَنْمَارٍ الْحِمَارَ، وَوَكَلَهُمْ فِي إِلْحَاقِ بَقِيَّةِ مَالِهِ بِهَاتِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمَيِّ فِي نَجْرَانَ، فَانْصَرَفُوا إِلَيْهِ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الْمَثَلَ: إِنَّ الْعَصَا مِنَ الْعُصَيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: نَصِيباً مَفْرُوضاً حَالٌ مِنْ (نَصِيبٌ) فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ وَحَيْثُ أُرِيدَ بِنَصِيبٍ الْجِنْسُ جَاءَ الْحَالُ مِنْهُ مُفْرَدًا وَلَمْ يُرَاعَ تَعَدُّدُهُ، فَلَمْ يَقُلْ:
نَصِيبَيْنِ مَفْرُوضَيْنِ، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ نَصِيبَيْنِ، وَلَا قيل: أنصباء مَفْرُوضَةٌ، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ مُوَزَّعًا لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ، بَلْ روعي الْجِنْسُ فَجِيءَ بِالْحَالِ مُفْرَدًا ومَفْرُوضاً وَصْفٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَفْرُوضًا أَنَّهُ مُعَيَّنُ الْمِقْدَارِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١١]. وَهَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تشريع الْمَوَارِيث.
[٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] إِلَى آخِرِهَا. وَهَذَا أَمْرٌ بِعَطِيَّةٍ تُعْطَى مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ: أَمَرَ الْوَرَثَةَ أَنْ يُسْهِمُوا لِمَنْ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِمْ غَيْرِ الَّذِينَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْإِرْثِ، مِمَّنْ شَأْنُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا مَجَالِسَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ.
وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] وَقَوْلُهُ: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] يَقْتَضِيَانِ مَقْسُومًا، فَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْقِسْمَةَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ.
250
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ مَحْمُولٌ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى النَّدْبِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، إِذْ لَيْسَ فِي الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ غَيْرُ الزَّكَاةِ،
لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ لَمَّا قَالَ لَهُ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ «لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَجَعَلُوا الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ الْوَرَثَةَ الْمَالِكِينَ أَمْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَالْآيَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى حَمْلِ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى الْوَرَثَةِ الْمَالِكِينَ أَمَرَ أَنْفُسِهِمُ فَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ:
فَارْزُقُوهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي صَالِحٍ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَمَآلُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْأَمْرَ مُوَجَّهٌ إِلَى صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْوَصِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً قَبْلَ شَرْعِ الْمِيرَاثِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي وَصِيَّتِهِ شَيْئًا لِمَنْ يَحْضُرُ وَصِيَّتَهُ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ غَيْرِ الَّذِينَ أَوْصَى لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ نَسْخٌ تَبَعًا لِنَسْخِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: الْقِسْمَةَ بِمَعْنَى تَعْيِينِ مَا لِكُلِّ مُوصًى لَهُ مِنْ مِقْدَارٍ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْآيَةَ فِي نَفْسِ الْمِيرَاثِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ قَوْلُهُ:
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قَالَ: فَقَوْلُهُ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ هُوَ الْمِيرَاثُ نَفْسُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أَيْ قُولُوا لِغَيْرِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ الْمَوَارِيثَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَوْقِعَ الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِتَفْصِيلِ الْفَرَائِضِ، وَأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِلْآيَةِ، وَكَفَاكَ بِاضْطِرَابِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهَا تَوْهِينًا لِتَأْوِيلَاتِهِمْ.
لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ لَمَّا قَالَ لَهُ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ «لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَجَعَلُوا الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ الْوَرَثَةَ الْمَالِكِينَ أَمْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَالْآيَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى حَمْلِ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى الْوَرَثَةِ الْمَالِكِينَ أَمَرَ أَنْفُسِهِمُ فَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ:
فَارْزُقُوهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي صَالِحٍ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَمَآلُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْأَمْرَ مُوَجَّهٌ إِلَى صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْوَصِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً قَبْلَ شَرْعِ الْمِيرَاثِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي وَصِيَّتِهِ شَيْئًا لِمَنْ يَحْضُرُ وَصِيَّتَهُ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ غَيْرِ الَّذِينَ أَوْصَى لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ نَسْخٌ تَبَعًا لِنَسْخِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: الْقِسْمَةَ بِمَعْنَى تَعْيِينِ مَا لِكُلِّ مُوصًى لَهُ مِنْ مِقْدَارٍ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْآيَةَ فِي نَفْسِ الْمِيرَاثِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ قَوْلُهُ:
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قَالَ: فَقَوْلُهُ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ هُوَ الْمِيرَاثُ نَفْسُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أَيْ قُولُوا لِغَيْرِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ الْمَوَارِيثَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَوْقِعَ الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِتَفْصِيلِ الْفَرَائِضِ، وَأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِلْآيَةِ، وَكَفَاكَ بِاضْطِرَابِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهَا تَوْهِينًا لِتَأْوِيلَاتِهِمْ.
251
وَالْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أَيْ قَوْلًا حَسَنًا وَهُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ تَسْلِيَةً لِبَعْضِهِمْ
عَلَى مَا حُرِمُوا مِنْهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة.
[٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
مَوْعِظَةٌ لِكُلِّ مَنْ أُمِرَ أَوْ نُهِيَ أَوْ حُذِّرَ أَوْ رُغِّبَ فِي الْآيِ السَّابِقَةِ، فِي شَأْنِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَأَمْوَالِ الضِّعَافِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَابْتُدِئَتِ الْمَوْعِظَةُ بِالْأَمْرِ بِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ خَشْيَةِ عَذَابِهِ، ثُمَّ أُعْقِبَ بِإِثَارَةِ شَفَقَةِ الْآبَاءِ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ بِأَنْ يُنَزِّلُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمَوْرُوثِينَ، الَّذِينَ اعْتَدَوْا هُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُنَزِّلُوا ذُرِّيَّاتِهِمْ مَنْزِلَةَ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ أَكَلُوا هُمْ حُقُوقَهُمْ، وَهَذِهِ الْمَوْعِظَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِيَاسِ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
وَزَادَ إِثَارَةَ الشَّفَقَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ خَلْقٌ ضِعَافٌ بِقَوْلِهِ: ضِعافاً، ثُمَّ أَعْقَبَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ وَهُوَ حِفْظُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، بِالتَّهْدِيدِ عَلَى أَكْلِهِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بَعْدَ التَّهْدِيدِ بِسُوءِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا. فَيُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بأنّ نصيب أَبْنَاءَهُم مِثْلُ مَا فَعَلُوهُ بِأَبْنَاءِ غَيْرِهِمْ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَفْعُولَ (يَخْشَ) حُذِفَ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُحْتَمَلٍ، فَيَنْظُرُ كُلَّ سَامِعٍ بِحَسَبِ الْأَهَمِّ عِنْدَهُ مِمَّا يَخْشَاهُ أَنْ يُصِيبَ ذُرِّيَّتَهُ.
وَجُمْلَةُ لَوْ تَرَكُوا إِلَى خافُوا عَلَيْهِمْ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَجُمْلَةُ خافُوا عَلَيْهِمْ جَوَابُ (لَوْ).
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّ الصِّلَةَ لَمَّا كَانَتْ وَصْفًا مَفْرُوضًا حَسُنَ التَّعْرِيفُ بِهَا إِذِ الْمَقْصُودُ تَعْرِيفُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي التَّعْرِيفِ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْخَشْيَةِ إِذْ كُلُّ سَامِعٍ يَعْرِفُ مَضْمُونَ هَذِهِ الصِّلَةِ لَوْ فَرْضَ حُصُولِهَا لَهُ، إِذْ هِيَ أَمْرٌ يَتَصَوَّرُهُ كُلُّ النَّاسِ.
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ (لَوْ) هُنَا مِنْ بَيْنِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ أَنَّهَا هِيَ الْأَدَاةُ الصَّالِحَةُ لِفَرْضِ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِمْكَانِهِ، فَيَصْدُقُ مَعَهَا الشَّرْطُ الْمُتَعَذِّرُ الْوُقُوعِ وَالْمُسْتَبْعَدُهُ
عَلَى مَا حُرِمُوا مِنْهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة.
[٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
مَوْعِظَةٌ لِكُلِّ مَنْ أُمِرَ أَوْ نُهِيَ أَوْ حُذِّرَ أَوْ رُغِّبَ فِي الْآيِ السَّابِقَةِ، فِي شَأْنِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَأَمْوَالِ الضِّعَافِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَابْتُدِئَتِ الْمَوْعِظَةُ بِالْأَمْرِ بِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ خَشْيَةِ عَذَابِهِ، ثُمَّ أُعْقِبَ بِإِثَارَةِ شَفَقَةِ الْآبَاءِ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ بِأَنْ يُنَزِّلُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمَوْرُوثِينَ، الَّذِينَ اعْتَدَوْا هُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُنَزِّلُوا ذُرِّيَّاتِهِمْ مَنْزِلَةَ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ أَكَلُوا هُمْ حُقُوقَهُمْ، وَهَذِهِ الْمَوْعِظَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِيَاسِ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
وَزَادَ إِثَارَةَ الشَّفَقَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ خَلْقٌ ضِعَافٌ بِقَوْلِهِ: ضِعافاً، ثُمَّ أَعْقَبَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ وَهُوَ حِفْظُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، بِالتَّهْدِيدِ عَلَى أَكْلِهِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بَعْدَ التَّهْدِيدِ بِسُوءِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا. فَيُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بأنّ نصيب أَبْنَاءَهُم مِثْلُ مَا فَعَلُوهُ بِأَبْنَاءِ غَيْرِهِمْ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَفْعُولَ (يَخْشَ) حُذِفَ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُحْتَمَلٍ، فَيَنْظُرُ كُلَّ سَامِعٍ بِحَسَبِ الْأَهَمِّ عِنْدَهُ مِمَّا يَخْشَاهُ أَنْ يُصِيبَ ذُرِّيَّتَهُ.
وَجُمْلَةُ لَوْ تَرَكُوا إِلَى خافُوا عَلَيْهِمْ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَجُمْلَةُ خافُوا عَلَيْهِمْ جَوَابُ (لَوْ).
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّ الصِّلَةَ لَمَّا كَانَتْ وَصْفًا مَفْرُوضًا حَسُنَ التَّعْرِيفُ بِهَا إِذِ الْمَقْصُودُ تَعْرِيفُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي التَّعْرِيفِ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْخَشْيَةِ إِذْ كُلُّ سَامِعٍ يَعْرِفُ مَضْمُونَ هَذِهِ الصِّلَةِ لَوْ فَرْضَ حُصُولِهَا لَهُ، إِذْ هِيَ أَمْرٌ يَتَصَوَّرُهُ كُلُّ النَّاسِ.
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ (لَوْ) هُنَا مِنْ بَيْنِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ أَنَّهَا هِيَ الْأَدَاةُ الصَّالِحَةُ لِفَرْضِ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِمْكَانِهِ، فَيَصْدُقُ مَعَهَا الشَّرْطُ الْمُتَعَذِّرُ الْوُقُوعِ وَالْمُسْتَبْعَدُهُ
252
وَالْمُمْكِنُهُ: فَالَّذِينَ بَلَغُوا الْيَأْسَ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَلَهُمْ أَوْلَادٌ كِبَارٌ أَوْ لَا أَوْلَادَ لَهُمْ، يَدْخُلُونَ فِي فَرْضِ هَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ صِغَارٌ لَخَافُوا عَلَيْهِمْ، وَالَّذِينَ لَهُمْ أَوْلَادٌ صِغَارٌ أَمْرُهُمْ أَظْهَرُ.
وَفِعْلُ (تَرَكُوا) مَاضٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي مُقَارَبَةِ حُصُولِ الْحَدَثِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاء: ٢٠١] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَيْ وَقَارَبَتِ الرَّاسِيَاتُ الزَّوَالَ إِذِ الْخَوْفُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ مُقَارَبَةِ الْمَوْتِ لَا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَالْمَعْنَى: لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا لَخَافُوا عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ السُّوءِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنَ الْأَوْصِيَاءِ، وَمِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يحرمُونَ النِّسَاء ميراثهن، ويحرمون صِغَارَ إِخْوَتِهِمْ أَوْ أَبْنَاءِ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ مِنْ مِيرَاثِ آبَائِهِمْ، كُلُّ أُولَئِكَ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ، وَالتَّخْوِيفِ بِالْمَوْعِظَةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ هَذَا الْخِطَابُ بِأَصْحَابِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النِّسَاء: ٨] لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ كَالِاسْتِطْرَادِ، وَلِأَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لِمَضْمُونِهَا بِهَذَا التَّخْوِيفِ.
وَفِي الْآيَةِ مَا يَبْعَثُ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى أَنْ يَغْضَبُوا لِلْحَقِّ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَنْ يَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِي أَوْلِيَاءِ السُّوءِ، وَأَنْ يَحْرُسُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيُبَلِّغُوا حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَضَاعُوا ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يَلْحَقَ أَبْنَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنْ يَأْكُلَ قَوِيَّهُمْ ضَعِيفَهُمْ، فَإِنَّ اعْتِيَادَ السُّوءِ يُنْسِي النَّاسَ شَنَاعَتَهُ، وَيُكْسِبُ النُّفُوسَ ضَرَاوَةً عَلَى عَمَلِهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٤].
وَقَوْلُهُ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فُرِّعَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ وَإِنْ كَانَا أَمْرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ: لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَمَّا عُضِّدَ بِالْحُجَّةِ اعْتُبِرَ كَالْحَاصِلِ فَصَحَّ التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَلْيُحْسِنُوا إِلَيْهِم القَوْل.
وَفِعْلُ (تَرَكُوا) مَاضٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي مُقَارَبَةِ حُصُولِ الْحَدَثِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاء: ٢٠١] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِلَى مَلِكٍ كَادَ الْجِبَالُ لِفَقْدِهِ | تَزُولُ زَوَالَ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الصَّخْرِ |
وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنَ الْأَوْصِيَاءِ، وَمِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يحرمُونَ النِّسَاء ميراثهن، ويحرمون صِغَارَ إِخْوَتِهِمْ أَوْ أَبْنَاءِ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ مِنْ مِيرَاثِ آبَائِهِمْ، كُلُّ أُولَئِكَ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ، وَالتَّخْوِيفِ بِالْمَوْعِظَةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ هَذَا الْخِطَابُ بِأَصْحَابِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النِّسَاء: ٨] لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ كَالِاسْتِطْرَادِ، وَلِأَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لِمَضْمُونِهَا بِهَذَا التَّخْوِيفِ.
وَفِي الْآيَةِ مَا يَبْعَثُ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى أَنْ يَغْضَبُوا لِلْحَقِّ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَنْ يَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِي أَوْلِيَاءِ السُّوءِ، وَأَنْ يَحْرُسُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيُبَلِّغُوا حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَضَاعُوا ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يَلْحَقَ أَبْنَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنْ يَأْكُلَ قَوِيَّهُمْ ضَعِيفَهُمْ، فَإِنَّ اعْتِيَادَ السُّوءِ يُنْسِي النَّاسَ شَنَاعَتَهُ، وَيُكْسِبُ النُّفُوسَ ضَرَاوَةً عَلَى عَمَلِهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٤].
وَقَوْلُهُ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فُرِّعَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ وَإِنْ كَانَا أَمْرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ: لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَمَّا عُضِّدَ بِالْحُجَّةِ اعْتُبِرَ كَالْحَاصِلِ فَصَحَّ التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَلْيُحْسِنُوا إِلَيْهِم القَوْل.
253
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تُفِيدُ تَكْرِيرَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتَامَى، جَرَّتْهُ مُنَاسَبَةُ التَّعَرُّضِ لِقِسْمَةِ أَمْوَالِ الْأَمْوَاتِ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَكْثُرُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ يَتَامَى لِكَثْرَةِ تَزَوُّجِ الرِّجَالِ فِي مُدَّةِ أَعْمَارِهِمْ، فَقَلَّمَا يَخْلُو مَيِّتٌ عَنْ وَرَثَةٍ صِغَارٍ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِشِدَّةِ عِنَايَةِ الشَّارِعِ بِهَذَا الْغَرَض، فَلذَلِك عَادَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ.
وَقَوْلُهُ: ظُلْماً حَالٌ مِنْ يَأْكُلُونَ مُقَيِّدَةٌ لِيَخْرُجَ الْأَكْلُ الْمَأْذُونُ فِيهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:
وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: ٦]، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النِّسَاء: ٢٩].
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (نَارًا) مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا مُرَادًا بِهَا نَارُ جَهَنَّمَ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ فَفِعْلُ يَأْكُلُونَ نَاصِبٌ (نَارًا) الْمَذْكُورَ عَلَى تَأْوِيلِ يَأْكُلُونَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَأَطْلَقَ النَّارَ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ أَيْ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ حِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى قَدْ أَكَلُوا مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ.
وَعَلَى هَذَا فَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً عَطْفُ مُرَادِفٍ لِمَعْنَى جُمْلَةِ يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ النَّارِ مُسْتَعَارًا لِلْأَلَمِ بِمَعْنَى أَسْبَابِ الْأَلَمِ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا بِعَذَابٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ مُسْتَعَارًا لِلتَّلَفِ لِأَنَّ شَأْنَ النَّارِ أَنْ تَلْتَهِمَ مَا تُصِيبُهُ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَأْخُذُونَ أَمْوَالًا هِيَ سَبَبٌ فِي مَصَائِبَ تَعْتَرِيهِمْ فِي ذَوَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَالنَّارِ إِذَا تَدْنُو مِنْ أَحَدٍ فَتُؤْلِمُهُ وَتُتْلِفُ مَتَاعَهُ، فَيَكُونُ هَذَا تَهْدِيدًا بِمَصَائِبَ فِي الدُّنْيَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٦] وَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً جَارِيًا عَلَى ظَاهِرِ الْعَطْفِ مِنَ اقْتِضَاءِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى تَهْدِيدٌ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَعِيدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَذِكْرُ فِي بُطُونِهِمْ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ وَتَرْشِيحٍ لِاسْتِعَارَةِ يَأْكُلُونَ لِمَعْنَى يَأْخُذُونَ وَيَسْتَحْوِذُونَ.
وَالسِّينُ فِي سَيَصْلَوْنَ حَرْفُ تَنْفِيسٍ أَيِ اسْتِقْبَالٍ، أَيْ أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فتمحّضه للاستقبال، سوءا كَانَ اسْتِقْبَالًا قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، وَهِيَ مُرَادِفَةُ سَوْفَ، وَقِيلَ: إِنَّ سَوْفَ أَوْسَعُ زَمَانًا. وَتُفِيدَانِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ وَكَذَلِكَ التَّوَعُّدِ.
وَيَصْلَوْنَ مُضَارِعُ صَلِيَ كَرَضِيَ إِذَا قَاسَى حَرَّ النَّارِ بِشِدَّةٍ، كَمَا هُنَا، يُقَالُ: صَلِيَ بِالنَّارِ، وَيَكْثُرُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ فِعْلِ صَلِيَ وَنُصِبَ الِاسْمُ بَعْدَهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
وَهُوَ الْوَارِدُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ بِاطِّرَادٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسَيَصْلَوْنَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- مُضَارِعُ صَلِيَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ- مُضَارِعُ أَصْلَاهُ إِذَا أَحْرَقَهُ وَمَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ.
وَالسَّعِيرُ النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ أَيِ الْمُلْتَهِبَةُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ، بُنِيَ بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ مِنَ الْمُضَاعَفِ، كَمَا بُنِيَ السَّمِيعُ مِنْ أَسْمَعَ، وَالْحَكِيمُ مِنْ أَحْكَمَ.
[١١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ.
تَتَنَزَّلُ آيَةُ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ لِقَوْلِهِ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: ٧] وَهَذَا الْمَقْصِدُ الَّذِي جَعَلَ قَوْلَهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] إِلَخْ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ لَهُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ جُمْلَةُ: يُوصِيكُمُ مَفْصُولَةً لِأَنَّ كِلَا الْمَوْقِعَيْنِ مُقْتَضٍ لِلْفَصْلِ.
وَالسِّينُ فِي سَيَصْلَوْنَ حَرْفُ تَنْفِيسٍ أَيِ اسْتِقْبَالٍ، أَيْ أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فتمحّضه للاستقبال، سوءا كَانَ اسْتِقْبَالًا قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، وَهِيَ مُرَادِفَةُ سَوْفَ، وَقِيلَ: إِنَّ سَوْفَ أَوْسَعُ زَمَانًا. وَتُفِيدَانِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ وَكَذَلِكَ التَّوَعُّدِ.
وَيَصْلَوْنَ مُضَارِعُ صَلِيَ كَرَضِيَ إِذَا قَاسَى حَرَّ النَّارِ بِشِدَّةٍ، كَمَا هُنَا، يُقَالُ: صَلِيَ بِالنَّارِ، وَيَكْثُرُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ فِعْلِ صَلِيَ وَنُصِبَ الِاسْمُ بَعْدَهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
لَا تَصْطَلِي النَّار إلّا يجمرا أَرِجًا | قَدْ كسّرت من يلجوج لَهُ وَقَصَا |
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسَيَصْلَوْنَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- مُضَارِعُ صَلِيَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ- مُضَارِعُ أَصْلَاهُ إِذَا أَحْرَقَهُ وَمَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ.
وَالسَّعِيرُ النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ أَيِ الْمُلْتَهِبَةُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ، بُنِيَ بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ مِنَ الْمُضَاعَفِ، كَمَا بُنِيَ السَّمِيعُ مِنْ أَسْمَعَ، وَالْحَكِيمُ مِنْ أَحْكَمَ.
[١١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ.
تَتَنَزَّلُ آيَةُ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ لِقَوْلِهِ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: ٧] وَهَذَا الْمَقْصِدُ الَّذِي جَعَلَ قَوْلَهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] إِلَخْ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ لَهُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ جُمْلَةُ: يُوصِيكُمُ مَفْصُولَةً لِأَنَّ كِلَا الْمَوْقِعَيْنِ مُقْتَضٍ لِلْفَصْلِ.
255
وَمِنَ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ تَصْدِيرُ تَشْرِيعِهَا بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ هِيَ الْأَمْرُ بِمَا فِيهِ نَفْعُ الْمَأْمُورِ وَفِيهِ اهْتِمَامُ الْآمِرِ لِشِدَّةِ صَلَاحِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَا يَعْهَدُ بِهِ الْإِنْسَان، فِيمَا يصنع بِأَبْنَائِهِ وَبِمَالِهِ وَبِذَاتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَصِيَّةً.
وَقَدْ رُوِيَتْ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ قَالَ: «مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ فَوَجَدَانِي لَا أَعْقِلُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ مِنْهُ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ «كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» فَنَزَلَتْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ «إِنَّ سَعْدًا هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَأَخَاهُ، فَعَمَدَ أَخُوهُ فَقَبَضَ مَا تَرَكَ سَعْدٌ، وَإِنَّمَا تُنْكَحُ النِّسَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِنَّ» فَلَمْ يُجِبْهَا فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَتْهُ فَقَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنَتَا سَعْدٍ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ادْعُ لِي أَخَاهُ»، فَجَاءَ، فَقَالَ: «ادْفَعْ إِلَى ابْنَتَيْهِ الثُّلُثَيْنِ وَإِلَى امْرَأَتِهِ الثُّمُنُ وَلَكَ مَا بَقِيَ» وَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ.
بَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فُرُوضَ الْوَرَثَةِ، وَنَاطَ الْمِيرَاثُ كُلَّهُ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ جِبِلِّيَّةً وَهِيَ النَّسَبُ، أَوْ قَرِيبَةً مِنَ الْجِبِلِّيَّةِ، وَهِيَ عِصْمَةُ الزَّوْجِيَّةِ، لِأَنَّ طَلَبَ الذَّكَرِ لِلْأُنْثَى جِبِلِّيٌّ، وَكَوْنُهَا الْمَرْأَةَ الْمُعَيَّنَةَ يَحْصُلُ بِالْإِلْفِ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْجِبِلَّةِ. وَبَيَّنَ أَهْلَ الْفُرُوضِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَرْجِعَ الْمَالِ بَعْدَ إِعْطَاءِ أَهْلِ الْفُرُوضِ فُرُوضَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ احْتِوَاءِ أَقْرَبِ الْعُصْبَةِ عَلَى مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَقْصِدَ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَلَمْ يُبَيِّنْ حَظَّ الْأَبِ، لِأَنَّ الْأَبَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قَدْ رَجَعَ إِلَى حَالَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ، وَهِيَ احتواء المَال فاحتيج إِلَى ذِكْرِ فَرْضِ الْأُمِّ.
وَابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِمِيرَاثِ الْأَبْنَاءِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ.
وَقَدْ رُوِيَتْ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ قَالَ: «مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ فَوَجَدَانِي لَا أَعْقِلُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ مِنْهُ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ «كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» فَنَزَلَتْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ «إِنَّ سَعْدًا هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَأَخَاهُ، فَعَمَدَ أَخُوهُ فَقَبَضَ مَا تَرَكَ سَعْدٌ، وَإِنَّمَا تُنْكَحُ النِّسَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِنَّ» فَلَمْ يُجِبْهَا فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَتْهُ فَقَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنَتَا سَعْدٍ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ادْعُ لِي أَخَاهُ»، فَجَاءَ، فَقَالَ: «ادْفَعْ إِلَى ابْنَتَيْهِ الثُّلُثَيْنِ وَإِلَى امْرَأَتِهِ الثُّمُنُ وَلَكَ مَا بَقِيَ» وَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ.
بَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فُرُوضَ الْوَرَثَةِ، وَنَاطَ الْمِيرَاثُ كُلَّهُ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ جِبِلِّيَّةً وَهِيَ النَّسَبُ، أَوْ قَرِيبَةً مِنَ الْجِبِلِّيَّةِ، وَهِيَ عِصْمَةُ الزَّوْجِيَّةِ، لِأَنَّ طَلَبَ الذَّكَرِ لِلْأُنْثَى جِبِلِّيٌّ، وَكَوْنُهَا الْمَرْأَةَ الْمُعَيَّنَةَ يَحْصُلُ بِالْإِلْفِ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْجِبِلَّةِ. وَبَيَّنَ أَهْلَ الْفُرُوضِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَرْجِعَ الْمَالِ بَعْدَ إِعْطَاءِ أَهْلِ الْفُرُوضِ فُرُوضَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ احْتِوَاءِ أَقْرَبِ الْعُصْبَةِ عَلَى مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَقْصِدَ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَلَمْ يُبَيِّنْ حَظَّ الْأَبِ، لِأَنَّ الْأَبَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قَدْ رَجَعَ إِلَى حَالَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ، وَهِيَ احتواء المَال فاحتيج إِلَى ذِكْرِ فَرْضِ الْأُمِّ.
وَابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِمِيرَاثِ الْأَبْنَاءِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ.
256
وَالْأَوْلَادُ جَمْعُ وَلَدٍ بِوَزْنِ فَعَلٍ مِثْلُ أَسَدٍ وَوَثَنٍ، وَفِيهِ لُغَةُ وِلْدٍ- بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ- وَكَأَنَّهُ حِينَئِذٍ فِعْلٌ الَّذِي بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالذِّبْحِ وَالسِّلْخِ. وَالْوَلَدُ اسْمٌ لِلِابْنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَالْوَارِدُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَجَمْعُهُ أَوْلَادٌ.
وفِي هُنَا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، جُعِلَتِ الْوَصِيَّةُ كَأَنَّهَا مَظْرُوفَةٌ فِي شَأْنِ الْأَوْلَادِ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِهِ كَاتِّصَالِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ، وَمَجْرُورُهَا مَحْذُوفٌ قَامَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، لِظُهُورِ أَنَّ ذَوَاتِ الْأَوْلَادِ لَا تَصْلُحُ ظَرْفًا لِلْوَصِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ عَلَى طَرِيقَةِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ: فِي إِرْثِ أَوْلَادِكُمْ، وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى الْمُقَدَّرِ عَلَى حَدِّ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] فَجَعَلَ الْوَصِيَّةَ مَظْرُوفَةً فِي هَذَا الشَّأْنِ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِهِ وَاحْتِوَائِهِ عَلَيْهَا.
وَجُمْلَةُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يُوصِيكُمُ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ مَعْنَى مَضْمُونِ الْوَصِيَّةِ، فَهِيَ مِثْلُ الْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ الذَّكَرَ صَارَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْإِرْثِ وَهُوَ الْأُنْثَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهِ عَهْدٌ مِنْ قَبْلُ إِذْ كَانَ الذُّكُورُ يَأْخُذُونَ الْمَالَ الْمَوْرُوثَ كُلَّهُ وَلَا حَظَّ لِلْإِنَاثِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: ٧].
وَقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ جَعَلَ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ هُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يُقَدَّرُ بِهِ حَظُّ
الذَّكَرِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ تَعْيِينُ حَظٍّ لِلْأُنْثَيَيْنِ حَتَّى يُقَدَّرَ بِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَضْعِيفُ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ عَلَى حَظِّ الْأُنْثَى مِنْهُمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمُرَادُ صَالِحًا لِأَنْ يُؤَدَّى بِنَحْوِ:
لِلْأُنْثَى نِصْفُ حَظِّ ذَكَرٍ، أَوْ لِلْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ حَظِّ ذَكَرٍ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا بَيَانَ الْمُضَاعَفَةِ.
وَلَكِنْ قَدْ أُوثِرَ هَذَا التَّعْبِيرُ لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَى صَارَ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ أَهَمَّ مِنْ حَظِّ الذَّكَرِ، إِذْ كَانَتْ مَهْضُومَةَ الْجَانِبِ عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَصَارَ الْإِسْلَامُ يُنَادِي بِحَظِّهَا فِي أَوَّلِ مَا يَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ قَدْ عُلِمَ أَنَّ قِسْمَةَ الْمَالِ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِلَخْ مُعَادُ الضَّمِيرِ هُوَ لَفْظُ الْأَوْلَادِ، وَهُوَ
وفِي هُنَا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، جُعِلَتِ الْوَصِيَّةُ كَأَنَّهَا مَظْرُوفَةٌ فِي شَأْنِ الْأَوْلَادِ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِهِ كَاتِّصَالِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ، وَمَجْرُورُهَا مَحْذُوفٌ قَامَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، لِظُهُورِ أَنَّ ذَوَاتِ الْأَوْلَادِ لَا تَصْلُحُ ظَرْفًا لِلْوَصِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ عَلَى طَرِيقَةِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ: فِي إِرْثِ أَوْلَادِكُمْ، وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى الْمُقَدَّرِ عَلَى حَدِّ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] فَجَعَلَ الْوَصِيَّةَ مَظْرُوفَةً فِي هَذَا الشَّأْنِ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِهِ وَاحْتِوَائِهِ عَلَيْهَا.
وَجُمْلَةُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يُوصِيكُمُ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ مَعْنَى مَضْمُونِ الْوَصِيَّةِ، فَهِيَ مِثْلُ الْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ الذَّكَرَ صَارَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْإِرْثِ وَهُوَ الْأُنْثَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهِ عَهْدٌ مِنْ قَبْلُ إِذْ كَانَ الذُّكُورُ يَأْخُذُونَ الْمَالَ الْمَوْرُوثَ كُلَّهُ وَلَا حَظَّ لِلْإِنَاثِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: ٧].
وَقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ جَعَلَ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ هُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يُقَدَّرُ بِهِ حَظُّ
الذَّكَرِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ تَعْيِينُ حَظٍّ لِلْأُنْثَيَيْنِ حَتَّى يُقَدَّرَ بِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَضْعِيفُ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ عَلَى حَظِّ الْأُنْثَى مِنْهُمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمُرَادُ صَالِحًا لِأَنْ يُؤَدَّى بِنَحْوِ:
لِلْأُنْثَى نِصْفُ حَظِّ ذَكَرٍ، أَوْ لِلْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ حَظِّ ذَكَرٍ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا بَيَانَ الْمُضَاعَفَةِ.
وَلَكِنْ قَدْ أُوثِرَ هَذَا التَّعْبِيرُ لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَى صَارَ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ أَهَمَّ مِنْ حَظِّ الذَّكَرِ، إِذْ كَانَتْ مَهْضُومَةَ الْجَانِبِ عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَصَارَ الْإِسْلَامُ يُنَادِي بِحَظِّهَا فِي أَوَّلِ مَا يَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ قَدْ عُلِمَ أَنَّ قِسْمَةَ الْمَالِ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِلَخْ مُعَادُ الضَّمِيرِ هُوَ لَفْظُ الْأَوْلَادِ، وَهُوَ
257
جَمْعُ وَلَدٍ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ وَلَا الْمَدْلُولِ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فلمّا كَانَ مَا صدقه هُنَا النِّسَاءَ خَاصَّةً أُعِيدَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ بِالتَّأْنِيثِ.
وَمَعْنَى: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَمِنْ مَعَانِي (فَوْقَ) الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَجَازٌ، ثُمَّ شَاعَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ، وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لَا يُعْطَيَانِ إِلَّا لِلْبَنَاتِ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا لِأَنَّ تَقْسِيمَ الْأَنْصِبَاءِ لَا يُنْتَقَلُ فِيهِ مِنْ مِقْدَارٍ إِلَى مِقْدَارٍ أَزْيَدَ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمِقْدَارَ الْأَوَّلَ.
وَالْوَصْفُ بِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يُفِيدُ مَفْهُومًا وَهُوَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ لَا تُعْطَيَانِ الثُّلُثَيْنِ، وَزَادَ فَقَالَ:
وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَبَقِيَ مِيرَاثُ الْبِنْتَيْنِ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ غَيْرَ مَنْصُوصٍ فِي الْآيَة فألحقهما الْجُمْهُور بِالثلَاثِ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَأَحْسَنُ مَا وُجِّهَ بِهِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ «إِذَا كَانَتِ الْبِنْتُ تَأْخُذُ مَعَ أَخِيهَا إِذَا انْفَرَدَ الثُّلُثَ فَأَحْرَى أَنْ تَأْخُذَ الثُّلُثَ مَعَ أُخْتِهَا» يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبِنْتَيْنِ هِيَ مُقَارِنَةٌ لِأُخْتِهَا الْأُخْرَى فَلَا يَكُونُ حَظُّهَا مَعَ أُخْتٍ أُنْثَى أَقَلَّ مِنْ حَظِّهَا مَعَ أَخٍ ذَكَرٍ، فَإِنَّ الذَّكَرَ أَوْلَى بِتَوْفِيرٍ نَصِيبِهِ، وَقَدْ تَلَقَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ لِبَعْضِ الَّذِينَ تَلَقَّفُوهُ. وَعَلَّلَهُ وَوَجَّهَهُ آخَرُونَ: بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْأُخْتَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا الثُّلُثَيْنِ فَلَا تَكُونُ الْبِنْتَانِ أَقَلَّ مِنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ كَالْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ لِتَوْرِيثِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي النِّصْفِ مَحْمَلًا فِي الْآيَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمَا قَالَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ لَفَظَ (فَوْقَ) زَائِدًا، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَال: ١٢]. وَشَتَّانَ بَيْنَ فَوْقَ الَّتِي مَعَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ وَفَوْقَ الَّتِي بِمَعْنَى مَكَانِ الْفِعْلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، أَيْ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مُسْتَنِدٌ لِسُنَّةٍ عَرَفُوهَا. وَرَدَّ الْقُرْطُبِيُّ دَعْوَى
الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ. قُلْتُ: لَعَلَّ الْإِجْمَاع انْعَقَد بعد مَا أَعْطَى ابْنُ عَبَّاسٍ الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ عَلَى أَنَّ اخْتِلَالَ الْإِجْمَاعِ لِمُخَالَفَةِ وَاحِدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَمَّا حَدِيثُ امْرَأَةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ فِي هَذَا الْخِلَافِ، لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ اخْتِلَافًا هَلْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
وَمَعْنَى: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَمِنْ مَعَانِي (فَوْقَ) الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَجَازٌ، ثُمَّ شَاعَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ، وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لَا يُعْطَيَانِ إِلَّا لِلْبَنَاتِ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا لِأَنَّ تَقْسِيمَ الْأَنْصِبَاءِ لَا يُنْتَقَلُ فِيهِ مِنْ مِقْدَارٍ إِلَى مِقْدَارٍ أَزْيَدَ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمِقْدَارَ الْأَوَّلَ.
وَالْوَصْفُ بِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يُفِيدُ مَفْهُومًا وَهُوَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ لَا تُعْطَيَانِ الثُّلُثَيْنِ، وَزَادَ فَقَالَ:
وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَبَقِيَ مِيرَاثُ الْبِنْتَيْنِ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ غَيْرَ مَنْصُوصٍ فِي الْآيَة فألحقهما الْجُمْهُور بِالثلَاثِ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَأَحْسَنُ مَا وُجِّهَ بِهِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ «إِذَا كَانَتِ الْبِنْتُ تَأْخُذُ مَعَ أَخِيهَا إِذَا انْفَرَدَ الثُّلُثَ فَأَحْرَى أَنْ تَأْخُذَ الثُّلُثَ مَعَ أُخْتِهَا» يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبِنْتَيْنِ هِيَ مُقَارِنَةٌ لِأُخْتِهَا الْأُخْرَى فَلَا يَكُونُ حَظُّهَا مَعَ أُخْتٍ أُنْثَى أَقَلَّ مِنْ حَظِّهَا مَعَ أَخٍ ذَكَرٍ، فَإِنَّ الذَّكَرَ أَوْلَى بِتَوْفِيرٍ نَصِيبِهِ، وَقَدْ تَلَقَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ لِبَعْضِ الَّذِينَ تَلَقَّفُوهُ. وَعَلَّلَهُ وَوَجَّهَهُ آخَرُونَ: بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْأُخْتَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا الثُّلُثَيْنِ فَلَا تَكُونُ الْبِنْتَانِ أَقَلَّ مِنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ كَالْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ لِتَوْرِيثِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي النِّصْفِ مَحْمَلًا فِي الْآيَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمَا قَالَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ لَفَظَ (فَوْقَ) زَائِدًا، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَال: ١٢]. وَشَتَّانَ بَيْنَ فَوْقَ الَّتِي مَعَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ وَفَوْقَ الَّتِي بِمَعْنَى مَكَانِ الْفِعْلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، أَيْ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مُسْتَنِدٌ لِسُنَّةٍ عَرَفُوهَا. وَرَدَّ الْقُرْطُبِيُّ دَعْوَى
الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ. قُلْتُ: لَعَلَّ الْإِجْمَاع انْعَقَد بعد مَا أَعْطَى ابْنُ عَبَّاسٍ الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ عَلَى أَنَّ اخْتِلَالَ الْإِجْمَاعِ لِمُخَالَفَةِ وَاحِدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَمَّا حَدِيثُ امْرَأَةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ فِي هَذَا الْخِلَافِ، لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ اخْتِلَافًا هَلْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
258
وَقَوْلُهُ: فَلَهُنَّ أُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَى نِسَاءٍ، وَالْمُرَادُ مَا يَصْدُقُ بِالْمَرْأَتَيْنِ تَغْلِيبًا لِلْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً» - بِنَصْبِ وَاحِدَةٍ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَتْ، وَاسْمُ كَانَتْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: فِي أَوْلادِكُمْ مِنْ مُفْرَدِ وَلَدٍ، أَيْ وَإِنْ كَانَتِ الْوَلَدُ بِنْتًا وَاحِدَةً، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ وُجِدَتْ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً.
وَصِيغَةُ أَوْلادِكُمْ صِيغَةُ عُمُومٍ لِأَنَّ أَوْلَادَ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ، وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَهَذَا الْعُمُومُ، خَصَّصَهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: خَصَّ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَصَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَافَقَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَنْ حَضَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
الثَّانِي: اخْتِلَافُ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ.
الثَّالِثُ: قَاتِلُ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ قَرِيبَهُ فِي شَيْءٍ.
الرَّابِعُ: قَاتِلُ الْخَطَأِ لَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا.
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ عَائِدٌ إِلَى الْمَيِّتِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي قِسْمَةِ مَالِ الْمَيِّتِ. وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً» - بِنَصْبِ وَاحِدَةٍ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَتْ، وَاسْمُ كَانَتْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: فِي أَوْلادِكُمْ مِنْ مُفْرَدِ وَلَدٍ، أَيْ وَإِنْ كَانَتِ الْوَلَدُ بِنْتًا وَاحِدَةً، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ وُجِدَتْ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً.
وَصِيغَةُ أَوْلادِكُمْ صِيغَةُ عُمُومٍ لِأَنَّ أَوْلَادَ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ، وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَهَذَا الْعُمُومُ، خَصَّصَهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: خَصَّ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَصَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَافَقَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَنْ حَضَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
الثَّانِي: اخْتِلَافُ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ.
الثَّالِثُ: قَاتِلُ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ قَرِيبَهُ فِي شَيْءٍ.
الرَّابِعُ: قَاتِلُ الْخَطَأِ لَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا.
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ عَائِدٌ إِلَى الْمَيِّتِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي قِسْمَةِ مَالِ الْمَيِّتِ. وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ
259
لِيَكُونَ كَالْعُنْوَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَلِكُلٍّ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ السَّابِقِ: فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
[النِّسَاء: ١١].
وَقَوْلُهُ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ زَادَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاقْتِصَارِ أَيْ: لَا غَيْرُهُمَا، لِيُعْلَمَ مِنْ قَوْلِهِ:
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ أَنَّ لِلْأَبِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُمِّ صَاحِبُ فَرْضٍ لَا تَحْجُبُهُ كَانَ عَلَى فَرْضِهِ مَعَهَا وَهِيَ عَلَى فَرْضِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَزَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لِلزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فَرْضُهُمَا وَلِلْأُمِّ ثُلُثُهَا وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، حَمْلًا عَلَى قَاعِدَةِ تَعَدُّدِ أَهْلِ الْفُرُوضِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَرْضُهُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، لِئَلَّا تَأْخُذَ الْأُمُّ أَكْثَرَ مِنَ الْأَبِ فِي صُورَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَفِي «سُنَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ» : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إِلَى زَيْدٍ «أَيْنَ تُجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ» فَأَجَابَ زَيْدٌ «إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ تَقُولُ بِرَأْيِكَ وَأَنَا أَقُولُ بِرَأْيِي».
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِلْأَبِ مَعَ الْأُمِّ الثُّلُثَيْنِ، وَتُرِكَ ذِكْرُهُ لِأَنَّ مَبْنَى الْفَرَائِضِ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ بِدُونِ فَرْضٍ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الْعِصَابَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلِأُمِّهِ- بِضَمِّ همزَة أمّه-، وقرأه حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ اللَّامِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أَيْ إِنْ كَانَ إِخْوَةٌ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِخْوَةَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ فَيَنْقُلُونَهَا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ. وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ صِيغَةُ جَمْعٍ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهَا لَا يَنْقُلُهَا إِلَى السُّدُسِ إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ الْإِخْوَةِ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا ذُكُورًا أَوْ مُخْتَلِطِينَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ الْجَمْعِ، وَمَا إِذَا كَانَ الْإِخْوَةُ إِنَاثًا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَخَوَانِ يَحْجُبَانِ الْأُمَّ، وَالْأُخْتَانِ أَيْضًا، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ. أَمَّا الْأَخُ الْوَاحِدُ أَوِ الْأُخْتُ فَلَا يَحْجُبُ الْأُمَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحُكْمِهِ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي السُّدُسِ الَّذِي يَحْجُبُ الْإِخْوَةُ عَنْهُ الْأُمَّ: هَلْ يَأْخُذُهُ الْإِخْوَةُ أَمْ يَأْخُذُهُ الْأَبُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ بِالثَّانِي الْجُمْهُورُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَاجِبَ قَدْ يَكُونُ مَحْجُوبًا.
وَكَيْفَمَا كَانَ فَقَدِ اعْتَبَرَ اللَّهُ لِلْإِخْوَةِ حَظًّا
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
[النِّسَاء: ١١].
وَقَوْلُهُ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ زَادَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاقْتِصَارِ أَيْ: لَا غَيْرُهُمَا، لِيُعْلَمَ مِنْ قَوْلِهِ:
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ أَنَّ لِلْأَبِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُمِّ صَاحِبُ فَرْضٍ لَا تَحْجُبُهُ كَانَ عَلَى فَرْضِهِ مَعَهَا وَهِيَ عَلَى فَرْضِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَزَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لِلزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فَرْضُهُمَا وَلِلْأُمِّ ثُلُثُهَا وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، حَمْلًا عَلَى قَاعِدَةِ تَعَدُّدِ أَهْلِ الْفُرُوضِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَرْضُهُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، لِئَلَّا تَأْخُذَ الْأُمُّ أَكْثَرَ مِنَ الْأَبِ فِي صُورَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَفِي «سُنَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ» : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إِلَى زَيْدٍ «أَيْنَ تُجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ» فَأَجَابَ زَيْدٌ «إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ تَقُولُ بِرَأْيِكَ وَأَنَا أَقُولُ بِرَأْيِي».
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِلْأَبِ مَعَ الْأُمِّ الثُّلُثَيْنِ، وَتُرِكَ ذِكْرُهُ لِأَنَّ مَبْنَى الْفَرَائِضِ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ بِدُونِ فَرْضٍ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الْعِصَابَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلِأُمِّهِ- بِضَمِّ همزَة أمّه-، وقرأه حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ اللَّامِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أَيْ إِنْ كَانَ إِخْوَةٌ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِخْوَةَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ فَيَنْقُلُونَهَا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ. وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ صِيغَةُ جَمْعٍ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهَا لَا يَنْقُلُهَا إِلَى السُّدُسِ إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ الْإِخْوَةِ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا ذُكُورًا أَوْ مُخْتَلِطِينَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ الْجَمْعِ، وَمَا إِذَا كَانَ الْإِخْوَةُ إِنَاثًا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَخَوَانِ يَحْجُبَانِ الْأُمَّ، وَالْأُخْتَانِ أَيْضًا، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ. أَمَّا الْأَخُ الْوَاحِدُ أَوِ الْأُخْتُ فَلَا يَحْجُبُ الْأُمَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحُكْمِهِ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي السُّدُسِ الَّذِي يَحْجُبُ الْإِخْوَةُ عَنْهُ الْأُمَّ: هَلْ يَأْخُذُهُ الْإِخْوَةُ أَمْ يَأْخُذُهُ الْأَبُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ بِالثَّانِي الْجُمْهُورُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَاجِبَ قَدْ يَكُونُ مَحْجُوبًا.
وَكَيْفَمَا كَانَ فَقَدِ اعْتَبَرَ اللَّهُ لِلْإِخْوَةِ حَظًّا
260
مَعَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَوْ كَانَ الْإِخْوَةُ مَعَ الْأُمِّ وَلَمْ يَكُنْ أَبٌ لَكَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ بَقِيَّةُ الْمَالِ بِاتِّفَاقٍ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي هَذَا تَعْضِيدٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ.
الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ قَيْدٌ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ:
أَيْ تَقْتَسِمُونَ الْمَالَ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءِ لِكُلٍّ نَصِيبُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ.
وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ بَعْدَ ذِكْرِ صِنْفَيْنِ مِنَ الْفَرَائِضِ:
فَرَائِضُ الْأَبْنَاءِ، وَفَرَائِضُ الْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كَصِنْفٍ وَاحِدٍ إِذْ كَانَ سَبَبُهُمَا عَمُودَ النَّسَبِ الْمُبَاشِرِ. وَالْمَقْصِدُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْوَصِيَّةِ وَتَقَدُّمِهَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الدَّيْنُ بَعْدَهَا تَتْمِيمًا لِمَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيرَاثِ مَعَ عِلْمِ السَّامِعِينَ أَنَّ الدَّيْنَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ حَقٌّ سَابِقٌ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْمَدِينَ لَا يَمْلِكُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا مَا هُوَ فَاضِلٌ عَنْ دَيْنِ دَائِنِهِ. فَمَوْقِعُ عَطْفِ أَوْ دَيْنٍ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِاهْتِمَامِ كَرَّرَ اللَّهُ هَذَا الْقَيْدَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَوَصَفَ الْوَصِيَّةَ بِجُمْلَةِ يُوصِي بِها لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَصِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً قَبْلَ شَرْعِ الْفَرَائِضِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الْبَقَرَة: ١٨٠]. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوصِي بِها فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمَيِّتُ، كَمَا عَادَ ضَمِيرُ مَا تَرَكَ [النِّسَاء: ٧] وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْضًا: يُوصَى- بِفَتْح الصَّاد- مَبْنِيا لِلنَّائِبِ أَيْ يُوصِي بِهَا مُوصٍ.
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ.
الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ قَيْدٌ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ:
أَيْ تَقْتَسِمُونَ الْمَالَ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءِ لِكُلٍّ نَصِيبُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ.
وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ بَعْدَ ذِكْرِ صِنْفَيْنِ مِنَ الْفَرَائِضِ:
فَرَائِضُ الْأَبْنَاءِ، وَفَرَائِضُ الْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كَصِنْفٍ وَاحِدٍ إِذْ كَانَ سَبَبُهُمَا عَمُودَ النَّسَبِ الْمُبَاشِرِ. وَالْمَقْصِدُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْوَصِيَّةِ وَتَقَدُّمِهَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الدَّيْنُ بَعْدَهَا تَتْمِيمًا لِمَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيرَاثِ مَعَ عِلْمِ السَّامِعِينَ أَنَّ الدَّيْنَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ حَقٌّ سَابِقٌ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْمَدِينَ لَا يَمْلِكُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا مَا هُوَ فَاضِلٌ عَنْ دَيْنِ دَائِنِهِ. فَمَوْقِعُ عَطْفِ أَوْ دَيْنٍ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِاهْتِمَامِ كَرَّرَ اللَّهُ هَذَا الْقَيْدَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَوَصَفَ الْوَصِيَّةَ بِجُمْلَةِ يُوصِي بِها لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَصِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً قَبْلَ شَرْعِ الْفَرَائِضِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الْبَقَرَة: ١٨٠]. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوصِي بِها فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمَيِّتُ، كَمَا عَادَ ضَمِيرُ مَا تَرَكَ [النِّسَاء: ٧] وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْضًا: يُوصَى- بِفَتْح الصَّاد- مَبْنِيا لِلنَّائِبِ أَيْ يُوصِي بِهَا مُوصٍ.
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً
261
خَتَمَ هَذِهِ الْفَرَائِضَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَهِيَ أُصُولُ الْفَرَائِضِ بِقَوْلِهِ:
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ الْآيَةَ، فَهُمَا إِمَّا مُسْند إِلَيْهِمَا قدّ مَا لِلِاهْتِمَامِ، وَلِيَتَمَكَّنَ الْخَبَرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ إِذْ يُلْقِي سَمْعَهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا بِشَرَاشِرِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَهُمَا خَبَرَيْنِ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي بِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَال، وَذَلِكَ عِنْد مَا يَتَقَدَّمُ حَدِيثٌ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ يُرَادُ جَمْعُ الْخَبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
بَعْدَ قَوْلِهِ:
أَيْ: الْمَذْكُورُونَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَهُوَ إِمَّا مُبْتَدَأٌ وَإِمَّا حَالٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَوِينَ فِي نَفْعِكُمْ مُتَفَاوِتُونَ تَفَاوُتًا
يَتْبَعُ تَفَاوُتَ الشَّفَقَةِ الْجِبِلِّيَّةِ فِي النَّاسِ وَيَتْبَعُ الْبُرُورَ وَمِقْدَارَ تَفَاوُتِ الْحَاجَاتِ. فَرُبَّ رَجُلٍ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَنْ يَنْفَعَهُ أَبَوَاهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَرُبَّمَا عَرَضَتْ حَاجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَعْرِضْ فَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ الَّذِي كَانَ يَعْتَمِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قِسْمَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَاعْتَمَدُوا أَحْوَالًا غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ وَلَا مَوْثُوقًا بِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَشَرْعُ الْإِسْلَامِ نَاطَ الْفَرَائِضَ بِمَا لَا يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ، فَفَرَضَ الْفَرِيضَةَ لَهُمْ نَظَرًا لِصِلَتِهِمُ الْمُوجِبَةِ كَوْنَهُمْ أَحَقَّ بِمَالِ الْأَبْنَاءِ أَوِ الْآبَاءِ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاضِحُ الْمُنَاسَبَةِ.
[١٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ الْآيَةَ، فَهُمَا إِمَّا مُسْند إِلَيْهِمَا قدّ مَا لِلِاهْتِمَامِ، وَلِيَتَمَكَّنَ الْخَبَرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ إِذْ يُلْقِي سَمْعَهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا بِشَرَاشِرِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَهُمَا خَبَرَيْنِ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي بِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَال، وَذَلِكَ عِنْد مَا يَتَقَدَّمُ حَدِيثٌ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ يُرَادُ جَمْعُ الْخَبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ | وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ وزلّت |
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَدَانَتْ مَنِيَّتِي | أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ |
يَتْبَعُ تَفَاوُتَ الشَّفَقَةِ الْجِبِلِّيَّةِ فِي النَّاسِ وَيَتْبَعُ الْبُرُورَ وَمِقْدَارَ تَفَاوُتِ الْحَاجَاتِ. فَرُبَّ رَجُلٍ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَنْ يَنْفَعَهُ أَبَوَاهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَرُبَّمَا عَرَضَتْ حَاجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَعْرِضْ فَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ الَّذِي كَانَ يَعْتَمِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قِسْمَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَاعْتَمَدُوا أَحْوَالًا غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ وَلَا مَوْثُوقًا بِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَشَرْعُ الْإِسْلَامِ نَاطَ الْفَرَائِضَ بِمَا لَا يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ، فَفَرَضَ الْفَرِيضَةَ لَهُمْ نَظَرًا لِصِلَتِهِمُ الْمُوجِبَةِ كَوْنَهُمْ أَحَقَّ بِمَالِ الْأَبْنَاءِ أَوِ الْآبَاءِ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاضِحُ الْمُنَاسَبَةِ.
[١٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
262
هَذِهِ فَرِيضَةُ الْمِيرَاثِ الَّذِي سَبَبُهُ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ أَعْطَاهَا اللَّهُ حَقَّهَا الْمَهْجُورَ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الزَّوْجَيْنِ: أَمَّا الرَّجُلُ فَلَا يَرِثُ امْرَأَتَهُ لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَوْلَادٌ مِنْهُ، فَهُوَ قَدْ صَارَ بِمَوْتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ قَرَابَتِهَا مِنْ آبَاءٍ وَإِخْوَةٍ وَأَعْمَامٍ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَوْلَادٌ كَانَ أَوْلَادُهَا أَحَقَّ بِمِيرَاثِهَا إِنْ كَانُوا كِبَارًا، فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا قَبَضَ أَقْرِبَاؤُهُمْ مَالَهُمْ وَتَصَرَّفُوا فِيهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَرِثُ زَوْجَهَا بَلْ كَانَتْ تُعَدُّ مَوْرُوثَةً عَنْهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا وَرَثَتُهُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاءَ:
١٩]. فَنَوَّهَ اللَّهُ فِي هَذِه الْآيَات بِصِلَةِ الْعِصْمَةِ، وَهِيَ الَّتِي وَصَفَهَا بِالْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ فِي قَوْلِهِ:
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاء: ٢١].
وَالْجَمْعُ فِي أَزْواجُكُمْ وَفِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكْتُمْ كَالْجَمْعِ فِي الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ، مُرَادٌ بِهِ تَعَدُّدُ أَفْرَادِ الْوَارِثِينَ مِنَ الْأُمَّةِ، وَهَاهُنَا قَدِ اتّفقت الأمّة عى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَاتٌ أَنَّهُنَّ يَشْتَرِكْنَ فِي الرُّبْعِ أَوْ فِي الثُّمْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ لَهُنَّ، لِأَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ بِيَدِ صَاحِبِ الْمَالِ فَكَانَ تَعَدُّدُهُنَّ وَسِيلَةً لِإِدْخَالِ الْمَضَرَّةِ عَلَى الْوَرَثَةِ الْآخَرِينَ بِخِلَافِ تَعَدُّدِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ فَإِنَّهُ لَا خِيَارَ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ. وَالْمَعْنَى: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ كُلُّ زَوْجَةٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ.
وَقَوْلُهُ: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ أَيْ لِمَجْمُوعِهِنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكَ زَوْجُهُنَّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ وَهَذَا حَذَقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِيجَازُ الْكَلَامِ.
وَأُعْقِبَتْ فَرِيضَةُ الْأَزْوَاجِ بِذِكْرِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُنَّ مَمْنُوعَاتٌ مِنَ الْإِيصَاءِ وَمِنَ التَّدَايُنِ كَمَا كَانَ الْحَالُ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَمَّا ذِكْرُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ عَقِبَ ذِكْرِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ مِنْ رِجَالِهِنَّ فَجَرْيًا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْمُتَّبَعِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ أَنْ يُعَقَّبَ كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْفَرَائِضِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْوَصِيَّةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ.
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ.
١٩]. فَنَوَّهَ اللَّهُ فِي هَذِه الْآيَات بِصِلَةِ الْعِصْمَةِ، وَهِيَ الَّتِي وَصَفَهَا بِالْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ فِي قَوْلِهِ:
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاء: ٢١].
وَالْجَمْعُ فِي أَزْواجُكُمْ وَفِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكْتُمْ كَالْجَمْعِ فِي الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ، مُرَادٌ بِهِ تَعَدُّدُ أَفْرَادِ الْوَارِثِينَ مِنَ الْأُمَّةِ، وَهَاهُنَا قَدِ اتّفقت الأمّة عى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَاتٌ أَنَّهُنَّ يَشْتَرِكْنَ فِي الرُّبْعِ أَوْ فِي الثُّمْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ لَهُنَّ، لِأَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ بِيَدِ صَاحِبِ الْمَالِ فَكَانَ تَعَدُّدُهُنَّ وَسِيلَةً لِإِدْخَالِ الْمَضَرَّةِ عَلَى الْوَرَثَةِ الْآخَرِينَ بِخِلَافِ تَعَدُّدِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ فَإِنَّهُ لَا خِيَارَ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ. وَالْمَعْنَى: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ كُلُّ زَوْجَةٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ.
وَقَوْلُهُ: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ أَيْ لِمَجْمُوعِهِنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكَ زَوْجُهُنَّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ وَهَذَا حَذَقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِيجَازُ الْكَلَامِ.
وَأُعْقِبَتْ فَرِيضَةُ الْأَزْوَاجِ بِذِكْرِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُنَّ مَمْنُوعَاتٌ مِنَ الْإِيصَاءِ وَمِنَ التَّدَايُنِ كَمَا كَانَ الْحَالُ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَمَّا ذِكْرُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ عَقِبَ ذِكْرِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ مِنْ رِجَالِهِنَّ فَجَرْيًا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْمُتَّبَعِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ أَنْ يُعَقَّبَ كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْفَرَائِضِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْوَصِيَّةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ.
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ.
263
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ مِيرَاثَ ذِي الْأَوْلَادِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَفَصَّلَهُ فِي أَحْوَالِهِ حَتَّى حَالَةِ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ، انْتَقَلَ هُنَا إِلَى مِيرَاثِ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وَهُوَ الْمَوْرُوثُ كَلَالَةً، وَلِذَلِكَ قَابَلَ بِهَا مِيرَاثَ الْأَبَوَيْنِ.
وَالْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْكَلَالِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ قَالَ الْأَعْشَى:
وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ.
وَوَصَفَتِ الْعَرَبُ بِالْكَلَالَةِ الْقَرَابَةَ غَيْرَ الْقُرْبَى، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا وُصُولَهُ لِنَسَبِ قَرِيبِهِ عَنْ بُعْدٍ، فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ الْكَلَالَةَ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ مَنْ لَمْ يُسَمُّوهُ:
ثُمَّ أَطْلَقُوهُ عَلَى إِرْثِ الْبَعِيدِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ إِذْ لَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا مَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: وَرِثَ الْمَجْدَ لَا عَنْ كَلَالَةٍ. وَقَدْ عَدَّ الصَّحَابَةُ مَعْنَى الْكَلَالَةِ هُنَا مِنْ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: الْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا، وَالْخِلَافَةُ». وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ، الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ».
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ بِهِ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ» أَيْ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَالِدٌ وَيُنْسَبُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَا عَنْهُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء:
١٧٦] وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُرَجِّحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ ذِكْرَهَا بَعْدَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ وَالْأَبَوَيْنِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا حَالَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْحَالَيْنِ.
وَالْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْكَلَالِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ قَالَ الْأَعْشَى:
فَآلَيْتُ لَا أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ | وَلَا مِنْ حَفِيٍّ حَتَّى أُلَاقِي مُحَمَّدَا |
وَوَصَفَتِ الْعَرَبُ بِالْكَلَالَةِ الْقَرَابَةَ غَيْرَ الْقُرْبَى، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا وُصُولَهُ لِنَسَبِ قَرِيبِهِ عَنْ بُعْدٍ، فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ الْكَلَالَةَ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ مَنْ لَمْ يُسَمُّوهُ:
فَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحَمَى لَهُ | وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يُغْضَبُ |
وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ | عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ |
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ بِهِ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ» أَيْ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَالِدٌ وَيُنْسَبُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَا عَنْهُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء:
١٧٦] وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُرَجِّحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ ذِكْرَهَا بَعْدَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ وَالْأَبَوَيْنِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا حَالَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْحَالَيْنِ.
264
وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: كَلالَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُورَثُ الَّذِي هُوَ كَلَالَةٌ مِنْ وَارِثِهِ أَيْ قَرِيبٌ غَيْرُ الْأَقْرَبِ لِأَنَّ الْكَلَالَةَ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا كِلَا الْقَرِيبَيْنِ.
وَقَوله: أَوِ امْرَأَةٌ عُطِفَ عَلَى رَجُلٌ الَّذِي هُوَ اسْمُ (كَانَ) فَيُشَارِكُ الْمَعْطُوفُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي خَبَرِ (كَانَ) إِذْ لَا يَكُونُ لَهَا اسْمٌ بِدُونِ خَبَرٍ فِي حَالِ نُقْصَانِهَا.
وَقَوله: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي مَعْنَى الْكَلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْأَخَ وَالْأُخْتَ لِلْأُمِّ خَاصَّةً لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَقُلْنَا لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ وَجَعَلْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ نَعْلَمُ بِحُكْمِ مَا يُشْبِهُ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ أَنَّهُمَا الْأَخُ وَالْأُخْتُ لِلْأُمِّ لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَتْ نِهَايَةُ حَظِّهِمَا الثُّلُثَ فَقَدْ بَقِيَ الثُّلُثَانِ فَلَوْ كَانَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ هُمَا الشَّقِيقَيْنِ أَوِ اللَّذَيْنِ لِلْأَبِ لَاقْتَضَى أَنَّهُمَا أَخَذَا أَقَلَّ الْمَالِ وَتُرِكَ الْبَاقِي لِغَيْرِهِمَا وَهَلْ يَكُونُ غَيْرُهُمَا أَقْرَبَ مِنْهُمَا فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مُرَادٌ بِهِمَا اللَّذَانِ لِلْأُمِّ خَاصَّةً لِيَكُونَ الثُّلُثَانِ لِلْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ أَوِ الْأَعْمَامِ أَوْ بَنِي الْأَعْمَامِ. وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ بِهَذَا فَرْضًا لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ إِبْطَالًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِلْغَاءِ جَانِبِ الْأُمُومَةِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ جَانِبُ نِسَاءٍ وَلَمْ يُحْتَجْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَصِيرِ بَقِيَّةِ الْمَالِ لِمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَالَ أَمْرَ الْعِصَابَةِ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ مَنْ نَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ.
وعَلى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ اللَّذَيْنِ لِلْأُمِّ إِذْ قَدْ يُفْرَضُ لِلْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ نصيب هُوَ الثُّلُث وَيبقى الثُّلُثَانِ لِعَاصِبٍ أَقْوَى وَهُوَ الْأَبُ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْكَلَالَةِ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَافَقَ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ اللَّذَانِ لِلْأُمِّ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ الْكَلَالَةَ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا أَبٌ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ الشَّقِيقَيْنِ أَوِ اللَّذَيْنِ لِلْأَبِ لَأَعْطَيْنَاهُمَا الثُّلُثَ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَبَقِيَ مُعْظَمُ الْمَالِ لِمَنْ هُوَ دُونُ الْإِخْوَة فِي التَّعْصِيب فَهَذَا فِيمَا أَرَى هُوَ الَّذِي حَدَا سَائِرَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى حَمْلِ الْأَخِ وَالْأُخْت على الَّذين لِلْأُمِّ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَالَةَ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِصُورَةٍ أُخْرَى سَنَتَعَرَّضُ لَهَا.
وَقَوله: أَوِ امْرَأَةٌ عُطِفَ عَلَى رَجُلٌ الَّذِي هُوَ اسْمُ (كَانَ) فَيُشَارِكُ الْمَعْطُوفُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي خَبَرِ (كَانَ) إِذْ لَا يَكُونُ لَهَا اسْمٌ بِدُونِ خَبَرٍ فِي حَالِ نُقْصَانِهَا.
وَقَوله: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي مَعْنَى الْكَلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْأَخَ وَالْأُخْتَ لِلْأُمِّ خَاصَّةً لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَقُلْنَا لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ وَجَعَلْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ نَعْلَمُ بِحُكْمِ مَا يُشْبِهُ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ أَنَّهُمَا الْأَخُ وَالْأُخْتُ لِلْأُمِّ لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَتْ نِهَايَةُ حَظِّهِمَا الثُّلُثَ فَقَدْ بَقِيَ الثُّلُثَانِ فَلَوْ كَانَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ هُمَا الشَّقِيقَيْنِ أَوِ اللَّذَيْنِ لِلْأَبِ لَاقْتَضَى أَنَّهُمَا أَخَذَا أَقَلَّ الْمَالِ وَتُرِكَ الْبَاقِي لِغَيْرِهِمَا وَهَلْ يَكُونُ غَيْرُهُمَا أَقْرَبَ مِنْهُمَا فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مُرَادٌ بِهِمَا اللَّذَانِ لِلْأُمِّ خَاصَّةً لِيَكُونَ الثُّلُثَانِ لِلْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ أَوِ الْأَعْمَامِ أَوْ بَنِي الْأَعْمَامِ. وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ بِهَذَا فَرْضًا لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ إِبْطَالًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِلْغَاءِ جَانِبِ الْأُمُومَةِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ جَانِبُ نِسَاءٍ وَلَمْ يُحْتَجْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَصِيرِ بَقِيَّةِ الْمَالِ لِمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَالَ أَمْرَ الْعِصَابَةِ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ مَنْ نَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ.
وعَلى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ اللَّذَيْنِ لِلْأُمِّ إِذْ قَدْ يُفْرَضُ لِلْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ نصيب هُوَ الثُّلُث وَيبقى الثُّلُثَانِ لِعَاصِبٍ أَقْوَى وَهُوَ الْأَبُ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْكَلَالَةِ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَافَقَ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ اللَّذَانِ لِلْأُمِّ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ الْكَلَالَةَ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا أَبٌ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ الشَّقِيقَيْنِ أَوِ اللَّذَيْنِ لِلْأَبِ لَأَعْطَيْنَاهُمَا الثُّلُثَ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَبَقِيَ مُعْظَمُ الْمَالِ لِمَنْ هُوَ دُونُ الْإِخْوَة فِي التَّعْصِيب فَهَذَا فِيمَا أَرَى هُوَ الَّذِي حَدَا سَائِرَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى حَمْلِ الْأَخِ وَالْأُخْت على الَّذين لِلْأُمِّ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَالَةَ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِصُورَةٍ أُخْرَى سَنَتَعَرَّضُ لَهَا.
265
غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
غَيْرَ مُضَارٍّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُوصى الْأَخِيرِ، وَلَمَّا كَانَ فِعْلُ يُوصَى تَكْرِيرًا، كَانَ حَالًا مِنْ ضَمَائِرِ نَظَائِرِهِ.
ومُضَارٍّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ بِتَقْدِيرِ كَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى الْمُدْغَمَةِ أَيْ غَيْرَ مُضَارٍّ وَرَثَتَهُ بِإِكْثَارِ الْوَصَايَا، وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يقْصد الْمُوصي مِنْ وَصِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِالْوَرَثَةِ.
وَالْإِضْرَارُ مِنْهُ مَا حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ ثُلُثَ مَالِهِ وَقَدْ حَدَّدَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». وَمِنْهُ مَا يَحْصُلُ بِقَصْدِ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِالْوَارِثِ وَلَا يَقْصِدُ الْقُرْبَةَ بِوَصِيَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ. وَلَمَّا كَانَتْ نِيَّةُ الْمُوصِي وَقَصْدُهُ الْإِضْرَارَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وَخَشْيَةِ رَبِّهِ، فَإِنْ ظَهَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ الْإِضْرَارَ دَلَالَةً وَاضِحَةً، فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ نَهْيٌ عَنِ الْإِضْرَارِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
ويتعيّن أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَيْد مقيّدا لِلْمُطْلَقِ فِي الْآيِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ إِلَخْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُطْلَقَاتِ مُتَّحِدَةُ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ. فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ مِنْهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.
وَقد أَخَذَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ مَسْأَلَةِ قَصْدِ الْمُعْطِي مِنْ عَطِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِوَارِثِهِ فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَطَايَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ خَاصَّةً. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ قَصْدَ الْمُضَارَّةِ فِي الثُّلُثِ لَا تُرَدُّ بِهِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَنَازَعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي التَّفْسِيرِ بِأَنَّ مَا فِي
الْوَصَايَا الثَّانِي مِنَ «الْمُدَوَّنَةِ»، صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ يُوجِبُ رَدَّ الْوَصِيَّةِ وَبَحْثُ ابْنِ عَرَفَةَ مَكِينٌ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تُرَدُّ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ إِذَا تَبَيَّنَ الْقَصْدُ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَرَى تَأْثِيرَ الْإِضْرَارِ. وَفِي شَرْحِ ابْنِ نَاجِي عَلَى تَهْذِيبِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ فِي أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ لَا يُوهِنُ الْوَصِيَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَبِهِ الْفَتْوَى.
وَقَوله: وَصِيَّةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ جَاءَ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ:
غَيْرَ مُضَارٍّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُوصى الْأَخِيرِ، وَلَمَّا كَانَ فِعْلُ يُوصَى تَكْرِيرًا، كَانَ حَالًا مِنْ ضَمَائِرِ نَظَائِرِهِ.
ومُضَارٍّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ بِتَقْدِيرِ كَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى الْمُدْغَمَةِ أَيْ غَيْرَ مُضَارٍّ وَرَثَتَهُ بِإِكْثَارِ الْوَصَايَا، وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يقْصد الْمُوصي مِنْ وَصِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِالْوَرَثَةِ.
وَالْإِضْرَارُ مِنْهُ مَا حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ ثُلُثَ مَالِهِ وَقَدْ حَدَّدَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». وَمِنْهُ مَا يَحْصُلُ بِقَصْدِ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِالْوَارِثِ وَلَا يَقْصِدُ الْقُرْبَةَ بِوَصِيَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ. وَلَمَّا كَانَتْ نِيَّةُ الْمُوصِي وَقَصْدُهُ الْإِضْرَارَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وَخَشْيَةِ رَبِّهِ، فَإِنْ ظَهَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ الْإِضْرَارَ دَلَالَةً وَاضِحَةً، فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ نَهْيٌ عَنِ الْإِضْرَارِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
ويتعيّن أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَيْد مقيّدا لِلْمُطْلَقِ فِي الْآيِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ إِلَخْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُطْلَقَاتِ مُتَّحِدَةُ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ. فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ مِنْهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.
وَقد أَخَذَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ مَسْأَلَةِ قَصْدِ الْمُعْطِي مِنْ عَطِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِوَارِثِهِ فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَطَايَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ خَاصَّةً. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ قَصْدَ الْمُضَارَّةِ فِي الثُّلُثِ لَا تُرَدُّ بِهِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَنَازَعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي التَّفْسِيرِ بِأَنَّ مَا فِي
الْوَصَايَا الثَّانِي مِنَ «الْمُدَوَّنَةِ»، صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ يُوجِبُ رَدَّ الْوَصِيَّةِ وَبَحْثُ ابْنِ عَرَفَةَ مَكِينٌ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تُرَدُّ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ إِذَا تَبَيَّنَ الْقَصْدُ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَرَى تَأْثِيرَ الْإِضْرَارِ. وَفِي شَرْحِ ابْنِ نَاجِي عَلَى تَهْذِيبِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ فِي أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ لَا يُوهِنُ الْوَصِيَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَبِهِ الْفَتْوَى.
وَقَوله: وَصِيَّةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ جَاءَ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ:
266
يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَصِيَّةً مِنْهُ فَهُوَ خَتْمٌ لِلْأَحْكَامِ بِمِثْلِ مَا بُدِئَتْ بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النِّسَاء: ١١] وَهَذَا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
وَقَوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، وَذِكْرُ وَصْفِ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَقَدِّمَةَ إِبْطَالٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ كَانُوا شَرَّعُوا مَوَارِيثَهُمْ تَشْرِيعًا مَثَارُهُ الْجَهْلُ وَالْقَسَاوَةُ. فَإِنَّ حِرْمَانَ الْبِنْتِ وَالْأَخِ لِلْأُمِّ مِنَ الْإِرْثِ جَهْلٌ بِأَنَّ صِلَةَ النِّسْبَةِ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ مُمَاثِلَةٌ لِصِلَةِ نِسْبَةِ جَانِبِ الْأَبِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ جَهْلٌ، وَحِرْمَانُهُمُ الصِّغَارَ مِنَ الْمِيرَاثِ قَسَاوَةٌ مِنْهُمْ.
وَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَاتُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمِيرَاثَ وَأَنْصِبَاءَهُ بَيْنَ أَهْلِ أُصُولِ النَّسَبِ وَفُرُوعِهِ وَأَطْرَافِهِ وَعِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَسَكَتَتْ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْعُصْبَةِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَوَالِي الْعَتَاقَةِ وَمَوَالِي الْحِلْفِ، وَقَدْ أَشَارَ قَوْله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَال [٧٥] وَقَوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٦] إِلَى مَا أَخَذَ مِنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَأَشَارَ قَوْلُهُ الْآتِي قَرِيبًا وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النِّسَاء: ٣٣] إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّوْرِيثُ بِالْوَلَاءِ عَلَى الْإِجْمَالِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَبَيَّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْرِيثَ الْعَصَبَةِ بِمَا
رَوَاهُ رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
وَمَا
رَوَاهُ الْخَمْسَةُ- غَيْرَ النَّسَائِيِّ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِمَوَالِي الْعَصَبَةِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ»
وَسَنُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي موَاضعه الْمَذْكُورَة.
[١٣، ١٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
وَقَوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، وَذِكْرُ وَصْفِ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَقَدِّمَةَ إِبْطَالٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ كَانُوا شَرَّعُوا مَوَارِيثَهُمْ تَشْرِيعًا مَثَارُهُ الْجَهْلُ وَالْقَسَاوَةُ. فَإِنَّ حِرْمَانَ الْبِنْتِ وَالْأَخِ لِلْأُمِّ مِنَ الْإِرْثِ جَهْلٌ بِأَنَّ صِلَةَ النِّسْبَةِ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ مُمَاثِلَةٌ لِصِلَةِ نِسْبَةِ جَانِبِ الْأَبِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ جَهْلٌ، وَحِرْمَانُهُمُ الصِّغَارَ مِنَ الْمِيرَاثِ قَسَاوَةٌ مِنْهُمْ.
وَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَاتُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمِيرَاثَ وَأَنْصِبَاءَهُ بَيْنَ أَهْلِ أُصُولِ النَّسَبِ وَفُرُوعِهِ وَأَطْرَافِهِ وَعِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَسَكَتَتْ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْعُصْبَةِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَوَالِي الْعَتَاقَةِ وَمَوَالِي الْحِلْفِ، وَقَدْ أَشَارَ قَوْله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَال [٧٥] وَقَوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٦] إِلَى مَا أَخَذَ مِنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَأَشَارَ قَوْلُهُ الْآتِي قَرِيبًا وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النِّسَاء: ٣٣] إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّوْرِيثُ بِالْوَلَاءِ عَلَى الْإِجْمَالِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَبَيَّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْرِيثَ الْعَصَبَةِ بِمَا
رَوَاهُ رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
وَمَا
رَوَاهُ الْخَمْسَةُ- غَيْرَ النَّسَائِيِّ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِمَوَالِي الْعَصَبَةِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ»
وَسَنُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي موَاضعه الْمَذْكُورَة.
[١٣، ١٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعَانِي وَالْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَالْحُدُودُ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ ظَرْفُ الْمَكَانِ الَّذِي يُمَيَّزُ عَنْ مَكَانٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَمْنَعُ تَجَاوُزَهُ، وَاسْتُعْمِلَ الْحُدُودُ هُنَا مَجَازًا فِي الْعَمَلِ الَّذِي لَا تَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ.
وَمَعْنَى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَنَّهُ يُتَابِعُ حُدُودَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ.
وَقَوله: خالِداً فِيها اسْتُعْمِلَ الْخُلُودُ فِي طُولِ الْمُدَّةِ. أَوْ أُرِيدَ مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعِصْيَانُ الْأَتَمُّ وَهُوَ نَبْذُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ وَنَبَذُوا الْكُفْرَ، فَكَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِوَصَايَا الْإِسْلَامِ، فَمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتِ الْإِيمَانِ إِلَّا مَنْ تَابَ.
وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ تَقْسِيمٌ، لِأَنَّ الْعِصْيَانَ أَنْوَاعٌ: مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْخُلُودَ، وَمِنْهُ مَا يُوجِبُ الْعَذَابَ الْمُهِينَ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّ عَطْفَ وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ عَلَى الْخُلُودِ فِي النَّارِ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِهِ التَّقْسِيمُ، فَيُضْطَرُّ إِلَى جَعْلِهِ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ، أَوْ تَقُولُ إِنَّ مَحَطَّ الْعَطْفِ هُوَ وَصْفُهُ بِالْمُهِينِ لِأَنَّ الْعَرَبَ أُبَاةُ الضَّيْمِ، شُمُّ الْأُنُوفِ، فَقَدْ يَحْذَرُونَ الْإِهَانَةَ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْذَرُونَ عَذَابَ النَّارِ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ الْمَأْثُورَةِ فِي حِكَايَاتِهِمُ (النَّارُ وَلَا الْعَارُ). وَفِي كِتَابِ «الْآدَابِ» فِي أَعْجَازِ أَبْيَاتِهِ «وَالْحُرُّ يَصْبِرُ خَوْفَ الْعَارِ لِلنَّارِ».
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ نُدْخِلْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا- بنُون العظمة، وقرأه الْجُمْهُورُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْم الْجَلالَة.
[١٥، ١٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً
وَالْحُدُودُ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ ظَرْفُ الْمَكَانِ الَّذِي يُمَيَّزُ عَنْ مَكَانٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَمْنَعُ تَجَاوُزَهُ، وَاسْتُعْمِلَ الْحُدُودُ هُنَا مَجَازًا فِي الْعَمَلِ الَّذِي لَا تَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ.
وَمَعْنَى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَنَّهُ يُتَابِعُ حُدُودَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ.
وَقَوله: خالِداً فِيها اسْتُعْمِلَ الْخُلُودُ فِي طُولِ الْمُدَّةِ. أَوْ أُرِيدَ مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعِصْيَانُ الْأَتَمُّ وَهُوَ نَبْذُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ وَنَبَذُوا الْكُفْرَ، فَكَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِوَصَايَا الْإِسْلَامِ، فَمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتِ الْإِيمَانِ إِلَّا مَنْ تَابَ.
وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ تَقْسِيمٌ، لِأَنَّ الْعِصْيَانَ أَنْوَاعٌ: مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْخُلُودَ، وَمِنْهُ مَا يُوجِبُ الْعَذَابَ الْمُهِينَ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّ عَطْفَ وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ عَلَى الْخُلُودِ فِي النَّارِ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِهِ التَّقْسِيمُ، فَيُضْطَرُّ إِلَى جَعْلِهِ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ، أَوْ تَقُولُ إِنَّ مَحَطَّ الْعَطْفِ هُوَ وَصْفُهُ بِالْمُهِينِ لِأَنَّ الْعَرَبَ أُبَاةُ الضَّيْمِ، شُمُّ الْأُنُوفِ، فَقَدْ يَحْذَرُونَ الْإِهَانَةَ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْذَرُونَ عَذَابَ النَّارِ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ الْمَأْثُورَةِ فِي حِكَايَاتِهِمُ (النَّارُ وَلَا الْعَارُ). وَفِي كِتَابِ «الْآدَابِ» فِي أَعْجَازِ أَبْيَاتِهِ «وَالْحُرُّ يَصْبِرُ خَوْفَ الْعَارِ لِلنَّارِ».
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ نُدْخِلْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا- بنُون العظمة، وقرأه الْجُمْهُورُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْم الْجَلالَة.
[١٥، ١٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً
268
(١٦)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْضِلٌ، وَافْتِتَاحُهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ أَعْضَلُ، لِاقْتِضَائِهِ اتِّصَالَهَا بِكَلَامٍ قَبْلَهَا. وَقَدْ جَاءَ حدّ الزِّنَا فِي سُورَةِ النُّورِ، وَهِيَ نَازِلَةٌ فِي سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ
غَزْوَة بني الْمُطلق عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي سُورَةِ النُّورِ أَشَدُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ الَّذِي فِي سُورَةِ النُّورِ قَدْ نُسِخَ بِمَا هُنَا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ. فَإِذَا مَضَيْنَا عَلَى مُعْتَادِنَا فِي اعْتِبَارِ الْآيِ نَازِلَةً عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْقِرَاءَةِ فِي سُوَرِهَا، قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عَقِبَ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ وَحِرَاسَةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَجَعَلْنَا الْوَاوَ عَاطِفَةً هَذَا الْحُكْمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء: ٤] وَجَزَمْنَا بِأَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ قَبْلَ أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ مَبْدَأَ شَرْعِ الْعقُوبَة على الزِّنَا فَتَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ لَا مَحَالَةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ بِآيَةِ الْجَلْدِ فِي سُورَةِ النُّورِ. اهـ، وَحَكَى ابْنُ الْفُرْسِ فِي تَرْتِيبِ النَّسْخِ أَقْوَالًا ثَمَانِيَةً لَا نطيل بهَا. فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ حُكْمَ تَشْرِيعٍ عَقِبَ تَشْرِيعٍ لِمُنَاسَبَةٍ: هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى أَحْكَامِ النِّسَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامًا مِنَ النِّكَاحِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وَمَا النِّكَاحُ إِلَّا اجْتِمَاعُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى مُعَاشَرَةٍ عِمَادُهَا التَّآنُسُ وَالسُّكُونُ إِلَى الْأُنْثَى، نَاسَبَ أَنْ يَعْطِفَ إِلَى ذِكْرِ أَحْكَامِ اجْتِمَاعِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِيهِ شرعا، وَهُوَ الزِّنَا الْمُعَبَّرُ عَنهُ بالفاحشة.
فالزنا هُوَ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمُعَاشَرَةِ عَلَى غَيْرِ الْحَالِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ فِي خَرْقِ الْقَوَانِينِ الْمَجْعُولَةِ لِإِبَاحَةِ اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ.
ففِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ طَرِيقُ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَرْأَةِ السَّبْيَ أَوِ الْغَارَةَ أَوِ التَّعْوِيضَ أَوْ رَغْبَةً الرجل فِي مُصَاهَرَةِ قَوْمٍ وَرَغْبَتَهُمْ فِيهِ أَوْ إِذْنَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِأَنْ تَسْتَبْضِعَ مِنْ رَجُلٍ وَلَدًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي الْإِسْلَامِ بَطَلَتِ الْغَارَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِبْضَاعُ، وَلذَلِك تَجِد الزِّنَا لَا يَقَعُ إِلَّا
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْضِلٌ، وَافْتِتَاحُهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ أَعْضَلُ، لِاقْتِضَائِهِ اتِّصَالَهَا بِكَلَامٍ قَبْلَهَا. وَقَدْ جَاءَ حدّ الزِّنَا فِي سُورَةِ النُّورِ، وَهِيَ نَازِلَةٌ فِي سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ
غَزْوَة بني الْمُطلق عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي سُورَةِ النُّورِ أَشَدُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ الَّذِي فِي سُورَةِ النُّورِ قَدْ نُسِخَ بِمَا هُنَا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ. فَإِذَا مَضَيْنَا عَلَى مُعْتَادِنَا فِي اعْتِبَارِ الْآيِ نَازِلَةً عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْقِرَاءَةِ فِي سُوَرِهَا، قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عَقِبَ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ وَحِرَاسَةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَجَعَلْنَا الْوَاوَ عَاطِفَةً هَذَا الْحُكْمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء: ٤] وَجَزَمْنَا بِأَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ قَبْلَ أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ مَبْدَأَ شَرْعِ الْعقُوبَة على الزِّنَا فَتَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ لَا مَحَالَةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ بِآيَةِ الْجَلْدِ فِي سُورَةِ النُّورِ. اهـ، وَحَكَى ابْنُ الْفُرْسِ فِي تَرْتِيبِ النَّسْخِ أَقْوَالًا ثَمَانِيَةً لَا نطيل بهَا. فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ حُكْمَ تَشْرِيعٍ عَقِبَ تَشْرِيعٍ لِمُنَاسَبَةٍ: هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى أَحْكَامِ النِّسَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامًا مِنَ النِّكَاحِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وَمَا النِّكَاحُ إِلَّا اجْتِمَاعُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى مُعَاشَرَةٍ عِمَادُهَا التَّآنُسُ وَالسُّكُونُ إِلَى الْأُنْثَى، نَاسَبَ أَنْ يَعْطِفَ إِلَى ذِكْرِ أَحْكَامِ اجْتِمَاعِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِيهِ شرعا، وَهُوَ الزِّنَا الْمُعَبَّرُ عَنهُ بالفاحشة.
فالزنا هُوَ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمُعَاشَرَةِ عَلَى غَيْرِ الْحَالِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ فِي خَرْقِ الْقَوَانِينِ الْمَجْعُولَةِ لِإِبَاحَةِ اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ.
ففِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ طَرِيقُ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَرْأَةِ السَّبْيَ أَوِ الْغَارَةَ أَوِ التَّعْوِيضَ أَوْ رَغْبَةً الرجل فِي مُصَاهَرَةِ قَوْمٍ وَرَغْبَتَهُمْ فِيهِ أَوْ إِذْنَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِأَنْ تَسْتَبْضِعَ مِنْ رَجُلٍ وَلَدًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي الْإِسْلَامِ بَطَلَتِ الْغَارَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِبْضَاعُ، وَلذَلِك تَجِد الزِّنَا لَا يَقَعُ إِلَّا
269
خِفْيَةً لِأَنَّهُ مُخَالَفَةٌ لِقَوَانِينِ النَّاسِ فِي نِظَامِهِمْ وأخلاقهم. وسمّي الزِّنَا الْفَاحِشَةَ لِأَنَّهُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْفَسَادِ وَأَصْلُ الْفُحْشِ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الْكَرَاهِيَةِ وَالذَّمِّ، مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، أَوْ حَالٍ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى وُقُوعِ الْعَمَلِ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَبْلَ نَسْخِهِمَا.
وَمَعْنَى: يَأْتِينَ يَفْعَلْنَ، وأصل الْإِتْيَان الْمَجِيءُ إِلَى شَيْءٍ فَاسْتُعِيرَ هُنَا الْإِتْيَانُ لِفِعْلِ شَيْءٍ لِأَنَّ فَاعِلَ شَيْءٍ عَنْ قَصْدٍ يُشْبِهُ السَّائِرَ إِلَى مَكَانٍ حَتَّى يَصِلَهُ، يُقَالُ: أَتَى الصَّلَاةَ، أَيْ صَلَّاهَا، وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَرُبَّمَا قَالُوا: أَتَى بِفَاحِشَةٍ وَبِمَكْرُوهٍ كَأَنَّهُ جَاءَ مُصَاحِبًا لَهُ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمْ بَيَانٌ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ. وَالنِّسَاءُ اسْمُ جَمْعِ امْرَأَةٍ، وَهِيَ الْأُنْثَى مِنَ الْإِنْسَانِ، وَتُطْلَقُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ النِّسَاءُ عَلَى الْإِنَاثِ مُطْلَقًا، وَعَلَى الزَّوْجَاتِ خَاصَّةً وَيُعْرَفُ الْمُرَادُ بِالْقَرِينَةِ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: ١١] ثُمَّ قَالَ- وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: ١١] فَقَابَلَ بِالنِّسَاءِ الْقَوْمَ. وَالْمُرَادُ الْإِنَاثُ كُلُّهُنَّ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النِّسَاء: ١١] الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ آنِفًا وَالْمُرَادُ هَنَا مُطْلَقُ النِّسَاءِ فَيَشْمَلُ الْعَذَارَى الْعَزَبَاتِ.
وَضَمِيرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نِسائِكُمْ وَالضَّمَائِرُ الْمُوَالِيَةُ لَهُ، عَائِدَةٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَيَتَعَيَّنُ لِلْقِيَامِ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ مَنْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ. فَضَمِيرُ نِسائِكُمْ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَضَمِيرُ فَاسْتَشْهِدُوا مَخْصُوصٌ بِمَنْ يُهِمُّهُ الْأَمْرُ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَضَمِيرُ فَأَمْسِكُوهُنَّ مَخْصُوصٌ بِوُلَاةِ الْأُمُورِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ الْمَذْكُورَ سِجْنٌ وَهُوَ حُكْمٌ لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْقُضَاةُ، وَهُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَهَذِهِ عُمُومُهَا مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ.
وَهَذِه الْآيَة هِيَ الْأَصْلُ فِي اشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ.
وَيُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ مَا يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى لِإِقَامَةِ الْحَدِّ سَوَاءٌ.
وَمَعْنَى: يَأْتِينَ يَفْعَلْنَ، وأصل الْإِتْيَان الْمَجِيءُ إِلَى شَيْءٍ فَاسْتُعِيرَ هُنَا الْإِتْيَانُ لِفِعْلِ شَيْءٍ لِأَنَّ فَاعِلَ شَيْءٍ عَنْ قَصْدٍ يُشْبِهُ السَّائِرَ إِلَى مَكَانٍ حَتَّى يَصِلَهُ، يُقَالُ: أَتَى الصَّلَاةَ، أَيْ صَلَّاهَا، وَقَالَ الْأَعْشَى:
لِيَعْلَمَ كُلُّ الْوَرَى أَنَّنِي | أَتَيْتُ الْمُرُوءَةَ مِنْ بَابِهَا |
وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمْ بَيَانٌ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ. وَالنِّسَاءُ اسْمُ جَمْعِ امْرَأَةٍ، وَهِيَ الْأُنْثَى مِنَ الْإِنْسَانِ، وَتُطْلَقُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ النِّسَاءُ عَلَى الْإِنَاثِ مُطْلَقًا، وَعَلَى الزَّوْجَاتِ خَاصَّةً وَيُعْرَفُ الْمُرَادُ بِالْقَرِينَةِ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: ١١] ثُمَّ قَالَ- وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: ١١] فَقَابَلَ بِالنِّسَاءِ الْقَوْمَ. وَالْمُرَادُ الْإِنَاثُ كُلُّهُنَّ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النِّسَاء: ١١] الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ آنِفًا وَالْمُرَادُ هَنَا مُطْلَقُ النِّسَاءِ فَيَشْمَلُ الْعَذَارَى الْعَزَبَاتِ.
وَضَمِيرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نِسائِكُمْ وَالضَّمَائِرُ الْمُوَالِيَةُ لَهُ، عَائِدَةٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَيَتَعَيَّنُ لِلْقِيَامِ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ مَنْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ. فَضَمِيرُ نِسائِكُمْ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَضَمِيرُ فَاسْتَشْهِدُوا مَخْصُوصٌ بِمَنْ يُهِمُّهُ الْأَمْرُ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَضَمِيرُ فَأَمْسِكُوهُنَّ مَخْصُوصٌ بِوُلَاةِ الْأُمُورِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ الْمَذْكُورَ سِجْنٌ وَهُوَ حُكْمٌ لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْقُضَاةُ، وَهُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَهَذِهِ عُمُومُهَا مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ.
وَهَذِه الْآيَة هِيَ الْأَصْلُ فِي اشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ.
وَيُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ مَا يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى لِإِقَامَةِ الْحَدِّ سَوَاءٌ.
270
وَالْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ الْبُيُوتُ الَّتِي يُعَيِّنُهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ لِذَلِكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِمْسَاكَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ بَلْ يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِلَى بُيُوتٍ أُخْرَى إلّا إِذا حوّلت بَيْتُ الْمَسْجُونَةِ إِلَى الْوَضْعِ تَحْتَ نَظَرِ الْقَاضِي وَحِرَاسَتِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ عِنْدَ ذِكْرِ الْعِدَّةِ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطَّلَاق:
١].
وَمَعْنَى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ يَتَقَاضَاهُنَّ. يُقَالُ: تَوَفَّى فُلَانٌ حَقَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَاسْتَوْفَاهُ حَقَّهُ. وَالْعَرَبُ تَتَخَيَّلُ الْعُمْرَ مُجَزَّءًا. فَالْأَيَّامُ وَالزَّمَانُ وَالْمَوْتُ يَسْتَخْلِصُهُ مِنْ صَاحِبِهِ مُنَجَّمًا إِلَى أَنْ تَتَوَفَّاهُ. قَالَ طَرَفَةُ:
وَقَالَ أَبُو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ:
وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ تُوُفِّيَ فُلَانٌ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ تَوَفَّى عُمُرَهُ فَجَعَلَ اللَّهُ الْمَوْتَ هُوَ الْمُتَقَاضِيَ لِأَعْمَارِ النَّاسِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ هُوَ أَثَرُ آخِرِ أَنْفَاسِ الْمَرْءِ، فَالتَّوَفِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَارِدٌ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي اللُّغَةِ.
وَمعنى أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَيْ حُكْمًا آخَرَ. فَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِلْأَمْرِ الْبَيِّنِ بِمَعْنَى الْعِقَابِ الْمُنَاسِبِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالطَّرِيقِ الْجَادَّةِ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ زَجْرٌ مُوَقَّتٌ سَيَعْقُبُهُ حُكْمٌ شَافٍ لِمَا يَجِدُهُ النَّاسُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ السُّخْطِ عَلَيْهِنَّ مِمَّا فَعَلْنَ.
وَيَشْمَلُ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ جَمِيع النِّسَاء اللائي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ مُحْصَنَاتٍ وَغَيْرِهِنَّ.
وأمّا قَوْله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها فَهُوَ مُقْتَضٍ نَوْعَيْنِ مِنَ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ تَثْنِيَةُ الَّذِي وَهُوَ اسْمٌ مَوْصُولٌ لِلْمُذَكَّرِ، وَقَدْ قُوبِلَ بِهِ اسْمُ مَوْصُولِ النِّسَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ المُرَاد ب الَّذانِ صِنْفَانِ مِنَ الرِّجَالِ: وَهُمَا صِنْفُ
١].
وَمَعْنَى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ يَتَقَاضَاهُنَّ. يُقَالُ: تَوَفَّى فُلَانٌ حَقَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَاسْتَوْفَاهُ حَقَّهُ. وَالْعَرَبُ تَتَخَيَّلُ الْعُمْرَ مُجَزَّءًا. فَالْأَيَّامُ وَالزَّمَانُ وَالْمَوْتُ يَسْتَخْلِصُهُ مِنْ صَاحِبِهِ مُنَجَّمًا إِلَى أَنْ تَتَوَفَّاهُ. قَالَ طَرَفَةُ:
أَرَى الْعُمْرَ كَنْزًا نَاقِصًا كُلَّ لَيْلَةٍ | وَمَا تَنْقُصُ الْأَيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدُ |
إِذَا مَا تَقَاضَى الْمَرْءَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ | تَقَاضَاهُ شَيْءٌ لَا يَمَلُّ التَّقَاضِيَا |
وَمعنى أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَيْ حُكْمًا آخَرَ. فَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِلْأَمْرِ الْبَيِّنِ بِمَعْنَى الْعِقَابِ الْمُنَاسِبِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالطَّرِيقِ الْجَادَّةِ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ زَجْرٌ مُوَقَّتٌ سَيَعْقُبُهُ حُكْمٌ شَافٍ لِمَا يَجِدُهُ النَّاسُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ السُّخْطِ عَلَيْهِنَّ مِمَّا فَعَلْنَ.
وَيَشْمَلُ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ جَمِيع النِّسَاء اللائي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ مُحْصَنَاتٍ وَغَيْرِهِنَّ.
وأمّا قَوْله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها فَهُوَ مُقْتَضٍ نَوْعَيْنِ مِنَ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ تَثْنِيَةُ الَّذِي وَهُوَ اسْمٌ مَوْصُولٌ لِلْمُذَكَّرِ، وَقَدْ قُوبِلَ بِهِ اسْمُ مَوْصُولِ النِّسَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ المُرَاد ب الَّذانِ صِنْفَانِ مِنَ الرِّجَالِ: وَهُمَا صِنْفُ
271
الْمُحْصَنِينَ، وَصِنْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِينَ مِنْهُمْ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَبِهِ يَتَقَوَّمُ مَعْنًى بَيِّنٌ غَيْرُ مُتَدَاخِلٍ وَلَا مُكَرَّرٍ. وَوَجْهُ الْإِشْعَارِ بِصِنْفَيِ الزُّنَاةِ مِنَ الرِّجَالِ التَّحَرُّزُ مِنِ الْتِمَاسِ الْعُذْرِ فِيهِ لِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَيِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ الَّذِي يَكْثُرُ فِي مِثْلِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْآيَةُ قَدْ جَعَلَتْ لِلنِّسَاءِ عُقُوبَةً وَاحِدَةً عَلَى الزِّنَى وَهِيَ عُقُوبَةُ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ، وَلِلرِّجَالِ عُقُوبَةً عَلَى الزِّنَى، هِيَ الْأَذَى سَوَاءٌ كَانُوا مُحْصَنِينَ بِزَوْجَاتٍ أَمْ غَيْرَ مُحْصَنِينَ، وَهُمُ الْأَعْزَبُونَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ قَدْ جَعَلَتْ لِلنِّسَاءِ عُقُوبَتَيْنِ: عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ بِهِنَّ وَهِيَ الْحَبْسُ، وَعُقُوبَةٌ لَهُنَّ كَعُقُوبَةِ الرِّجَالِ وَهِيَ الْأَذَى، فَيَكُونُ الْحَبْسُ لَهُنَّ مَعَ عُقُوبَةِ الْأَذَى. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يُسْتَفَادُ اسْتِوَاءُ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ مِنَ الصِّنْفَيْنِ فِي كِلْتَا الْعُقُوبَتَيْنِ، فَأَمَّا الرِّجَالُ فَبِدَلَالَةِ تَثْنِيَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُرَادِ بِهَا صِنْفَانِ اثْنَانِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَبِدَلَالَةِ عُمُومِ صِيغَةِ نِسائِكُمْ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: يَأْتِيانِها عَائِدٌ إِلَى الْفَاحِشَةِ الْمَذْكُورَة وَهِي الزِّنَا. وَلَا الْتِفَاتَ لِكَلَامِ مَنْ تَوَهَّمَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَالْإِيذَاءُ: الْإِيلَامُ غَيْرُ الشَّدِيدِ بِالْفِعْلِ كَالضَّرْبِ غَيْرِ الْمُبَرِّحِ، وَالْإِيلَامُ بِالْقَوْلِ مِنْ شَتْمٍ وَتَوْبِيخٍ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْجَلْدِ، وَالْآيَةُ أَجْمَلَتْهُ، فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ.
وَقد اخْتلف أئمّة الْإِسْلَامِ فِي كَيْفيَّة انتزاع هذَيْن الْعُقُوبَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ يَعُمُّ النِّسَاءَ خَاصَّةً فَشَمَلَ كُلَّ امْرَأَةٍ فِي سَائِرِ الْأَحْوَال بكرا كَانَت أَمْ ثيّبا، وَقَوله: وَالَّذانِ تَثْنِيَةٌ أُرِيدَ بِهَا نَوْعَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَهُمُ الْمُحْصَنُ وَالْبِكْرُ، فَيَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ يَخْتَصُّ بِالزَّوَانِي كُلِّهِنَّ، وَحُكْمَ الْأَذَى يَخْتَصُّ بِالزُّنَاةِ كُلِّهِمْ، فَاسْتُفِيدَ التَّعْمِيمُ فِي الْحَالَتَيْنِ إِلَّا أَنَّ اسْتِفَادَتَهُ فِي الْأُولَى مِنْ صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مِنِ انْحِصَارِ النَّوْعَيْنِ، وَقَدْ كَانَ يُغْنِي أَنْ يُقَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ، وَالَّذِينَ يَأْتُونَ، إِلَّا أَنَّهُ سُلِكَ هَذَا الْأُسْلُوبُ لِيَحْصُلَ الْعُمُومُ بِطَرِيقَيْنِ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى شُمُولِ النَّوْعَيْنِ.
وَجُعِلَ لَفْظُ (اللَّاتِي) لِلْعُمُومِ لِيُسْتَفَادَ الْعُمُومُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَطْ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: يَأْتِيانِها عَائِدٌ إِلَى الْفَاحِشَةِ الْمَذْكُورَة وَهِي الزِّنَا. وَلَا الْتِفَاتَ لِكَلَامِ مَنْ تَوَهَّمَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَالْإِيذَاءُ: الْإِيلَامُ غَيْرُ الشَّدِيدِ بِالْفِعْلِ كَالضَّرْبِ غَيْرِ الْمُبَرِّحِ، وَالْإِيلَامُ بِالْقَوْلِ مِنْ شَتْمٍ وَتَوْبِيخٍ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْجَلْدِ، وَالْآيَةُ أَجْمَلَتْهُ، فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ.
وَقد اخْتلف أئمّة الْإِسْلَامِ فِي كَيْفيَّة انتزاع هذَيْن الْعُقُوبَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ يَعُمُّ النِّسَاءَ خَاصَّةً فَشَمَلَ كُلَّ امْرَأَةٍ فِي سَائِرِ الْأَحْوَال بكرا كَانَت أَمْ ثيّبا، وَقَوله: وَالَّذانِ تَثْنِيَةٌ أُرِيدَ بِهَا نَوْعَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَهُمُ الْمُحْصَنُ وَالْبِكْرُ، فَيَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ يَخْتَصُّ بِالزَّوَانِي كُلِّهِنَّ، وَحُكْمَ الْأَذَى يَخْتَصُّ بِالزُّنَاةِ كُلِّهِمْ، فَاسْتُفِيدَ التَّعْمِيمُ فِي الْحَالَتَيْنِ إِلَّا أَنَّ اسْتِفَادَتَهُ فِي الْأُولَى مِنْ صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مِنِ انْحِصَارِ النَّوْعَيْنِ، وَقَدْ كَانَ يُغْنِي أَنْ يُقَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ، وَالَّذِينَ يَأْتُونَ، إِلَّا أَنَّهُ سُلِكَ هَذَا الْأُسْلُوبُ لِيَحْصُلَ الْعُمُومُ بِطَرِيقَيْنِ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى شُمُولِ النَّوْعَيْنِ.
وَجُعِلَ لَفْظُ (اللَّاتِي) لِلْعُمُومِ لِيُسْتَفَادَ الْعُمُومُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَطْ.
272
وَجُعِلَ لَفْظُ (واللَّذَانِ) لِلنَّوْعَيْنِ لِأَنَّ مُفْرَدَهُ وَهُوَ الَّذِي صَالِحٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى النَّوْعِ، إِذِ النَّوْعُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُذَكَّرِ مِثْلِ الشَّخْصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ فِي الْعِبَارَةِ فَكَانَتْ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ هَاتِهِ الْآيَةُ غَايَةً فِي الْإِعْجَازِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ مَعْنَى مَا قَابَلَ الرِّجَالَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجْدُرُ حَمْلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ.
وَالْأَذَى أُرِيدَ بِهِ هُنَا غَيْرُ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ سَبَقَ تَخْصِيصُهُ بِالنِّسَاءِ وَغَيْرُ الْجَلْدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بَعْدُ، فَقِيلَ: هُوَ الْكَلَامُ الْغَلِيظُ وَالشَّتْمُ وَالتَّعْيِيرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَضَرْبُ النِّعَالِ، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِهِ أَنَّ الْآيَةَ شُرِعَتْ عُقُوبَةً لِلزِّنَا قَبْلَ عُقُوبَةِ الْجَلْدِ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أنّ هَذَا حكم مَنْسُوخٌ بِالْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَبِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ رَجْمِ الْمُحْصَنِينَ وَلَيْسَ تَحْدِيدُ هَذَا الْحُكْمِ بِغَايَةِ قَوْلِهِ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِصَارِفٍ مَعْنَى النَّسْخِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، لِأَنَّ الْغَايَةَ جُعِلَتْ مُبْهَمَةً، فَالْمُسْلِمُونَ يَتَرَقَّبُونَ وُرُودَ حُكْمٍ آخَرَ، بَعْدَ هَذَا، لَا غِنًى لَهُمْ عَنْ إِعْلَامِهِمْ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ النَّسْخِ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْجَرَائِمِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيهَا عُقُوبَةٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَنْ تُنْسَخَ بِأَثْقَلَ مِنْهَا، فَشُرِعَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى لِلزُّنَاةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَشُرِعَ الْجَلْدُ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَالْجَلْدُ أَشَدُّ مِنَ الْحَبْسِ وَمِنَ الْأَذَى، وَقَدْ سُوِّيَ فِي الْجَلْدِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَالرَّجُلِ، إِذِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا لَا وَجْهَ لِبَقَائِهَا، إِذْ كِلَاهُمَا قَدْ خَرَقَ حُكْمًا شَرْعِيًّا تَبَعًا لِشَهْوَةٍ نَفْسِيَّةٍ أَوْ طَاعَةً لِغَيْرِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْجَلْدَ الْمُعَيَّنَ شُرِعَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مَحْمَلِ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النُّور: ٢] فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ كَذَلِكَ فِي الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي: مُحْصَنِينَ أَوْ أَبْكَارًا، فَقَدْ نَسَخَهُ الرَّجْمُ فِي خُصُوصِ الْمُحْصَنِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْعَمَلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِنْ كَانَ الْجَلْدُ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ إِلَّا فِي الْبِكْرَيْنِ فَقَدْ قُيِّدَ أَوْ خُصِّصَ بِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ، إِذْ جُعِلَ حُكْمُهُمَا الرَّجْمَ. وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَنِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الرَّجْمُ. وَالْمُحَصَنُ هُوَ مَنْ تَزَوَّجَ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ وَوَقَعَ الْبِنَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَقْدِ بِنَاءً صَحِيحًا. وَحُكْمُ الرَّجْمِ ثَبَتَ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فِي شَرِيعَةِ
وَالْأَذَى أُرِيدَ بِهِ هُنَا غَيْرُ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ سَبَقَ تَخْصِيصُهُ بِالنِّسَاءِ وَغَيْرُ الْجَلْدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بَعْدُ، فَقِيلَ: هُوَ الْكَلَامُ الْغَلِيظُ وَالشَّتْمُ وَالتَّعْيِيرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَضَرْبُ النِّعَالِ، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِهِ أَنَّ الْآيَةَ شُرِعَتْ عُقُوبَةً لِلزِّنَا قَبْلَ عُقُوبَةِ الْجَلْدِ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أنّ هَذَا حكم مَنْسُوخٌ بِالْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَبِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ رَجْمِ الْمُحْصَنِينَ وَلَيْسَ تَحْدِيدُ هَذَا الْحُكْمِ بِغَايَةِ قَوْلِهِ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِصَارِفٍ مَعْنَى النَّسْخِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، لِأَنَّ الْغَايَةَ جُعِلَتْ مُبْهَمَةً، فَالْمُسْلِمُونَ يَتَرَقَّبُونَ وُرُودَ حُكْمٍ آخَرَ، بَعْدَ هَذَا، لَا غِنًى لَهُمْ عَنْ إِعْلَامِهِمْ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ النَّسْخِ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْجَرَائِمِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيهَا عُقُوبَةٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَنْ تُنْسَخَ بِأَثْقَلَ مِنْهَا، فَشُرِعَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى لِلزُّنَاةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَشُرِعَ الْجَلْدُ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَالْجَلْدُ أَشَدُّ مِنَ الْحَبْسِ وَمِنَ الْأَذَى، وَقَدْ سُوِّيَ فِي الْجَلْدِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَالرَّجُلِ، إِذِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا لَا وَجْهَ لِبَقَائِهَا، إِذْ كِلَاهُمَا قَدْ خَرَقَ حُكْمًا شَرْعِيًّا تَبَعًا لِشَهْوَةٍ نَفْسِيَّةٍ أَوْ طَاعَةً لِغَيْرِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْجَلْدَ الْمُعَيَّنَ شُرِعَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مَحْمَلِ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النُّور: ٢] فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ كَذَلِكَ فِي الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي: مُحْصَنِينَ أَوْ أَبْكَارًا، فَقَدْ نَسَخَهُ الرَّجْمُ فِي خُصُوصِ الْمُحْصَنِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْعَمَلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِنْ كَانَ الْجَلْدُ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ إِلَّا فِي الْبِكْرَيْنِ فَقَدْ قُيِّدَ أَوْ خُصِّصَ بِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ، إِذْ جُعِلَ حُكْمُهُمَا الرَّجْمَ. وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَنِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الرَّجْمُ. وَالْمُحَصَنُ هُوَ مَنْ تَزَوَّجَ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ وَوَقَعَ الْبِنَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَقْدِ بِنَاءً صَحِيحًا. وَحُكْمُ الرَّجْمِ ثَبَتَ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فِي شَرِيعَةِ
273
التَّوْرَاةِ لِلْمَرْأَةِ إِذَا زَنَتْ وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ، فَقَدْ
أَخْرَجَ مَالِكٌ، فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَرِجَالُ الصَّحِيحِ كُلُّهُمْ، حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ» فَقَالُوا «نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ» فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ «كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ» فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ «ارْفَعْ يَدَكَ» فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَقَالُوا: «صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ» فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا
وَقَدْ ذكر حكم الزِّنَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ (٢٢) فَقَالَ «إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعًا مَعَ امْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ يُقْتَلُ الِاثْنَانِ، وَإِذَا وَجَدَ رَجُلٌ فَتَاةً عَذْرَاءَ غَيْرَ مَخْطُوبَةٍ فَاضْطَجَعَ مَعَهَا فَوُجِدَا، يُعْطِي الرَّجُلُ الَّذِي اضْطَجَعَ مَعَهَا لِأَبِي الْفَتَاةِ خَمْسِينَ مِنَ الْفِضَّةِ وَتَكُونُ هِيَ لَهُ زَوْجَةً وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كُلَّ أَيَّامِهِ».
وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ فِي الْإِسْلَامِ بِمَا
رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ضَرْبُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»
. وَمُقْتَضَاهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا تَوَهُّمًا مِنَ الرَّاوِي عَنْ عُبَادَةَ أَوِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْعُلَمَاءُ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. وَنَسَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْجَمْعَ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ. وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. وَلَمْ يَصِحَّ. ثُمَّ ثَبَتَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَضَاءِ بِالرَّجْمِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: أوّلها قضيّة مَا عز بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ،
أَنَّهُ جَاءَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعترف بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ بَعَثَ
إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ: بِهِ جُنُونٌ؟ قَالُوا: لَا، وأبكر هُوَ أَمْ ثَيِّبٌ؟ قَالُوا: بَلْ ثَيِّبٌ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ
. الثَّانِي: قَضِيَّةُ الْغَامِدِيَّةِ،
أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْترفت بِالزِّنَا وَهِيَ حُبْلَى فَأَمَرَهَا أَنْ تَذْهَبَ حَتَّى تَضَعَ، ثُمَّ حَتَّى تُرْضِعَهُ، فَلَمَّا أَتَمَّتْ رَضَاعَهُ جَاءَتْ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ.
أَخْرَجَ مَالِكٌ، فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَرِجَالُ الصَّحِيحِ كُلُّهُمْ، حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ» فَقَالُوا «نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ» فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ «كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ» فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ «ارْفَعْ يَدَكَ» فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَقَالُوا: «صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ» فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا
وَقَدْ ذكر حكم الزِّنَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ (٢٢) فَقَالَ «إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعًا مَعَ امْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ يُقْتَلُ الِاثْنَانِ، وَإِذَا وَجَدَ رَجُلٌ فَتَاةً عَذْرَاءَ غَيْرَ مَخْطُوبَةٍ فَاضْطَجَعَ مَعَهَا فَوُجِدَا، يُعْطِي الرَّجُلُ الَّذِي اضْطَجَعَ مَعَهَا لِأَبِي الْفَتَاةِ خَمْسِينَ مِنَ الْفِضَّةِ وَتَكُونُ هِيَ لَهُ زَوْجَةً وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كُلَّ أَيَّامِهِ».
وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ فِي الْإِسْلَامِ بِمَا
رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ضَرْبُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»
. وَمُقْتَضَاهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا تَوَهُّمًا مِنَ الرَّاوِي عَنْ عُبَادَةَ أَوِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْعُلَمَاءُ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. وَنَسَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْجَمْعَ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ. وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. وَلَمْ يَصِحَّ. ثُمَّ ثَبَتَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَضَاءِ بِالرَّجْمِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: أوّلها قضيّة مَا عز بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ،
أَنَّهُ جَاءَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعترف بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ بَعَثَ
إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ: بِهِ جُنُونٌ؟ قَالُوا: لَا، وأبكر هُوَ أَمْ ثَيِّبٌ؟ قَالُوا: بَلْ ثَيِّبٌ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ
. الثَّانِي: قَضِيَّةُ الْغَامِدِيَّةِ،
أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْترفت بِالزِّنَا وَهِيَ حُبْلَى فَأَمَرَهَا أَنْ تَذْهَبَ حَتَّى تَضَعَ، ثُمَّ حَتَّى تُرْضِعَهُ، فَلَمَّا أَتَمَّتْ رَضَاعَهُ جَاءَتْ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ.
274
الثَّالِثُ:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ- وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا-: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ؟ قَالَ: تَكَلَّمْ. قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ- وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا- وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ (هُوَ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ وَيُقَالُ ابْنُ مَرْثَدٍ الْأَسْلَمِيُّ) عَلَى زَوْجَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا
. قَالَ مَالِكٌ وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ. هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُرْسَلٌ مِنْهَا اثْنَانِ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَهِيَ مُسْنَدَةٌ فِي غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِهَا وَبِالْعَمَلِ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِينَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ نَسَخَ الْقُرْآنَ. يُرِيدُ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ لَدَى الصَّحَابَةِ فَلِتَوَاتُرِهِ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا مَا بَلَغَ إِلَيْنَا وَإِلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ فَهُوَ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تبلغ مبلغ متواتر، فَالْحَقُّ أَنَّ دَلِيلَ رَجْمِ الْمُحْصَنِينَ هُوَ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَنَتَعَرَّضُ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بِالرَّجْمِ الشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.
وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ نَاسِخٌ لِحُكْمِ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ قَائِلُونَ بِأَنَّ دَلِيلَ النَّسْخِ هُوَ حَدِيث قد: يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَفِيهِ (وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) فَتَضَمَّنَ الْجَلْدَ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِلشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَأَوْرَدَ الْجَصَّاصُ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ لَا يَرَى الْأَمْرَيْنِ، وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مُغَيَّاةٌ، فَالْحَدِيثُ بَيَّنَ الْغَايَةَ، وَأَنَّ آيَةَ النُّورِ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ خَصَّصَهَا مِنْ قَبْلِ نُزُولِهَا. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ آيَةُ النُّورِ نَزَلَتْ تَقْرِيرًا لِبَعْضِ الْحُكْمِ الَّذِي فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مُغَيَّاةٌ، لَا يُجْدِي لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُبْهَمَةَ لَمَّا كَانَ بَيَانُهَا إِبْطَالًا لِحُكْمِ الْمُغَيَّى فَاعْتِبَارُهَا اعْتِبَارُ النَّسْخِ، وَهَلِ النَّسْخُ كُلُّهُ إِلَّا إِيذَانٌ بِوُصُولِ غَايَةِ الْحُكْمِ الْمُرَادَةِ لِلَّهِ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ،
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ- وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا-: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ؟ قَالَ: تَكَلَّمْ. قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ- وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا- وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ (هُوَ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ وَيُقَالُ ابْنُ مَرْثَدٍ الْأَسْلَمِيُّ) عَلَى زَوْجَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا
. قَالَ مَالِكٌ وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ. هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُرْسَلٌ مِنْهَا اثْنَانِ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَهِيَ مُسْنَدَةٌ فِي غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِهَا وَبِالْعَمَلِ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِينَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ نَسَخَ الْقُرْآنَ. يُرِيدُ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ لَدَى الصَّحَابَةِ فَلِتَوَاتُرِهِ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا مَا بَلَغَ إِلَيْنَا وَإِلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ فَهُوَ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تبلغ مبلغ متواتر، فَالْحَقُّ أَنَّ دَلِيلَ رَجْمِ الْمُحْصَنِينَ هُوَ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَنَتَعَرَّضُ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بِالرَّجْمِ الشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.
وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ نَاسِخٌ لِحُكْمِ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ قَائِلُونَ بِأَنَّ دَلِيلَ النَّسْخِ هُوَ حَدِيث قد: يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَفِيهِ (وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) فَتَضَمَّنَ الْجَلْدَ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِلشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَأَوْرَدَ الْجَصَّاصُ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ لَا يَرَى الْأَمْرَيْنِ، وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مُغَيَّاةٌ، فَالْحَدِيثُ بَيَّنَ الْغَايَةَ، وَأَنَّ آيَةَ النُّورِ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ خَصَّصَهَا مِنْ قَبْلِ نُزُولِهَا. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ آيَةُ النُّورِ نَزَلَتْ تَقْرِيرًا لِبَعْضِ الْحُكْمِ الَّذِي فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مُغَيَّاةٌ، لَا يُجْدِي لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُبْهَمَةَ لَمَّا كَانَ بَيَانُهَا إِبْطَالًا لِحُكْمِ الْمُغَيَّى فَاعْتِبَارُهَا اعْتِبَارُ النَّسْخِ، وَهَلِ النَّسْخُ كُلُّهُ إِلَّا إِيذَانٌ بِوُصُولِ غَايَةِ الْحُكْمِ الْمُرَادَةِ لِلَّهِ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ،
275
فَذِكْرُهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَى إِبْهَامِهَا لَا يَكْسُو النُّزُولَ غَيْرَ شِعَارِ النَّسْخِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ شُرِعَ الْأَذَى ثُمَّ نُسِخَ بِالْحَبْسِ فِي
الْبُيُوتِ وَإِنْ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ مُتَأَخِّرًا. وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ فَلَا مُخَلِّصَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إِلَّا بِأَنْ نَجْعَلَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ، وَعَلَى تَعْوِيضِهِ بِالْحَدِّ فِي زمَان النبوءة فيؤول إِلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَيَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ الْجَصَّاصُ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ لِلنَّصِّ تَتَضَمَّنُ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخٌ لِلنَّصِّ.
وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ شُرِعَ بَعْدَ الْجَلْدِ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِيهِ تَضَمَّنَتِ التَّغْرِيبَ مَعَ الْجَلْدِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَغْرِيبٌ بَعْدَ الرَّجْمِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ لَا مَحَالَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ فَهُوَ نَسْخٌ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ: أَجْمَعَ رَأْيُ خِيَارِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ يُغَرَّبُ مِنْهُ، وَتَمَادَى ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَ كُلُّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا غُرِّبَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فأقرّه فِي الزِّنَا خَاصَّةً. قُلْتُ: وَكَانَ فِي الْعَرَبِ الْخَلْعُ وَهُوَ أَنْ يُخْلَعَ الرَّجُلُ مِنْ قَبِيلَتِهِ، وَيَشْهَدُونَ بِذَلِكَ فِي الْمَوْسِمِ، فَإِنْ جَرَّ جَرِيرَةً لَا يُطَالَبُ بِهَا قَوْمُهُ، وَإِنِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ لَا يَطْلُبُ قَوْمُهُ دِيَةً وَلَا نَحْوَهَا، وَقَدْ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِهِ الذِّيبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعَيَّلِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَرَّبُ لِأَنَّ تَغْرِيبَهَا ضَيْعَةٌ، وَأَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ لِأَنَّهُ نَقْلُ ضُرٍّ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَعَوَّضَهُ بِالسَّجْنِ وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالضَّرْبِ وَلَا يُظَنُّ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ شَرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ وَرَجَمَهَا بَعْدَ الْجَلْدِ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
. وَقُرِنَ بِالْفَاءِ خَبَرُ الْمَوْصُولَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَشْهِدُوا وَقَوْلِهِ فَآذُوهُما لِأَنَّ الْمَوْصُولَ أُشْرِبَ مَعْنَى الشَّرْطِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صِلَةَ الْمَوْصُولِ سَبَبٌ فِي الْحُكْمِ الدَّالِّ عَلَيْهِ خَبَرُهُ، فَصَارَ خَبَرُ الْمَوْصُولِ مِثْلَ جَوَابِ الشَّرْطِ وَيَظْهَرُ لِي أنّ ذَلِك عِنْد مَا يَكُونُ الْخَبَرُ جُمْلَةً، وَغَيْرَ صَالِحَةٍ لِمُبَاشَرَةِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ جَزَاءً لَلَزِمَ
الْبُيُوتِ وَإِنْ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ مُتَأَخِّرًا. وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ فَلَا مُخَلِّصَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إِلَّا بِأَنْ نَجْعَلَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ، وَعَلَى تَعْوِيضِهِ بِالْحَدِّ فِي زمَان النبوءة فيؤول إِلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَيَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ الْجَصَّاصُ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ لِلنَّصِّ تَتَضَمَّنُ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخٌ لِلنَّصِّ.
وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ شُرِعَ بَعْدَ الْجَلْدِ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِيهِ تَضَمَّنَتِ التَّغْرِيبَ مَعَ الْجَلْدِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَغْرِيبٌ بَعْدَ الرَّجْمِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ لَا مَحَالَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ فَهُوَ نَسْخٌ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ: أَجْمَعَ رَأْيُ خِيَارِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ يُغَرَّبُ مِنْهُ، وَتَمَادَى ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَ كُلُّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا غُرِّبَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فأقرّه فِي الزِّنَا خَاصَّةً. قُلْتُ: وَكَانَ فِي الْعَرَبِ الْخَلْعُ وَهُوَ أَنْ يُخْلَعَ الرَّجُلُ مِنْ قَبِيلَتِهِ، وَيَشْهَدُونَ بِذَلِكَ فِي الْمَوْسِمِ، فَإِنْ جَرَّ جَرِيرَةً لَا يُطَالَبُ بِهَا قَوْمُهُ، وَإِنِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ لَا يَطْلُبُ قَوْمُهُ دِيَةً وَلَا نَحْوَهَا، وَقَدْ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِهِ الذِّيبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعَيَّلِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَرَّبُ لِأَنَّ تَغْرِيبَهَا ضَيْعَةٌ، وَأَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ لِأَنَّهُ نَقْلُ ضُرٍّ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَعَوَّضَهُ بِالسَّجْنِ وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالضَّرْبِ وَلَا يُظَنُّ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ شَرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ وَرَجَمَهَا بَعْدَ الْجَلْدِ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
. وَقُرِنَ بِالْفَاءِ خَبَرُ الْمَوْصُولَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَشْهِدُوا وَقَوْلِهِ فَآذُوهُما لِأَنَّ الْمَوْصُولَ أُشْرِبَ مَعْنَى الشَّرْطِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صِلَةَ الْمَوْصُولِ سَبَبٌ فِي الْحُكْمِ الدَّالِّ عَلَيْهِ خَبَرُهُ، فَصَارَ خَبَرُ الْمَوْصُولِ مِثْلَ جَوَابِ الشَّرْطِ وَيَظْهَرُ لِي أنّ ذَلِك عِنْد مَا يَكُونُ الْخَبَرُ جُمْلَةً، وَغَيْرَ صَالِحَةٍ لِمُبَاشَرَةِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ جَزَاءً لَلَزِمَ
276
اقْتِرَانُهَا بِالْفَاءِ.
هَكَذَا وَجَدْنَا مِنِ اسْتِقْرَاءِ كَلَامِهِمْ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ إِنَّمَا يَقع فِي الصَّلَاة الَّتِي تومىء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهَا الَّتِي تُعْطِي رَائِحَةَ التَّسَبُّبِ فِي الْخَبَرِ الْوَارِدِ بَعْدَهَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ دُخُولَ الْفَاءِ عَلَامَةً عَلَى كَوْنِ الْفَاءِ نَائِبَةً عَنْ (أَمَّا).
وَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ إِتْيَانَ النِّسَاءِ بِالْفَاحِشَةِ هُوَ الَّذِي سَبَّبَ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بُنِيَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى جَعْلِ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ هُوَ الْخَبَرَ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ صُورِيٌّ وَإِلَّا فَإِنَّ الْخَبَرَ هُوَ فَأَمْسِكُوهُنَّ لَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ جَوَابًا لِشَرْطٍ هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى فَإِنْ شَهِدُوا فَفَاءُ
فَاسْتَشْهِدُوا هِيَ الْفَاءُ الْمُشْبِهَةُ لِفَاءِ الْجَوَابِ، وَفَاءُ فَإِنْ شَهِدُوا تَفْرِيعِيَّةٌ، وَفَاءُ فَأَمْسِكُوهُنَّ جَزَائِيَّةٌ، وَلَوْلَا قَصْدُ الِاهْتِمَامِ بِإِعْدَادِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ لَقِيلَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِنْ شَهِدَ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَة مِنْكُم.
[١٧، ١٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
اسْتِطْرَادٌ جَرَّ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما [النِّسَاء: ١٦] وَالتَّوْبَةُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي قَوْلِهِ، فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٠] : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.
وإِنَّمَا لِلْحَصْرِ.
وعَلَى هُنَا حَرْفٌ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّعَهُّدِ وَالتَّحَقُّقِ كَقَوْلِكَ: عَلَيَّ لَكَ كَذَا فَهِيَ تُفِيدُ تَحَقُّقَ التَّعَهُّدِ. وَالْمَعْنَى: التَّوْبَةُ تَحِقُّ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا مَجَازٌ فِي تَأْكِيدِ
هَكَذَا وَجَدْنَا مِنِ اسْتِقْرَاءِ كَلَامِهِمْ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ إِنَّمَا يَقع فِي الصَّلَاة الَّتِي تومىء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهَا الَّتِي تُعْطِي رَائِحَةَ التَّسَبُّبِ فِي الْخَبَرِ الْوَارِدِ بَعْدَهَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ دُخُولَ الْفَاءِ عَلَامَةً عَلَى كَوْنِ الْفَاءِ نَائِبَةً عَنْ (أَمَّا).
وَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ إِتْيَانَ النِّسَاءِ بِالْفَاحِشَةِ هُوَ الَّذِي سَبَّبَ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بُنِيَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى جَعْلِ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ هُوَ الْخَبَرَ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ صُورِيٌّ وَإِلَّا فَإِنَّ الْخَبَرَ هُوَ فَأَمْسِكُوهُنَّ لَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ جَوَابًا لِشَرْطٍ هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى فَإِنْ شَهِدُوا فَفَاءُ
فَاسْتَشْهِدُوا هِيَ الْفَاءُ الْمُشْبِهَةُ لِفَاءِ الْجَوَابِ، وَفَاءُ فَإِنْ شَهِدُوا تَفْرِيعِيَّةٌ، وَفَاءُ فَأَمْسِكُوهُنَّ جَزَائِيَّةٌ، وَلَوْلَا قَصْدُ الِاهْتِمَامِ بِإِعْدَادِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ لَقِيلَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِنْ شَهِدَ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَة مِنْكُم.
[١٧، ١٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
اسْتِطْرَادٌ جَرَّ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما [النِّسَاء: ١٦] وَالتَّوْبَةُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي قَوْلِهِ، فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٠] : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.
وإِنَّمَا لِلْحَصْرِ.
وعَلَى هُنَا حَرْفٌ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّعَهُّدِ وَالتَّحَقُّقِ كَقَوْلِكَ: عَلَيَّ لَكَ كَذَا فَهِيَ تُفِيدُ تَحَقُّقَ التَّعَهُّدِ. وَالْمَعْنَى: التَّوْبَةُ تَحِقُّ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا مَجَازٌ فِي تَأْكِيدِ
277
الْوَعْدِ بِقَبُولِهَا حَتَّى جُعِلَتْ كَالْحَقِّ عَلَى اللَّهِ، وَلَا شَيْءَ بِوَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ إِلَّا وُجُوبُ وَعْدِهِ بِفَضْلِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ أَشْيَاءَ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ يَقْتَضِي وُجُوبَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ سَمْعًا وَلَيْسَ وُجُوبًا.
وَقَدْ تَسَلَّطَ الْحَصْرُ عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ، وَذُكِرَ لَهُ قَيْدَانِ وَهُمَا بِجَهالَةٍ ومِنْ قَرِيبٍ. وَالْجَهَالَةُ تُطْلَقُ عَلَى سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَعَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ رَوِيَّةٍ، وَهِيَ مَا قَابَلَ الْحِلْمَ، وَلِذَلِكَ تُطْلَقُ الْجَهَالَةُ عَلَى الظُّلْمِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
وَقَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ». وَالْمُرَادُ هُنَا ظُلْمُ النَّفْسِ، وَذُكِرَ هَذَا الْقَيْدُ هُنَا لِمُجَرَّدِ تَشْوِيهِ عَمَلِ السُّوءِ، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، إِذْ لَا يَكُونُ عَمَلُ السُّوءِ إِلَّا كَذَلِكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجَهَالَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَهْلِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا فَعَلَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى جَهَالَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَعَانِي لَفْظِ
الْجَهْلِ، وَلَوْ عَمِلَ أَحَدٌ مَعْصِيَةً وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يتعلّم ذَلِك ويجتنّبه.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَرِيبٍ، مِنْ فِيهِ لِلِابْتِدَاءِ وقَرِيبٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ مِنْ زَمَنٍ قَرِيبٍ مِنْ وَقْتِ عَمَلِ السُّوءِ.
وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى مِنْ قَرِيبٍ بِأَنَّ الْقَرِيبَ هُوَ مَا قَبْلَ الِاحْتِضَارِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ بَعْدَهُ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ مَعْنَى (قَرِيبٍ).
وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي إِعْمَالِ مَفْهُومِ الْقَيْدَيْنِ «بِجَهَالَةٍ- مِنْ قَرِيبٍ» حَتَّى قِيلَ: إِنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨]، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ قيد (بِجَهَالَة) كوصف كَاشِفٌ لِعَمَلِ السُّوءِ لِأَنَّ الْمُرَادَ عَمَلُ السُّوءِ مَعَ الْإِيمَانِ. فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوْا أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ عَمْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ أَشْيَاءَ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ يَقْتَضِي وُجُوبَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ سَمْعًا وَلَيْسَ وُجُوبًا.
وَقَدْ تَسَلَّطَ الْحَصْرُ عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ، وَذُكِرَ لَهُ قَيْدَانِ وَهُمَا بِجَهالَةٍ ومِنْ قَرِيبٍ. وَالْجَهَالَةُ تُطْلَقُ عَلَى سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَعَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ رَوِيَّةٍ، وَهِيَ مَا قَابَلَ الْحِلْمَ، وَلِذَلِكَ تُطْلَقُ الْجَهَالَةُ عَلَى الظُّلْمِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا | فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا |
الْجَهْلِ، وَلَوْ عَمِلَ أَحَدٌ مَعْصِيَةً وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يتعلّم ذَلِك ويجتنّبه.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَرِيبٍ، مِنْ فِيهِ لِلِابْتِدَاءِ وقَرِيبٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ مِنْ زَمَنٍ قَرِيبٍ مِنْ وَقْتِ عَمَلِ السُّوءِ.
وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى مِنْ قَرِيبٍ بِأَنَّ الْقَرِيبَ هُوَ مَا قَبْلَ الِاحْتِضَارِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ بَعْدَهُ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ مَعْنَى (قَرِيبٍ).
وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي إِعْمَالِ مَفْهُومِ الْقَيْدَيْنِ «بِجَهَالَةٍ- مِنْ قَرِيبٍ» حَتَّى قِيلَ: إِنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨]، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ قيد (بِجَهَالَة) كوصف كَاشِفٌ لِعَمَلِ السُّوءِ لِأَنَّ الْمُرَادَ عَمَلُ السُّوءِ مَعَ الْإِيمَانِ. فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوْا أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ عَمْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
278
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا قَيْدَانِ ذُكِرَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ شَأْنَ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ جَارِيًا عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْقَيْدَيْنِ وَلَيْسَ مَفْهُومَاهُمَا بِشَرْطَيْنِ لِقَبُولِ التَّوْبَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ إِلَى وَهُمْ كُفَّارٌ قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِلَخْ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ هَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ فِيهَا لِتَفَرُّعِ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ لِلَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ الْعَدْلِ. فَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْحُونَ بِهِ إِلَى أَنَّ التَّائِبَ قَدْ أَصْلَحَ حَالَهُ، وَرَغِبَ فِي اللِّحَاقِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، فَلَوْ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ ذَلِكَ لَكَانَ إِبْقَاءً لَهُ فِي الضَّلَالِ وَالْعَذَابِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ تَعَالَى عَلَى أُصُولِهِمْ، وَهَذَا إِنْ أَرَادُوهُ كَانَ سَفْسَطَةً لِأَنَّ النَّظَرَ هُنَا فِي الْعَفْوِ عَنْ عِقَابٍ اسْتَحَقَّهُ التَّائِبُ مِنْ قَبْلِ تَوْبَتِهِ لَا فِي مَا سَيَأْتِي بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ.
وأمّا عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ لِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ، هِيَ وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرَ، غَيْرَ أَنَّ كَثْرَتَهَا أَفَادَتِ الْقَطْعَ (كَإِفَادَةِ الْمُتَوَاتِرِ الْقَطْعَ مَعَ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ مِنْ آحَادِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَاجْتِمَاعُهَا هُوَ الَّذِي فَادَ الْقَطْعَ، وَفِي تَشْبِيهِ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ نَظَرٌ)، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ، وَابْن عَطِيَّة ووالده أَبُو بَكْرِ ابْن عَطِيَّةَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَبُولَ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ
الْبَاقِلَّانِيِّ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، والمازري والتفتازانيّ، وَشَرَفِ الدِّينِ الْفِهْرِيِّ وَابْنِ الْفُرْسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الظَّوَاهِرِ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ نَظَرًا.
غَيْرَ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ أصُول الدَّين فَلَمَّا ذَا نَطْلُبُ فِي إِثْبَاتِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ.
وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا الْقَبُولَ ذَكَرُوهُ عَلَى إِجْمَالِهِ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمُ اخْتِلَافًا فِي حَالَةٍ، فَالْقَبُولُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ معنى رَضِي اللَّهِ عَنِ التَّائِبِ، وَإِثْبَاتِهِ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ لَمَّا قَالُوا بِأَنَّ قَبُولَهَا قَطْعِيٌّ عَقْلًا. وَفِي كَونه قطعيّا، وَكَونه عقلا، نَظَرٌ وَاضِحٌ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ التَّوْبَةَ
وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ هَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ فِيهَا لِتَفَرُّعِ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ لِلَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ الْعَدْلِ. فَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْحُونَ بِهِ إِلَى أَنَّ التَّائِبَ قَدْ أَصْلَحَ حَالَهُ، وَرَغِبَ فِي اللِّحَاقِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، فَلَوْ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ ذَلِكَ لَكَانَ إِبْقَاءً لَهُ فِي الضَّلَالِ وَالْعَذَابِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ تَعَالَى عَلَى أُصُولِهِمْ، وَهَذَا إِنْ أَرَادُوهُ كَانَ سَفْسَطَةً لِأَنَّ النَّظَرَ هُنَا فِي الْعَفْوِ عَنْ عِقَابٍ اسْتَحَقَّهُ التَّائِبُ مِنْ قَبْلِ تَوْبَتِهِ لَا فِي مَا سَيَأْتِي بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ.
وأمّا عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ لِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ، هِيَ وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرَ، غَيْرَ أَنَّ كَثْرَتَهَا أَفَادَتِ الْقَطْعَ (كَإِفَادَةِ الْمُتَوَاتِرِ الْقَطْعَ مَعَ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ مِنْ آحَادِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَاجْتِمَاعُهَا هُوَ الَّذِي فَادَ الْقَطْعَ، وَفِي تَشْبِيهِ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ نَظَرٌ)، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ، وَابْن عَطِيَّة ووالده أَبُو بَكْرِ ابْن عَطِيَّةَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَبُولَ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ
الْبَاقِلَّانِيِّ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، والمازري والتفتازانيّ، وَشَرَفِ الدِّينِ الْفِهْرِيِّ وَابْنِ الْفُرْسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الظَّوَاهِرِ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ نَظَرًا.
غَيْرَ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ أصُول الدَّين فَلَمَّا ذَا نَطْلُبُ فِي إِثْبَاتِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ.
وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا الْقَبُولَ ذَكَرُوهُ عَلَى إِجْمَالِهِ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمُ اخْتِلَافًا فِي حَالَةٍ، فَالْقَبُولُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ معنى رَضِي اللَّهِ عَنِ التَّائِبِ، وَإِثْبَاتِهِ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ لَمَّا قَالُوا بِأَنَّ قَبُولَهَا قَطْعِيٌّ عَقْلًا. وَفِي كَونه قطعيّا، وَكَونه عقلا، نَظَرٌ وَاضِحٌ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ التَّوْبَةَ
279
لَا تَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى صَلَاحِهِ. وَيُطْلَقُ الْقَبُولُ وَيُرَادُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَهَذَا أَحْسَبُهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَونه سميعا لَا عَقْلِيًّا، إِذِ الْعَقْلُ لَا يَقْتَضِي الصَّفْحَ عَنِ الذُّنُوبِ الْفَارِطَةِ عِنْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ إِتْيَانِ أَمْثَالِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَيُطْلَقُ الْقَبُولُ عَلَى مَعْنَى قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا فِي ذَاتِهَا عَمَلٌ مَأْمُورٌ بِهِ كُلُّ مُذْنِبٍ، أَيْ بِمَعْنَى أَنَّهَا إِبْطَالُ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ الَّتِي كَانَ مُصِرًّا عَلَى إِتْيَانِهَا، فَإِنَّ إِبْطَالَ الْإِصْرَارِ مَأْمُورٌ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ذُنُوبِ الْقَلْبِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ الْقَلْبِ مِنْهُ، فَالتَّائِبُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُعْتَبَرُ مُمْتَثِّلًا لِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ، فَالْقَبُولُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَطْعِيٌّ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَعْنَى الْإِجْزَاءِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ مَنْ أَتَى عَمَلًا مَأْمُورًا بِهِ بِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّة كَانَ عمله مَقْبُولًا بِمَعْنَى ارْتِفَاعِ آثَارِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى الظَّنِّ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ إِذْ قَالَ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ «إِنَّكَ إِذَا فَهِمْتَ مَعْنَى الْقَبُولِ لَمْ تَشُكَّ فِي أَنَّ كُلَّ تَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ هِيَ مَقْبُولَةٌ إِذِ الْقَلْبُ خُلِقَ سَلِيمًا فِي الْأَصْلِ، إِذْ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَإِنَّمَا تَفُوتُهُ السَّلَامَةُ بِكَدِرَةٍ ترهقه من غيرَة الذُّنُوبِ، وَأَنَّ نُورَ النَّدَمِ يَمْحُو عَنِ الْقَلْبِ تِلْكَ الظُّلْمَةَ كَمَا يَمْحُو الْمَاءُ والصابون عَن الثَّوَاب الْوَسَخَ.
فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ وَلَا تُقْبَلُ كَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالظَّلَامُ لَا يَزُولُ، أَوْ أَنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ وَالْوَسَخُ لَا يَزُولُ، نَعَمْ قَدْ يَقُولُ التَّائِبُ بِاللِّسَانِ تُبْتُ وَلَا يُقْلِعُ، فَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَصَّارِ بِلِسَانِهِ غَسَلْتُ الثَّوْبَ وَهُوَ لَمْ يَغْسِلْهُ فَذَلِكَ لَا يُنَظِّفُ الثَّوْبَ». وَهَذَا الْكَلَامُ تَقْرِيبٌ إِقْنَاعِيٌّ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّا إِنَّمَا نَبْحَثُ عَنْ طَرْحِ عُقُوبَةٍ ثَابِتَةٍ هَلْ حَدَثَانُ التَّوْبَةِ يَمْحُوهَا.
وَالْإِشَارَةُ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِحْضَارِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْبَالِغَةِ غَايَةَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى
طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، لِيُعْرَفَ أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَدْلُولِ الْمُسْنَدِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] وَالْمَعْنَى: هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ مُسْتَحِقِّينَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ إِلَخْ تَنْبِيهٌ عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ عَنْ نَوْعٍ مِنَ التَّوْبَةِ وَهِيَ الَّتِي
فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ وَلَا تُقْبَلُ كَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالظَّلَامُ لَا يَزُولُ، أَوْ أَنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ وَالْوَسَخُ لَا يَزُولُ، نَعَمْ قَدْ يَقُولُ التَّائِبُ بِاللِّسَانِ تُبْتُ وَلَا يُقْلِعُ، فَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَصَّارِ بِلِسَانِهِ غَسَلْتُ الثَّوْبَ وَهُوَ لَمْ يَغْسِلْهُ فَذَلِكَ لَا يُنَظِّفُ الثَّوْبَ». وَهَذَا الْكَلَامُ تَقْرِيبٌ إِقْنَاعِيٌّ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّا إِنَّمَا نَبْحَثُ عَنْ طَرْحِ عُقُوبَةٍ ثَابِتَةٍ هَلْ حَدَثَانُ التَّوْبَةِ يَمْحُوهَا.
وَالْإِشَارَةُ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِحْضَارِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْبَالِغَةِ غَايَةَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى
طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، لِيُعْرَفَ أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَدْلُولِ الْمُسْنَدِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] وَالْمَعْنَى: هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ مُسْتَحِقِّينَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ إِلَخْ تَنْبِيهٌ عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ عَنْ نَوْعٍ مِنَ التَّوْبَةِ وَهِيَ الَّتِي
280
تَكُونُ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الْعَزْمِ تَرَتُّبُ آثَارِهِ عَلَيْهِ وَصَلَاح الْحل فِي هَذِهِ الدَّارِ بِالِاسْتِقَامَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ ذَهَبَتْ فَائِدَةُ التَّوْبَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ عطف الْكُفَّارِ عَلَى الْعُصَاةِ فِي شَرْطِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ لِأَنَّ إِيمَانَ الْكَافِرِ تَوْبَةٌ مِنْ كُفْرِهِ، وَالْإِيمَانَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ التَّوْبَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذا مَاتَ كَافِرًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنَ الْكُفْرِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ قَبُولِ تَوْبَتِهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ إِلَّا حُصُولُ الْمَوْتِ، وَتَأَوَّلُوا مَعْنَى وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَدَمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا مَاتَ كَافِرًا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا آمَنَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ قُبِلَ إِيمَانُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَدْ
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ: أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَكَانَ آخِرُ مَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيءُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ.
فَنَزَلَتْ مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ
[التَّوْبَة: ١١٣] وَيُؤْذِنُ بِهِ عَطْفُ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ بِالْمُغَايَرَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ مُخَالَفَةِ تَوْبَتِهِ لِتَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي أَنَّ الْإِيمَانَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَنُطْقٌ لِسَانِيٌّ، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْكَافِرِ التَّائِبِ وَهُوَ حَيٌّ، فَدَخَلَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَقَوَّى بِهِ جَانِبُهُمْ وَفَشَتْ بِإِيمَانِهِ سُمْعَةُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ.
وَثَانِيهمَا: أَنَّ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِمَّا هُمَا عَلَيْهِ، إِذَا حَضَرَهُمَا الْمَوْتُ. وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ بِأَنَّ مَعْنَاهُ يُشْرِفُونَ عَلَى الْمَوْتِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: ٩] أَيْ لَوْ أَشْرَفُوا عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً. وَالدَّاعِي إِلَى التَّأْوِيلِ نَظْمُ الْكَلَامِ لِأَنَّ (لَا) عَاطِفَةٌ عَلَى مَعْمُولٍ لِخَبَرِ التَّوْبَةِ الْمَنْفِيَّةِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
وَقَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ عطف الْكُفَّارِ عَلَى الْعُصَاةِ فِي شَرْطِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ لِأَنَّ إِيمَانَ الْكَافِرِ تَوْبَةٌ مِنْ كُفْرِهِ، وَالْإِيمَانَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ التَّوْبَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذا مَاتَ كَافِرًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنَ الْكُفْرِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ قَبُولِ تَوْبَتِهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ إِلَّا حُصُولُ الْمَوْتِ، وَتَأَوَّلُوا مَعْنَى وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَدَمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا مَاتَ كَافِرًا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا آمَنَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ قُبِلَ إِيمَانُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَدْ
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ: أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَكَانَ آخِرُ مَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيءُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ.
فَنَزَلَتْ مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ
[التَّوْبَة: ١١٣] وَيُؤْذِنُ بِهِ عَطْفُ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ بِالْمُغَايَرَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ مُخَالَفَةِ تَوْبَتِهِ لِتَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي أَنَّ الْإِيمَانَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَنُطْقٌ لِسَانِيٌّ، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْكَافِرِ التَّائِبِ وَهُوَ حَيٌّ، فَدَخَلَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَقَوَّى بِهِ جَانِبُهُمْ وَفَشَتْ بِإِيمَانِهِ سُمْعَةُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ.
وَثَانِيهمَا: أَنَّ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِمَّا هُمَا عَلَيْهِ، إِذَا حَضَرَهُمَا الْمَوْتُ. وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ بِأَنَّ مَعْنَاهُ يُشْرِفُونَ عَلَى الْمَوْتِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: ٩] أَيْ لَوْ أَشْرَفُوا عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً. وَالدَّاعِي إِلَى التَّأْوِيلِ نَظْمُ الْكَلَامِ لِأَنَّ (لَا) عَاطِفَةٌ عَلَى مَعْمُولٍ لِخَبَرِ التَّوْبَةِ الْمَنْفِيَّةِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
281
فَيَتُوبُونَ، وَلَا
تُعْقَلُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ (يَمُوتُونَ) بِمَعْنَى يُشْرِفُونَ كَقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٠]، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يُونُس: ٩٠، ٩١] الْمُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبَلْ إِيمَانَهُ سَاعَتَئِذٍ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَال بأنّ ذَلِك شَأْنَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ
[يُونُس: ٩٨] فَالْغَرَقُ عَذَابٌ عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ، فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَإِذَا صَحَّتْ تَوْبَةُ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَتْ عَنِ الْكُفْرِ قَطَعْنَا بِقَبُولِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ سِوَاهُ مِنَ الْمَعَاصِي فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقْطَعُ بِقَبُولِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْطَعْ وَيَظُنَّهُ ظَنًّا اهـ.
[١٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.
اسْتِئْنَافُ تَشْرِيعٍ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ الَّتِي كَانَ سِيَاقُ السُّورَةِ لِبَيَانِهَا وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَزَلْ آيُهَا مُبَيِّنَةً لِأَحْكَامِهَا تَأْسِيسًا وَاسْتِطْرَادًا، وَبَدْءًا وَعَوْدًا، وَهَذَا حُكْمٌ تَابِعٌ لِإِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ جَعْلِ زَوْجِ الْمَيِّتِ مَوْرُوثَةً عَنْهُ وَافْتُتِحَ بُقُولِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِلتَّنْوِيهِ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ.
وَخُوطِبَ الَّذِينَ آمَنُوا لِيَعُمَّ الْخِطَابُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، فَيَأْخُذَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَظِّهِ مِنْهُ، فَمُرِيدُ الِاخْتِصَاصِ بِامْرَأَةِ الْمَيِّتِ يَعْلَمُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهُ، والوليّ كَذَلِكَ، وَوُلَاةُ الْأُمُورِ كَذَلِكَ.
وَصِيغَةُ لَا يَحِلُّ صِيغَةُ نَهْيٍ صَرِيحٍ لِأَنَّ الْحِلَّ هُوَ الْإِبَاحَةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلِسَانِ الشَّرِيعَةِ، فَنَفْيُهُ يُرَادِفُ مَعْنَى التَّحْرِيمِ.
وَالْإِرْثُ حَقِيقَتُهُ مَصِيرُ الْكَسْبِ إِلَى شَخْصٍ عَقِبَ شَخْصٍ آخَرَ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَصِيرِ الْأَمْوَالِ، وَيُطْلَقُ الْإِرْثُ مَجَازًا عَلَى تَمَحُّضِ الْمِلْكِ لِأَحَدٍ بَعْدَ الْمُشَارَكِ فِيهِ، أَوْ فِي
تُعْقَلُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ (يَمُوتُونَ) بِمَعْنَى يُشْرِفُونَ كَقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٠]، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يُونُس: ٩٠، ٩١] الْمُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبَلْ إِيمَانَهُ سَاعَتَئِذٍ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَال بأنّ ذَلِك شَأْنَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ
[يُونُس: ٩٨] فَالْغَرَقُ عَذَابٌ عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ، فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَإِذَا صَحَّتْ تَوْبَةُ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَتْ عَنِ الْكُفْرِ قَطَعْنَا بِقَبُولِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ سِوَاهُ مِنَ الْمَعَاصِي فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقْطَعُ بِقَبُولِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْطَعْ وَيَظُنَّهُ ظَنًّا اهـ.
[١٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.
اسْتِئْنَافُ تَشْرِيعٍ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ الَّتِي كَانَ سِيَاقُ السُّورَةِ لِبَيَانِهَا وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَزَلْ آيُهَا مُبَيِّنَةً لِأَحْكَامِهَا تَأْسِيسًا وَاسْتِطْرَادًا، وَبَدْءًا وَعَوْدًا، وَهَذَا حُكْمٌ تَابِعٌ لِإِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ جَعْلِ زَوْجِ الْمَيِّتِ مَوْرُوثَةً عَنْهُ وَافْتُتِحَ بُقُولِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِلتَّنْوِيهِ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ.
وَخُوطِبَ الَّذِينَ آمَنُوا لِيَعُمَّ الْخِطَابُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، فَيَأْخُذَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَظِّهِ مِنْهُ، فَمُرِيدُ الِاخْتِصَاصِ بِامْرَأَةِ الْمَيِّتِ يَعْلَمُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهُ، والوليّ كَذَلِكَ، وَوُلَاةُ الْأُمُورِ كَذَلِكَ.
وَصِيغَةُ لَا يَحِلُّ صِيغَةُ نَهْيٍ صَرِيحٍ لِأَنَّ الْحِلَّ هُوَ الْإِبَاحَةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلِسَانِ الشَّرِيعَةِ، فَنَفْيُهُ يُرَادِفُ مَعْنَى التَّحْرِيمِ.
وَالْإِرْثُ حَقِيقَتُهُ مَصِيرُ الْكَسْبِ إِلَى شَخْصٍ عَقِبَ شَخْصٍ آخَرَ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَصِيرِ الْأَمْوَالِ، وَيُطْلَقُ الْإِرْثُ مَجَازًا عَلَى تَمَحُّضِ الْمِلْكِ لِأَحَدٍ بَعْدَ الْمُشَارَكِ فِيهِ، أَوْ فِي
282
حَالَةِ ادِّعَاءِ الْمُشَارَكِ فِيهِ، وَمِنْهُ «يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا»، وَهُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَتَاعِ الْمَوْرُوثِ، فَتَقُولُ: وَرِثْتُ مَالَ فُلَانٍ، وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى ذَاتِ الشَّخْصِ الْمَوْرُوثِ، يُقَالُ: وَرِثَ فُلَانٌ أَبَاهُ، قَالَ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مَرْيَم: ٦] وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ إِذَا تَعَدَّى إِلَى مَا لَيْسَ بِمَال.
فتعدية فِعْلِ أَنْ تَرِثُوا إِلَى النِّساءَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ الْأَوَّلِ: بِتَنْزِيلِ النِّسَاءِ مَنْزِلَةَ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ، لِإِفَادَةِ تَبْشِيعِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهلهَا فَنزلت هَذِه الْآيَةُ» وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَالزُّهْرِيِّ كَانَ الِابْنُ الْأَكْبَرُ أَحَقَّ بِزَوْجِ أَبِيهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبْنَاءٌ فَوَلِيُّ الْمَيِّتِ إِذَا سَبَقَ فَأَلْقَى عَلَى امْرَأَةِ الْمَيِّتِ ثَوْبَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ سَبَقَتْهُ فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا كَانَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا. وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ وَلَهَا أَوْلَادٌ مِنْهُ: الْعِيصُ، وَأَبُو الْعِيصِ، وَالْعَاصُ، وَأَبُو الْعَاصِ، وَلَهُ أَوْلَادٌ مِنْ غَيْرِهَا مِنْهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ أُمَيَّةَ فَخَلَفَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ: مُسَافِرًا، وَأَبَا مُعَيْطٍ، فَكَانَ الْأَعْيَاصُ أَعْمَامًا لِمُسَافِرٍ وَأَبِي مُعَيْطٍ وَإخْوَتَهُمَا مِنَ الْأُمِّ».
وَقَدْ قِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ رَامَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ كَبْشَةَ بِنْتَ مَعْنٍ الْأَنْصَارِيَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ لَازِمَةً فِي الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ فِي قُرَيْشٍ مُبَاحَةً مَعَ التَّرَاضِي. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ كَرْهاً حَالًا مِنَ النِّسَاءِ، أَيْ كَارِهَاتٍ غَيْرَ رَاضِيَاتٍ، حَتَّى يَرْضَيْنَ بِأَنْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا لِمَنْ يَرْضَيْنَهُ، مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ النِّكَاحِ، وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْإِكْرَاهُ بعوائدهم الَّتِي تمالؤوا عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَوْ رَامَتِ الْمَرْأَةُ الْمَحِيدَ عَنْهَا، لَأَصْبَحَتْ سُبَّةً لَهَا، وَلَمَا وَجَدَتْ مَنْ يَنْصُرُهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ الْأَزْوَاجُ، أَيْ أَزْوَاجُ الْأَمْوَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ (تَرِثُوا) مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمُتَعَدِّيًا إِلَى الْمَوْرُوثِ فَيُفِيدَ
فتعدية فِعْلِ أَنْ تَرِثُوا إِلَى النِّساءَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ الْأَوَّلِ: بِتَنْزِيلِ النِّسَاءِ مَنْزِلَةَ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ، لِإِفَادَةِ تَبْشِيعِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهلهَا فَنزلت هَذِه الْآيَةُ» وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَالزُّهْرِيِّ كَانَ الِابْنُ الْأَكْبَرُ أَحَقَّ بِزَوْجِ أَبِيهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبْنَاءٌ فَوَلِيُّ الْمَيِّتِ إِذَا سَبَقَ فَأَلْقَى عَلَى امْرَأَةِ الْمَيِّتِ ثَوْبَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ سَبَقَتْهُ فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا كَانَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا. وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ وَلَهَا أَوْلَادٌ مِنْهُ: الْعِيصُ، وَأَبُو الْعِيصِ، وَالْعَاصُ، وَأَبُو الْعَاصِ، وَلَهُ أَوْلَادٌ مِنْ غَيْرِهَا مِنْهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ أُمَيَّةَ فَخَلَفَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ: مُسَافِرًا، وَأَبَا مُعَيْطٍ، فَكَانَ الْأَعْيَاصُ أَعْمَامًا لِمُسَافِرٍ وَأَبِي مُعَيْطٍ وَإخْوَتَهُمَا مِنَ الْأُمِّ».
وَقَدْ قِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ رَامَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ كَبْشَةَ بِنْتَ مَعْنٍ الْأَنْصَارِيَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ لَازِمَةً فِي الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ فِي قُرَيْشٍ مُبَاحَةً مَعَ التَّرَاضِي. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ كَرْهاً حَالًا مِنَ النِّسَاءِ، أَيْ كَارِهَاتٍ غَيْرَ رَاضِيَاتٍ، حَتَّى يَرْضَيْنَ بِأَنْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا لِمَنْ يَرْضَيْنَهُ، مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ النِّكَاحِ، وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْإِكْرَاهُ بعوائدهم الَّتِي تمالؤوا عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَوْ رَامَتِ الْمَرْأَةُ الْمَحِيدَ عَنْهَا، لَأَصْبَحَتْ سُبَّةً لَهَا، وَلَمَا وَجَدَتْ مَنْ يَنْصُرُهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ الْأَزْوَاجُ، أَيْ أَزْوَاجُ الْأَمْوَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ (تَرِثُوا) مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمُتَعَدِّيًا إِلَى الْمَوْرُوثِ فَيُفِيدَ
283
النَّهْيَ عَنْ أَحْوَالٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: مِنْهَا أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَعْضُلُونَ النِّسَاءَ ذَوَاتِ الْمَالِ مِنَ التَّزَوُّجِ خَشْيَةَ أَنَّهُنَّ إِذَا تَزَوَّجْنَ يَلِدْنَ فَيَرِثُهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَأَوْلَادُهُنَّ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْعَاصِبِ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ، وَهُنَّ يَرْغَبْنَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ وَمِنْهَا أَنَّ الْأَزْوَاجَ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَيَأْبَوْنَ أَنْ
يُطَلِّقُوهُنَّ رَغْبَةً فِي أَنْ يَمُتْنَ عِنْدَهُمْ فَيَرِثُوهُنَّ، فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ لَهُنَّ عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى حَالَةِ الْكَرَاهِيَةِ، إِذْ لَا تَرْضَى الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ مُخْتَارَةً، وَعَلَى هَذَا فَالنِّسَاءُ مُرَادٌ بِهِ جَمْعُ امْرَأَةٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَرْهًا- بِفَتْحِ الْكَافِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الْكَافِ- وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ.
عُطِفَ النَّهْيُ عَنِ الْعَضْلِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كَرْهًا لِمُنَاسَبَةِ التَّمَاثُلِ فِي الْإِكْرَاهِ وَفِي أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ سُوءُ مُعَامَلَةِ الْمَرْأَةِ، وَفِي أَنَّ الْعَضْلَ لِأَجْلِ أَخْذِ مَالٍ مِنْهُنَّ.
وَالْعَضْلُ: مَنْعُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ إِيَّاهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢٣٢].
فَإِن كَانَ الْمنْهِي عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً هُوَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ مِنْ فِعْلِ (تَرِثُوا)، وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْمَرْأَةِ كَرْهًا عَلَيْهَا، فَعَطْفُ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ إمّا عطف خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ، إِنْ أُرِيدَ خُصُوصُ مَنْعِ الْأَزْوَاجِ نِسَاءَهُمْ مِنَ الطَّلَاقِ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ، رَغْبَةً فِي بَقَاءِ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُ حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَ مِنْهَا مَالَهَا، أَوْ عَطْفُ مُبَايِنٍ إِنْ أُرِيدَ النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهَا مِنَ الطَّلَاقِ حَتَّى يُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا آتَاهَا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِطْلَاقُ الْعَضْلِ عَلَى هَذَا الْإِمْسَاكِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ لِأَنَّهَا كَالَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا وَلَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ التَّزَوُّجِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ الْمَعْنى الْمجَازِي لترثوا وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مِيرَاثًا، وَهُوَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي مُعَامَلَةِ أَزْوَاجِ أَقَارِبِهِمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَعَطْفُ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ عَطْفُ حُكْمٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُعَامَلَةِ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَعْضُلَ الْوَلِيُّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ لِتَبْقَى عِنْدَهُ فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا،
يُطَلِّقُوهُنَّ رَغْبَةً فِي أَنْ يَمُتْنَ عِنْدَهُمْ فَيَرِثُوهُنَّ، فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ لَهُنَّ عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى حَالَةِ الْكَرَاهِيَةِ، إِذْ لَا تَرْضَى الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ مُخْتَارَةً، وَعَلَى هَذَا فَالنِّسَاءُ مُرَادٌ بِهِ جَمْعُ امْرَأَةٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَرْهًا- بِفَتْحِ الْكَافِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الْكَافِ- وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ.
عُطِفَ النَّهْيُ عَنِ الْعَضْلِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كَرْهًا لِمُنَاسَبَةِ التَّمَاثُلِ فِي الْإِكْرَاهِ وَفِي أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ سُوءُ مُعَامَلَةِ الْمَرْأَةِ، وَفِي أَنَّ الْعَضْلَ لِأَجْلِ أَخْذِ مَالٍ مِنْهُنَّ.
وَالْعَضْلُ: مَنْعُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ إِيَّاهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢٣٢].
فَإِن كَانَ الْمنْهِي عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً هُوَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ مِنْ فِعْلِ (تَرِثُوا)، وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْمَرْأَةِ كَرْهًا عَلَيْهَا، فَعَطْفُ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ إمّا عطف خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ، إِنْ أُرِيدَ خُصُوصُ مَنْعِ الْأَزْوَاجِ نِسَاءَهُمْ مِنَ الطَّلَاقِ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ، رَغْبَةً فِي بَقَاءِ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُ حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَ مِنْهَا مَالَهَا، أَوْ عَطْفُ مُبَايِنٍ إِنْ أُرِيدَ النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهَا مِنَ الطَّلَاقِ حَتَّى يُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا آتَاهَا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِطْلَاقُ الْعَضْلِ عَلَى هَذَا الْإِمْسَاكِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ لِأَنَّهَا كَالَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا وَلَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ التَّزَوُّجِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ الْمَعْنى الْمجَازِي لترثوا وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مِيرَاثًا، وَهُوَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي مُعَامَلَةِ أَزْوَاجِ أَقَارِبِهِمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَعَطْفُ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ عَطْفُ حُكْمٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُعَامَلَةِ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَعْضُلَ الْوَلِيُّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ لِتَبْقَى عِنْدَهُ فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا،
284
وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ رَاجِعًا إِلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الْأَزْوَاجُ خَاصَّةً، وَهَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ أَنْ يُطْلَقَ ضَمِيرٌ صَالِحٌ لِلْجَمْعِ وَيُرَادَ مِنْهُ بَعْضُ ذَلِكَ الْجَمْعِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩] أَيْ لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ أَخَاهُ، إِذْ قَدْ يُعْرَفُ أَنَّ أَحْدًا لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ، وَكَذَلِكَ فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١] أَيْ يُسَلِّمُ الدَّاخِلُ عَلَى الْجَالِسِ. فَالْمَعْنَى: لِيَذْهَبَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضِ مَا آتَاهُنَّ بَعْضُكُمْ، كَأَنْ يُرِيدَ الْوَلِيُّ أَنْ يَذْهَبَ فِي مِيرَاثِهِ بِبَعْضِ مَالِ مَوْلَاتِهِ الَّذِي وَرِثَتْهُ مِنْ أُمِّهَا أَوْ قَرِيبِهَا أَوْ مِنْ زَوْجِهَا، فَيَكُونُ فِي الضَّمِيرِ تَوْزِيعٌ. وَإِطْلَاقُ الْعَضْلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى
حَقِيقَةٌ. وَالذَّهَابُ فِي قَوْلِهِ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مَجَازٌ فِي الْأَخْذِ، كَقَوْلِهِ:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧]، أَيْ أَزَالُهُ.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
لَيْسَ إِتْيَانُهُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بَعْضًا مِمَّا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا مِنَ الْعَضْلِ وَلَا مِنَ الْإِذْهَابِ بِبَعْضِ الْمَهْرِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا اسْتِثْنَاءً مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَهُوَ إِرَادَةُ الْإِذْهَابِ بِبَعْضِ مَا آتَوْهُنَّ، لِأَنَّ عُمُومَ الْأَفْرَادِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ، أَيْ إِلَّا حَالَ الْإِتْيَانِ بِفَاحِشَةٍ فَيَجُوزُ إِذْهَابُكُمْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، أَيْ لَكِنْ إِتْيَانُهُنَّ بِفَاحِشَةٍ يُحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، فَقِيلَ: هَذَا كَانَ حُكْمَ الزَّوْجَةِ الَّتِي تَأْتِي بِفَاحِشَةٍ وَأَنَّهُ نُسِخَ بِالْحَدِّ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَالْفَاحِشَةُ هُنَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعلمَاء هِيَ الزِّنَا، أَيْ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَحَقَّقَ زِنَى زَوْجِهِ فَلَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا، فَإِذَا طَلَبَتِ الطَّلَاقَ فَلَهُ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ صَدَاقِهَا، لِأَنَّهَا تَسَبَّبَتْ فِي بَعْثَرَةِ حَالِ بَيْتِ الزَّوْجِ، وَأَحْوَجَتْهُ إِلَى تَجْدِيدِ زَوْجَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وَأَمَانَةِ الْإِيمَانِ. فَإِنْ حَادَ عَنْ ذَلِكَ فَلِلْقُضَاةِ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِّ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلِ الْمُفَادَاةَ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ لِئَلَّا تَصِيرَ مُدَّةُ الْعِصْمَةِ عَرِيَّةً عَنْ عِوَضٍ مُقَابِلٍ، هَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ. وَأَبِي قِلَابَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ لَكِنْ قَالَ عَطَاءٌ: هَذَا الْحُكْمُ نسخ بحدّ الزِّنَا وَبِاللَّعَّانِ، فَحُرِّمَ الْإِضْرَارُ وَالِافْتِدَاءُ.
حَقِيقَةٌ. وَالذَّهَابُ فِي قَوْلِهِ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مَجَازٌ فِي الْأَخْذِ، كَقَوْلِهِ:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧]، أَيْ أَزَالُهُ.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
لَيْسَ إِتْيَانُهُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بَعْضًا مِمَّا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا مِنَ الْعَضْلِ وَلَا مِنَ الْإِذْهَابِ بِبَعْضِ الْمَهْرِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا اسْتِثْنَاءً مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَهُوَ إِرَادَةُ الْإِذْهَابِ بِبَعْضِ مَا آتَوْهُنَّ، لِأَنَّ عُمُومَ الْأَفْرَادِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ، أَيْ إِلَّا حَالَ الْإِتْيَانِ بِفَاحِشَةٍ فَيَجُوزُ إِذْهَابُكُمْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، أَيْ لَكِنْ إِتْيَانُهُنَّ بِفَاحِشَةٍ يُحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، فَقِيلَ: هَذَا كَانَ حُكْمَ الزَّوْجَةِ الَّتِي تَأْتِي بِفَاحِشَةٍ وَأَنَّهُ نُسِخَ بِالْحَدِّ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَالْفَاحِشَةُ هُنَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعلمَاء هِيَ الزِّنَا، أَيْ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَحَقَّقَ زِنَى زَوْجِهِ فَلَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا، فَإِذَا طَلَبَتِ الطَّلَاقَ فَلَهُ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ صَدَاقِهَا، لِأَنَّهَا تَسَبَّبَتْ فِي بَعْثَرَةِ حَالِ بَيْتِ الزَّوْجِ، وَأَحْوَجَتْهُ إِلَى تَجْدِيدِ زَوْجَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وَأَمَانَةِ الْإِيمَانِ. فَإِنْ حَادَ عَنْ ذَلِكَ فَلِلْقُضَاةِ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِّ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلِ الْمُفَادَاةَ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ لِئَلَّا تَصِيرَ مُدَّةُ الْعِصْمَةِ عَرِيَّةً عَنْ عِوَضٍ مُقَابِلٍ، هَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ. وَأَبِي قِلَابَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ لَكِنْ قَالَ عَطَاءٌ: هَذَا الْحُكْمُ نسخ بحدّ الزِّنَا وَبِاللَّعَّانِ، فَحُرِّمَ الْإِضْرَارُ وَالِافْتِدَاءُ.
285
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: الْفَاحِشَةُ هُنَا الْبُغْضُ وَالنُّشُوزُ، فَإِذَا نَشَزَتْ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ بِإِجَازَةِ أَخْذِ الْخُلْعِ عَنِ النَّاشِزِ يُنَاسِبُ هَذَا إِلَّا أَنِّي لَا أحفظ لمَالِك نَصًّا فِي الْفَاحِشَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُبِيِّنَةٍ- بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ- اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَيَّنَ اللَّازِمِ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ «بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ». وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَيَّنَ الْمُتَعَدِّي أَيْ بَيَّنَهَا وَأَظْهَرَهَا بِحَيْثُ أَشْهَدَ عَلَيْهِنَّ بِهَا.
عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
أَعْقَبَ النَّهْيَ عَنْ إِكْرَاهِ النِّسَاءِ وَالْإِضْرَارِ بِهِنَّ بِالْأَمْرِ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَهُنَّ، فَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ، لِأَنَّ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ جَامِعٌ لِنَفْيِ الْإِضْرَارِ وَالْإِكْرَاهِ، وَزَائِدٌ بِمَعَانِي إِحْسَانِ الصُّحْبَةِ.
وَالْمُعَاشَرَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعِشْرَةِ وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَرَى اللَّفْظَةَ مِنْ أَعْشَارِ الْجَزُورِ لِأَنَّهَا مُقَاسَمَةٌ وَمُخَالَطَةٌ، أَيْ فَأَصْلُ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ عَدَدُ الْعَشَرَةِ. وَأَنَا أَرَاهَا مُشْتَقَّةً مِنَ الْعَشِيرَةِ أَيِ الْأَهْلِ، فَعَاشَرَهُ جَعَلَهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ، كَمَا يُقَالُ:
آخَاهُ إِذَا جَعَلَهُ أَخًا. أَمَّا الْعَشِيرَةُ فَلَا يُعْرَفُ أَصْلُ اشْتِقَاقِهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مِنَ الْعَشَرَةِ أَيِ اسْمِ الْعَدَدِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَالْمَعْرُوفُ ضِدُّ الْمُنْكَرِ وَسُمِّيَ الْأَمْرُ الْمَكْرُوهُ مُنْكَرًا لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَأْنَسُ بِهِ، فَكَأَنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَهَا نَكِرَةٌ، إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ الْمَجْهُولَ يَكُونُ مَكْرُوهًا ثُمَّ أَطْلَقُوا اسْمَ الْمُنْكَرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَأَطْلَقُوا ضِدَّهُ عَلَى الْمَحْبُوبِ لِأَنَّهُ تَأْلَفُهُ النُّفُوسُ. وَالْمَعْرُوفُ هُنَا مَا حَدَّدَهُ الشَّرْعُ وَوَصَفَهُ الْعُرْفُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُبِيِّنَةٍ- بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ- اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَيَّنَ اللَّازِمِ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ «بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ». وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَيَّنَ الْمُتَعَدِّي أَيْ بَيَّنَهَا وَأَظْهَرَهَا بِحَيْثُ أَشْهَدَ عَلَيْهِنَّ بِهَا.
عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
أَعْقَبَ النَّهْيَ عَنْ إِكْرَاهِ النِّسَاءِ وَالْإِضْرَارِ بِهِنَّ بِالْأَمْرِ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَهُنَّ، فَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ، لِأَنَّ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ جَامِعٌ لِنَفْيِ الْإِضْرَارِ وَالْإِكْرَاهِ، وَزَائِدٌ بِمَعَانِي إِحْسَانِ الصُّحْبَةِ.
وَالْمُعَاشَرَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعِشْرَةِ وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَرَى اللَّفْظَةَ مِنْ أَعْشَارِ الْجَزُورِ لِأَنَّهَا مُقَاسَمَةٌ وَمُخَالَطَةٌ، أَيْ فَأَصْلُ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ عَدَدُ الْعَشَرَةِ. وَأَنَا أَرَاهَا مُشْتَقَّةً مِنَ الْعَشِيرَةِ أَيِ الْأَهْلِ، فَعَاشَرَهُ جَعَلَهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ، كَمَا يُقَالُ:
آخَاهُ إِذَا جَعَلَهُ أَخًا. أَمَّا الْعَشِيرَةُ فَلَا يُعْرَفُ أَصْلُ اشْتِقَاقِهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مِنَ الْعَشَرَةِ أَيِ اسْمِ الْعَدَدِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَالْمَعْرُوفُ ضِدُّ الْمُنْكَرِ وَسُمِّيَ الْأَمْرُ الْمَكْرُوهُ مُنْكَرًا لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَأْنَسُ بِهِ، فَكَأَنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَهَا نَكِرَةٌ، إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ الْمَجْهُولَ يَكُونُ مَكْرُوهًا ثُمَّ أَطْلَقُوا اسْمَ الْمُنْكَرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَأَطْلَقُوا ضِدَّهُ عَلَى الْمَحْبُوبِ لِأَنَّهُ تَأْلَفُهُ النُّفُوسُ. وَالْمَعْرُوفُ هُنَا مَا حَدَّدَهُ الشَّرْعُ وَوَصَفَهُ الْعُرْفُ.
286
وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ عَلَى لَازِمِ الْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ:
وَعاشِرُوهُنَّ وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، أَيْ فَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ. وَجُمْلَةُ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا نَائِبَةٌ مَنَابَ جَوَابِ الشَّرْط، وَهِي عَلَيْهِ لَهُ فَعُلِمَ الْجَوَابُ مِنْهَا. وَتَقْدِيرُهُ: فَتَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً يُفِيدُ إِمْكَانَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمَكْرُوهَةُ سَبَبَ خَيْرَاتٍ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ فِي الْفِرَاق.
وفَعَسى هُنَا لِلْمُقَارَبَةِ الْمَجَازِيَّةِ أَوِ التَّرَجِّي. أَنْ تَكْرَهُوا سَادٌّ مَسَدَّ مَعْمُولَيْهَا، وَيَجْعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَكْرَهُوا، وَمَنَاطُ الْمُقَارَبَةِ وَالرَّجَاءِ هُوَ مَجْمُوعُ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذِه حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ، إِذْ قَدْ تَكْرَهُ النُّفُوسُ مَا فِي عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ فَبَعْضُهُ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ عِنْدَ غَوْصِ الرَّأْيِ. وَبَعْضُهُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِلنَّاسِ. قَالَ سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ، حِينَ مَرْجِعِهِ مِنْ صِفِّينَ «اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَمْرَهُ لَرَدَدْنَا. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ». وَقَدْ قَالَ تَعَالَى، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٦].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: الْإِرْشَادُ إِلَى إِعْمَاقِ النَّظَرِ وَتَغَلْغُلِ الرَّأْيِ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ، وَعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِالْبَوَارِقِ الظَّاهِرَةِ. وَلَا بِمَيْلِ الشَّهَوَاتِ إِلَى مَا فِي الْأَفْعَالِ مِنْ مُلَائِمٍ، حَتَّى يَسْبِرَهُ بِمِسْبَارِ الرَّأْيِ، فَيَتَحَقَّقَ سَلَامَةَ حُسْنِ الظَّاهِرِ مِنْ سُوءِ خَفَايَا الْبَاطِنِ.
وَاقْتَصَرَ هُنَا عَلَى مُقَارَبَةِ حُصُولِ الْكَرَاهِيَةِ لِشَيْءٍ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، دُونَ مُقَابِلِه، كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٦] وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ لِأَنَّ الْمَقَامَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَقَامُ بَيَانِ الْحَقِيقَةِ بِطَرَفَيْهَا إِذِ الْمُخَاطَبُونَ فِيهَا كَرِهُوا الْقِتَالَ، وَأَحَبُّوا السِّلْمَ، فَكَانَ حَالُهُمْ مُقْتَضِيًا بَيَانَ أَنَّ الْقِتَالَ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْخَيْرَ لِمَا يَحْصُلُ بَعْدَهُ مِنْ أَمْنٍ دَائِمٍ، وَخَضْدِ شَوْكَةِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّ السّلم قد تكون شَرًّا لِمَا يَحْصُلُ مَعَهَا مِنِ
وَعاشِرُوهُنَّ وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، أَيْ فَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ. وَجُمْلَةُ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا نَائِبَةٌ مَنَابَ جَوَابِ الشَّرْط، وَهِي عَلَيْهِ لَهُ فَعُلِمَ الْجَوَابُ مِنْهَا. وَتَقْدِيرُهُ: فَتَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً يُفِيدُ إِمْكَانَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمَكْرُوهَةُ سَبَبَ خَيْرَاتٍ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ فِي الْفِرَاق.
وفَعَسى هُنَا لِلْمُقَارَبَةِ الْمَجَازِيَّةِ أَوِ التَّرَجِّي. أَنْ تَكْرَهُوا سَادٌّ مَسَدَّ مَعْمُولَيْهَا، وَيَجْعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَكْرَهُوا، وَمَنَاطُ الْمُقَارَبَةِ وَالرَّجَاءِ هُوَ مَجْمُوعُ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذِه حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ، إِذْ قَدْ تَكْرَهُ النُّفُوسُ مَا فِي عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ فَبَعْضُهُ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ عِنْدَ غَوْصِ الرَّأْيِ. وَبَعْضُهُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِلنَّاسِ. قَالَ سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ، حِينَ مَرْجِعِهِ مِنْ صِفِّينَ «اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَمْرَهُ لَرَدَدْنَا. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ». وَقَدْ قَالَ تَعَالَى، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٦].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: الْإِرْشَادُ إِلَى إِعْمَاقِ النَّظَرِ وَتَغَلْغُلِ الرَّأْيِ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ، وَعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِالْبَوَارِقِ الظَّاهِرَةِ. وَلَا بِمَيْلِ الشَّهَوَاتِ إِلَى مَا فِي الْأَفْعَالِ مِنْ مُلَائِمٍ، حَتَّى يَسْبِرَهُ بِمِسْبَارِ الرَّأْيِ، فَيَتَحَقَّقَ سَلَامَةَ حُسْنِ الظَّاهِرِ مِنْ سُوءِ خَفَايَا الْبَاطِنِ.
وَاقْتَصَرَ هُنَا عَلَى مُقَارَبَةِ حُصُولِ الْكَرَاهِيَةِ لِشَيْءٍ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، دُونَ مُقَابِلِه، كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٦] وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ لِأَنَّ الْمَقَامَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَقَامُ بَيَانِ الْحَقِيقَةِ بِطَرَفَيْهَا إِذِ الْمُخَاطَبُونَ فِيهَا كَرِهُوا الْقِتَالَ، وَأَحَبُّوا السِّلْمَ، فَكَانَ حَالُهُمْ مُقْتَضِيًا بَيَانَ أَنَّ الْقِتَالَ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْخَيْرَ لِمَا يَحْصُلُ بَعْدَهُ مِنْ أَمْنٍ دَائِمٍ، وَخَضْدِ شَوْكَةِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّ السّلم قد تكون شَرًّا لِمَا يَحْصُلُ مَعَهَا مِنِ
287
اسْتِخْفَافِ الْأَعْدَاءِ بِهِمْ، وَطَمَعِهِمْ فِيهِمْ، وَذَهَابِ عِزِّهِمُ الْمُفْضِي إِلَى اسْتِعْبَادِهِمْ، أَمَّا الْمَقَامُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ لِبَيَانِ حُكْمِ مَنْ حَدَثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجِهِ مَا كَرِهَهُ فِيهَا، وَرَامَ فِرَاقَهَا، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ مَيْلٌ إِلَى غَيْرِهَا، فَكَانَ حَالُهُ مُقْتَضِيًا بَيَانَ مَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَحْبُوبَةِ شُرُورًا لِكَوْنِهِ فَتْحًا لِبَابِ التَّعَلُّلِ لَهُمْ بِمَا يَأْخُذُونَ مِنَ الطَّرَفِ الَّذِي يَمِيلُ إِلَيْهِ هَوَاهُمْ. وَأُسْنِدَ جَعْلُ الْخَيْرِ فِي الْمَكْرُوهِ هُنَا لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً الْمُقْتَضِي أَنَّهُ جَعْلٌ عَارِضٌ لِمَكْرُوهٍ خَاصٍّ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٦] قَالَ: وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّ تِلْكَ بَيَانٌ لِمَا يُقَارِنُ بَعْضَ الْحَقَائِقِ مِنَ الْخَفَاءِ فِي ذَاتِ الْحَقِيقَةِ، لِيَكُونَ رَجَاءُ الْخَيْرِ مِنَ الْقِتَالِ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَيْرَ حَاصِلٍ بِجَعْلٍ عَارِضٍ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ على الزَّوْجَة الموذية أَوِ الْمَكْرُوهَةِ إِذَا كَانَ لِأَجْلِ امْتِثَالِ أَمْرِ الله بِحسن معاشرتها، يَكُونُ جَعْلُ الْخَيْرِ فِي ذَلِكَ جَزَاءً مِنَ اللَّهِ على الِامْتِثَال.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
لَا جَرَمَ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ تَعْقُبُهَا إِرَادَةُ اسْتِبْدَالِ الْمَكْرُوهِ بِضِدِّهِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ الشَّرْطَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ اسْتِطْرَادًا وَاسْتِيفَاءً لِلْأَحْكَامِ.
فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِبْدَالِ طَلَاقُ الْمَرْأَةِ السَّابِقَةِ وَتَزَوُّجُ امْرَأَةٍ أُخْرَى.
والاستبدال: التَّبْدِيلُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١] أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبٌ لِلْفِرَاقِ إِلَّا إِرَادَةَ اسْتِبْدَالِ
زوج بِأُخْرَى فيلجيء الَّتِي يُرِيدُ فِرَاقَهَا، حَتَّى تخالعه، ليجد مَا لَا يُعْطِيهِ مَهْرًا لِلَّتِي رَغِبَ فِيهَا، نَهَى عَنْ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَوْهُ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ مَهْرٍ وَغَيْرِهِ
[٢٠، ٢١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
لَا جَرَمَ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ تَعْقُبُهَا إِرَادَةُ اسْتِبْدَالِ الْمَكْرُوهِ بِضِدِّهِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ الشَّرْطَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ اسْتِطْرَادًا وَاسْتِيفَاءً لِلْأَحْكَامِ.
فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِبْدَالِ طَلَاقُ الْمَرْأَةِ السَّابِقَةِ وَتَزَوُّجُ امْرَأَةٍ أُخْرَى.
والاستبدال: التَّبْدِيلُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١] أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبٌ لِلْفِرَاقِ إِلَّا إِرَادَةَ اسْتِبْدَالِ
زوج بِأُخْرَى فيلجيء الَّتِي يُرِيدُ فِرَاقَهَا، حَتَّى تخالعه، ليجد مَا لَا يُعْطِيهِ مَهْرًا لِلَّتِي رَغِبَ فِيهَا، نَهَى عَنْ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَوْهُ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ مَهْرٍ وَغَيْرِهِ
288
وَالْقِنْطَارُ هُنَا مُبَالَغَةٌ فِي مِقْدَارِ الْمَالِ الْمُعْطَى صَدَاقا أَي مَا لَا كَثِيرًا، كَثْرَةٌ غَيْرُ مُتَعَارَفَةٍ. وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيتَاءَ الْقِنْطَارِ مُبَاحٌ شَرْعًا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُمَثِّلُ بِمَا لَا يَرْضَى شَرْعَهُ مِثْلَ الْحَرَامِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَنَهَى عَنِ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدُقَاتِ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَوْ قَوْلُكَ» قَالَ: «بَلْ كِتَابُ اللَّهِ! بِمَ ذَلِكَ؟» قَالَتْ: إِنَّكَ نَهَيْتَ النَّاسَ آنِفًا أَنْ يُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاء: ٢٠] فَقَالَ عُمَرُ «كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ». وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَأَمِيرٌ أَخْطَأَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ» ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُغَالُوا فِي صَدُقَاتِ النِّسَاءِ فَلْيَفْعَلْ كُلُّ رَجُلٍ فِي مَالِهِ مَا شَاءَ». وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ عَنْ تَحْجِيرِ الْمُبَاحِ لِأَنَّهُ رَآهُ يُنَافِي الْإِبَاحَةَ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَقَدْ كَانَ بَدَا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنَّ فِي الْمُغَالَاةِ عِلَّةً تَقْتَضِي الْمَنْعَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنِ الْمُعَارِضِ لِدَلِيلِ اجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ حَمَلَهَا عَلَى قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْ يَكُونَ رَأَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُحَجِّرَ بَعْضَ الْمُبَاحِ لِلْمَصْلَحَةِ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ لِأَنَّهُ يُنَافِي إِذْنَ الشَّرْعِ فِي فِعْلِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَضَمِيرُ: إِحْداهُنَّ رَاجِعٌ إِلَى النِّسَاءِ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يُرَادُ طَلَاقُهَا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْقِنْطَارِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْخُذُونَهُ إِنْكَارِيٌّ.
وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرٌ كَالشُّكْرَانِ وَالْغُفْرَانِ، مَصْدَرُ بَهَتَهُ كَمَنَعَهَ إِذَا قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ، وَتَقَدَّمَ الْبُهْتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٨].
وَانْتُصِبَ بُهْتاناً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي (تَأْخُذُونَهُ) بِتَأْوِيلِهِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ مُبَاهِتِينَ. وَإِنَّمَا جُعِلَ هَذَا الْأَخْذُ بُهْتَانًا لِأَنَّهُمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا كَرِهُوا الْمَرْأَةَ وَأَرَادُوا طَلَاقَهَا، رَمَوْهَا بِسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، وَاخْتَلَقُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، لِكَيْ تَخْشَى
وَضَمِيرُ: إِحْداهُنَّ رَاجِعٌ إِلَى النِّسَاءِ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يُرَادُ طَلَاقُهَا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْقِنْطَارِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْخُذُونَهُ إِنْكَارِيٌّ.
وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرٌ كَالشُّكْرَانِ وَالْغُفْرَانِ، مَصْدَرُ بَهَتَهُ كَمَنَعَهَ إِذَا قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ، وَتَقَدَّمَ الْبُهْتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٨].
وَانْتُصِبَ بُهْتاناً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي (تَأْخُذُونَهُ) بِتَأْوِيلِهِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ مُبَاهِتِينَ. وَإِنَّمَا جُعِلَ هَذَا الْأَخْذُ بُهْتَانًا لِأَنَّهُمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا كَرِهُوا الْمَرْأَةَ وَأَرَادُوا طَلَاقَهَا، رَمَوْهَا بِسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، وَاخْتَلَقُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، لِكَيْ تَخْشَى
289
سُوءَ السُّمْعَةِ فتبذل للزَّوْج مَا لَا فِدَاءً ليطلّقها، حكى ذَاك فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، فَصَارَ أَخْذُ الْمَالِ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ مَظِنَّةٌ بِأَنَّهَا أَتَتْ مَا لَا يُرْضِي الزَّوْجَ، فَقَدْ يَصُدُّ ذَلِكَ الرَّاغِبِينَ فِي التَّزَوُّجِ عَنْ خِطْبَتِهَا، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لِلْأَزْوَاجِ بِأَخْذِ الْمَالِ إِذَا أَتَتْ أَزْوَاجُهُمْ بِفَاحِشَةٍ، صَارَ
أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُنَّ بِدُونِ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ أَخَذَهُ فِي مَحَلِّ الْإِذْنِ بِأَخْذِهِ، هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي جعل هَذَا الْأَخْذِ بُهْتَانًا.
وَأَمَّا كَوْنُهُ إِثْمًا مُبِينًا فَقَدْ جُعِلَ هُنَا حَالًا بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الِانْتِسَابِ إِلَى صَاحِبِهَا حَتَّى يُصْبِحَ الْإِنْكَارُ بِاعْتِبَارِهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ كَوْنَهَا إِثْمًا مُبِينًا قَدْ صَارَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً، أَوْ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٩] وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَوْ مِمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَمْوَالِ أَنْ لَا تَحِلَّ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ.
وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ اسْتِفْهَام تعجيبي بَعْدَ الْإِنْكَارِ، أَيْ لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ تَطْمَعُوا فِي أَخْذِ عِوَضٍ عَنِ الْفِرَاقِ بَعْدَ مُعَاشَرَةِ امْتِزَاجٍ وَعَهْدٍ مَتِينٍ. وَالْإِفْضَاءُ الْوُصُولُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَضَاءِ، لِأَنَّ فِي الْوُصُولِ قَطْعَ الْفَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَوَاصِلِينَ وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَلَى نِيَّةِ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَدَوَامِ الْأُلْفَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَلَى حَالِ مَوَدَّةٍ وَمُوَالَاةٍ، فَهِيَ فِي الْمَعْنَى كَالْمِيثَاقِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ.
وَالْغَلِيظُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ غَلُظَ- بِضَمِّ اللَّامِ- إِذَا صَلُبَ، وَالْغِلْظَةُ فِي الْحَقِيقَةِ صَلَابَةُ الذَّوَاتِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ إِلَى صُعُوبَةِ الْمَعَانِي وَشِدَّتِهَا فِي أَنْوَاعِهَا، قَالَ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التَّوْبَة: ١٢٣]. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنَاطَ التَّحْرِيم هُوَ كَون أَخْذُ الْمَالِ عِنْدَ طَلَبِ اسْتِبْدَالِ الزَّوْجَةِ بِأُخْرَى، فَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخًا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ خِلَافًا لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ إِذْ لَا إبِْطَال لمدلول هَذِه الْآيَة.
[٢٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاء: ١٩]، وَالْمُنَاسَبَةُ
أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُنَّ بِدُونِ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ أَخَذَهُ فِي مَحَلِّ الْإِذْنِ بِأَخْذِهِ، هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي جعل هَذَا الْأَخْذِ بُهْتَانًا.
وَأَمَّا كَوْنُهُ إِثْمًا مُبِينًا فَقَدْ جُعِلَ هُنَا حَالًا بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الِانْتِسَابِ إِلَى صَاحِبِهَا حَتَّى يُصْبِحَ الْإِنْكَارُ بِاعْتِبَارِهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ كَوْنَهَا إِثْمًا مُبِينًا قَدْ صَارَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً، أَوْ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٩] وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَوْ مِمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَمْوَالِ أَنْ لَا تَحِلَّ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ.
وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ اسْتِفْهَام تعجيبي بَعْدَ الْإِنْكَارِ، أَيْ لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ تَطْمَعُوا فِي أَخْذِ عِوَضٍ عَنِ الْفِرَاقِ بَعْدَ مُعَاشَرَةِ امْتِزَاجٍ وَعَهْدٍ مَتِينٍ. وَالْإِفْضَاءُ الْوُصُولُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَضَاءِ، لِأَنَّ فِي الْوُصُولِ قَطْعَ الْفَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَوَاصِلِينَ وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَلَى نِيَّةِ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَدَوَامِ الْأُلْفَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَلَى حَالِ مَوَدَّةٍ وَمُوَالَاةٍ، فَهِيَ فِي الْمَعْنَى كَالْمِيثَاقِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ.
وَالْغَلِيظُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ غَلُظَ- بِضَمِّ اللَّامِ- إِذَا صَلُبَ، وَالْغِلْظَةُ فِي الْحَقِيقَةِ صَلَابَةُ الذَّوَاتِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ إِلَى صُعُوبَةِ الْمَعَانِي وَشِدَّتِهَا فِي أَنْوَاعِهَا، قَالَ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التَّوْبَة: ١٢٣]. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنَاطَ التَّحْرِيم هُوَ كَون أَخْذُ الْمَالِ عِنْدَ طَلَبِ اسْتِبْدَالِ الزَّوْجَةِ بِأُخْرَى، فَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخًا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ خِلَافًا لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ إِذْ لَا إبِْطَال لمدلول هَذِه الْآيَة.
[٢٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاء: ١٩]، وَالْمُنَاسَبَةُ
290
أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ إِرْثِهِمُ النِّسَاءَ كَرْهًا، أَنْ يَكُونَ ابْنُ الْمَيِّتِ أَوْلَى بِزَوْجَةِ أَبِيهِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، فَنُهُوا عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ نَهْيًا خَاصًّا مُغَلَّظًا، وَتُخُلِّصَ مِنْهُ إِلَى إِحْصَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَمَا نَكَحَ بِمَعْنَى الَّذِي نَكَحَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ وَقْعُ مَا عِوَضَ (مَنْ) لأنّ (من) تَكْثِير فِي الْمَوْصُولِ الْمَعْلُومِ، عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ بِقَوْلِهِ: مِنَ النِّساءِ سَوَّى بَيْنَ (مَا- وَمن) فَرُجِّحَتْ (مَا) لِخِفَّتِهَا، وَالْبَيَانُ أَيْضًا يُعَيِّنُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَوْصُولَةً. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: لَا تَنْكِحُوا نِسَاءَ آبَائِكُمْ لِيَدُلَّ بِلَفْظِ نَكَحَ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْأَبِ عَلَى الْمَرْأَةِ كَافٍ
فِي حُرْمَةِ تَزَوُّجِ ابْنِهِ إِيَّاهَا. وَذِكْرُ مِنَ النِّساءِ بَيَانٌ لِكَوْنِ (مَا) مَوْصُولَةً.
وَالنَّهْيُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مَعَ النَّهْيِ مَدْلُولُهُ إِيجَادُ الْحَدَثِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى نِكَاحِهِنَّ إِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ. وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ شَرْعًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى الْمُعَاشَرَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَعْنَى الصَّحِيحِ شَرْعًا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى دُونَ الْوَطْءِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٠]، فَحَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَقَدَ أَبُوهُ عَلَيْهَا عَقْدَ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَأَمَّا إِطْلَاقُ النِّكَاحِ عَلَى الْوَطْءِ بِعَقْدٍ فَقَدْ حَمَلَ لَفْظَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أَطْلَقَ فِيهِ النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ لِأَنَّهَا لَا يُحِلُّهَا لِمُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ أَيْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِبَيَانِ السُّنَّةِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْكِحَ وَقَدْ بَيَّنْتُ رَدَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.
وَأما الْوَطْءُ الْحَرَامُ مِنْ زِنًى فَكَوْنُهُ مِنْ مَعَانِيَ النِّكَاحِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ دَعْوَى وَاهِيَةٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ هَلْ تَحْرُمُ عَلَى ابْنِهِ أَوْ عَلَى أَبِيهِ. فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَالشَّافِعِيُّ: أَنَّ الزِّنَى لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، وَهَذَا
وَمَا نَكَحَ بِمَعْنَى الَّذِي نَكَحَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ وَقْعُ مَا عِوَضَ (مَنْ) لأنّ (من) تَكْثِير فِي الْمَوْصُولِ الْمَعْلُومِ، عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ بِقَوْلِهِ: مِنَ النِّساءِ سَوَّى بَيْنَ (مَا- وَمن) فَرُجِّحَتْ (مَا) لِخِفَّتِهَا، وَالْبَيَانُ أَيْضًا يُعَيِّنُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَوْصُولَةً. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: لَا تَنْكِحُوا نِسَاءَ آبَائِكُمْ لِيَدُلَّ بِلَفْظِ نَكَحَ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْأَبِ عَلَى الْمَرْأَةِ كَافٍ
فِي حُرْمَةِ تَزَوُّجِ ابْنِهِ إِيَّاهَا. وَذِكْرُ مِنَ النِّساءِ بَيَانٌ لِكَوْنِ (مَا) مَوْصُولَةً.
وَالنَّهْيُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مَعَ النَّهْيِ مَدْلُولُهُ إِيجَادُ الْحَدَثِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى نِكَاحِهِنَّ إِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ. وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ شَرْعًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى الْمُعَاشَرَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَعْنَى الصَّحِيحِ شَرْعًا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى دُونَ الْوَطْءِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٠]، فَحَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَقَدَ أَبُوهُ عَلَيْهَا عَقْدَ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَأَمَّا إِطْلَاقُ النِّكَاحِ عَلَى الْوَطْءِ بِعَقْدٍ فَقَدْ حَمَلَ لَفْظَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أَطْلَقَ فِيهِ النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ لِأَنَّهَا لَا يُحِلُّهَا لِمُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ أَيْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِبَيَانِ السُّنَّةِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْكِحَ وَقَدْ بَيَّنْتُ رَدَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.
وَأما الْوَطْءُ الْحَرَامُ مِنْ زِنًى فَكَوْنُهُ مِنْ مَعَانِيَ النِّكَاحِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ دَعْوَى وَاهِيَةٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ هَلْ تَحْرُمُ عَلَى ابْنِهِ أَوْ عَلَى أَبِيهِ. فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَالشَّافِعِيُّ: أَنَّ الزِّنَى لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، وَهَذَا
291
الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ»، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَاللَّيْثِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمَاجِشُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: الزِّنَى يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: مَاتَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: هُوَ مَكْرُوهٌ، وَوَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ (يُفَارِقُهَا) فَحَمَلَهُ الْأَكْثَرُ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ جَرَتْ فِيهَا مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَشَارَ إِلَيْهَا الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِهِ، وَالْفَخْرُ فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ، وَهِيَ طَوِيلَةٌ.
وَمَا قَدْ سَلَفَ هُوَ مَا سَبَقَ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ إِلَّا نِكَاحًا قَدْ سَلَفَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ صَارَ مُحَرَّمًا. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُؤَوَّلًا إِذْ مَا قَدْ سَلَفَ كَيْفَ يُسْتَثْنَى مِنَ النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ وَهُوَ قَدْ حَصَلَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ مِنَ الْإِثْمِ، أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِيمَا قَدْ سَلَفَ. ثُمَّ يَنْتَقِلُ النَّظَرُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يُقَرَّرُ عَلَيْهِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ تَزَوَّجَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا نَقَلَهُ الْفَخْرُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَثَرٍ يُثْبِتُ قَضِيَّةً مُعَيَّنَةً فَرَّقَ فِيهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَ رَجُلٍ وَزَوْجِ أَبِيهِ مِمَّا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَا عَلَى تَعْيِينِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَعَلَّ النَّاسَ قَدْ بَادَرُوا إِلَى فِرَاقِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ تَزَوَّجَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَثِيرٌ أَزْوَاجَ آبَائِهِمْ: مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، خَلَفَ عَلَى زَوْجِ أَبِيهِ أُمَيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْظُورُ بْنُ رَيَّانَ بْنِ سَيَّارٍ، تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مُلْكِيَّةَ بِنْتَ خَارِجَةَ، وَمِنْهُمْ حِصْنُ بْنُ أَبِي قَيْسٍ، تَزَوَّجَ بَعْدَ أَبِي قَيْسٍ زَوْجَهُ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ أَسَلْمَ وَقُرِّرَ عَلَى نِكَاحِ زَوْجِ أَبِيهِ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ لَازِمِ النَّهْيِ وَهُوَ الْعُقُوبَةُ أَيْ لَا عُقُوبَةَ عَلَى مَا قَدْ سَلَفَ. وَعِنْدِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا ظَاهِرٌ لِلنَّاسِ فَلَا يَحْتَاجُ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَمَتَى يَظُنُّ أَحَدٌ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ أَعْمَالٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الدِّينِ وَنُزُولِ النَّهْيِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: هُوَ مَكْرُوهٌ، وَوَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ (يُفَارِقُهَا) فَحَمَلَهُ الْأَكْثَرُ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ جَرَتْ فِيهَا مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَشَارَ إِلَيْهَا الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِهِ، وَالْفَخْرُ فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ، وَهِيَ طَوِيلَةٌ.
وَمَا قَدْ سَلَفَ هُوَ مَا سَبَقَ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ إِلَّا نِكَاحًا قَدْ سَلَفَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ صَارَ مُحَرَّمًا. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُؤَوَّلًا إِذْ مَا قَدْ سَلَفَ كَيْفَ يُسْتَثْنَى مِنَ النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ وَهُوَ قَدْ حَصَلَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ مِنَ الْإِثْمِ، أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِيمَا قَدْ سَلَفَ. ثُمَّ يَنْتَقِلُ النَّظَرُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يُقَرَّرُ عَلَيْهِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ تَزَوَّجَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا نَقَلَهُ الْفَخْرُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَثَرٍ يُثْبِتُ قَضِيَّةً مُعَيَّنَةً فَرَّقَ فِيهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَ رَجُلٍ وَزَوْجِ أَبِيهِ مِمَّا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَا عَلَى تَعْيِينِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَعَلَّ النَّاسَ قَدْ بَادَرُوا إِلَى فِرَاقِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ تَزَوَّجَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَثِيرٌ أَزْوَاجَ آبَائِهِمْ: مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، خَلَفَ عَلَى زَوْجِ أَبِيهِ أُمَيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْظُورُ بْنُ رَيَّانَ بْنِ سَيَّارٍ، تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مُلْكِيَّةَ بِنْتَ خَارِجَةَ، وَمِنْهُمْ حِصْنُ بْنُ أَبِي قَيْسٍ، تَزَوَّجَ بَعْدَ أَبِي قَيْسٍ زَوْجَهُ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ أَسَلْمَ وَقُرِّرَ عَلَى نِكَاحِ زَوْجِ أَبِيهِ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ لَازِمِ النَّهْيِ وَهُوَ الْعُقُوبَةُ أَيْ لَا عُقُوبَةَ عَلَى مَا قَدْ سَلَفَ. وَعِنْدِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا ظَاهِرٌ لِلنَّاسِ فَلَا يَحْتَاجُ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَمَتَى يَظُنُّ أَحَدٌ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ أَعْمَالٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الدِّينِ وَنُزُولِ النَّهْيِ.
292
وَقِيلَ: هُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ مِنْهُ فَانْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ نِسَاءِ الْآبَاءِ الْبَائِدَةِ، كَأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ يُرَخِّصُ لَهُمْ بَعْضَهُ، فَيَجِدُ السَّامِعُ مَا رُخِّصَ لَهُ مُتَعَذَّرًا فَيَتَأَكَّدُ النَّهْيُ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَقَوْلِهِمْ (حَتَّى يَؤُوبَ الْقَارِظَانِ) وَ (حَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ) وَهَذَا وَجْهٌ بَعِيدٌ فِي آيَاتِ التَّشْرِيعِ.
وَالظَّاهِرٌ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قُصِدَ مِنْهُ بَيَانُ صِحَّةِ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعَذَّرَ تَدَارُكُهُ الْآنَ، لِمَوْتِ الزَّوْجَيْنِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. ثُبُوتُ أَنْسَابٍ، وَحُقُوقُ مُهُورٍ وَمَوَارِيثُ، وَأَيْضًا بَيَانُ تَصْحِيحِ أَنْسَابِ الَّذِينَ وُلِدُوا مِنْ ذَلِكَ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتُدِبُوا لِلْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ، وَقَدْ تَأَوَّلَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِوُجُوهٍ تَرْجِعُ إِلَى التَّجَوُّزِ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ فِي مَعْنَى:
مَا نَكَحَ، حَمَلَهُمْ عَلَيْهَا أَنَّ نِكَاحَ زَوْجِ الْأَبِ لَمْ يُقَرِّرْهُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا أَيْ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَرَّرُ لِأَنَّهُ فَاسِدٌ بِالذَّاتِ.
وَالْمَقْتُ اسْمٌ سَمَّتْ بِهِ الْعَرَبُ نِكَاحَ زَوْجِ الْأَبِ فَقَالُوا نِكَاحُ الْمَقْتِ أَيِ الْبُغْضِ، وَسَمَّوْا فَاعِلَ ذَلِكَ الضَّيْزَنَ، وَسُمَّوْا الِابْنَ مِنْ ذَلِكَ النِّكَاح مقيتا.
[٢٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
تَخَلُّصٌ إِلَى ذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ تَحْرِيمِ نِكَاحِ مَا نَكَحَ الْآبَاءُ وَغُيِّرَ
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
وَالظَّاهِرٌ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قُصِدَ مِنْهُ بَيَانُ صِحَّةِ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعَذَّرَ تَدَارُكُهُ الْآنَ، لِمَوْتِ الزَّوْجَيْنِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. ثُبُوتُ أَنْسَابٍ، وَحُقُوقُ مُهُورٍ وَمَوَارِيثُ، وَأَيْضًا بَيَانُ تَصْحِيحِ أَنْسَابِ الَّذِينَ وُلِدُوا مِنْ ذَلِكَ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتُدِبُوا لِلْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ، وَقَدْ تَأَوَّلَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِوُجُوهٍ تَرْجِعُ إِلَى التَّجَوُّزِ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ فِي مَعْنَى:
مَا نَكَحَ، حَمَلَهُمْ عَلَيْهَا أَنَّ نِكَاحَ زَوْجِ الْأَبِ لَمْ يُقَرِّرْهُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا أَيْ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَرَّرُ لِأَنَّهُ فَاسِدٌ بِالذَّاتِ.
وَالْمَقْتُ اسْمٌ سَمَّتْ بِهِ الْعَرَبُ نِكَاحَ زَوْجِ الْأَبِ فَقَالُوا نِكَاحُ الْمَقْتِ أَيِ الْبُغْضِ، وَسَمَّوْا فَاعِلَ ذَلِكَ الضَّيْزَنَ، وَسُمَّوْا الِابْنَ مِنْ ذَلِكَ النِّكَاح مقيتا.
[٢٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
تَخَلُّصٌ إِلَى ذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ تَحْرِيمِ نِكَاحِ مَا نَكَحَ الْآبَاءُ وَغُيِّرَ
293
أُسْلُوبُ النَّهْيِ فِيهِ لِأَنَّ (لَا تَفْعَلْ) نَهْيٌ عَنِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى زَمَنِ الْحَالِ فَيُؤْذِنُ بِالتَّلَبُّسُ بِالْمَنْهِيِّ، أَوْ إِمْكَانِ التَّلَبُّسِ بِهِ، بِخِلَافِ حُرِّمَتْ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُ الْإِسْلَامُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ» فَمِنْ أَجْلِ هَذَا أَيْضًا نَجِدُ حُكْمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عُبِّرَ فِيهِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فَقِيلَ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
وَتَعَلُّقُ التَّحْرِيمِ بِأَسْمَاءِ الذَّوَاتِ يُحْمَلُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُقْصَدُ مِنْ تِلْكَ الذَّاتِ غَالِبًا فَنَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَخْ مَعْنَاهُ حُرِّمَ أَكْلُهَا، وَنَحْوُ: حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ، أَيْ شُرْبَهَا، وَفِي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ مَعْنَاهُ تَزَوُّجُهُنَّ.
وَالْأُمَّهَاتُ جَمْعُ أُمَّةٍ أَوْ أُمَّهَةٍ، وَالْعَرَبُ أَمَاتُوا أُمَّهَةً وَأُمَّةً وَأَبْقَوْا جَمْعَهُ، كَمَا أَبْقَوْا أُمَّ وَأَمَاتُوا جَمْعَهُ، فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُمُ الْأُمَّاتُ، وَوَرَدَ أُمَّةٌ نَادِرًا فِي قَوْلِ شَاعِرٍ أَنْشَدَهُ ابْنُ كَيْسَانَ:
وَوَرَدَ أُمَّهَةٌ نَادِرًا فِي بَيْتٍ يُعْزَى إِلَى قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ:
وَجَاءَ فِي الْجَمْعِ أُمَّهَاتٌ بِكَثْرَةٍ، وَجَاءَ أُمَّاتٌ قَلِيلًا فِي قَوْلِ جَرِيرٍ:
وَقِيلَ: إِنْ أُمَّاتَ خَاصٌّ بِمَا لَا يَعْقِلُ، قَالَ الرَّاعِي:
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَصْلَ أُمِّ أُمَّا أَوْ أُمَّهَا فَوَقَعَ فِيهِ الْحَذْفُ ثُمَّ أَرْجَعُوهَا فِي الْجَمْعِ.
_________
(١) أَصله وإلياس بِهَمْزَة قطع ووصلت لإِقَامَة الْوَزْن وَهُوَ إلْيَاس بن مُضِيّ، وَوَقع هَذَا المصراع فِي طبعة تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ وَفِي نُسْخَة مخطوطة و «الدّووس» وَهُوَ خطأ.
وَتَعَلُّقُ التَّحْرِيمِ بِأَسْمَاءِ الذَّوَاتِ يُحْمَلُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُقْصَدُ مِنْ تِلْكَ الذَّاتِ غَالِبًا فَنَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَخْ مَعْنَاهُ حُرِّمَ أَكْلُهَا، وَنَحْوُ: حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ، أَيْ شُرْبَهَا، وَفِي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ مَعْنَاهُ تَزَوُّجُهُنَّ.
وَالْأُمَّهَاتُ جَمْعُ أُمَّةٍ أَوْ أُمَّهَةٍ، وَالْعَرَبُ أَمَاتُوا أُمَّهَةً وَأُمَّةً وَأَبْقَوْا جَمْعَهُ، كَمَا أَبْقَوْا أُمَّ وَأَمَاتُوا جَمْعَهُ، فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُمُ الْأُمَّاتُ، وَوَرَدَ أُمَّةٌ نَادِرًا فِي قَوْلِ شَاعِرٍ أَنْشَدَهُ ابْنُ كَيْسَانَ:
تَقَبَّلْتَهَا عَنْ أُمَّةٍ لَكَ طَالَمَا | تُنُوزِعَ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْهَا خِمَارُهَا |
عِنْدَ تَنَادِيهِمْ بِهَالٍ وَهَبِي | أُمَّهَتِي خِنْدَفُ وَإِلْيَاسُ (١) أَبِي |
لَقَدْ وَلَدَ الْأُخَيْطِلَ أُمُّ سَوْءٍ | مُقَلَّدَةٌ مِنَ الْأُمَّاتِ عَارًا |
كَانَتْ نَجَائِبُ مُنْذِرٍ وَمُحَرِّقٍ | أُمَّاتُهُنَّ وَطَرَقُهُنَّ فَحِيلَا |
_________
(١) أَصله وإلياس بِهَمْزَة قطع ووصلت لإِقَامَة الْوَزْن وَهُوَ إلْيَاس بن مُضِيّ، وَوَقع هَذَا المصراع فِي طبعة تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ وَفِي نُسْخَة مخطوطة و «الدّووس» وَهُوَ خطأ.
294
وَمِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ أَسْمَاءَ أَعْضَاءِ الْعَائِلَةِ لَمْ تَجْرِ عَلَى قِيَاسٍ مِثْلَ أَبٍ، إِذْ كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ، وَأَخٍ، وَابْنٍ، وَابْنَةٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ أَنَّهَا مِنَ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْبَشَرُ قَبْلَ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ، ثُمَّ تَطَوَّرَتِ اللُّغَةُ عَلَيْهَا وَهِيَ هِيَ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا الدُّنْيَا وَمَا فَوْقَهَا، وَهَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ النَّسَبِ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ مَنْ ذَكَرَهُنَّ، وَقَدْ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، تَأْكِيدًا لِذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَتَغْلِيظًا لَهُ، إِذْ قَدِ اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي النَّاسِ مِنْ قَبْلُ، فَقَدْ قَالُوا مَا كَانَتِ الْأُمُّ حَلَالًا لِابْنِهَا قَطُّ مِنْ عَهْدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتِ الْأُخْتُ التَّوْأَمَةُ حَرَامًا وَغَيْرُ التَّوْأَمَةِ حَلَالًا، ثُمَّ حَرَّمَ اللَّهُ الْأَخَوَاتِ مُطْلَقًا مِنْ عَهْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَنَاتُ الْأَخِ، وَيُوجَدُ تَحْرِيمُهُنَّ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَقِيَ بَنَاتُ الْأُخْتِ حَلَالًا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى، وَثَبَتَ تَحْرِيمُهُنَّ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا فِيمَا رَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ هُنَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَمِثْلُهُ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ زِيَادَةِ تَوْجِيهِ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ:
إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فِي هَذَيْنِ خَاصَّةً، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَوْطِئَةٌ لِتَأْوِيلِ الِاسْتِثْنَاء فِي قَول إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا سَلَفَ مِنْكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فَقَدْ ذُكِرَ فِيهِنَّ تَحْرِيمُ الرَّبَائِبِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَلَا أَحْسَبُهُنَّ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ قَدْ نَوَّهَتْ بِبَيَانِ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، فَغَرَسَتْ لَهَا فِي النُّفُوسِ وَقَارًا يُنَزَّهُ عَنْ شَوَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ فِي اللَّهْوِ وَالرَّفَثِ، إِذِ الزَّوَاجُ، وَإِنْ كَانَ غَرَضًا صَالِحًا بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ الْخَاطِرَ الْأَوَّلَ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ، وَهُوَ خَاطِرُ اللَّهْوِ وَالتَّلَذُّذِ.
فَوَقَارُ الْوِلَادَةِ، أَصْلًا وَفَرْعًا، مَانِعٌ مِنْ مُحَاوَلَةِ اللَّهْوِ بِالْوَالِدَةِ أَوِ الْمَوْلُودَةِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمه، ثمَّ تَلا حق ذَلِكَ فِي بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، وَكَيْفَ يَسْرِي الْوَقَارُ إِلَى فَرْعِ الْأَخَوَاتِ وَلَا يَثْبُتُ لِلْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ
إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فِي هَذَيْنِ خَاصَّةً، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَوْطِئَةٌ لِتَأْوِيلِ الِاسْتِثْنَاء فِي قَول إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا سَلَفَ مِنْكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فَقَدْ ذُكِرَ فِيهِنَّ تَحْرِيمُ الرَّبَائِبِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَلَا أَحْسَبُهُنَّ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ قَدْ نَوَّهَتْ بِبَيَانِ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، فَغَرَسَتْ لَهَا فِي النُّفُوسِ وَقَارًا يُنَزَّهُ عَنْ شَوَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ فِي اللَّهْوِ وَالرَّفَثِ، إِذِ الزَّوَاجُ، وَإِنْ كَانَ غَرَضًا صَالِحًا بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ الْخَاطِرَ الْأَوَّلَ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ، وَهُوَ خَاطِرُ اللَّهْوِ وَالتَّلَذُّذِ.
فَوَقَارُ الْوِلَادَةِ، أَصْلًا وَفَرْعًا، مَانِعٌ مِنْ مُحَاوَلَةِ اللَّهْوِ بِالْوَالِدَةِ أَوِ الْمَوْلُودَةِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمه، ثمَّ تَلا حق ذَلِكَ فِي بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، وَكَيْفَ يَسْرِي الْوَقَارُ إِلَى فَرْعِ الْأَخَوَاتِ وَلَا يَثْبُتُ لِلْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ
295
سَرَى وَقَارُ الْآبَاءِ إِلَى أَخَوَاتِ الْآبَاءِ، وَهُنَّ الْعَمَّاتُ، وَوَقَارُ الْأُمَّهَاتِ إِلَى أَخَوَاتِهِنَّ وَهُنَّ الْخَالَاتُ، فَمَرْجِعُ تَحْرِيمِ هَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى قَاعِدَةِ الْمُرُوءَةِ التَّابِعَةِ لِكُلِّيَّةِ حِفْظِ الْعِرْضِ، مِنْ قِسْمِ الْمُنَاسِبِ الضَّرُورِيِّ، وَذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ مَظَاهِرِ الرُّقِيِّ الْبَشَرِيِّ. وَ (الْ) فِي قَوْلِهِ: وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ بَنَاتُ أَخِيكُمْ وَبَنَاتُ أُخْتِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ سَمَّى الْمَرَاضِعَ أُمَّهَاتٍ جَرْيًا عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمَا هُنَّ بِأُمَّهَاتٍ حَقِيقَةً. وَلَكِنَّهُنَّ تَنَزَّلْنَ مَنْزِلَةَ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ بِلِبَانِهِنَّ تَغَذَّتِ الْأَطْفَالُ، وَلِمَا فِي فِطْرَةِ الْأَطْفَالِ مِنْ مَحَبَّةٍ لِمُرْضِعَاتِهِمْ مَحَبَّةَ أُمَّهَاتِهِمُ الْوَالِدَاتِ، وَلِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ هَذَا الْإِطْلَاقِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الْعَرَبُ ثُمَّ أُلْحِقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمُرَادَ الأمّهات إِذْ لَوْلَا قَصْدُ إِرَادَةِ الْمُرْضِعَاتِ لَمَا كَانَ لِهَذَا الْوَصْفِ جَدْوَى.
وَقَدْ أُجْمِلَتْ هُنَا صِفَةُ الْإِرْضَاعِ وَمُدَّتُهُ وَعَدَدُهُ إِيكَالًا لِلنَّاسِ إِلَى مُتَعَارَفِهِمْ. وَمِلَاكُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الرَّضَاعَ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ لَهُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ الْغِذَاءُ الَّذِي لَا غِذَاءَ غَيْرَهُ لِلطِّفْلِ يَعِيشُ بِهِ، فَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَثَرِ فِي دَوَامِ حَيَاةِ الطِّفْلِ مَا يُمَاثِلُ أَثَرَ الْأُمِّ فِي أَصْلِ حَيَاةِ طِفْلِهَا. فَلَا يُعْتَبَرُ الرَّضَاعُ سَبَبًا فِي حُرْمَةِ الْمُرْضِعِ عَلَى رَضِيعِهَا إِلَّا مَا اسْتَوْفَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حُصُولِ تَغْذِيَةِ الطِّفْلِ وَهُوَ مَا كَانَ فِي مُدَّةِ عَدَمِ اسْتِغْنَاءِ الطِّفْلِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ»
. وَقد حُدِّدَتْ مُدَّةُ الْحَاجَّةِ إِلَى الرَّضَاعِ بِالْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٣]. وَلَا اعْتِدَادَ بِالرَّضَاعِ الْحَاصِلِ بَعْدَ مُضِيِّ تَجَاوُزِ الطِّفْلِ حَوْلَيْنِ مِنْ عُمْرِهِ، بِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُدَّةُ حَوْلَانِ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ:
حَوْلَانِ وَأَيَّامٌ يَسِيرَةٌ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: حَوْلَانِ وَشَهْرَانِ. وَرَوَى عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: وَالشَّهْرَانِ وَالثَّلَاثَةُ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَلَا
وَقَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ سَمَّى الْمَرَاضِعَ أُمَّهَاتٍ جَرْيًا عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمَا هُنَّ بِأُمَّهَاتٍ حَقِيقَةً. وَلَكِنَّهُنَّ تَنَزَّلْنَ مَنْزِلَةَ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ بِلِبَانِهِنَّ تَغَذَّتِ الْأَطْفَالُ، وَلِمَا فِي فِطْرَةِ الْأَطْفَالِ مِنْ مَحَبَّةٍ لِمُرْضِعَاتِهِمْ مَحَبَّةَ أُمَّهَاتِهِمُ الْوَالِدَاتِ، وَلِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ هَذَا الْإِطْلَاقِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الْعَرَبُ ثُمَّ أُلْحِقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمُرَادَ الأمّهات إِذْ لَوْلَا قَصْدُ إِرَادَةِ الْمُرْضِعَاتِ لَمَا كَانَ لِهَذَا الْوَصْفِ جَدْوَى.
وَقَدْ أُجْمِلَتْ هُنَا صِفَةُ الْإِرْضَاعِ وَمُدَّتُهُ وَعَدَدُهُ إِيكَالًا لِلنَّاسِ إِلَى مُتَعَارَفِهِمْ. وَمِلَاكُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الرَّضَاعَ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ لَهُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ الْغِذَاءُ الَّذِي لَا غِذَاءَ غَيْرَهُ لِلطِّفْلِ يَعِيشُ بِهِ، فَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَثَرِ فِي دَوَامِ حَيَاةِ الطِّفْلِ مَا يُمَاثِلُ أَثَرَ الْأُمِّ فِي أَصْلِ حَيَاةِ طِفْلِهَا. فَلَا يُعْتَبَرُ الرَّضَاعُ سَبَبًا فِي حُرْمَةِ الْمُرْضِعِ عَلَى رَضِيعِهَا إِلَّا مَا اسْتَوْفَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حُصُولِ تَغْذِيَةِ الطِّفْلِ وَهُوَ مَا كَانَ فِي مُدَّةِ عَدَمِ اسْتِغْنَاءِ الطِّفْلِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ»
. وَقد حُدِّدَتْ مُدَّةُ الْحَاجَّةِ إِلَى الرَّضَاعِ بِالْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٣]. وَلَا اعْتِدَادَ بِالرَّضَاعِ الْحَاصِلِ بَعْدَ مُضِيِّ تَجَاوُزِ الطِّفْلِ حَوْلَيْنِ مِنْ عُمْرِهِ، بِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُدَّةُ حَوْلَانِ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ:
حَوْلَانِ وَأَيَّامٌ يَسِيرَةٌ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: حَوْلَانِ وَشَهْرَانِ. وَرَوَى عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: وَالشَّهْرَانِ وَالثَّلَاثَةُ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَلَا
296
اعْتِدَادَ بِرَضَاعٍ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ زَوْجَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: ٤] إِذْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا كَمَا يَدْخُلُ الْأَبْنَاءُ عَلَى أُمَّهَاتِهِمْ، فَتِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهَا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ الْحِجَابَ أَرْضَعَتْهُ، تَأَوَّلَتْ ذَلِكَ مِنْ إِذْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَهْلَةَ زَوْجِ أَبِي حُذَيْفَةَ
، وَهُوَ رَأْيٌ لَمْ يُوَافِقْهَا عَلَيْهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ عَلَيْهِنَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ بِهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، بِإِعْمَالِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ. وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَ أَنْ أَفْتَى بِهِ.
وأمّا مِقْدَارُ الرَّضَاعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَهُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّضَاعِ وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ فِي الْحَوْلَيْنِ وَلَوْ مَصَّةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ كَانَ
الْحُكْمُ فِي أَوَّلِ أَمْرِ التَّحْرِيمِ أَنْ لَا تَقَعَ الْحُرْمَةُ إِلَّا بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ:
هُوَ مَنْسُوخٌ، وَرَدُّوا قَوْلَهَا (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ) بِنِسْبَةِ الرَّاوِي إِلَى قِلَّةِ الضَّبْطِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُسْتَرَابَةٌ إِذْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْرَأُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا فُطِمَ الرَّضِيعُ قبل الْحَوْلَيْنِ فظاما اسْتَغْنَى بَعْدَهُ عَنْ لَبَنِ الْمُرْضِعِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ مَنْ أَرْضَعَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ إِطْلَاقُ اسْمِ الْأُخْتِ عَلَى الَّتِي رَضَعَتْ مِنْ ثَدْيِ مُرْضِعَةِ مَنْ أُضِيفَتْ أُخْتٌ إِلَيْهِ جَرَى عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِطْلَاقِ الْأُمِّ عَلَى الْمُرْضِعِ. وَالرَّضَاعَةُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- اسْمُ مَصْدَرِ رَضَعَ، وَيَجُوزُ- كَسْرُ الرَّاءِ- وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ.
وَمَحَلُّ مِنَ الرَّضاعَةِ حَالٌ مِنْ أَخَواتُكُمْ وَ (مِنَ) فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ، فَلَا تُعْتَبَرُ أُخُوَّةُ الرَّضَاعَةِ إِلَّا بِرَضَاعَةِ الْبِنْتِ مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتِ الْوَلَدَ.
وَقَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورَاتُ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ هُنَّ الْمُحَرَّمَاتُ بِسَبَبِ الصِّهْرِ، وَلَا أَحْسَبُ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِنْهَا، كَيْفَ وَقَدْ أَبَاحُوا أَزْوَاجَ الْآبَاءِ وَهُنَّ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ جَمِيعِ نِسَاءِ الصِّهْرِ، فَكَيْفَ
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ زَوْجَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: ٤] إِذْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا كَمَا يَدْخُلُ الْأَبْنَاءُ عَلَى أُمَّهَاتِهِمْ، فَتِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهَا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ الْحِجَابَ أَرْضَعَتْهُ، تَأَوَّلَتْ ذَلِكَ مِنْ إِذْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَهْلَةَ زَوْجِ أَبِي حُذَيْفَةَ
، وَهُوَ رَأْيٌ لَمْ يُوَافِقْهَا عَلَيْهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ عَلَيْهِنَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ بِهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، بِإِعْمَالِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ. وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَ أَنْ أَفْتَى بِهِ.
وأمّا مِقْدَارُ الرَّضَاعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَهُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّضَاعِ وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ فِي الْحَوْلَيْنِ وَلَوْ مَصَّةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ كَانَ
الْحُكْمُ فِي أَوَّلِ أَمْرِ التَّحْرِيمِ أَنْ لَا تَقَعَ الْحُرْمَةُ إِلَّا بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ:
هُوَ مَنْسُوخٌ، وَرَدُّوا قَوْلَهَا (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ) بِنِسْبَةِ الرَّاوِي إِلَى قِلَّةِ الضَّبْطِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُسْتَرَابَةٌ إِذْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْرَأُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا فُطِمَ الرَّضِيعُ قبل الْحَوْلَيْنِ فظاما اسْتَغْنَى بَعْدَهُ عَنْ لَبَنِ الْمُرْضِعِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ مَنْ أَرْضَعَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ إِطْلَاقُ اسْمِ الْأُخْتِ عَلَى الَّتِي رَضَعَتْ مِنْ ثَدْيِ مُرْضِعَةِ مَنْ أُضِيفَتْ أُخْتٌ إِلَيْهِ جَرَى عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِطْلَاقِ الْأُمِّ عَلَى الْمُرْضِعِ. وَالرَّضَاعَةُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- اسْمُ مَصْدَرِ رَضَعَ، وَيَجُوزُ- كَسْرُ الرَّاءِ- وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ.
وَمَحَلُّ مِنَ الرَّضاعَةِ حَالٌ مِنْ أَخَواتُكُمْ وَ (مِنَ) فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ، فَلَا تُعْتَبَرُ أُخُوَّةُ الرَّضَاعَةِ إِلَّا بِرَضَاعَةِ الْبِنْتِ مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتِ الْوَلَدَ.
وَقَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورَاتُ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ هُنَّ الْمُحَرَّمَاتُ بِسَبَبِ الصِّهْرِ، وَلَا أَحْسَبُ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِنْهَا، كَيْفَ وَقَدْ أَبَاحُوا أَزْوَاجَ الْآبَاءِ وَهُنَّ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ جَمِيعِ نِسَاءِ الصِّهْرِ، فَكَيْفَ
297
يُظَنُّ أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبَ وَقَدْ
أُشِيعَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ رَبِيبَتُهُ إِذْ هِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَسَأَلَتْهُ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي لَمَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ»
، وَكَذَلِكَ حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ إِذْ هُنَّ أَبْعَدُ مِنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، فَأَرَى أَنَّ هَذَا مِنْ تَحْرِيمِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ مَا حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (١) لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
وَتَحْرِيمُ هَؤُلَاءِ حِكْمَتُهُ تَسْهِيلُ الْخُلْطَةِ، وَقَطْعُ الْغَيْرَةِ، بَيْنَ قَرِيبِ الْقَرَابَةِ حَتَّى لَا تُفْضِي إِلَى حَزَازَاتٍ وَعَدَاوَاتٍ، قَالَ الْفَخْرُ: «لَوْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْمَرْأَةِ أَبُو الرَّجُلِ وَابْنُهُ، وَلَمْ تَدْخُلْ عَلَى الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ وَابْنَتُهَا، لَبَقِيَتِ الْمَرْأَةُ كَالْمَحْبُوسَةِ. وَلَتَعَطَّلَ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَكْثَرُ الْمَصَالِحِ، وَلَوْ كَانَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِ هَؤُلَاءِ دُونَ حُكْمِ الْمَحْرَمِيَّةِ فَقَدْ تَمْتَدُّ عَيْنُ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ وَتَشْتَدُّ الرَّغْبَةُ فَتَحْصُلُ النُّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُنَّ، وَالْإِيذَاءُ مِنَ الْأَقَارِبِ أَشَدُّ إِيلَامًا،
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّطْلِيقُ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتِ الْمَحْرَمِيَّةُ انْقَطَعَتِ الْأَطْمَاعُ، وَانْحَبَسَتِ الشَّهْوَةُ، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَيَبْقَى النِّكَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَلِيمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ» قُلْتُ: وَعَلَيْهِ فَتَحْرِيمُ هَؤُلَاءِ مِنْ قِسْمِ الْحَاجِيِّ مِنَ الْمُنَاسِبِ.
وَالرَّبَائِبُ جَمْعُ ربيبة، وَهِي فعلية بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مِنْ رَبَّهُ إِذَا كَفَلَهُ وَدَبَّرَ شُؤُونَهُ، فَزَوْجُ الْأُمِّ رَابٌّ وَابْنَتُهَا مَرْبُوبَةٌ لَهُ، لِذَلِكَ قِيلَ لَهَا رَبِيبَةٌ.
وَالْحُجُورُ جَمْعُ حِجْرٍ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الْجِيمِ- وَهُوَ مَا يَحْوِيهِ مُجْتَمَعُ الرِّجْلَيْنِ لِلْجَالِسِ الْمُتَرَبِّعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَعْنًى مَجَازِيٌّ وَهُوَ الْحَضَانَةُ وَالْكَفَالَةُ، لِأَنَّ أَوَّلَ كَفَالَةِ الطِّفْلِ تَكُونُ بِوَضْعِهِ فِي الْحِجْرِ، كَمَا سُمِّيَتْ حَضَانَةً، لِأَنَّ أَوَّلَهَا وَضْعُ الطِّفْلِ فِي الْحِضْنِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الرَّبِيبَةَ لَا تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي كَفَالَتِهِ،
_________
(١) تقدم فِي صفحة ٧٨ (من هَذِه الصفحات).
أُشِيعَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ رَبِيبَتُهُ إِذْ هِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَسَأَلَتْهُ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي لَمَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ»
، وَكَذَلِكَ حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ إِذْ هُنَّ أَبْعَدُ مِنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، فَأَرَى أَنَّ هَذَا مِنْ تَحْرِيمِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ مَا حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (١) لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
وَتَحْرِيمُ هَؤُلَاءِ حِكْمَتُهُ تَسْهِيلُ الْخُلْطَةِ، وَقَطْعُ الْغَيْرَةِ، بَيْنَ قَرِيبِ الْقَرَابَةِ حَتَّى لَا تُفْضِي إِلَى حَزَازَاتٍ وَعَدَاوَاتٍ، قَالَ الْفَخْرُ: «لَوْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْمَرْأَةِ أَبُو الرَّجُلِ وَابْنُهُ، وَلَمْ تَدْخُلْ عَلَى الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ وَابْنَتُهَا، لَبَقِيَتِ الْمَرْأَةُ كَالْمَحْبُوسَةِ. وَلَتَعَطَّلَ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَكْثَرُ الْمَصَالِحِ، وَلَوْ كَانَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِ هَؤُلَاءِ دُونَ حُكْمِ الْمَحْرَمِيَّةِ فَقَدْ تَمْتَدُّ عَيْنُ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ وَتَشْتَدُّ الرَّغْبَةُ فَتَحْصُلُ النُّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُنَّ، وَالْإِيذَاءُ مِنَ الْأَقَارِبِ أَشَدُّ إِيلَامًا،
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّطْلِيقُ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتِ الْمَحْرَمِيَّةُ انْقَطَعَتِ الْأَطْمَاعُ، وَانْحَبَسَتِ الشَّهْوَةُ، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَيَبْقَى النِّكَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَلِيمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ» قُلْتُ: وَعَلَيْهِ فَتَحْرِيمُ هَؤُلَاءِ مِنْ قِسْمِ الْحَاجِيِّ مِنَ الْمُنَاسِبِ.
وَالرَّبَائِبُ جَمْعُ ربيبة، وَهِي فعلية بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مِنْ رَبَّهُ إِذَا كَفَلَهُ وَدَبَّرَ شُؤُونَهُ، فَزَوْجُ الْأُمِّ رَابٌّ وَابْنَتُهَا مَرْبُوبَةٌ لَهُ، لِذَلِكَ قِيلَ لَهَا رَبِيبَةٌ.
وَالْحُجُورُ جَمْعُ حِجْرٍ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الْجِيمِ- وَهُوَ مَا يَحْوِيهِ مُجْتَمَعُ الرِّجْلَيْنِ لِلْجَالِسِ الْمُتَرَبِّعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَعْنًى مَجَازِيٌّ وَهُوَ الْحَضَانَةُ وَالْكَفَالَةُ، لِأَنَّ أَوَّلَ كَفَالَةِ الطِّفْلِ تَكُونُ بِوَضْعِهِ فِي الْحِجْرِ، كَمَا سُمِّيَتْ حَضَانَةً، لِأَنَّ أَوَّلَهَا وَضْعُ الطِّفْلِ فِي الْحِضْنِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الرَّبِيبَةَ لَا تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي كَفَالَتِهِ،
_________
(١) تقدم فِي صفحة ٧٨ (من هَذِه الصفحات).
298
لِأَنَّ قَوْلَهُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وَصْفٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ إِرَادَةُ التَّقْيِيدِ كَمَا أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ حَضَانَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ. وَنُسِبَ الْأَخْذُ بِهَذَا الظَّاهِرِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَوَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّحَاوِيُّ صِحَّةَ سَنَدِ النَّقْلِ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّهُ نَقْلٌ بَاطِلٌ. وَجَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى بِصِحَّةِ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ بِذَلِكَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَوْنِهَا رَبِيبَةً وَمَا حَدَثَ مِنَ الْوَقَارِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَاجِرِهَا إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَجَعَلُوا هَذَا الْوَصْفَ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَجَعَلُوا الرَّبِيبَةَ حَرَامًا عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هِيَ فِي حِجْرِهِ. وَكَأَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ هُوَ النَّظَرُ إِلَى عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالصِّهْرِ، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا كَلَامُ الْفَخْرِ الْمُتَقَدِّمُ. وَعِنْدِي أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ: أَيْ لِأَنَّهُنَّ فِي حُجُورِكُمْ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ بِالْمَظِنَّةِ فَلَا يَقْتَضِي اطِّرَادَ الْعِلَّةِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِ الْحُكْمِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ذُكِرَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَهُوَ قَيْدٌ فِي تَحْرِيمِ الرَّبَائِبِ بِحَيْثُ لَا تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ إِلَّا إِذَا وَقَعَ الْبِنَاءُ بِأُمِّهَا، وَلَا يُحَرِّمُهَا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى أُمِّهَا، وَهَذَا الْقَيْدُ جَرَى هُنَا وَلَمْ يَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ بَلْ أُطْلِقَ الْحُكْمُ هُنَاكَ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ هُنَاكَ: أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مَعْنَاهُ أُمَّهَاتُ أَزْوَاجِكُمْ، فَأُمُّ الزَّوْجَةِ تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الرَّجُلِ عَلَى ابْنَتِهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ يُصَيِّرُهَا امْرَأَتَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الدُّخُولُ وَلَمْ يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ مِنْهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَعْدَهُ، وَلَا جَعَلُوا الصِّفَةَ
رَاجِعَةً لِلْمُتَعَاطِفَاتِ لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفٍ مُتَعَيِّنٍ تَعَلُّقُهُ بِأَحَدِ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
مِنْ نِسائِكُمُ الْمُتَعَلِّقُ بِقَوْلِهِ: وَرَبائِبُكُمُ وَلَا يَصْلُحُ تَعَلُّقُهُ بِ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا تَحْرُمُ أُمُّ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا حَتَّى يَدْخُلَ بِابْنَتِهَا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مَحْمَلًا. وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْجُمْهُورُ أَنْ
وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ذُكِرَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَهُوَ قَيْدٌ فِي تَحْرِيمِ الرَّبَائِبِ بِحَيْثُ لَا تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ إِلَّا إِذَا وَقَعَ الْبِنَاءُ بِأُمِّهَا، وَلَا يُحَرِّمُهَا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى أُمِّهَا، وَهَذَا الْقَيْدُ جَرَى هُنَا وَلَمْ يَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ بَلْ أُطْلِقَ الْحُكْمُ هُنَاكَ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ هُنَاكَ: أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مَعْنَاهُ أُمَّهَاتُ أَزْوَاجِكُمْ، فَأُمُّ الزَّوْجَةِ تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الرَّجُلِ عَلَى ابْنَتِهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ يُصَيِّرُهَا امْرَأَتَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الدُّخُولُ وَلَمْ يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ مِنْهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَعْدَهُ، وَلَا جَعَلُوا الصِّفَةَ
رَاجِعَةً لِلْمُتَعَاطِفَاتِ لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفٍ مُتَعَيِّنٍ تَعَلُّقُهُ بِأَحَدِ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
مِنْ نِسائِكُمُ الْمُتَعَلِّقُ بِقَوْلِهِ: وَرَبائِبُكُمُ وَلَا يَصْلُحُ تَعَلُّقُهُ بِ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا تَحْرُمُ أُمُّ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا حَتَّى يَدْخُلَ بِابْنَتِهَا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مَحْمَلًا. وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْجُمْهُورُ أَنْ
299
يُوَجِّهُوا مَذْهَبَهُمْ بِعِلَّةٍ بَيِّنَةٍ، وَلَا أَنْ يَسْتَظْهِرُوا عَلَيْهِ بِأَثَرٍ. وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا تُسَاوِي عِلَّةَ تَحْرِيمِ رَبِيبَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ الرَّبَائِبَ، فَلَوْ أَرَادَ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ بِالْأُمَّهَاتِ فِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِ بَنَاتِهِنَّ لَذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ مَعَ الرَّبَائِبِ.
وَهُنَالِكَ رِوَايَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الْأُمَّ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلَهُ التَّزَوُّجُ بِابْنَتِهَا، وَإِذَا مَاتَتْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا. وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ عُدُولٌ عَنِ الْعَقْدِ، وَالْمَوْتَ أَمْرٌ قَاهِرٌ، فَكَأَنَّهُ كَانَ نَاوِيًا الدُّخُولَ بِهَا، وَلَا حَظَّ لِهَذَا الْقَوْلِ.
وَقَوْلُهُ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الْحَلَائِلُ جَمْعُ الْحَلِيلَةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، لِأَنَّهَا تَحِلُّ مَعَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ مُحَلَّلَةٍ إِذْ أَبَاحَهَا أَهْلُهَا لَهُ، فَيَكُونُ مِنْ مَجِيءِ فَعِيلٍ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ فِي قَوْلِهِمْ حَكِيمٍ، وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَمَا نَكَحَ أَبْنَاؤُكُمْ- أَوْ- وَنِسَاءُ أَبْنَائِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ تَكْرِيرِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ فِي الْإِطْلَاقِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَدْ سُمِّيَ الزَّوْج أَيْضا بالحليل وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ كَذَلِكَ. وَتَحْرِيمُ حَلِيلَةِ الِابْنِ وَاضِحُ الْعِلَّةِ، كَتَحْرِيمِ حَلِيلَةِ الْأَبِ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْأَبْنَاءِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُتَبَنَّى ابْنًا، وَتَجْعَلُ لَهُ مَا لِلِابْنِ، حَتَّى أَبْطَلَ الْإِسْلَام ذَلِك وَقَوله تَعَالَى:
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: ٥] فَمَا دُعِيَ أَحَدٌ لِمُتَبَنِّيهِ بَعْدُ، إِلَّا الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَعُدَّتْ خُصُوصِيَّةً. وَأَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالتَّشْرِيعِ الْفِعْلِيِّ بِالْإِذْنِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَزَوُّجِ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ تَبَنَّاهُ، وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ. وَابْنُ الِابْنِ وَابْنُ الْبِنْتِ، وَإِنْ سَفَلَا، أَبْنَاءٌ مِنَ الْأَصْلَابِ لِأَنَّ لِلْجِدِّ عَلَيْهِمْ وِلَادَةً لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ هَذَا تَحْرِيمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَحِكْمَتُهُ دَفْعُ
الْغَيْرَةِ عَمَّنْ يُرِيدُ الشَّرْعُ بَقَاءَ تَمَامِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ
وَهُنَالِكَ رِوَايَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الْأُمَّ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلَهُ التَّزَوُّجُ بِابْنَتِهَا، وَإِذَا مَاتَتْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا. وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ عُدُولٌ عَنِ الْعَقْدِ، وَالْمَوْتَ أَمْرٌ قَاهِرٌ، فَكَأَنَّهُ كَانَ نَاوِيًا الدُّخُولَ بِهَا، وَلَا حَظَّ لِهَذَا الْقَوْلِ.
وَقَوْلُهُ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الْحَلَائِلُ جَمْعُ الْحَلِيلَةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، لِأَنَّهَا تَحِلُّ مَعَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ مُحَلَّلَةٍ إِذْ أَبَاحَهَا أَهْلُهَا لَهُ، فَيَكُونُ مِنْ مَجِيءِ فَعِيلٍ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ فِي قَوْلِهِمْ حَكِيمٍ، وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَمَا نَكَحَ أَبْنَاؤُكُمْ- أَوْ- وَنِسَاءُ أَبْنَائِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ تَكْرِيرِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ فِي الْإِطْلَاقِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَدْ سُمِّيَ الزَّوْج أَيْضا بالحليل وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ كَذَلِكَ. وَتَحْرِيمُ حَلِيلَةِ الِابْنِ وَاضِحُ الْعِلَّةِ، كَتَحْرِيمِ حَلِيلَةِ الْأَبِ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْأَبْنَاءِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُتَبَنَّى ابْنًا، وَتَجْعَلُ لَهُ مَا لِلِابْنِ، حَتَّى أَبْطَلَ الْإِسْلَام ذَلِك وَقَوله تَعَالَى:
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: ٥] فَمَا دُعِيَ أَحَدٌ لِمُتَبَنِّيهِ بَعْدُ، إِلَّا الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَعُدَّتْ خُصُوصِيَّةً. وَأَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالتَّشْرِيعِ الْفِعْلِيِّ بِالْإِذْنِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَزَوُّجِ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ تَبَنَّاهُ، وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ. وَابْنُ الِابْنِ وَابْنُ الْبِنْتِ، وَإِنْ سَفَلَا، أَبْنَاءٌ مِنَ الْأَصْلَابِ لِأَنَّ لِلْجِدِّ عَلَيْهِمْ وِلَادَةً لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ هَذَا تَحْرِيمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَحِكْمَتُهُ دَفْعُ
الْغَيْرَةِ عَمَّنْ يُرِيدُ الشَّرْعُ بَقَاءَ تَمَامِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ
300
الْمُرَادَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِيمَا فِيهِ غَيْرَةٌ، وَهُوَ النِّكَاحُ أَصَالَةً، وَيُلْحَقُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسَرِّي بِمِلْكِ الْيَمِينِ، إِذِ الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاء: ٢٤] يُخَصُّ بِغَيْرِ الْمَذْكُورَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي التَّسَرِّي فَقَالَ: «أَحَلَّتْهُمَا» آيَةٌ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ، أَيْ فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسَرِّي حَرَامٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ مَالِكٌ «فَإِنْ تَسَرَّى بِإِحْدَى الْأُخْتَيْنِ ثُمَّ أَرَادَ التَّسَرِّي بِالْأُخْرَى وَقَفَ حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُولَى بِمَا تَحْرُمُ بِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ عِتْقٍ وَلَا يُحَدُّ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا». وَقَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي التَّسَرِّي لِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ، أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مُجَرَّدِ الْمِلْكِ فَلَا حَظْرَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ هُوَ كَنَظِيرِهِ السَّابِقِ، وَالْبَيَانُ فِيهِ كَالْبَيَانِ هُنَاكَ، بَيْدَ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ قَالَ هُنَا: وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى زَائِدًا وَهُوَ جَوَازُ مَا سَلَفَ وَأَنَّهُ إِذَا جَرَى الْجَمْعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا وَإِذَا جَرَى الْجَمْعُ فِي الْإِسْلَامِ خُيِّرَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِجْرَاءِ عُقُودِ الْكُفَّارِ عَلَى مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَعْزُ الْقَوْلَ بِذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ تَقْرِيرَ مَا عَقَدُوهُ مِنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَالْمَغْفِرَةُ لِلتَّجَاوُزِ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ، وَالرَّحْمَةُ لِبَيَانِ سَبَبِ ذَلِكَ التَّجَاوُزِ
وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ هُوَ كَنَظِيرِهِ السَّابِقِ، وَالْبَيَانُ فِيهِ كَالْبَيَانِ هُنَاكَ، بَيْدَ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ قَالَ هُنَا: وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى زَائِدًا وَهُوَ جَوَازُ مَا سَلَفَ وَأَنَّهُ إِذَا جَرَى الْجَمْعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا وَإِذَا جَرَى الْجَمْعُ فِي الْإِسْلَامِ خُيِّرَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِجْرَاءِ عُقُودِ الْكُفَّارِ عَلَى مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَعْزُ الْقَوْلَ بِذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ تَقْرِيرَ مَا عَقَدُوهُ مِنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَالْمَغْفِرَةُ لِلتَّجَاوُزِ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ، وَالرَّحْمَةُ لِبَيَانِ سَبَبِ ذَلِكَ التَّجَاوُزِ
301
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٤]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
عَطْفٌ عَلَى وَأَنْ تَجْمَعُوا [النِّسَاء: ٢٣] وَالتَّقْدِيرُ:
وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَخْ | فَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِعَارِضٍ نَظِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. |
وَيُقَالُ: امْرَأَةٌ مُحْصِنَةٌ- بِكَسْرِ الصَّادِ- أَحْصَنَتْ نَفْسَهَا عَنْ غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَمْ يُقْرَأْ قَوْلُهُ:
وَالْمُحْصَناتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا بِالْفَتْحِ.
وَيُقَالُ أَحْصَنَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُحْصِنٌ- بِكَسْرِ الصَّادِ- لَا غَيْرُ، وَلَا يُقَالُ مُحْصَنٌ: وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ: مُحْصَنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ- بِفَتْح الصَّاد-، وقريء قَوْلُهُ: ومحصنات- بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ- وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ [النِّسَاء: ٢٥]- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ-. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مَا دُمْنَ فِي عِصْمَةِ أَزْوَاجِهِنَّ، فَالْمَقْصُودُ تَحْرِيمُ اشْتِرَاكِ رَجُلَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي عِصْمَةِ امْرَأَةٍ، وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِنَوْعٍ مِنَ النِّكَاحِ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى الضِّمَادَ، وَلِنَوْعٍ آخَرَ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنْ يَشْتَرِكَ الرِّجَالُ فِي الْمَرْأَةِ وَهُمْ دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ، فَتَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مَنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ، تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ. وَنَوْعٌ آخَرُ يُسَمَّى نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ، فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا رَغْبَةً فِي
5
نَجَابَةِ الْوَلَدِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا كَانَ يَقَعُ بِتَرَاضٍ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَالْمَقْصِدُ لَا يَنْحَصِرُ فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَقَدْ يَكُونُ لِبَذْلِ مَالٍ أَوْ صُحْبَةٍ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ عَقْدٍ عَلَى نِكَاحِ ذَاتِ الزَّوْجِ، أَيْ تَحْرِيمِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ. وَأَفَادَتِ الْآيَةُ تَعْمِيمَ حُرْمَتِهِنَّ وَلَوْ كَانَ أَزْوَاجُهُنَّ مُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أَيْ إِلَّا اللَّائِي سَبَيْتُمُوهُنَّ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَدِ حِينَ تُمْسِكُ السَّيْفَ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ السَّبْيَ هَادِمًا لِلنِّكَاحِ تَقْرِيرًا لِمُعْتَادِ الْأُمَمِ فِي الْحُرُوبِ، وَتَخْوِيفًا أَنْ لَا يُنَاصِبُوا الْإِسْلَامَ لِأَنَّهُمْ لَوْ رُفِعَ عَنْهُمُ السَّبْيُ لَتَكَالَبُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ لَا شَيْءَ يَحْذَرُهُ الْعَرَبِيُّ مِنَ الْحَرْبِ أَشَدُّ مِنْ سَبْيِ نِسْوَتِهِ، ثُمَّ مِنْ أَسْرِهِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ سَبْيَ الْمَرْأَةِ دُونَ زَوْجِهَا يَهْدِمُ النِّكَاحَ، وَيُحِلُّهَا لِمَنْ وَقَعَتْ فِي قِسْمَتِهِ عِنْدَ قِسْمَةِ الْمَغَانِمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الَّتِي تُسْبَى مَعَ زَوْجِهَا: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ سَبْيَهَا يَهْدِمُ نِكَاحَهَا، وَهَذَا إِغْضَاءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا إِبْقَاءُ حُكْمِ الِاسْتِرْقَاقِ بِالْأَسْرِ. وَأَوْمَأَتْ إِلَيْهَا الصِّلَةُ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَإِلَّا لَقَالَ: إِلَّا مَا تَرَكَتْ
أَزْوَاجَهُنَّ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ الْأَمَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ فِي مِلْكٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مِلْكِ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ يُسَوِّغُ لِمَالِكِهَا الْجَدِيدِ إِبْطَالَ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، كَالَّتِي تُبَاعُ أَوْ تُوهَبُ أَوْ تُورَثُ، فَانْتِقَالُ الْمِلْكِ عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ شُذُوذٌ فَإِنَّ مَالِكَهَا الثَّانِيَ إِنَّمَا اشْتَرَاهَا عَالِمًا بِأَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَصْحِيحُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِبْقَاءُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي قَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْ مَا كُنَّ مَمْلُوكَاتٍ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ مَا تَجَدَّدَ مِلْكُهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حُرَّةً ذَاتَ زَوْجٍ. فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّجَدُّدِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَحَيَّرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ: «لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ». وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مَنْ يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ السَّبْيَ هَادِمًا لِلنِّكَاحِ تَقْرِيرًا لِمُعْتَادِ الْأُمَمِ فِي الْحُرُوبِ، وَتَخْوِيفًا أَنْ لَا يُنَاصِبُوا الْإِسْلَامَ لِأَنَّهُمْ لَوْ رُفِعَ عَنْهُمُ السَّبْيُ لَتَكَالَبُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ لَا شَيْءَ يَحْذَرُهُ الْعَرَبِيُّ مِنَ الْحَرْبِ أَشَدُّ مِنْ سَبْيِ نِسْوَتِهِ، ثُمَّ مِنْ أَسْرِهِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي | وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا |
أَزْوَاجَهُنَّ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ الْأَمَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ فِي مِلْكٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مِلْكِ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ يُسَوِّغُ لِمَالِكِهَا الْجَدِيدِ إِبْطَالَ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، كَالَّتِي تُبَاعُ أَوْ تُوهَبُ أَوْ تُورَثُ، فَانْتِقَالُ الْمِلْكِ عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ شُذُوذٌ فَإِنَّ مَالِكَهَا الثَّانِيَ إِنَّمَا اشْتَرَاهَا عَالِمًا بِأَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَصْحِيحُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِبْقَاءُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي قَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْ مَا كُنَّ مَمْلُوكَاتٍ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ مَا تَجَدَّدَ مِلْكُهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حُرَّةً ذَاتَ زَوْجٍ. فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّجَدُّدِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَحَيَّرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ: «لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ». وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مَنْ يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ
6
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَمَةَ الرَّجُلِ إِذَا زَوَّجَهَا مِنْ زَوْجٍ لَا يَحْرُمُ عَلَى السَّيِّدِ قُرْبَانُهَا، مَعَ كَوْنِهَا ذَاتَ زَوْجٍ. وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْقُولًا عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عُمَرَ، وَأَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ عَنْ أَمَتِهِ الَّتِي زَوَّجَهَا وَهَلْ يَطَؤُهَا، فَأَنْكَرَ، فَقَالَ لَهُ: لَوِ اعْتَرَفْتَ لَجَعَلْتُكَ نَكَالًا.
وَقَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَذْيِيلٌ، وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ، فَ عَلَيْكُمْ نَائِبٌ مَنَابَ (الْزَمُوا)، وَهُوَ مُصَيَّرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِمْ: إِلَيْكَ، وَدُونَكَ، وَعَلَيْكَ. وكِتابَ اللَّهِ مَفْعُولُهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، أَوْ يُجْعَلُ مَنْصُوبًا بِ (عَلَيْكُمْ) مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَهُ، تَخْرِيجًا عَلَى تَأْوِيلِ سِيبَوَيْهِ فِي قَول الراجز:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتابَ مَصْدَرًا نَائِبًا مَنَابَ فِعْلِهِ، أَيْ كَتَبَ اللَّهُ ذَلِكَ كِتَابًا، وعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقًا بِهِ.
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] وَمَا بَعْدَهُ، وَبِذَلِكَ تَلْتَئِمُ
الْجُمَلُ الثَّلَاثُ فِي الْخَبَرِيَّةِ الْمُرَادِ بِهَا الْإِنْشَاءُ، وَفِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْمَاضَوِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
وَأُسْنِدَ التَّحْلِيلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارًا لِلْمِنَّةِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَ طَرِيقَةَ إِسْنَادِ التَّحْرِيمِ إِلَى الْمَجْهُولِ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مَشَقَّةٌ فَلَيْسَ الْمَقَامُ فِيهِ مَقَامَ مِنَّةٍ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: وَأُحِلَّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ- عَلَى الْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ عَلَى طَرِيقَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ.
وَقَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَذْيِيلٌ، وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ، فَ عَلَيْكُمْ نَائِبٌ مَنَابَ (الْزَمُوا)، وَهُوَ مُصَيَّرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِمْ: إِلَيْكَ، وَدُونَكَ، وَعَلَيْكَ. وكِتابَ اللَّهِ مَفْعُولُهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، أَوْ يُجْعَلُ مَنْصُوبًا بِ (عَلَيْكُمْ) مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَهُ، تَخْرِيجًا عَلَى تَأْوِيلِ سِيبَوَيْهِ فِي قَول الراجز:
يَا أيّها الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَ | إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ يَحْمَدُونَكَ |
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] وَمَا بَعْدَهُ، وَبِذَلِكَ تَلْتَئِمُ
الْجُمَلُ الثَّلَاثُ فِي الْخَبَرِيَّةِ الْمُرَادِ بِهَا الْإِنْشَاءُ، وَفِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْمَاضَوِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
وَأُسْنِدَ التَّحْلِيلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارًا لِلْمِنَّةِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَ طَرِيقَةَ إِسْنَادِ التَّحْرِيمِ إِلَى الْمَجْهُولِ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مَشَقَّةٌ فَلَيْسَ الْمَقَامُ فِيهِ مَقَامَ مِنَّةٍ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: وَأُحِلَّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ- عَلَى الْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ عَلَى طَرِيقَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ.
7
وَالْوَرَاءُ هُنَا بِمَعْنَى غَيْرَ وَدُونَ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْوَرَاءَ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي هِيَ جِهَةُ ظَهْرِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِ السَّائِرِ يَتْرُكُ مَا وَرَاءَهُ وَيَتَجَاوَزُهُ.
وَالْمَعْنَى: أَحَلَّ لَكُمْ مَا عَدَا أُولَئِكُمُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا أُنْزِلَ قَبْلَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ نَحْوَ (لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا)، وَنَحْوَ (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ).
وَقَوْلُهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ (مَا) بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَوْصُولِ مَفْعُولًا لِ (أُحِلَّ)، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ تَبْتَغُوهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ النِّسَاءَ الْمُبَاحَاتِ لَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ وَإِعْطَاءِ الْمُهُورِ، فَالْعَقْدُ هُوَ مَدْلُولُ (تَبْتَغُوا)، وَبَذْلُ الْمَهْرِ هُوَ مَدْلُولُ (بِأَمْوالِكُمْ)، وَرَابِطُ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ: تَقْدِيرُهُ أَنْ تَبْتَغُوهُ، وَالِاشْتِمَالُ هُنَا كَالِاشْتِمَالِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَنْ تَبْتَغُوا مَعْمُولًا لِلَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ أَحَلَّهُنَّ لِتَبْتَغُوهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ عَيْنُ مَا قُرِّرَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
ومُحْصِنِينَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ (تَبْتَغُوا) أَيْ مُحْصِنِينَ أَنْفُسَكُمْ مِنَ الزِّنَى، وَالْمُرَادُ مُتَزَوِّجِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ. غَيْرَ مُسافِحِينَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَالْمُسَافِحُ الزَّانِي، لِأَنَّ الزِّنَى
يُسَمَّى السِّفَاحَ، مُشْتَقًّا مِنَ السَّفْحِ، وَهُوَ أَنْ يُهْرَاقَ الْمَاءُ دُونَ حَبْسٍ، يُقَالُ: سَفَحَ الْمَاءُ.
وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ يَبْذُلُ كُلُّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ مَا رَامَهُ مِنْهُ دُونَ قيد وَلَا رضى وَلِيٍّ، فَكَأَنَّهُمُ اشْتَقُّوهُ مِنْ مَعْنَى الْبَذْلِ بِلَا تَقَيُّدٍ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ لِأَنَّ الْمِعْطَاءَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ السَّفَّاحُ.
وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ مِنَ الْمَرْأَةِ الْفَاحِشَةَ يَقُولُ لَهَا: سَافِحِينِي، فَرَجَعَ مَعْنَى السفاح إِلَى التباذل وَإِطْلَاقِ الْعِنَانِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ بِلَا عَقْدٍ، فَكَأَنَّهُ سَفَحَ سَفْحًا، أَيْ صَبًّا لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ، وَغَيْرُ هَذَا فِي اشْتِقَاقِهِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالزِّنَى.
وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْوَرَاءَ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي هِيَ جِهَةُ ظَهْرِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِ السَّائِرِ يَتْرُكُ مَا وَرَاءَهُ وَيَتَجَاوَزُهُ.
وَالْمَعْنَى: أَحَلَّ لَكُمْ مَا عَدَا أُولَئِكُمُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا أُنْزِلَ قَبْلَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ نَحْوَ (لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا)، وَنَحْوَ (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ).
وَقَوْلُهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ (مَا) بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَوْصُولِ مَفْعُولًا لِ (أُحِلَّ)، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ تَبْتَغُوهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ النِّسَاءَ الْمُبَاحَاتِ لَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ وَإِعْطَاءِ الْمُهُورِ، فَالْعَقْدُ هُوَ مَدْلُولُ (تَبْتَغُوا)، وَبَذْلُ الْمَهْرِ هُوَ مَدْلُولُ (بِأَمْوالِكُمْ)، وَرَابِطُ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ: تَقْدِيرُهُ أَنْ تَبْتَغُوهُ، وَالِاشْتِمَالُ هُنَا كَالِاشْتِمَالِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
مَخَافَةَ عَمْرٍو أَنْ تَكُونَ جِيَادُهُ | يُقَدْنَ إِلَيْنَا بَيْنَ حَافٍ وَنَاعِلِ |
ومُحْصِنِينَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ (تَبْتَغُوا) أَيْ مُحْصِنِينَ أَنْفُسَكُمْ مِنَ الزِّنَى، وَالْمُرَادُ مُتَزَوِّجِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ. غَيْرَ مُسافِحِينَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَالْمُسَافِحُ الزَّانِي، لِأَنَّ الزِّنَى
يُسَمَّى السِّفَاحَ، مُشْتَقًّا مِنَ السَّفْحِ، وَهُوَ أَنْ يُهْرَاقَ الْمَاءُ دُونَ حَبْسٍ، يُقَالُ: سَفَحَ الْمَاءُ.
وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ يَبْذُلُ كُلُّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ مَا رَامَهُ مِنْهُ دُونَ قيد وَلَا رضى وَلِيٍّ، فَكَأَنَّهُمُ اشْتَقُّوهُ مِنْ مَعْنَى الْبَذْلِ بِلَا تَقَيُّدٍ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ لِأَنَّ الْمِعْطَاءَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ السَّفَّاحُ.
وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ مِنَ الْمَرْأَةِ الْفَاحِشَةَ يَقُولُ لَهَا: سَافِحِينِي، فَرَجَعَ مَعْنَى السفاح إِلَى التباذل وَإِطْلَاقِ الْعِنَانِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ بِلَا عَقْدٍ، فَكَأَنَّهُ سَفَحَ سَفْحًا، أَيْ صَبًّا لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ، وَغَيْرُ هَذَا فِي اشْتِقَاقِهِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالزِّنَى.
8
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
تَفْرِيعٌ عَلَى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وَهُوَ تَفْرِيعٌ لَفْظِيٌّ لِبَيَانِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ وَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ تَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء:
٤] سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الصَّدَاقَ رُكْنًا لِلنِّكَاحِ، أَوْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُجَرَّدَ حَقٍّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ بِهِ وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) اسْمَ شَرْطٍ صَادِقًا عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ، لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ الْفَارِقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ الْخَبَرُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً لِأَنَّهُ اعْتُبِرَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ.
وَالِاسْتِمْتَاعُ: الِانْتِفَاعُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَسَمَّى اللَّهُ النِّكَاحَ اسْتِمْتَاعًا لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَجَمِيعُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [الرَّعْد: ٢٦].
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ عَلَى (مَا). وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: فَإِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ فَلَا يَجُوزُ اسْتِمْتَاعٌ بِهِنَّ دُونَ مَهْرٍ.
أَوْ يَكُونُ (مَا) صَادِقَةً عَلَى النِّسَاءِ، وَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْمَأْخُوذِ مِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ، أَيْ فَأَيُّ امْرَأَةٍ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَآتُوهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) مَوْصُولَةً، وَيَكُونَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهَا لِمُعَامَلَتِهَا مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَجِيءَ حِينَئِذٍ بِ (مَا) وَلَمْ يُعَبَّرْ بِ (مَنْ) لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النِّسَاءِ لَا الْقَصْدُ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى أَنَّ (مَا) تَجِيءُ لِلْعَاقِلِ كَثِيرًا وَلَا عَكْسَ: وفَرِيضَةً حَالٌ مِنْ أُجُورَهُنَّ أَيْ مَفْرُوضَةً، أَيْ مُقَدَّرَةً بَيْنَكُمْ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ قَطْعُ الْخُصُومَاتِ فِي أَعْظَمِ مُعَامَلَةٍ يُقْصَدُ مِنْهَا الْوِثَاقُ وَحُسْنُ السُّمْعَةِ.
وَأَمَّا نِكَاحُ التَّفْوِيضِ: وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ مَعَ السُّكُوتِ عَنِ الْمَهْرِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ فَجَوَازُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُفَوِّضُونَ إِلَّا وَهُمْ يَعْلَمُونَ مُعْتَادَ أَمْثَالِهِمْ، وَيَكُونُ (فَرِيضَةً) بِمَعْنَى تَقْدِيرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ فِيمَا زِدْتُمْ لَهُنَّ أَوْ أَسْقَطْنَ لَكُمْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بَيِّنًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.
تَفْرِيعٌ عَلَى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وَهُوَ تَفْرِيعٌ لَفْظِيٌّ لِبَيَانِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ وَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ تَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء:
٤] سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الصَّدَاقَ رُكْنًا لِلنِّكَاحِ، أَوْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُجَرَّدَ حَقٍّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ بِهِ وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) اسْمَ شَرْطٍ صَادِقًا عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ، لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ الْفَارِقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ الْخَبَرُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً لِأَنَّهُ اعْتُبِرَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ.
وَالِاسْتِمْتَاعُ: الِانْتِفَاعُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَسَمَّى اللَّهُ النِّكَاحَ اسْتِمْتَاعًا لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَجَمِيعُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [الرَّعْد: ٢٦].
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ عَلَى (مَا). وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: فَإِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ فَلَا يَجُوزُ اسْتِمْتَاعٌ بِهِنَّ دُونَ مَهْرٍ.
أَوْ يَكُونُ (مَا) صَادِقَةً عَلَى النِّسَاءِ، وَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْمَأْخُوذِ مِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ، أَيْ فَأَيُّ امْرَأَةٍ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَآتُوهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) مَوْصُولَةً، وَيَكُونَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهَا لِمُعَامَلَتِهَا مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَجِيءَ حِينَئِذٍ بِ (مَا) وَلَمْ يُعَبَّرْ بِ (مَنْ) لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النِّسَاءِ لَا الْقَصْدُ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى أَنَّ (مَا) تَجِيءُ لِلْعَاقِلِ كَثِيرًا وَلَا عَكْسَ: وفَرِيضَةً حَالٌ مِنْ أُجُورَهُنَّ أَيْ مَفْرُوضَةً، أَيْ مُقَدَّرَةً بَيْنَكُمْ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ قَطْعُ الْخُصُومَاتِ فِي أَعْظَمِ مُعَامَلَةٍ يُقْصَدُ مِنْهَا الْوِثَاقُ وَحُسْنُ السُّمْعَةِ.
وَأَمَّا نِكَاحُ التَّفْوِيضِ: وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ مَعَ السُّكُوتِ عَنِ الْمَهْرِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ فَجَوَازُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُفَوِّضُونَ إِلَّا وَهُمْ يَعْلَمُونَ مُعْتَادَ أَمْثَالِهِمْ، وَيَكُونُ (فَرِيضَةً) بِمَعْنَى تَقْدِيرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ فِيمَا زِدْتُمْ لَهُنَّ أَوْ أَسْقَطْنَ لَكُمْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بَيِّنًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.
9
وَذَهَبُ جَمْعٌ: مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ. وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ: هُوَ الَّذِي تَعَاقَدَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا مُؤَجَلَةً بِزَمَانٍ أَوْ بِحَالَةٍ، فَإِذَا انْقَضَى ذَلِكَ الْأَجَلُ ارْتَفَعَتِ الْعِصْمَةُ، وَهُوَ نِكَاحٌ قَدْ أُبِيحَ فِي الْإِسْلَامِ لَا مَحَالَةَ، وَوَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ يَوْمَ خَيْبَرَ، أَوْ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالَّذِينَ قَالُوا: حُرِّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالُوا: ثُمَّ أُبِيحَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، ثُمَّ نُهِيَ عَنْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ. وَقِيلَ: نُهِيَ عَنْهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ:
وَهُوَ أَصَحُّ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْنَاهُ أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِيهَا مُضْطَرِبَةٌ اضْطِرَابًا كَبِيرًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَخِيرِ مِنْ شَأْنِهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَقَرَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَسَخَتْهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ لِأَنَّ فِيهَا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ...
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النِّسَاء: ١٢] فَجَعَلَ لِلْأَزْوَاجِ حَظًّا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ كَانَتِ الْمُتْعَةُ لَا مِيرَاثَ فِيهَا. وَقِيلَ: نَسَخَهَا مَا
مُسْلِمٌ عَنْ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ ثَالِثَ يَوْمٍ مِنَ الْفَتْحِ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
. وَانْفِرَادُ سَبْرَةَ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَغْمَزٌ فِي رِوَايَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِهِ. قِيلَ: مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ، وَقِيلَ: فِي حَالِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلَّا شَفًى (١).
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَتْ آيَّةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْزِلْ
بَعْدَهَا آيَةٌ تَنْسَخُهَا، وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ»
يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ نَهَى عَنْهَا فِي زَمَنٍ مِنْ خِلَافَتِهِ بَعْدَ أَنْ عَمِلُوا بِهَا فِي مُعْظَمِ خِلَافَتِهِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْتِي بِهَا، فَلَمَّا قَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَتَدْرِي مَا صَنَعْتَ بِفَتْوَاكَ فَقَدْ سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ:
_________
(١) بفاء بعد الشين، أَي إلّا قَلِيل، وَأَصله من قَوْلهم: شفيت الشَّمْس إِذا غربت وَفِي بعض الْكتب شقي.
وَهُوَ أَصَحُّ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْنَاهُ أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِيهَا مُضْطَرِبَةٌ اضْطِرَابًا كَبِيرًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَخِيرِ مِنْ شَأْنِهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَقَرَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَسَخَتْهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ لِأَنَّ فِيهَا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ...
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النِّسَاء: ١٢] فَجَعَلَ لِلْأَزْوَاجِ حَظًّا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ كَانَتِ الْمُتْعَةُ لَا مِيرَاثَ فِيهَا. وَقِيلَ: نَسَخَهَا مَا
مُسْلِمٌ عَنْ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ ثَالِثَ يَوْمٍ مِنَ الْفَتْحِ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
. وَانْفِرَادُ سَبْرَةَ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَغْمَزٌ فِي رِوَايَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِهِ. قِيلَ: مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ، وَقِيلَ: فِي حَالِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلَّا شَفًى (١).
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَتْ آيَّةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْزِلْ
بَعْدَهَا آيَةٌ تَنْسَخُهَا، وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ»
يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ نَهَى عَنْهَا فِي زَمَنٍ مِنْ خِلَافَتِهِ بَعْدَ أَنْ عَمِلُوا بِهَا فِي مُعْظَمِ خِلَافَتِهِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْتِي بِهَا، فَلَمَّا قَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَتَدْرِي مَا صَنَعْتَ بِفَتْوَاكَ فَقَدْ سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ:
_________
(١) بفاء بعد الشين، أَي إلّا قَلِيل، وَأَصله من قَوْلهم: شفيت الشَّمْس إِذا غربت وَفِي بعض الْكتب شقي.
10
قَدْ قُلْتُ لِلرَّكْبِ إِذْ طَالَ الثَّوَاءُ بِنَا | يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسِ |
فِي بَضَّةٍ رَخْصَةِ الْأَطْرَافِ نَاعِمَةٍ | تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَرْجِعِ النَّاسِ |
وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُتْعَةَ أَذِنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ، وَنَهَى عَنْهَا مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ مُكَرَّرٍ وَلَكِنَّهُ إِنَاطَةُ إِبَاحَتِهَا بِحَالِ الِاضْطِرَارِ، فَاشْتَبَهَ عَلَى الرُّوَاةِ تَحْقِيقُ عُذْرِ الرُّخْصَةِ بِأَنَّهُ نَسْخٌ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْنَاهُ فِي حُكْمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَأْجِيلِ مُدَّةِ الْعِصْمَةِ، مِثْلُ الْغُرْبَةِ فِي سَفَرٍ أَوْ غَزْوٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَ الرَّجُلِ زَوْجُهُ. وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي النِّكَاحِ مِنْ صَدَاقٍ وَإِشْهَادٍ وَوَلِيٍّ حَيْثُ يُشْتَرَطُ، وَأَنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَجَلِ، وَأَنَّهَا لَا مِيرَاثَ فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي مُدَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الْأَوْلَادَ لَاحِقُونَ بِأَبِيهِمُ الْمُسْتَمْتِعِ. وَشَذَّ النَّحَّاسُ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِأَبِيهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ تَكُونَ نَازِلَةً فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَلَيْسَ سِيَاقُهَا سَامِحًا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا صَالِحَةٌ لِانْدِرَاجِ الْمُتْعَةِ فِي عُمُوم فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ فَيُرْجَعُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إِلَى مَا سَمِعت آنِفا.
11
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٥]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)عُطِفَ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ [النِّسَاء: ٢٤] تَخْصِيصًا لِعُمُومِهِ بِغَيْرِ الْإِمَاءِ، وَتَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهِ بِاسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ.
وَالطَّوْلُ- بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ- الْقُدْرَةُ، وَهُوَ مَصْدَرُ طَالَ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى قَدَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّوْلَ يَسْتَلْزِمُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: تَطَاوَلَ لِكَذَا، أَيْ تَمَطَّى لِيَأْخُذَهُ، ثُمَّ قَالُوا: تَطَاوَلَ، بِمَعْنَى تَكَلَّفَ الْمَقْدِرَةَ «وَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنْ يَدِ الْمُتَطَاوِلِ» فَجَعَلُوا لِطَالَ الْحَقِيقِيِّ مَصْدَرًا- بِضَمِّ الطَّاءِ- وَجَعَلُوا لِطَالَ الْمَجَازِيِّ مَصْدَرًا- بِفَتْحِ الطَّاءِ- وَهُوَ مِمَّا فَرَّقَتْ فِيهِ الْعَرَبُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ المشتركين.
وَالْمُحْصَناتُ [النِّسَاء: ٢٤] قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- عَلَى اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْ (أُحْصِنَّ) كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيِ اللَّاتِي أَحْصَنَّ أَنْفُسَهُنَّ، أَوْ أَحْصَنَهُنَّ أَوْلِيَاؤُهُنَّ، فَالْمُرَادُ الْعَفِيفَاتُ. وَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا وَصْفٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا إِلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ عَفِيفَةٍ، قَالَ تَعَالَى: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النُّور: ٣٠] أَيْ بِحَسَبِ خُلُقِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِحْصَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَاللُّغَةُ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الطَّوْلَ هُنَا هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى بَذْلِ مَهْرٍ لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ احْتَاجَ لِتَزَوُّجِهَا:
أُولَى، أَوْ ثَانِيَةٍ، أَوْ ثَالِثَةٍ، أَوْ رَابِعَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ:
12
أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢٤] فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النِّسَاء: ٢٤] وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْأَصَحَّ فِي تَفْسِيرِ الطَّوْلِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَهِيَ طَوْلٌ فَلَا يُبَاحُ لَهُ تَزَوُّجُ الْإِمَاءِ لِأَنَّهُ طَالِبُ شَهْوَةٍ إِذْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ تعفّه عَن الزِّنَا. وَوَقَعَ لِمَالِكٍ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ وَالطَّبَرِيُّ، وَهُوَ تَضْيِيقٌ لَا يُنَاسِبُ يُسْرَ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى امْرَأَةٍ ثَانِيَةٍ قَدْ لَا يَكُونُ لِشَهْوَةٍ بَلْ لِحَاجَةٍ لَا تَسُدُّهَا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إِلَى طَلَبِ التَّزَوُّجِ،
وَوُجُودِ الْمَقْدِرَةِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، الطَّوْلُ: الصَّبْرُ وَالْجَلَدُ عَلَى نِكَاحِ الْحَرَائِرِ.
وَوَقَعَ لِمَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الَّذِي يَجِدُ مَهْرَ حُرَّةٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَتِهَا، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، وَهَذَا لَيْسَ لِكَوْنِ النَّفَقَةِ مِنَ الطَّوْلِ وَلَكِنْ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَهْرِ طَوْلٌ، وَالنَّفَقَةَ لَا مَحِيصَ عَنْهَا فِي كِلَيْهِمَا، وَقَالَ أَصْبَغُ: يَجُوزُ لِهَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً لِأَنَّ نَفَقَةَ الْأَمَةِ عَلَى أَهْلِهَا إِنْ لَمْ يَضُمُّهَا الزَّوْجُ إِلَيْهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْخِلَافَ فِي حَالٍ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَنْكِحَ مَعْمُولُ (طَوْلًا) بِحَذْفِ (اللَّامِ) أَوْ (عَلَى) إِذْ لَا يَتَعَدَّى هَذَا الْمَصْدَرُ بِنَفْسِهِ.
وَمَعْنَى أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ أَيْ يَنْكِحَ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ أَبْكَارًا أَوْ ثَيِّبَاتٍ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ.
وَإِطْلَاقُ الْمُحْصَنَاتِ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي يَتَزَوَّجُهُنَّ الرِّجَالُ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ بِعَلَاقَةِ الْمَآلِ، أَيِ اللَّائِي يَصِرْنَ مُحْصَنَاتٍ بِذَلِكَ النِّكَاحِ إِنْ كُنَّ أَبْكَارًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُف: ٣٦] أَي عنبا آئلا إِلَى خَمْرٍ أَوْ بِعَلَاقَةِ مَا كَانَ، إِنْ كُنَّ ثَيِّبَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] وَهَذَا بَيِّنٌ، وَفِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحْصَنَاتِ بِمَعْنَى الْحَرَائِرِ، فَإِنَّهُ إِطْلَاقٌ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ اللُّغَةُ، لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا عَلَى الْمَجَازِ، وَقَدْ تَسَاهَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْقَوْلِ بِذَلِكَ.
وَقَدْ وُصِفَ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا بِالْمُؤْمِنَاتِ، جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ، وَمُعْظَمُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ خَرَجَ لِلْغَالِبِ وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اسْتِطَاعَةَ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ الْكِتَابِيَّاتِ طَوْلٌ، إِذْ لَمْ تَكُنْ إِبَاحَةُ نِكَاحِهِنَّ مَشْرُوطَةً بِالْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ، وَكَانَ
وَوُجُودِ الْمَقْدِرَةِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، الطَّوْلُ: الصَّبْرُ وَالْجَلَدُ عَلَى نِكَاحِ الْحَرَائِرِ.
وَوَقَعَ لِمَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الَّذِي يَجِدُ مَهْرَ حُرَّةٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَتِهَا، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، وَهَذَا لَيْسَ لِكَوْنِ النَّفَقَةِ مِنَ الطَّوْلِ وَلَكِنْ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَهْرِ طَوْلٌ، وَالنَّفَقَةَ لَا مَحِيصَ عَنْهَا فِي كِلَيْهِمَا، وَقَالَ أَصْبَغُ: يَجُوزُ لِهَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً لِأَنَّ نَفَقَةَ الْأَمَةِ عَلَى أَهْلِهَا إِنْ لَمْ يَضُمُّهَا الزَّوْجُ إِلَيْهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْخِلَافَ فِي حَالٍ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَنْكِحَ مَعْمُولُ (طَوْلًا) بِحَذْفِ (اللَّامِ) أَوْ (عَلَى) إِذْ لَا يَتَعَدَّى هَذَا الْمَصْدَرُ بِنَفْسِهِ.
وَمَعْنَى أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ أَيْ يَنْكِحَ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ أَبْكَارًا أَوْ ثَيِّبَاتٍ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ.
وَإِطْلَاقُ الْمُحْصَنَاتِ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي يَتَزَوَّجُهُنَّ الرِّجَالُ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ بِعَلَاقَةِ الْمَآلِ، أَيِ اللَّائِي يَصِرْنَ مُحْصَنَاتٍ بِذَلِكَ النِّكَاحِ إِنْ كُنَّ أَبْكَارًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُف: ٣٦] أَي عنبا آئلا إِلَى خَمْرٍ أَوْ بِعَلَاقَةِ مَا كَانَ، إِنْ كُنَّ ثَيِّبَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] وَهَذَا بَيِّنٌ، وَفِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحْصَنَاتِ بِمَعْنَى الْحَرَائِرِ، فَإِنَّهُ إِطْلَاقٌ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ اللُّغَةُ، لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا عَلَى الْمَجَازِ، وَقَدْ تَسَاهَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْقَوْلِ بِذَلِكَ.
وَقَدْ وُصِفَ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا بِالْمُؤْمِنَاتِ، جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ، وَمُعْظَمُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ خَرَجَ لِلْغَالِبِ وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اسْتِطَاعَةَ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ الْكِتَابِيَّاتِ طَوْلٌ، إِذْ لَمْ تَكُنْ إِبَاحَةُ نِكَاحِهِنَّ مَشْرُوطَةً بِالْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ، وَكَانَ
13
نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ مَشْرُوطًا بِالْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِالْعَجْزِ عَنِ الْكِتَابِيَّاتِ أَيْضا بقاعدة قِيَاس الْمُسَاوَاةِ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ يُعَرِّضُ الْأَوْلَادَ لِلرِّقِّ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَتَعْطِيلُ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: الْمُؤْمِناتِ مَعَ الْمُحْصَناتِ حَصَلَ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، فَلِذَلِكَ أَلْغَوُا الْوَصْفَ هُنَا، وَأَعْمَلُوهُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وَشَذَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، فَاعْتَبَرُوا رُخْصَةَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ مَشْرُوطَةً بِالْعَجْزِ عَنِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، وَكَأَنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ وَصْفِ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَكْتَرِثْ عِنْدَ التَّشْرِيعِ بِذِكْرِ غَيْرِ الْغَالِبِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ، فَصَارَ الْمُؤْمِنَاتُ هُنَا كَاللَّقَبِ فِي نَحْوِ (لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ).
وَالْفَتَيَاتُ جَمْعُ فَتَاةٍ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الشَّابَّةُ كَالْفَتَى، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْأَمَةُ أُطْلِقَ
عَلَيْهَا الْفَتَاةُ كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْجَارِيَةُ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْغُلَامُ، وَهُوَ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ يُعَامَلَانِ مُعَامَلَةَ الصَّغِيرِ فِي الْخِدْمَةِ، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ. وَوَصْفُ الْمُؤْمِنَاتِ عَقِبَ الْفَتَيَاتِ مَقْصُودٌ لِلتَّقْيِيدِ عِنْدَ كَافَّةِ السَّلَفِ، وَجُمْهُورِ أَيِمَّةِ الْفِقْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَفْهُومٌ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى تَعْطِيلِهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ نِكَاحُ أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اجْتِمَاعَ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ يُبَاعِدُ الْمَرْأَةَ عَنِ الْحُرْمَةِ فِي اعْتِبَارِ الْمُسْلِمِ، فَيَقِلُّ الْوِفَاقُ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْأَبْنَاءِ إِذْ يَكُونُونَ أَرِقَّاءَ مَعَ مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الدِّينِ الْمُخَالِفِ فَيَمْتَدُّ الْبَوْنُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِيهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَوْقِعُ وَصْفِ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا كَمَوْقِعِهِ مَعَ قَوْلِهِ: الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ كَوْنَهَا مُؤْمِنَةً، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا أَعْرِفُ هَذَا الْقَوْلَ لِأَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا لِعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ- وَهُوَ تَابِعِيٌّ قَدِيمٌ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى إِعْمَالَ الْمَفْهُومِ.
وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَعْنَى مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: أَيْمانُكُمْ وَقَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ لِلتَّقْرِيبِ وَإِزَالَةِ مَا بَقِيَ فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ مِنِ احْتِقَارِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْ نِكَاحِهِمْ وَإِنْكِاحَهِمْ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَإِنْ كنّا نرَاهُ للتقيد فَهُوَ لَا يَخْلُو مَعَ ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةِ التَّقْرِيبِ، إِذِ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ مَالِكٍ تَعْتَمِدُ الدِّينَ أَوَّلًا.
وَالْفَتَيَاتُ جَمْعُ فَتَاةٍ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الشَّابَّةُ كَالْفَتَى، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْأَمَةُ أُطْلِقَ
عَلَيْهَا الْفَتَاةُ كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْجَارِيَةُ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْغُلَامُ، وَهُوَ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ يُعَامَلَانِ مُعَامَلَةَ الصَّغِيرِ فِي الْخِدْمَةِ، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ. وَوَصْفُ الْمُؤْمِنَاتِ عَقِبَ الْفَتَيَاتِ مَقْصُودٌ لِلتَّقْيِيدِ عِنْدَ كَافَّةِ السَّلَفِ، وَجُمْهُورِ أَيِمَّةِ الْفِقْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَفْهُومٌ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى تَعْطِيلِهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ نِكَاحُ أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اجْتِمَاعَ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ يُبَاعِدُ الْمَرْأَةَ عَنِ الْحُرْمَةِ فِي اعْتِبَارِ الْمُسْلِمِ، فَيَقِلُّ الْوِفَاقُ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْأَبْنَاءِ إِذْ يَكُونُونَ أَرِقَّاءَ مَعَ مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الدِّينِ الْمُخَالِفِ فَيَمْتَدُّ الْبَوْنُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِيهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَوْقِعُ وَصْفِ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا كَمَوْقِعِهِ مَعَ قَوْلِهِ: الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ كَوْنَهَا مُؤْمِنَةً، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا أَعْرِفُ هَذَا الْقَوْلَ لِأَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا لِعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ- وَهُوَ تَابِعِيٌّ قَدِيمٌ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى إِعْمَالَ الْمَفْهُومِ.
وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَعْنَى مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: أَيْمانُكُمْ وَقَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ لِلتَّقْرِيبِ وَإِزَالَةِ مَا بَقِيَ فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ مِنِ احْتِقَارِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْ نِكَاحِهِمْ وَإِنْكِاحَهِمْ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَإِنْ كنّا نرَاهُ للتقيد فَهُوَ لَا يَخْلُو مَعَ ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةِ التَّقْرِيبِ، إِذِ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ مَالِكٍ تَعْتَمِدُ الدِّينَ أَوَّلًا.
14
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ اعْتِرَاضٌ جَمَعَ مَعَانِيَ شَتَّى، أَنَّهُ أَمْرٌ، وَقَيْدٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إِلَخْ وَقَدْ تَحُولُ الشَّهْوَةُ وَالْعَجَلَةُ دُونَ تَحْقِيقِ شُرُوطِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَحَالَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمُ الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ رَبُّهُمْ. وَمِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَرْضَوْنَ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ وَجَعْلِهَا حَلِيلَةً، وَلَكِنْ يَقْضُونَ مِنْهُنَّ شَهَوَاتِهِمْ بِالْبِغَاءِ، فَأَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، جَزَاءً عَلَى إِيمَانِهِنَّ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ وَحْدَةَ الْإِيمَانِ قَرَّبَتِ الْأَحْرَارَ مِنَ الْعَبِيدِ، فَلَمَّا شَرَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ ذَيَّلَهُ بُقُولِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، أَيْ بِقُوَّتِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ، هُوَ الَّذِي رَفَعَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَاتٍ كَانَ إِيمَانُ الْإِمَاءِ مُقْنِعًا لِلْأَحْرَارِ بِتَرْكِ الِاسْتِنْكَافِ عَنْ تَزَوُّجِهِنَّ، وَلِأَنَّهُ رُبَّ أَمَةٍ يَكُونُ إِيمَانُهَا خَيْرًا مِنْ إِيمَانِ رَجُلٍ حُرٍّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣]. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْأَخِيرِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ تَذْيِيلٌ ثَانٍ أَكَّدَ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِيَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ
فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِمَاءَ مِنْ جَانِبِ الْوَحْدَةِ الدِّينِيَّةِ قَرَّبَهُنَّ إِلَيْهِمْ مِنْ جَانِبِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ كُلَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ فَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةٌ.
وَفَرَّعَ عَنِ الْأَمْرِ بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ بَيَانَ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ فَقَالَ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَشَرَطَ الْإِذْنَ لِئَلَّا يَكُونَ سِرًّا وَزِنًى، وَلِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ دُونَ ذَلِكَ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ أَهْلِ الْإِمَاءِ.
وَالْأَهْلُ هُنَا بِمَعْنَى السَّادَةِ الْمَالِكِينَ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ عَلَى سَادَةِ الْعَبِيدِ فِي كَلَامِ الْإِسْلَامِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ تَلَطُّفًا بِالْعَبِيدِ، كَمَا وَقَعَ النَّهْيُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: سَيِّدِي، بَلْ يَقُولُ: مَوْلَايَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ «أَنَّ أَهْلَهَا أَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ».
وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وَلَايَةِ السَّيِّدِ لِأَمَتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا نَكَحَتِ الْأَمَةُ بِدُونِ إِذَنِ السَّيِّدِ فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ، وَلَوْ أَجَازَهُ سَيِّدُهَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْعَبْدِ: فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُدُ: هُوَ كَالْأَمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: إِذَا أَجَازَهُ السَّيِّدُ جَازَ، وَيُحْتَجُّ بِهَا لِاشْتِرَاطِ أَصْلِ الْوَلَايَةِ فِي الْمَرْأَةِ، احْتِجَاجًا ضَعِيفًا، وَاحْتَجَّ بِهَا
وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ تَذْيِيلٌ ثَانٍ أَكَّدَ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِيَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ
فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِمَاءَ مِنْ جَانِبِ الْوَحْدَةِ الدِّينِيَّةِ قَرَّبَهُنَّ إِلَيْهِمْ مِنْ جَانِبِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ كُلَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ فَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةٌ.
وَفَرَّعَ عَنِ الْأَمْرِ بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ بَيَانَ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ فَقَالَ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَشَرَطَ الْإِذْنَ لِئَلَّا يَكُونَ سِرًّا وَزِنًى، وَلِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ دُونَ ذَلِكَ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ أَهْلِ الْإِمَاءِ.
وَالْأَهْلُ هُنَا بِمَعْنَى السَّادَةِ الْمَالِكِينَ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ عَلَى سَادَةِ الْعَبِيدِ فِي كَلَامِ الْإِسْلَامِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ تَلَطُّفًا بِالْعَبِيدِ، كَمَا وَقَعَ النَّهْيُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: سَيِّدِي، بَلْ يَقُولُ: مَوْلَايَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ «أَنَّ أَهْلَهَا أَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ».
وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وَلَايَةِ السَّيِّدِ لِأَمَتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا نَكَحَتِ الْأَمَةُ بِدُونِ إِذَنِ السَّيِّدِ فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ، وَلَوْ أَجَازَهُ سَيِّدُهَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْعَبْدِ: فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُدُ: هُوَ كَالْأَمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: إِذَا أَجَازَهُ السَّيِّدُ جَازَ، وَيُحْتَجُّ بِهَا لِاشْتِرَاطِ أَصْلِ الْوَلَايَةِ فِي الْمَرْأَةِ، احْتِجَاجًا ضَعِيفًا، وَاحْتَجَّ بِهَا
15
الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، إِذْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ إِذْنًا وَلَمْ يُسَمِّهِ عَقْدًا، وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِذْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ لَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِ (انْكِحُوهُنَّ).
وَالْقَوْلُ فِي الْأُجُورِ وَالْمَعْرُوفِ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوهُنَّ وَإِضَافَةَ الْأُجُورِ إِلَيْهِنَّ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ أَحَقُّ بِمَهْرِهَا مِنْ سَيِّدِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الرُّهُونِ، مِنَ الْمُدَوَّنَةِ: إِنَّ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يُجَهِّزَهَا بِمَهْرِهَا. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ الثَّانِي مِنْهَا: إِنَّ لِسَيِّدِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا، فَقِيلَ: هُوَ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: إِذَا لَمْ تُبَوَّأْ أَوْ إِذَا جَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى تُبَوَّأُ إِذَا جَعَلَ سُكْنَاهَا مَعَ زَوْجِهَا فِي بَيْتِ سَيِّدِهَا.
وَقَوله: مُحْصَناتٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْإِمَاءِ، وَالْإِحْصَانُ التَّزَوُّجُ الصَّحِيحُ، فَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ لِيَصِرْنَ مُحْصَنَاتٍ.
وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحاتٍ صِفَةٌ لِلْحَالِ، وَكَذَلِكَ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ قُصِدَ مِنْهَا تَفْظِيعُ مَا كَانَتْ تَرْتَكِبُهُ الْإِمَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِإِذْنِ مَوَالِيهِنَّ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ قَرِيبًا عَصْرُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ.
والمسافحات الزَّوَانِي مَعَ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. ومتّخذات الْأَخْدَانِ هُنَّ مُتَّخِذَاتُ أَخِلَّاءٍ تَتَّخِذُ الْوَاحِدَةُ خَلِيلًا تَخْتَصُّ بِهِ لَا تَأْلَفُ غَيْرَهُ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّعَدُّدِ، إِلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُهُ مِنْ جِهَةِ التَّسَتُّرِ وَجَهْلِ النَّسَبِ وَخَلْعِ بُرْقُعِ الْمُرُوءَةِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ:
غَيْرَ مُسافِحاتٍ سدّ المداخل الزِّنَى كُلِّهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنْوَاعِ الْمُعَاشَرَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ-.
وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ أَيْ أَحْصَنَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، أَيْ فَإِذَا تَزَوَّجْنَ. فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ التَّزَوُّجَ شَرْطٌ فِي إِقَامَة حدّ الزِّنَا عَلَى الْإِمَاءِ، وَأَنَّ الْحَدَّ هُوَ الْجَلْدُ الْمُعَيَّنُ لِأَنَّهُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ التَّنْصِيفُ بِالْعَدَدِ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْمَاضِيَةِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ شَرْعِ حَدِّ الْجَلْدِ لِلزَّانِيَةِ وَالزَّانِي بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ. فَتَكُونَ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ الزَّانِيَةِ بِغَيْرِ الْأَمَةِ، وَيَكُونَ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
وَالْقَوْلُ فِي الْأُجُورِ وَالْمَعْرُوفِ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوهُنَّ وَإِضَافَةَ الْأُجُورِ إِلَيْهِنَّ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ أَحَقُّ بِمَهْرِهَا مِنْ سَيِّدِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الرُّهُونِ، مِنَ الْمُدَوَّنَةِ: إِنَّ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يُجَهِّزَهَا بِمَهْرِهَا. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ الثَّانِي مِنْهَا: إِنَّ لِسَيِّدِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا، فَقِيلَ: هُوَ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: إِذَا لَمْ تُبَوَّأْ أَوْ إِذَا جَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى تُبَوَّأُ إِذَا جَعَلَ سُكْنَاهَا مَعَ زَوْجِهَا فِي بَيْتِ سَيِّدِهَا.
وَقَوله: مُحْصَناتٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْإِمَاءِ، وَالْإِحْصَانُ التَّزَوُّجُ الصَّحِيحُ، فَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ لِيَصِرْنَ مُحْصَنَاتٍ.
وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحاتٍ صِفَةٌ لِلْحَالِ، وَكَذَلِكَ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ قُصِدَ مِنْهَا تَفْظِيعُ مَا كَانَتْ تَرْتَكِبُهُ الْإِمَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِإِذْنِ مَوَالِيهِنَّ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ قَرِيبًا عَصْرُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ.
والمسافحات الزَّوَانِي مَعَ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. ومتّخذات الْأَخْدَانِ هُنَّ مُتَّخِذَاتُ أَخِلَّاءٍ تَتَّخِذُ الْوَاحِدَةُ خَلِيلًا تَخْتَصُّ بِهِ لَا تَأْلَفُ غَيْرَهُ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّعَدُّدِ، إِلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُهُ مِنْ جِهَةِ التَّسَتُّرِ وَجَهْلِ النَّسَبِ وَخَلْعِ بُرْقُعِ الْمُرُوءَةِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ:
غَيْرَ مُسافِحاتٍ سدّ المداخل الزِّنَى كُلِّهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنْوَاعِ الْمُعَاشَرَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ-.
وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ أَيْ أَحْصَنَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، أَيْ فَإِذَا تَزَوَّجْنَ. فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ التَّزَوُّجَ شَرْطٌ فِي إِقَامَة حدّ الزِّنَا عَلَى الْإِمَاءِ، وَأَنَّ الْحَدَّ هُوَ الْجَلْدُ الْمُعَيَّنُ لِأَنَّهُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ التَّنْصِيفُ بِالْعَدَدِ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْمَاضِيَةِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ شَرْعِ حَدِّ الْجَلْدِ لِلزَّانِيَةِ وَالزَّانِي بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ. فَتَكُونَ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ الزَّانِيَةِ بِغَيْرِ الْأَمَةِ، وَيَكُونَ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
16
مِمَّا أُلْحِقَ بِهَذِهِ السُّورَةِ إِكْمَالًا لِلْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِمَاءِ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي نَظَائِرَ عَدِيدَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدَّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدَّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحَيَّرَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُونَ لِاقْتِضَائِهَا أَنْ لَا تُحَدَّ الْأَمَةُ فِي الزِّنَى إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، فَتَأَوَّلَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ بِأَنَّ الْإِحْصَانَ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمَةَ تحدّ فِي الزِّنَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً أَمْ عَزْبَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَيِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ. وَلَا أَظُنُّ أَنَّ دَلِيلَ الْأَيِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ حَمْلُ الْإِحْصَانِ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْإِسْلَامِ، بَلْ مَا
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا الْحَدَّ
. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَالْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ مَحْدُودَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَالْأَمَةُ غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ مَحْدُودَةٌ بِالسُّنَّةِ. وَنِعْمَ هَذَا الْكَلَامُ. قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: فِي حَمْلِ الْإِحْصَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ بُعْدٌ لِأَنَّ ذِكْرَ إِيمَانِهِنَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَهُوَ تَدْقِيقٌ، وَإِنْ أَبَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْأَمَةِ الْجَلْدُ، وَلَمْ تَذْكُرِ الرَّجْمَ، فَإِذَا كَانَ الرَّجْمُ مَشْرُوعًا قَبْلَ نُزُولِهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَا رَجْمَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو ثَوْرٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجْمُ قَدْ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ رَجْمِ الْأَمَةِ، غَيْرَ أَنَّ قَصْدَ التَّنْصِيفِ فِي حَدِّهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا يُبْلَغُ بِهَا حَدُّ الْحُرَّةِ، فَالرَّجْمُ يَنْتَفِي لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ، وَهُوَ مَا ذُهِلَ عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْأَمَةِ فَقَالَ: «الْأَمَةُ أَلْقَتْ فَرْوَةَ رَأْسِهَا مِنْ وَرَاءِ الدَّارِ» أَيْ أَلْقَتْ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا قِنَاعَهَا، أَيْ
أَنَّهَا تَخْرُجُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يُرْسِلُهَا أَهْلُهَا إِلَيْهِ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ، فَتَصِيرُ إِلَى حَيْثُ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْفُجُورِ، قَالُوا: فَكَانَ يَرَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِذَا فَجَرَتْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ فَقَدْ مَنَعَهَا زَوْجُهَا. وَقَوْلُهُ هَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَلَكِنَّنَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ لِلْمُتَبَصِّرِ بِتَصْرِيفِ الشَّرِيعَةِ عِبْرَةً فِي تَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْخِيَانَةِ وَضَعْفِ الْمَعْذِرَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ:
أُحْصِنَّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مُحْصَنَاتٍ- الْمَفْتُوحِ الصَّادِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَهُوَ مَعْنَى مُحْصِنَاتٍ- بِكَسْرِ الصَّادِ-.
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا الْحَدَّ
. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَالْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ مَحْدُودَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَالْأَمَةُ غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ مَحْدُودَةٌ بِالسُّنَّةِ. وَنِعْمَ هَذَا الْكَلَامُ. قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: فِي حَمْلِ الْإِحْصَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ بُعْدٌ لِأَنَّ ذِكْرَ إِيمَانِهِنَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَهُوَ تَدْقِيقٌ، وَإِنْ أَبَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْأَمَةِ الْجَلْدُ، وَلَمْ تَذْكُرِ الرَّجْمَ، فَإِذَا كَانَ الرَّجْمُ مَشْرُوعًا قَبْلَ نُزُولِهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَا رَجْمَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو ثَوْرٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجْمُ قَدْ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ رَجْمِ الْأَمَةِ، غَيْرَ أَنَّ قَصْدَ التَّنْصِيفِ فِي حَدِّهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا يُبْلَغُ بِهَا حَدُّ الْحُرَّةِ، فَالرَّجْمُ يَنْتَفِي لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ، وَهُوَ مَا ذُهِلَ عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْأَمَةِ فَقَالَ: «الْأَمَةُ أَلْقَتْ فَرْوَةَ رَأْسِهَا مِنْ وَرَاءِ الدَّارِ» أَيْ أَلْقَتْ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا قِنَاعَهَا، أَيْ
أَنَّهَا تَخْرُجُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يُرْسِلُهَا أَهْلُهَا إِلَيْهِ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ، فَتَصِيرُ إِلَى حَيْثُ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْفُجُورِ، قَالُوا: فَكَانَ يَرَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِذَا فَجَرَتْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ فَقَدْ مَنَعَهَا زَوْجُهَا. وَقَوْلُهُ هَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَلَكِنَّنَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ لِلْمُتَبَصِّرِ بِتَصْرِيفِ الشَّرِيعَةِ عِبْرَةً فِي تَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْخِيَانَةِ وَضَعْفِ الْمَعْذِرَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ:
أُحْصِنَّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مُحْصَنَاتٍ- الْمَفْتُوحِ الصَّادِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَهُوَ مَعْنَى مُحْصِنَاتٍ- بِكَسْرِ الصَّادِ-.
17
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحُكْمِ الصَّالِحِ لَأَنْ يَتَقَيَّدَ بِخَشْيَةِ الْعَنَتِ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ هُوَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ.
وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٢٠] وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَشَقَّةُ الْعُزْبَةِ الَّتِي تَكُونُ ذَرِيعَة إِلَى الزِّنَا، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعضهم: أُرِيد الْعَنَت الزِّنَا.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِذَا اسْتَطَعْتُمُ الصَّبْرَ مَعَ الْمَشَقَّةِ إِلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَذَلِكَ خَيْرٌ، لِئَلَّا يُوقِعَ أَبْنَاءَهُ فِي ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الْمَكْرُوهَةِ لِلشَّارِعِ لَوْلَا الضَّرُورَةُ، وَلِئَلَّا يُوقِعَ نَفْسَهُ فِي مَذَلَّةِ تَصَرُّفِ النَّاسِ فِي زَوْجِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ إِنْ خِفْتُمُ الْعَنَتَ وَلَمْ تَصْبِرُوا عَلَيْهِ، وَتَزَوَّجْتُمُ الْإِمَاءَ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ. مُؤْذِنٌ بِأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ لِأَجْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ. غَفُورٌ فَالْمَغْفِرَةُ هُنَا بِمَعْنَى التجاوز عمّا مَا يَقْتَضِي مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمَهُ، فَلَيْسَ هُنَا ذَنْبٌ حتّى يغْفر.
[٢٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٦]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦)
تَذْيِيلٌ يُقْصَدُ مِنْهُ اسْتِئْنَاسُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِنْزَالُ نُفُوسِهِمْ إِلَى امْتِثَالِ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، فَإِنَّهَا أَحْكَامٌ جَمَّةٌ وَأَوَامِرُ وَنَوَاهٍ تُفْضِي إِلَى خَلْعِ عَوَائِدَ أَلِفُوهَا، وَصَرْفِهُمْ عَنْ شَهَوَاتٍ اسْتَبَاحُوهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَواتِ
[النِّسَاء: ٢٧]، أَيِ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ فِي ذَلِكَ بَيَانًا وَهُدًى. حَتَّى لَا تَكُونَ شَرِيعَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ شَرَائِعِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، بَلْ تَفُوقَهَا فِي انْتِظَامِ أَحْوَالِهَا، فَكَانَ هَذَا كَالِاعْتِذَارِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. فَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ تَعْلِيلٌ لِتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ فِي مَوَاقِعِ الشُّبُهَاتِ كَيْ لَا يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أَهْدَى مِمَّا قَبْلَهَا.
وَقَوْلُهُ: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بَيَانٌ لِقَصْدِ إِلْحَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَزَايَا الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٢٠] وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَشَقَّةُ الْعُزْبَةِ الَّتِي تَكُونُ ذَرِيعَة إِلَى الزِّنَا، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعضهم: أُرِيد الْعَنَت الزِّنَا.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِذَا اسْتَطَعْتُمُ الصَّبْرَ مَعَ الْمَشَقَّةِ إِلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَذَلِكَ خَيْرٌ، لِئَلَّا يُوقِعَ أَبْنَاءَهُ فِي ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الْمَكْرُوهَةِ لِلشَّارِعِ لَوْلَا الضَّرُورَةُ، وَلِئَلَّا يُوقِعَ نَفْسَهُ فِي مَذَلَّةِ تَصَرُّفِ النَّاسِ فِي زَوْجِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ إِنْ خِفْتُمُ الْعَنَتَ وَلَمْ تَصْبِرُوا عَلَيْهِ، وَتَزَوَّجْتُمُ الْإِمَاءَ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ. مُؤْذِنٌ بِأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ لِأَجْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ. غَفُورٌ فَالْمَغْفِرَةُ هُنَا بِمَعْنَى التجاوز عمّا مَا يَقْتَضِي مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمَهُ، فَلَيْسَ هُنَا ذَنْبٌ حتّى يغْفر.
[٢٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٦]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦)
تَذْيِيلٌ يُقْصَدُ مِنْهُ اسْتِئْنَاسُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِنْزَالُ نُفُوسِهِمْ إِلَى امْتِثَالِ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، فَإِنَّهَا أَحْكَامٌ جَمَّةٌ وَأَوَامِرُ وَنَوَاهٍ تُفْضِي إِلَى خَلْعِ عَوَائِدَ أَلِفُوهَا، وَصَرْفِهُمْ عَنْ شَهَوَاتٍ اسْتَبَاحُوهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَواتِ
[النِّسَاء: ٢٧]، أَيِ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ فِي ذَلِكَ بَيَانًا وَهُدًى. حَتَّى لَا تَكُونَ شَرِيعَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ شَرَائِعِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، بَلْ تَفُوقَهَا فِي انْتِظَامِ أَحْوَالِهَا، فَكَانَ هَذَا كَالِاعْتِذَارِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. فَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ تَعْلِيلٌ لِتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ فِي مَوَاقِعِ الشُّبُهَاتِ كَيْ لَا يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أَهْدَى مِمَّا قَبْلَهَا.
وَقَوْلُهُ: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بَيَانٌ لِقَصْدِ إِلْحَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَزَايَا الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا.
18
وَالْإِرَادَةُ: الْقَصْدُ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَمَلِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الصِّفَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُخَصِّصُ الْمُمْكِنَ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. وَالِامْتِنَانُ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ تَوْضِيحِ الْأَحْكَامِ قَدْ حَصَلَتْ إِرَادَتُهُ فِيمَا مضى، وإنّا عُبِّرَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْبَيَانِ وَاسْتِمْرَارِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّشْرِيعَاتِ دَائِمَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ تَكُونُ بَيَانًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُبْقِي بَعْدَهَا بَيَانًا مُتَعَاقِبًا.
وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ انتصب فعل (لِيُبَيِّنَ) بِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ مَحْذُوفَةٍ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مَفْعُولُ (يُرِيدُ)، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لَكُمْ وَالْهُدَى وَالتَّوْبَةَ، فَكَانَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ ذِكْرَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ فَاللَّامُ هُنَا لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَقَدْ شَاعَتْ زِيَادَةُ هَذِهِ اللَّامُ بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَبَعْدَ مَادَّةِ الْأَمر معاقبة لِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ. تَقُولُ، أُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ وَأُرِيدُ لِتَفْعَلَ، وَقَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَة: ٣٢] وَقَالَ:
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصَّفّ: ٨] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [غَافِر: ٦٦] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى: ١٥] فَإِذا جاؤوا بِاللَّامِ أَشْبَهَتْ لَامَ التَّعْلِيلِ فَقَدَّرُوا (أَنْ) بَعْدَ اللَّامِ المؤكّدة كَمَا قد روها بَعْدَ لَامِ كَيْ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي الصُّورَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ نَائِبَةٌ عَنْ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ».
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ لَامُ كَيْ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا عِلَّةٌ، وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ لِيُبَيِّنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فَيُقَدَّرُ: يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لِيُبَيِّنَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُبَالَغَةً بِجَعْلِ الْعِلَّةِ نَفْسَ الْمُعَلَّلِ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: اللَّامُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْفِعْلِ السَّابِقِ،
وَذَلِكَ الْفِعْلُ مُقَدَّرٌ بِالْمَصْدَرِ دُونَ سَابِكٍ عَلَى حَدِّ «تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أَيْ إِرَادَةُ اللَّهِ كَائِنَةٌ لِلْبَيَانِ، وَلَعَلَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ انْحَصَرَتْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ: هَذِهِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ لَامَ التَّقْوِيَةِ إِنَّمَا يُجَاءُ بِهَا إِذَا ضَعُفَ الْعَامِلُ بِالْفَرْعِيَّةِ أَوْ بِالتَّأَخُّرِ. وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، بِدَلِيلِ دُخُولِ اللَّامِ عَلَى كَيْ فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْخَزْرَجِيِّ.
أَعْقَبَ الِاعْتِذَارَ الَّذِي تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النِّسَاء: ٢٦] بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَزَالُ مُرَاعِيًا رِفْقَهُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِرَادَتِهِ بِهَا الْيُسْرَ دُونَ الْعُسْرِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ بَيَّنَ حِفْظَ الْمَصَالِحِ وَدَرْءَ الْمَفَاسِدِ، فِي أَيْسَرِ كَيْفِيَّةٍ وَأَرْفَقِهَا، فَرُبَّمَا أَلْغَتِ الشَّرِيعَةُ بَعْضَ الْمَفَاسِدِ إِذَا كَانَ فِي الْحَمْلِ عَلَى تَرْكِهَا مَشَقَّةٌ أَوْ تَعْطِيلُ مَصْلَحَةٍ، كَمَا أَلْغَتْ مَفَاسِدَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ نَظَرًا لِلْمَشَقَّةِ عَلَى غَيْرِ ذِي الطَّوْلِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ كَقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج:
٧٨] وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] وَقَوْلِهِ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٥٧]،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»
، وَكَذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمْ إِلَى بَثِّ الدِّينِ فَقَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرا» وَقَالَ: (إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُبَشِّرِينَ لَا مُنَفِّرِينَ). وَقَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا شَكَا بَعْضُ الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ مِنْ تَطْوِيلِهِ «أَفَتَّانٌ أَنْتَ». فَكَانَ التَّيْسِيرُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَعَنْهُ تَفَرَّعَتِ الرُّخَصُ بِنَوْعَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً تَذْيِيلٌ وَتَوْجِيهٌ لِلتَّخْفِيفِ، وَإِظْهَارٌ لِمَزِيَّةِ هَذَا الدِّينِ وَأَنَّهُ أَلْيَقُ الْأَدْيَانِ بِالنَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلِذَلِكَ فَمَا مَضَى مِنَ الْأَدْيَانِ كَانَ مُرَاعًى فِيهِ حَالٌ دُونَ حَالٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦٦]. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الضَّعْفَ هُنَا بِأَنَّهُ الضَّعْفُ مِنْ جِهَةِ النِّسَاء. قَالَ طَاوُوس «لَيْسَ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي شَيْءٍ أَضْعَفَ مِنْهُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ» وَلَيْسَ مُرَادُهُ حَصْرَ مَعْنَى الْآيَةِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا رُوعِيَ فِي الْآيَةِ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا هُوَ تَرْخِيصٌ فِي النِّكَاحِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ.
اسْتِئْنَافٌ مِنَ التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَعَلَامَةُ الِاسْتِئْنَافِ افْتِتَاحُهُ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ وَالنِّكَاحِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَوَامِرَ بِإِيتَاءِ
ذِي الْحَقِّ فِي الْمَالِ حَقَّهُ، كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] وَقَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النِّسَاء: ٢٤] وَقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النِّسَاء: ٤] الْآيَةَ، فَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَشْرِيعٍ عَامٍّ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَكْلَ مَجَازٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ انْتِفَاعًا تَامًّا، لَا يَعُودُ مَعَهُ إِلَى الْغَيْرِ، فَأَكْلُ الْأَمْوَالِ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا بِنِيَّةِ عَدَمِ إِرْجَاعِهَا لِأَرْبَابِهَا، وَغَالِبُ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ اسْتِيلَاءَ ظُلْمٍ، وَهُوَ مَجَازٌ صَارَ كَالْحَقِيقَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الِانْتِفَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: ٤] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: ٦]، وَلِذَلِكَ غَلَبَ تَقْيِيدُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَيْدِ بِالْباطِلِ وَنَحْوِهِ.
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِ (تَأْكُلُوا)، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ أَمْوَالٌ: رَاجِعَانِ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُنْهَى عَنْ أَكْلِ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَا يُسَمَّى انْتِفَاعُهُ بِمَالِهِ أَكْلًا، فَالْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ. وَالْبَاطِلُ ضِدُّ الْحَقِّ، وَهُوَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا كَانَ عَن إِذن ربّه، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْمُلَابَسَةِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَالْمَعْنَى: لَكِنْ كَوْنُ التِّجَارَةِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَمَوْقِعُ الْمُنْقَطِعِ هُنَا بَيِّنٌ جَارٍ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْعَرَبِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ شُمُولُ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِلشَّيْءِ الْمُسْتَدْرَكِ وَلَا يُفِيدُ الِاسْتِدْرَاكُ حَصْرًا، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُقْتَضَى الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَيْدُ الْبَاطِلِ فِي حَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُلْغًى، فَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ وَيَكُونَ مُتَّصِلًا، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ حَصَرَ إِبَاحَةَ أَكْلِ الْأَمْوَالِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، وأياما كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فَتَخْصِيصُ التِّجَارَةِ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ أَنْوَاعِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء:
٢٩].
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ: أَنَّ التَّمَنِّيَ يُحَبِّبُ لِلْمُتَمَنِّي الشَّيْءَ الَّذِي تَمَنَّاهُ، فَإِذَا أَحَبَّهُ أَتْبَعَهُ نَفْسَهُ فَرَامَ تَحْصِيلَهُ وَافْتَتَنَ بِهِ، فَرُبَّمَا بَعَثَهُ ذَلِكَ الِافْتِتَانُ إِلَى تَدْبِيرِ الْحِيَلِ لِتَحْصِيلِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ، وَإِلَى الِاسْتِئْثَارِ بِهِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْوَاجِبِ مِنْ إِعْطَاءِ الْحَقِّ صَاحِبَهُ وَعَنْ مَنَاهِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْجُمَلُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا. وَقَدْ أَصْبَحَ هَذَا التَّمَنِّي فِي زَمَانِنَا هَذَا فِتْنَةً لِطَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَرَتْ لَهُمْ مِنْ أَخْلَاقِ الْغُلَاةِ فِي طَلَبِ الْمُسَاوَاةِ مِمَّا جَرَّ أُمَمًا كَثِيرَةً إِلَى نِحْلَةِ الشِّيُوعِيَّةِ فَصَارُوا يَتَخَبَّطُونَ لِطَلَبِ التَّسَاوِي فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُعَانُونَ إِرْهَاقًا لَمْ يَحْصُلُوا مِنْهُ على طائل.
فالنهي عَنِ التَّمَنِّي وَتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إِلَى مَا لَيْسَ لَهَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامًّا، فَكَانَ كَالتَّذْيِيلِ لِلْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ لِسَدِّ ذَرَائِعِهَا وَذَرَائِعِ غَيْرِهَا، فَكَانَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فِي دَرْءِ الشُّرُورِ. وَقَدْ كَانَ التَّمَنِّي مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الْجَرَائِمِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْحَسَدِ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلُ جُرْمٍ حَصَلَ فِي الْأَرْضِ نَشَأَ عَنِ الْحَسَدِ. وَلَقَدْ كثر مَا انْتَبَهت أَمْوَالٌ، وَقُتِلَتْ نُفُوسٌ للرغبة فِي بسطة رِزْقٍ، أَوْ فِتْنَةِ نِسَاءٍ، أَوْ نَوَالِ مُلْكٍ، وَالتَّارِيخُ طَافِحٌ بِحَوَادِثَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَالَّذِي يَبْدُو أَنَّ هَذَا التَّمَنِّيَ هُوَ تَمَنِّي أَمْوَالِ الْمُثْرِينَ، وَتَمَنِّي أَنْصِبَاءِ الْوَارِثِينَ، وَتَمَنِّي الِاسْتِئْثَارِ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَتَمَنِّي حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ الْمِيرَاثِ لِيُنَاسِبَ مَا سَبَقَ مِنْ إِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ. وَإِنْصَافِ النِّسَاءِ فِي مُهُورِهِنَّ، وَتَرْكِ مُضَارَّتِهِنَّ إِلْجَاءً إِلَى إِسْقَاطِهَا، وَمِنْ إِعْطَاءِ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ كَمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.
الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء:
٣٢] بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ جَامِعًا لِمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الطَّمَعِ فِي مَالِ صَاحِبِ الْمَالِ، قُصِدَ مِنْهَا اسْتِكْمَالُ تَبْيِينِ مَنْ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْمَالِ.
وَشَأْنُ (كُلٍّ) إِذَا حُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ أَنْ يُعَوِّضَ التَّنْوِينُ عَنِ الْمَحْذُوفِ، فَإِنْ جَرَى فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ قُدِّرَ الْمَحْذُوفُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٨]، وَكَذَلِكَ هُنَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ- قَبْلَهُ- لِلرِّجالِ نَصِيبٌ- وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] فَيُقَدَّرُ:
وَلِكُلِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَوْ لِكُلِّ تَارِكٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ: وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَوْ شَيْءٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ.
وَالْجَعْلُ مِنْ قَوْلِهِ: جَعَلْنا هُوَ الْجَعْلُ التَّشْرِيعِيُّ أَيْ شَرَعْنَا لِكُلِّ مَوَالِي لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الْإِسْرَاء: ٣٣].
وَالْمَوَالِي جَمْعُ مَوْلًى وَهُوَ مَحَلُّ الْوَلْيِ، أَيِ الْقُرْبُ، وَهُوَ مَحَلٌّ مَجَازِيٌّ وَقُرْبٌ مَجَازِيٌّ. وَالْوَلَاءُ اسْمُ الْمَصْدَرِ لِلْوَلْيِ الْمَجَازِيِّ.
وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ تَقَادِيرُ جَدِيرَةٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَجَامِعَةٌ لِمَعَانٍ مِنَ التَّشْرِيعِ:
الْأَوَّلُ: وَلِكُلِّ تَارِكٍ، أَيْ تَارِكٍ مَالًا جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ أَهْلَ وَلَاءٍ لَهُ، أَيْ قُرْبٍ، أَيْ وَرَثَةٍ. وَيَتَعَلَّقُ مِمَّا تَرَكَ بِمَا فِي مَوَالِيَ مِنْ مَعْنَى يَلُونَهُ، أَيْ يَرِثُونَهُ، وَمن لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ يَرِثُونَ مِمَّا ترك. وَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ هُوَ الْمَالُ، وَالصِّلَةُ قَرِينَةٌ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمَوَالِي الْمِيرَاثَ، وَكَوْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (كُلٍّ) هُوَ الْهَالِكُ أَوِ التَّارِكُ. وَلِكُلٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ (جَعَلْنَا)، قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ.
وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ انتصب فعل (لِيُبَيِّنَ) بِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ مَحْذُوفَةٍ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مَفْعُولُ (يُرِيدُ)، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لَكُمْ وَالْهُدَى وَالتَّوْبَةَ، فَكَانَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ ذِكْرَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ فَاللَّامُ هُنَا لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَقَدْ شَاعَتْ زِيَادَةُ هَذِهِ اللَّامُ بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَبَعْدَ مَادَّةِ الْأَمر معاقبة لِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ. تَقُولُ، أُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ وَأُرِيدُ لِتَفْعَلَ، وَقَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَة: ٣٢] وَقَالَ:
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصَّفّ: ٨] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [غَافِر: ٦٦] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى: ١٥] فَإِذا جاؤوا بِاللَّامِ أَشْبَهَتْ لَامَ التَّعْلِيلِ فَقَدَّرُوا (أَنْ) بَعْدَ اللَّامِ المؤكّدة كَمَا قد روها بَعْدَ لَامِ كَيْ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي الصُّورَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ نَائِبَةٌ عَنْ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ».
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ لَامُ كَيْ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا عِلَّةٌ، وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ لِيُبَيِّنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فَيُقَدَّرُ: يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لِيُبَيِّنَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُبَالَغَةً بِجَعْلِ الْعِلَّةِ نَفْسَ الْمُعَلَّلِ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: اللَّامُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْفِعْلِ السَّابِقِ،
وَذَلِكَ الْفِعْلُ مُقَدَّرٌ بِالْمَصْدَرِ دُونَ سَابِكٍ عَلَى حَدِّ «تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أَيْ إِرَادَةُ اللَّهِ كَائِنَةٌ لِلْبَيَانِ، وَلَعَلَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ انْحَصَرَتْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ: هَذِهِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ لَامَ التَّقْوِيَةِ إِنَّمَا يُجَاءُ بِهَا إِذَا ضَعُفَ الْعَامِلُ بِالْفَرْعِيَّةِ أَوْ بِالتَّأَخُّرِ. وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، بِدَلِيلِ دُخُولِ اللَّامِ عَلَى كَيْ فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْخَزْرَجِيِّ.
أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا | سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ |
فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ | تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ |
وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لِيَدُلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ الْإِضَافِيِّ. أَيِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، أَيْ يُحَرِّضَكُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ فَيُرِيدُونَ انْصِرَافَكُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَمَيْلَكُمْ عَنْهُ إِلَى الْمَعَاصِي. وَإِطْلَاقُ الْإِرَادَةِ عَلَى رَغْبَةِ أَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ فِي مَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَقِّ لِمُشَاكَلَةِ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاء: ٢٦]. وَالْمَقْصُودُ: وَيُحِبُّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا. وَلَمَّا كَانَتْ رَغْبَتُهُمْ فِي مَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَقِّ رَغْبَةً لَا تَخْلُو عَنْ سَعْيِهِمْ لِحُصُولِ ذَلِكَ، أَشْبَهَتْ رَغْبَتُهُمْ إِرَادَةَ الْمُرِيدِ لِلْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى- بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ- يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ [النِّسَاء: ٤٤].
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَمِيلُوا لِظُهُورِهِ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَأَرَادَ بِالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ الَّذِينَ تَغْلِبُهُمْ شَهَوَاتُهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ: مِنَ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي عَوَاقِبِ الذُّنُوبِ وَمَفَاسِدِهَا وَعُقُوبَتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُرْضُونَ شَهَوَاتِهِمُ الدَّاعِيَةَ إِلَيْهَا. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَةِ هُنَا تَشْنِيعٌ لِحَالِهِمْ، فَفِي الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْلِيلِ الْخَبَرِ.
وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ: أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَالْيَهُودُ أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فِي نِكَاحِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَنِكَاحِ الْعَمَّاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَالْمِيلُ الْعَظِيمُ هُوَ الْبُعْدُ عَنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَالطَّعْنُ فِيهَا. فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَبِّبُونَ لِلْمُسْلِمِينَ الزِّنَى وَيَعْرِضُونَ عَلَيْهِمُ الْبَغَايَا. وَكَانَ الْمَجُوسُ يَطْعَنُونَ فِي تَحْرِيمِ ابْنَةِ الْأَخِ وَابْنَةِ الْأُخْت وَيَقُولُونَ: لماذَا أَحَلَّ دِينُكُمُ ابْنَةَ الْعَمَّةِ وَابْنَةَ الْخَالَةِ. وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: لَا تَحْرُمُ الْأُخْتُ الَّتِي لِلْأَبِ وَلَا تَحْرُمُ الْعَمَّةُ وَلَا الْخَالَةُ وَلَا الْعَمُّ وَلَا الْخَالُ. وَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِالشَّهَوَاتِ لِأَنَّ مَجِيءَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَيَّنَ انْتِهَاءَ إِبَاحَةِ مَا أُبِيحَ فِي الشَّرَائِعِ الْأُخْرَى، بَلْهَ مَا كَانَ حَرَامًا فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا وَتَسَاهَلَ فِيهِ أهل الشّرك.
21
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٨]
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)أَعْقَبَ الِاعْتِذَارَ الَّذِي تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النِّسَاء: ٢٦] بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَزَالُ مُرَاعِيًا رِفْقَهُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِرَادَتِهِ بِهَا الْيُسْرَ دُونَ الْعُسْرِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ بَيَّنَ حِفْظَ الْمَصَالِحِ وَدَرْءَ الْمَفَاسِدِ، فِي أَيْسَرِ كَيْفِيَّةٍ وَأَرْفَقِهَا، فَرُبَّمَا أَلْغَتِ الشَّرِيعَةُ بَعْضَ الْمَفَاسِدِ إِذَا كَانَ فِي الْحَمْلِ عَلَى تَرْكِهَا مَشَقَّةٌ أَوْ تَعْطِيلُ مَصْلَحَةٍ، كَمَا أَلْغَتْ مَفَاسِدَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ نَظَرًا لِلْمَشَقَّةِ عَلَى غَيْرِ ذِي الطَّوْلِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ كَقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج:
٧٨] وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] وَقَوْلِهِ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٥٧]،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»
، وَكَذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمْ إِلَى بَثِّ الدِّينِ فَقَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرا» وَقَالَ: (إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُبَشِّرِينَ لَا مُنَفِّرِينَ). وَقَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا شَكَا بَعْضُ الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ مِنْ تَطْوِيلِهِ «أَفَتَّانٌ أَنْتَ». فَكَانَ التَّيْسِيرُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَعَنْهُ تَفَرَّعَتِ الرُّخَصُ بِنَوْعَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً تَذْيِيلٌ وَتَوْجِيهٌ لِلتَّخْفِيفِ، وَإِظْهَارٌ لِمَزِيَّةِ هَذَا الدِّينِ وَأَنَّهُ أَلْيَقُ الْأَدْيَانِ بِالنَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلِذَلِكَ فَمَا مَضَى مِنَ الْأَدْيَانِ كَانَ مُرَاعًى فِيهِ حَالٌ دُونَ حَالٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦٦]. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الضَّعْفَ هُنَا بِأَنَّهُ الضَّعْفُ مِنْ جِهَةِ النِّسَاء. قَالَ طَاوُوس «لَيْسَ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي شَيْءٍ أَضْعَفَ مِنْهُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ» وَلَيْسَ مُرَادُهُ حَصْرَ مَعْنَى الْآيَةِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا رُوعِيَ فِي الْآيَةِ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا هُوَ تَرْخِيصٌ فِي النِّكَاحِ
[٢٩، ٣٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٢٩ الى ٣٠]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ.
اسْتِئْنَافٌ مِنَ التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَعَلَامَةُ الِاسْتِئْنَافِ افْتِتَاحُهُ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ وَالنِّكَاحِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَوَامِرَ بِإِيتَاءِ
ذِي الْحَقِّ فِي الْمَالِ حَقَّهُ، كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] وَقَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النِّسَاء: ٢٤] وَقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النِّسَاء: ٤] الْآيَةَ، فَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَشْرِيعٍ عَامٍّ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَكْلَ مَجَازٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ انْتِفَاعًا تَامًّا، لَا يَعُودُ مَعَهُ إِلَى الْغَيْرِ، فَأَكْلُ الْأَمْوَالِ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا بِنِيَّةِ عَدَمِ إِرْجَاعِهَا لِأَرْبَابِهَا، وَغَالِبُ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ اسْتِيلَاءَ ظُلْمٍ، وَهُوَ مَجَازٌ صَارَ كَالْحَقِيقَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الِانْتِفَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: ٤] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: ٦]، وَلِذَلِكَ غَلَبَ تَقْيِيدُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَيْدِ بِالْباطِلِ وَنَحْوِهِ.
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِ (تَأْكُلُوا)، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ أَمْوَالٌ: رَاجِعَانِ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُنْهَى عَنْ أَكْلِ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَا يُسَمَّى انْتِفَاعُهُ بِمَالِهِ أَكْلًا، فَالْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ. وَالْبَاطِلُ ضِدُّ الْحَقِّ، وَهُوَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا كَانَ عَن إِذن ربّه، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْمُلَابَسَةِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَالْمَعْنَى: لَكِنْ كَوْنُ التِّجَارَةِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَمَوْقِعُ الْمُنْقَطِعِ هُنَا بَيِّنٌ جَارٍ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْعَرَبِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ شُمُولُ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِلشَّيْءِ الْمُسْتَدْرَكِ وَلَا يُفِيدُ الِاسْتِدْرَاكُ حَصْرًا، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُقْتَضَى الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَيْدُ الْبَاطِلِ فِي حَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُلْغًى، فَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ وَيَكُونَ مُتَّصِلًا، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ حَصَرَ إِبَاحَةَ أَكْلِ الْأَمْوَالِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، وأياما كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فَتَخْصِيصُ التِّجَارَةِ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ أَنْوَاعِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ
23
شَبَهًا بِالْبَاطِلِ، إِذِ التَّبَرُّعَاتُ كُلُّهَا أَكْلُ أَمْوَالٍ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَالْمُعَاوَضَاتُ غَيْرُ التِّجَارَاتِ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْذَ كِلَا الْمُتَعَاوِضَيْنِ عِوَضًا عَمَّا بَذَلَهُ لِلْآخَرِ مُسَاوِيًا لِقِيمَتِهِ فِي نَظَرِهِ يُطَيِّبُ نَفْسَهُ. وَأَمَّا التِّجَارَةُ فَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ أَخْذِ الْمُتَصَدِّي للتجر مَا لَا زَائِدًا عَلَى قِيمَةِ مَا بَذَلَهُ لِلْمُشْتَرِي قَدْ تُشْبِهُ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَلِذَلِكَ خُصَّتْ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَحِكْمَةُ إِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَالِ الزَّائِدِ فِيهَا أَنَّ عَلَيْهَا مَدَارَ رَوَاجِ السّلع الحاجية والتحسينية، وَلَوْلَا تَصَدِّي التُّجَّارِ وَجَلْبُهُمُ السِّلَعَ لَمَا وَجَدَ صَاحِبُ الْحَاجَةِ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ. وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا مَا فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: فِي احْتِكَارِ الطَّعَامِ «وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ عَلَى عَمُودِ كَبِدِهِ
فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَذَلِكَ ضَيْفُ عُمَرَ فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ وَيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً- بِرَفْعِ تِجَارَةٌ- عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِكَانَ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ تَقَعُ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِنَصْبِ تِجَارَةً- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ النَّاقِصَةِ، وَتَقْدِيرُ اسْمِهَا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً، أَيْ أَمْوَالُ تِجَارَةٍ.
وَقَوْلُهُ: عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ صِفَةٌ لِ (تِجَارَةً)، وَ (عَنْ) فِيهِ لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ صَادِرَةٌ عَنِ التَّرَاضِي وَهُوَ الرِّضَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ عُرْفٍ. وَفِي الْآيَةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِقَوْلِ مَالِكٍ مِنْ نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ: لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مَنَاطَ الِانْعِقَادِ هُوَ التَّرَاضِي، وَالتَّرَاضِي يَحْصُلُ عِنْدَ التَّبَايُعِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبٍ نَفْسٍ».
وَفِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»
. وَتَقْدِيمُ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ أَخْطَرُ، إِمَّا لِأَنَّ مُنَاسَبَةَ مَا قَبْلَهُ أَفْضَتْ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ فَاسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ لِذَلِكَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ أَكْلُ الْأَمْوَالِ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ اسْتِخْفَافًا بِهِ مِنْهُمْ بِقَتْلِ الْأَنْفُسِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقَعُ فِي مَوَاقِعِ الضَّعْفِ حَيْثُ لَا يَدْفَعُ صَاحِبُهُ عَنْ نَفْسِهِ كَالْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ وَالزَّوْجَةِ. فَآكِلُ أَمْوَالِ هَؤُلَاءِ فِي مَأْمَنٍ مِنَ التَّبِعَاتِ
فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَذَلِكَ ضَيْفُ عُمَرَ فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ وَيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً- بِرَفْعِ تِجَارَةٌ- عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِكَانَ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ تَقَعُ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِنَصْبِ تِجَارَةً- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ النَّاقِصَةِ، وَتَقْدِيرُ اسْمِهَا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً، أَيْ أَمْوَالُ تِجَارَةٍ.
وَقَوْلُهُ: عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ صِفَةٌ لِ (تِجَارَةً)، وَ (عَنْ) فِيهِ لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ صَادِرَةٌ عَنِ التَّرَاضِي وَهُوَ الرِّضَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ عُرْفٍ. وَفِي الْآيَةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِقَوْلِ مَالِكٍ مِنْ نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ: لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مَنَاطَ الِانْعِقَادِ هُوَ التَّرَاضِي، وَالتَّرَاضِي يَحْصُلُ عِنْدَ التَّبَايُعِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبٍ نَفْسٍ».
وَفِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»
. وَتَقْدِيمُ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ أَخْطَرُ، إِمَّا لِأَنَّ مُنَاسَبَةَ مَا قَبْلَهُ أَفْضَتْ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ فَاسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ لِذَلِكَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ أَكْلُ الْأَمْوَالِ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ اسْتِخْفَافًا بِهِ مِنْهُمْ بِقَتْلِ الْأَنْفُسِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقَعُ فِي مَوَاقِعِ الضَّعْفِ حَيْثُ لَا يَدْفَعُ صَاحِبُهُ عَنْ نَفْسِهِ كَالْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ وَالزَّوْجَةِ. فَآكِلُ أَمْوَالِ هَؤُلَاءِ فِي مَأْمَنٍ مِنَ التَّبِعَاتِ
24
بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ، فَإِنَّ تَبِعَاتِهِ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، وَإِنْ بَلَغَ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْعِزَّةِ فِي قَوْمِهِ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَلَا أَمْنَعَ مِنْ كُلَيْبِ وَائِلٍ، لِأَنَّ الْقَبَائِلَ مَا كَانَتْ تُهْدِرُ دِمَاءَ قَتْلَاهَا.
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠).
قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ، فَالضَّمِيرَانِ فِيهِ عَلَى التَّوْزِيعِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَتْلُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ لِلْإِنْسَانِ إِتْلَافَ نَفْسِهِ كَمَا أَبَاحَ لَهُ صَرْفَ مَالِهِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا خُصُوصَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فَلَا. وَأَمَّا مَا
فِي «مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ» : أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَيَمَّمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ وَلَمْ يَغْتَسِلْ، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَلِكَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِعُمُومِ ضَمِيرِ (تَقْتُلُوا) دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أَيِ الْمَذْكُورَ: مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَالْقَتْلِ: وَقِيلَ:
الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاءَ: ١٩] لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهُ وَعِيدٌ، وَوَرَدَ وَعِيدٌ قَبْلَهُ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ لِيَخْرُجَ أَكْلُ الْمَالِ بِوَجْهِ الْحَقِّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ كَذَلِكَ، كَقَتْلِ الْقَاتِلِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا»
. وَالْعُدْوَانُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- مَصْدَرٌ بِوَزْنِ كُفْرَانٍ، وَيُقَالُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- وَهُوَ التَّسَلُّطُ بِشِدَّةٍ، فَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ غَالِبًا، وَيَكُونُ بِحَقٍّ، قَالَ تَعَالَى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: ١٩٣] وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَظُلْماً عَلَى عُدْواناً مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
وَ (سَوْفَ) حَرْفٌ يَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فَيُمَحِّضُهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلسِّينِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: (سَوْفَ) تَدُلُّ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ بَعِيدٍ وَسَمَّاهُ: التَّسْوِيفَ، وَلَيْسَ فِي
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠).
قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ، فَالضَّمِيرَانِ فِيهِ عَلَى التَّوْزِيعِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَتْلُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ لِلْإِنْسَانِ إِتْلَافَ نَفْسِهِ كَمَا أَبَاحَ لَهُ صَرْفَ مَالِهِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا خُصُوصَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فَلَا. وَأَمَّا مَا
فِي «مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ» : أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَيَمَّمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ وَلَمْ يَغْتَسِلْ، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَلِكَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِعُمُومِ ضَمِيرِ (تَقْتُلُوا) دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أَيِ الْمَذْكُورَ: مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَالْقَتْلِ: وَقِيلَ:
الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاءَ: ١٩] لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهُ وَعِيدٌ، وَوَرَدَ وَعِيدٌ قَبْلَهُ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ لِيَخْرُجَ أَكْلُ الْمَالِ بِوَجْهِ الْحَقِّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ كَذَلِكَ، كَقَتْلِ الْقَاتِلِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا»
. وَالْعُدْوَانُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- مَصْدَرٌ بِوَزْنِ كُفْرَانٍ، وَيُقَالُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- وَهُوَ التَّسَلُّطُ بِشِدَّةٍ، فَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ غَالِبًا، وَيَكُونُ بِحَقٍّ، قَالَ تَعَالَى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: ١٩٣] وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَظُلْماً عَلَى عُدْواناً مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
وَ (سَوْفَ) حَرْفٌ يَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فَيُمَحِّضُهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلسِّينِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: (سَوْفَ) تَدُلُّ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ بَعِيدٍ وَسَمَّاهُ: التَّسْوِيفَ، وَلَيْسَ فِي
25
الِاسْتِعْمَالِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً فِي هَذِه السُّورَة [النِّسَاء: ١٠]. وَ (نُصَلِيهِ) نَجْعَلُهُ صَالِيًا أَوْ مُحْتَرِقًا، وَقَدْ مَضَى فِعْلُ صَلِيَ أَيْضًا، وَوَجْهُ نَصْبِ (نَارًا) هُنَالِكَ، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى كُلِّيَّتَيْنِ مِنْ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ: وَهُمَا حِفْظُ الْأَمْوَالِ، وَحِفْظُ الْأَنْفُسِ، مِنْ قِسْمِ الْمُنَاسب الضَّرُورِيّ.
[٣١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣١]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
اعْتِرَاضٌ نَاسَبَ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذِكْرِ ذَنْبَيْنِ كَبِيرَيْنِ: وَهُمَا قَتْلُ النَّفْسِ، وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ، وَفِي انْتِهَازِ الْفُرَصِ فِي إِلْقَاءِ التَّشْرِيعِ عَقِبَ الْمَوَاعِظِ وَعَكْسِهِ.
وَقَدْ دَلَّتْ إِضَافَةُ كَبائِرَ إِلَى مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ قِسْمَانِ: كَبَائِرُ، وَدُونَهَا وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الصَّغَائِرَ، وَصْفًا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَقَدْ سُمِّيَتْ هُنَا سَيِّئَاتٌ. وَوَعَدَ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ السَّيِّئَاتِ لِلَّذِينِ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَالَ فِي آيَةِ النَّجْمِ [٣٢] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ فَسَمَّى الْكَبَائِرَ فَوَاحِشَ وَسَمَّى مُقَابِلَهَا اللَّمَمَ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ عِنْدَ اللَّهِ قِسْمَانِ: مَعَاصٍ كَبِيرَةٌ فَاحِشَةٌ، وَمَعَاصٍ دُونَ ذَلِكَ يَكْثُرُ
أَنْ يُلِمَّ الْمُؤْمِنُ بِهَا، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَعْيِينِ الْكَبَائِرِ. فَعَنْ عَلِيٍّ: هِيَ سَبْعٌ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَاسْتَدَلَّ لِجَمِيعِهَا بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَدِلَّةِ جَازِمِ النَّهْيِ عَنْهَا.
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتَّقُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ... »
فَذَكَرَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَلِيٌّ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ السِّحْرَ عِوَضَ التَّعَرُّبِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هِيَ تِسْعٌ بِزِيَادَةِ الْإِلْحَادِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِلَى هُنَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَعِيدُ نَارٍ أَوْ عَذَابٌ أَوْ لَعْنَةٌ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكَبَائِرُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ. وَأحسن ضبط الْكَبِيرَة قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: هِيَ كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ
[٣١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣١]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
اعْتِرَاضٌ نَاسَبَ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذِكْرِ ذَنْبَيْنِ كَبِيرَيْنِ: وَهُمَا قَتْلُ النَّفْسِ، وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ، وَفِي انْتِهَازِ الْفُرَصِ فِي إِلْقَاءِ التَّشْرِيعِ عَقِبَ الْمَوَاعِظِ وَعَكْسِهِ.
وَقَدْ دَلَّتْ إِضَافَةُ كَبائِرَ إِلَى مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ قِسْمَانِ: كَبَائِرُ، وَدُونَهَا وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الصَّغَائِرَ، وَصْفًا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَقَدْ سُمِّيَتْ هُنَا سَيِّئَاتٌ. وَوَعَدَ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ السَّيِّئَاتِ لِلَّذِينِ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَالَ فِي آيَةِ النَّجْمِ [٣٢] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ فَسَمَّى الْكَبَائِرَ فَوَاحِشَ وَسَمَّى مُقَابِلَهَا اللَّمَمَ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ عِنْدَ اللَّهِ قِسْمَانِ: مَعَاصٍ كَبِيرَةٌ فَاحِشَةٌ، وَمَعَاصٍ دُونَ ذَلِكَ يَكْثُرُ
أَنْ يُلِمَّ الْمُؤْمِنُ بِهَا، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَعْيِينِ الْكَبَائِرِ. فَعَنْ عَلِيٍّ: هِيَ سَبْعٌ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَاسْتَدَلَّ لِجَمِيعِهَا بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَدِلَّةِ جَازِمِ النَّهْيِ عَنْهَا.
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتَّقُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ... »
فَذَكَرَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَلِيٌّ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ السِّحْرَ عِوَضَ التَّعَرُّبِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هِيَ تِسْعٌ بِزِيَادَةِ الْإِلْحَادِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِلَى هُنَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَعِيدُ نَارٍ أَوْ عَذَابٌ أَوْ لَعْنَةٌ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكَبَائِرُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ. وَأحسن ضبط الْكَبِيرَة قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: هِيَ كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ
26
وَبِضَعْفِ دِيَانَتِهِ. وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ قَالَ:
الذُّنُوبُ كُلُّهَا سَوَاءٌ إِنْ كَانَتْ عَنْ عَمْدٍ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا سَوَاءٌ مُطْلَقًا، وَنَفَى الصَّغَائِرَ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ وَاهِيَانِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ شَاهِدَةٌ بِتَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى قِسْمَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الذُّنُوبُ مِنَ الْمَفَاسِدِ مُتَفَاوِتٌ أَيْضًا، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِثْبَاتُ نَوْعِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى إِثْبَاتِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَحْكَامٌ تَكْلِيفِيَّةٌ: مِنْهَا الْمُخَاطَبَةُ بِتَجَنُّبِ الْكَبِيرَةِ تَجَنُّبًا شَدِيدًا، وَمِنْهَا وُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنْهَا عِنْد اقترابها، وَمِنْهَا أَنَّ تَرْكَ الْكَبَائِرِ يُعْتَبَرُ تَوْبَةً مِنَ الصَّغَائِرِ، وَمِنْهَا سَلْبُ الْعَدَالَةِ عَنْ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ، وَمِنْهَا نَقْضُ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُتَلَبِّسِ بِهَا، وَمِنْهَا جَوَازُ هِجْرَانِ الْمُتَجَاهِرِ بِهَا، وَمِنْهَا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ عَلَى الْمُتَلَبِّسِ بِهَا. وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَسَائِلُ فِي أُصُولِ الدِّينِ: مِنْهَا تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَاعْتِبَارُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. فَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُمَيِّزِ الْكَبَائِرَ عَنِ الصَّغَائِرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا لِلنَّاسِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى كُلِّ ذَنَبٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ إِخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ فِي سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، هَكَذَا حَكَاهُ الْفَخْرُ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذُهُولُ هَذَا الْقَائِلِ، وَذُهُولُ الْفَخْرِ عَنْ رَدِّهِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي نَظَرُوا بِهَا تَرْجِعُ إِلَى فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَكْلِيفٌ فَإِخْفَاؤُهَا يُقْصَدُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِي تَوَخِّي مَظَانِّهَا لِيُكْثِرَ النَّاسُ مَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَكِنَّ إِخْفَاءَ الْأَمْرِ الْمُكَلَّفِ بِهِ إِيقَاعٌ فِي الضَّلَالَةِ، فَلَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنَ الشَّارِعِ.
وَالْمَدْخَلُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- اسْمُ مَكَانِ الدُّخُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا.
وَالْمَعْنَى: نُدْخِلُكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا، أَوْ نُدْخِلُكُمْ دُخُولًا كَرِيمًا. وَالْكَرِيمُ هُوَ النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ.
فَالْمُرَادُ إِمَّا الْجَنَّةُ وَإِمَّا الدُّخُولُ إِلَيْهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الجنّة. والمدخل- بصمّ الْمِيمِ- كَذَلِكَ مَكَانٌ أَوْ مَصْدَرُ أَدْخَلَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: «مَدْخَلًا» - بِفَتْح الْمِيم- وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ- بضمّ الْمِيم-.
الذُّنُوبُ كُلُّهَا سَوَاءٌ إِنْ كَانَتْ عَنْ عَمْدٍ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا سَوَاءٌ مُطْلَقًا، وَنَفَى الصَّغَائِرَ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ وَاهِيَانِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ شَاهِدَةٌ بِتَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى قِسْمَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الذُّنُوبُ مِنَ الْمَفَاسِدِ مُتَفَاوِتٌ أَيْضًا، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِثْبَاتُ نَوْعِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى إِثْبَاتِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَحْكَامٌ تَكْلِيفِيَّةٌ: مِنْهَا الْمُخَاطَبَةُ بِتَجَنُّبِ الْكَبِيرَةِ تَجَنُّبًا شَدِيدًا، وَمِنْهَا وُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنْهَا عِنْد اقترابها، وَمِنْهَا أَنَّ تَرْكَ الْكَبَائِرِ يُعْتَبَرُ تَوْبَةً مِنَ الصَّغَائِرِ، وَمِنْهَا سَلْبُ الْعَدَالَةِ عَنْ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ، وَمِنْهَا نَقْضُ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُتَلَبِّسِ بِهَا، وَمِنْهَا جَوَازُ هِجْرَانِ الْمُتَجَاهِرِ بِهَا، وَمِنْهَا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ عَلَى الْمُتَلَبِّسِ بِهَا. وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَسَائِلُ فِي أُصُولِ الدِّينِ: مِنْهَا تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَاعْتِبَارُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. فَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُمَيِّزِ الْكَبَائِرَ عَنِ الصَّغَائِرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا لِلنَّاسِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى كُلِّ ذَنَبٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ إِخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ فِي سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، هَكَذَا حَكَاهُ الْفَخْرُ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذُهُولُ هَذَا الْقَائِلِ، وَذُهُولُ الْفَخْرِ عَنْ رَدِّهِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي نَظَرُوا بِهَا تَرْجِعُ إِلَى فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَكْلِيفٌ فَإِخْفَاؤُهَا يُقْصَدُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِي تَوَخِّي مَظَانِّهَا لِيُكْثِرَ النَّاسُ مَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَكِنَّ إِخْفَاءَ الْأَمْرِ الْمُكَلَّفِ بِهِ إِيقَاعٌ فِي الضَّلَالَةِ، فَلَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنَ الشَّارِعِ.
وَالْمَدْخَلُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- اسْمُ مَكَانِ الدُّخُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا.
وَالْمَعْنَى: نُدْخِلُكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا، أَوْ نُدْخِلُكُمْ دُخُولًا كَرِيمًا. وَالْكَرِيمُ هُوَ النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ.
فَالْمُرَادُ إِمَّا الْجَنَّةُ وَإِمَّا الدُّخُولُ إِلَيْهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الجنّة. والمدخل- بصمّ الْمِيمِ- كَذَلِكَ مَكَانٌ أَوْ مَصْدَرُ أَدْخَلَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: «مَدْخَلًا» - بِفَتْح الْمِيم- وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ- بضمّ الْمِيم-.
27
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٢]
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء:
٢٩].
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ: أَنَّ التَّمَنِّيَ يُحَبِّبُ لِلْمُتَمَنِّي الشَّيْءَ الَّذِي تَمَنَّاهُ، فَإِذَا أَحَبَّهُ أَتْبَعَهُ نَفْسَهُ فَرَامَ تَحْصِيلَهُ وَافْتَتَنَ بِهِ، فَرُبَّمَا بَعَثَهُ ذَلِكَ الِافْتِتَانُ إِلَى تَدْبِيرِ الْحِيَلِ لِتَحْصِيلِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ، وَإِلَى الِاسْتِئْثَارِ بِهِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْوَاجِبِ مِنْ إِعْطَاءِ الْحَقِّ صَاحِبَهُ وَعَنْ مَنَاهِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْجُمَلُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا. وَقَدْ أَصْبَحَ هَذَا التَّمَنِّي فِي زَمَانِنَا هَذَا فِتْنَةً لِطَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَرَتْ لَهُمْ مِنْ أَخْلَاقِ الْغُلَاةِ فِي طَلَبِ الْمُسَاوَاةِ مِمَّا جَرَّ أُمَمًا كَثِيرَةً إِلَى نِحْلَةِ الشِّيُوعِيَّةِ فَصَارُوا يَتَخَبَّطُونَ لِطَلَبِ التَّسَاوِي فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُعَانُونَ إِرْهَاقًا لَمْ يَحْصُلُوا مِنْهُ على طائل.
فالنهي عَنِ التَّمَنِّي وَتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إِلَى مَا لَيْسَ لَهَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامًّا، فَكَانَ كَالتَّذْيِيلِ لِلْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ لِسَدِّ ذَرَائِعِهَا وَذَرَائِعِ غَيْرِهَا، فَكَانَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فِي دَرْءِ الشُّرُورِ. وَقَدْ كَانَ التَّمَنِّي مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الْجَرَائِمِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْحَسَدِ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلُ جُرْمٍ حَصَلَ فِي الْأَرْضِ نَشَأَ عَنِ الْحَسَدِ. وَلَقَدْ كثر مَا انْتَبَهت أَمْوَالٌ، وَقُتِلَتْ نُفُوسٌ للرغبة فِي بسطة رِزْقٍ، أَوْ فِتْنَةِ نِسَاءٍ، أَوْ نَوَالِ مُلْكٍ، وَالتَّارِيخُ طَافِحٌ بِحَوَادِثَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَالَّذِي يَبْدُو أَنَّ هَذَا التَّمَنِّيَ هُوَ تَمَنِّي أَمْوَالِ الْمُثْرِينَ، وَتَمَنِّي أَنْصِبَاءِ الْوَارِثِينَ، وَتَمَنِّي الِاسْتِئْثَارِ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَتَمَنِّي حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ الْمِيرَاثِ لِيُنَاسِبَ مَا سَبَقَ مِنْ إِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ. وَإِنْصَافِ النِّسَاءِ فِي مُهُورِهِنَّ، وَتَرْكِ مُضَارَّتِهِنَّ إِلْجَاءً إِلَى إِسْقَاطِهَا، وَمِنْ إِعْطَاءِ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ كَمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.
28
وَقَدْ أَبْدَى الْقَفَّالُ مُنَاسَبَةً لِلْعَطْفِ تَنْدَرِجُ فِيمَا ذَكَرْتُهُ. وَفِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا يَغْزُو النِّسَاءُ، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَرِوَايَاتُهُ كُلُّهَا حِسَانٌ لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الصِّحَّةِ. قُلْتُ: لَمَّا كَانَ مُرْسَلًا يَكُونُ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَمَنَّوْا إِلَخْ. مِنْ كَلَامِ مُجَاهِدٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَكَانَ فِي عُمُومِهَا مَا يَرُدُّ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ: بَعْضُهَا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَمَنِّي النِّسَاءِ الْجِهَادَ وَبَعْضُهَا فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْلِ امْرَأَةٍ «إِنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَشَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِرَجُلٍ أَفَنَحْنُ فِي الْعَمَلِ كَذَلِكَ» وَبَعْضُهَا فِي أَنَّ رِجَالًا قَالُوا: إِنَّ ثَوَابَ أَعْمَالِنَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْ ثَوَابِ النِّسَاءِ وَبَعْضُهَا فِي أَنَّ النِّسَاءَ سَأَلْنَ أَجْرَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقُلْنَ لَوْ كُتِبَ عَلَيْنَا الْقِتَالُ لَقَاتَلْنَا. وَكُلُّ ذَلِكَ جُزْئِيَّاتٌ وَأَمْثِلَةٌ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ.
وَالتَّمَنِّي هُوَ طَلَبُ حُصُولِ مَا يَعْسُرُ حُصُولُهُ لِلطَّالِبِ. وَذَلِكَ لَهُ أَحْوَالٌ مِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ فِيهِ إِلَى شَيْءٍ فِي يَدِ الْغَيْرِ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ شَرْعٍ أَوْ عَادَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ كَتَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنِ الْحُصُولِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله ثمَّ أحيى ثُمَّ أقتل ثمَّ أحيى ثُمَّ أُقْتَلُ».
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْتَنَا نَرَى إِخْوَانَنَا»
يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَهُ.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لِمَانِعٍ عَادِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ، كَتَمَنِّي أُمِّ سَلَمَةَ أَنْ يَغْزُوَ النِّسَاءُ كَمَا يَغْزُو الرِّجَالُ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُسَاوِيَةَ الرَّجُلِ فِي الْمِيرَاثِ وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى تَمَنِّيًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِمَا سَاقَهُ اللَّهُ وَالضَّجَرِ مِنْهُ، أَوْ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَالِانْزِعَاجِ، أَوْ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى نِعْمَةً تُمَاثِلُ نِعْمَةً فِي يَدِ الْغَيْرِ مَعَ إِمْكَانِ حُصُولِهَا لِلْمُتَمَنِّي بِدُونِ أَنْ تُسْلَبَ مِنَ الَّتِي هِيَ فِي يَدِهِ كَتَمَنِّي عِلْمٍ مِثْلِ عِلْمِ الْمُجْتَهِدِ أَوْ مَالٍ مِثْلِ مَالِ قَارُونَ.
وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ: بَعْضُهَا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَمَنِّي النِّسَاءِ الْجِهَادَ وَبَعْضُهَا فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْلِ امْرَأَةٍ «إِنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَشَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِرَجُلٍ أَفَنَحْنُ فِي الْعَمَلِ كَذَلِكَ» وَبَعْضُهَا فِي أَنَّ رِجَالًا قَالُوا: إِنَّ ثَوَابَ أَعْمَالِنَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْ ثَوَابِ النِّسَاءِ وَبَعْضُهَا فِي أَنَّ النِّسَاءَ سَأَلْنَ أَجْرَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقُلْنَ لَوْ كُتِبَ عَلَيْنَا الْقِتَالُ لَقَاتَلْنَا. وَكُلُّ ذَلِكَ جُزْئِيَّاتٌ وَأَمْثِلَةٌ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ.
وَالتَّمَنِّي هُوَ طَلَبُ حُصُولِ مَا يَعْسُرُ حُصُولُهُ لِلطَّالِبِ. وَذَلِكَ لَهُ أَحْوَالٌ مِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ فِيهِ إِلَى شَيْءٍ فِي يَدِ الْغَيْرِ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ شَرْعٍ أَوْ عَادَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ كَتَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنِ الْحُصُولِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله ثمَّ أحيى ثُمَّ أقتل ثمَّ أحيى ثُمَّ أُقْتَلُ».
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْتَنَا نَرَى إِخْوَانَنَا»
يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَهُ.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لِمَانِعٍ عَادِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ، كَتَمَنِّي أُمِّ سَلَمَةَ أَنْ يَغْزُوَ النِّسَاءُ كَمَا يَغْزُو الرِّجَالُ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُسَاوِيَةَ الرَّجُلِ فِي الْمِيرَاثِ وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى تَمَنِّيًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِمَا سَاقَهُ اللَّهُ وَالضَّجَرِ مِنْهُ، أَوْ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَالِانْزِعَاجِ، أَوْ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى نِعْمَةً تُمَاثِلُ نِعْمَةً فِي يَدِ الْغَيْرِ مَعَ إِمْكَانِ حُصُولِهَا لِلْمُتَمَنِّي بِدُونِ أَنْ تُسْلَبَ مِنَ الَّتِي هِيَ فِي يَدِهِ كَتَمَنِّي عِلْمٍ مِثْلِ عِلْمِ الْمُجْتَهِدِ أَوْ مَالٍ مِثْلِ مَالِ قَارُونَ.
29
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى ذَلِكَ لَكِنَّ مِثْلَهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِسَلْبِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِهِ كَتَمَنِّي مُلْكِ بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ زَوْجَةِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةٍ عَنِ الْغَيْرِ بِدُونِ قَصْدِ مَصِيرِهَا إِلَى الْمُتَمَنِّي.
وَحَاصِلُ مَعْنَى النَّهْيِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ: إِمَّا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ لَا يَشْغَلُوا نُفُوسَهُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِنَوَالِهِ ضَرُورَة أنّه سمّاه تَمَنِّيًا، لِئَلَّا يَكُونُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي
وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ: «يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ»
، وَيكون قَوْله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِرْشَادٌ إِلَى طَلَبِ الْمُمْكِنِ، إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ وَدُعَاءَهُ يَكُونُ فِي مَرْجُوِّ الْحُصُولِ، وَإِلَّا كَانَ سُوءَ أَدَبٍ.
وَإِمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ الْمُحَرَّمَةِ، فَيَكُونُ جَرِيمَةً ظَاهِرَةً، أَوْ قَلْبِيَّةً كَالْحَسَدِ، بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩].
فَالتَّمَنِّي الْأَوَّلُ وَالرَّابِعُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُمَا، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «بَابُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ»،
وَذَكَرَ حَدِيثَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ»
. وَأَمَّا التَّمَنِّي الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا اضْطِرَابُ النَّفْسِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَالشَّكُّ فِي حِكْمَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَأَمَّا التَّمَنِّي الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُمَا لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مِنَ الْحَسَدِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا»
، وَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ أَنْ يَخْطِبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيه، إلّا إِذْ كَانَ تَمَنِّيهِ فِي الْحَالَةِ الْخَامِسَةِ تَمَنِّي حُصُولِ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَعْجِلُ مَوْتَهُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، لَمَّا اسْتَخْلَفَ عُمَرَ، يُخَاطِبُ الْمُهَاجِرِينَ: «فَكُلُّكُمْ وَرِمَ أَنْفُهُ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَمْرُ دُونَهُ».
وَالسَّادِسُ أَشَدُّ وَهُوَ شَرُّ الْحَسَدَيْنِ إِلَّا إِذَا كَانَ صَاحِبُ النِّعْمَةِ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى ضُرٍّ يَلْحَقُ الدِّينَ أَوِ الْأُمَّةَ أَوْ عَلَى إِضْرَارِ الْمُتَمَنِّي.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةٍ عَنِ الْغَيْرِ بِدُونِ قَصْدِ مَصِيرِهَا إِلَى الْمُتَمَنِّي.
وَحَاصِلُ مَعْنَى النَّهْيِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ: إِمَّا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ لَا يَشْغَلُوا نُفُوسَهُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِنَوَالِهِ ضَرُورَة أنّه سمّاه تَمَنِّيًا، لِئَلَّا يَكُونُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي
وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ: «يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ»
، وَيكون قَوْله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِرْشَادٌ إِلَى طَلَبِ الْمُمْكِنِ، إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ وَدُعَاءَهُ يَكُونُ فِي مَرْجُوِّ الْحُصُولِ، وَإِلَّا كَانَ سُوءَ أَدَبٍ.
وَإِمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ الْمُحَرَّمَةِ، فَيَكُونُ جَرِيمَةً ظَاهِرَةً، أَوْ قَلْبِيَّةً كَالْحَسَدِ، بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩].
فَالتَّمَنِّي الْأَوَّلُ وَالرَّابِعُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُمَا، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «بَابُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ»،
وَذَكَرَ حَدِيثَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ»
. وَأَمَّا التَّمَنِّي الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا اضْطِرَابُ النَّفْسِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَالشَّكُّ فِي حِكْمَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَأَمَّا التَّمَنِّي الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُمَا لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مِنَ الْحَسَدِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا»
، وَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ أَنْ يَخْطِبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيه، إلّا إِذْ كَانَ تَمَنِّيهِ فِي الْحَالَةِ الْخَامِسَةِ تَمَنِّي حُصُولِ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَعْجِلُ مَوْتَهُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، لَمَّا اسْتَخْلَفَ عُمَرَ، يُخَاطِبُ الْمُهَاجِرِينَ: «فَكُلُّكُمْ وَرِمَ أَنْفُهُ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَمْرُ دُونَهُ».
وَالسَّادِسُ أَشَدُّ وَهُوَ شَرُّ الْحَسَدَيْنِ إِلَّا إِذَا كَانَ صَاحِبُ النِّعْمَةِ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى ضُرٍّ يَلْحَقُ الدِّينَ أَوِ الْأُمَّةَ أَوْ عَلَى إِضْرَارِ الْمُتَمَنِّي.
30
ثُمَّ مَحَلُّ النَّهْيِ فِي الْآيَةِ: هُوَ التَّمَنِّي، وَهُوَ طَلَبُ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِتَحْصِيلِهِ بِكَسْبِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى سُلُوكِ مَسَالِكِ الْعَدَاءِ، فَأَمَّا طَلَبُ مَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ ضُرٍّ بِالْغَيْرِ فَلَا نَهْيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ بِطَلَبِهِ يَنْصَرِفُ إِلَى تَحْصِيلِهِ فَيُحَصِّلُ فَائِدَةً دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً، أَمَّا طَلَبُ مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِتَحْصِيلِهِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْفَوَائِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلَا ضَيْرَ فِيهِ.
وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنِ الْأَقْسَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ التَّمَنِّي أَنَّهَا تُفْسِدُ مَا بَيْنَ النَّاسِ فِي
مُعَامَلَاتِهِمْ فينشأ عَنْهَا التحاسد، وَهُوَ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ، إِذْ حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ، ثُمَّ يَنْشَأُ عَنِ الْحَسَدِ الْغَيْظُ وَالْغَضَبُ فَيُفْضِي إِلَى أَذَى الْمَحْسُود، وَقد قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [الفلق: ٥]. وَكَانَ سَبَبُ أَوَّلِ جَرِيمَةٍ فِي الدُّنْيَا الْحَسَدَ: إِذْ حسد أحد ابْني آدَمَ أَخَاهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ إِنَّ تَمَنِّي الْأَحْوَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا يَنْشَأُ فِي النُّفُوسِ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ خَاطِرًا مُجَرَّدًا، ثُمَّ يَرْبُو فِي النَّفْسِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَصِيرَ مَلَكَةً، فَتَدْعُو الْمَرْءَ إِلَى اجْتِرَامِ الْجَرَائِمِ لِيَشْفِيَ غِلَّتَهُ، فَلِذَلِكَ نُهُوا عَنْهُ لِيَزْجُرُوا نُفُوسَهُمْ عِنْدَ حُدُوثِ هَاتِهِ التَّمَنِّيَاتِ بِزَاجِرِ الدِّينِ وَالْحِكْمَةِ فَلَا يَدَعُوهَا تَرْبُو فِي النُّفُوسِ. وَمَا نَشَأَتِ الثَّوْرَاتُ والدعايات إِلَى ابتراز الْأَمْوَالِ بِعَنَاوِينَ مُخْتَلِفَةٍ إِلَّا مِنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ اللَّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ إِلَّا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ آحَادُ النَّاسِ، وَلِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ أَصْنَافُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا الْآيَةَ: إِنْ أُرِيدَ بِذِكْرِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ هُنَا قَصْدُ تَعْمِيمِ النَّاسِ مِثْلَ مَا يُذْكَرُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، وَالنَّجْدُ وَالْغَوْرُ، فَالنَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى عُمُومِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي قَطْعًا لِعُذْرِ الْمُتَمَنِّينَ، وَتَأْنِيسًا بِالنَّهْيِ، وَلِذَلِكَ فَصَّلَتْ وَإِنْ أُرِيدَ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كُلًّا مِنَ النَّوْعَيْنِ بِخُصُوصِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الرِّجَالَ يَخْتَصُّونَ بِمَا اكْتَسَبُوهُ، وَالنِّسَاءَ يَخْتَصِصْنَ بِمَا اكْتَسَبْنَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَالنَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَنِّي الَّذِي يُفْضِي إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، أَيْ لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَكْلُ أَمْوَالِ مَوَالِيهِمْ وَوَلَايَاهُمْ إِذْ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا اكْتَسَبَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّتْ هِيَ عَلَيْهَا، تَقْدِيرُهَا: وَلَا تَتَمَنَّوْا فَتَأْكُلُوا أَمْوَالَ مَوَالِيكُمْ.
وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنِ الْأَقْسَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ التَّمَنِّي أَنَّهَا تُفْسِدُ مَا بَيْنَ النَّاسِ فِي
مُعَامَلَاتِهِمْ فينشأ عَنْهَا التحاسد، وَهُوَ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ، إِذْ حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ، ثُمَّ يَنْشَأُ عَنِ الْحَسَدِ الْغَيْظُ وَالْغَضَبُ فَيُفْضِي إِلَى أَذَى الْمَحْسُود، وَقد قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [الفلق: ٥]. وَكَانَ سَبَبُ أَوَّلِ جَرِيمَةٍ فِي الدُّنْيَا الْحَسَدَ: إِذْ حسد أحد ابْني آدَمَ أَخَاهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ إِنَّ تَمَنِّي الْأَحْوَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا يَنْشَأُ فِي النُّفُوسِ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ خَاطِرًا مُجَرَّدًا، ثُمَّ يَرْبُو فِي النَّفْسِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَصِيرَ مَلَكَةً، فَتَدْعُو الْمَرْءَ إِلَى اجْتِرَامِ الْجَرَائِمِ لِيَشْفِيَ غِلَّتَهُ، فَلِذَلِكَ نُهُوا عَنْهُ لِيَزْجُرُوا نُفُوسَهُمْ عِنْدَ حُدُوثِ هَاتِهِ التَّمَنِّيَاتِ بِزَاجِرِ الدِّينِ وَالْحِكْمَةِ فَلَا يَدَعُوهَا تَرْبُو فِي النُّفُوسِ. وَمَا نَشَأَتِ الثَّوْرَاتُ والدعايات إِلَى ابتراز الْأَمْوَالِ بِعَنَاوِينَ مُخْتَلِفَةٍ إِلَّا مِنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ اللَّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ إِلَّا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ آحَادُ النَّاسِ، وَلِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ أَصْنَافُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا الْآيَةَ: إِنْ أُرِيدَ بِذِكْرِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ هُنَا قَصْدُ تَعْمِيمِ النَّاسِ مِثْلَ مَا يُذْكَرُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، وَالنَّجْدُ وَالْغَوْرُ، فَالنَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى عُمُومِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي قَطْعًا لِعُذْرِ الْمُتَمَنِّينَ، وَتَأْنِيسًا بِالنَّهْيِ، وَلِذَلِكَ فَصَّلَتْ وَإِنْ أُرِيدَ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كُلًّا مِنَ النَّوْعَيْنِ بِخُصُوصِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الرِّجَالَ يَخْتَصُّونَ بِمَا اكْتَسَبُوهُ، وَالنِّسَاءَ يَخْتَصِصْنَ بِمَا اكْتَسَبْنَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَالنَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَنِّي الَّذِي يُفْضِي إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، أَيْ لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَكْلُ أَمْوَالِ مَوَالِيهِمْ وَوَلَايَاهُمْ إِذْ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا اكْتَسَبَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّتْ هِيَ عَلَيْهَا، تَقْدِيرُهَا: وَلَا تَتَمَنَّوْا فَتَأْكُلُوا أَمْوَالَ مَوَالِيكُمْ.
31
وَالنَّصِيبَ: الْحَظُّ وَالْمِقْدَارُ، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْحَظِّ فِي الْآخِرَةِ وَالْحَظِّ فِي الدُّنْيَا، وَتَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالِاكْتِسَابُ: السَّعْيُ لِلْكَسْبِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِحُصُولِ الشَّيْءِ وَلَوْ بِدُونِ سَعْيٍ وَعِلَاجٍ.
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَحَقَّ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كُلٌّ حَظَّهُ مِنَ الْأجر وَالثَّوَاب المنجرّ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَمَنِّي فَرِيقٍ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ فَرِيقٍ آخَرَ، لِأَنَّ الثَّوَابَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ وَسَائِلَ الثَّوَابِ كَثِيرَةٌ فَلَا يَسُوءُكُمُ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: اسْتَحَقَّ كُلُّ شَخْصٍ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً، حَظَّهُ مِنْ مَنَافِع الدُّنْيَا المنجرّ لَهُ مِمَّا سَعَى إِلَيْهِ بِجُهْدِهِ، أَوِ الَّذِي هُوَ
بَعْضُ مَا سَعَى إِلَيْهِ، فَتَمَنِّي أَحَدٍ شَيْئًا لَمْ يَسْعَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حُقُوقِهِ، هُوَ تَمَنٍّ غَيْرُ عَادِلٍ، فَحَقَّ النَّهْيُ عَنْهُ أَوِ الْمَعْنَى اسْتَحَقَّ أُولَئِكَ نَصِيبَهُمْ مِمَّا كَسَبُوا، أَيْ مِمَّا شُرِعَ لَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَحْسُدْ أَحَدٌ أَحَدًا عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَحَقِّيَّةِ بَعْضِكُمْ عَلَى بعض.
وَقَوله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا إِلَخْ، الَّذِي هُوَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي، فَالْمَعْنَى: لِلرِّجَالِ مَزَايَاهُمْ وَحُقُوقُهُمْ، وَلِلنِّسَاءِ مَزَايَاهُنَّ وَحُقُوقُهُنَّ، فَمَنْ تَمَنَّى مَا لَمْ يُعَدَّ لِصِنْفِهِ فَقَدِ اعْتَدَى، لَكِنْ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا أَعَدَّ لِصِنْفِهِ مِنَ الْمَزَايَا، وَيَجْعَلَ ثَوَابَهُ مُسَاوِيًا لِثَوَابِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَمْ تُعَدَّ لِصِنْفِهِ، كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: «لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»
وَإِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا فَالْمَعْنَى: لَا تَتَمَنَّوْا مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ يَسَعُ الْإِنْعَامَ عَلَى الْكُلِّ، فَلَا أَثَرَ لِلتَّمَنِّي إِلَّا تَعَبُ النَّفْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور:
وَسْئَلُوا- بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ السَّاكِنَةِ وَهِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ- بِفَتْحِ السِّينِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السِّينِ السَّاكِنِ قَبْلَهَا تَخْفِيفًا-.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِهَذَا التَّكْلِيفِ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَمَلِ النَّفْسِ لَا يُرَاقِبُ فِيهِ إلّا ربّه.
وَالِاكْتِسَابُ: السَّعْيُ لِلْكَسْبِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِحُصُولِ الشَّيْءِ وَلَوْ بِدُونِ سَعْيٍ وَعِلَاجٍ.
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَحَقَّ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كُلٌّ حَظَّهُ مِنَ الْأجر وَالثَّوَاب المنجرّ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَمَنِّي فَرِيقٍ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ فَرِيقٍ آخَرَ، لِأَنَّ الثَّوَابَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ وَسَائِلَ الثَّوَابِ كَثِيرَةٌ فَلَا يَسُوءُكُمُ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: اسْتَحَقَّ كُلُّ شَخْصٍ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً، حَظَّهُ مِنْ مَنَافِع الدُّنْيَا المنجرّ لَهُ مِمَّا سَعَى إِلَيْهِ بِجُهْدِهِ، أَوِ الَّذِي هُوَ
بَعْضُ مَا سَعَى إِلَيْهِ، فَتَمَنِّي أَحَدٍ شَيْئًا لَمْ يَسْعَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حُقُوقِهِ، هُوَ تَمَنٍّ غَيْرُ عَادِلٍ، فَحَقَّ النَّهْيُ عَنْهُ أَوِ الْمَعْنَى اسْتَحَقَّ أُولَئِكَ نَصِيبَهُمْ مِمَّا كَسَبُوا، أَيْ مِمَّا شُرِعَ لَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَحْسُدْ أَحَدٌ أَحَدًا عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَحَقِّيَّةِ بَعْضِكُمْ عَلَى بعض.
وَقَوله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا إِلَخْ، الَّذِي هُوَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي، فَالْمَعْنَى: لِلرِّجَالِ مَزَايَاهُمْ وَحُقُوقُهُمْ، وَلِلنِّسَاءِ مَزَايَاهُنَّ وَحُقُوقُهُنَّ، فَمَنْ تَمَنَّى مَا لَمْ يُعَدَّ لِصِنْفِهِ فَقَدِ اعْتَدَى، لَكِنْ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا أَعَدَّ لِصِنْفِهِ مِنَ الْمَزَايَا، وَيَجْعَلَ ثَوَابَهُ مُسَاوِيًا لِثَوَابِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَمْ تُعَدَّ لِصِنْفِهِ، كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: «لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»
وَإِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا فَالْمَعْنَى: لَا تَتَمَنَّوْا مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ يَسَعُ الْإِنْعَامَ عَلَى الْكُلِّ، فَلَا أَثَرَ لِلتَّمَنِّي إِلَّا تَعَبُ النَّفْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور:
وَسْئَلُوا- بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ السَّاكِنَةِ وَهِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ- بِفَتْحِ السِّينِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السِّينِ السَّاكِنِ قَبْلَهَا تَخْفِيفًا-.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِهَذَا التَّكْلِيفِ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَمَلِ النَّفْسِ لَا يُرَاقِبُ فِيهِ إلّا ربّه.
32
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٣]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء:
٣٢] بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ جَامِعًا لِمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الطَّمَعِ فِي مَالِ صَاحِبِ الْمَالِ، قُصِدَ مِنْهَا اسْتِكْمَالُ تَبْيِينِ مَنْ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْمَالِ.
وَشَأْنُ (كُلٍّ) إِذَا حُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ أَنْ يُعَوِّضَ التَّنْوِينُ عَنِ الْمَحْذُوفِ، فَإِنْ جَرَى فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ قُدِّرَ الْمَحْذُوفُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٨]، وَكَذَلِكَ هُنَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ- قَبْلَهُ- لِلرِّجالِ نَصِيبٌ- وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] فَيُقَدَّرُ:
وَلِكُلِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَوْ لِكُلِّ تَارِكٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ: وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَوْ شَيْءٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ.
وَالْجَعْلُ مِنْ قَوْلِهِ: جَعَلْنا هُوَ الْجَعْلُ التَّشْرِيعِيُّ أَيْ شَرَعْنَا لِكُلِّ مَوَالِي لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الْإِسْرَاء: ٣٣].
وَالْمَوَالِي جَمْعُ مَوْلًى وَهُوَ مَحَلُّ الْوَلْيِ، أَيِ الْقُرْبُ، وَهُوَ مَحَلٌّ مَجَازِيٌّ وَقُرْبٌ مَجَازِيٌّ. وَالْوَلَاءُ اسْمُ الْمَصْدَرِ لِلْوَلْيِ الْمَجَازِيِّ.
وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ تَقَادِيرُ جَدِيرَةٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَجَامِعَةٌ لِمَعَانٍ مِنَ التَّشْرِيعِ:
الْأَوَّلُ: وَلِكُلِّ تَارِكٍ، أَيْ تَارِكٍ مَالًا جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ أَهْلَ وَلَاءٍ لَهُ، أَيْ قُرْبٍ، أَيْ وَرَثَةٍ. وَيَتَعَلَّقُ مِمَّا تَرَكَ بِمَا فِي مَوَالِيَ مِنْ مَعْنَى يَلُونَهُ، أَيْ يَرِثُونَهُ، وَمن لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ يَرِثُونَ مِمَّا ترك. وَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ هُوَ الْمَالُ، وَالصِّلَةُ قَرِينَةٌ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمَوَالِي الْمِيرَاثَ، وَكَوْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (كُلٍّ) هُوَ الْهَالِكُ أَوِ التَّارِكُ. وَلِكُلٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ (جَعَلْنَا)، قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ.
33
وَقَوْلُهُ: الْوالِدانِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَيَّنَ بِهِ المُرَاد فِي (مَوَالِيَ)، وَيَصْلُحُ أَنْ يُبَيِّنَ بِهِ كُلَّ الْمُقَدَّرَ لَهُ مُضَافٌ. تَقْدِيرُهُ: لكلّ تَارِك. وتبيين كِلَا اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ التَّارِكَ:
وَالِدٌ أَوْ قَرِيبٌ، وَالْمَوَالِيَ: وَالِدُونَ أَوْ قَرَابَةٌ. وَفِي ذِكْرِ الْوالِدانِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْأَبْنَاءِ لِتَلَازُمِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْوَالِدَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ فَالْهَالِكُ وَلَدٌ وَإِلَّا فَالْهَالِكُ وَالِدٌ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ عِوَضٌ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ أَيْ: وَالِدَاهُمُ وَأَقْرَبُوهُمْ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَوَالِي، وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النِّسَاء: ٣٢]، أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ جَعَلْنَا مَوَالِيَ يَرِثُونَهُ، وَهُوَ الْجَعْلُ الَّذِي فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ.
وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي: وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ قَوْمًا يَلُونَهُ بِالْإِرْثِ، أَيْ يَرِثُونَهُ، أَيْ يَكُونُ تُرَاثًا لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ اسْمًا نَكِرَةً عَامًّا يُبَيِّنُ نَوْعَهُ الْمَقَامُ، وَيَكُونُ مِمَّا تَرَكَ بَيَانًا لِمَا فِي تَنْوِينِ (كلّ) من الْإِبْهَام، وَيَكُونُ وَالْأَقْرَبُونَ فَاعِلا (لترك).
وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] أَيْ فِي الْأَمْوَالِ، أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الَّذِينَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ يَؤُولُ إِلَيْهِمُ الْمَالُ، فَلَا تَتَمَنَّوْا مَا لَيْسَ لَكُمْ فِيهِ حَقٌّ فِي حَيَاةِ أَصْحَابِهِ، وَلَا مَا جَعَلْنَاهُ لِلْمَوَالِي بَعْدَ مَوْتِ أَصْحَابِهِ.
التَّقْدِيرُ الثَّالِثُ: وَلِكُلٍّ مِنْكُمْ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ عَاصِبِينَ مِنَ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الْوَالِدَانِ، مِثْلَ الْأَعْمَامِ وَالْأَجْدَادِ وَالْأَخْوَالِ، فَإِنَّهُمْ قُرَبَاءُ الْأَبَوَيْنِ، وَمِمَّا تَرَكَهُمُ الْأَقْرَبُونَ مِثْلُ أَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ وَأَبْنَائِهِمْ وَإِنْ تَعَدَّدُوا، وَأَبْنَاءُ الْأَخَوَاتِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ قُرَبَاءُ الْأَقْرَبِينَ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى إِرْجَاعِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْعَصَبَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِلَى ذَوِيِ الْأَرْحَامِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ إِذَا انْعَدَمَ الْوَرَثَةُ الَّذِينَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ حُكْمٌ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
وَقَوْلُهُ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَوْلُهُ: «الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ
، وَقَوله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٧٥]، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَيْهِ فَ (مَا) الْمَوْصُولَةُ فِي قَوْلِهِ:
مِمَّا تَرَكَ بِمَعْنَى (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا
وَالِدٌ أَوْ قَرِيبٌ، وَالْمَوَالِيَ: وَالِدُونَ أَوْ قَرَابَةٌ. وَفِي ذِكْرِ الْوالِدانِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْأَبْنَاءِ لِتَلَازُمِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْوَالِدَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ فَالْهَالِكُ وَلَدٌ وَإِلَّا فَالْهَالِكُ وَالِدٌ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ عِوَضٌ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ أَيْ: وَالِدَاهُمُ وَأَقْرَبُوهُمْ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَوَالِي، وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النِّسَاء: ٣٢]، أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ جَعَلْنَا مَوَالِيَ يَرِثُونَهُ، وَهُوَ الْجَعْلُ الَّذِي فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ.
وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي: وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ قَوْمًا يَلُونَهُ بِالْإِرْثِ، أَيْ يَرِثُونَهُ، أَيْ يَكُونُ تُرَاثًا لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ اسْمًا نَكِرَةً عَامًّا يُبَيِّنُ نَوْعَهُ الْمَقَامُ، وَيَكُونُ مِمَّا تَرَكَ بَيَانًا لِمَا فِي تَنْوِينِ (كلّ) من الْإِبْهَام، وَيَكُونُ وَالْأَقْرَبُونَ فَاعِلا (لترك).
وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] أَيْ فِي الْأَمْوَالِ، أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الَّذِينَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ يَؤُولُ إِلَيْهِمُ الْمَالُ، فَلَا تَتَمَنَّوْا مَا لَيْسَ لَكُمْ فِيهِ حَقٌّ فِي حَيَاةِ أَصْحَابِهِ، وَلَا مَا جَعَلْنَاهُ لِلْمَوَالِي بَعْدَ مَوْتِ أَصْحَابِهِ.
التَّقْدِيرُ الثَّالِثُ: وَلِكُلٍّ مِنْكُمْ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ عَاصِبِينَ مِنَ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الْوَالِدَانِ، مِثْلَ الْأَعْمَامِ وَالْأَجْدَادِ وَالْأَخْوَالِ، فَإِنَّهُمْ قُرَبَاءُ الْأَبَوَيْنِ، وَمِمَّا تَرَكَهُمُ الْأَقْرَبُونَ مِثْلُ أَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ وَأَبْنَائِهِمْ وَإِنْ تَعَدَّدُوا، وَأَبْنَاءُ الْأَخَوَاتِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ قُرَبَاءُ الْأَقْرَبِينَ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى إِرْجَاعِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْعَصَبَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِلَى ذَوِيِ الْأَرْحَامِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ إِذَا انْعَدَمَ الْوَرَثَةُ الَّذِينَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ حُكْمٌ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
وَقَوْلُهُ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَوْلُهُ: «الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ
، وَقَوله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٧٥]، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَيْهِ فَ (مَا) الْمَوْصُولَةُ فِي قَوْلِهِ:
مِمَّا تَرَكَ بِمَعْنَى (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا
34
التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٨٧] فَتَكُونَ تَكْمِلَةً لِآيَةِ الْمَوَارِيثِ.
التَّقْدِيرُ الرَّابِعُ: وَلِكُلٍّ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِنَا: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ شَرَعْنَا أَحْكَامَ الْوَلَاءِ لِمَنْ هُمْ مُوَالٍ لَكُمْ، فَحُكْمُ الْوَلَاءِ الَّذِي تَرَكَهُ لَكُمْ أَهَالِيكُمْ: الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، أَيْ أَهْلُ الْوَلَاءِ الْقَدِيمِ فِي الْقَبِيلَةِ الْمُنْجَرِّ مِنْ حِلْفٍ قَدِيمٍ، أَوْ بِحُكْمِ الْوَلَاءِ الَّذِي عَاقَدَتْهُ الْأَيْمَانُ، أَيِ الْأَحْلَافُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ، وَهُوَ الْوَلَاءُ الْجَدِيدُ الشَّامِلُ لِلتَّبَنِّي الْمُحْدَثِ، وَلِلْحِلْفِ الْمُحْدَثِ، مِثْلَ الْمُؤَاخَاةِ الَّتِي فَرَضَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَإِنَّ الْوَلَاءَ مِنْهُ وَلَاءٌ قَدِيمٌ فِي الْقَبَائِلِ، وَمِنْهُ مَا يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو تَمَّامٍ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يكون وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ معطوفة عَلَى الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [الْبَقَرَة:
١٨٧] فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْمِلَةً لِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ تَقَادِيرُ أُخْرَى لَا تُلَائِمُ بَعْضَ أَجْزَاءِ النَّظْمِ إِلَّا بِتَعَسُّفٍ فَلَا يَنْبَغِي التَّعْرِيجُ عَلَيْهَا.
وَقَوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قِيلَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَقِيلَ هُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمُ الْمَوَالِي؟ فَقِيلَ: الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ
إِلَخْ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ خَبَرٌ عَنْ قَوْله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ.
وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَرُجِّحَ هَذَا بِأَنَّ الْمَشْهُور أنّ الْوَقْت عَلَى قَوْلِهِ: وَالْأَقْرَبُونَ وَلَيْسَ عَلَى قَوْلِهِ: أَيْمانُكُمْ. وَالْمُعَاقَدَةُ: حُصُولُ الْعَقْدِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، أَيِ الَّذِينَ تَعَاقَدْتُمْ مَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَبْنَاءِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ أَبْنَاءِ الْعَمِّ. وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ: إِمَّا بِمَعْنَى الْيَدِ، أُسْنِدَ الْعَقْدُ إِلَى الْأَيْدِي مَجَازًا لِأَنَّهَا تُقَارِنُ الْمُتَعَاقِدِينَ لِأَنَّهُمْ يَضَعُونَ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ فِي أَيْدِي الْآخَرِينَ، عَلَامَةً عَلَى انْبِرَامِ الْعَقْدِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الْعَقْدُ صَفْقَةً أَيْضًا لِأَنَّهُ يُصَفَّقُ فِيهِ الْيَدُ عَلَى الْيَدِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاء: ٣] وَإِمَّا بِمَعْنَى الْقَسَمِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَصْحَبُهُ قَسَمٌ،
التَّقْدِيرُ الرَّابِعُ: وَلِكُلٍّ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِنَا: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ شَرَعْنَا أَحْكَامَ الْوَلَاءِ لِمَنْ هُمْ مُوَالٍ لَكُمْ، فَحُكْمُ الْوَلَاءِ الَّذِي تَرَكَهُ لَكُمْ أَهَالِيكُمْ: الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، أَيْ أَهْلُ الْوَلَاءِ الْقَدِيمِ فِي الْقَبِيلَةِ الْمُنْجَرِّ مِنْ حِلْفٍ قَدِيمٍ، أَوْ بِحُكْمِ الْوَلَاءِ الَّذِي عَاقَدَتْهُ الْأَيْمَانُ، أَيِ الْأَحْلَافُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ، وَهُوَ الْوَلَاءُ الْجَدِيدُ الشَّامِلُ لِلتَّبَنِّي الْمُحْدَثِ، وَلِلْحِلْفِ الْمُحْدَثِ، مِثْلَ الْمُؤَاخَاةِ الَّتِي فَرَضَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَإِنَّ الْوَلَاءَ مِنْهُ وَلَاءٌ قَدِيمٌ فِي الْقَبَائِلِ، وَمِنْهُ مَا يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو تَمَّامٍ.
أَعْطَيْتَ لِي دِيَةَ الْقَتِيلِ وَلَيْسَ لِي | عَقْلٌ وَلَا حِلْفٌ هُنَاكَ قَدِيمُ |
١٨٧] فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْمِلَةً لِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ تَقَادِيرُ أُخْرَى لَا تُلَائِمُ بَعْضَ أَجْزَاءِ النَّظْمِ إِلَّا بِتَعَسُّفٍ فَلَا يَنْبَغِي التَّعْرِيجُ عَلَيْهَا.
وَقَوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قِيلَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَقِيلَ هُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمُ الْمَوَالِي؟ فَقِيلَ: الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ
إِلَخْ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ خَبَرٌ عَنْ قَوْله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ.
وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَرُجِّحَ هَذَا بِأَنَّ الْمَشْهُور أنّ الْوَقْت عَلَى قَوْلِهِ: وَالْأَقْرَبُونَ وَلَيْسَ عَلَى قَوْلِهِ: أَيْمانُكُمْ. وَالْمُعَاقَدَةُ: حُصُولُ الْعَقْدِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، أَيِ الَّذِينَ تَعَاقَدْتُمْ مَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَبْنَاءِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ أَبْنَاءِ الْعَمِّ. وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ: إِمَّا بِمَعْنَى الْيَدِ، أُسْنِدَ الْعَقْدُ إِلَى الْأَيْدِي مَجَازًا لِأَنَّهَا تُقَارِنُ الْمُتَعَاقِدِينَ لِأَنَّهُمْ يَضَعُونَ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ فِي أَيْدِي الْآخَرِينَ، عَلَامَةً عَلَى انْبِرَامِ الْعَقْدِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الْعَقْدُ صَفْقَةً أَيْضًا لِأَنَّهُ يُصَفَّقُ فِيهِ الْيَدُ عَلَى الْيَدِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاء: ٣] وَإِمَّا بِمَعْنَى الْقَسَمِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَصْحَبُهُ قَسَمٌ،
35
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّي حِلْفًا، وَصَاحِبُهُ حَلِيفًا. وَإِسْنَادُ الْعَقْدِ إِلَى الْأَيْمَانِ بِهَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْقَسَمَ هُوَ سَبَبُ انْعِقَادِ الْحِلْفِ.
وَالْمُرَادُ ب الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ: قِيلَ مَوَالِي الْحِلْفِ الَّذِي كَانَ الْعَرَبُ يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُحَالِفَ الرَّجُلُ الْآخَرَ فَيَقُولُ لَهُ «دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ- أَيْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا لِلدَّمِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ يَمْضِي عَلَى الْآخَرِ- وَثَأْرِي ثَأْرُكَ وَحَرْبِي حَرْبُكَ وَسِلْمِي سِلْمُكَ وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ وَتَعْقِلُ عَنِّي وَأَعْقِلُ عَنْكَ». وَقَدْ جَمَعَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْمَوَالِي الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ فِي قَوْلِهِ:
قِيلَ: كَانُوا جَعَلُوا لِلْمَوْلَى السُّدُسَ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، فَأَقَرَّتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَة الْأَنْفَال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٧٥] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ جَعَلُوا لِلْمَوْلَى السُّدُسَ وَصِيَّةً لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ مَوَارِيثُ مُعَيَّنَةٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ الَّذِينَ آخَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً. وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَ الْمُتَبَنَّى يَرِثُ الْمُتَبَنِّي (بِالْكَسْرِ) مِثْلُ تَبَنِّي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ الْكَلْبِيَّ، وَتَبَنِّي الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الْمِقْدَادَ الْكِنْدِيَّ، الْمَشْهُورَ بِالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَتَبَنِّي الْخَطَّابِ بن نفَيْل عَامِرًا بْنِ رَبِيعَةَ، وَتَبَنِّي أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بن ربيعَة سالما بْنِ مَعْقِلٍ الْإِصْطَخْرِيَّ، الْمَشْهُورَ بِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْمَوَارِيثِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بأنّ
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَالْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ فِي «الْبُخَارِيِّ» هِيَ نَاسِخَةٌ لِتَوْرِيثِ الْمُتَآخِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ حَصَرَ الْمِيرَاثَ فِي الْقَرَابَةِ، فَتَعَيَّنَ عَلَى هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ:
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أَيْ نَصِيبَ الَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ، أَوْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ.
وَالْمُرَادُ ب الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ: قِيلَ مَوَالِي الْحِلْفِ الَّذِي كَانَ الْعَرَبُ يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُحَالِفَ الرَّجُلُ الْآخَرَ فَيَقُولُ لَهُ «دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ- أَيْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا لِلدَّمِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ يَمْضِي عَلَى الْآخَرِ- وَثَأْرِي ثَأْرُكَ وَحَرْبِي حَرْبُكَ وَسِلْمِي سِلْمُكَ وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ وَتَعْقِلُ عَنِّي وَأَعْقِلُ عَنْكَ». وَقَدْ جَمَعَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْمَوَالِي الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ فِي قَوْلِهِ:
مَوَالِيكُمْ مَوْلَى الْوِلَادَةِ مِنْكُمُ | وَمَوْلَى الْيَمِينِ حَابِسٌ قَدْ تُقُسِّمَا |
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَالْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ فِي «الْبُخَارِيِّ» هِيَ نَاسِخَةٌ لِتَوْرِيثِ الْمُتَآخِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ حَصَرَ الْمِيرَاثَ فِي الْقَرَابَةِ، فَتَعَيَّنَ عَلَى هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ:
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أَيْ نَصِيبَ الَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ، أَوْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ.
36
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: نَزَلَتْ فِي التَّبَنِّي أَمْرًا بِالْوَصِيَّةِ لِلْمُتَبَنَّى. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهَا فِي شَأْنِ الْمُوصَى لَهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَنْ تُجْعَلَ الْوَصِيَّةُ لِأَقَارِبِهِ لُزُومًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَاقَدَتْ- بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: عَقَدَتْ- بِدُونِ أَلِفٍ وَمَعَ تَخْفِيفِ الْقَافِ-.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ فَاءُ الْفَصِيحَةِ عَلَى جَعْلِ قَوْله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، أَوْ هِيَ زَائِدَةٌ فِي الْخَبَرِ إِنْ جعل وَالَّذِينَ عَقَدَتْ مُبْتَدَأً عَلَى تَضْمِينِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ. وَالْأَمْرُ فِي الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ظَاهر.
[٣٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٤]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ تَشْرِيعٍ فِي حُقُوقِ الرِّجَالِ وَحُقُوقِ النِّسَاءِ وَالْمُجْتَمَعِ الْعَائِلِيِّ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَقِبَ مَا قَبْلُهُ لِمُنَاسَبَةِ الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إِلَى نِظَامِ الْعَائِلَةِ، لَا سِيَّمَا أَحْكَامُ النِّسَاءِ، فَقَوْلُهُ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أَصْلٌ تَشْرِيعِيٌّ كُلِّيٌّ تَتَفَرَّعُ عَنْهُ الْأَحْكَامُ الَّتِي فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ، فَهُوَ كَالْمُقَدَّمَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَالصَّالِحاتُ تَفْرِيعٌ عَنْهُ مَعَ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَالْحُكْمُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمٌ عَامٌّ جِيءَ بِهِ لِتَعْلِيلِ شَرْعٍ خَاصٍّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَاقَدَتْ- بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: عَقَدَتْ- بِدُونِ أَلِفٍ وَمَعَ تَخْفِيفِ الْقَافِ-.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ فَاءُ الْفَصِيحَةِ عَلَى جَعْلِ قَوْله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، أَوْ هِيَ زَائِدَةٌ فِي الْخَبَرِ إِنْ جعل وَالَّذِينَ عَقَدَتْ مُبْتَدَأً عَلَى تَضْمِينِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ. وَالْأَمْرُ فِي الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ظَاهر.
[٣٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٤]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ تَشْرِيعٍ فِي حُقُوقِ الرِّجَالِ وَحُقُوقِ النِّسَاءِ وَالْمُجْتَمَعِ الْعَائِلِيِّ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَقِبَ مَا قَبْلُهُ لِمُنَاسَبَةِ الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إِلَى نِظَامِ الْعَائِلَةِ، لَا سِيَّمَا أَحْكَامُ النِّسَاءِ، فَقَوْلُهُ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أَصْلٌ تَشْرِيعِيٌّ كُلِّيٌّ تَتَفَرَّعُ عَنْهُ الْأَحْكَامُ الَّتِي فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ، فَهُوَ كَالْمُقَدَّمَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَالصَّالِحاتُ تَفْرِيعٌ عَنْهُ مَعَ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَالْحُكْمُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمٌ عَامٌّ جِيءَ بِهِ لِتَعْلِيلِ شَرْعٍ خَاصٍّ.
37
فَلِذَلِكَ فَالتَّعْرِيفُ فِي الرِّجالُ والنِّساءِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مَبْنِيٌّ
عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، كَالتَّعْرِيفِ فِي قَوْلِ النَّاسِ «الرَّجُلُ خَيْرٌ من الْمَرْأَة»، يؤول إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُسْتَقْرَاةَ لِلْحَقَائِقِ أَحْكَامُ أَغْلَبِيَّةٍ، فَإِذَا بُنِيَ عَلَيْهَا اسْتِغْرَاقٌ فَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ. وَالْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ كَشَأْنِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَخْبَارِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالْقَوَّامُ: الَّذِي يَقُومُ عَلَى شَأْنِ شَيْءٍ وَيَلِيهِ وَيُصْلِحُهُ، يُقَالُ: قَوَّامٌ وقيّام وقيّوم وقيّم، وكلّها مشتقّة من الْقيام الْمجَازِي الَّذِي هُوَ مجَاز مُرْسل أَو اسْتِعَارَة تمثيلية، لِأَنَّ شَأْنَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْأَمْرِ وَيَعْتَنِي بِهِ أَنْ يَقِفَ لِيُدِيرَ أَمْرَهُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الِاهْتِمَامِ الْقِيَامُ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ. أَوْ شُبِّهَ الْمُهْتَمُّ بِالْقَائِمِ لِلْأَمْرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ مِنْ أَفْرَادِ حَقِيقَةِ الرَّجُلِ، أَيِ الصِّنْفُ الْمَعْرُوفُ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَهُوَ صِنْفُ الذُّكُورِ، وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ صِنْفُ الْإِنَاثِ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الرِّجَالَ جَمْعَ الرَّجُلِ بِمَعْنَى رَجُلِ الْمَرْأَةِ، أَيْ زَوْجِهَا لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةُ فُلَانٍ، وَلَا الْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ الْجَمْعَ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى الْأَزْوَاجِ الْإِنَاثِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، بَلِ الْمُرَادُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِأَصْلِ الْوَضْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النِّسَاء: ٣٢]، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتَهُ وَوَلَايَاهُ.
فَمَوْقِعُ الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ مَوْقِعُ الْمُقَدَّمَةِ لِلْحُكْمِ بِتَقْدِيمِ دَلِيلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالدَّلِيلِ، إِذْ قد يَقع فِيهِ سُوءُ تَأْوِيلٍ، أَوْ قَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قَوْلُ النِّسَاءِ «لَيْتَنَا اسْتَوَيْنَا مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمِيرَاثِ وَشَرِكْنَاهُمْ فِي الْغَزْوِ».
وَقِيَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ هُوَ قِيَامُ الْحِفْظِ وَالدِّفَاعِ، وَقِيَامُ الِاكْتِسَابِ وَالْإِنْتَاجِ الْمَالِيِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أَيْ: بِتَفْضِيلِ اللَّهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِإِنْفَاقِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِنْ كَانَتْ (مَا) فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَصْدَرِيَّةً، أَوْ بِالَّذِي فَضَلَّ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ، وَبِالَّذِي أَنْفَقُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِنْ كَانَتْ (مَا) فِيهِمَا
عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، كَالتَّعْرِيفِ فِي قَوْلِ النَّاسِ «الرَّجُلُ خَيْرٌ من الْمَرْأَة»، يؤول إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُسْتَقْرَاةَ لِلْحَقَائِقِ أَحْكَامُ أَغْلَبِيَّةٍ، فَإِذَا بُنِيَ عَلَيْهَا اسْتِغْرَاقٌ فَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ. وَالْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ كَشَأْنِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَخْبَارِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالْقَوَّامُ: الَّذِي يَقُومُ عَلَى شَأْنِ شَيْءٍ وَيَلِيهِ وَيُصْلِحُهُ، يُقَالُ: قَوَّامٌ وقيّام وقيّوم وقيّم، وكلّها مشتقّة من الْقيام الْمجَازِي الَّذِي هُوَ مجَاز مُرْسل أَو اسْتِعَارَة تمثيلية، لِأَنَّ شَأْنَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْأَمْرِ وَيَعْتَنِي بِهِ أَنْ يَقِفَ لِيُدِيرَ أَمْرَهُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الِاهْتِمَامِ الْقِيَامُ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ. أَوْ شُبِّهَ الْمُهْتَمُّ بِالْقَائِمِ لِلْأَمْرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ مِنْ أَفْرَادِ حَقِيقَةِ الرَّجُلِ، أَيِ الصِّنْفُ الْمَعْرُوفُ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَهُوَ صِنْفُ الذُّكُورِ، وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ صِنْفُ الْإِنَاثِ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الرِّجَالَ جَمْعَ الرَّجُلِ بِمَعْنَى رَجُلِ الْمَرْأَةِ، أَيْ زَوْجِهَا لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةُ فُلَانٍ، وَلَا الْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ الْجَمْعَ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى الْأَزْوَاجِ الْإِنَاثِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، بَلِ الْمُرَادُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِأَصْلِ الْوَضْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النِّسَاء: ٣٢]، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتَهُ وَوَلَايَاهُ.
فَمَوْقِعُ الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ مَوْقِعُ الْمُقَدَّمَةِ لِلْحُكْمِ بِتَقْدِيمِ دَلِيلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالدَّلِيلِ، إِذْ قد يَقع فِيهِ سُوءُ تَأْوِيلٍ، أَوْ قَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قَوْلُ النِّسَاءِ «لَيْتَنَا اسْتَوَيْنَا مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمِيرَاثِ وَشَرِكْنَاهُمْ فِي الْغَزْوِ».
وَقِيَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ هُوَ قِيَامُ الْحِفْظِ وَالدِّفَاعِ، وَقِيَامُ الِاكْتِسَابِ وَالْإِنْتَاجِ الْمَالِيِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أَيْ: بِتَفْضِيلِ اللَّهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِإِنْفَاقِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِنْ كَانَتْ (مَا) فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَصْدَرِيَّةً، أَوْ بِالَّذِي فَضَلَّ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ، وَبِالَّذِي أَنْفَقُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِنْ كَانَتْ (مَا) فِيهِمَا
38
مَوْصُولَةً، فَالْعَائِدَانِ مِنَ الصِّلَتَيْنِ مَحْذُوفَانِ: أَمَّا الْمَجْرُورُ فَلِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مَجْرُورٌ بِحَرْفٍ مِثْلَ الَّذِي جُرَّ بِهِ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ، وَأَمَّا الْعَائِدُ الْمَنْصُوبُ مِنْ صِلَةِ وَبِما أَنْفَقُوا فَلِأَنَّ الْعَائِدَ الْمَنْصُوبَ يَكْثُرُ حَذْفُهُ مِنَ الصِّلَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ هُوَ فَرِيقُ الرِّجَالِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَإِنَّ الضَّمِيرَيْنِ
لِلرِّجَالِ.
فَالتَّفْضِيلُ هُوَ الْمَزَايَا الْجِبِلِّيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي حَاجَةَ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ فِي الذَّبِّ عَنْهَا وَحِرَاسَتِهَا لِبَقَاءِ ذَاتِهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
فَهَذَا التَّفْضِيلُ ظَهَرَتْ آثَارُهُ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ، فَصَارَ حَقًّا مُكْتَسَبًا لِلرِّجَالِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ بُرْهَانِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الرِّجَالِ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ فَإِنَّ حَاجَةَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ مُسْتَمِرَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ تَقْوَى وَتَضْعُفُ.
وَقَوْلُهُ: وَبِما أَنْفَقُوا جِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي للإيماء إِلَى أنّ ذَلِك أَمْرٍ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ مُنْذُ الْقِدَمِ، فَالرِّجَالُ هُمُ الْعَائِلُونَ لِنِسَاءِ الْعَائِلَةِ مِنْ أَزْوَاجٍ وَبَنَاتٍ.
وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الرِّجَالِ لِأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْ شَأْنِ الرِّجَالِ، فَقَدْ كَانَ فِي عُصُورِ الْبَدَاوَةِ بِالصَّيْدِ وَبِالْغَارَةِ وَبِالْغَنَائِمِ وَالْحَرْثِ، وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الرِّجَالِ، وَزَادَ اكْتِسَابُ الرِّجَالِ فِي عُصُورِ الْحَضَارَةِ بِالْغَرْسِ وَالتِّجَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ خِطَابِيَّةٌ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مُصْطَلَحِ غَالِبِ الْبَشَرِ، لَا سِيَّمَا الْعَرَبُ. وَيَنْدُرُ أَنْ تَتَوَلَّى النِّسَاءُ مَسَاعِيَ مِنَ الِاكْتِسَابِ، لَكِنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمَلِ الرَّجُلِ مِثْلَ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ نَفْسَهَا وَتَنْمِيَةِ الْمَرْأَةِ مَالًا وَرِثَتْهُ مِنْ قَرَابَتِهَا.
وَمِنْ بَدِيعِ الْإِعْجَازِ صَوْغُ قَوْلِهِ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فِي قَالَبٍ صَالح للمصدرية وللموصولية، فَالْمَصْدَرِيَّةُ مشعرة بأنّ الْقِيَامَة سَبَبُهَا تَفْضِيلٌ مِنَ اللَّهِ وَإِنْفَاقٌ، وَالْمَوْصُولِيَّةُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ سَبَبَهَا مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ فَضْلِ الرِّجَالِ وَمِنْ إِنْفَاقِهِمْ لِيَصْلُحَ الْخِطَابُ لِلْفَرِيقَيْنِ: عَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ، كَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ أَوِ الْحَارِثِيِّ:
لِلرِّجَالِ.
فَالتَّفْضِيلُ هُوَ الْمَزَايَا الْجِبِلِّيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي حَاجَةَ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ فِي الذَّبِّ عَنْهَا وَحِرَاسَتِهَا لِبَقَاءِ ذَاتِهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
يَقُتْنَ جِيَادَنَا وَيَقُلْنَ لَسْتُمْ | بُعُولَتَنَا إِذَا لَمْ تَمْنَعُونَا |
وَقَوْلُهُ: وَبِما أَنْفَقُوا جِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي للإيماء إِلَى أنّ ذَلِك أَمْرٍ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ مُنْذُ الْقِدَمِ، فَالرِّجَالُ هُمُ الْعَائِلُونَ لِنِسَاءِ الْعَائِلَةِ مِنْ أَزْوَاجٍ وَبَنَاتٍ.
وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الرِّجَالِ لِأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْ شَأْنِ الرِّجَالِ، فَقَدْ كَانَ فِي عُصُورِ الْبَدَاوَةِ بِالصَّيْدِ وَبِالْغَارَةِ وَبِالْغَنَائِمِ وَالْحَرْثِ، وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الرِّجَالِ، وَزَادَ اكْتِسَابُ الرِّجَالِ فِي عُصُورِ الْحَضَارَةِ بِالْغَرْسِ وَالتِّجَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ خِطَابِيَّةٌ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مُصْطَلَحِ غَالِبِ الْبَشَرِ، لَا سِيَّمَا الْعَرَبُ. وَيَنْدُرُ أَنْ تَتَوَلَّى النِّسَاءُ مَسَاعِيَ مِنَ الِاكْتِسَابِ، لَكِنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمَلِ الرَّجُلِ مِثْلَ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ نَفْسَهَا وَتَنْمِيَةِ الْمَرْأَةِ مَالًا وَرِثَتْهُ مِنْ قَرَابَتِهَا.
وَمِنْ بَدِيعِ الْإِعْجَازِ صَوْغُ قَوْلِهِ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فِي قَالَبٍ صَالح للمصدرية وللموصولية، فَالْمَصْدَرِيَّةُ مشعرة بأنّ الْقِيَامَة سَبَبُهَا تَفْضِيلٌ مِنَ اللَّهِ وَإِنْفَاقٌ، وَالْمَوْصُولِيَّةُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ سَبَبَهَا مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ فَضْلِ الرِّجَالِ وَمِنْ إِنْفَاقِهِمْ لِيَصْلُحَ الْخِطَابُ لِلْفَرِيقَيْنِ: عَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ، كَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ أَوِ الْحَارِثِيِّ:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ | فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ |
عَمَدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ | وَلَلْكَيْسُ أَمْضَى فِي الْأُمُورِ وَأَنْجَحُ |
خُذَا حَذَرًا يَا خُلَّتَيَّ فِإِنَّنِي | رَأَيْتُ جِرَانَ الْعَوْدِ قَدْ كَادَ يَصْلُحُ |
عَلْقَمَ مَا أَنْتَ إِلَى عَامِرٍ | النَّاقِضِ الْأَوْتَارِ وَالْوَاتِرِ |
45
وَالضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِهِ- ومِنْ أَهْلِها عَائِدَانِ عَلَى مَفْهُومَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ:
وَهُمَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَاشْتُرِطَ فِي الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ لِيَكُونَا أَعْلَمَ بِدَخْلِيَّةِ أَمْرِهِمَا وَأَبْصَرَ فِي شَأْنِ مَا يُرْجَى مِنْ حَالِهِمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُخَوِّلُهُمَا الْحُكْمَ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. قَالَ ملك: إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا فَيُبْعَثُ مِنَ الْأَجَانِبِ، قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ: «فَإِذَا بَعَثَ الْحَاكِمُ أَجْنَبِيَّيْنِ مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِ فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ يُنْتَقَضُ الْحُكْمُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ مَاضٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا». قُلْتُ: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِهِمَا مُسْتَحَبٌّ فَلَوْ بُعِثَا مِنَ الْأَجَانِبِ مَعَ وُجُودِ الْأَقَارِبِ صَحَّ.
وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ نِزَاعِ الزَّوْجَيْنِ النِّزَاعَ الْمُسْتَمِرَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالشِّقَاقِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّ الْبَاعِثَ هُوَ الْحَاكِمُ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ، لَا الزَّوْجَانِ، لأنّ فعل فَابْعَثُوا مُؤْذِنٌ بِتَوْجِيهِهِمَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ، فَلَوْ كَانَا مُعَيَّنَيْنِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لَمَا كَانَ لِفِعْلِ الْبَعْثِ مَعْنًى.
وَصَرِيحُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَبْعُوثَيْنِ حَكَمَانِ لَا وَكِيلَانِ، وَبِذَلِك قَالَ أئمّة الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَعَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَمَا قَضَى بِهِ الْحَكَمَانِ مِنْ فُرْقَةٍ أَوْ بَقَاءٍ أَوْ مُخَالَعَةٍ يَمْضِي، وَلَا مَقَالَ لِلزَّوْجَيْنِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى التَّحْكِيمِ، نَعَمْ لَا يَمْنَعُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجَانِ رَجُلَيْنِ عَلَى النَّظَرِ فِي شُؤُونِهِمَا، وَلَا مِنْ أَنْ يُحَكِّمَا حَكَمَيْنِ عَلَى نَحْوِ تَحْكِيمِ الْقَاضِي.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ فَقَالَ: لَا يَحْكُمُ إِلَّا الْقَاضِي دُونَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ حُكْمِهِمَا
وَشُرُوطِهِ تَفْصِيلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَتَأَوَّلَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بَعْثُ حَكَمَيْنِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَعْيِينُ وَسَائِلِ الزَّجْرِ لِلظَّالِمِ مِنْهُمَا، كَقَطْعِ النَّفَقَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ مُدَّةً حَتَّى يَصْلُحَ حَالُهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ التَّطْلِيقُ إِلَّا بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ، فَيَصِيرَانِ وَكِيلَيْنِ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، فَيُرِيدُ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْقَاضِي عَنِ الْغَائِبِ. وَهَذَا صَرْفٌ لِلَفْظِ الْحَكَمَيْنِ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَهُوَ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَالْبَاعِثُ عَلَى تَأْوِيلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ التَّطْلِيقَ بِيَدِ الزَّوْجِ، فَلَوْ رَأَى الْحَكَمَانِ التَّطْلِيقَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ كَانَ ذَلِكَ
وَهُمَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَاشْتُرِطَ فِي الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ لِيَكُونَا أَعْلَمَ بِدَخْلِيَّةِ أَمْرِهِمَا وَأَبْصَرَ فِي شَأْنِ مَا يُرْجَى مِنْ حَالِهِمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُخَوِّلُهُمَا الْحُكْمَ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. قَالَ ملك: إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا فَيُبْعَثُ مِنَ الْأَجَانِبِ، قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ: «فَإِذَا بَعَثَ الْحَاكِمُ أَجْنَبِيَّيْنِ مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِ فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ يُنْتَقَضُ الْحُكْمُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ مَاضٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا». قُلْتُ: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِهِمَا مُسْتَحَبٌّ فَلَوْ بُعِثَا مِنَ الْأَجَانِبِ مَعَ وُجُودِ الْأَقَارِبِ صَحَّ.
وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ نِزَاعِ الزَّوْجَيْنِ النِّزَاعَ الْمُسْتَمِرَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالشِّقَاقِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّ الْبَاعِثَ هُوَ الْحَاكِمُ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ، لَا الزَّوْجَانِ، لأنّ فعل فَابْعَثُوا مُؤْذِنٌ بِتَوْجِيهِهِمَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ، فَلَوْ كَانَا مُعَيَّنَيْنِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لَمَا كَانَ لِفِعْلِ الْبَعْثِ مَعْنًى.
وَصَرِيحُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَبْعُوثَيْنِ حَكَمَانِ لَا وَكِيلَانِ، وَبِذَلِك قَالَ أئمّة الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَعَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَمَا قَضَى بِهِ الْحَكَمَانِ مِنْ فُرْقَةٍ أَوْ بَقَاءٍ أَوْ مُخَالَعَةٍ يَمْضِي، وَلَا مَقَالَ لِلزَّوْجَيْنِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى التَّحْكِيمِ، نَعَمْ لَا يَمْنَعُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجَانِ رَجُلَيْنِ عَلَى النَّظَرِ فِي شُؤُونِهِمَا، وَلَا مِنْ أَنْ يُحَكِّمَا حَكَمَيْنِ عَلَى نَحْوِ تَحْكِيمِ الْقَاضِي.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ فَقَالَ: لَا يَحْكُمُ إِلَّا الْقَاضِي دُونَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ حُكْمِهِمَا
وَشُرُوطِهِ تَفْصِيلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَتَأَوَّلَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بَعْثُ حَكَمَيْنِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَعْيِينُ وَسَائِلِ الزَّجْرِ لِلظَّالِمِ مِنْهُمَا، كَقَطْعِ النَّفَقَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ مُدَّةً حَتَّى يَصْلُحَ حَالُهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ التَّطْلِيقُ إِلَّا بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ، فَيَصِيرَانِ وَكِيلَيْنِ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، فَيُرِيدُ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْقَاضِي عَنِ الْغَائِبِ. وَهَذَا صَرْفٌ لِلَفْظِ الْحَكَمَيْنِ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَهُوَ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَالْبَاعِثُ عَلَى تَأْوِيلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ التَّطْلِيقَ بِيَدِ الزَّوْجِ، فَلَوْ رَأَى الْحَكَمَانِ التَّطْلِيقَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ كَانَ ذَلِكَ
46
مُخَالَفَةً لِدَلِيلِ الْأَصْلِ فَاقْتَضَى تَأْوِيلَ مَعْنَى الْحَكَمَيْنِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَا يَطَّرِدُ كَوْنُهُ بِيَدِ الزَّوْجِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُطَلِّقُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَكَمَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْمَسُوقُ لَهُمَا الْكَلَامُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ لِأَنَّهَا الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمَقْصِدَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْحَكَمَيْنِ، فَوَاجِبُ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَنْظُرَا فِي أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ نَظَرًا مُنْبَعِثًا عَنْ نِيَّةِ الْإِصْلَاحِ، فَإِنْ تَيَسَّرَ الْإِصْلَاحُ فَذَلِكَ وَإِلَّا صَارَا إِلَى التَّفْرِيقِ، وَقَدْ وَعَدَهُمَا اللَّهُ بِأَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا إِذَا نَوَيَا الْإِصْلَاحَ، وَمَعْنَى التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا إِرْشَادُهُمَا إِلَى مُصَادَفَةِ الْحَقِّ وَالْوَاقِعِ، فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ أَطْمَنُ لَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَصَرَ الْحَكَمَيْنِ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ حَتَّى يَكُونَ سَنَدًا لِتَأْوِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ رَسُولَانِ لِلْإِصْلَاحِ لَا لِلتَّفْرِيقِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا زَادَ عَلَى أَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ نِيَّةَ الْإِصْلَاحِ تَكُونُ سَبَبًا فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا، وَلَوْ فَهِمَ أَحَدٌ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ مُتَطَوِّحًا عَنْ مُفَادِ التَّرْكِيبِ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْحَكَمَيْنِ يَبْعَثُهُمَا الزَّوْجَانِ وَكِيلَيْنِ عَنْهُمَا، أَيْ إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ مِنْ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ إِصْلَاحَ أَمْرِهِمَا يُوَفِّقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، بِمَعْنَى تَيْسِيرِ عَوْدِ مُعَاشَرَتِهِمَا إِلَى أَحْسَنِ حَالِهَا. وَلَيْسَ فِيهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى قَصْرِ الْحَكَمَيْنِ عَلَى السَّعْيِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ التَّفْرِيقِ: لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الزَّوْجَيْنِ الْإِصْلَاحَ تُحَقِّقُهُ، وَإِرَادَتَهُمَا الشِّقَاقَ وَالشَّغَبَ تَزِيدُهُمَا، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَعْيِينِ خُطَّةِ الْحَكَمَيْنِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَسْأَلَةُ التَّحْكِيمِ مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْه.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَكَمَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْمَسُوقُ لَهُمَا الْكَلَامُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ لِأَنَّهَا الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمَقْصِدَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْحَكَمَيْنِ، فَوَاجِبُ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَنْظُرَا فِي أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ نَظَرًا مُنْبَعِثًا عَنْ نِيَّةِ الْإِصْلَاحِ، فَإِنْ تَيَسَّرَ الْإِصْلَاحُ فَذَلِكَ وَإِلَّا صَارَا إِلَى التَّفْرِيقِ، وَقَدْ وَعَدَهُمَا اللَّهُ بِأَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا إِذَا نَوَيَا الْإِصْلَاحَ، وَمَعْنَى التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا إِرْشَادُهُمَا إِلَى مُصَادَفَةِ الْحَقِّ وَالْوَاقِعِ، فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ أَطْمَنُ لَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَصَرَ الْحَكَمَيْنِ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ حَتَّى يَكُونَ سَنَدًا لِتَأْوِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ رَسُولَانِ لِلْإِصْلَاحِ لَا لِلتَّفْرِيقِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا زَادَ عَلَى أَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ نِيَّةَ الْإِصْلَاحِ تَكُونُ سَبَبًا فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا، وَلَوْ فَهِمَ أَحَدٌ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ مُتَطَوِّحًا عَنْ مُفَادِ التَّرْكِيبِ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْحَكَمَيْنِ يَبْعَثُهُمَا الزَّوْجَانِ وَكِيلَيْنِ عَنْهُمَا، أَيْ إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ مِنْ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ إِصْلَاحَ أَمْرِهِمَا يُوَفِّقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، بِمَعْنَى تَيْسِيرِ عَوْدِ مُعَاشَرَتِهِمَا إِلَى أَحْسَنِ حَالِهَا. وَلَيْسَ فِيهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى قَصْرِ الْحَكَمَيْنِ عَلَى السَّعْيِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ التَّفْرِيقِ: لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الزَّوْجَيْنِ الْإِصْلَاحَ تُحَقِّقُهُ، وَإِرَادَتَهُمَا الشِّقَاقَ وَالشَّغَبَ تَزِيدُهُمَا، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَعْيِينِ خُطَّةِ الْحَكَمَيْنِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَسْأَلَةُ التَّحْكِيمِ مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْه.
47
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٦]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦)عَطْفُ تَشْرِيعٍ يَخْتَصُّ بِالْمُعَامَلَةِ مَعَ ذَوِي الْقُرْبَى وَالضُّعَفَاءِ، وَقَدَّمَ لَهُ الْأَمْرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الْإِشْرَاكِ عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ، لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ وَأَنَّهُ أَحَقُّ مَا يَتَوَخَّاهُ الْمُسْلِمُ، تَجْدِيدًا لِمَعْنَى التَّوْحِيدِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَدَّمَ لِذَلِكَ فِي طَالِعِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النِّسَاء: ١]. وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ مَا أُرِيدَ جَمْعُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْمُخَالَطَةِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ تَقَرَّرَ نَفْيُ الشِّرْكِ بَيْنَهُمْ وَأُرِيدَ مِنْهُمْ دَوَامُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَالِاسْتِزَادَةُ مِنْهَا، وَنُهُوا عَنِ الشِّرْكِ تَحْذِيرًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي قُوَّةِ صِيغَةِ حَصْرٍ إِذْ مُفَادُهُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ فَاشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. وَالْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ فِي مِثْلِ هَذَا طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ جَاءَ عَلَيْهَا قَوْلُ السَّمَوْأَلِ، أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيِّ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا | وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ |
48
وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ فَإِنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ هُوَ التَّمَدُّحُ بِأَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ فِي الْحَرْبِ، فَتَزْهَقُ نُفُوسُهُمْ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَعْقَبَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ شَنْشَنَةٌ فِيهِمْ لَا تَتَخَلَّفُ وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا.
وشَيْئاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ (تُشْرِكُوا) أَيْ لَا تَجْعَلُوا شَرِيكًا شَيْئًا مِمَّا يُعْبَدُ كَقَوْلِهِ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الْجِنّ: ٢] وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ شَيْئًا
مِنَ الْإِشْرَاكِ وَلَوْ ضَعِيفًا كَقَوْلِهِ: فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً [الْمَائِدَة: ٤٢].
وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً اهْتِمَامٌ بِشَأْنِ الْوَالِدَيْنِ إِذْ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ [لُقْمَان: ١٤]، وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [لُقْمَان: ١٣، ١٤]، وَلِذَا قَدَّمَ مَعْمُولَ (إِحْسَانًا) عَلَيْهِ تَقْدِيمًا لِلِاهْتِمَامِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ هُنَا لِأَنَّ الْإِحْسَانَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَوَقَعَ الْمَصْدَرُ مَوْقِعَ الْفِعْلِ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ الْإِحْسَانُ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْبِرِّ.
وَشَاعَتْ تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَعِنْدِي أَنَّ الْإِحْسَانَ إِنَّمَا يُعَدَّى بِالْبَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِحْسَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَامَلَةِ الذَّاتِ وَتَوْقِيرِهَا وَإِكْرَامِهَا، وَهُوَ مَعْنَى الْبِرِّ وَلِذَلِكَ جَاءَ «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ» وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ إِيصَالُ النَّفْعِ الْمَالِيِّ عُدِّيَ بِإِلَى، تَقُولُ: أَحْسَنَ إِلَى فُلَانٍ، إِذَا وَصَلَهُ بِمَال وَنَحْوه.
وَذُو الْقُرْبَى صَاحِبُ الْقَرَابَةِ، وَالْقُرْبَى فُعْلَى، اسْمٌ لِلْقُرْبِ مَصْدَرُ قَرُبَ كَالرُّجْعَى، وَالْمُرَادُ بِهَا قَرَابَةُ النَّسَبِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: ذُو الْقُرْبَى، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ اسْتِبْقَاءً لِأَوَاصِرِ الْوِدِّ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، إِذْ كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ حَرَّفُوا حُقُوقَ الْقَرَابَةِ فَجَعَلُوهَا سَبَبَ تَنَافُسٍ وَتَحَاسُدٍ وَتَقَاتُلٍ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي شِعْرِهِمْ قَالَ أَرْطَاةُ بن سهية:
وَحَسْبُكَ مَا كَانَ بَيْنَ بَكْرٍ وَتَغْلِبَ فِي حَرْبِ الْبَسُوسِ، وَهُمَا أَقَارِبُ وَأَصْهَارٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَهَا عَرَبًا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَلِذَلِكَ حَثَّهُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَةِ.
وَكَانُوا يُحْسِنُونَ بِالْجَارِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ لَمْ يَكْتَرِثُوا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ بَعْدَ الْعَاطِفِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تُؤَكَّدْ بِالْبَاءِ فِي حِكَايَةِ وَصِيَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَذِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: ٨٣] لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَكَّدَ
وشَيْئاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ (تُشْرِكُوا) أَيْ لَا تَجْعَلُوا شَرِيكًا شَيْئًا مِمَّا يُعْبَدُ كَقَوْلِهِ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الْجِنّ: ٢] وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ شَيْئًا
مِنَ الْإِشْرَاكِ وَلَوْ ضَعِيفًا كَقَوْلِهِ: فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً [الْمَائِدَة: ٤٢].
وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً اهْتِمَامٌ بِشَأْنِ الْوَالِدَيْنِ إِذْ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ [لُقْمَان: ١٤]، وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [لُقْمَان: ١٣، ١٤]، وَلِذَا قَدَّمَ مَعْمُولَ (إِحْسَانًا) عَلَيْهِ تَقْدِيمًا لِلِاهْتِمَامِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ هُنَا لِأَنَّ الْإِحْسَانَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَوَقَعَ الْمَصْدَرُ مَوْقِعَ الْفِعْلِ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ الْإِحْسَانُ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْبِرِّ.
وَشَاعَتْ تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَعِنْدِي أَنَّ الْإِحْسَانَ إِنَّمَا يُعَدَّى بِالْبَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِحْسَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَامَلَةِ الذَّاتِ وَتَوْقِيرِهَا وَإِكْرَامِهَا، وَهُوَ مَعْنَى الْبِرِّ وَلِذَلِكَ جَاءَ «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ» وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ إِيصَالُ النَّفْعِ الْمَالِيِّ عُدِّيَ بِإِلَى، تَقُولُ: أَحْسَنَ إِلَى فُلَانٍ، إِذَا وَصَلَهُ بِمَال وَنَحْوه.
وَذُو الْقُرْبَى صَاحِبُ الْقَرَابَةِ، وَالْقُرْبَى فُعْلَى، اسْمٌ لِلْقُرْبِ مَصْدَرُ قَرُبَ كَالرُّجْعَى، وَالْمُرَادُ بِهَا قَرَابَةُ النَّسَبِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: ذُو الْقُرْبَى، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ اسْتِبْقَاءً لِأَوَاصِرِ الْوِدِّ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، إِذْ كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ حَرَّفُوا حُقُوقَ الْقَرَابَةِ فَجَعَلُوهَا سَبَبَ تَنَافُسٍ وَتَحَاسُدٍ وَتَقَاتُلٍ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي شِعْرِهِمْ قَالَ أَرْطَاةُ بن سهية:
وَنَحْو بَنُو عَمٍّ عَلَى ذَاكَ بَيْنَنَا | زَرَابِيٌّ فِيهَا بِغْضَةٌ وَتَنَافُسُ |
وَكَانُوا يُحْسِنُونَ بِالْجَارِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ لَمْ يَكْتَرِثُوا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ بَعْدَ الْعَاطِفِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تُؤَكَّدْ بِالْبَاءِ فِي حِكَايَةِ وَصِيَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَذِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: ٨٣] لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَكَّدَ
49
أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مِنْ سَفَالَةِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَسْتَخِفَّ أَحَدٌ بِالْقَرِيبِ لِأَنَّهُ قَرِيبُهُ، وَآمِنٌ مِنْ غَوَائِلِهِ، وَيَصْرِفَ بِرَّهُ وَوُدَّهُ إِلَى الْأَبَاعِدِ لِيَسْتَكْفِيَ شَرَّهُمْ، أَوْ لِيُذْكَرَ فِي الْقَبَائِلِ بِالذِّكْرِ الْحَسَنِ، فَإِنَّ النَّفْسَ الَّتِي يطوّعها الشرّ، وتدينها الشِّدَّةُ، لَنَفْسٌ لَئِيمَةٌ، وَكَمَا
وَرَدَ «شَرُّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ»
فَكَذَلِكَ نَقُولُ: «شَرُّ النَّاسِ مَنْ عَظَّمَ أَحَدًا لِشَرِّهِ».
وَقَوْلُهُ: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ هَذَانِ صِنْفَانِ ضَعِيفَانِ عَدِيمَا النَّصِيرِ، فَلِذَلِكَ أُوصِيَ
بِهِمَا.
وَالْجَارُ هُوَ النَّزِيلُ بِقُرْبِ مَنْزِلِكِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّزِيلِ بَيْنَ الْقَبِيلَةِ فِي جِوَارِهَا، فَالْمُرَادُ بِ الْجارِ ذِي الْقُرْبى الْجَارُ النَّسِيبُ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَبِ الْجارِ الْجُنُبِ الْجَارُ الْغَرِيبُ الَّذِي نَزَلَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنَ الْقَبِيلَةِ، فَهُوَ جُنُبٌ، أَيْ بَعِيدٌ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَانِبِ، وَهُوَ وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ فُعُلٍ، كَقَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ أُجُدٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطَابِقْ مَوْصُوفَهُ، قَالَ بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسٍ:
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ فِي شِعْرِهِ الَّذِي اسْتَشْفَعَ بِهِ عِنْدَ الْمَلِكِ الْحَارِثِ ابْن جَبَلَةَ الْغَسَّانِيِّ، لِيُطْلِقَ لَهُ أَخَاهُ شَاسَا، حِينَ وَقَعَ فِي أَسْرِ الْحَارِثِ:
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْجَارَ ذَا الْقُرْبَى بِقَرِيبِ الدَّارِ، وَالْجُنُبُ بِعِيدُهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْقُرْبَى لَا تُعْرَفُ فِي الْقُرْبِ الْمَكَانِيِّ، وَالْعَرَبُ مَعْرُوفُونَ بِحِفْظِ الْجِوَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ، وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، فَأُكِدَّ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مِنْ مَحَامِدِ الْعَرَبِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ لِتَكْمِيلِهَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ.
وَأَكَّدَتِ السُّنَّةُ الْوِصَايَةَ بِالْجَارِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ:
فَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُورِّثُهُ».
وَفِيهِ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: «وَاللَّهِ لَا
وَرَدَ «شَرُّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ»
فَكَذَلِكَ نَقُولُ: «شَرُّ النَّاسِ مَنْ عَظَّمَ أَحَدًا لِشَرِّهِ».
وَقَوْلُهُ: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ هَذَانِ صِنْفَانِ ضَعِيفَانِ عَدِيمَا النَّصِيرِ، فَلِذَلِكَ أُوصِيَ
بِهِمَا.
وَالْجَارُ هُوَ النَّزِيلُ بِقُرْبِ مَنْزِلِكِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّزِيلِ بَيْنَ الْقَبِيلَةِ فِي جِوَارِهَا، فَالْمُرَادُ بِ الْجارِ ذِي الْقُرْبى الْجَارُ النَّسِيبُ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَبِ الْجارِ الْجُنُبِ الْجَارُ الْغَرِيبُ الَّذِي نَزَلَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنَ الْقَبِيلَةِ، فَهُوَ جُنُبٌ، أَيْ بَعِيدٌ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَانِبِ، وَهُوَ وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ فُعُلٍ، كَقَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ أُجُدٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطَابِقْ مَوْصُوفَهُ، قَالَ بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسٍ:
لَا يَجْتَوِينَا مُجَاوِرٌ أَبَدًا | ذُو رَحِمٍ أَوْ مُجَاوِرٌ جُنُبُ |
فَلَا تَحْرِمْنِي نائلا عَن جَنَابَة | فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسَطَ الْقِبَابِ غَرِيبٌ |
وَأَكَّدَتِ السُّنَّةُ الْوِصَايَةَ بِالْجَارِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ:
فَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُورِّثُهُ».
وَفِيهِ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: «وَاللَّهِ لَا
50
يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ». قِيلَ:
«وَمن يَا رَسُولَ اللَّهِ» قَالَ: «مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي» قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا»
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْهُ جِيرَانَكَ»
. وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجِوَارِ: فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ: وَلَيْسَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ حَدٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ.
وَقَوْلُهُ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ هُوَ الْمُصَاحِبُ الْمُلَازِمُ لِلْمَكَانِ، فَمِنْهُ الضَّيْفُ، وَمِنْهُ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ مُلِمٌّ بِكَ لِطَلَبِ أَنْ تَنْفَعَهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الزَّوْجَةَ.
وَابْنِ السَّبِيلِ هُوَ الْغَرِيبُ الْمُجْتَازُ بِقَوْمٍ غَيْرِ نَاوٍ الْإِقَامَةَ، لِأَنَّ مَنْ أَقَامَ فَهُوَ الْجَارُ الْجُنُبُ. وَكَلِمَةُ (ابْنٍ) فِيهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الِانْتِسَابِ وَالِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِمْ: أَبُو اللَّيْلِ،
وَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: أَبُوهَا وَكِيَّالُهَا. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ، فَابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الَّذِي لَازَمَ الطَّرِيقَ سَائِرًا، أَيْ مُسَافِرًا، فَإِذَا دَخَلَ الْقَبِيلَةَ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَبْنَائِهَا، فَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ ابْنُ الطَّرِيقِ، رَمَى بِهِ الطَّرِيقُ إِلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ وَلَدُهُ. وَالْوِصَايَةُ بِهِ لِأَنَّهُ ضَعِيفُ الْحِيلَةِ، قَلِيلُ النَّصِيرِ، إِذْ لَا يَهْتَدِي إِلَى أَحْوَالِ قَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِهِ، وَبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لِأَنَّ الْعَبِيدَ فِي ضَعْفِ الرِّقِّ وَالْحَاجَةِ وَانْقِطَاعِ سُبُلِ الْخَلَاصِ مِنْ سَادَتِهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا أَحِقَّاءَ بِالْوِصَايَةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ سَمَّاهُمْ بِذَمِّ مَوَانِعِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمُ الْغَالِبَةِ عَلَى الْبَشَرِ. وَالِاخْتِيَالُ: التَّكَبُّرُ، افْتِعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُيَلَاءِ، يُقَالُ: خَالَ الرَّجُلُ خَوْلًا وَخَالًا. وَالْفَخُورُ: الشَّدِيدُ الْفَخْرِ بِمَا فَعَلَ، وَكِلَا الْوَصْفَيْنِ مَنْشَأٌ لِلْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ، فَهُمَا يُنَافِيَانِ الْإِحْسَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَرْكُ التَّرَفُّعِ عَلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ سَبَبٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِقَامِ.
وَمَعْنَى نَفْيِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُ رِضَاهُ وَتَقْرِيبِهِ عَمَّنْ هَذَا وَصْفُهُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الشِّرْكِ، لِمَا عُرِفُوا بِهِ من الغلطة وَالْجَفَاءِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّحْذِيرِ مِنْ بَقَايَا الْأَخْلَاقِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا.
«وَمن يَا رَسُولَ اللَّهِ» قَالَ: «مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي» قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا»
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْهُ جِيرَانَكَ»
. وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجِوَارِ: فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ: وَلَيْسَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ حَدٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ.
وَقَوْلُهُ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ هُوَ الْمُصَاحِبُ الْمُلَازِمُ لِلْمَكَانِ، فَمِنْهُ الضَّيْفُ، وَمِنْهُ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ مُلِمٌّ بِكَ لِطَلَبِ أَنْ تَنْفَعَهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الزَّوْجَةَ.
وَابْنِ السَّبِيلِ هُوَ الْغَرِيبُ الْمُجْتَازُ بِقَوْمٍ غَيْرِ نَاوٍ الْإِقَامَةَ، لِأَنَّ مَنْ أَقَامَ فَهُوَ الْجَارُ الْجُنُبُ. وَكَلِمَةُ (ابْنٍ) فِيهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الِانْتِسَابِ وَالِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِمْ: أَبُو اللَّيْلِ،
وَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: أَبُوهَا وَكِيَّالُهَا. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ، فَابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الَّذِي لَازَمَ الطَّرِيقَ سَائِرًا، أَيْ مُسَافِرًا، فَإِذَا دَخَلَ الْقَبِيلَةَ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَبْنَائِهَا، فَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ ابْنُ الطَّرِيقِ، رَمَى بِهِ الطَّرِيقُ إِلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ وَلَدُهُ. وَالْوِصَايَةُ بِهِ لِأَنَّهُ ضَعِيفُ الْحِيلَةِ، قَلِيلُ النَّصِيرِ، إِذْ لَا يَهْتَدِي إِلَى أَحْوَالِ قَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِهِ، وَبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لِأَنَّ الْعَبِيدَ فِي ضَعْفِ الرِّقِّ وَالْحَاجَةِ وَانْقِطَاعِ سُبُلِ الْخَلَاصِ مِنْ سَادَتِهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا أَحِقَّاءَ بِالْوِصَايَةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ سَمَّاهُمْ بِذَمِّ مَوَانِعِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمُ الْغَالِبَةِ عَلَى الْبَشَرِ. وَالِاخْتِيَالُ: التَّكَبُّرُ، افْتِعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُيَلَاءِ، يُقَالُ: خَالَ الرَّجُلُ خَوْلًا وَخَالًا. وَالْفَخُورُ: الشَّدِيدُ الْفَخْرِ بِمَا فَعَلَ، وَكِلَا الْوَصْفَيْنِ مَنْشَأٌ لِلْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ، فَهُمَا يُنَافِيَانِ الْإِحْسَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَرْكُ التَّرَفُّعِ عَلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ سَبَبٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِقَامِ.
وَمَعْنَى نَفْيِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُ رِضَاهُ وَتَقْرِيبِهِ عَمَّنْ هَذَا وَصْفُهُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الشِّرْكِ، لِمَا عُرِفُوا بِهِ من الغلطة وَالْجَفَاءِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّحْذِيرِ مِنْ بَقَايَا الْأَخْلَاقِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا.
51
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٣٧ إِلَى ٣٩]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، جِيءَ بِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِمَنْ جَرَى ذِكْرُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَمُنَاسَبَةُ إِرْدَافِ التَّحْرِيضِ على الْإِحْسَان بالتحذير مِنْ ضِدِّهِ وَمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ مِنْ كُلِّ إِحْسَانٍ غَيْرِ صَالِحٍ فَقُوبِلَ الْخُلُقُ الَّذِي دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي خِلَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ ذِكْرِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخر.
فَيكون قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مُبْتَدَأً، وَحُذِفَ خَبَرُهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَقُصِدَ الْعُدُولُ عَنِ الْعَطْفِ: لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً، وَلِمَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الْعُمُومِ، وَفَائِدَةِ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْكَافِرِينَ. فَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أَعَتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا
مُهِينًا وَأَعْتَدْنَا ذَلِكَ لِلْكَافِرِينَ أَمْثَالِهِمْ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ مَعْطُوفَةً أَيْضًا عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مَحْذُوفَةَ الْخَبَرِ أَيْضًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً إِلَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يُنْفقُونَ أَمْوَالهم رثاء النَّاسِ قَرِينُهُمُ الشَّيْطَانُ. وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ إِلَى الْعَطْفِ مِثْلُ نُكْتَةِ مَا قَبْلَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بَدَلًا مِنْ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النِّسَاء: ٣٦] فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَجُمْلَةُ وَأَعْتَدْنا مُعْتَرِضَةٌ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ.
وَالْبُخْلُ- بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ- اسْمُ مَصْدَرِ بَخِلَ مِنْ بَابِ فَرِحَ، وَيُقَالُ الْبَخَلُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْخَاءِ- وَهُوَ مَصْدَرُهُ الْقِيَاسِيُّ، قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الْبَاءِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْخَاءِ-.
52
وَالْبُخْلُ: ضِدُّ الْجُودِ وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٨٠]. وَمَعْنَى ويَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يَحُضُّونَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَشَدُّ الْبُخْلِ، قَالَ أَبُو تمّام:
وَالْكِتْمَانُ: الْإِخْفَاءُ. وَمَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَالُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمرَان: ١٨٠] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَبْخَلُونَ وَيَعْتَذِرُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ كِتْمَانُ التَّوْرَاةِ بِمَا فِيهَا مِنْ صِفَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَبْخَلُونَ:
الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِمُ: الْيَهُودَ وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَقَدْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧]. وَقَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً، عَقِبَهُ، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ. وَجُمْلَةُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً مُعْتَرِضَةٌ.
وَأَصْلُ وأَعْتَدْنا أَعْدَدْنَا، أُبْدِلَتِ الدَّالُ الْأُولَى تَاءً، لِثِقَلِ الدَّالَيْنِ عِنْدَ فَكِّ الْإِدْغَامِ بِاتِّصَالِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ، وَهَكَذَا مَادَّةُ أَعَدَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا أَدْغَمُوهَا لَمْ يُبْدِلُوا الدَّالَ بِالتَّاءِ
لِأَنَّ الْإِدْغَامَ أَخَفُّ، وَإِذَا أَظْهَرُوا أَبْدَلُوا الدَّالَ تَاءً، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: عَتَادٌ لِعُدَّةِ السِّلَاحِ، وَأَعْتُدٌ جَمْعُ عَتَادٍ.
وَوَصَفَ الْعَذَابَ بِالْمُهِينِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ.
وَعَطَفَ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: لِأَنَّهُمْ أَنْفَقُوا إِنْفَاقًا لَا تَحْصُلُ بِهِ فَائِدَةُ الْإِنْفَاقِ غَالِبًا، لِأَنَّ مَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءً لَا يَتَوَخَّى بِهِ مَوَاقِعَ الْحَاجَةِ، فَقَدْ يُعْطِي الْغَنِيَّ وَيَمْنَعُ الْفَقِيرَ، وَأُرِيدَ بِهِمْ هُنَا الْمُنْفِقُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُشْركين، وَلِذَلِكَ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدِ انْقَطَعَ الْجِدَالُ مَعَهُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً مُعْتَرِضَةٌ.
وإنّ امْر أضنّت يَدَاهُ عَلَى امْرِئٍ | بِنَيْلِ يَدٍ مِنْ غَيْرِهِ لَبَخِيلُ |
الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِمُ: الْيَهُودَ وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَقَدْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧]. وَقَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً، عَقِبَهُ، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ. وَجُمْلَةُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً مُعْتَرِضَةٌ.
وَأَصْلُ وأَعْتَدْنا أَعْدَدْنَا، أُبْدِلَتِ الدَّالُ الْأُولَى تَاءً، لِثِقَلِ الدَّالَيْنِ عِنْدَ فَكِّ الْإِدْغَامِ بِاتِّصَالِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ، وَهَكَذَا مَادَّةُ أَعَدَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا أَدْغَمُوهَا لَمْ يُبْدِلُوا الدَّالَ بِالتَّاءِ
لِأَنَّ الْإِدْغَامَ أَخَفُّ، وَإِذَا أَظْهَرُوا أَبْدَلُوا الدَّالَ تَاءً، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: عَتَادٌ لِعُدَّةِ السِّلَاحِ، وَأَعْتُدٌ جَمْعُ عَتَادٍ.
وَوَصَفَ الْعَذَابَ بِالْمُهِينِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ.
وَعَطَفَ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: لِأَنَّهُمْ أَنْفَقُوا إِنْفَاقًا لَا تَحْصُلُ بِهِ فَائِدَةُ الْإِنْفَاقِ غَالِبًا، لِأَنَّ مَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءً لَا يَتَوَخَّى بِهِ مَوَاقِعَ الْحَاجَةِ، فَقَدْ يُعْطِي الْغَنِيَّ وَيَمْنَعُ الْفَقِيرَ، وَأُرِيدَ بِهِمْ هُنَا الْمُنْفِقُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُشْركين، وَلِذَلِكَ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدِ انْقَطَعَ الْجِدَالُ مَعَهُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً مُعْتَرِضَةٌ.
53
وَقَوْلُهُ: فَساءَ قَرِيناً جَوَابُ الشَّرْطِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (سَاءَ) إِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الشَّيْطَان (فَساءَ) بِمَعْنَى بِئْسَ، وَالضَّمِيرُ فَاعِلُهَا، وقَرِيناً تَمْيِيزٌ لِلضَّمِيرِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: ١٧٧]، أَيْ: فَسَاءَ قَرِينًا لَهُ، لِيَحْصُلَ الرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَيَجُوزُ أَن تبقى (فَساءَ) عَلَى أَصْلِهَا ضِدَّ حَسُنَ، وَتَرْفَعَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى (مَنْ) وَيَكُونَ (قَرِينًا) تَمْيِيزَ نِسْبَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: «سَاءَ سمعا فسَاء جابة» أَيْ فَسَاءَ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَرِينَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينِ، وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ سُوءُ حَالِ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا بِإِثْبَاتِ سُوءِ قَرِينِهِ إِذِ الْمَرْءُ يُعْرَفُ بِقَرِينِهِ، كَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي وَقَوْلُهُ: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عُطِفَ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ اسْتِنْزَالُ طَائِرِهِمْ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَماذا اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ هُنَا إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ. وَ (ذَا) إِشَارَةٌ إِلَى (مَا)، وَالْأَصْل لَا يَجِيءَ بَعْدَ (ذَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ نَحْوَ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [الْبَقَرَة: ٢٥٥]. وَكَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ صِلَتِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَقَالَ النُّحَاةُ: نَابَتْ ذَا مَنَابَ الْمَوْصُولِ، فَعَدُّوهَا فِي الْمَوْصُوَلَاتِ وَمَا هِيَ مِنْهَا فِي قُبَيْلٍ وَلَا دُبَيْرٍ، وَلَكِنَّهَا مُؤْذِنَةٌ بِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وعَلى ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، فَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِكَوْنٍ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ، كَقَوْلِهِمْ: عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. ولَوْ آمَنُوا شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قُدِّمَ دَلِيلُ الْجَوَابِ اهْتِمَامًا بِالِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِ
قَتِيلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ:
وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ تَوَلَّدَ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ فِي لَوِ الشَّرْطِيَّةِ، فَأَثْبَتَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي مَعَانِي لَوْ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى لَوْ فِي التَّحْقِيقِ، وَلَكِنَّهُ يَنْشَأُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَوْ آمَنُوا مَاذَا الَّذِي كَانَ يُتْعِبُهُمْ وَيُثْقِلُهُمْ، أَيْ لَكَانَ خَفِيفًا عَلَيْهِمْ وَنَافِعًا لَهُمْ، وَهَذَا من الْجِدَال بِإِرَاءَةِ الْحَالَةِ الْمَتْرُوكَةِ أَنْفَعَ وَمَحْمُودَةً.
ثُمَّ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ التَّفْرِيطَ فِي أَخَفِّ الْحَالَيْنِ وَأَسَدِّهِمَا أَمْرٌ نُكْرٌ، ظَهَرَ أَنَّ الْمُفَرِّطَ فِي ذَلِكَ مَلُومٌ، إِذْ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ بِأَرْشَدِ الْخَلَّتَيْنِ، فَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ اسْتِعْمَالًا
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: ١٧٧]، أَيْ: فَسَاءَ قَرِينًا لَهُ، لِيَحْصُلَ الرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَيَجُوزُ أَن تبقى (فَساءَ) عَلَى أَصْلِهَا ضِدَّ حَسُنَ، وَتَرْفَعَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى (مَنْ) وَيَكُونَ (قَرِينًا) تَمْيِيزَ نِسْبَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: «سَاءَ سمعا فسَاء جابة» أَيْ فَسَاءَ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَرِينَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينِ، وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ سُوءُ حَالِ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا بِإِثْبَاتِ سُوءِ قَرِينِهِ إِذِ الْمَرْءُ يُعْرَفُ بِقَرِينِهِ، كَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي وَقَوْلُهُ: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عُطِفَ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ اسْتِنْزَالُ طَائِرِهِمْ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَماذا اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ هُنَا إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ. وَ (ذَا) إِشَارَةٌ إِلَى (مَا)، وَالْأَصْل لَا يَجِيءَ بَعْدَ (ذَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ نَحْوَ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [الْبَقَرَة: ٢٥٥]. وَكَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ صِلَتِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَقَالَ النُّحَاةُ: نَابَتْ ذَا مَنَابَ الْمَوْصُولِ، فَعَدُّوهَا فِي الْمَوْصُوَلَاتِ وَمَا هِيَ مِنْهَا فِي قُبَيْلٍ وَلَا دُبَيْرٍ، وَلَكِنَّهَا مُؤْذِنَةٌ بِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وعَلى ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، فَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِكَوْنٍ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ، كَقَوْلِهِمْ: عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. ولَوْ آمَنُوا شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قُدِّمَ دَلِيلُ الْجَوَابِ اهْتِمَامًا بِالِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِ
قَتِيلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ:
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا | مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ |
ثُمَّ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ التَّفْرِيطَ فِي أَخَفِّ الْحَالَيْنِ وَأَسَدِّهِمَا أَمْرٌ نُكْرٌ، ظَهَرَ أَنَّ الْمُفَرِّطَ فِي ذَلِكَ مَلُومٌ، إِذْ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ بِأَرْشَدِ الْخَلَّتَيْنِ، فَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ اسْتِعْمَالًا
54
كِنَائِيًّا بِوَاسِطَتَيْنِ. وَالْمَلَامُ مُتَوَجِّهٌ لِلْفَرِيقَيْنِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ رِئَاءً، لِقَوْلِهِ: لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ السَّابِقِ.
وَجُمْلَةُ: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهِيَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْجَزَاءِ عَلَى سوء أَعْمَالهم.
[٤٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ حَالَهُمْ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، وَأَرَاهُمْ تَفْرِيطَهُمْ مَعَ سُهُولَةِ أَخْذِهِمْ بِالْحَيْطَةِ لِأَنْفُسِهِمْ لَوْ شَاءُوا، بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ الْقَلِيلِ، بَلْهَ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ، فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِوَعِيدٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ فِي حَقِّهِمْ عَدْلٌ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ أَيْضًا مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً وَلَمَّا كَانَ الْمَنْفِيُّ الظُّلْمَ، عَلَى أَنَّ (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) تَقْدِيرٌ لِأَقَلِّ ظُلْمٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْمُسِيءَ بِأَكْثَرِ مِنْ جَزَاءِ سَيِّئَتِهِ.
وَانْتَصَبَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ لَا يَظْلِمُ ظُلْمًا مُقَدَّرًا بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَالْمِثْقَالُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الثِّقَلُ، فَلِذَلِكَ صِيغَ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْآلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمِقْدَارُ.
وَالذَّرَّةُ تُطْلَقُ عَلَى بَيْضَةِ النَّمْلَةِ، وَعَلَى مَا يَتَطَايَرُ مِنَ التُّرَابِ عِنْدَ النَّفْخِ، وَهَذَا أَحْقَرُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ، فُعُلِمَ انْتِفَاءُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ بِالْأَوْلَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ حَسَنَةً- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّ (تَكُ) مُضَارِعُ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ إِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِنَصْبِ
- حَسَنَةً عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِ تَكُ عَلَى اعْتِبَارِ كَانَ نَاقِصَةً، وَاسْمُ كَانَ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَجِيءَ بِفِعْلِ الْكَوْنِ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُؤَنَّثِ مُرَاعَاةً لفظ ذَرَّةٍ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ مِثْقَالُ، لِأَنَّ لَفْظَ مِثْقَالَ مُبْهَمٌ لَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا لَفْظُ ذَرَّةٍ فَكَانَ كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهِيَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْجَزَاءِ عَلَى سوء أَعْمَالهم.
[٤٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ حَالَهُمْ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، وَأَرَاهُمْ تَفْرِيطَهُمْ مَعَ سُهُولَةِ أَخْذِهِمْ بِالْحَيْطَةِ لِأَنْفُسِهِمْ لَوْ شَاءُوا، بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ الْقَلِيلِ، بَلْهَ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ، فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِوَعِيدٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ فِي حَقِّهِمْ عَدْلٌ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ أَيْضًا مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً وَلَمَّا كَانَ الْمَنْفِيُّ الظُّلْمَ، عَلَى أَنَّ (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) تَقْدِيرٌ لِأَقَلِّ ظُلْمٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْمُسِيءَ بِأَكْثَرِ مِنْ جَزَاءِ سَيِّئَتِهِ.
وَانْتَصَبَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ لَا يَظْلِمُ ظُلْمًا مُقَدَّرًا بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَالْمِثْقَالُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الثِّقَلُ، فَلِذَلِكَ صِيغَ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْآلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمِقْدَارُ.
وَالذَّرَّةُ تُطْلَقُ عَلَى بَيْضَةِ النَّمْلَةِ، وَعَلَى مَا يَتَطَايَرُ مِنَ التُّرَابِ عِنْدَ النَّفْخِ، وَهَذَا أَحْقَرُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ، فُعُلِمَ انْتِفَاءُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ بِالْأَوْلَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ حَسَنَةً- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّ (تَكُ) مُضَارِعُ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ إِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِنَصْبِ
- حَسَنَةً عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِ تَكُ عَلَى اعْتِبَارِ كَانَ نَاقِصَةً، وَاسْمُ كَانَ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَجِيءَ بِفِعْلِ الْكَوْنِ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُؤَنَّثِ مُرَاعَاةً لفظ ذَرَّةٍ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ مِثْقَالُ، لِأَنَّ لَفْظَ مِثْقَالَ مُبْهَمٌ لَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا لَفْظُ ذَرَّةٍ فَكَانَ كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ.
وَالْمُضَاعَفَةُ إِضَافَةُ الضّعف- بِكَسْر الصَّاد- أَيِ الْمَثَلِ، يُقَالُ: ضَاعَفَ وَضَعَّفَ وَأَضْعَفَ، وَهِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى التَّحْقِيق عِنْد أئمّة اللُّغَةِ، مِثْلِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضَاعَفَ يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفٍ وَاحِدٍ وضعّف يَقْتَضِي ضِعْفَيْنِ. وَرُدَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: ٣٠]. وَأَمَّا دَلَالَةُ إِحْدَى الصِّيَغِ الثَّلَاثِ عَلَى مِقْدَارِ التَّضْعِيفِ فَيُؤْخَذُ مِنَ الْقَرَائِنِ لِحِكْمَةِ الصِّيغَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُضاعِفْها، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَر: يُضاعِفْها- بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ-.
وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ مَا يُزَادُ عَلَى الضِّعْفِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، فَقَالَ: مِنْ لَدُنْهُ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ. وَسَمَّاهُ أَجْرًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي ثَوَاب الْهِجْرَة.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
الْفَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَاءً فَصِيحَةً تَدُلُّ عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنِ الْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ:
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النِّسَاء: ٣٧] وَقَوْلِهِ: فَساءَ قَرِيناً [النِّسَاء: ٣٨] وَعَنِ التَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: وَماذا عَلَيْهِمْ [النِّسَاء: ٣٩] وَعَنِ الْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النِّسَاء: ٤٠] الْآيَةَ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا أَيْقَنْتَ بِذَلِكَ فَكَيْفَ حَالُ كُلِّ أُولَئِكَ إِذَا جَاءَ الشُّهَدَاءُ وَظَهَرَ مُوجَبُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وعَلى الْعَمَل السيّء، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ ضَمِيرُ (بِكَ) إِضْمَارًا فِي مَقَامِ الْإِظْهَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النِّسَاء: ٤٠]، أَيْ يَتَفَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ سُؤَالٌ عَنْ حَالِ النَّاسِ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فَالنَّاسُ بَيْنَ مُسْتَبْشِرٍ وَمُتَحَسِّرٍ، وَعَلَى هَذَا فَضَمِيرُ بِكَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَيَقْتَضِيَ أَنْ يُقَالَ: وَجِئْنَا بِالرَّسُولِ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا، فَعَدَلَ إِلَى الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِزِّ الْحُضُورِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ.
يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: ٣٠]. وَأَمَّا دَلَالَةُ إِحْدَى الصِّيَغِ الثَّلَاثِ عَلَى مِقْدَارِ التَّضْعِيفِ فَيُؤْخَذُ مِنَ الْقَرَائِنِ لِحِكْمَةِ الصِّيغَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُضاعِفْها، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَر: يُضاعِفْها- بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ-.
وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ مَا يُزَادُ عَلَى الضِّعْفِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، فَقَالَ: مِنْ لَدُنْهُ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ. وَسَمَّاهُ أَجْرًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي ثَوَاب الْهِجْرَة.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
الْفَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَاءً فَصِيحَةً تَدُلُّ عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنِ الْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ:
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النِّسَاء: ٣٧] وَقَوْلِهِ: فَساءَ قَرِيناً [النِّسَاء: ٣٨] وَعَنِ التَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: وَماذا عَلَيْهِمْ [النِّسَاء: ٣٩] وَعَنِ الْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النِّسَاء: ٤٠] الْآيَةَ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا أَيْقَنْتَ بِذَلِكَ فَكَيْفَ حَالُ كُلِّ أُولَئِكَ إِذَا جَاءَ الشُّهَدَاءُ وَظَهَرَ مُوجَبُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وعَلى الْعَمَل السيّء، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ ضَمِيرُ (بِكَ) إِضْمَارًا فِي مَقَامِ الْإِظْهَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النِّسَاء: ٤٠]، أَيْ يَتَفَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ سُؤَالٌ عَنْ حَالِ النَّاسِ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فَالنَّاسُ بَيْنَ مُسْتَبْشِرٍ وَمُتَحَسِّرٍ، وَعَلَى هَذَا فَضَمِيرُ بِكَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَيَقْتَضِيَ أَنْ يُقَالَ: وَجِئْنَا بِالرَّسُولِ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا، فَعَدَلَ إِلَى الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِزِّ الْحُضُورِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ.
56
وَالْحَالَةُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ تُؤْذِنُ بِحَالَةٍ مَهُولَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَتُنَادِي عَلَى حَيْرَتِهِمْ وَمُحَاوَلَتِهِمُ التَّمَلُّصَ مِنَ الْعِقَابِ بِسُلُوكِ طَرِيقِ إِنْكَارِ أَنْ يَكُونُوا أُنْذِرُوا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَجِيءُ شَهِيدٍ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَيُقَدَّرُ بِنَحْوِ: كَيْفَ أُولَئِكَ، أَوْ كَيْفَ الْمَشْهَدُ، وَلَا يُقَدَّرُ بِكَيْفَ حَالِهِمْ خَاصَّةً، إِذْ هِيَ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ مَا مِنْهَا إِلَّا يَزِيدُهُ حَالُ ضِدِّهِ وُضُوحًا، فَالنَّاجِي يَزْدَادُ سُرُورًا بِمُشَاهَدَةِ حَالِ ضِدِّهِ، وَالْمُوبَقُ يَزْدَادُ تَحَسُّرًا بِمُشَاهَدَةِ حَالِ ضِدِّهِ، وَالْكُلُّ يَقْوَى يَقِينُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُ بِشَهَادَةِ الصَّادِقِينَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الشَّهِيدَ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ مُتَعَلِّقَهُ بِعَلَى أَوِ اللَّامِ: لِيَعُمَّ الْأَمْرَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ مِنَ التَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٥].
وَ (إِذا) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ جِئْنا أَيْ زَمَانِ إِتْيَانِنَا بِشَهِيدٍ. وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى تَقَدَّمَ نُزُولُهَا مِثْلَ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ [٨٩] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ فَلِذَلِكَ صَلَحَتْ لِأَنْ يُتَعَرَّفَ اسْمُ الزَّمَانِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَالظَّرْفُ مَعْمُولٌ لِ (كَيْفَ) لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَهُوَ مَعْنَى التَّعْجِيبِ، كَمَا انْتَصَبَ بِمَعْنَى التَّلَهُّفِ فِي قَوْلِ أَبِي الطَّمْحَانِ:
وَالْمَجْرُورَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَقَوْلِهِ: بِشَهِيدٍ يَتَعَلَّقَانِ بِ (جِئْنَا). وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُخْتَصَرًا عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آل عمرَان: ٢٥].
وَشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ رَسُولُهَا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً.
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُضُورِهِمْ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ عِنْدَ سَمَاعِهِ اسْمَ الْإِشَارَةِ، وَأَصْلُ الْإِشَارَةِ يَكُونُ إِلَى مُشَاهَدٍ فِي الْوُجُودِ أَوْ مُنَزَّلٍ مَنْزِلَتَهُ، وَقَدِ اصْطَلَحَ الْقُرْآنُ عَلَى إِطْلَاقِ إِشَارَةِ (هؤُلاءِ) مُرَادًا بِهَا الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا مَعْنًى أُلْهِمْنَا إِلَيْهِ، استقريناه فَكَانَ مُطَابِقًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النِّسَاء: ٣٧] وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، لِأَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِهِمْ يَجْعَلُهُمْ كَالْحَاضِرِينَ فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ تَوْبِيخِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ صَارُوا كَالْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ
وَ (إِذا) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ جِئْنا أَيْ زَمَانِ إِتْيَانِنَا بِشَهِيدٍ. وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى تَقَدَّمَ نُزُولُهَا مِثْلَ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ [٨٩] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ فَلِذَلِكَ صَلَحَتْ لِأَنْ يُتَعَرَّفَ اسْمُ الزَّمَانِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَالظَّرْفُ مَعْمُولٌ لِ (كَيْفَ) لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَهُوَ مَعْنَى التَّعْجِيبِ، كَمَا انْتَصَبَ بِمَعْنَى التَّلَهُّفِ فِي قَوْلِ أَبِي الطَّمْحَانِ:
وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ قَلْبِي مِنْ غَدٍ | إِذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ |
وَشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ رَسُولُهَا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً.
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُضُورِهِمْ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ عِنْدَ سَمَاعِهِ اسْمَ الْإِشَارَةِ، وَأَصْلُ الْإِشَارَةِ يَكُونُ إِلَى مُشَاهَدٍ فِي الْوُجُودِ أَوْ مُنَزَّلٍ مَنْزِلَتَهُ، وَقَدِ اصْطَلَحَ الْقُرْآنُ عَلَى إِطْلَاقِ إِشَارَةِ (هؤُلاءِ) مُرَادًا بِهَا الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا مَعْنًى أُلْهِمْنَا إِلَيْهِ، استقريناه فَكَانَ مُطَابِقًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النِّسَاء: ٣٧] وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، لِأَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِهِمْ يَجْعَلُهُمْ كَالْحَاضِرِينَ فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ تَوْبِيخِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ صَارُوا كَالْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ
57
الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ أَضْعَفِ الِاحْتِمَالَاتِ أَنْ يَكُونَ هؤُلاءِ إِشَارَةً إِلَى الشُّهَدَاءِ، الدَّالِّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ: كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَإِنْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» حَدِيثٌ يُنَاسِبُهُ فِي شَهَادَةِ نُوحٍ عَلَى قَوْمِهِ وَأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَهُ
فَيَشْهَدُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِدْقِهِ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَذُكِرَ مُتَعَلِّقُ (شَهِيداً) الثَّانِي مَجْرُورًا بِعَلَى لِتَهْدِيدِ الْكَافِرِينَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ، قُلْتُ: أَقْرَأُهُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»
فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حتّى إِذا بَلَغْتُ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، قَالَ: أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. وَكَمَا قُلْتُ: إِنَّهُ أَوْجَزَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ فِي لَفْظِ كَيْفَ فَكَذَلِكَ أَقُولُ هُنَا: لَا فِعْلَ أَجْمَعُ دَلَالَةً عَلَى مَجْمُوعِ الشُّعُورِ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ بُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى شُعُورٍ مُجْتَمِعٍ فِيهِ دَلَائِلُ عَظِيمَةٌ: وَهِيَ الْمَسَرَّةُ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ، وَتَصْدِيقِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُ فِي التَّبْلِيغِ، وَرُؤْيَةِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي أُنْجِزَتْ لَهُمْ بِوَاسِطَتِهِ، وَالْأَسَفِ عَلَى مَا لَحِقَ بَقِيَّةَ أُمَّتِهِ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَمُشَاهَدَةِ نَدَمِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَالْبُكَاءُ تُرْجُمَانُ رَحْمَةٍ وَمَسَرَّةٍ وَأَسَفٍ وَبَهْجَةٍ.
وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَسَاءَلُ عَنِ الْحَالَةِ الْمُبْهَمَةِ الْمَدْلُولَةِ لِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَيَتَطَلَّبُ بَيَانَهَا، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةً لِبَعْضِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ، وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ يَرَوْنَ بِوَارِقَ الشَّرِّ: مِنْ شَهَادَةِ شُهَدَاءِ الْأُمَمِ عَلَى مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَيُوقِنُونَ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ مَأْخُوذُونَ إِلَى الْعَذَابِ، فَيَنَالُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ مَا يَوَدُّونَ مِنْهُ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَجُمْلَةُ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَوَدُّ أَيْ يودّون ودّا يبيّنه قَوْلُهُ: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلِكَوْنِ مَضْمُونِهَا أَفَادَ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمَوْدُودِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ مَفْعُولِ (يَوَدُّ)، فَصَارَ فِعْلُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَصَارَتْ لَوْ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الْمَصْدَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
فَيَشْهَدُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِدْقِهِ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَذُكِرَ مُتَعَلِّقُ (شَهِيداً) الثَّانِي مَجْرُورًا بِعَلَى لِتَهْدِيدِ الْكَافِرِينَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ، قُلْتُ: أَقْرَأُهُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»
فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حتّى إِذا بَلَغْتُ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، قَالَ: أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. وَكَمَا قُلْتُ: إِنَّهُ أَوْجَزَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ فِي لَفْظِ كَيْفَ فَكَذَلِكَ أَقُولُ هُنَا: لَا فِعْلَ أَجْمَعُ دَلَالَةً عَلَى مَجْمُوعِ الشُّعُورِ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ بُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى شُعُورٍ مُجْتَمِعٍ فِيهِ دَلَائِلُ عَظِيمَةٌ: وَهِيَ الْمَسَرَّةُ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ، وَتَصْدِيقِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُ فِي التَّبْلِيغِ، وَرُؤْيَةِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي أُنْجِزَتْ لَهُمْ بِوَاسِطَتِهِ، وَالْأَسَفِ عَلَى مَا لَحِقَ بَقِيَّةَ أُمَّتِهِ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَمُشَاهَدَةِ نَدَمِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَالْبُكَاءُ تُرْجُمَانُ رَحْمَةٍ وَمَسَرَّةٍ وَأَسَفٍ وَبَهْجَةٍ.
وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَسَاءَلُ عَنِ الْحَالَةِ الْمُبْهَمَةِ الْمَدْلُولَةِ لِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَيَتَطَلَّبُ بَيَانَهَا، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةً لِبَعْضِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ، وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ يَرَوْنَ بِوَارِقَ الشَّرِّ: مِنْ شَهَادَةِ شُهَدَاءِ الْأُمَمِ عَلَى مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَيُوقِنُونَ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ مَأْخُوذُونَ إِلَى الْعَذَابِ، فَيَنَالُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ مَا يَوَدُّونَ مِنْهُ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَجُمْلَةُ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَوَدُّ أَيْ يودّون ودّا يبيّنه قَوْلُهُ: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلِكَوْنِ مَضْمُونِهَا أَفَادَ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمَوْدُودِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ مَفْعُولِ (يَوَدُّ)، فَصَارَ فِعْلُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَصَارَتْ لَوْ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الْمَصْدَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
58
وَقَوْلُهُ: تُسَوَّى قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- فَهُوَ مُضَارِعُ تَسَوَّى الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ سَوَّاهُ إِذَا جَعَلَهُ سَوَاءً لِشَيْءٍ آخَرَ أَيْ مُمَاثِلًا، لِأَنَّ السَّوَاءَ الْمِثْلُ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي السِّينِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى مَعْنَى الْقِرَاءَةِ السَّابِقَةِ لَكِنْ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ تُسَوَّى- بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ- مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، أَيْ تُمَاثَلُ. وَالْمُمَاثَلَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنَ التَّسْوِيَةِ تُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثَلَةً فِي
الذَّاتِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا مِثْلَ الْأَرْضِ لِظُهُورِ أَنْ لَا يُقْصَدَ أَنْ تَصِيرَ الْأَرْضُ نَاسًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠]. وَهَذَا تَفْسِيرُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ إِطْنَابٌ، قُصِدَ مِنْ إِطْنَابِهِ سُلُوكُ طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ عَنْ صَيْرُورَتِهِمْ تُرَابًا بِالْكِنَايَةِ الْمَطْلُوبِ بِهَا نِسْبَةٌ، كَقَوْلِهِمْ: الْمَجْدُ بَيْنَ ثَوْبَيْهِ، وَقَوْلِ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:
أَيْ أَنَّهُ سَمْحٌ ذُو مُرُوءَةٍ كَرِيمٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثَلَةً فِي الْمِقْدَارِ، فَقِيلَ: يَوَدُّونَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبْعَثُوا وَبَقُوا مُسْتَوِينَ مَعَ الْأَرْضِ فِي بَطْنِهَا، وَقِيلَ: يَوَدُّونَ أَنْ يُدْفَنُوا حِينَئِذٍ كَمَا كَانُوا قَبْلَ الْبَعْثِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْمَعْنَى التَّسْوِيَةُ فِي الْبُرُوزِ وَالظُّهُورِ، أَيْ أَنْ تَرْتَفِعَ الْأَرْضُ فَتُسَوَّى فِي الِارْتِفَاعِ بِأَجْسَادِهِمْ، فَلَا يَظْهَرُوا، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمْ وَذُلِّهِمْ، فَيَنْقَبِضُونَ وَيَتَضَاءَلُونَ حَتَّى يَوَدُّوا أَنْ يَصِيرُوا غَيْرَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا وَصَفَ أَحَدُ الْأَعْرَابِ يَهْجُو قوما من طيّء أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ:
وَهَذَا أَحْسَنُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَأَنْسَبُ بِالْكِنَايَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ لَهَا عَلَى جُمْلَةِ يَوَدُّ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالِيَّةً، أَيْ يَوَدُّونَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فِي حَالِ عَدَمِ كِتْمَانِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا اسْتِشْهَادَ الرُّسُلِ، وَرَأَوْا جَزَاءَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُمَمِِِ
الذَّاتِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا مِثْلَ الْأَرْضِ لِظُهُورِ أَنْ لَا يُقْصَدَ أَنْ تَصِيرَ الْأَرْضُ نَاسًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠]. وَهَذَا تَفْسِيرُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ إِطْنَابٌ، قُصِدَ مِنْ إِطْنَابِهِ سُلُوكُ طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ عَنْ صَيْرُورَتِهِمْ تُرَابًا بِالْكِنَايَةِ الْمَطْلُوبِ بِهَا نِسْبَةٌ، كَقَوْلِهِمْ: الْمَجْدُ بَيْنَ ثَوْبَيْهِ، وَقَوْلِ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى | فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ |
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْمَعْنَى التَّسْوِيَةُ فِي الْبُرُوزِ وَالظُّهُورِ، أَيْ أَنْ تَرْتَفِعَ الْأَرْضُ فَتُسَوَّى فِي الِارْتِفَاعِ بِأَجْسَادِهِمْ، فَلَا يَظْهَرُوا، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمْ وَذُلِّهِمْ، فَيَنْقَبِضُونَ وَيَتَضَاءَلُونَ حَتَّى يَوَدُّوا أَنْ يَصِيرُوا غَيْرَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا وَصَفَ أَحَدُ الْأَعْرَابِ يَهْجُو قوما من طيّء أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ:
إِذَا مَا قِيلَ أَيُّهُمْ لِأَيٍّ | تَشَابَهَتِ الْمَنَاكِبُ وَالرُّؤُوسُ |
وَجُمْلَةُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ لَهَا عَلَى جُمْلَةِ يَوَدُّ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالِيَّةً، أَيْ يَوَدُّونَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فِي حَالِ عَدَمِ كِتْمَانِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا اسْتِشْهَادَ الرُّسُلِ، وَرَأَوْا جَزَاءَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُمَمِِِ
59
السَّالِفَةِ، وَرَأَوْا عَاقِبَةَ كَذِبِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ حَتَّى احْتِيجَ إِلَى إِشْهَادِ رُسُلِهِمْ، عَلِمُوا أَنَّ النَّوْبَةَ مُفْضِيَةٌ إِلَيْهِمْ، وَخَامَرَهُمْ أَنْ يَكْتُمُوا اللَّهَ أَمْرَهُمْ إِذَا سَأَلَهُمُ اللَّهُ، وَلَمْ تُسَاعِدْهُمْ نُفُوسُهُمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالصِّدْقِ، لِمَا رَأَوْا مِنْ عَوَاقِبِ ثُبُوتِ الْكُفْرِ، مِنْ شِدَّةِ هَلَعِهِمْ، فَوَقَعُوا بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ، فَتَمَنَّوْا أَنْ يَخْفَوْا وَلَا يَظْهَرُوا حَتَّى لَا يُسْأَلُوا فَلَا يَضْطَرُّوا إِلَى الِاعْتِرَافِ الْمُوبِقِ وَلَا إِلَى الْكِتْمَانِ الْمُهْلِكِ.
[٤٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.
هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حُكْمَيْنِ يَتَعَلَّقَانِ بِالصَّلَاةِ، دَعَا إِلَى نُزُولِهَا عَقِبَ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ أَنَّهُ آنَ الْأَوَانُ لِتَشْرِيعِ هَذَا الْحُكْمِ فِي الْخَمْرِ حِينَئِذٍ، وَإِلَى قَرْنِهِ بِحُكْمٍ مُقَرَّرٍ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ أَيْضًا. وَيَظْهَرُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَوَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ وَقْتِ نُزُولِهَا وَجَاءَتْ كَالْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ. تَضَمَّنَتْ حُكْمًا أَوَّلَ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي ذَاتِهِ أَيْضًا بِحَسَبِ الْغَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، ذَلِك أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ حَلَالًا لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَبَقِيَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَشْرَبُهَا. وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الْبَقَرَة: ٢١٩] فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ نَشْرَبُهَا لِمَنَافِعِهَا لَا لِإِثْمِهَا، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِثْمِ الْحَرَجُ وَالْمَضَرَّةُ وَالْمَفْسَدَةُ، وَتِلْكَ الْآيَةُ كَانَتْ إِيذَانًا لَهُمْ بِأَنَّ الْخَمْرَ يُوشِكُ أَنْ تَكُونَ حَرَامًا لِأَنَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِثْمِ مُتَّصِفٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ لِلتَّحْرِيمِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَبْقَى إِبَاحَتَهَا رَحْمَةً لَهُمْ فِي مُعْتَادِهِمْ، مَعَ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ إِلَى قَبُولِ تَحْرِيمِهَا، فَحَدَثَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا خَمْرًا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى
. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[٤٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.
هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حُكْمَيْنِ يَتَعَلَّقَانِ بِالصَّلَاةِ، دَعَا إِلَى نُزُولِهَا عَقِبَ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ أَنَّهُ آنَ الْأَوَانُ لِتَشْرِيعِ هَذَا الْحُكْمِ فِي الْخَمْرِ حِينَئِذٍ، وَإِلَى قَرْنِهِ بِحُكْمٍ مُقَرَّرٍ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ أَيْضًا. وَيَظْهَرُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَوَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ وَقْتِ نُزُولِهَا وَجَاءَتْ كَالْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ. تَضَمَّنَتْ حُكْمًا أَوَّلَ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي ذَاتِهِ أَيْضًا بِحَسَبِ الْغَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، ذَلِك أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ حَلَالًا لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَبَقِيَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَشْرَبُهَا. وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الْبَقَرَة: ٢١٩] فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ نَشْرَبُهَا لِمَنَافِعِهَا لَا لِإِثْمِهَا، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِثْمِ الْحَرَجُ وَالْمَضَرَّةُ وَالْمَفْسَدَةُ، وَتِلْكَ الْآيَةُ كَانَتْ إِيذَانًا لَهُمْ بِأَنَّ الْخَمْرَ يُوشِكُ أَنْ تَكُونَ حَرَامًا لِأَنَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِثْمِ مُتَّصِفٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ لِلتَّحْرِيمِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَبْقَى إِبَاحَتَهَا رَحْمَةً لَهُمْ فِي مُعْتَادِهِمْ، مَعَ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ إِلَى قَبُولِ تَحْرِيمِهَا، فَحَدَثَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا خَمْرًا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى
. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
60
وَالْقُرْبُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّلَبُّسُ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ (قَرُبَ) حَقِيقَةٌ فِي الدُّنُوِّ مِنَ الْمَكَانِ أَوِ الذَّاتِ يُقَالُ: قَرُبَ مِنْهُ- بِضَمِّ الرَّاءِ- وَقَرِبَهُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- وَهُمَا بِمَعْنًى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَكْسُورَ الرَّاءِ لِلْقُرْبِ الْمَجَازِيِّ خَاصَّةً، وَلَا يَصِحُّ.
وَإِنَّمَا اخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ لَا تُصَلُّوا وَنَحْوِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ حَالَةٌ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَصَاحِبُهَا جَدِيرٌ بِالِابْتِعَادِ عَنْ أَفْضَلِ عَمَلٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْ هُنَا كَانَتْ مُؤْذِنَةً بِتَغَيُّرِ شَأْنِ الْخَمْرِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْهَا، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَوْمَئِذٍ هُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا وَأَعْلَقُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَلَا يَرْمُقُونَ شَيْئًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ الصَّلَاةَ هُنَا بِالْمَسْجِدِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْحَالِ عَلَى الْمَحَلِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الْحَج: ٤٠]، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ قَالُوا: كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ وَمُخَالَفَتُهُ لِمَشْهُورِ الْآثَارِ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ غَايَةٌ لِلنَّهْيِ وَإِيمَاءٌ إِلَى عِلَّتِهِ، وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ (تَقُولُونَ) عَنْ تَفْعَلُونَ لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدَّ مِنَ السُّكْرِ قَدْ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَالِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، إِذِ الْعَمَلُ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الِاخْتِلَالُ بِاخْتِلَالِ الْعَقْلِ قَبْلَ اخْتِلَالِ الْقَوْلِ. وَفِي الْآيَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّ السُّكْرَ الْخَفِيفَ لَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ يَوْمَئِذٍ أَوْ أُرِيدَ مِنَ الْغَايَةِ أَنَّهَا حَالَةُ انْتِهَاءِ السُّكْرِ فَتَبْقَى بَعْدَهَا النَّشْوَةُ. وَسُكَارَى جَمْعُ سَكْرَانٍ، وَالسَّكْرَانُ مَنْ أَخَذَ عَقْلُهُ فِي الِانْغِلَاقِ، مُشْتَقٌّ مِنَ السَّكْرِ، وَهُوَ الْغَلْقُ، وَمِنْهُ سَكْرُ الْحَوْضِ وَسَكْرُ الْبَابِ وسُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الْحجر: ١٥].
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اجْتَنَبَ الْمُسْلِمُونَ شُرْبَ الْخَمْرِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، لِبُعْدِ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَبَيْنَ مَا تَلِيَانِهِمَا، ثُمَّ أُكْمِلَ مَعَ تَحْرِيمِ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ فِي حَالَةِ السُّكْرِ تَحْرِيمُ قُرْبَانِهَا بِدُونِ طَهَارَةٍ.
وَإِنَّمَا اخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ لَا تُصَلُّوا وَنَحْوِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ حَالَةٌ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَصَاحِبُهَا جَدِيرٌ بِالِابْتِعَادِ عَنْ أَفْضَلِ عَمَلٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْ هُنَا كَانَتْ مُؤْذِنَةً بِتَغَيُّرِ شَأْنِ الْخَمْرِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْهَا، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَوْمَئِذٍ هُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا وَأَعْلَقُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَلَا يَرْمُقُونَ شَيْئًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ الصَّلَاةَ هُنَا بِالْمَسْجِدِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْحَالِ عَلَى الْمَحَلِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الْحَج: ٤٠]، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ قَالُوا: كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ وَمُخَالَفَتُهُ لِمَشْهُورِ الْآثَارِ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ غَايَةٌ لِلنَّهْيِ وَإِيمَاءٌ إِلَى عِلَّتِهِ، وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ (تَقُولُونَ) عَنْ تَفْعَلُونَ لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدَّ مِنَ السُّكْرِ قَدْ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَالِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، إِذِ الْعَمَلُ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الِاخْتِلَالُ بِاخْتِلَالِ الْعَقْلِ قَبْلَ اخْتِلَالِ الْقَوْلِ. وَفِي الْآيَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّ السُّكْرَ الْخَفِيفَ لَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ يَوْمَئِذٍ أَوْ أُرِيدَ مِنَ الْغَايَةِ أَنَّهَا حَالَةُ انْتِهَاءِ السُّكْرِ فَتَبْقَى بَعْدَهَا النَّشْوَةُ. وَسُكَارَى جَمْعُ سَكْرَانٍ، وَالسَّكْرَانُ مَنْ أَخَذَ عَقْلُهُ فِي الِانْغِلَاقِ، مُشْتَقٌّ مِنَ السَّكْرِ، وَهُوَ الْغَلْقُ، وَمِنْهُ سَكْرُ الْحَوْضِ وَسَكْرُ الْبَابِ وسُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الْحجر: ١٥].
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اجْتَنَبَ الْمُسْلِمُونَ شُرْبَ الْخَمْرِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، لِبُعْدِ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَبَيْنَ مَا تَلِيَانِهِمَا، ثُمَّ أُكْمِلَ مَعَ تَحْرِيمِ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ فِي حَالَةِ السُّكْرِ تَحْرِيمُ قُرْبَانِهَا بِدُونِ طَهَارَةٍ.
61
وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَنْتُمْ سُكارى لأنّا فِي مَحَلِّ الْحَالِ، وَهَذَا النَّصْبُ بَعْدَ الْعَطْفِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ مُعْتَبَرَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ.
وَالْجُنُبُ فُعُلٌ، قِيلَ: مَصْدَرٌ، وَقِيلَ: وَصْفٌ مِثْلُ أُجُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْجارِ الْجُنُبِ [النِّسَاء: ٣٦]، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَاعِدُ لِلْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا قَارَفَ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَغْتَسِلَ.
وَوَصْفُ جُنُبٍ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ إِذْ أُخْبِرَ بِهِ عَنْ جَمْعٍ، مِنْ قَوْلِهِ:
وَأَنْتُمْ سُكارى. وَإِطْلَاقُ الْجَنَابَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ الِاغْتِسَالَ مِنَ الْجَنَابَةِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ، وَلَعَلَّهُ مِنْ بَقَايَا الْحَنِيفِيَّةِ، أَوْ مِمَّا أَخَذُوهُ عَنِ الْيَهُودِ، فَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فِي «الْإِصْحَاحِ» ١٥ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فِي «السِّيرَةِ» - أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، لَمَّا رَجَعَ مَهْزُومًا مِنْ بَدْرٍ، حَلَفَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ.
وَالْمَعْنَى لَا تُصَلُّوا فِي حَالِ الْجَنَابَةِ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَخْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً التَّمْهِيدُ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى شَرْعِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّ حُكْمَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ مُقَرَّرٌ مِنْ قَبْلُ، فَذِكْرُهُ هُنَا إِدْمَاجٌ. وَالتَّيَمُّمُ شُرِعَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَنَةَ خَمْسٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ هِيَ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَيَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّهَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا إِلَّا التَّيَمُّمُ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمْرٍو عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ هِيَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٦]، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ جَزَمَ
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَنْتُمْ سُكارى لأنّا فِي مَحَلِّ الْحَالِ، وَهَذَا النَّصْبُ بَعْدَ الْعَطْفِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ مُعْتَبَرَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ.
وَالْجُنُبُ فُعُلٌ، قِيلَ: مَصْدَرٌ، وَقِيلَ: وَصْفٌ مِثْلُ أُجُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْجارِ الْجُنُبِ [النِّسَاء: ٣٦]، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَاعِدُ لِلْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا قَارَفَ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَغْتَسِلَ.
وَوَصْفُ جُنُبٍ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ إِذْ أُخْبِرَ بِهِ عَنْ جَمْعٍ، مِنْ قَوْلِهِ:
وَأَنْتُمْ سُكارى. وَإِطْلَاقُ الْجَنَابَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ الِاغْتِسَالَ مِنَ الْجَنَابَةِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ، وَلَعَلَّهُ مِنْ بَقَايَا الْحَنِيفِيَّةِ، أَوْ مِمَّا أَخَذُوهُ عَنِ الْيَهُودِ، فَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فِي «الْإِصْحَاحِ» ١٥ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فِي «السِّيرَةِ» - أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، لَمَّا رَجَعَ مَهْزُومًا مِنْ بَدْرٍ، حَلَفَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ.
وَالْمَعْنَى لَا تُصَلُّوا فِي حَالِ الْجَنَابَةِ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَخْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً التَّمْهِيدُ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى شَرْعِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّ حُكْمَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ مُقَرَّرٌ مِنْ قَبْلُ، فَذِكْرُهُ هُنَا إِدْمَاجٌ. وَالتَّيَمُّمُ شُرِعَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَنَةَ خَمْسٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ هِيَ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَيَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّهَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا إِلَّا التَّيَمُّمُ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمْرٍو عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ هِيَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٦]، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ جَزَمَ
62
الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ هِيَ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ، قَالَ: لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ تُسَمَّى آيَةَ الْوُضُوءِ. وَكَذَلِكَ الْوَاحِدِيُّ أَوْرَدَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ «هَذِهِ مُعْضِلَةٌ مَا وَجَدْتُ لِدَائِهَا مِنْ دَوَاءٍ لَا نَعْلَمُ أَيَّ الْآيَتَيْنِ عَنَتْ عَائِشَةُ». وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ قِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقِيلَ بَعْدَهَا، وَالْخَطْبُ سَهْلٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وُقُوعِ (جُنُباً)، وَهُوَ حَالٌ نَكِرَةٌ، فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَعَابِرُ السَّبِيلِ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمُسَافِرُ حِينَ سَيْرِهِ فِي سَفَرِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَبْرِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَالِاجْتِيَازُ، يُقَالُ: عَبَرَ النَّهْرَ وَعَبَرَ الطَّرِيقَ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَسَّرَ عابِرِي سَبِيلٍ بِمَارِّينَ فِي طَرِيقٍ، وَقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ طَرِيقُ الْمَسْجِدِ، بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ بِالْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا الْآيَةَ رُخْصَةً فِي مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ الْمُرُورَ لَا الْمُكْثَ، قَالَهُ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الصَّلَاةَ بِالْمَسْجِدِ. وَنُسِبَ أَيْضًا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَقَتَادَةَ، قَالُوا: كَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ كَانَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَبْوَابُ دُورٍ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدَ سَدِّ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ الْمُرُورُ كَذَلِكَ رُخْصَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي بَكْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ وَلِعَلِّيٍ، وَقِيلَ: أبقيت خوخة بنت عَلِيٍّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَصِحَّ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ- عِنْدَ مَنْ فَسَّرَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَفَسَّرَ عابِرِي سَبِيلٍ بِالْمَارِّينَ فِي الْمَسْجِدِ- ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الْجُنُبِ بِاسْتِثْنَاءِ عَابِرِي السَّبِيلِ. وَعَابِرُ السَّبِيلِ الْمَأْخُوذُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقٌ، وَهُوَ عِنْدَ
أَصْحَابِ هَذَا الْمَحْمَلِ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ لَا تَقْيِيدَ فِيهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي مَعْنَى تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَفِي مَعْنَى عَابِرِي السَّبِيلِ فَلَا تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ أَوْ عَلى سَفَرٍ وَلِأَنَّ فِي عُمُومِ الْحَصْرِ تَخْصِيصًا، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ إِنَّمَا قُدِّمَ هُنَا لِأَنَّهُ غَالِبُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ الِاغْتِسَالِ مِنْ جِهَةِ حَاجَةِ الْمُسَافِرِ اسْتِبْقَاءَ الْمَاءِ. وَلِنَدُورِ عُرُوضِ الْمَرَضِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَحْمَلِ الْجُمْهُورِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عِنْدَ
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وُقُوعِ (جُنُباً)، وَهُوَ حَالٌ نَكِرَةٌ، فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَعَابِرُ السَّبِيلِ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمُسَافِرُ حِينَ سَيْرِهِ فِي سَفَرِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَبْرِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَالِاجْتِيَازُ، يُقَالُ: عَبَرَ النَّهْرَ وَعَبَرَ الطَّرِيقَ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَسَّرَ عابِرِي سَبِيلٍ بِمَارِّينَ فِي طَرِيقٍ، وَقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ طَرِيقُ الْمَسْجِدِ، بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ بِالْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا الْآيَةَ رُخْصَةً فِي مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ الْمُرُورَ لَا الْمُكْثَ، قَالَهُ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الصَّلَاةَ بِالْمَسْجِدِ. وَنُسِبَ أَيْضًا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَقَتَادَةَ، قَالُوا: كَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ كَانَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَبْوَابُ دُورٍ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدَ سَدِّ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ الْمُرُورُ كَذَلِكَ رُخْصَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي بَكْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ وَلِعَلِّيٍ، وَقِيلَ: أبقيت خوخة بنت عَلِيٍّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَصِحَّ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ- عِنْدَ مَنْ فَسَّرَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَفَسَّرَ عابِرِي سَبِيلٍ بِالْمَارِّينَ فِي الْمَسْجِدِ- ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الْجُنُبِ بِاسْتِثْنَاءِ عَابِرِي السَّبِيلِ. وَعَابِرُ السَّبِيلِ الْمَأْخُوذُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقٌ، وَهُوَ عِنْدَ
أَصْحَابِ هَذَا الْمَحْمَلِ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ لَا تَقْيِيدَ فِيهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي مَعْنَى تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَفِي مَعْنَى عَابِرِي السَّبِيلِ فَلَا تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ أَوْ عَلى سَفَرٍ وَلِأَنَّ فِي عُمُومِ الْحَصْرِ تَخْصِيصًا، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ إِنَّمَا قُدِّمَ هُنَا لِأَنَّهُ غَالِبُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ الِاغْتِسَالِ مِنْ جِهَةِ حَاجَةِ الْمُسَافِرِ اسْتِبْقَاءَ الْمَاءِ. وَلِنَدُورِ عُرُوضِ الْمَرَضِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَحْمَلِ الْجُمْهُورِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عِنْدَ
63
مَنْ يَرَى الْمُتَيَمِّمَ جُنُبًا، وَيَرَى التَّيَمُّمَ غَيْرَ رَافِعٍ لِلْحَدَثِ، وَلَكِنَّهُ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ فِي الْوَقْتِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَهُوَ عِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَدَلِيلُهُ ظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْمُتَيَمِّمَ غَيْرَ جُنُبٍ، وَيَرَى التَّيَمُّمَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ حَتَّى يَنْتَقِضَ بِنَاقِضٍ وَيَزُولَ سَبَبُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلِذَلِكَ إِذَا تَيَمَّمَ الْجُنُبُ وَصَلَّى وَصَارَ مِنْهُ حَدَثٌ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ يَتَوَضَّأُ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ بَدَلٌ عَنِ الْغُسْلِ مُطْلَقًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى وَلَيْسَ فِي السُّنَّةِ مَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: فَالْمَشْهُورُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ التَّيَمُّمَ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ، فَلِذَلِكَ لَا يُصَلِّي الْمُتَيَمِّمُ بِهِ إِلَّا فَرْضًا وَاحِدًا، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِجَنَابَةٍ لِعُذْرٍ يَمْنَعُ مِنَ الْغُسْلِ وَانْتَقَضَ وَضُوءُهُ تَيَمَّمَ عَنِ الْوُضُوءِ. وَعَنْ مَالِكٍ، فِي رِوَايَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ، حَتَّى يَنْتَقِضَ تَيَمُّمُهُ بِنَاقِضِ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ ذَكَرَ فَوَائِتَ يُصَلِّيهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ لِغَيْرِهِمَا إِلَّا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ فَكَانَتْ نِيَّةُ التَّيَمُّمِ غَيْرَ جَازِمَةٍ فِي بَقَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ بِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِلْجَنَابَةِ بِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنَ الْغُسْلِ إِذَا انْتَقَضَ وَضَوْءُهُ يَتَوَضَّأُ.
وَفِي مَفْهُومِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفَاهِيمِ مِنَ الْجُمْهُورِ، عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ تَفْصِيلٌ. فَعَابِرُ السَّبِيلِ مُطْلَقٌ قَيَّدَهُ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَبَقِيَ عُمُومُ قَوْلِهِ وَلا جُنُباً فِي غَيْرِ عَابِرِ السَّبِيلِ، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يَبْقَى عَامًّا فِيمَا عَدَا مَا خُصِّصَ، فَخَصَّصَهُ الشَّرْطُ تَخْصِيصًا ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى. ثُمَّ إِنْ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقَعُ بِدُونِ طَهَارَة يبْق قَوْلُهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مُجْمَلًا لِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي قُرْبَانِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لِلْمُسَافِرِ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ بَيَانٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ فَلَا إِجْمَالَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ اسْتِئْنَافًا لِأَحْكَامِ التَّيَمُّمِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ قَصْرُهُ
بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ جَارٍ عَلَى اسْتِعْمَالٍ قَلِيلٍ، كَقَوْلِ مُوسَى بْنِ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ- أُمَوِيٌّ-:
وَفِي مَفْهُومِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفَاهِيمِ مِنَ الْجُمْهُورِ، عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ تَفْصِيلٌ. فَعَابِرُ السَّبِيلِ مُطْلَقٌ قَيَّدَهُ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَبَقِيَ عُمُومُ قَوْلِهِ وَلا جُنُباً فِي غَيْرِ عَابِرِ السَّبِيلِ، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يَبْقَى عَامًّا فِيمَا عَدَا مَا خُصِّصَ، فَخَصَّصَهُ الشَّرْطُ تَخْصِيصًا ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى. ثُمَّ إِنْ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقَعُ بِدُونِ طَهَارَة يبْق قَوْلُهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مُجْمَلًا لِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي قُرْبَانِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لِلْمُسَافِرِ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ بَيَانٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ فَلَا إِجْمَالَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ اسْتِئْنَافًا لِأَحْكَامِ التَّيَمُّمِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ قَصْرُهُ
بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ جَارٍ عَلَى اسْتِعْمَالٍ قَلِيلٍ، كَقَوْلِ مُوسَى بْنِ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ- أُمَوِيٌّ-:
64
لَا أَشْتَهِي يَا قَوْمِ إِلَّا كَارِهًا | بَابَ الْأَمِيرِ وَلَا دِفَاعَ الْحَاجِبِ |
وَدَلَّ إِسْنَادُ الِاغْتِسَالِ إِلَى الذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ هُوَ إِحَاطَةُ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدَّلْكِ أَيْ إِمْرَارِ الْيَدِ عَلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ: فَشَرَطَهُ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَعْنَى الْغُسْلِ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ»، وَلِأَنَّ الْوضُوء لَا يجزىء بِدُونِ ذَلِك بِاتِّفَاقٍ، فَكَذَلِكَ الْغُسْلُ.
وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: يجزىء فِي الْغُسْلِ إِحَاطَةُ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ بِالصَّبِّ أَوِ الِانْغِمَاسِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي غُسْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُمَا لَمْ تَذْكُرَا أَنَّهُ لَمْ يَتَدَلَّكْ،
65
وَلَكِنَّهُمَا سَكَتَتَا عَنْهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُمَا لِعِلْمِهِمَا بِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ، وَهَذَا أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ رَوَاهَا عَنْهُ أَبُو الْفَرَجِ، وَمَرْوَانُ
بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيُّ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إِلَخْ ذِكْرُ حَالَةِ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الِاغْتِسَالِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ نَازِلَةٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ حُكْمِ التَّيَمُّمِ بِحَذَافِرِهِ. وَفِي جَمْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي نَسَقٍ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَحَصَلَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ عَلى سَفَرٍ بَيَانٌ لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ إِنْ كَانَ فِيهِ إِجْمَالٌ، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ جَدِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ التَّيَمُّمِ الْوَاقِعِ بَدَلا من الْغُسْلِ، بِذِكْرِ التَّيَمُّمِ الْوَاقِعِ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ إِيعَابًا لِنَوْعَيِ التَّيَمُّمِ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِهِ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَذْكُورِ. فَالْمَرِيضُ أُرِيدَ بِهِ الَّذِي اخْتَلَّ نِظَامُ صِحَّتِهِ بِحَيْثُ صَارَ الِاغْتِسَالُ يَضُرُّهُ أَوْ يزِيد علّته. أَوْ جاءَ... مِنَ الْغائِطِ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ الْبَشَرِيَّةِ، شَاعَ فِي كَلَامِهِمُ التَّكَنِّي بِذَلِكَ لِبَشَاعَةِ الصَّرِيحِ.
وَالْغَائِطُ: الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَا غَابَ عَنِ الْبَصَرِ، يُقَالُ: غَاطَ فِي الْأَرْضِ- إِذَا غَابَ- يَغُوطُ، فَهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَذْهَبُونَ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ مِنْ جِهَةِ الْحَيِّ بَعِيدٍ عَنْ بُيُوتِ سُكْنَاهُمْ، فَيُكِنُّونَ عَنْهُ: يَقُولُونَ ذَهَبَ إِلَى الْغَائِطِ أَوْ تَغَوَّطَ، فَكَانَتْ كِنَايَةً لَطِيفَةً ثُمَّ اسْتَعْمَلَهَا النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرًا حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَسَمَجَتْ، فَصَارَ الْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى نَفْسِ الْحَدَثِ وَيُعَلِّقُونَهُ بِأَفْعَالٍ تُنَاسِبُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرىء (لامَسْتُمُ) - بِصِيغَة المفاعلة-، وقرىء (لَمَسْتُمْ) - بِصِيغَةِ الْفِعْلِ- كَمَا سَيَأْتِي، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَمَنْ حَاوَلَ التَّفْصِيلَ لَمْ يَأْتِ بِمَا فِيهِ تَحْصِيلٌ. وَأَصْلُ اللَّمْسِ الْمُبَاشَرَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَقَدْ أُطْلِقَ مَجَازًا وَكِنَايَةً عَلَى الِافْتِقَادِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الْجِنّ: ٨] وَعَلَى النُّزُولِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
لِيَلْتَمِسَنْ بِالْجَيْشِ دَارَ الْمُحَارِبِ
بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيُّ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إِلَخْ ذِكْرُ حَالَةِ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الِاغْتِسَالِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ نَازِلَةٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ حُكْمِ التَّيَمُّمِ بِحَذَافِرِهِ. وَفِي جَمْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي نَسَقٍ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَحَصَلَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ عَلى سَفَرٍ بَيَانٌ لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ إِنْ كَانَ فِيهِ إِجْمَالٌ، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ جَدِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ التَّيَمُّمِ الْوَاقِعِ بَدَلا من الْغُسْلِ، بِذِكْرِ التَّيَمُّمِ الْوَاقِعِ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ إِيعَابًا لِنَوْعَيِ التَّيَمُّمِ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِهِ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَذْكُورِ. فَالْمَرِيضُ أُرِيدَ بِهِ الَّذِي اخْتَلَّ نِظَامُ صِحَّتِهِ بِحَيْثُ صَارَ الِاغْتِسَالُ يَضُرُّهُ أَوْ يزِيد علّته. أَوْ جاءَ... مِنَ الْغائِطِ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ الْبَشَرِيَّةِ، شَاعَ فِي كَلَامِهِمُ التَّكَنِّي بِذَلِكَ لِبَشَاعَةِ الصَّرِيحِ.
وَالْغَائِطُ: الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَا غَابَ عَنِ الْبَصَرِ، يُقَالُ: غَاطَ فِي الْأَرْضِ- إِذَا غَابَ- يَغُوطُ، فَهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَذْهَبُونَ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ مِنْ جِهَةِ الْحَيِّ بَعِيدٍ عَنْ بُيُوتِ سُكْنَاهُمْ، فَيُكِنُّونَ عَنْهُ: يَقُولُونَ ذَهَبَ إِلَى الْغَائِطِ أَوْ تَغَوَّطَ، فَكَانَتْ كِنَايَةً لَطِيفَةً ثُمَّ اسْتَعْمَلَهَا النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرًا حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَسَمَجَتْ، فَصَارَ الْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى نَفْسِ الْحَدَثِ وَيُعَلِّقُونَهُ بِأَفْعَالٍ تُنَاسِبُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرىء (لامَسْتُمُ) - بِصِيغَة المفاعلة-، وقرىء (لَمَسْتُمْ) - بِصِيغَةِ الْفِعْلِ- كَمَا سَيَأْتِي، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَمَنْ حَاوَلَ التَّفْصِيلَ لَمْ يَأْتِ بِمَا فِيهِ تَحْصِيلٌ. وَأَصْلُ اللَّمْسِ الْمُبَاشَرَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَقَدْ أُطْلِقَ مَجَازًا وَكِنَايَةً عَلَى الِافْتِقَادِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الْجِنّ: ٨] وَعَلَى النُّزُولِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
لِيَلْتَمِسَنْ بِالْجَيْشِ دَارَ الْمُحَارِبِ
66
وَعَلَى قُرْبَانِ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ مُرَادِفُ الْمَسِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: «فُلَانَةٌ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ»، وَنَظِيرُهُ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن