تفسير سورة النساء

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة النساء من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة في كلام السلف سورة النساء ؛ ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده. وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة وكتب التفسير، ولا يعرف لها اسم آخر، لكن يؤخذ مما روي في صحيحي البخاري عن ابن مسعود من قوله :<< لنزلت سورة النساء القصرى>> يعني سورة الطلاق أنها شاركت هذه السورة في التسمية الطولى، ولم أقف عيه صريحا. ووقع في كتاب بصائر ذوي خبرة التمييز للفيروز أبادي أن هذه السورة تسمى سورة النساء الكبرى، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى. ولم أره لغيره١.
ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم، ثم بأحكام تخص النساء، وأن بها أحكاما كثيرة من أحكام النساء : الأزواج، والبنات، وختمت بأحكام تخص النساء.
وكان ابتداء نزولها بالمدينة، لما صح عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده. وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة في المدينة في شوال، لثمان أشهر خلت من الهجرة، واتفق العلماء على أن سورة النساء نزلت بعد البقرة، فتعين أن يكون نزولها متأخرا عن الهجرة بمدة طويلة. والجمهور قالوا : نزلت بعد آل عمران، ومعلوم أن آل عمران نزلت في خلال ثلاث أي بعد أحد، فيتعين أن تكون سورة النساء نزلت بعدها. وعن ابن عباس : أن أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة، ثم الأنفال ثم آل عمران، ثم سورة الاحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، فإذا كان كذلك تكون سورة النساء نازلة بعد الأحزاب التي هي في أواخر سنة أربع أو أول سنة خمس من الهجرة، وبعد صلح الحديبية الذي هو في سنة ست حيث تضمنت سورة الممتحنة شرط إرجاع من يأتي المشركين هاربا إلى المسلمين عدا النساء، وهي آية ﴿ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ﴾ الآية. وقد قيل : إن آية ﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ﴾ نزلت في رجل من غطفان له ابن أخ له يتيم، وغطفان أسلموا بعد وقعة الأحزاب، إذ هم من جملة الاحزاب، أي بعد سنة خمس. ومن العلماء من قال : نزلت سورة النساء عند الهجرة. وهو بعيد. وأغرب منه من قال : إنها نزلت بمكة لأنها افتتحت بـ﴿ يا أيها الناس ﴾، وما كان ﴿ يا أيها الناس ﴾ فهو مكي، ولعله يعني أنها نزلت بمكة أيام الفتح لا قبل الهجرة لأنهم يطلقون المكي بإطلاقين. وقال بعضهم : نزل صدرها بمكة وسائرها بالمدينة. والحق أن الخطاب ب﴿ يا أيها الناس ﴾ لا يدل إلا على إرادة دخول أهل مكة في الخطاب، ولا يلزم أن يكون ذلك بمكة، ولا قبل الهجرة، فإن كثيرا مما فيه ﴿ يا أيها الناس ﴾ مدني بالاتفاق. ولا شك في أنها نزلت بعد آل عمران لأن في سورة النساء من تفاصيل الأحكام ما شأنه أن يكون بعد استقرار المسلمين بالمدينة، وانتظام أحواله وأمنهم من أعدائهم. وفيها آية التيمم، والتيمم شرع يوم غزوة المريسيع سنة خمس، وقيل : سنة ست. فالذي يظهر أن نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدة نزولها، ويؤيد ذلك أن كثيرا من الأحكام التي جاءت فيها مفصلة تقدمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الموال والمعاشرة والحكم وغير ذلك، على أنه قد قيل : إن آخر آية منها، آية الكلالة، هي آخر آية نزلت من القرآن، على أنه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة، التي في آخرها مدة طويلة، وأنه لما نزلت آية الكلالة الأخيرة أمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى. ووردت في السنة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف. ويتعين ابتداء نزولها قبل فتح مكة لقوله تعالى ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ﴾ يعني مكة. وفيها آية ﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ نزلت يوم فتح مكة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي، صاحب مفتاح الكعبة، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم، نحو قوله ﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾ الخ، وسوى التهديد بالقتال، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة. وتوهين بأسهم عن المسلمين، مما يدل على أن أمر المشركين قد صار إلى وهن، وصار المسلمون في قوة عليهم، وأن معظمها، بعد التشريع، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين، وجدال مع النصارى ليس بكثير، ولكنه أوسع مما في سورة آل عمران، مما يدل على أن مخاطبة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة.
وقد عدت الثالثة والتسعين من السور، نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة ﴿ إذا زلزلت الأرض ﴾.
وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكة والبصرة، ومائة وست وسبعون في عدد أهل الكوفة، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام.
وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله، وأهم محقوقون بأن يشكروا ربهم على ذلك، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن، والإشارة إلى النكاح والصداق، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين، ومعاشرتهن والمصالحة معهن، وبيان ما يحل للتزوج منهن، والمحرمات بالقرابة أو الصهر، وأحكام الجواري بملك اليمين. وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة، وتقسيم ذلك، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم.
ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة، والتحذير من اتباع الهوى، والأمر بالبر، والمواساة، وأداء الأمانات، والتمهيد لتحريم شرب الخمر.
وطائفة من أحكام الصلاة، والطهارة، وصلاة الخوف. ثم أحوال اليهود، لكثرتهم بالمدينة، وأحوال المنافقين وفضائحهم، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين. وأحكام معاملة المشركين ومساويهم، ووجوب هجرة المؤمنين من مكة، وإبطال مآثر الجاهلية.
وقد تخلل ذلك مواعظ وترغيب، ونهي عن الحسد، وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع، أو بحكم الفطرة. والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح. وبث المحبة بين المسلمين.
١  - صفحة ١٦٩ جزء ١ مطابع شركة الإعلانات الشرقية بالقاهرة سنة ١٣٨٥..

وَطَائِفَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَالطَّهَارَةِ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ. ثُمَّ أَحْوَالُ الْيَهُودِ، لِكَثْرَتِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، وَأَحْوَالُ الْمُنَافِقِينَ وَفَضَائِحُهُمْ، وَأَحْكَامُ الْجِهَادِ لِدَفْعِ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَحْكَامُ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ وَمَسَاوِيهِمْ، وَوُجُوبُ هِجْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ، وَإِبْطَالُ مَآثِرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ مَوَاعِظُ، وَتَرْغِيبٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْحَسَدِ، وَعَنْ تَمَنِّي مَا لِلْغَيْرِ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي حُرِمَ مِنْهَا مَنْ حُرِمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، أَوْ بِحُكْمِ الْفِطْرَةِ. وَالتَّرْغِيبُ فِي التَّوَسُّطِ فِي الْخَيْرِ وَالْإِصْلَاحِ. وَبَثُّ الْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
[١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
جَاءَ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ: لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ يَوْمَئِذٍ وَفِيمَا يَأْتِي مِنَ الزَّمَانِ. فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، أَيْ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِالْمُؤْمِنِينَ،- إِذْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَئِذٍ هُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ- وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ جَمِيعِ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَاءَ بِلُغَتِهِمْ، وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَمِ، وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ لِلرُّومِ وَفَارِسَ وَمِصْرَ بِالْعَرَبِيَّةِ لِتُتَرْجَمَ لَهُمْ بِلُغَاتِهِمْ.
فَلَمَّا كَانَ مَا بَعْدُ هَذَا النِّدَاءِ جَامِعًا لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، نُودِيَ جَمِيعُ النَّاسِ، فَدَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى التَّذَكُّرِ بِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَاحِدٌ، إِذْ قَالَ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ دَعْوَةً تَظْهَرُ فِيهَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ وَحْدَةِ النَّوْعِ وَوَحْدَةِ الِاعْتِقَادِ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْوَى فِي اتَّقُوا رَبَّكُمُ اتِّقَاءُ غَضَبِهِ، وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِهِ، وَذَلِكَ حَقُّ تَوْحِيدِهِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشُّرَكَاءِ فِي الْوُجُودِ وَالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ.
وَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ مُنَاسِبَةٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْأَصْلِيَّةِ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ.
وَعَبَّرَ بِ (رَبَّكُمْ)، دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ، لِأَنَّ فِي مَعْنَى الرَّبِّ مَا يَبْعَثُ الْعِبَادَ عَلَى
214
الْحِرْصِ فِي الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، إِذِ الرَّبُّ هُوَ الْمَالِكُ الَّذِي يَرُبُّ مَمْلُوكَهُ أَي، يدبّر شؤونه، وَلِيَتَأَتَّى بِذِكْرِ لَفْظِ (الرَّبِّ) طَرِيقُ الْإِضَافَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِتَقْوَاهُ حَقَّ التَّقْوَى، وَالدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْمُخَاطَبِينَ صِلَةً تُعَدُّ إِضَاعَتُهَا حَمَاقَةً وَضَلَالًا. وَأَمَّا التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ:
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ فَالْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنْهَا: تقوى الْمُؤمنِينَ بِالْحَذَرِ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْيَتَامَى مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. ثُمَّ جَاءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَّقَى.
وَوَصْلُ خَلَقَكُمْ بِصِلَةِ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَجِيبِ هَذَا الْخَلْقِ وَحَقِّهِ بِالِاعْتِبَارِ. وَفِي الْآيَةِ تَلْوِيحٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَحَقِّيَّةِ اتِّبَاعِهِمْ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَبْنَاءُ أَبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الدِّينُ يَدْعُو النَّاسَ كُلَّهُمْ إِلَى مُتَابَعَتِهِ وَلَمْ يَخُصَّ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ أَوْ نَسَبًا مِنَ الْأَنْسَابِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ دِينُ جَمِيعِ الْبَشَرِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ فَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِاخْتِصَاصِهَا بِأُمَمٍ مُعَيَّنَةٍ. وَفِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ يَتَّبِعُوهُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُبَيَّنُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ.
وَالنَّفْسُ الْوَاحِدَةُ: هِيَ آدَمُ. وَالزَّوْجُ: حَوَّاءُ، فَإِنَّ حَوَّاءَ أُخْرِجَتْ مِنْ آدَمَ. مِنْ ضِلْعِهِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِنْها.
وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ. وَمَعْنَى التَّبْعِيضِ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ جُزْءٍ مِنْ آدَمَ. قِيلَ: مِنْ بَقِيَّةِ الطِّينَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا آدَمُ. وَقِيلَ: فُصِلَتْ قِطْعَةٌ مِنْ ضِلْعِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى وَخَلَقَ زَوْجَهَا مِنْ نَوْعِهَا لَمْ يَأْتِ بِطَائِلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ أُنْثَى كُلِّ نَوْعٍ هِيَ مِنْ نَوْعِهِ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها عَلَى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، فَهُوَ صِلَةٌ ثَانِيَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُما صِلَةٌ ثَالِثَةٌ لِأَنَّ الَّذِي يَخْلُقُ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ جَدِيرٌ بِأَنْ
215
يُتَّقَى، وَلِأَنَّ فِي مَعَانِي هَذِهِ الصِّلَاتِ زِيَادَةَ تَحْقِيقِ اتِّصَالِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، إِذِ الْكُلُّ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ خَلْقُهُمْ مَا حَصَلَ إِلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ فَكُلُّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِمْ يَنْتَمِي إِلَى أَصْلٍ فَوْقَهُ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَاتِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ خَلْقِ اللَّهِ النَّاسَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ تَوْفِيَةً بِمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِلْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ، وَمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِتَفْصِيلِ حَالَةِ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ. وَلَوْ غُيِّرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فَجِيءَ بِالصُّورَةِ الْمُفَصَّلَةِ دُونَ سَبْقِ إِجْمَالٍ، فَقِيلَ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَثَّ مِنْهَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً لَفَاتَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ
، فَلِذَلِكَ يَكُونُ حَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْها لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ أَخْرَجَ خَلْقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ. وَالزَّوْجُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ الْأُنْثَى الْأُولَى الَّتِي تَنَاسَلَ مِنْهَا الْبَشَرُ، وَهِيَ حَوَّاءُ. وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُنْفَرِدًا فَإِذَا اتَّخَذَ امْرَأَةً فَقَدْ صَارَا زَوْجًا
فِي بَيْتٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ لَفْظِ الزَّوْجِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَجْمُوعِ الْفَرْدَيْنِ، فَإِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَسَامُحٌ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجَامِدِ، فَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ (زَوْجَةٌ)، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ عَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَحْنًا. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ قيل لَهُ: فقد قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
أَذُو زَوْجَةٍ بِالْمِصْرِ أَمْ ذُو خُصُومَةٍ أَرَاكَ لَهَا بِالْبَصْرَةِ الْعَامَ ثَاوِيَا
فَقَالَ: إِنَّ ذَا الرُّمَّةِ طَالَمَا أَكَلَ الْمَالِحَ وَالْبَقْلَ فِي حَوَانِيتِ الْبَقَّالِينَ، يُرِيدُ أَنَّهُ مُوَلَّدٌ.
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي كَسَاعٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا
وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، قَصَدُوا بِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَحْكَامِ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
216
وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) الْعِبْرَةَ بِهَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ الَّذِي أَصْلُهُ وَاحِدٌ، وَيَخْرُجُ هُوَ مُخْتَلِفَ الشَّكْلِ وَالْخَصَائِصِ، وَالْمِنَّةُ عَلَى الذُّكْرَانِ بِخَلْقِ النِّسَاءِ لَهُمْ، وَالْمِنَّةُ عَلَى النِّسَاءِ بِخَلْقِ الرِّجَالِ لَهُنَّ، ثُمَّ مَنَّ عَلَى النَّوْعِ بِنِعْمَةِ النَّسْلِ فِي قَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ.
وَالْبَثُّ: النَّشْرُ وَالتَّفْرِيقُ لِلْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤].
وَوَصَفَ الرِّجَالَ، وَهُوَ جَمْعٌ، بِكَثِيرٍ، وَهُوَ مُفْرد، لأنّ كثير يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٦]. وَاسْتَغْنَى عَنْ وَصْفِ النِّسَاءِ بِكَثِيرٍ لدلَالَة وصف الرجل بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْبَثِّ مِنَ الْكَثْرَةِ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.
شُرُوعٌ فِي التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ، وَأُعِيدَ فِعْلُ اتَّقُوا: لِأَنَّ هَذِهِ التَّقْوَى مَأْمُورٌ بِهَا الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُمْ قَدْ بَقِيَتْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا،
وَهِيَ التَّسَاهُلُ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْأَيْتَامِ.
وَاسْتَحْضَرَ اسْمَ اللَّهِ الْعَلَمَ هُنَا دُونَ ضَمِيرٍ يَعُودُ إِلَى رَبِّكُمْ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِ السَّامِعِينَ. لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَشْرِيعٍ يُنَاسِبُهُ إِيثَارُ الْمَهَابَةِ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ فَهُوَ مَقَامُ ترغيب. وَمعنى تَسائَلُونَ بِهِ يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهِ فِي الْقَسَمِ فَالْمُسَايَلَةُ بِهِ تُؤْذِنُ بِمُنْتَهَى الْعَظَمَةِ، فَكَيْفَ لَا تَتَّقُونَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور تسائلون- بِتَشْدِيدِ السِّينِ- لِإِدْغَامِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي السِّينِ، لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ وَاتِّحَادِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْهَمْسُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: تَسَاءَلُونَ- بِتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى أَنَّ تَاءَ الِافْتِعَالِ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا.
وَالْأَرْحامَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِالْجَرِّ- عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ الْأَرْحَامَ مَأْمُورًا بِتَقْوَاهَا عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ أَيِ اتِّقَائِهَا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ اتِّقَاءِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ
217
فِي مَعْنَيَيْهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْآيَةُ ابْتِدَاءُ تَشْرِيعٍ وَهُوَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْأَرْحَامِ أَيِ الَّتِي يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: «نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ» كَمَا رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» :
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَرَأَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ سُورَةَ فُصِّلَتْ حَتَّى بَلَغَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] فَأَخَذَتْ عُتْبَةَ رَهْبَةٌ وَقَالَ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَحْمَلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ أَبَاهُ جُمْهُورُ النُّحَاةِ اسْتِعْظَامًا لِعَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، حَتَّى قَالَ الْمُبَرِّدُ: «لَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ بِهَاتِهِ الْقِرَاءَةِ لَأَخَذْتُ نَعْلِي وَخَرَجْتُ مِنَ الصَّلَاةِ» وَهَذَا مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ وَغُرُورٍ بِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا يَعْلَمُهُ، وَلَقَدْ أَصَابَ ابْنُ مَالِكٌ فِي تَجْوِيزِهِ الْعَطْفَ عَلَى الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، فَتَكُونُ تَعْرِيضًا بِعَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِذْ يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ بِالرَّحِمِ وَأَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ ثُمَّ يُهْمِلُونَ حُقُوقَهَا وَلَا يَصِلُونَهَا، وَيَعْتَدُونَ عَلَى الْأَيْتَامِ مِنْ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ، فَنَاقَضَتْ أَفْعَالُهُمْ أَقْوَالَهُمْ، وَأَيْضًا هم قد آذَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَلَمُوهُ، وَهُوَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِصِلَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: ١٢٨] وَقَالَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: ١٦٤]. وَقَالَ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]. وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ تَتِمَّةً لِمَعْنَى الَّتِي قبلهَا.
[٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
مُنَاسَبَةُ عَطْفِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ، لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ هُمْ أَهْلُ قَرَابَتِهِمْ، أَوْ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ فَيَجْعَلُونَ لِلْأَرْحَامِ مِنَ الْحَظِّ مَا جَعَلَهُمْ يُقْسِمُونَ بِهَا كَمَا يُقْسِمُونَ بِاللَّهِ. وَشَيْءٌ هَذَا شَأْنُهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تُرَاعَى أَوَاصِرُهُ وَوَشَائِجُهُ وَهُمْ لَمْ يَرْقُبُوا ذَلِكَ.
وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً... [النِّسَاء: ١].
218
وَالْإِيتَاءُ حَقِيقَتُهُ الدَّفْعُ وَالْإِعْطَاءُ الْحِسِّيُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَجَعْلِهِ حَقًّا لَهُ، مِثْلُ إِطْلَاقِ الْإِعْطَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرَ: ١] وَفِي الْحَدِيثِ: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا».
وَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ وَجَمْعُ يَتِيمَةٍ، فَإِذَا جُمِعَتْ بِهِ يَتِيمَةٌ فَهُوَ فَعَائِلُ أَصْلُهُ يَتَائِمُ، فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مكانيّ فَقَالُوا يتامىء ثُمَّ خَفَّفُوا الْهَمْزَةَ فَصَارَتْ أَلِفًا وَحُرِّكَتِ الْمِيمُ بِالْفَتْحِ، وَإِذَا جُمِعَ بِهِ يَتِيمٌ فَهُوَ إِمَّا جَمْعُ الْجَمْعِ بِأَنْ جُمِعَ أَوَّلًا عَلَى يَتْمَى، كَمَا قَالُوا: أَسِيرٌ وَأَسْرَى، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى يَتَامَى مِثْلُ أَسَارَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَوْ جَمْعُ فَعِيلٍ عَلَى فَعَائِلَ لِكَوْنِهِ صَارَ اسْمًا مِثْلَ أَفِيلٍ وَأَفَائِلَ، ثُمَّ صُنِعَ بِهِ مِنَ الْقَلْبِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ نَطَقَتِ الْعَرَبُ بِجَمْعِ يَتِيمَةٍ عَلَى يَتَائِمَ، وَبِجَمْعِ فَعِيلٍ عَلَى فَعَائِلَ فِي قَوْلِ بِشْرٍ النَّجْدِيِّ:
أَأَطْلَالَ حُسْنٍ فِي الْبِرَاقِ الْيَتَائِمِ سَلَامٌ عَلَى أَطْلَالِكُنَّ الْقَدَائِمِ
وَاشْتِقَاقُ الْيَتِيمِ مِنَ الِانْفِرَادِ، وَمِنْهُ الدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ أَيِ الْمُنْفَرِدَةُ بِالْحُسْنِ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَهُوَ قَاصِرٌ، وَأَطْلَقَهُ الْعَرَبُ عَلَى مَنْ فُقِدَ أَبُوهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ كَأَنَّهُ بَقِيَ مُنْفَرِدًا لَا يَجِدُ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْتَدَّ الْعَرَبُ بِفَقْدِ الْأُمِّ فِي إِطْلَاقِ وَصْفِ الْيَتِيمِ إِذْ لَا يَعْدَمُ الْوَلَدُ كَافِلَةً، وَلَكِنَّهُ يُعْدَمُ بِفَقْدِ أَبِيهِ مَنْ يُدَافِعُ عَنْهُ وَيُنْفِقُهُ. وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا رَاعَوْهُ فِي الِاشْتِقَاقِ أَنَّ الَّذِي يَبْلُغُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى يَتِيمًا إِذْ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ هُوَ إِطْلَاق الشَّرِيعَة لَا سم الْيَتِيمِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ.
وَقِيلَ: هُوَ فِي اللُّغَةِ مَنْ فُقِدَ أَبُوهُ، وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا، أَوْ كَانَ صَغِيرًا وَكَبِرَ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْإِطْلَاقَ صَحِيحًا. وَقَدْ أُرِيدَ بِالْيَتَامَى هُنَا مَا يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَغَلَبَ فِي ضَمِيرِ
التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ: أَمْوالَهُمْ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْيَتِيمِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ لَهُ مَا دَامَ مُطْلَقًا عَلَيْهِ اسْمُ الْيَتِيمِ، إِذِ الْيَتِيمُ خَاصٌّ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَهُوَ حِينَئِذٍ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ إِمَّا بِتَأْوِيلِ لَفْظِ الْإِيتَاءِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْيَتِيمِ، فَلَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ آتُوا بِغَيْرِ مَعْنَى ادْفَعُوا. وَذَلِكَ بِمَا نُقِلَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ لَا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ مَعَ وُجُودِ الْكِبَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَكُونُ آتُوا
219
بِمَعْنَى عَيِّنُوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَلِيَكُونَ هَذَا الْأَمْرُ وَمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ تَأْسِيسَاتِ أَحْكَامٍ، لَا تَأْكِيدَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، أَوْ تَقْيِيدَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :«يُرَادُ بِإِيتَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ أَنْ لَا يَطْمَعَ فِيهَا الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَوْصِيَاءُ وَوُلَاةُ السُّوءِ وَقُضَاتِهِ وَيَكُفُّوا عَنْهَا أَيْدِيَهُمُ الْخَاطِفَةَ حَتَّى تَأْتِيَ الْيَتَامَى إِذَا بَلَغُوا سَالِمَةً» فَهُوَ تَأْوِيلٌ لِلْإِيتَاءِ بِلَازِمَةٍ وَهُوَ الْحِفْظُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِيتَاءُ كِنَايَةً بِإِطْلَاقِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ، أَو مجَاز بالمئال إِذِ الْحِفْظُ يُؤَوَّلُ إِلَى الْإِيتَاءِ، وَعَلِيهِ فَيَكُونُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَالْمُرَادُ هُنَا الْأَمْرُ بِحِفْظِ حُقُوقِ الْيَتَامَى مِنَ الْإِضَاعَةِ لَا تَسْلِيمُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ إِذْ سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى [النِّسَاء: ٦] الْآيَةَ. وَلَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ الْيَتَامَى بِالَّذِينَ جَاوَزُوا حَدَّ الْيُتْمِ وَيَبْقَى الْإِيتَاءُ بِمَعْنَى الدَّفْعِ، وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْيَتَامَى لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ فِي فَوْرِ خُرُوجِهِمْ مِنْ حَدِّ الْيَتِيمِ، أَوْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ وَيَكُونُ هَذَا الْإِطْلَاقُ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ الْآتِي: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٦].
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْيَتِيمُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنَى الِانْفِرَادِ أَيِ انْفِرَادِهِ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جُمُودٌ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الِانْفِرَادَ حَقِيقِيٌّ وَإِنَّمَا وُضِعَ اللَّفْظُ لِلِانْفِرَادِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ انْعِدَامُ الْأَبِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ بَقَاءِ الْوَلَدِ مُنْفَرِدًا وَمَا هُوَ بِمُنْفَرِدٍ فَإِنَّ لَهُ أُمًّا وَقَوْمًا.
قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ كَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ فِي حِجْرِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ طَلَبَ مَالَهُ، فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَرَدَّ الْمَالَ لِابْنِ أَخِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أَيْ لَا تَأْخُذُوا الْخَبِيثَ وَتُعْطُوا الطَّيِّبَ.
وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ تَبَدَّلَ وَنَظَائِرِهِ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَة فالبقرة [٦١] قَالَ:
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَعَلَى مَا تَقَرَّرَ هُنَاكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْخَبِيثُ هُوَ
الْمَأْخُوذَ، وَالطَّيِّبُ هُوَ الْمَتْرُوكَ.
وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ أُرِيدَ بِهِمَا الْوَصْفُ الْمَعْنَوِيُّ دُونَ الْحِسِّيِّ، وَهُمَا اسْتِعَارَتَانِ فَالْخَبِيثُ الْمَذْمُومُ أَوِ الْحَرَامُ، وَالطَّيِّبُ عَكْسُهُ وَهُوَ الْحَلَالُ: وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فِي الْبَقَرَةِ [١٦٨]. فَالْمَعْنَى: وَلَا تَكْسِبُوا الْمَالَ الْحَرَامَ
220
وَتَتْرُكُوا الْحَلَالَ أَيْ لَوِ اهْتَمَمْتُمْ بِإِنْتَاجِ أَمْوَالِكُمْ وَتَوْفِيرِهَا بِالْعَمَلِ وَالتَّجْرِ لَكَانَ لَكُمْ مِنْ خِلَالِهَا مَا فِيهِ غُنْيَةٌ عَنِ الْحَرَامِ، فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُنَا هُوَ ضِدُّ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ قَبْلُ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ، وَلَكِنَّ النَّهْيَ بَيَّنَ مَا فِيهِ مِنَ الشَّنَاعَةِ إِذَا لَمْ يُمْتَثَلِ الْأَمْرُ، وَهَذَا الْوَجْه ينبىء عَن جعل التبدّل مَجَازًا وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا الِاسْتِعْمَالِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ مَا يَقْتَضِي خِلَافَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ نَهْيٌ ثَالِثٌ عَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِ أَوْلِيَائِهِمْ، فَيَنْتَسِقُ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ وَنَهْيَانِ: أُمِرُوا أَنْ لَا يَمْنَعُوا الْيَتَامَى مِنْ مَوَارِيثِهِمْ ثُمَّ نُهُوا عَنِ اكْتِسَابِ الْحَرَامِ، ثُمَّ نُهُوا عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَوْ بَعْضِهَا، وَالنَّهْيُ وَالْأَمْرُ الْأَخِيرُ تَأْكِيدَانِ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَالْأَكْلُ اسْتِعَارَةٌ لِلِانْتِفَاعِ الْمَانِعِ مِنَ انْتِفَاعِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمِلْكُ التَّامُّ، لِأَنَّ الْأَكْلَ هُوَ أَقْوَى أَحْوَالِ الِاخْتِصَاصِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّهُ يُحْرِزُهُ فِي دَاخِلِ جَسَدِهِ، وَلَا مَطْمَعَ فِي إِرْجَاعِهِ، وَضَمَّنَ تَأْكُلُوا مَعْنَى تَضُمُّوا فَلذَلِك عدي بإلى أَيْ: لَا تَأْكُلُوهَا بِأَنْ تَضُمُّوهَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ.
وَلَيْسَ قَيْدُ إِلى أَمْوالِكُمْ مَحَطَّ النَّهْيِ، بَلِ النَّهْي وَاقع على أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِلْآكِلِ مَالٌ يَضُمُّ إِلَيْهِ مَالَ يَتِيمِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ وُجُودَ أَمْوَالٍ لِلْأَوْصِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى التَّكَثُّرَ، ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ رَعْيًا لِلْغَالِبِ، وَلِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي النَّهْيِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يَأْكُلُونَ حُقُوقَ النَّاسِ مَعَ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ عَلَى أَنَّ التَّضْمِينَ لَيْسَ مِنَ التَّقْيِيدِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ نَهْيَيْنِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَجَنَّبُوا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مُخَالَطَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَنَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ [٢٢٠] : وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
فَقَدْ فَهِمُوا أَنَّ ضَمَّ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَى مَالِ الْوَصِيِّ حَرَامٌ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَشْمُولًا لِلنَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ وَلَكِنْ لِلنَّهْيِ عَنِ الضَّمِّ. وَهُمَا فِي فَهْمِ الْعَرَبِ نَهْيَانِ، وَلَيْسَ هُوَ نَهْيًا عَنْ أَكْلِ الْأَغْنِيَاءِ أَمْوَالَ الْيَتَامَى حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْفُقَرَاءِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ لَا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ إِذْ لَيْسَ الْأَدْوَنُ بِصَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ.
وَالْحُوبُ- بِضَمِّ الْحَاءِ- لُغَةُ الْحِجَازِ، وَبِفَتْحِهَا- لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقِيلَ: هِيَ حَبَشِيَّةٌ،
وَمَعْنَاهُ الْإِثْمُ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ: لِمَوْقِعِ إِنَّ مِنْهَا، أَيْ نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ
221
إِثْمٌ عَظِيمٌ. وَلِكَوْنِ إِنَّ فِي مِثْلِهِ لمُجَرّد الاهتمام لتفيد التَّعْلِيلِ أَكَّدَ الْخَبَرَ بكان الزَّائِدَة.
[٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
اشْتِمَالُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَلِمَةِ الْيَتامى يُؤْذِنُ بِمُنَاسَبَتِهَا لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ، بَيْدَ أَنَّ الْأَمْرَ بِنِكَاحِ النِّسَاءِ وَعَدَدِهِنَّ فِي جَوَابِ شَرْطِ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ فِي الْيَتَامَى مِمَّا خُفِيَ وَجْهُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، إِذْ لَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ أَيْ مُلَازَمَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِيجَازًا بَدِيعًا إِذْ أَطْلَقَ فِيهَا لَفْظَ الْيَتَامَى فِي الشَّرْطِ وَقُوبِلَ بِلَفْظِ النِّسَاءِ فِي الْجَزَاءِ فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْيَتَامَى هُنَا جَمْعُ يَتِيمَةٍ وَهِيَ صِنْفٌ مِنَ الْيَتَامَى فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢]. وَعلم أَنَّ بَيْنَ عَدَمِ الْقِسْطِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِنِكَاحِ النِّسَاءِ، ارْتِبَاطًا لَا مَحَالَةَ وَإِلَّا لَكَانَ الشَّرْطُ عَبَثًا. وَبَيَانُهُ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» :
أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَتْ: «يَا بْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَلَا يُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرِهِنَّ. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: ١٢٧]. فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: ١٢٧] رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ». وَعَائِشَةُ لَمْ تُسْنِدْ هَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ سِيَاقَ كَلَامِهَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عَنْ تَوْقِيفٍ،
222
وَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ بِسِيَاقِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ اعْتِدَادًا بِأَنَّهَا مَا قَالَتْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ مُعَايَنَةِ حَالِ النُّزُولِ، وَأَفْهَامِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَقَرَّهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَتْ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ إِيجَازُ لَفْظِ الْآيَةِ اعْتِدَادًا بِمَا فَهِمَهُ النَّاسُ مِمَّا يَعْلَمُونَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَتَكُونُ قَدْ جَمَعَتْ إِلَى حُكْمِ حِفْظِ حُقُوقِ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ حِفْظَ حُقُوقِهِمْ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الْبَنَاتُ الْيَتَامَى مِنْ مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ، وَمَوْعِظَةُ الرِّجَالِ بِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَجْعَلُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ
شَافِعَةَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا مُرَغِّبَ فِيهِنَّ لَهُمْ فَيَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِهِنَّ، فَكَذَلِكَ لَا يَجْعَلُونَ الْقَرَابَةَ سَبَبًا لِلْإِجْحَافِ بِهِنَّ فِي مُهُورِهِنَّ. وَقَوْلُهَا: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ، مَعْنَاهُ اسْتَفْتَوْهُ طَلَبًا لِإِيضَاحِ هَذِهِ الْآيَةِ. أَوِ اسْتَفْتَوْهُ فِي حُكْمِ نِكَاح الْيَتَامَى، وَله يَهْتَدُوا إِلَى أَخْذِهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ الْآيَةَ، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ أَيْ مَا يُتْلَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْأُولَى، أَيْ كَانَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءُ فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَكَلَامُهَا هَذَا أَحْسَنُ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَحَرَّجُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَلَا تَتَحَرَّجُ فِي الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَكَانُوا يَتَزَوَّجُونَ الْعَشْرَ فَأَكْثَرَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا القَوْل فمحلّ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا تَفَرَّعَ عَنِ الْجَزَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً، فَيكون نسج الْآيَةِ قَدْ حِيكَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِيُدْمَجَ فِي خِلَالِهِ تَحْدِيدُ النِّهَايَةِ إِلَى الْأَرْبَعِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْعَشْرَ فَأَكْثَرَ فَإِذَا ضَاقَ مَالُهُ عَنْ إِنْفَاقِهِنَّ أَخَذَ مَالَ يَتِيمِهِ فَتَزَوَّجَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُلَازَمَةُ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ تَزَوُّجَ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الْقِيَامُ بِهِ صَارَ ذَرِيعَةً إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِذَا غَلَبَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ تَحْذِيرٌ مِنَ الزِّنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَلَا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الزِّنَا، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَخَافُوا الزِّنَا، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَنَسِّكَ أَنْ يَهْجُرَ جَمِيعَ الْمَآثِمِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَشَدَّ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَضْعُفُ الْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَيَكُونُ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا لَفْظًا وَمَعْنًى. وَقِيلَ فِي هَذَا وُجُوهٌ أُخَرُ هِيَ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرْنَا.
223
وَمَعْنَى مَا طابَ مَا حَسُنَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَكُمْ وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مِمَّا حَلَّ لَكُمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي سِيَاقِ التشريع.
وَمَا صدق مَا طابَ النِّسَاءُ فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُؤْتَى بِ (مِنْ) الْمَوْصُولَةِ لَكِنْ جِيءَ بِ (مَا) الْغَالِبَةِ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، لِأَنَّهَا نُحِيَ بِهَا مَنْحَى الصِّفَةِ وَهُوَ الطَّيِّبُ بِلَا تَعْيِينِ ذَاتٍ، وَلَوْ قَالَ (مَنْ) لَتَبَادَرَ إِلَى إِرَادَةِ نِسْوَةٍ طَيِّبَاتٍ مَعْرُوفَاتٍ بَيْنَهُمْ، وَكَذَلِكَ حَالُ (مَا) فِي الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَصَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ». فَإِذَا قُلْتَ: مَا تَزَوَّجْتَ؟ فَأَنْتَ تُرِيدُ مَا صِفَتُهَا أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا مَثَلًا، وَإِذَا قَلْتَ: مَنْ تَزَوَّجْتَ؟ فَأَنْتَ تُرِيدُ تَعْيِينَ اسْمِهَا وَنَسَبِهَا.
وَالْآيَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْمُثْبِتَةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا مُعَلَّقٌ عَلَى حَالَةِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَوْرِ فِي الْيَتَامَى، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْإِرْشَادِ، وَأَنَّ النِّكَاحَ شُرِّعَ بِالتَّقْرِيرِ لِلْإِبَاحَةِ
الْأَصْلِيَّةِ لِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَعَ إِبْطَالِ مَا لَا يَرْضَاهُ الدِّينُ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَكَنِكَاحِ الْمَقْتِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَالْأَمْرِ بِأَنْ لَا يُخْلُوهُ عَنِ الصَّدَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أَحْوَالُ مَنْ طابَ وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهَا أَحْوَالًا مِنَ النِّسَاءِ لِأَنَّ النِّسَاءَ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ كُلُّهُ لِأَنَّ (مِنْ) إِمَّا تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ بَيَانِيَّةٌ وَكِلَاهُمَا تَقْتَضِي بَقَاءَ الْبَيَانِ عَلَى عُمُومِهِ، لِيَصْلُحَ لِلتَّبْعِيضِ وَشَبَهِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ فَلَكُمْ فِي نِكَاحِ غَيْرِ أُولَئِكَ الْيَتَامَى مَنْدُوحَةٌ عَنْ نِكَاحِهِنَّ مَعَ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَفِي هَذَا إِدْمَاجٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ آخَرَ فِي خِلَالِ حُكْمِ الْقِسْطِ لِلْيَتَامَى إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا.
وَصِيغَةُ مَفْعَلٍ وَفُعَالٍ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى أَرْبَعَةٍ، وَقِيلَ إِلَى سِتَّةٍ وَقِيلَ إِلَى عَشَرَةٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَصَحَّحَهُ الْمَعَرِّيُّ فِي «شَرْحِ دِيوَانِ الْمُتَنَبِّي» عِنْدَ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:
224
تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى مَعْنَى تَكْرِير اسْم الْعدَد لِقَصْدِ التَّوْزِيعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فاطر: ١] أَيْ لِطَائِفَةٍ جَنَاحَانِ، وَلِطَائِفَةٍ ثَلَاثَةٌ، وَلِطَائِفَةٍ أَرْبَعَةٌ. وَالتَّوْزِيعُ هُنَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ فِي السَّعَةِ وَالطَّوْلِ، فَمِنْهُمْ فَرِيقٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يتزوّجوا اثْنَتَيْنِ، فَهَؤُلَاءِ تَكُونُ أَزْوَاجُهُمُ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، كَقَوْلِكَ لِجَمَاعَةٍ: اقْتَسِمُوا هَذَا المَال در همين در همين، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، عَلَى حَسَبِ أَكْبَرِكُمْ سِنًّا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَحْرِيمَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ مُسْتَفَادٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاقْتِصَارِ غَيْرُ كَافٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَّرَتْ مَا ثَبَتَ مِنْ الِاقْتِصَارِ، عَلَى أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةٍ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ»
. وَلَعَلَّ الْآيَةَ صَدَرَتْ بِذِكْرِ الْعَدَدِ الْمُقَرَّرِ مِنْ قَبْلِ نُزُولهَا، تمهيدا لشرع الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ الْعَدْلِ فِي التَّنَازُلِ فِي مَرَاتِبِ الْعَدَدِ يَنْزِلُ بِالْمُكَلَّفِ إِلَى الْوَاحِدَةِ. فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْعَدَدِ يَنْزِلُ بِهِ إِلَى الَّتِي دُونَهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْجُهَّالِ- لَمْ يُعَيِّنْهُمْ- أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبِيحُ لِلرِّجَالِ تَزَوُّجَ تِسْعِ نِسَاءٍ تَوَهُّمًا بِأَنَّ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مُرَادِفَةٌ لِاثْنَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا، وَأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، فَحَصَلَتْ
تِسْعَةٌ وَهِيَ الْعَدَدُ الَّذِي جَمَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَهَذَا جَهْلٌ شَنِيعٌ فِي مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» نِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الرَّافِضَةِ، وَإِلَى بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ. وَلَيْسَ ذَلِك قولا لداوود الظَّاهِرِيِّ وَلَا لِأَصْحَابِهِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ إِلَى قَوْمٍ لَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِمْ، وَقَالَ الْفَخْرُ: هُمْ قَوْمٌ سُدًى، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَصَّاصُ مُخَالِفًا أَصْلًا. وَنَسَبَ ابْنُ الْفَرَسِ إِلَى قَوْمٍ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا حَصْرَ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ وَجَعَلُوا الِاقْتِصَارَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى: إِلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَدَدِ، وَتَمَسَّكَ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَهُوَ تَمَسُّكٌ وَاهٍ، فَإِنَّ تِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَتَطَلُّبُ الْأَدِلَّةِ الْقَوَاطِعِ فِي انْتِزَاعِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْقُرْآنِ تَطَلُّبٌ لِمَا يَقِفُ بِالْمُجْتَهِدِينَ فِي اسْتِنْبَاطِهِمْ مَوْقِفَ الْحَيْرَةِ، فَإِنَّ مَبْنَى كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى أَسَاسِ الْفِطْنَةِ. وَمَسْلَكُهُ هُوَ مَسْلَكُ اللَّمْحَةِ الدَّالَّةِ.
225
وَظَاهِرُ الْخَطَّابِ لِلنَّاسِ يَعُمُّ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ، فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَيُعْزَى إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمٍ، وَرَبِيعَةَ بْنِ أبي عبد الرحمان، وَمُجَاهِدٍ، وَذهب إِلَيْهِ دَاوُود الظَّاهِرِيُّ. وَقِيلَ: لَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَيُنْسَبُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَسَنِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مُنَاسِبِ التَّنْصِيفِ لِلْعَبِيدِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِي الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ. وَمَنِ ادَّعَى إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ فَقَدْ جَازَفَ الْقَوْلَ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً، أَيْ فَوَاحِدَةً لِكُلِّ مَنْ يَخَافُ عَدَمَ الْعَدْلِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فَأُحَادٌ أَوْ فَمَوْحَدٌ لِأَنَّ وَزْنَ مفعل وفعال فِي الْعدَد لَا يَأْتِي إِلَّا بَعْدَ جَمْعٍ وَلَمْ يَجْرِ جَمْعٌ هُنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَوَاحِدَةً- بِالنَّصْبِ-، وَانْتَصَبَ وَاحِدَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ فَانْكِحُوا وَاحِدَةً. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ كِفَايَةٌ.
وَخَوْفُ عَدَمِ الْعَدْلِ مَعْنَاهُ عَدَمُ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، أَيْ عَدَمُ التَّسْوِيَةِ، وَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالْبَشَاشَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَتَرْكِ الضُّرِّ فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ وَطَوْقُهُ دُونَ مَيْلِ الْقَلْبِ.
وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ تَعَدُّدَ النِّسَاءِ لِلْقَادِرِ الْعَادِلِ لِمَصَالِحَ جَمَّةٍ: مِنْهَا أَنَّ فِي ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى تَكْثِيرِ عَدَدِ الْأُمَّةِ بِازْدِيَادِ الْمَوَالِيدِ فِيهَا، وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ يُعِينُ عَلَى كَفَالَةِ النِّسَاءِ اللَّائِي هُنَّ
أَكْثَرُ مِنَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ فِي الْمَوَالِيدِ أَكْثَرُ مِنَ الذُّكُورَةِ، وَلِأَنَّ الرِّجَالَ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ فِي الْحُرُوبِ وَالشَّدَائِدِ مَا لَا يَعْرِضُ لِلنِّسَاءِ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ أَطْوَلُ أَعْمَارًا مِنَ الرِّجَالِ غَالِبًا، بِمَا فَطَرَهُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ حَرَّمَتِ الزِّنَا وَضَيَّقَتْ فِي تَحْرِيمِهِ لِمَا يَجُرُّ إِلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَنْسَابِ وَنِظَامِ الْعَائِلَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ تَوَسَّعَ عَلَى النَّاسِ فِي تَعَدُّدِ النِّسَاءِ لِمَنْ كَانَ مِنَ الرِّجَالِ مَيَّالًا لِلتَّعَدُّدِ مَجْبُولًا عَلَيْهِ، وَمِنْهَا قَصْدُ الِابْتِعَادِ عَنِ الطَّلَاقِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ.
226
وَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَلَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَدٌّ لِلزَّوْجَاتِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنْ جَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَحْدِيدٍ لِلتَّزَوُّجِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِثْلُ الْقَرَافِيِّ، وَلَا أَحْسَبُهُ صَحِيحًا، وَالْإِسْلَامُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِالتَّحْدِيدِ، فَأَمَّا أَصْلُ التَّحْدِيدِ فَحِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَدْلَ لَا يَسْتَطِيعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ اخْتَلَّ نِظَامُ الْعَائِلَةِ، وَحَدَثَتِ الْفِتَنُ فِيهَا، وَنَشَأَ عُقُوقُ الزَّوْجَاتِ أَزْوَاجَهُنَّ، وَعُقُوقُ الْأَبْنَاءِ آبَاءَهُمْ بِأَذَاهُمْ فِي زَوْجَاتِهِمْ وَفِي أَبْنَائِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْأَذَى فِي التَّعَدُّدِ لِمَصْلَحَةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَضْبُوطَةً غَيْرَ عَائِدَةٍ عَلَى الْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ.
وَأَمَّا الِانْتِهَاءُ فِي التَّعَدُّدِ إِلَى الْأَرْبَعِ فَقَدْ حَاوَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَوْجِيهَهُ فَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَى غَايَةٍ مُرْضِيَةٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّ حِكْمَتَهُ نَاظِرَةٌ إِلَى نِسْبَةِ عَدَدِ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمُعَدَّلِ فِي التَّعَدُّدِ فَلَيْسَ كُلُّ رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا، فَلْنَفْرِضِ الْمُعَدَّلَ يَكْشِفُ عَنِ امْرَأَتَيْنِ لِكُلِّ رجل، يدلّنا ذَلِك عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ ضَعْفُ الرِّجَالِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا مَا جَاءَ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّهُ يَكْثُرُ النِّسَاءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فَواحِدَةً، فَقَدْ خَيَّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِ التَّعَدُّدِ، أَيْ فَوَاحِدَةً مِنَ الْأَزْوَاجِ أَوْ عَدَدٍ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْلُوكَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِنَّ مِنَ الْعَدْلِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ وَتَرْكُ الضُّرِّ، وَإِنْ عَطَفْتَهُ عَلَى قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ كَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ التَّزَوُّجِ وَالتَّسَرِّي بِحَسَبِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَكَانَ الْعَدْلُ فِي الْإِمَاءِ الْمُتَّخَذَاتِ لِلتَّسَرِّي مَشْرُوطًا قِيَاسًا عَلَى الزَّوْجَاتِ، وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ بِحَسَبِ الْمَقْدِرَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي التَّسَرِّي الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْقُيُودَ الْمَذْكُورَةَ بَيْنَ الْجُمَلِ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا. وَقَدْ مَنَعَ الْإِجْمَاعُ مِنْ قِيَاسِ الْإِمَاء على الْحَرَائِر فِي نِهَايَةِ الْعَدَدِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَدْخُلُ فِي حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ وَأَنْظَمُ فِي
مَعْنَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا إِلَى الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ
227
مِنَ التَّوْزِيعِ عَلَى حَسَبِ الْعَدْلِ. وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً.
وأَدْنى بِمَعْنَى أَقْرَبَ، وَهُوَ قُرْبٌ مَجَازِيٌّ أَيْ أَحَقُّ وَأَعْوَنُ عَلَى أَنْ لَا تَعُولُوا، وَ «تَعُولُوا» مُضَارِعُ عَالَ عَوْلًا، وَهُوَ فِعْلٌ وَاوِيُّ الْعَيْنِ، بِمَعْنَى جَارَ وَمَالَ، وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ، يُقَالُ: عَالَ الْمِيزَانُ عَوْلًا إِذَا مَالَ، وَعَالَ فُلَانٌ فِي حُكْمِهِ أَيْ جَارَ، وَظَاهِرٌ أَنَّ نُزُولَ الْمُكَلَّفِ إِلَى الْعَدَدِ الَّذِي لَا يُخَافُ مَعَهُ عَدَمُ الْعَدْلِ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْجَوْرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَيُفِيدُ زِيَادَةَ تَأْكِيدِ كَرَاهِيَةِ الْجَوْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحُكْمِ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ قَوْلَهُ: فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أَيْ ذَلِكَ أَسْلَمُ مِنَ الْجَوْرِ، لِأَنَّ التَّعَدُّدَ يُعَرِّضُ الْمُكَلَّفَ إِلَى الْجَوْرِ وَإِنْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي الْعَدْلِ، إِذْ لِلنَّفْسِ رَغَبَاتٌ وَغَفَلَاتٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ: أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا وَيَكُونُ تَرْغِيبًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ التَّعَدُّدِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، إِذْ هُوَ سَدَّ ذَرِيعَةَ الْجَوْرِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ الْعَدْلُ شَرْطًا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَهُوَ الَّذِي نَحَّاهُ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ.
وَقيل: «معنى أَلا تَعُولُوا» أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ عَالَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ يعولهم بِمَعْنى مَالهم، يَعْنِي فَاسْتَعْمَلَ نَفْيَ كَثْرَةِ الْعِيَالِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْعَوْلَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْعِيَالِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الرَّجُلِ بِأَنَّهُ يَعُولُ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الْعِيَالِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِشَيْءٍ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَحَدٌ فَمَا يُخْبِرُ الْمُخْبَرَ بِهِ إِلَّا إِذَا رَآهُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمُتَعَارَفَ. كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ يَأْكُلُ، وَفُلَانٌ يَنَامُ، أَيْ يَأْكُلُ كَثِيرًا وَيَنَامُ كَثِيرًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ كَوْنُهُ مَعْنًى لِعَالَ صَرِيحًا، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ عَالَ بِمَعْنَى كَثُرَتْ عِيَالُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ أَعَالَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ بَعِيدٌ، وَكِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ، لَا يُلَائِمُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ تَرْغِيبٌ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِخُصُوصِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ السِّعَةَ فِي الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْوَاحِدَةِ
228
يُقَلِّلُ النَّفَقَةَ وَيُقَلِّلُ النَّسْلَ فَيُبْقِي عَلَيْهِ مَالَهُ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْحَاجَةَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْإِمَاءِ يُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الْعِيَالِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى مَا يُتَنَاسَلُ مِنْهُنَّ، وَلِذَلِكَ رَدَّ جَمَاعَةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ هَذَا الْوَجْهَ بَيْنَ مُفْرِطٍ وَمُقْتَصِدٍ.
وَقَدْ أَغْلَظَ فِي الرَّدِّ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِهِ حَتَّى زَعَمَ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ فِي اللُّغَةِ، اشْتَبَهَ بِهِ عَالَ يَعِيلُ بِعَالَ يَعُولُ. وَاقْتَصَدَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.
وَانْتَصَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِلشَّافِعِيِّ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُلَاقِي قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْجَوَارِي مِثْلَ تَعَدُّدِ الْحَرَائِرِ فَلَا مَفَرَّ مِنَ الْإِعَالَةِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابٍ فِيهِ تَكَلُّفٌ.
وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاء: ١].
[٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
جَانِبَانِ مُسْتَضْعَفَانِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الْيَتِيمُ، وَالْمَرْأَةُ. وَحَقَّانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا أَصْحَابُهُمَا:
مَالُ الْأَيْتَامِ، وَمَالُ النِّسَاءِ، فَلِذَلِكَ حَرَسَهُمَا الْقُرْآنُ أَشَدَّ الْحِرَاسَةِ فَابْتَدَأَ بِالْوِصَايَةِ بِحَقِّ مَالِ الْيَتِيمِ، وَثَنَّى بِالْوِصَايَةِ بِحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي مَالٍ يَنْجَرُّ إِلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ تَوَسُّطُ حُكْمِ النِّكَاحِ بَيْنَ الْوِصَايَتَيْنِ أحسن مُنَاسبَة تهيّىء لِعَطْفِ هَذَا الْكَلَامِ.
فَقَوْلُهُ: وَآتُوا النِّساءَ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْإِيتَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ. وَزَادَهُ اتِّصَالًا بِالْكَلَامِ السَّابِقِ أَنَّ مَا قَبْلَهُ جَرَى عَلَى وُجُوبِ الْقِسْطِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةَ الِانْتِقَالِ. وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ فِي أَمْثَالِ هَذَا كُلُّ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ، فَهُوَ خِطَابٌ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ عَلَى مَعْنَى تَنَاوُلِهِ لِكُلِّ مَنْ لَهُ فِيهِ يَدٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ وُلَاةِ الْأُمُورِ الَّذِينَ إِلَيْهِمُ الْمَرْجِعُ فِي الضَّرْبِ عَلَى أَيْدِي ظَلَمَةِ الْحُقُوقِ أَرْبَابَهَا. وَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ ابْتِدَاءً هُمُ الْأَزْوَاجُ،
229
لِكَيْلَا يَتَذَرَّعُوا بِحَيَاءِ النِّسَاءِ وَضَعْفِهِنَّ وَطَلَبِهِنَّ مَرْضَاتَهُمْ إِلَى غَمَصِ حُقُوقِهِنَّ فِي أَكْلِ مُهُورِهِنَّ، أَوْ يَجْعَلُوا حَاجَتَهُنَّ لِلتَّزَوُّجِ لِأَجْلِ إِيجَادِ كَافِلٍ لَهُنَّ ذَرِيعَةً لِإِسْقَاطِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ، فَهَذَا مَا يُمْكِنُ فِي أَكْلِ مُهُورِهِنَّ، وَإِلَّا فَلَهُنَّ أَوْلِيَاءُ يُطَالِبُونَ الْأَزْوَاجَ بِتَعْيِينِ الْمُهُورِ، وَلَكِنْ دُونَ الْوُصُولِ إِلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مَتَاعِبُ وَكُلَفٌ قَدْ يملّها صَاحب بالحقّ فَيَتْرُكَ طَلَبَهُ، وَخَاصَّةً النِّسَاءُ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ.
وَإِلَى كَوْنِ الْخِطَابِ لِلْأَزْوَاجِ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا قَرَّرَتْ دَفْعَ الْمُهُورِ وَجَعَلَتْهُ شَرْعًا، فَصَارَ الْمَهْرُ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ النِّكَاحِ فِي الْإِسْلَامِ،
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ كَقَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَغير ذَلِك [النِّسَاء: ٢٤].
وَالْمَهْرُ عَلَامَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ الْمُخَادَنَةِ، لَكِنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الزَّوْجُ يُعْطِي مَالًا لِوَلِيِّ الْمَرْأَةِ وَيُسَمُّونَهُ حُلْوَانًا- بِضَمِّ الْحَاءِ- وَلَا تَأْخُذُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا، فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنْ جَعَلَ الْمَالَ لِلْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: لِأَنَّ عَادَةَ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنْ يَأْكُلَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ مَهْرَهَا فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ. وَعَنِ الْحَضْرَمِيِّ: خَاطَبَتِ الْآيَةُ الْمُتَشَاغِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ امْرَأَةً بِأُخْرَى، وَلَعَلَّ هَذَا أَخَذَ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَلَيْسَ صَرِيحَ اللَّفْظِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ عُمُومُ النِّسَاءِ وَعُمُومُ الصَّدُقَاتِ.
وَالصَّدُقَاتُ جَمْعُ صَدُقَةٍ- بِضَمِّ الدَّالِ- وَالصَّدُقَةُ: مَهْرُ الْمَرْأَةِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصِّدْقِ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ يَسْبِقُهَا الْوَعْدُ بِهَا فَيَصْدُقُهُ الْمُعْطِي.
وَالنِّحْلَةُ- بِكَسْرِ النُّونِ- الْعَطِيَّةُ بِلَا قَصْدِ عِوَضٍ، وَيُقَالُ: نُحْلٌ- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ-.
وَانْتَصَبَ نِحْلَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ «صَدُقَاتِهِنَّ»، وَإِنَّمَا صَحَّ مَجِيءُ الْحَالِ مُفْرِدَةً وَصَاحِبُهَا جَمْعٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمُفْرَدِ الْجِنْسُ الصَّالِحُ لِلْأَفْرَادِ كُلِّهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِحْلَةٌ مَنْصُوبًا على المصدرية لآتوا لِبَيَانِ النَّوْعِ مِنَ الْإِيتَاءِ أَيْ إِعْطَاءِ كَرَامَةٍ.
وَسُمِّيَتِ الصَّدُقَاتُ نِحْلَةً إِبْعَادًا لِلصَّدُقَاتِ عَنْ أَنْوَاعِ الْأَعْوَاضِ، وَتَقْرِيبًا بِهَا إِلَى الْهَدِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ الصَّدَاقُ عِوَضًا عَنْ مَنَافِعِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ بَيْنَ
230
الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ قُصِدَ مِنْهُ الْمُعَاشَرَةُ، وَإِيجَادُ آصِرَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَبَادُلُ حُقُوقٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتِلْكَ أَغْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ، وَلَوْ جُعِلَ لَكَانَ عِوَضُهَا جَزِيلًا وَمُتَجَدِّدًا بِتَجَدُّدِ الْمَنَافِعِ، وَامْتِدَادِ أَزْمَانِهَا، شَأْنُ الْأَعْوَاضِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ هَدِيَّةً وَاجِبَةً عَلَى الْأَزْوَاجِ إِكْرَامًا لِزَوْجَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ أَنَّهُ الْفَارِقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ الْمُخَادَنَةِ وَالسِّفَاحِ، إِذْ كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِي الْبَشَرِ اخْتِصَاصَ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ تَكُونُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَكَانَ هَذَا الِاخْتِصَاصُ يُنَالُ بِالْقُوَّةِ، ثُمَّ اعْتَاضَ النَّاسُ عَنِ الْقُوَّةِ بَذْلَ الْأَثْمَانِ لأولياء النِّسَاء ببيعهم بناتهم ومولياتهم، ثُمَّ ارْتَقَى التَّشْرِيعُ وَكَمُلَ عَقْدُ النِّكَاحِ، وَصَارَتِ الْمَرْأَةُ حَلِيلَةَ الرَّجُلِ شريكته فِي شؤونه وَبَقِيَتِ الصَّدُقَاتُ أَمَارَاتٍ عَلَى ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ الْقَدِيمِ تُمَيِّزُ عَقْدَ النِّكَاحِ عَنْ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْمُعَاشَرَةِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَعَادَةً، وَكَانَتِ الْمُعَاشَرَةُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النِّكَاحِ خَالِيَةً عَنْ بَذْلِ الْمَالِ لِلْأَوْلِيَاءِ إِذْ كَانَتْ تَنْشَأُ عَنِ الْحُبِّ أَوِ الشَّهْوَةِ مِنَ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عَلَى انْفِرَادٍ وَخُفْيَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ الزِّنَى الْمُوَقَّتُ، وَمِنْهُ الْمُخَادَنَةُ، فَهِيَ زِنًا مُسْتَمِرٌّ، وَأَشَارَ
إِلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النِّسَاء: ٢٥] وَدُونَ ذَلِكَ الْبِغَاءُ وَهُوَ الزِّنَا بِالْإِمَاءِ بِأُجُورٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ النَّهْيَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النُّور: ٣٣] وَهُنَالِكَ مُعَاشَرَاتٌ أُخْرَى، مِثْلُ الضِّمَادِ وَهُوَ أَنْ تَتَّخِذَ ذَاتُ الزَّوْجِ رَجُلًا خَلِيلًا لَهَا فِي سَنَةِ الْقَحْطِ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا مَعَ نَفَقَةِ زَوْجِهَا. فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ الصَّدَاقَ نِحْلَةً، فَأَبْعَدَ الَّذِينَ فَسَّرُوهَا بِلَازِمِ مَعْنَاهَا فَجَعَلُوهَا كِنَايَةً عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْأَزْوَاجِ أَوِ الْأَوْلِيَاءِ بِإِيتَاءِ الصَّدُقَاتِ، وَالَّذِينَ فَسَّرُوهَا بِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِلنِّسَاءِ فَرَضَهَا لَهُنَّ، وَالَّذِينَ فَسَّرُوهَا بِمَعْنَى الشَّرْعِ الَّذِي يُنْتَحَلُ أَيْ يُتَّبَعُ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً الْآيَةَ أَيْ فَإِنْ طَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ لَكُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَيِ الْمَذْكُورِ. وَأَفْرَدَ ضَمِيرَ «مِنْهُ» لِتَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ حَمْلًا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ:
أُحَادٌ أَمْ سُدَاسٌ فِي آحَاد ليبلتنا الْمَنُوطَةُ بِالتَّنَادِي
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِمَّا أَنْ تَقُولَ: كَأَنَّهَا إِنْ أَرَدْتَ الْخُطُوطَ، وَإِمَّا أَنْ تَقُولَ: كَأَنَّهُمَا إِنْ أَرَدْتَ السَّوَادَ وَالْبَلَقَ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ، وَيْلَكَ!! أَيْ أَجْرَى الضَّمِيرَ كَمَا
231
يُجْرَى اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٨].
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ضَمِيرٍ (مِثْلَهُ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣٦].
وَجِيءَ بِلَفْظِ نَفْساً مُفْرَدًا مَعَ أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ طِبْنَ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ اسْمُ جِنْسٍ نَكِرَةٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَأُسْنِدَ الطَّيِّبُ إِلَى ذَوَاتِ النِّسَاءِ ابْتِدَاءً ثُمَّ جِيءَ بِالتَّمْيِيزِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الطَّيِّبِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي: مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَبَيْنَ اشْتَعَلَ شَيْبُ رَأْسِي، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ طِيبُ نَفْسٍ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الضَّغْطِ وَالْإِلْجَاءِ.
وَحَقِيقَةُ فِعْلِ (طابَ) اتِّصَافُ الشَّيْءِ بِالْمُلَاءَمَةِ لِلنَّفْسِ، وَأَصْلُهُ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ لِحُسْنِ مَشْمُومِهَا، وَطَيِّبُ الرِّيحِ مُوَافَقَتُهَا لِلسَّائِرِ فِي الْبَحْرِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُس: ٢٢]، وَمِنْهُ أَيْضًا مَا تَرْضَى بِهِ النَّفْسُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَة: ١٦٨] ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِمَا يَزْكُو بَيْنَ جِنْسِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
[النِّسَاء: ٢] وَمِنْهُ فِعْلُ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً هُنَا أَيْ رَضِينَ
بِإِعْطَائِهِ دُونَ حَرَجٍ وَلَا عَسْفٍ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ.
وَقَوْلُهُ: فَكُلُوهُ اسْتَعْمَلَ الْأَكْلَ هُنَا فِي مَعْنَى الِانْتِفَاعِ الَّذِي لَا رُجُوعَ فِيهِ لِصَاحِبِ الشَّيْءِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، أَيْ فِي مَعْنَى تَمَامِ التَّمَلُّكِ. وَأَصْلُ الْأَكْلِ فِي كَلَامِهِمْ يُسْتَعَارُ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ اسْتِيلَاءً لَا رُجُوعَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ حَائِلًا بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ رُجُوعِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَلَكِنَّهُ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الِانْتِفَاعِ لِأَجْلِ الْمُشَاكَلَةِ مَعَ قَوْلِهِ السَّابِقِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢] فَتِلْكَ مُحَسِّنُ الِاسْتِعَارَةِ.
وهَنِيئاً مَرِيئاً حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ وَهُمَا صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ من هُنَا وهنيء- بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا- بِمَعْنَى سَاغَ وَلَمْ يُعَقِّبْ نَغْصًا. وَالْمَرِيءُ مِنْ مَرُوَ الطَّعَامَ- مُثَلَّثُ الرَّاء- بِمَعْنى هنىء، فَهُوَ تَأْكِيدٌ يُشْبِهُ الِاتِّبَاعَ. وَقِيلَ: الْهَنِيءُ الَّذِي يَلَذُّهُ الْآكِلُ وَالْمَرِيءُ مَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ. وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ يَجُوزُ كَوْنُهُمَا ترشيحا لاستعارة فَكُلُوهُ بِمَعْنَى خُذُوهُ أَخْذَ مِلْكٍ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُمَا مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي انْتِفَاءِ التَّبِعَةِ عَنِ الْأَزْوَاجِ فِي أَخْذِ مَا طَابَتْ لَهُمْ بِهِ نُفُوسُ أَزْوَاجِهِمْ، أَيْ حَلَالًا مُبَاحًا، أَوْ حَلَالًا لَا غُرْمَ فِيهِ.
232
وَإِنَّمَا قَالَ: عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَجِيءَ بِحَرْفِ التَّبْعِيضِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الشَّأْنَ أَنْ لَا يَعْرَى الْعَقْدُ عَنِ الصَّدَاقِ، فَلَا تُسْقِطْهُ كُلَّهُ إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمَّا تَأَوَّلُوا ظَاهِرَ الْآيَةِ مِنَ التَّبْعِيضِ، وَجَعَلُوا هِبَةَ جَمِيعِ الصَّدَاقِ كَهِبَتِهِ كُلِّهِ أَخْذًا بِأَصْلِ الْعَطَايَا، لِأَنَّهَا لَمَّا قَبَضَتْهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهَا إِيَّاهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا بِالتُّهْمَةِ لِأَنَّ مَبْنَى النِّكَاحِ عَلَى الْمُكَارَمَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي مَسَائِلِ الْبَيْعِ: إِنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْيَدِ ثُمَّ الرَّاجِعَ إِلَيْهَا يُعْتَبَرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ، وَهَذَا عِنْدَنَا فِي الْمَالِكَاتِ أَمْرَ أَنْفُسِهِنَّ دُونَ الْمَحْجُورَاتِ تَخْصِيصًا لِلْآيَةِ بِغَيْرِهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْحَجْرِ فَإِنَّ الصَّغِيرَاتِ غَيْرَ دَاخِلَاتٍ هُنَا بِالْإِجْمَاعِ. فَدَخَلَ التَّخْصِيصُ لِلْآيَةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: ذَلِكَ لِلثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ، تَمَسُّكًا بِالْعُمُومِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي حَمْلِ الْأَدِلَّةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رُجُوعِ الْمَرْأَةِ فِي هِبَتِهَا بَعْضَ صَدَاقِهَا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا رُجُوعَ لَهَا، وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: لَهَا الرُّجُوعِ، لِأَنَّهَا لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا لَمَا رَجَعَتْ. وَرَوَوْا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى قُضَاتِهِ «إِنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً فَأَيُّمَا امْرَأَةً أَعْطَتْهُ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَذَلِكَ لَهَا» وَهَذَا يَظْهَرُ إِذا كَانَ مَا بَيْنَ الْعَطِيَّةِ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ قَرِيبًا، وَحَدَثَ مِنْ مُعَامَلَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ الْعَطِيَّةِ خِلَافُ مَا يُؤْذَنُ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ السَّابِقِ لِلْعَطِيَّةِ.
وَحَكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاء:
١].
[٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ [النِّسَاءَ: ٤] لِدَفْعِ تَوَهُّمِ إِيجَابِ أَنْ يُؤْتَى كُلُّ مَالٍ لِمَالِكِهِ مِنْ أَجْلِ تَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِإِتْيَانِ الْأَمْوَالِ مَالِكِيهَا مَرَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ [النِّسَاءَ: ٢، ٤]. أَوْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
233
وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ الْحَالِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا السَّفِيهُ مِنْ مَالِهِ، وَالْحَالِ الَّتِي يُؤْتَى فِيهَا مَالَهُ، وَقَدْ يُقَالُ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَدَّمَ هُنَالِكَ حُكْمُ مَنْعِ تَسْلِيمِ مَالِ الْيَتَامَى لِأَنَّهُ أَسْبَقُ فِي الْحُصُولِ، فَيَتَّجِهُ لِمُخَالَفَةِ هَذَا الْمُقْتَضَى أَنْ نَقُولَ قَدَّمَ حُكْمَ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَحْرَصُ عَلَى ضِدِّهِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَمْوَالِ لِلسُّفَهَاءِ لَاتَّخَذَهُ الظَّالِمُونَ حُجَّةً لَهُمْ، وَتَظَاهَرُوا بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَمْنَعُونَ الْأَيْتَامَ أَمْوَالَهُمْ خَشْيَةً مِنَ اسْتِمْرَارِ السَّفَهِ فِيهِمْ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْآنَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ وَالْمُقَدَّمِينَ غَيْرُ الْأَتْقِيَاءِ، إِذْ يَتَصَدَّوْنَ لِلْمُعَارَضَةِ فِي بَيِّنَاتِ ثُبُوتِ الرُّشْدِ لِمُجَرَّدِ الشَّغَبِ وَإِمْلَالِ الْمَحَاجِيرِ مِنْ طَلَبِ حُقُوقِهِمْ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ كَمِثْلِ الْخِطَابِ فِي وَآتُوا الْيَتامى وَآتُوا النِّساءَ هُوَ لِعُمُومِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [الْحَج: ١] لِيَأْخُذَ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْحُكْمِ حَظَّهُ مِنَ الِامْتِثَالِ.
والسفهاء يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْيَتَامَى، لِأَنَّ الصِّغَرَ هُوَ حَالَةُ السَّفَهِ الْغَالِبَةِ، فَيَكُونُ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيتَاءِ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْإِيتَاءِ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ، وَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْيَتَامَى إِلَى التَّعْبِيرِ هُنَا بِالسُّفَهَاءِ لِبَيَانِ عِلَّةِ الْمَنْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ مَنْ ثَبَتَ لَهُ السَّفَهُ، سَوَاءً كَانَ عَنْ صِغَرٍ أَمْ عَنِ اخْتِلَالِ تَصَرُّفٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ تَعَرَّضَتْ لِلْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ الْكَبِيرِ اسْتِطْرَادًا لِلْمُنَاسَبَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ مَعْنًى وَأَوْسَعُ تَشْرِيعًا. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعَانِي السَّفَهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٠].
وَالْمُرَادُ بِالْأَمْوَالِ أَمْوَالُ الْمَحَاجِيرِ الْمَمْلُوكَةُ لَهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ
فِيها
وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) إِشَارَةً بَدِيعَةً إِلَى أَنَّ الْمَالَ الرَّائِجَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ حَقٌّ لِمَالِكِيهِ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ تَلُوحُ فِيهِ حُقُوق الْأمة جَمْعَاءَ لِأَنَّ فِي حُصُولِهِ مَنْفَعَةً لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا، لِأَنَّ مَا فِي أَيْدِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا مِنَ الثَّرْوَةِ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ بِالصَّالِحَةِ، فَمِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ يُنْفِقُ أَرْبَابُهَا وَيَسْتَأْجِرُونَ وَيَشْتَرُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ثُمَّ تُورَثُ عَنْهُمْ إِذَا مَاتُوا فَيَنْتَقِلُ الْمَالُ بِذَلِكَ مِنْ يَدٍ إِلَى غَيْرِهَا فَيَنْتَفِعُ الْعَاجِزُ وَالْعَامِلُ وَالتَّاجِرُ وَالْفَقِيرُ وَذُو الْكَفَافِ، وَمَتَى قَلَّتِ الْأَمْوَالُ
234
مِنْ أَيْدِي النَّاسِ تَقَارَبُوا فِي الْحَاجَةِ وَالْخَصَاصَةِ، فَأَصْبَحُوا فِي ضَنْكٍ وَبُؤْسٍ، وَاحْتَاجُوا إِلَى قَبِيلَةٍ أَوْ أُمَّةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ ابْتِزَازِ عِزِّهِمْ، وَامْتِلَاكِ بِلَادِهِمْ، وَتَصْيِيرِ مَنَافِعِهِمْ لِخِدْمَةِ غَيْرِهِمْ، فَلِأَجْلِ هَاتِهِ الْحِكْمَةِ أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْوَالَ إِلَى جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَكُونَ لَهُمُ الْحَقُّ فِي إِقَامَةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْفَظُ الْأَمْوَالَ وَالثَّرْوَةَ الْعَامَّةَ.
وَهَذِهِ إِشَارَةٌ لَا أَحْسَبُ أَنَّ حَكِيمًا مِنْ حُكَمَاءِ الِاقْتِصَادِ سَبَقَ الْقُرْآنَ إِلَى بَيَانِهَا. وَقَدْ أَبْعَدَ جَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ فِي يَدِ الْأَوْلِيَاءِ، وَجَعَلُوا الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ خَاصَّةً. وَجَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِلْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مِنْ نَوْعِ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمْوَالُهُمْ حَقِيقَةً، وَإِلَيْهِ مَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَجَمَاعَةٌ جَعَلُوا الْإِضَافَةَ لِأَنَّ السُّفَهَاءَ مِنْ نَوْعِ الْمُخَاطَبِينَ فَكَأَنَّ أَمْوَالَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَإِلَيْهِ مَالَ فَخْرُ الدِّينِ. وقارب ابْن الْعَرَب إِذْ قَالَ: «لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ تَنْتَقِلُ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ وَتَخْرُجُ مِنْ مِلْكٍ إِلَى مِلْكٍ» وَبِمَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْبَيَانِ كَانَ لِكَلِمَتِهِ هَذِهِ شَأْنٌ. وَأَبْعَدَ فَرِيقٌ آخَرُونَ فَجَعَلُوا الْإِضَافَةَ حَقِيقِيَّةٌ أَيْ لَا تُؤْتُوا- يَا أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ- أَمْوَالَكُمْ لِمَنْ يُضَيِّعُهَا مِنْ أَوْلَادِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، وَهَذَا أَبْعَدُ الْوُجُوهِ، وَلَا إِخَالُ الْحَامِلَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا الْحَيْرَةَ فِي وَجه الْجمع بَيْنَ كَوْنِ الْمَمْنُوعِينَ مِنَ الْأَمْوَالِ السُّفَهَاءِ، وَبَيْنَ إِضَافَةِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِنَّمَا وَصَفْتُهُ بِالْبُعْدِ لِأَنَّ قَائِلَهُ جَعَلَهُ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ وَلَوْ جَعَلَهُ وَجْهًا جَائِزًا يَقُومُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ.
وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَمْوَالِ صِفَةٌ تَزِيدُ إِضَافَتُهَا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وُضُوحًا وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً فَجَاءَ فِي الصِّفَةِ بِمَوْصُولٍ إِيمَاءً إِلَى تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَإِيضَاحًا لِمَعْنَى الْإِضَافَة، فإنّ (قِياماً) مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ بِمَعْنَى فِعَالٍ: مِثْلُ عِوَذٍ بِمَعْنَى عِيَاذٍ، وَهُوَ مِنَ الْوَاوِيِّ وَقِيَاسُهُ قِوَمٌ، إِلَّا أَنَّهُ أُعِلَّ بِالْيَاءِ شُذُوذًا كَمَا شَذَّ جِيَادٌ فِي جَمْعِ جَوَادٍ وَكَمَا شَذَّ طِيَالٌ فِي لُغَةِ ضَبَّةَ فِي جَمْعِ طَوِيلٍ، قَصَدُوا قَلْبَ الْوَاوِ أَلِفًا بَعْدَ الْكَسْرَةِ كَمَا فَعَلُوهُ فِي قِيَامٍ وَنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي وَزْنِ فِعَالٍ مُطَّرِدٌ، وَفِي غَيْرِهِ شَاذٌّ لِكَثْرَةِ فِعَالٍ فِي الْمَصَادِرِ، وَقِلَّةِ
فِعَلٍ فِيهَا، وَقِيَمٌ مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ. كَذَا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: «قِيَمًا» بِوَزْنِ فِعَلٍ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ «قِيَامًا»، وَالْقِيَامُ مَا بِهِ يُتَقَوَّمُ الْمَعَاشُ وَهُوَ وَاوِيٌّ أَيْضًا
235
وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأَمْوَالِ بِهِ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ قَوْلِ الْخَنْسَاءِ:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَقْوِيمٌ عَظِيمٌ لِأَحْوَالِ النَّاسِ. وَقِيلَ: قِيَمًا جَمْعُ قِيمَةٍ أَيِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ قِيَمًا أَيْ أَثْمَانًا لِلْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِيذَانٌ بِالْمَعْنَى الْجَلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ أَيْ لَا تُؤْتُوهُمُ الْأَمْوَالَ إِيتَاءَ تَصَرُّفٍ مُطْلَقٍ، وَلَكِنْ آتَوْهُمْ إِيَّاهَا بِمِقْدَارِ انْتِفَاعِهِمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا: تُسَلَّمُ لِلْمَحْجُورِ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ إِذَا أَمِنَ عَلَيْهَا بِحَسَبِ حَالِهِ وَمَالِهِ، وَعَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ ارْزُقُوهُمْ واكْسُوهُمْ بِ (مِنْ) إِلَى تَعْدِيَتِهَا بِ (فِي) الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ، حِينَ لَا يَقْصِدُ التَّبْعِيضَ الْمُوهِمَ لِلْإِنْقَاصِ مِنْ ذَاتِ الشَّيْءِ، بَلْ يُرَادُ أَنَّ فِي جُمْلَةِ الشَّيْءِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْفِعْلُ: تَارَةً مِنْ عَيْنِهِ، وَتَارَةً مِنْ ثَمَنِهِ، وَتَارَةً مِنْ نِتَاجِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ مُكَرَّرًا مُسْتَمِرًّا. وَانْظُرْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:
نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ
يُرِيدُ الْإِبِلَ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ فِي دِيَةِ قَتِيلٍ مِنْهُمْ، أَيْ نَشْرَبُ بِأَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ، فَإِمَّا شَرِبْنَا بِجَمِيعِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا أَوْ نَسْتَرْجِعُ مِنْهَا فِي الْقِمَارِ، وَهَذَا مَعْنًى بَدِيعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا، فَأَهْمَلَ مُعْظَمُهُمُ التَّنْبِيهَ عَلَى وَجْهِ الْعُدُولِ إِلَى (فِي)، وَاهْتَدَى إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بَعْضَ الِاهْتِدَاءِ فَقَالَ: أَيِ اجْعَلُوهَا مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ تَتَّجِرُوا فِيهَا وَتَتَرَبَّحُوا حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الرِّبْحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ. فَقَوْلُهُ: «لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ» مُسْتَدْرَكٌ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَاقْتَضَى نَهْيًا عَنِ الْإِنْفَاقِ مَنْ صُلْبِ الْمَالِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً لِيَسْلَمَ إِعْطَاؤُهُمُ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ مِنَ الْأَذَى، فَإِنَّ شَأْنَ مَنْ يُخْرِجُ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ أَنْ يَسْتَثْقِلَ سَائِلَ الْمَالِ، وَذَلِكَ سَوَاءٌ فِي الْعَطَايَا الَّتِي مِنْ مَالِ الْمُعْطِي، وَالَّتِي مِنْ مَالِ الْمُعْطَى، وَلِأَنَّ جَانِبَ السَّفِيهِ مَلْمُوزٌ بِالْهَوْنِ،
236
لِقِلَّةِ تَدْبِيرِهِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَحْمِلُ وَلِيَّهُ عَلَى الْقَلَقِ مِنْ مُعَاشَرَةِ الْيَتِيمِ فَيُسْمِعُهُ مَا يَكْرَهُ مَعَ أَنَّ نُقْصَانَ عَقْلِهِ خَلَلٌ فِي الْخِلْقَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَمَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ السَّفِيهَ غَالِبًا يَسْتَنْكِرُ مَنْعَ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ وَاسِعِ الْمَطَالِبِ، فَقَدْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ، أَوْ يَصْدُرُ مِنْهُ كَلِمَاتٌ مَكْرُوهَةٌ لِوَلِيِّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ الْأَوْلِيَاءَ بِأَنْ لَا يَبْتَدِئُوا مَحَاجِيرَهُمْ بِسَيِّئِ الْكَلَامِ، وَلَا يُجِيبُوهُمْ بِمَا يَسُوءُ، بَلْ يَعِظُونَ
الْمَحَاجِيرَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ طُرُقَ الرَّشَادِ مَا اسْتَطَاعُوا، وَيُذَكِّرُونَهُمْ بِأَنَّ الْمَالَ مَالُهُمْ، وَحِفْظَهُ حِفْظٌ لِمَصَالِحِهِمْ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَهُوَ بَقَاءُ الْكَرَامَةِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ وَمَوَالِيهِمْ، وَرَجَاءُ انْتِفَاعِ الْمَوَالِي بِتِلْكَ الْمَوَاعِظِ فِي إِصْلَاحِ حَالِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونُوا كَمَا قَالَ:
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ
وَقَدْ شَمِلَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ كُلَّ قَوْلٍ لَهُ موقع فِي حَالَ مَقَالِهِ. وَخَرَجَ عَنْهُ كُلُّ قَوْلٍ مُنْكَرٍ لَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ وَلَا الْخُلُقُ بِمُصَادَفَتِهِ الْمَحَزَّ، فَالْمَعْرُوفُ قَدْ يَكُونُ مِمَّا يَكْرَهُهُ السَّفِيهُ إِذَا كَانَ فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِهِ.
[٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ وَابْتَلُوا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النِّسَاء: ٥] لِتَنْزِيلِهَا مِنْهَا مَنْزِلَةَ الْغَايَةِ لِلنَّهْيِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ السُّفَهَاءِ هُنَالِكَ خُصُوصَ الْيَتَامَى فَيَتَّجِهُ أَن يُقَال: لماذَا عُدِلَ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَعَنِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ الْمُسَاوِي لِلْأَوَّلِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِآخَرَ أَخَصَّ وَهُوَ الْيَتَامَى، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ، وَأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ إِعَادَةِ لَفْظِ السُّفَهَاءِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ فِي حَالَةِ الِابْتِلَاءِ مَرْجُوٌّ كَمَالُ عُقُولِهِمْ، وَمُتَفَاءَلٌ بِزَوَالِ السَّفَاهَةِ عَنْهُمْ، لِئَلَّا يَلُوحَ شِبْهُ تَنَاقُضٍ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِالسَّفَهِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ السُّفَهَاءِ هُنَالِكَ أَعَمَّ مِنَ الْيَتَامَى، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَيُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ حُكْمِ الِابْتِلَاءِ وَالِاسْتِينَاسِ بِالْيَتَامَى دُونَ السُّفَهَاءِ؟ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي يُرْجَى
237
فِيهِ تغيّر الْحَالِ، وَهُوَ مُرَاهَقَةُ الْبُلُوغِ، حِينَ يُرْجَى كَمَالُ الْعَقْلِ وَالتَّنَقُّلُ مِنْ حَالِ الضَّعْفِ إِلَى حَالِ الرُّشْدِ، أَمَّا مَنْ كَانَ سَفَهُهُ فِي حِينِ الْكِبَرِ فَلَا يُعْرَفُ وَقْتٌ هُوَ مَظِنَّةٌ لِانْتِقَالِ حَالِهِ وَابْتِلَائِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَابْتَلُوا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء:
٢] لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِيتَاءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَعَلَيْهِ فَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ: الْيَتامى لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَعَادِ وَالضَّمِيرِ، لَوْ عَبَّرَ بِالضَّمِيرِ.
وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِلْغَايَةِ، لِأَنَّ إِفَادَتَهَا الْغَايَةَ بِالْوَضْعِ، وَكَوْنَهَا ابْتِدَائِيَّةً أَوْ جَارَّةً اسْتِعْمَالَاتٌ بِحَسَبِ مَدْخُولِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٢]. وَ (إِذا) ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجُمْهُورُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ (حَتَّى) الدَّاخِلَةِ عَلَى (إِذا) ابْتِدَائِيَّةٌ لَا جَارَّةٌ.
وَالْمَعْنَى: ابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى وَقَتِ إِنْ بَلَغُوا النِّكَاحَ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَهِي عِنْدَهُ الِابْتِلَاءُ، وَحَيْثُ عُلِمَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ لِأَجْلِ تَسْلِيمِ الْمَالِ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُرَادٌ مِنْهُ لَازِمُهُ وَأَثَرُهُ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الْأَمْوَالِ. وَسَيُصَرَّحُ بِذَلِكَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الثَّانِي.
وَالِابْتِلَاءُ هُنَا: هُوَ اخْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْيَتِيمِ فِي الْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُدْفَعُ لِلْيَتِيمِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِجْحَافٍ، وَيَرُدُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الدَّارِ شَهْرًا كَامِلًا، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا يُفَوَّضُ إِلَيْهَا مَا يُفَوَّضُ لِرَبَّةِ الْمَنْزِلِ، وَضَبْطِ أُمُورِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْجَيِّدِ مِنَ الرَّدِيءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْأَزْمَانِ وَالْبُيُوتِ. وَزَادَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاخْتِبَارَ فِي الدِّينِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ شَرْطٍ إِذْ مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ هُنَا حِفْظُ الْمَالِ، وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ آثَارِ كُلِّيَّةِ حِفْظِ الدِّينِ.
وَبُلُوغُ النِّكَاحِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ بُلُوغُ وَقْتِ النِّكَاحِ أَيِ التَّزَوُّجِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ حَالَةِ الصِّبَا لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِلْبُلُوغِ عَلَامَاتٌ مَعْرُوفَةٌ، عُبِّرَ عَنْهَا فِي الْآيَةِ بِبُلُوغِ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ التَّبْكِيرِ بتزويج الْبِنْت عَن
238
الْبُلُوغِ. وَمِنْ طَلَبِ الرَّجُلِ الزَّوَاجَ عِنْدَ بُلُوغِهِ، وَبُلُوغِ صَلَاحِيَّةِ الزَّوَاجِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَبِاخْتِلَافِ أَمْزِجَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْمِزَاجِ الدَّمَوِيِّ وَالْمِزَاجِ الصَّفْرَاوِيِّ، فَلِذَلِكَ أَحَالَهُ الْقُرْآنُ عَلَى بُلُوغِ أَمَدِ النِّكَاحِ، وَالْغَالِبُ فِي بُلُوغِ الْبِنْتِ أَنَّهُ أَسْبَقُ مِنْ بُلُوغِ الذَّكَرِ، فَإِنْ تَخَلَّفَتْ عَنْ وَقْتِ مَظِنَّتِهَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُسْتَدَلُّ بِالسِّنِّ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَقْصَى الْبُلُوغِ عَادَةً، فَقَالَ مَالِكٌ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ: هُوَ ثَمَانُ عَشْرَةَ سَنَةً لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الذُّكُورِ، وَقَالَ: فِي الْجَارِي سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَوَى غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِلذُّكُورِ وَسَبْعَ عَشْرَةَ لِلْبَنَاتِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمَاجِشُونَ، وَبِهِ قَالَ أَصْبَغُ، وَابْنُ وَهْبٍ، مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَرَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ
ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ، وَعَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَهُ. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بُلُوغُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هُوَ مِعْيَارُ بُلُوغِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَصَادَفَ أَنْ رَآهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ مَلَامِحُ الرِّجَالِ، فَأَجَازَهُ، وَلَيْسَ ذِكْرُ السِّنِّ فِي كَلَامٍ ابْنِ عُمَرَ إِيمَاءً إِلَى ضَبْطِ الْإِجَازَةِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، فَتَعَجَّبْ مِنْ ترك هَؤُلَاءِ الأئمّة تَحْدِيدَ سِنِّ الْبُلُوغِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَشَدُّ مِنْ عَجَبِهِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ ابْنِ عُمَرَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي قَضَايَا الْأَعْيَانِ مَعْلُومٌ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا اسْتَكْمَلَ الْوَلَدُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كَتَبَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ
. وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَنْبَغِي الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.
وَوَقْتُ الِابْتِلَاءِ يَكُونُ بَعْدَ التَّمْيِيزِ لَا مَحَالَةَ، وَقَبْلَ الْبُلُوغِ: قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمَالِ لِلْإِضَاعَةِ لِأَنَّ عَقْلَ الْيَتِيمِ غَيْرُ كَامِلٍ، وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الِابْتِلَاءُ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَعُبِّرَ عَنِ اسْتِكْمَالِ
239
قُوَّةِ النَّمَاءِ الطَّبِيعِيِّ بِ بَلَغُوا النِّكاحَ، فَأُسْنِدَ الْبُلُوغُ إِلَى ذَوَاتِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ يَدْعُو الرَّجُلَ لِلتَّزَوُّجِ وَيَدْعُو أَوْلِيَاءَ الْبِنْتِ لِتَزْوِيجِهَا، فَهُوَ الْبُلُوغُ الْمُتَعَارَفُ الَّذِي لَا مُتَأَخَّرَ بَعْدَهُ، فَلَا يُشْكَلُ بِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يُزَوِّجُونَ بَنَاتِهُمْ قَبْلَ سِنِّ الْبُلُوغِ، وَأَبْنَاءَهُمْ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَعَجُّلٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لِأَغْرَاضٍ عَارِضَةٍ، وَلَيْسَ بُلُوغًا مِنَ الْأَبْنَاءِ أَوِ الْبَنَاتِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً شَرْطٌ ثَانٍ مُقَيِّدٌ لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ إِذا بَلَغُوا. وَهُوَ وَجَوَابُهُ جَوَابُ (إِذا)، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْفَاءِ لِيَكُونَ نَصًّا فِي الْجَوَابِ، وَتَكُونَ (إِذا) نَصًّا فِي الشَّرْطِ، فَإِنَّ جَوَابَ (إِذا) مُسْتَغْنٍ عَنِ الرَّبْطِ بِالْفَاءِ لَوْلَا قَصْدُ التَّنْصِيصِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ.
وَجَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ انْتِهَاءَ الْحَجْرِ إِلَى الْبُلُوغِ بِالْأَصَالَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْرَفَ مِنَ الْمَحْجُورِ الرُّشْدُ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَطْعٌ لِمَعَاذِيرِ الْأَوْصِيَاءِ مِنْ أَنْ يُمْسِكُوا أَمْوَالَ مَحَاجِيرِهِمْ عِنْدَهُمْ مُدَّةً لِزِيَادَةِ التَّمَتُّعِ بِهَا.
وَيَتَحَصَّلُ مِنْ مَعْنَى اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ فِي الْكَلَامِ هُنَا، إِذْ كَانَ بِدُونِ عَطْفٍ ظَاهِرٍ أَوْ مُقَدَّرٍ بِالْقَرِينَةِ، أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا سَبَبٌ لِتَسْلِيمِ الْمَالِ إِلَى الْمَحْجُورِ، فَلَا يَكْفِي حُصُولُ أَحَدِهِمَا وَلَا نَظَرَ إِلَى الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً، وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي كُلِّ جُمْلَةِ شَرْطٍ بُنِيَتْ عَلَى جُمْلَةِ شَرْطٍ آخَرَ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُمَا إِلَّا عَلَى لُزُومِ حُصُولِ الْأَمْرَيْنِ فِي مَشْرُوطٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَرْتِيبَ
الشَّرْطَيْنِ يُفِيدُ كَوْنَ الثَّانِي مِنْهُمَا فِي الذِّكْرِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْحُصُولِ. وَنَسَبَهُ الزَّجَّاجِيُّ فِي كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» إِلَى ثَعْلَبٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَقَالَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْبَغَوِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَرْتِيبَ الشَّرْطَيْنِ فِي الْحُصُولِ يَكُونُ عَلَى نَحْوِ تَرْتِيبِهِمَا فِي اللَّفْظِ، وَنَسَبَهُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَفَّالِ، وَالْقَاضِي الْحُسَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ فِي «الْوَجِيزِ»، وَالْإِمَامِ الرَّازِّيِّ فِي «النِّهَايَةِ»، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا فِي تَعْلِيقِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْإِيمَانِ، وَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُهَا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَلَا يَظْهَرُ أَثَرٌ لِلْخِلَافِ
240
فِي الْإِخْبَارِ وَإِنْشَاءِ الْأَحْكَامِ، كَمَا هُنَا، وَإِنَّمَا قَدْ يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي إِنْشَاءِ التَّعَالِيقِ فِي الْأَيْمَانِ، وَأَيْمَانُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا يَرَوْنَ لِذَلِكَ تَأْثِيرًا. وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ جَعْلُ الشَّرْطَيْنِ شَرْطًا فِي الْجَوَابِ، وَذَلِكَ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَلَوْ تَقْدِيرًا، فَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ جَعْلُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ الثَّانِي وَجَوَابُهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ، سَوَاءً ارْتَبَطَتْ بِالْفَاءِ- كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ- أَمْ لَمْ تَرْتَبِطْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:
٣٤]. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطَانِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا جَوَابٌ مُسْتَقِلٌّ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها [الْأَحْزَاب: ٥٠]. فَقَوْلُهُ: إِنْ وَهَبَتْ شَرْطٌ فِي إِحْلَالِ امْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَهُ، وَقَوْلُهُ: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ هِبَةَ الْمَرْأَة نَفسهَا للنَّبِي تُعَيِّنُ عَلَيْهِ تَزَوُّجَهَا، فَتَقْدِيرُ جَوَابِهِ: إِنْ أَرَادَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَا شَرْطَيْنِ لِلْإِحْلَالِ لِظُهُورِ أَنَّ إِحْلَالَ الْمَرْأَةِ لَا سَبَبَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَّا أَنَّهَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا.
وَفِي كِلْتَا حَالَتَيِ الشَّرْطِ الْوَارِدِ عَلَى شَرْطٍ يَجْعَلُ جَوَابَ أَحَدِهِمَا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، أَوْ جَوَابَ أَحَدِهِمَا جَوَابًا لِلْآخَرِ: عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْأَخْفَشِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تَعَدُّدِ الشُّرُوطِ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: «إِنْ دَخَلْتَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنْ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْتَ آمِنٌ» وَفِي نَحْوِ قَوْلِكَ: «إِنْ صَلَّيْتَ إِنْ صُمْتَ أُثِبْتَ» مِنْ كُلِّ تَرْكِيبٍ لَا تَظْهَرُ فِيهِ مُلَازَمَةٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ، حَتَّى يَصِيرَ أَحَدُهُمَا شَرْطًا فِي الْآخَرِ.
هَذَا تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي أَطَالَ فِيهِ كثير وَخَصَّهَا تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ بِرِسَالَةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ سَأَلَ عَنْهَا الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ الشَّيْخَ ابْنَ الْحَاجِبِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ كِتَابِ «الْوَفَيَاتِ»، وَلم يفصّلها، وفصّلها، الدَّمَامِينِيُّ فِي «حَاشِيَةِ مُغْنِي اللَّبِيبِ».
وَإِينَاسُ الرُّشْدِ هُنَا عِلْمُهُ، وَأَصْلُ الْإِينَاسِ رُؤْيَةُ الْإِنْسِيِّ أَيِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى أَوَّلِ مَا يُتَبَادَرُ مِنَ الْعِلْمِ، سَوَاءٌ فِي الْمُبْصَرَاتِ، نَحْوَ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارا [الْقَصَص: ٢٩] أَمْ فِي الْمَسْمُوعَاتِ، نَحْوَ قَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ فِي بَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ:
241
آنَسَتْ نبأة وأفزعها الْقِنّـ ـاص عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ
وَكَأَنَّ اخْتِيَارَ آنَسْتُمْ هُنَا دُونَ عَلِمْتُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ أَوَّلُ الْعِلْمِ بِرُشْدِهِمْ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مَالُهُمْ دُونَ تَرَاخٍ وَلَا مَطْلٍ.
وَالرُّشْدُ- بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَتُفْتَحُ الرَّاءُ فَيُفْتَحُ الشِّينُ، وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ وَهُوَ انْتِظَامُ تَصَرُّفِ الْعَقْلِ، وَصُدُورِ الْأَفْعَالِ عَنْ ذَلِكَ بِانْتِظَامٍ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا حِفْظُ الْمَالِ وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ابْتَلُوا الْيَتامى.
وَالْمُخَاطَبُ فِي الْآيَةِ الْأَوْصِيَاءُ، فَيَكُونُ مُقْتَضَى الْآيَةِ أَنَّ الْأَوْصِيَاءَ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ حُكْمًا، فَقَالُوا: يَتَوَلَّى الْوَصِيُّ دَفْعَ مَال مَحْجُوره عِنْد مَا يَأْنَسُ مِنْهُ الرُّشْدَ، فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى تَرْشِيدَ مَحْجُورِهِ بِتَسْلِيم مَاله إِلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: مَنْ أَقَامَهُ الْأَبُ وَالْقَاضِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِتَرْشِيدِ الْمَحْجُورِ إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ لِفَسَادِ النَّاسِ الْيَوْمَ وَعَدَمِ أَمْنِهِمْ أَنْ يَتَوَاطَئُوا مَعَ الْمَحَاجِيرِ لِيُرْشِدُوهُمْ فيسمحوا لَهُم بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ فِي أَوْصِيَاءِ زَمَانِنَا أَنْ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ رَفْعِهِمْ إِلَى السُّلْطَانِ وَثُبُوتِ الرُّشْدِ عِنْدَهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَوَاطُؤِ الْأَوْصِيَاءِ عَلَى أَنْ يُرْشِدَ الوصيّ مَحْجُوره ويبرىء الْمَحْجُورُ الْوَصِيَّ لِسَفَهِهِ وَقِلَّةِ تَحْصِيلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. إِلَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَلَكِنِ اسْتَحْسَنَ الْمُوَثَّقُونَ الْإِشْهَادَ بِثُبُوتِ رُشْدِ الْمَحْجُورِ الْمُوصَى عَلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ لِلِاحْتِيَاطِ، أَمَّا وَصِيُّ الْقَاضِي فَاخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُرَشِّدُ مَحْجُورَهُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ لَدَى الْقَاضِي، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْخِطَابَ فِي مِثْلِهِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَيَتَوَلَّى تَنْفِيذَهُ مَنْ إِلَيْهِ تَنْفِيذُ ذَلِكَ الْبَابِ مِنَ الْوُلَاةِ، كَشَأْنِ خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ الْوَارِدَةِ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي إِلَيْهِ تَنْفِيذُ أُمُورِ الْمَحَاجِيرِ وَالْأَوْصِيَاءِ هُوَ الْقَاضِي، وَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ بِلَا كُلْفَةٍ.
وَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي تَقَدُّمِ الِابْتِلَاءِ وَالِاسْتِينَاسِ عَلَى الْبُلُوغِ لِمَكَانٍ (حَتَّى) الْمُؤْذِنَةِ بِالِانْتِهَاءِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ لِلْمَحْجُورِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ لِلِابْتِلَاءِ إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ.
242
وَالْآيَةُ أَيْضًا صَرِيحَةٌ فِي أنّه إِذا لَمْ يَحْصُلِ الشَّرْطَانِ مَعًا: الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، لَا يُدْفَعُ الْمَالُ لِلْمَحْجُورِ. وَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا بَعْدَ بُلُوغِهِ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ: يُنْتَظَرُ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ أُطْلِقَ مِنَ الْحَجْرِ. وَهَذَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الشَّرْطِ، وَهُوَ أَيْضًا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ إِذْ لَيْسَ الْحَجْرُ إِلَّا لِأَجْلِ السَّفَهِ وَسُوءِ التَّصَرُّفِ فَأَيُّ أَثَرٍ لِلْبُلُوغِ لَوْلَا أَنَّهُ مَظِنَّةُ الرُّشْدِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَ الْبُلُوغِ فَمَا أَثَرُ سَبْعِ السِّنِينَ فِي تَمَامِ رُشْدِهِ.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ بِحُكْمِ الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ السَّفَهُ وَهُوَ بَالِغٌ أَوِ اخْتَلَّ عَقْلُهُ لِأَجْلِ مَرَضٍ فِي فِكْرِهِ، أَوْ لِأَجَلِ خَرَفٍ مِنْ شِدَّةِ الْكِبَرِ، أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِذْ عِلَّةُ التَّحْجِيرِ ثَابِتَةٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ: لَا حَجْرَ عَلَى بَالِغٍ.
وَحُكْمُ الْآيَةِ شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاث بطرِيق التغليب: فَالْأُنْثَى الْيَتِيمَةُ إِذَا بَلَغَتْ رَشِيدَةً دُفِعَ مَالُهَا إِلَيْهَا.
وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُشْداً تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ إِرَادَةُ نَوْعِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ الْمَوَاهِي الْعَقْلِيَّةَ مُتَّحِدَةٌ لَا أَفْرَادَ لَهَا، وَإِنَّمَا أَفْرَادُهَا اعْتِبَارِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمَحَالِّ أَوْ تَعَدُّدِ الْمُتَعَلَّقَاتِ، فَرُشْدُ زَيْدٍ غَيْرُ رُشْدِ عَمْرٍو، وَالرُّشْدُ فِي الْمَالِ غَيْرُ الرُّشْدِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: ٩٧]، وَقَالَ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: ٨٧]. وَمَاهِيَّةُ الرُّشْدِ هِيَ انْتِظَامُ الْفِكْرِ وَصُدُورُ الْأَفْعَالِ عَلَى نَحْوِهِ بِانْتِظَامٍ، وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الرُّشْدُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ، فَالْمُرَادُ مِنَ النَّوْعِيَّةِ نَحْوَ الْمُرَادِ مِنَ الْجِنْسِ، وَلِذَلِكَ سَاوَى الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ النَّكِرَةِ، فَمِنَ الْعَجَائِبِ تَوَهُّمُ الْجَصَّاصِ أَنَّ فِي تَنْكِيرِ (رُشْداً) دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ حُسْنِ التَّصَرُّفِ وَاكْتِفَائِهِ بِالْبُلُوغِ، بِدَعْوَى أَنَّ اللَّهَ شَرَطَ رُشْدًا مَا وَهُوَ صَادِقٌ بِالْعَقْلِ إِذِ الْعَقْلُ رُشْدٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الرُّشْدَ كُلَّهُ. وَهَذَا ضَعْفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْعُمُومُ فِي الْمَوَاهِي الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا أَفْرَادَ لَهَا. وَقَدْ أُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ الْيَتَامَى: لِأَنَّهَا قَوِيَ اختصاصها بهم عِنْد مَا صَارُوا رُشَدَاءَ فَصَارَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا لَا يُخَافُ مِنْهُ إِضَاعَةُ مَا لِلْقَرَابَةِ وَلِعُمُومِ الْأُمَّةِ مِنَ الْحَقِّ فِي الْأَمْوَالِ.
243
وَقَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً عُطِفَ عَلَى وَابْتَلُوا الْيَتامى بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً إِلَخْ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى
الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢] وَتَفْضِيحٌ لِحِيلَةٍ كَانُوا يَحْتَالُونَهَا قَبْلَ بُلُوغِ الْيَتَامَى أَشُدَّهُمْ: وَهِيَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْأَوْلِيَاءُ اسْتِهْلَاكَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى قَبْلَ أَنْ يَتَهَيَّئُوا لِمُطَالَبَتِهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ، فَيَأْكُلُوهَا بِالْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ فِي وَقْتِ النُّزُولِ كَانَتْ أَعْيَانًا مِنْ أَنْعَامٍ وَتَمْرٍ وَحَبٍّ وَأَصْوَافٍ فَلَمْ يَكُنْ شَأْنُهَا مِمَّا يُكْتَمُ وَيُخْتَزَنُ، وَلَا مِمَّا يَعْسُرُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ كَالْعَقَارِ، فَكَانَ أَكْلُهَا هُوَ اسْتِهْلَاكُهَا فِي مَنَافِعِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَهْلِيهِمْ، فَإِذَا وَجَدَ الْوَلِيُّ مَالَ مَحْجُورِهِ جَشَعَ إِلَى أَكْلِهِ بِالتَّوَسُّعِ فِي نَفَقَاتِهِ وَلِبَاسِهِ وَمَرَاكِبِهِ وَإِكْرَامِ سُمَرَائِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يُنْفِقُ فِيهِ مَالَ نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِسْرَافِ، فَإِنَّ الْإِسْرَافَ الْإِفْرَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ والتوسّع فِي شؤون اللَّذَّاتِ.
وَانْتَصَبَ (إِسْرافاً) عَلَى الْحَالِ: أَوْ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَأَيًّا مَا كَانَ، فَلَيْسَ الْقَصْدُ تَقْيِيدَ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ بِذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ تَشْوِيهُ حَالَةِ الْأَكْلِ.
وَالْبِدَارُ مَصْدَرُ بَادَرَهُ، وَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبَدْرِ، وَهُوَ الْعَجَلَةُ إِلَى الشَّيْءِ، بَدَرَهُ عَجِلَهُ، وَبَادَرَهُ عَاجَلَهُ، وَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا قُصِدَ مِنْهَا تَمْثِيلُ هَيْئَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي إِسْرَافِهِمْ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ مَحَاجِيرِهِمْ عِنْدَ مُشَارَفَتِهِمُ الْبُلُوغَ، وَتَوَقُّعِ الْأَوْلِيَاءِ سُرْعَةَ إِبَّانِهِ، بِحَالِ مَنْ يَبْدُرُ غَيْرَهُ إِلَى غَايَةٍ وَالْآخَرُ يَبْدُرُ إِلَيْهَا فَهُمَا يَتَبَادَرَانِهَا، كَأَنَّ الْمَحْجُورَ يُسْرِعُ إِلَى الْبُلُوغِ لِيَأْخُذَ مَالَهُ، وَالْوَصِيَّ يُسْرِعُ إِلَى أَكْلِهِ لِكَيْلَا يَجِدُ الْيَتِيمُ مَا يَأْخُذُ مِنْهُ، فَيَذْهَبُ يَدَّعِي عَلَيْهِ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَاتِ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْ إِثْبَاتِ حُقُوقِهِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْبَرُوا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِمَصْدَرِ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَكْبَرُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مُضَارِعُ كَبِرَ كَعَلِمَ إِذَا زَادَ فِي السِّنِّ، وَأَمَّا كَبُرَ- بِضَم الْمُوَحدَة- فَهُوَ إِذَا عَظُمَ فِي الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَبُرَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ- بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ- شَقَّ.
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
عُطِفَ عَلَى وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً إِلَخْ الْمُقَرَّرِ بِهِ قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢]
244
لِيَتَقَرَّرَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ. وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِلتَّرْخِيصِ فِي ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الْأَكْلِ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الْوَصِيُّ الْفَقِيرُ مِنْ مَالِ مَحْجُورِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِنْفَاقِ بَعْضِ مَالِ الْيَتِيمِ فِي مَصْلَحَتِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْطِ وَصِيَّهُ الْفَقِيرَ بِالْمَعْرُوفِ أَلْهَاهُ التَّدْبِيرُ لِقُوتِهِ عَنْ تَدْبِيرِ مَالِ مَحْجُورِهِ.
وَفِي لَفْظِ الْمَعْرُوفِ (حَوَالَةٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُ حَالَ الْوَصِيِّ وَيَتِيمِهِ بِحَسَبِ الْأَزْمَانِ
وَالْأَمَاكِنِ وَقَدْ أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ
حَدِيث أبي دَاوُود: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي فَقِيرٌ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ» قَالَ: «كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِف وَلَا مبادر وَلَا مُتَأَثِّلٍ»
. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَائِشَةَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَأْخُذُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْقَرْضِ لَا غَيْرَ. قَالَ عُمَرُ: «إِنِّي نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ مَنْزِلَةَ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنِ احْتَجْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ» وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: لَا قَضَاءَ عَلَى الْوَصِيِّ إِنْ أَيْسَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَشْرَبَ اللَّبَنَ وَيَأْكُلَ مِنَ الثَّمَرِ وَيَهْنَأَ الْجَرْبَى مِنْ إِبِلِهِ وَيَلُوطَ الْحَوْضَ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ اللَّهَ نَاطَ الْحُكْمَ بِالْفَقْرِ لَا بِالِاضْطِرَارِ، وَنَاطَهُ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَالِاضْطِرَارُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّسْلِيطِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ بَلْ عَلَى كُلِّ مَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يَأْخُذُ إِلَّا إِذَا سَافَرَ مِنْ أَجْلِ الْيَتِيمِ يَأْخُذُ قُوتَهُ فِي السَّفَرِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَصِيِّ الْحَاكِمِ هَلْ هُوَ مِثْلُ وَصِيِّ الْأَبِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْوَصِيِّ الْغَنِيِّ هَلْ يَأْخُذُ أَجْرَ مِثْلِهِ عَلَى عَمَلِهِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَعْفِفْ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ، فَمَنْ قَالَ لِلْوُجُوبِ قَالَ: لَا يَأْكُلُ الْغَنِيُّ شَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ مَنَعَهُ الِانْتِفَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ السَّلَفِ وَالشَّيْءِ الْقَلِيلِ، وَهُمْ جُمْهُور تقدّمت أَسْمَاءَهُم. وَقِيلَ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَجْرَ مِثْلِهِ جَازَ لَهُ إِذَا كَانَ لَهُ عَمَلٌ وَخِدْمَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَمَلُهُ مُجَرَّدَ التَّفَقُّدِ لِلْيَتِيمِ وَالْإِشْرَافِ عَلَيْهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ.
245
وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاء: ١٠] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
[الْبَقَرَة: ١٨٨] وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ سَلَكَ بِالْآيَةِ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ فَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْمُرَادُ فَمَنْ كَانَ غَنِيًّا أَيْ مِنَ الْيَتَامَى، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا كَذَلِكَ، وَهِيَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتَامَى فَالْغَنِيُّ يُعْطَى كِفَايَتَهُ، وَالْفَقِيرُ يُعْطَى بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ فِعْلَ (اسْتَعْفَفَ:
يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِصَادِ وَالتَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ بِمَالِهِ وَلَا يَتَوَسَّعْ بِمَالِ مَحْجُورِهِ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَإِنَّهُ يُقَتِّرُ عَلَى نَفْسِهِ لِئَلَّا يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَالِ يَتِيمِهِ.
وَاسْتَحْسَنَهُ النَّحَّاسُ وَالْكِيَا الطَّبَرِيُّ (١) فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ.
فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً.
تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَهُوَ أَمر بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الدَّفْعِ، لِيَظْهَرَ جَلِيًّا مَا يُسَلِّمُهُ الْأَوْصِيَاءُ لِمَحَاجِيرِهِمْ، حَتَّى يُمْكِنَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ يَوْمًا مَا بِمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِمَّا تَخَلَّفَ عِنْدَ الْأَوْصِيَاءِ، وَفِيهِ بَرَاءَةٌ لِلْأَوْصِيَاءِ أَيْضًا مِنْ دَعَاوِي الْمَحَاجِيرِ مِنْ بَعْدُ. وَحَسْبُكَ بِهَذَا التشريع قعطا لِلْخُصُومَاتِ.
وَالْأَمْرُ هُنَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ، وَبِكُلٍّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُسَمَّ أَصْحَابُهَا: فَإِنْ لُوحِظَ مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِحَقِّ الْوَصِيِّ كَانَ الْإِشْهَادُ مَنْدُوبًا
_________
(١) هُوَ عَليّ بن عَليّ الطّبري- نِسْبَة إِلَى طبرستان كورة قرب الرّيّ- الملقب الكيا الطَّبَرِيّ وَيُقَال الكيا الهرّاسي- والكيا بِهَمْزَة مَكْسُورَة فِي أَوله فكاف مَكْسُورَة، مَعْنَاهُ الْكَبِير بلغَة الْفرس. والهراسي بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الرَّاء نِسْبَة إِلَى الهريسة إمّا إِلَى بيعهَا أَو صنعها. الشَّافِعِي ولد سنة ٤٥٠ وتوفّي فِي بَغْدَاد سنة ٥٠٤.
246
لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَإِنْ لُوحِظَ مَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ رفع التهارج وَقع الْخُصُومَاتِ، كَانَ الْإِشْهَادُ وَاجِبًا نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٨٢] وَلِلشَّرِيعَةِ اهْتِمَامٌ بِتَوْثِيقِ الْحُقُوقِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَمُ لنظام الْمُعَامَلَات. وأياما كَانَ فقد جعل الله الْوَصِيُّ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الدَّفْعِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: لَوْلَا أَنَّهُ يَضْمَنُ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمَحْجُورُ لَمْ يكن لِلْأَمْرِ بالتوثّق فَائِدَةٌ، وَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ قَوْلِ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّ الْفَخْرَ احْتَجَّ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ احْتِجَاجٌ وَاهٍ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِكَوْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ فِي تَرَتُّبِ حُكْمِ الضَّمَانِ، إِذِ الضَّمَانُ مِنْ آثَارِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَسَبَبُهُ هُوَ انْتِفَاءُ الْإِشْهَادِ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ فَمِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَأَثَرُهُمَا الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُصَدَّقٌ بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ عَدَّهُ أَمِينًا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رَأَى الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَحْمَلَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ. وَجَاءَ بِقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً تَذْيِيلًا لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا وَصِيَّاتٌ وَتَحْرِيضَاتٌ فَوَكَلَ
الْأَمْرَ فِيهَا إِلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْحَسِيبُ: الْمُحَاسِبُ. وَالْبَاءُ زَائِدَة للتوكيد.
[٧]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ جَارٍ مَجْرَى النَّتِيجَةِ لِحُكْمِ إِيتَاءِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَمَجْرَى الْمُقَدِّمَةِ لِأَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: ١١].
وَمُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ الْآيِ السَّابِقَةِ بِهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوا إِيثَارَ الْأَقْوِيَاءِ وَالْأَشِدَّاءِ بِالْأَمْوَالِ، وَحِرْمَانَ الضُّعَفَاءِ، وَإِبْقَاءَهُمْ عَالَةً عَلَى أَشِدَّائِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا فِي مَقَادَتِهِمْ، فَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ يَمْنَعُونَ عَنْ مَحَاجِيرِهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ أَكْبَرُ الْعَائِلَةِ يَحْرِمُ إِخْوَتَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَعَهُ فَكَانَ أُولَئِكَ لِضَعْفِهِمْ يَصْبِرُونَ عَلَى الْحِرْمَانِ، وَيَقْنَعُونَ بِالْعَيْشِ فِي ظِلَالِ أَقَارِبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ نَازَعُوهُمْ أَطْرَدُوهُمْ وَحَرَمُوهُمْ، فَصَارُوا عَالَةً عَلَى النَّاسِ.
وَأَخَصُّ النَّاسِ بِذَلِكَ النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ يَجِدْنَ ضَعْفًا مِنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَيَخْشَيْنَ عَارَ الضَّيْعَةِ،
247
وَيَتَّقِينَ انْحِرَافَ الْأزْوَاج، فيتّخذن رضى أَوْلِيَائِهِنَّ عُدَّةً لَهُنَّ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، أَمَرَ عَقِبَهُ بِأَمْرِهِمْ بِأَنْ يَجْعَلُوا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نَصِيبًا مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
فَإِيتَاءُ مَالِ الْيَتِيمِ تَحْقِيقٌ لِإِيصَالِ نَصِيبِهِ مِمَّا تَرَكَ لَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَتَوْرِيثُ الْقَرَابَةِ إِثْبَاتٌ لِنَصِيبِهِمْ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَذُكِرَ النِّسَاءُ هُنَاكَ تَمْهِيدًا لِشَرْعِ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى [النِّسَاء: ٨] فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ الْمِيرَاثَ، وَلَا يُنَاسِبُ إِيتَاءَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى.
وَلَا جَرَمَ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ شرائع الْإِسْلَام شرع الْمِيرَاث، فقد كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِعُظَمَاءِ الْقَبَائِلِ وَمَنْ تَلْحَقُهُمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ حُسْنُ الْأُحْدُوثَةِ، وَتَجْمَعُهُمْ بِهِمْ صِلَاتُ الْحِلْفِ أَوِ الِاعْتِزَازِ وَالْوِدِّ، وَكَانُوا إِذَا لَمْ يُوصُوا أَوْ تَرَكُوا بَعْضَ مَالِهِمْ بِلَا وَصِيَّةٍ يُصْرَفُ لِأَبْنَاءِ الْمَيِّتِ الذُّكُورِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُكُورٌ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّهُمْ يصرفونه إِلَى عصبته مِنْ أُخْوَةٍ وَأَبْنَاءِ عَمٍّ، وَلَا تُعْطَى بَنَاتُهُ شَيْئًا، أَمَّا الزَّوْجَاتُ فَكُنَّ مَوْرُوثَاتٍ لَا وَارِثَاتٍ.
وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ بِالْبُنُوَّةِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَبْنَاءُ ذُكُورًا، فَلَا مِيرَاثَ لِلنِّسَاءِ
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا يَرِثُ أَمْوَالَنَا مَنْ طَاعَنَ بِالرُّمْحِ، وَضَرَبَ بِالسَّيْفِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَبْنَاءُ الذُّكُورُ وَرِثَ أَقْرَبُ الْعُصْبَةِ: الْأَبُ ثُمَّ الْأَخُ ثُمَّ الْعَمُّ وَهَكَذَا، وَكَانُوا يُوَرِّثُونَ بِالتَّبَنِّي وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ ابْنَ غَيْرِهِ ابْنًا لَهُ فَتَنْعَقِدُ بَيْنَ الْمُتَبَنِّي جَمِيعُ أَحْكَامِ الْأُبُوَّةِ.
وَيُوَرِّثُونَ أَيْضًا بِالْحِلْفِ وَهُوَ أَنْ يَرْغَبَ رَجُلَانِ فِي الْخُلَّةِ بَيْنَهُمَا فَيَتَعَاقَدَا عَلَى أَنَّ دَمَهُمَا وَاحِدٌ وَيَتَوَارَثَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ لَمْ يَقَعْ فِي مَكَّةَ تَغْيِيرٌ لِأَحْكَامِ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِتَعَذُّرِ تَنْفِيذِ مَا يُخَالِفُ أَحْكَامَ سُكَّانِهَا، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ مُعْظَمُ أَقَارِبِ الْمُهَاجِرِينَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ صَارَ التَّوْرِيثُ: بِالْهِجْرَةِ، فَالْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْمُهَاجِرَ، وَبِالْحِلْفِ، وَبِالْمُعَاقَدَةِ، وَبِالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَاهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ
248
جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: ٣٣] الْآيَةَ مِنْ هَاتِهِ السُّورَةِ. وَشَرَعَ اللَّهُ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ تَوَالَدَ الْمُسْلِمُونَ وَلَحِقَ بِهِمْ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ مُؤْمِنِينَ، فَشَرَعَ اللَّهُ الْمِيرَاثَ بِالْقَرَابَةِ، وَجَعَلَ لِلنِّسَاءِ حُظُوظًا فِي ذَلِكَ فَأَتَمَّ الْكَلِمَةَ، وَأَسْبَغَ النِّعْمَةَ، وَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ حِكْمَةَ الْمِيرَاثِ صَرْفُ الْمَالِ إِلَى الْقَرَابَةِ بِالْوِلَادَةِ وَمَا دُونَهَا.
وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أَوَّلَ إِعْطَاءٍ لِحَقِّ الْإِرْثِ لِلنِّسَاءِ فِي الْعَرَبِ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْمُقَدِّمَةِ جَاءَتْ بِإِجْمَالِ الْحَقِّ وَالنَّصِيبِ فِي الْمِيرَاثِ وَتَلَاهُ تَفْصِيلُهُ، لِقَصْدِ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الْإِجْمَالِ حِكْمَةُ وُرُودِ الْأَحْكَامِ الْمُرَادِ نَسْخُهَا إِلَى أَثْقَلَ لِتَسْكُنَ النُّفُوسُ إِلَيْهَا بِالتَّدْرِيجِ.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ، فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُحَّةٍ (١) فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «إِنَّ زَوْجِي قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهَاتَانِ بِنْتَاهُ وَقَدِ اسْتَوْفَى عَمُّهُمَا مَالَهُمَا فَمَا تَرَى يَا رَسُول الله؟ فو اللَّهِ مَا تُنْكَحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ». فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ
وَفِيهَا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: ١١].
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «ادْعُ لِي الْمَرْأَةَ وصاحبها» فَقَالَ لعمتهما «أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَلَكَ»
. وَيُرْوَى: أَنَّ ابْنَيْ عَمِّهِ
سُوَيْدٌ وَعُرْفُطَةُ، وَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَتَادَةُ وَعُرْفُجَةُ،
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا الْعَمَّ أَوِ ابْنَيِ الْعَمِّ قَالَ، أَوْ قَالَا لَهُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نُعْطِي مَنْ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا وَلَا يَنْكَى عَدُوًّا» فَقَالَ «انْصَرِفْ أَوِ انْصَرِفَا، حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِيهِنَّ» فَنَزَلَتْ
آيَةُ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الْآيَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ أَرْسَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَلِيِّ الْبِنْتَيْنِ فَقَالَ: «لَا تُفَرِّقُ مِنْ مَالِ أَبِيهِمَا شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهُنَّ نَصِيبًا»
_________
(١) الكحّة بضمّ الْكَاف وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة لُغَة فِي القحة وَهِي الْخَالِصَة.
249
وَالنَّصِيبُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٣].
وَقَوْلُهُ: بَيَان ل مِمَّا تَرَكَ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ مَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَتَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ، حَتَّى لَا يَسْتَأْثِرَ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْطِي أَبْنَاءَهُ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ مَيْلِهِ كَمَا أَوْصَى نزار بن معّد بْنُ عَدْنَانَ لِأَبْنَائِهِ:
مُضَرَ، وَرَبِيعَةَ، وَإِيَادٍ، وَأَنْمَارٍ، فَجَعَلَ لِمُضَرَ الْحَمْرَاءَ كُلَّهَا، وَجَعَلَ لِرَبِيعَةَ الْفَرَسَ، وَجَعَلَ لِإِيَادٍ الْخَادِمَ، وَجَعَلَ لِأَنْمَارٍ الْحِمَارَ، وَوَكَلَهُمْ فِي إِلْحَاقِ بَقِيَّةِ مَالِهِ بِهَاتِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمَيِّ فِي نَجْرَانَ، فَانْصَرَفُوا إِلَيْهِ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الْمَثَلَ: إِنَّ الْعَصَا مِنَ الْعُصَيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: نَصِيباً مَفْرُوضاً حَالٌ مِنْ (نَصِيبٌ) فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ وَحَيْثُ أُرِيدَ بِنَصِيبٍ الْجِنْسُ جَاءَ الْحَالُ مِنْهُ مُفْرَدًا وَلَمْ يُرَاعَ تَعَدُّدُهُ، فَلَمْ يَقُلْ:
نَصِيبَيْنِ مَفْرُوضَيْنِ، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ نَصِيبَيْنِ، وَلَا قيل: أنصباء مَفْرُوضَةٌ، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ مُوَزَّعًا لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ، بَلْ روعي الْجِنْسُ فَجِيءَ بِالْحَالِ مُفْرَدًا ومَفْرُوضاً وَصْفٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَفْرُوضًا أَنَّهُ مُعَيَّنُ الْمِقْدَارِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١١]. وَهَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تشريع الْمَوَارِيث.
[٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] إِلَى آخِرِهَا. وَهَذَا أَمْرٌ بِعَطِيَّةٍ تُعْطَى مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ: أَمَرَ الْوَرَثَةَ أَنْ يُسْهِمُوا لِمَنْ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِمْ غَيْرِ الَّذِينَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْإِرْثِ، مِمَّنْ شَأْنُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا مَجَالِسَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ.
وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] وَقَوْلُهُ: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] يَقْتَضِيَانِ مَقْسُومًا، فَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْقِسْمَةَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ.
250
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ مَحْمُولٌ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى النَّدْبِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، إِذْ لَيْسَ فِي الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ غَيْرُ الزَّكَاةِ،
لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ لَمَّا قَالَ لَهُ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ «لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَجَعَلُوا الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ الْوَرَثَةَ الْمَالِكِينَ أَمْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَالْآيَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى حَمْلِ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى الْوَرَثَةِ الْمَالِكِينَ أَمَرَ أَنْفُسِهِمُ فَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ:
فَارْزُقُوهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي صَالِحٍ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَمَآلُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْأَمْرَ مُوَجَّهٌ إِلَى صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْوَصِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً قَبْلَ شَرْعِ الْمِيرَاثِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي وَصِيَّتِهِ شَيْئًا لِمَنْ يَحْضُرُ وَصِيَّتَهُ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ غَيْرِ الَّذِينَ أَوْصَى لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ نَسْخٌ تَبَعًا لِنَسْخِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: الْقِسْمَةَ بِمَعْنَى تَعْيِينِ مَا لِكُلِّ مُوصًى لَهُ مِنْ مِقْدَارٍ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْآيَةَ فِي نَفْسِ الْمِيرَاثِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ قَوْلُهُ:
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قَالَ: فَقَوْلُهُ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ هُوَ الْمِيرَاثُ نَفْسُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أَيْ قُولُوا لِغَيْرِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ الْمَوَارِيثَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَوْقِعَ الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِتَفْصِيلِ الْفَرَائِضِ، وَأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِلْآيَةِ، وَكَفَاكَ بِاضْطِرَابِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهَا تَوْهِينًا لِتَأْوِيلَاتِهِمْ.
251
وَالْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أَيْ قَوْلًا حَسَنًا وَهُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ تَسْلِيَةً لِبَعْضِهِمْ
عَلَى مَا حُرِمُوا مِنْهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة.
[٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
مَوْعِظَةٌ لِكُلِّ مَنْ أُمِرَ أَوْ نُهِيَ أَوْ حُذِّرَ أَوْ رُغِّبَ فِي الْآيِ السَّابِقَةِ، فِي شَأْنِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَأَمْوَالِ الضِّعَافِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَابْتُدِئَتِ الْمَوْعِظَةُ بِالْأَمْرِ بِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ خَشْيَةِ عَذَابِهِ، ثُمَّ أُعْقِبَ بِإِثَارَةِ شَفَقَةِ الْآبَاءِ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ بِأَنْ يُنَزِّلُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمَوْرُوثِينَ، الَّذِينَ اعْتَدَوْا هُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُنَزِّلُوا ذُرِّيَّاتِهِمْ مَنْزِلَةَ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ أَكَلُوا هُمْ حُقُوقَهُمْ، وَهَذِهِ الْمَوْعِظَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِيَاسِ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
وَزَادَ إِثَارَةَ الشَّفَقَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ خَلْقٌ ضِعَافٌ بِقَوْلِهِ: ضِعافاً، ثُمَّ أَعْقَبَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ وَهُوَ حِفْظُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، بِالتَّهْدِيدِ عَلَى أَكْلِهِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بَعْدَ التَّهْدِيدِ بِسُوءِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا. فَيُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بأنّ نصيب أَبْنَاءَهُم مِثْلُ مَا فَعَلُوهُ بِأَبْنَاءِ غَيْرِهِمْ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَفْعُولَ (يَخْشَ) حُذِفَ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُحْتَمَلٍ، فَيَنْظُرُ كُلَّ سَامِعٍ بِحَسَبِ الْأَهَمِّ عِنْدَهُ مِمَّا يَخْشَاهُ أَنْ يُصِيبَ ذُرِّيَّتَهُ.
وَجُمْلَةُ لَوْ تَرَكُوا إِلَى خافُوا عَلَيْهِمْ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَجُمْلَةُ خافُوا عَلَيْهِمْ جَوَابُ (لَوْ).
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّ الصِّلَةَ لَمَّا كَانَتْ وَصْفًا مَفْرُوضًا حَسُنَ التَّعْرِيفُ بِهَا إِذِ الْمَقْصُودُ تَعْرِيفُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي التَّعْرِيفِ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْخَشْيَةِ إِذْ كُلُّ سَامِعٍ يَعْرِفُ مَضْمُونَ هَذِهِ الصِّلَةِ لَوْ فَرْضَ حُصُولِهَا لَهُ، إِذْ هِيَ أَمْرٌ يَتَصَوَّرُهُ كُلُّ النَّاسِ.
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ (لَوْ) هُنَا مِنْ بَيْنِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ أَنَّهَا هِيَ الْأَدَاةُ الصَّالِحَةُ لِفَرْضِ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِمْكَانِهِ، فَيَصْدُقُ مَعَهَا الشَّرْطُ الْمُتَعَذِّرُ الْوُقُوعِ وَالْمُسْتَبْعَدُهُ
252
وَالْمُمْكِنُهُ: فَالَّذِينَ بَلَغُوا الْيَأْسَ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَلَهُمْ أَوْلَادٌ كِبَارٌ أَوْ لَا أَوْلَادَ لَهُمْ، يَدْخُلُونَ فِي فَرْضِ هَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ صِغَارٌ لَخَافُوا عَلَيْهِمْ، وَالَّذِينَ لَهُمْ أَوْلَادٌ صِغَارٌ أَمْرُهُمْ أَظْهَرُ.
وَفِعْلُ (تَرَكُوا) مَاضٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي مُقَارَبَةِ حُصُولِ الْحَدَثِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاء: ٢٠١] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِلَى مَلِكٍ كَادَ الْجِبَالُ لِفَقْدِهِ تَزُولُ زَوَالَ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الصَّخْرِ
أَيْ وَقَارَبَتِ الرَّاسِيَاتُ الزَّوَالَ إِذِ الْخَوْفُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ مُقَارَبَةِ الْمَوْتِ لَا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَالْمَعْنَى: لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا لَخَافُوا عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ السُّوءِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنَ الْأَوْصِيَاءِ، وَمِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يحرمُونَ النِّسَاء ميراثهن، ويحرمون صِغَارَ إِخْوَتِهِمْ أَوْ أَبْنَاءِ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ مِنْ مِيرَاثِ آبَائِهِمْ، كُلُّ أُولَئِكَ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ، وَالتَّخْوِيفِ بِالْمَوْعِظَةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ هَذَا الْخِطَابُ بِأَصْحَابِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النِّسَاء: ٨] لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ كَالِاسْتِطْرَادِ، وَلِأَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لِمَضْمُونِهَا بِهَذَا التَّخْوِيفِ.
وَفِي الْآيَةِ مَا يَبْعَثُ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى أَنْ يَغْضَبُوا لِلْحَقِّ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَنْ يَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِي أَوْلِيَاءِ السُّوءِ، وَأَنْ يَحْرُسُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيُبَلِّغُوا حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَضَاعُوا ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يَلْحَقَ أَبْنَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنْ يَأْكُلَ قَوِيَّهُمْ ضَعِيفَهُمْ، فَإِنَّ اعْتِيَادَ السُّوءِ يُنْسِي النَّاسَ شَنَاعَتَهُ، وَيُكْسِبُ النُّفُوسَ ضَرَاوَةً عَلَى عَمَلِهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٤].
وَقَوْلُهُ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فُرِّعَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ وَإِنْ كَانَا أَمْرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ: لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَمَّا عُضِّدَ بِالْحُجَّةِ اعْتُبِرَ كَالْحَاصِلِ فَصَحَّ التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَلْيُحْسِنُوا إِلَيْهِم القَوْل.
253

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٠]

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تُفِيدُ تَكْرِيرَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتَامَى، جَرَّتْهُ مُنَاسَبَةُ التَّعَرُّضِ لِقِسْمَةِ أَمْوَالِ الْأَمْوَاتِ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَكْثُرُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ يَتَامَى لِكَثْرَةِ تَزَوُّجِ الرِّجَالِ فِي مُدَّةِ أَعْمَارِهِمْ، فَقَلَّمَا يَخْلُو مَيِّتٌ عَنْ وَرَثَةٍ صِغَارٍ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِشِدَّةِ عِنَايَةِ الشَّارِعِ بِهَذَا الْغَرَض، فَلذَلِك عَادَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ.
وَقَوْلُهُ: ظُلْماً حَالٌ مِنْ يَأْكُلُونَ مُقَيِّدَةٌ لِيَخْرُجَ الْأَكْلُ الْمَأْذُونُ فِيهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:
وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: ٦]، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النِّسَاء: ٢٩].
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (نَارًا) مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا مُرَادًا بِهَا نَارُ جَهَنَّمَ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ فَفِعْلُ يَأْكُلُونَ نَاصِبٌ (نَارًا) الْمَذْكُورَ عَلَى تَأْوِيلِ يَأْكُلُونَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَأَطْلَقَ النَّارَ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ أَيْ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ حِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى قَدْ أَكَلُوا مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ.
وَعَلَى هَذَا فَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً عَطْفُ مُرَادِفٍ لِمَعْنَى جُمْلَةِ يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ النَّارِ مُسْتَعَارًا لِلْأَلَمِ بِمَعْنَى أَسْبَابِ الْأَلَمِ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا بِعَذَابٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ مُسْتَعَارًا لِلتَّلَفِ لِأَنَّ شَأْنَ النَّارِ أَنْ تَلْتَهِمَ مَا تُصِيبُهُ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَأْخُذُونَ أَمْوَالًا هِيَ سَبَبٌ فِي مَصَائِبَ تَعْتَرِيهِمْ فِي ذَوَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَالنَّارِ إِذَا تَدْنُو مِنْ أَحَدٍ فَتُؤْلِمُهُ وَتُتْلِفُ مَتَاعَهُ، فَيَكُونُ هَذَا تَهْدِيدًا بِمَصَائِبَ فِي الدُّنْيَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٦] وَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً جَارِيًا عَلَى ظَاهِرِ الْعَطْفِ مِنَ اقْتِضَاءِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى تَهْدِيدٌ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَعِيدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَذِكْرُ فِي بُطُونِهِمْ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ وَتَرْشِيحٍ لِاسْتِعَارَةِ يَأْكُلُونَ لِمَعْنَى يَأْخُذُونَ وَيَسْتَحْوِذُونَ.
وَالسِّينُ فِي سَيَصْلَوْنَ حَرْفُ تَنْفِيسٍ أَيِ اسْتِقْبَالٍ، أَيْ أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فتمحّضه للاستقبال، سوءا كَانَ اسْتِقْبَالًا قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، وَهِيَ مُرَادِفَةُ سَوْفَ، وَقِيلَ: إِنَّ سَوْفَ أَوْسَعُ زَمَانًا. وَتُفِيدَانِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ وَكَذَلِكَ التَّوَعُّدِ.
وَيَصْلَوْنَ مُضَارِعُ صَلِيَ كَرَضِيَ إِذَا قَاسَى حَرَّ النَّارِ بِشِدَّةٍ، كَمَا هُنَا، يُقَالُ: صَلِيَ بِالنَّارِ، وَيَكْثُرُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ فِعْلِ صَلِيَ وَنُصِبَ الِاسْمُ بَعْدَهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
لَا تَصْطَلِي النَّار إلّا يجمرا أَرِجًا قَدْ كسّرت من يلجوج لَهُ وَقَصَا
وَهُوَ الْوَارِدُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ بِاطِّرَادٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسَيَصْلَوْنَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- مُضَارِعُ صَلِيَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ- مُضَارِعُ أَصْلَاهُ إِذَا أَحْرَقَهُ وَمَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ.
وَالسَّعِيرُ النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ أَيِ الْمُلْتَهِبَةُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ، بُنِيَ بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ مِنَ الْمُضَاعَفِ، كَمَا بُنِيَ السَّمِيعُ مِنْ أَسْمَعَ، وَالْحَكِيمُ مِنْ أَحْكَمَ.
[١١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ.
تَتَنَزَّلُ آيَةُ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ لِقَوْلِهِ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: ٧] وَهَذَا الْمَقْصِدُ الَّذِي جَعَلَ قَوْلَهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] إِلَخْ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ لَهُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ جُمْلَةُ: يُوصِيكُمُ مَفْصُولَةً لِأَنَّ كِلَا الْمَوْقِعَيْنِ مُقْتَضٍ لِلْفَصْلِ.
255
وَمِنَ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ تَصْدِيرُ تَشْرِيعِهَا بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ هِيَ الْأَمْرُ بِمَا فِيهِ نَفْعُ الْمَأْمُورِ وَفِيهِ اهْتِمَامُ الْآمِرِ لِشِدَّةِ صَلَاحِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَا يَعْهَدُ بِهِ الْإِنْسَان، فِيمَا يصنع بِأَبْنَائِهِ وَبِمَالِهِ وَبِذَاتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَصِيَّةً.
وَقَدْ رُوِيَتْ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ قَالَ: «مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ فَوَجَدَانِي لَا أَعْقِلُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ مِنْهُ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ «كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» فَنَزَلَتْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ «إِنَّ سَعْدًا هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَأَخَاهُ، فَعَمَدَ أَخُوهُ فَقَبَضَ مَا تَرَكَ سَعْدٌ، وَإِنَّمَا تُنْكَحُ النِّسَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِنَّ» فَلَمْ يُجِبْهَا فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَتْهُ فَقَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنَتَا سَعْدٍ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ادْعُ لِي أَخَاهُ»، فَجَاءَ، فَقَالَ: «ادْفَعْ إِلَى ابْنَتَيْهِ الثُّلُثَيْنِ وَإِلَى امْرَأَتِهِ الثُّمُنُ وَلَكَ مَا بَقِيَ» وَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ.
بَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فُرُوضَ الْوَرَثَةِ، وَنَاطَ الْمِيرَاثُ كُلَّهُ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ جِبِلِّيَّةً وَهِيَ النَّسَبُ، أَوْ قَرِيبَةً مِنَ الْجِبِلِّيَّةِ، وَهِيَ عِصْمَةُ الزَّوْجِيَّةِ، لِأَنَّ طَلَبَ الذَّكَرِ لِلْأُنْثَى جِبِلِّيٌّ، وَكَوْنُهَا الْمَرْأَةَ الْمُعَيَّنَةَ يَحْصُلُ بِالْإِلْفِ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْجِبِلَّةِ. وَبَيَّنَ أَهْلَ الْفُرُوضِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَرْجِعَ الْمَالِ بَعْدَ إِعْطَاءِ أَهْلِ الْفُرُوضِ فُرُوضَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ احْتِوَاءِ أَقْرَبِ الْعُصْبَةِ عَلَى مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَقْصِدَ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَلَمْ يُبَيِّنْ حَظَّ الْأَبِ، لِأَنَّ الْأَبَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قَدْ رَجَعَ إِلَى حَالَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ، وَهِيَ احتواء المَال فاحتيج إِلَى ذِكْرِ فَرْضِ الْأُمِّ.
وَابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِمِيرَاثِ الْأَبْنَاءِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ.
256
وَالْأَوْلَادُ جَمْعُ وَلَدٍ بِوَزْنِ فَعَلٍ مِثْلُ أَسَدٍ وَوَثَنٍ، وَفِيهِ لُغَةُ وِلْدٍ- بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ- وَكَأَنَّهُ حِينَئِذٍ فِعْلٌ الَّذِي بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالذِّبْحِ وَالسِّلْخِ. وَالْوَلَدُ اسْمٌ لِلِابْنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَالْوَارِدُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَجَمْعُهُ أَوْلَادٌ.
وفِي هُنَا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، جُعِلَتِ الْوَصِيَّةُ كَأَنَّهَا مَظْرُوفَةٌ فِي شَأْنِ الْأَوْلَادِ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِهِ كَاتِّصَالِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ، وَمَجْرُورُهَا مَحْذُوفٌ قَامَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، لِظُهُورِ أَنَّ ذَوَاتِ الْأَوْلَادِ لَا تَصْلُحُ ظَرْفًا لِلْوَصِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ عَلَى طَرِيقَةِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ: فِي إِرْثِ أَوْلَادِكُمْ، وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى الْمُقَدَّرِ عَلَى حَدِّ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] فَجَعَلَ الْوَصِيَّةَ مَظْرُوفَةً فِي هَذَا الشَّأْنِ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِهِ وَاحْتِوَائِهِ عَلَيْهَا.
وَجُمْلَةُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يُوصِيكُمُ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ مَعْنَى مَضْمُونِ الْوَصِيَّةِ، فَهِيَ مِثْلُ الْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ الذَّكَرَ صَارَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْإِرْثِ وَهُوَ الْأُنْثَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهِ عَهْدٌ مِنْ قَبْلُ إِذْ كَانَ الذُّكُورُ يَأْخُذُونَ الْمَالَ الْمَوْرُوثَ كُلَّهُ وَلَا حَظَّ لِلْإِنَاثِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: ٧].
وَقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ جَعَلَ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ هُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يُقَدَّرُ بِهِ حَظُّ
الذَّكَرِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ تَعْيِينُ حَظٍّ لِلْأُنْثَيَيْنِ حَتَّى يُقَدَّرَ بِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَضْعِيفُ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ عَلَى حَظِّ الْأُنْثَى مِنْهُمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمُرَادُ صَالِحًا لِأَنْ يُؤَدَّى بِنَحْوِ:
لِلْأُنْثَى نِصْفُ حَظِّ ذَكَرٍ، أَوْ لِلْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ حَظِّ ذَكَرٍ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا بَيَانَ الْمُضَاعَفَةِ.
وَلَكِنْ قَدْ أُوثِرَ هَذَا التَّعْبِيرُ لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَى صَارَ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ أَهَمَّ مِنْ حَظِّ الذَّكَرِ، إِذْ كَانَتْ مَهْضُومَةَ الْجَانِبِ عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَصَارَ الْإِسْلَامُ يُنَادِي بِحَظِّهَا فِي أَوَّلِ مَا يَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ قَدْ عُلِمَ أَنَّ قِسْمَةَ الْمَالِ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِلَخْ مُعَادُ الضَّمِيرِ هُوَ لَفْظُ الْأَوْلَادِ، وَهُوَ
257
جَمْعُ وَلَدٍ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ وَلَا الْمَدْلُولِ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فلمّا كَانَ مَا صدقه هُنَا النِّسَاءَ خَاصَّةً أُعِيدَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ بِالتَّأْنِيثِ.
وَمَعْنَى: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَمِنْ مَعَانِي (فَوْقَ) الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَجَازٌ، ثُمَّ شَاعَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ، وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لَا يُعْطَيَانِ إِلَّا لِلْبَنَاتِ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا لِأَنَّ تَقْسِيمَ الْأَنْصِبَاءِ لَا يُنْتَقَلُ فِيهِ مِنْ مِقْدَارٍ إِلَى مِقْدَارٍ أَزْيَدَ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمِقْدَارَ الْأَوَّلَ.
وَالْوَصْفُ بِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يُفِيدُ مَفْهُومًا وَهُوَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ لَا تُعْطَيَانِ الثُّلُثَيْنِ، وَزَادَ فَقَالَ:
وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَبَقِيَ مِيرَاثُ الْبِنْتَيْنِ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ غَيْرَ مَنْصُوصٍ فِي الْآيَة فألحقهما الْجُمْهُور بِالثلَاثِ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَأَحْسَنُ مَا وُجِّهَ بِهِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ «إِذَا كَانَتِ الْبِنْتُ تَأْخُذُ مَعَ أَخِيهَا إِذَا انْفَرَدَ الثُّلُثَ فَأَحْرَى أَنْ تَأْخُذَ الثُّلُثَ مَعَ أُخْتِهَا» يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبِنْتَيْنِ هِيَ مُقَارِنَةٌ لِأُخْتِهَا الْأُخْرَى فَلَا يَكُونُ حَظُّهَا مَعَ أُخْتٍ أُنْثَى أَقَلَّ مِنْ حَظِّهَا مَعَ أَخٍ ذَكَرٍ، فَإِنَّ الذَّكَرَ أَوْلَى بِتَوْفِيرٍ نَصِيبِهِ، وَقَدْ تَلَقَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ لِبَعْضِ الَّذِينَ تَلَقَّفُوهُ. وَعَلَّلَهُ وَوَجَّهَهُ آخَرُونَ: بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْأُخْتَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا الثُّلُثَيْنِ فَلَا تَكُونُ الْبِنْتَانِ أَقَلَّ مِنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ كَالْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ لِتَوْرِيثِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي النِّصْفِ مَحْمَلًا فِي الْآيَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمَا قَالَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ لَفَظَ (فَوْقَ) زَائِدًا، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَال: ١٢]. وَشَتَّانَ بَيْنَ فَوْقَ الَّتِي مَعَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ وَفَوْقَ الَّتِي بِمَعْنَى مَكَانِ الْفِعْلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، أَيْ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مُسْتَنِدٌ لِسُنَّةٍ عَرَفُوهَا. وَرَدَّ الْقُرْطُبِيُّ دَعْوَى
الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ. قُلْتُ: لَعَلَّ الْإِجْمَاع انْعَقَد بعد مَا أَعْطَى ابْنُ عَبَّاسٍ الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ عَلَى أَنَّ اخْتِلَالَ الْإِجْمَاعِ لِمُخَالَفَةِ وَاحِدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَمَّا حَدِيثُ امْرَأَةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ فِي هَذَا الْخِلَافِ، لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ اخْتِلَافًا هَلْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
258
وَقَوْلُهُ: فَلَهُنَّ أُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَى نِسَاءٍ، وَالْمُرَادُ مَا يَصْدُقُ بِالْمَرْأَتَيْنِ تَغْلِيبًا لِلْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً» - بِنَصْبِ وَاحِدَةٍ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَتْ، وَاسْمُ كَانَتْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: فِي أَوْلادِكُمْ مِنْ مُفْرَدِ وَلَدٍ، أَيْ وَإِنْ كَانَتِ الْوَلَدُ بِنْتًا وَاحِدَةً، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ وُجِدَتْ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً.
وَصِيغَةُ أَوْلادِكُمْ صِيغَةُ عُمُومٍ لِأَنَّ أَوْلَادَ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ، وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَهَذَا الْعُمُومُ، خَصَّصَهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: خَصَّ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَصَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَافَقَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَنْ حَضَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
الثَّانِي: اخْتِلَافُ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ.
الثَّالِثُ: قَاتِلُ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ قَرِيبَهُ فِي شَيْءٍ.
الرَّابِعُ: قَاتِلُ الْخَطَأِ لَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا.
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ عَائِدٌ إِلَى الْمَيِّتِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي قِسْمَةِ مَالِ الْمَيِّتِ. وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ
259
لِيَكُونَ كَالْعُنْوَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَلِكُلٍّ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ السَّابِقِ: فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
[النِّسَاء: ١١].
وَقَوْلُهُ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ زَادَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاقْتِصَارِ أَيْ: لَا غَيْرُهُمَا، لِيُعْلَمَ مِنْ قَوْلِهِ:
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ أَنَّ لِلْأَبِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُمِّ صَاحِبُ فَرْضٍ لَا تَحْجُبُهُ كَانَ عَلَى فَرْضِهِ مَعَهَا وَهِيَ عَلَى فَرْضِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَزَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لِلزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فَرْضُهُمَا وَلِلْأُمِّ ثُلُثُهَا وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، حَمْلًا عَلَى قَاعِدَةِ تَعَدُّدِ أَهْلِ الْفُرُوضِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَرْضُهُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، لِئَلَّا تَأْخُذَ الْأُمُّ أَكْثَرَ مِنَ الْأَبِ فِي صُورَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَفِي «سُنَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ» : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إِلَى زَيْدٍ «أَيْنَ تُجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ» فَأَجَابَ زَيْدٌ «إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ تَقُولُ بِرَأْيِكَ وَأَنَا أَقُولُ بِرَأْيِي».
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِلْأَبِ مَعَ الْأُمِّ الثُّلُثَيْنِ، وَتُرِكَ ذِكْرُهُ لِأَنَّ مَبْنَى الْفَرَائِضِ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ بِدُونِ فَرْضٍ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الْعِصَابَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلِأُمِّهِ- بِضَمِّ همزَة أمّه-، وقرأه حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ اللَّامِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أَيْ إِنْ كَانَ إِخْوَةٌ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِخْوَةَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ فَيَنْقُلُونَهَا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ. وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ صِيغَةُ جَمْعٍ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهَا لَا يَنْقُلُهَا إِلَى السُّدُسِ إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ الْإِخْوَةِ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا ذُكُورًا أَوْ مُخْتَلِطِينَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ الْجَمْعِ، وَمَا إِذَا كَانَ الْإِخْوَةُ إِنَاثًا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَخَوَانِ يَحْجُبَانِ الْأُمَّ، وَالْأُخْتَانِ أَيْضًا، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ. أَمَّا الْأَخُ الْوَاحِدُ أَوِ الْأُخْتُ فَلَا يَحْجُبُ الْأُمَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحُكْمِهِ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي السُّدُسِ الَّذِي يَحْجُبُ الْإِخْوَةُ عَنْهُ الْأُمَّ: هَلْ يَأْخُذُهُ الْإِخْوَةُ أَمْ يَأْخُذُهُ الْأَبُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ بِالثَّانِي الْجُمْهُورُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَاجِبَ قَدْ يَكُونُ مَحْجُوبًا.
وَكَيْفَمَا كَانَ فَقَدِ اعْتَبَرَ اللَّهُ لِلْإِخْوَةِ حَظًّا
260
مَعَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَوْ كَانَ الْإِخْوَةُ مَعَ الْأُمِّ وَلَمْ يَكُنْ أَبٌ لَكَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ بَقِيَّةُ الْمَالِ بِاتِّفَاقٍ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي هَذَا تَعْضِيدٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ.
الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ قَيْدٌ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ:
أَيْ تَقْتَسِمُونَ الْمَالَ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءِ لِكُلٍّ نَصِيبُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ.
وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ بَعْدَ ذِكْرِ صِنْفَيْنِ مِنَ الْفَرَائِضِ:
فَرَائِضُ الْأَبْنَاءِ، وَفَرَائِضُ الْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كَصِنْفٍ وَاحِدٍ إِذْ كَانَ سَبَبُهُمَا عَمُودَ النَّسَبِ الْمُبَاشِرِ. وَالْمَقْصِدُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْوَصِيَّةِ وَتَقَدُّمِهَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الدَّيْنُ بَعْدَهَا تَتْمِيمًا لِمَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيرَاثِ مَعَ عِلْمِ السَّامِعِينَ أَنَّ الدَّيْنَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ حَقٌّ سَابِقٌ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْمَدِينَ لَا يَمْلِكُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا مَا هُوَ فَاضِلٌ عَنْ دَيْنِ دَائِنِهِ. فَمَوْقِعُ عَطْفِ أَوْ دَيْنٍ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِاهْتِمَامِ كَرَّرَ اللَّهُ هَذَا الْقَيْدَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَوَصَفَ الْوَصِيَّةَ بِجُمْلَةِ يُوصِي بِها لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَصِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً قَبْلَ شَرْعِ الْفَرَائِضِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الْبَقَرَة: ١٨٠]. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوصِي بِها فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمَيِّتُ، كَمَا عَادَ ضَمِيرُ مَا تَرَكَ [النِّسَاء: ٧] وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْضًا: يُوصَى- بِفَتْح الصَّاد- مَبْنِيا لِلنَّائِبِ أَيْ يُوصِي بِهَا مُوصٍ.
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً
261
خَتَمَ هَذِهِ الْفَرَائِضَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَهِيَ أُصُولُ الْفَرَائِضِ بِقَوْلِهِ:
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ الْآيَةَ، فَهُمَا إِمَّا مُسْند إِلَيْهِمَا قدّ مَا لِلِاهْتِمَامِ، وَلِيَتَمَكَّنَ الْخَبَرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ إِذْ يُلْقِي سَمْعَهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا بِشَرَاشِرِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَهُمَا خَبَرَيْنِ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي بِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَال، وَذَلِكَ عِنْد مَا يَتَقَدَّمُ حَدِيثٌ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ يُرَادُ جَمْعُ الْخَبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ وزلّت
بَعْدَ قَوْلِهِ:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَدَانَتْ مَنِيَّتِي أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
أَيْ: الْمَذْكُورُونَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَهُوَ إِمَّا مُبْتَدَأٌ وَإِمَّا حَالٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَوِينَ فِي نَفْعِكُمْ مُتَفَاوِتُونَ تَفَاوُتًا
يَتْبَعُ تَفَاوُتَ الشَّفَقَةِ الْجِبِلِّيَّةِ فِي النَّاسِ وَيَتْبَعُ الْبُرُورَ وَمِقْدَارَ تَفَاوُتِ الْحَاجَاتِ. فَرُبَّ رَجُلٍ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَنْ يَنْفَعَهُ أَبَوَاهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَرُبَّمَا عَرَضَتْ حَاجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَعْرِضْ فَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ الَّذِي كَانَ يَعْتَمِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قِسْمَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَاعْتَمَدُوا أَحْوَالًا غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ وَلَا مَوْثُوقًا بِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَشَرْعُ الْإِسْلَامِ نَاطَ الْفَرَائِضَ بِمَا لَا يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ، فَفَرَضَ الْفَرِيضَةَ لَهُمْ نَظَرًا لِصِلَتِهِمُ الْمُوجِبَةِ كَوْنَهُمْ أَحَقَّ بِمَالِ الْأَبْنَاءِ أَوِ الْآبَاءِ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاضِحُ الْمُنَاسَبَةِ.
[١٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
262
هَذِهِ فَرِيضَةُ الْمِيرَاثِ الَّذِي سَبَبُهُ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ أَعْطَاهَا اللَّهُ حَقَّهَا الْمَهْجُورَ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الزَّوْجَيْنِ: أَمَّا الرَّجُلُ فَلَا يَرِثُ امْرَأَتَهُ لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَوْلَادٌ مِنْهُ، فَهُوَ قَدْ صَارَ بِمَوْتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ قَرَابَتِهَا مِنْ آبَاءٍ وَإِخْوَةٍ وَأَعْمَامٍ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَوْلَادٌ كَانَ أَوْلَادُهَا أَحَقَّ بِمِيرَاثِهَا إِنْ كَانُوا كِبَارًا، فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا قَبَضَ أَقْرِبَاؤُهُمْ مَالَهُمْ وَتَصَرَّفُوا فِيهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَرِثُ زَوْجَهَا بَلْ كَانَتْ تُعَدُّ مَوْرُوثَةً عَنْهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا وَرَثَتُهُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاءَ:
١٩]. فَنَوَّهَ اللَّهُ فِي هَذِه الْآيَات بِصِلَةِ الْعِصْمَةِ، وَهِيَ الَّتِي وَصَفَهَا بِالْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ فِي قَوْلِهِ:
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاء: ٢١].
وَالْجَمْعُ فِي أَزْواجُكُمْ وَفِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكْتُمْ كَالْجَمْعِ فِي الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ، مُرَادٌ بِهِ تَعَدُّدُ أَفْرَادِ الْوَارِثِينَ مِنَ الْأُمَّةِ، وَهَاهُنَا قَدِ اتّفقت الأمّة عى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَاتٌ أَنَّهُنَّ يَشْتَرِكْنَ فِي الرُّبْعِ أَوْ فِي الثُّمْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ لَهُنَّ، لِأَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ بِيَدِ صَاحِبِ الْمَالِ فَكَانَ تَعَدُّدُهُنَّ وَسِيلَةً لِإِدْخَالِ الْمَضَرَّةِ عَلَى الْوَرَثَةِ الْآخَرِينَ بِخِلَافِ تَعَدُّدِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ فَإِنَّهُ لَا خِيَارَ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ. وَالْمَعْنَى: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ كُلُّ زَوْجَةٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ.
وَقَوْلُهُ: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ أَيْ لِمَجْمُوعِهِنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكَ زَوْجُهُنَّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ وَهَذَا حَذَقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِيجَازُ الْكَلَامِ.
وَأُعْقِبَتْ فَرِيضَةُ الْأَزْوَاجِ بِذِكْرِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُنَّ مَمْنُوعَاتٌ مِنَ الْإِيصَاءِ وَمِنَ التَّدَايُنِ كَمَا كَانَ الْحَالُ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَمَّا ذِكْرُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ عَقِبَ ذِكْرِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ مِنْ رِجَالِهِنَّ فَجَرْيًا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْمُتَّبَعِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ أَنْ يُعَقَّبَ كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْفَرَائِضِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْوَصِيَّةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ.
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ.
263
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ مِيرَاثَ ذِي الْأَوْلَادِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَفَصَّلَهُ فِي أَحْوَالِهِ حَتَّى حَالَةِ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ، انْتَقَلَ هُنَا إِلَى مِيرَاثِ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وَهُوَ الْمَوْرُوثُ كَلَالَةً، وَلِذَلِكَ قَابَلَ بِهَا مِيرَاثَ الْأَبَوَيْنِ.
وَالْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْكَلَالِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ قَالَ الْأَعْشَى:
فَآلَيْتُ لَا أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ وَلَا مِنْ حَفِيٍّ حَتَّى أُلَاقِي مُحَمَّدَا
وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ.
وَوَصَفَتِ الْعَرَبُ بِالْكَلَالَةِ الْقَرَابَةَ غَيْرَ الْقُرْبَى، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا وُصُولَهُ لِنَسَبِ قَرِيبِهِ عَنْ بُعْدٍ، فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ الْكَلَالَةَ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ مَنْ لَمْ يُسَمُّوهُ:
فَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحَمَى لَهُ وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يُغْضَبُ
ثُمَّ أَطْلَقُوهُ عَلَى إِرْثِ الْبَعِيدِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ إِذْ لَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا مَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: وَرِثَ الْمَجْدَ لَا عَنْ كَلَالَةٍ. وَقَدْ عَدَّ الصَّحَابَةُ مَعْنَى الْكَلَالَةِ هُنَا مِنْ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: الْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا، وَالْخِلَافَةُ». وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ، الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ».
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ بِهِ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ» أَيْ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَالِدٌ وَيُنْسَبُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَا عَنْهُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء:
١٧٦] وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُرَجِّحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ ذِكْرَهَا بَعْدَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ وَالْأَبَوَيْنِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا حَالَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْحَالَيْنِ.
264
وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: كَلالَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُورَثُ الَّذِي هُوَ كَلَالَةٌ مِنْ وَارِثِهِ أَيْ قَرِيبٌ غَيْرُ الْأَقْرَبِ لِأَنَّ الْكَلَالَةَ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا كِلَا الْقَرِيبَيْنِ.
وَقَوله: أَوِ امْرَأَةٌ عُطِفَ عَلَى رَجُلٌ الَّذِي هُوَ اسْمُ (كَانَ) فَيُشَارِكُ الْمَعْطُوفُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي خَبَرِ (كَانَ) إِذْ لَا يَكُونُ لَهَا اسْمٌ بِدُونِ خَبَرٍ فِي حَالِ نُقْصَانِهَا.
وَقَوله: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي مَعْنَى الْكَلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْأَخَ وَالْأُخْتَ لِلْأُمِّ خَاصَّةً لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَقُلْنَا لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ وَجَعَلْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ نَعْلَمُ بِحُكْمِ مَا يُشْبِهُ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ أَنَّهُمَا الْأَخُ وَالْأُخْتُ لِلْأُمِّ لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَتْ نِهَايَةُ حَظِّهِمَا الثُّلُثَ فَقَدْ بَقِيَ الثُّلُثَانِ فَلَوْ كَانَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ هُمَا الشَّقِيقَيْنِ أَوِ اللَّذَيْنِ لِلْأَبِ لَاقْتَضَى أَنَّهُمَا أَخَذَا أَقَلَّ الْمَالِ وَتُرِكَ الْبَاقِي لِغَيْرِهِمَا وَهَلْ يَكُونُ غَيْرُهُمَا أَقْرَبَ مِنْهُمَا فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مُرَادٌ بِهِمَا اللَّذَانِ لِلْأُمِّ خَاصَّةً لِيَكُونَ الثُّلُثَانِ لِلْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ أَوِ الْأَعْمَامِ أَوْ بَنِي الْأَعْمَامِ. وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ بِهَذَا فَرْضًا لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ إِبْطَالًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِلْغَاءِ جَانِبِ الْأُمُومَةِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ جَانِبُ نِسَاءٍ وَلَمْ يُحْتَجْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَصِيرِ بَقِيَّةِ الْمَالِ لِمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَالَ أَمْرَ الْعِصَابَةِ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ مَنْ نَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ.
وعَلى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ اللَّذَيْنِ لِلْأُمِّ إِذْ قَدْ يُفْرَضُ لِلْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ نصيب هُوَ الثُّلُث وَيبقى الثُّلُثَانِ لِعَاصِبٍ أَقْوَى وَهُوَ الْأَبُ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْكَلَالَةِ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَافَقَ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ اللَّذَانِ لِلْأُمِّ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ الْكَلَالَةَ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا أَبٌ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ وَالْأُخْتِ الشَّقِيقَيْنِ أَوِ اللَّذَيْنِ لِلْأَبِ لَأَعْطَيْنَاهُمَا الثُّلُثَ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَبَقِيَ مُعْظَمُ الْمَالِ لِمَنْ هُوَ دُونُ الْإِخْوَة فِي التَّعْصِيب فَهَذَا فِيمَا أَرَى هُوَ الَّذِي حَدَا سَائِرَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى حَمْلِ الْأَخِ وَالْأُخْت على الَّذين لِلْأُمِّ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَالَةَ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِصُورَةٍ أُخْرَى سَنَتَعَرَّضُ لَهَا.
265
غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
غَيْرَ مُضَارٍّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُوصى الْأَخِيرِ، وَلَمَّا كَانَ فِعْلُ يُوصَى تَكْرِيرًا، كَانَ حَالًا مِنْ ضَمَائِرِ نَظَائِرِهِ.
ومُضَارٍّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ بِتَقْدِيرِ كَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى الْمُدْغَمَةِ أَيْ غَيْرَ مُضَارٍّ وَرَثَتَهُ بِإِكْثَارِ الْوَصَايَا، وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يقْصد الْمُوصي مِنْ وَصِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِالْوَرَثَةِ.
وَالْإِضْرَارُ مِنْهُ مَا حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ ثُلُثَ مَالِهِ وَقَدْ حَدَّدَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». وَمِنْهُ مَا يَحْصُلُ بِقَصْدِ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِالْوَارِثِ وَلَا يَقْصِدُ الْقُرْبَةَ بِوَصِيَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ. وَلَمَّا كَانَتْ نِيَّةُ الْمُوصِي وَقَصْدُهُ الْإِضْرَارَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وَخَشْيَةِ رَبِّهِ، فَإِنْ ظَهَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ الْإِضْرَارَ دَلَالَةً وَاضِحَةً، فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ نَهْيٌ عَنِ الْإِضْرَارِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
ويتعيّن أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَيْد مقيّدا لِلْمُطْلَقِ فِي الْآيِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ إِلَخْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُطْلَقَاتِ مُتَّحِدَةُ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ. فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ مِنْهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.
وَقد أَخَذَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ مَسْأَلَةِ قَصْدِ الْمُعْطِي مِنْ عَطِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِوَارِثِهِ فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَطَايَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ خَاصَّةً. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ قَصْدَ الْمُضَارَّةِ فِي الثُّلُثِ لَا تُرَدُّ بِهِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَنَازَعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي التَّفْسِيرِ بِأَنَّ مَا فِي
الْوَصَايَا الثَّانِي مِنَ «الْمُدَوَّنَةِ»، صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ يُوجِبُ رَدَّ الْوَصِيَّةِ وَبَحْثُ ابْنِ عَرَفَةَ مَكِينٌ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تُرَدُّ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ إِذَا تَبَيَّنَ الْقَصْدُ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَرَى تَأْثِيرَ الْإِضْرَارِ. وَفِي شَرْحِ ابْنِ نَاجِي عَلَى تَهْذِيبِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ فِي أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ لَا يُوهِنُ الْوَصِيَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَبِهِ الْفَتْوَى.
وَقَوله: وَصِيَّةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ جَاءَ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ:
266
يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَصِيَّةً مِنْهُ فَهُوَ خَتْمٌ لِلْأَحْكَامِ بِمِثْلِ مَا بُدِئَتْ بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النِّسَاء: ١١] وَهَذَا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
وَقَوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، وَذِكْرُ وَصْفِ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَقَدِّمَةَ إِبْطَالٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ كَانُوا شَرَّعُوا مَوَارِيثَهُمْ تَشْرِيعًا مَثَارُهُ الْجَهْلُ وَالْقَسَاوَةُ. فَإِنَّ حِرْمَانَ الْبِنْتِ وَالْأَخِ لِلْأُمِّ مِنَ الْإِرْثِ جَهْلٌ بِأَنَّ صِلَةَ النِّسْبَةِ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ مُمَاثِلَةٌ لِصِلَةِ نِسْبَةِ جَانِبِ الْأَبِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ جَهْلٌ، وَحِرْمَانُهُمُ الصِّغَارَ مِنَ الْمِيرَاثِ قَسَاوَةٌ مِنْهُمْ.
وَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَاتُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمِيرَاثَ وَأَنْصِبَاءَهُ بَيْنَ أَهْلِ أُصُولِ النَّسَبِ وَفُرُوعِهِ وَأَطْرَافِهِ وَعِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَسَكَتَتْ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْعُصْبَةِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَوَالِي الْعَتَاقَةِ وَمَوَالِي الْحِلْفِ، وَقَدْ أَشَارَ قَوْله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَال [٧٥] وَقَوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٦] إِلَى مَا أَخَذَ مِنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَأَشَارَ قَوْلُهُ الْآتِي قَرِيبًا وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النِّسَاء: ٣٣] إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّوْرِيثُ بِالْوَلَاءِ عَلَى الْإِجْمَالِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَبَيَّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْرِيثَ الْعَصَبَةِ بِمَا
رَوَاهُ رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
وَمَا
رَوَاهُ الْخَمْسَةُ- غَيْرَ النَّسَائِيِّ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِمَوَالِي الْعَصَبَةِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ»
وَسَنُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي موَاضعه الْمَذْكُورَة.
[١٣، ١٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعَانِي وَالْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَالْحُدُودُ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ ظَرْفُ الْمَكَانِ الَّذِي يُمَيَّزُ عَنْ مَكَانٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَمْنَعُ تَجَاوُزَهُ، وَاسْتُعْمِلَ الْحُدُودُ هُنَا مَجَازًا فِي الْعَمَلِ الَّذِي لَا تَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ.
وَمَعْنَى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَنَّهُ يُتَابِعُ حُدُودَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ.
وَقَوله: خالِداً فِيها اسْتُعْمِلَ الْخُلُودُ فِي طُولِ الْمُدَّةِ. أَوْ أُرِيدَ مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعِصْيَانُ الْأَتَمُّ وَهُوَ نَبْذُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ وَنَبَذُوا الْكُفْرَ، فَكَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِوَصَايَا الْإِسْلَامِ، فَمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتِ الْإِيمَانِ إِلَّا مَنْ تَابَ.
وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ تَقْسِيمٌ، لِأَنَّ الْعِصْيَانَ أَنْوَاعٌ: مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْخُلُودَ، وَمِنْهُ مَا يُوجِبُ الْعَذَابَ الْمُهِينَ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّ عَطْفَ وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ عَلَى الْخُلُودِ فِي النَّارِ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِهِ التَّقْسِيمُ، فَيُضْطَرُّ إِلَى جَعْلِهِ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ، أَوْ تَقُولُ إِنَّ مَحَطَّ الْعَطْفِ هُوَ وَصْفُهُ بِالْمُهِينِ لِأَنَّ الْعَرَبَ أُبَاةُ الضَّيْمِ، شُمُّ الْأُنُوفِ، فَقَدْ يَحْذَرُونَ الْإِهَانَةَ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْذَرُونَ عَذَابَ النَّارِ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ الْمَأْثُورَةِ فِي حِكَايَاتِهِمُ (النَّارُ وَلَا الْعَارُ). وَفِي كِتَابِ «الْآدَابِ» فِي أَعْجَازِ أَبْيَاتِهِ «وَالْحُرُّ يَصْبِرُ خَوْفَ الْعَارِ لِلنَّارِ».
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ نُدْخِلْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا- بنُون العظمة، وقرأه الْجُمْهُورُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْم الْجَلالَة.
[١٥، ١٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً
268
(١٦)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْضِلٌ، وَافْتِتَاحُهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ أَعْضَلُ، لِاقْتِضَائِهِ اتِّصَالَهَا بِكَلَامٍ قَبْلَهَا. وَقَدْ جَاءَ حدّ الزِّنَا فِي سُورَةِ النُّورِ، وَهِيَ نَازِلَةٌ فِي سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ
غَزْوَة بني الْمُطلق عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي سُورَةِ النُّورِ أَشَدُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ الَّذِي فِي سُورَةِ النُّورِ قَدْ نُسِخَ بِمَا هُنَا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ. فَإِذَا مَضَيْنَا عَلَى مُعْتَادِنَا فِي اعْتِبَارِ الْآيِ نَازِلَةً عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْقِرَاءَةِ فِي سُوَرِهَا، قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عَقِبَ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ وَحِرَاسَةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَجَعَلْنَا الْوَاوَ عَاطِفَةً هَذَا الْحُكْمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء: ٤] وَجَزَمْنَا بِأَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ قَبْلَ أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ مَبْدَأَ شَرْعِ الْعقُوبَة على الزِّنَا فَتَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ لَا مَحَالَةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ بِآيَةِ الْجَلْدِ فِي سُورَةِ النُّورِ. اهـ، وَحَكَى ابْنُ الْفُرْسِ فِي تَرْتِيبِ النَّسْخِ أَقْوَالًا ثَمَانِيَةً لَا نطيل بهَا. فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ حُكْمَ تَشْرِيعٍ عَقِبَ تَشْرِيعٍ لِمُنَاسَبَةٍ: هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى أَحْكَامِ النِّسَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامًا مِنَ النِّكَاحِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وَمَا النِّكَاحُ إِلَّا اجْتِمَاعُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى مُعَاشَرَةٍ عِمَادُهَا التَّآنُسُ وَالسُّكُونُ إِلَى الْأُنْثَى، نَاسَبَ أَنْ يَعْطِفَ إِلَى ذِكْرِ أَحْكَامِ اجْتِمَاعِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِيهِ شرعا، وَهُوَ الزِّنَا الْمُعَبَّرُ عَنهُ بالفاحشة.
فالزنا هُوَ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمُعَاشَرَةِ عَلَى غَيْرِ الْحَالِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ فِي خَرْقِ الْقَوَانِينِ الْمَجْعُولَةِ لِإِبَاحَةِ اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ.
ففِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ طَرِيقُ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَرْأَةِ السَّبْيَ أَوِ الْغَارَةَ أَوِ التَّعْوِيضَ أَوْ رَغْبَةً الرجل فِي مُصَاهَرَةِ قَوْمٍ وَرَغْبَتَهُمْ فِيهِ أَوْ إِذْنَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِأَنْ تَسْتَبْضِعَ مِنْ رَجُلٍ وَلَدًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي الْإِسْلَامِ بَطَلَتِ الْغَارَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِبْضَاعُ، وَلذَلِك تَجِد الزِّنَا لَا يَقَعُ إِلَّا
269
خِفْيَةً لِأَنَّهُ مُخَالَفَةٌ لِقَوَانِينِ النَّاسِ فِي نِظَامِهِمْ وأخلاقهم. وسمّي الزِّنَا الْفَاحِشَةَ لِأَنَّهُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْفَسَادِ وَأَصْلُ الْفُحْشِ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الْكَرَاهِيَةِ وَالذَّمِّ، مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، أَوْ حَالٍ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى وُقُوعِ الْعَمَلِ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَبْلَ نَسْخِهِمَا.
وَمَعْنَى: يَأْتِينَ يَفْعَلْنَ، وأصل الْإِتْيَان الْمَجِيءُ إِلَى شَيْءٍ فَاسْتُعِيرَ هُنَا الْإِتْيَانُ لِفِعْلِ شَيْءٍ لِأَنَّ فَاعِلَ شَيْءٍ عَنْ قَصْدٍ يُشْبِهُ السَّائِرَ إِلَى مَكَانٍ حَتَّى يَصِلَهُ، يُقَالُ: أَتَى الصَّلَاةَ، أَيْ صَلَّاهَا، وَقَالَ الْأَعْشَى:
لِيَعْلَمَ كُلُّ الْوَرَى أَنَّنِي أَتَيْتُ الْمُرُوءَةَ مِنْ بَابِهَا
وَرُبَّمَا قَالُوا: أَتَى بِفَاحِشَةٍ وَبِمَكْرُوهٍ كَأَنَّهُ جَاءَ مُصَاحِبًا لَهُ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمْ بَيَانٌ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ. وَالنِّسَاءُ اسْمُ جَمْعِ امْرَأَةٍ، وَهِيَ الْأُنْثَى مِنَ الْإِنْسَانِ، وَتُطْلَقُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ النِّسَاءُ عَلَى الْإِنَاثِ مُطْلَقًا، وَعَلَى الزَّوْجَاتِ خَاصَّةً وَيُعْرَفُ الْمُرَادُ بِالْقَرِينَةِ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: ١١] ثُمَّ قَالَ- وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: ١١] فَقَابَلَ بِالنِّسَاءِ الْقَوْمَ. وَالْمُرَادُ الْإِنَاثُ كُلُّهُنَّ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النِّسَاء: ١١] الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ آنِفًا وَالْمُرَادُ هَنَا مُطْلَقُ النِّسَاءِ فَيَشْمَلُ الْعَذَارَى الْعَزَبَاتِ.
وَضَمِيرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نِسائِكُمْ وَالضَّمَائِرُ الْمُوَالِيَةُ لَهُ، عَائِدَةٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَيَتَعَيَّنُ لِلْقِيَامِ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ مَنْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ. فَضَمِيرُ نِسائِكُمْ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَضَمِيرُ فَاسْتَشْهِدُوا مَخْصُوصٌ بِمَنْ يُهِمُّهُ الْأَمْرُ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَضَمِيرُ فَأَمْسِكُوهُنَّ مَخْصُوصٌ بِوُلَاةِ الْأُمُورِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ الْمَذْكُورَ سِجْنٌ وَهُوَ حُكْمٌ لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْقُضَاةُ، وَهُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَهَذِهِ عُمُومُهَا مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ.
وَهَذِه الْآيَة هِيَ الْأَصْلُ فِي اشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ.
وَيُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ مَا يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى لِإِقَامَةِ الْحَدِّ سَوَاءٌ.
270
وَالْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ الْبُيُوتُ الَّتِي يُعَيِّنُهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ لِذَلِكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِمْسَاكَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ بَلْ يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِلَى بُيُوتٍ أُخْرَى إلّا إِذا حوّلت بَيْتُ الْمَسْجُونَةِ إِلَى الْوَضْعِ تَحْتَ نَظَرِ الْقَاضِي وَحِرَاسَتِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ عِنْدَ ذِكْرِ الْعِدَّةِ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطَّلَاق:
١].
وَمَعْنَى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ يَتَقَاضَاهُنَّ. يُقَالُ: تَوَفَّى فُلَانٌ حَقَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَاسْتَوْفَاهُ حَقَّهُ. وَالْعَرَبُ تَتَخَيَّلُ الْعُمْرَ مُجَزَّءًا. فَالْأَيَّامُ وَالزَّمَانُ وَالْمَوْتُ يَسْتَخْلِصُهُ مِنْ صَاحِبِهِ مُنَجَّمًا إِلَى أَنْ تَتَوَفَّاهُ. قَالَ طَرَفَةُ:
أَرَى الْعُمْرَ كَنْزًا نَاقِصًا كُلَّ لَيْلَةٍ وَمَا تَنْقُصُ الْأَيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدُ
وَقَالَ أَبُو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ:
إِذَا مَا تَقَاضَى الْمَرْءَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ تَقَاضَاهُ شَيْءٌ لَا يَمَلُّ التَّقَاضِيَا
وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ تُوُفِّيَ فُلَانٌ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ تَوَفَّى عُمُرَهُ فَجَعَلَ اللَّهُ الْمَوْتَ هُوَ الْمُتَقَاضِيَ لِأَعْمَارِ النَّاسِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ هُوَ أَثَرُ آخِرِ أَنْفَاسِ الْمَرْءِ، فَالتَّوَفِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَارِدٌ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي اللُّغَةِ.
وَمعنى أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَيْ حُكْمًا آخَرَ. فَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِلْأَمْرِ الْبَيِّنِ بِمَعْنَى الْعِقَابِ الْمُنَاسِبِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالطَّرِيقِ الْجَادَّةِ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ زَجْرٌ مُوَقَّتٌ سَيَعْقُبُهُ حُكْمٌ شَافٍ لِمَا يَجِدُهُ النَّاسُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ السُّخْطِ عَلَيْهِنَّ مِمَّا فَعَلْنَ.
وَيَشْمَلُ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ جَمِيع النِّسَاء اللائي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ مُحْصَنَاتٍ وَغَيْرِهِنَّ.
وأمّا قَوْله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها فَهُوَ مُقْتَضٍ نَوْعَيْنِ مِنَ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ تَثْنِيَةُ الَّذِي وَهُوَ اسْمٌ مَوْصُولٌ لِلْمُذَكَّرِ، وَقَدْ قُوبِلَ بِهِ اسْمُ مَوْصُولِ النِّسَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ المُرَاد ب الَّذانِ صِنْفَانِ مِنَ الرِّجَالِ: وَهُمَا صِنْفُ
271
الْمُحْصَنِينَ، وَصِنْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِينَ مِنْهُمْ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَبِهِ يَتَقَوَّمُ مَعْنًى بَيِّنٌ غَيْرُ مُتَدَاخِلٍ وَلَا مُكَرَّرٍ. وَوَجْهُ الْإِشْعَارِ بِصِنْفَيِ الزُّنَاةِ مِنَ الرِّجَالِ التَّحَرُّزُ مِنِ الْتِمَاسِ الْعُذْرِ فِيهِ لِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَيِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ الَّذِي يَكْثُرُ فِي مِثْلِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْآيَةُ قَدْ جَعَلَتْ لِلنِّسَاءِ عُقُوبَةً وَاحِدَةً عَلَى الزِّنَى وَهِيَ عُقُوبَةُ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ، وَلِلرِّجَالِ عُقُوبَةً عَلَى الزِّنَى، هِيَ الْأَذَى سَوَاءٌ كَانُوا مُحْصَنِينَ بِزَوْجَاتٍ أَمْ غَيْرَ مُحْصَنِينَ، وَهُمُ الْأَعْزَبُونَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ قَدْ جَعَلَتْ لِلنِّسَاءِ عُقُوبَتَيْنِ: عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ بِهِنَّ وَهِيَ الْحَبْسُ، وَعُقُوبَةٌ لَهُنَّ كَعُقُوبَةِ الرِّجَالِ وَهِيَ الْأَذَى، فَيَكُونُ الْحَبْسُ لَهُنَّ مَعَ عُقُوبَةِ الْأَذَى. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يُسْتَفَادُ اسْتِوَاءُ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ مِنَ الصِّنْفَيْنِ فِي كِلْتَا الْعُقُوبَتَيْنِ، فَأَمَّا الرِّجَالُ فَبِدَلَالَةِ تَثْنِيَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُرَادِ بِهَا صِنْفَانِ اثْنَانِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَبِدَلَالَةِ عُمُومِ صِيغَةِ نِسائِكُمْ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: يَأْتِيانِها عَائِدٌ إِلَى الْفَاحِشَةِ الْمَذْكُورَة وَهِي الزِّنَا. وَلَا الْتِفَاتَ لِكَلَامِ مَنْ تَوَهَّمَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَالْإِيذَاءُ: الْإِيلَامُ غَيْرُ الشَّدِيدِ بِالْفِعْلِ كَالضَّرْبِ غَيْرِ الْمُبَرِّحِ، وَالْإِيلَامُ بِالْقَوْلِ مِنْ شَتْمٍ وَتَوْبِيخٍ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْجَلْدِ، وَالْآيَةُ أَجْمَلَتْهُ، فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ.
وَقد اخْتلف أئمّة الْإِسْلَامِ فِي كَيْفيَّة انتزاع هذَيْن الْعُقُوبَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ يَعُمُّ النِّسَاءَ خَاصَّةً فَشَمَلَ كُلَّ امْرَأَةٍ فِي سَائِرِ الْأَحْوَال بكرا كَانَت أَمْ ثيّبا، وَقَوله: وَالَّذانِ تَثْنِيَةٌ أُرِيدَ بِهَا نَوْعَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَهُمُ الْمُحْصَنُ وَالْبِكْرُ، فَيَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ يَخْتَصُّ بِالزَّوَانِي كُلِّهِنَّ، وَحُكْمَ الْأَذَى يَخْتَصُّ بِالزُّنَاةِ كُلِّهِمْ، فَاسْتُفِيدَ التَّعْمِيمُ فِي الْحَالَتَيْنِ إِلَّا أَنَّ اسْتِفَادَتَهُ فِي الْأُولَى مِنْ صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مِنِ انْحِصَارِ النَّوْعَيْنِ، وَقَدْ كَانَ يُغْنِي أَنْ يُقَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ، وَالَّذِينَ يَأْتُونَ، إِلَّا أَنَّهُ سُلِكَ هَذَا الْأُسْلُوبُ لِيَحْصُلَ الْعُمُومُ بِطَرِيقَيْنِ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى شُمُولِ النَّوْعَيْنِ.
وَجُعِلَ لَفْظُ (اللَّاتِي) لِلْعُمُومِ لِيُسْتَفَادَ الْعُمُومُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَطْ.
272
وَجُعِلَ لَفْظُ (واللَّذَانِ) لِلنَّوْعَيْنِ لِأَنَّ مُفْرَدَهُ وَهُوَ الَّذِي صَالِحٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى النَّوْعِ، إِذِ النَّوْعُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُذَكَّرِ مِثْلِ الشَّخْصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ فِي الْعِبَارَةِ فَكَانَتْ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ هَاتِهِ الْآيَةُ غَايَةً فِي الْإِعْجَازِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ مَعْنَى مَا قَابَلَ الرِّجَالَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجْدُرُ حَمْلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ.
وَالْأَذَى أُرِيدَ بِهِ هُنَا غَيْرُ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ سَبَقَ تَخْصِيصُهُ بِالنِّسَاءِ وَغَيْرُ الْجَلْدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بَعْدُ، فَقِيلَ: هُوَ الْكَلَامُ الْغَلِيظُ وَالشَّتْمُ وَالتَّعْيِيرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَضَرْبُ النِّعَالِ، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِهِ أَنَّ الْآيَةَ شُرِعَتْ عُقُوبَةً لِلزِّنَا قَبْلَ عُقُوبَةِ الْجَلْدِ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أنّ هَذَا حكم مَنْسُوخٌ بِالْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَبِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ رَجْمِ الْمُحْصَنِينَ وَلَيْسَ تَحْدِيدُ هَذَا الْحُكْمِ بِغَايَةِ قَوْلِهِ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِصَارِفٍ مَعْنَى النَّسْخِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، لِأَنَّ الْغَايَةَ جُعِلَتْ مُبْهَمَةً، فَالْمُسْلِمُونَ يَتَرَقَّبُونَ وُرُودَ حُكْمٍ آخَرَ، بَعْدَ هَذَا، لَا غِنًى لَهُمْ عَنْ إِعْلَامِهِمْ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ النَّسْخِ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْجَرَائِمِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيهَا عُقُوبَةٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَنْ تُنْسَخَ بِأَثْقَلَ مِنْهَا، فَشُرِعَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى لِلزُّنَاةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَشُرِعَ الْجَلْدُ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَالْجَلْدُ أَشَدُّ مِنَ الْحَبْسِ وَمِنَ الْأَذَى، وَقَدْ سُوِّيَ فِي الْجَلْدِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَالرَّجُلِ، إِذِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا لَا وَجْهَ لِبَقَائِهَا، إِذْ كِلَاهُمَا قَدْ خَرَقَ حُكْمًا شَرْعِيًّا تَبَعًا لِشَهْوَةٍ نَفْسِيَّةٍ أَوْ طَاعَةً لِغَيْرِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْجَلْدَ الْمُعَيَّنَ شُرِعَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مَحْمَلِ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النُّور: ٢] فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ كَذَلِكَ فِي الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي: مُحْصَنِينَ أَوْ أَبْكَارًا، فَقَدْ نَسَخَهُ الرَّجْمُ فِي خُصُوصِ الْمُحْصَنِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْعَمَلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِنْ كَانَ الْجَلْدُ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ إِلَّا فِي الْبِكْرَيْنِ فَقَدْ قُيِّدَ أَوْ خُصِّصَ بِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ، إِذْ جُعِلَ حُكْمُهُمَا الرَّجْمَ. وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَنِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الرَّجْمُ. وَالْمُحَصَنُ هُوَ مَنْ تَزَوَّجَ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ وَوَقَعَ الْبِنَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَقْدِ بِنَاءً صَحِيحًا. وَحُكْمُ الرَّجْمِ ثَبَتَ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فِي شَرِيعَةِ
273
التَّوْرَاةِ لِلْمَرْأَةِ إِذَا زَنَتْ وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ، فَقَدْ
أَخْرَجَ مَالِكٌ، فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَرِجَالُ الصَّحِيحِ كُلُّهُمْ، حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ» فَقَالُوا «نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ» فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ «كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ» فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ «ارْفَعْ يَدَكَ» فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَقَالُوا: «صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ» فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا
وَقَدْ ذكر حكم الزِّنَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ (٢٢) فَقَالَ «إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعًا مَعَ امْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ يُقْتَلُ الِاثْنَانِ، وَإِذَا وَجَدَ رَجُلٌ فَتَاةً عَذْرَاءَ غَيْرَ مَخْطُوبَةٍ فَاضْطَجَعَ مَعَهَا فَوُجِدَا، يُعْطِي الرَّجُلُ الَّذِي اضْطَجَعَ مَعَهَا لِأَبِي الْفَتَاةِ خَمْسِينَ مِنَ الْفِضَّةِ وَتَكُونُ هِيَ لَهُ زَوْجَةً وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كُلَّ أَيَّامِهِ».
وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ فِي الْإِسْلَامِ بِمَا
رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ضَرْبُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»
. وَمُقْتَضَاهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا تَوَهُّمًا مِنَ الرَّاوِي عَنْ عُبَادَةَ أَوِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْعُلَمَاءُ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. وَنَسَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْجَمْعَ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ. وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. وَلَمْ يَصِحَّ. ثُمَّ ثَبَتَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَضَاءِ بِالرَّجْمِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: أوّلها قضيّة مَا عز بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ،
أَنَّهُ جَاءَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعترف بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ بَعَثَ
إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ: بِهِ جُنُونٌ؟ قَالُوا: لَا، وأبكر هُوَ أَمْ ثَيِّبٌ؟ قَالُوا: بَلْ ثَيِّبٌ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ
. الثَّانِي: قَضِيَّةُ الْغَامِدِيَّةِ،
أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْترفت بِالزِّنَا وَهِيَ حُبْلَى فَأَمَرَهَا أَنْ تَذْهَبَ حَتَّى تَضَعَ، ثُمَّ حَتَّى تُرْضِعَهُ، فَلَمَّا أَتَمَّتْ رَضَاعَهُ جَاءَتْ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ.
274
الثَّالِثُ:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ- وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا-: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ؟ قَالَ: تَكَلَّمْ. قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ- وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا- وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ (هُوَ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ وَيُقَالُ ابْنُ مَرْثَدٍ الْأَسْلَمِيُّ) عَلَى زَوْجَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا
. قَالَ مَالِكٌ وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ. هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُرْسَلٌ مِنْهَا اثْنَانِ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَهِيَ مُسْنَدَةٌ فِي غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِهَا وَبِالْعَمَلِ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِينَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ نَسَخَ الْقُرْآنَ. يُرِيدُ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ لَدَى الصَّحَابَةِ فَلِتَوَاتُرِهِ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا مَا بَلَغَ إِلَيْنَا وَإِلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ فَهُوَ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تبلغ مبلغ متواتر، فَالْحَقُّ أَنَّ دَلِيلَ رَجْمِ الْمُحْصَنِينَ هُوَ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَنَتَعَرَّضُ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بِالرَّجْمِ الشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.
وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ نَاسِخٌ لِحُكْمِ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ قَائِلُونَ بِأَنَّ دَلِيلَ النَّسْخِ هُوَ حَدِيث قد: يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَفِيهِ (وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) فَتَضَمَّنَ الْجَلْدَ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِلشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَأَوْرَدَ الْجَصَّاصُ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ لَا يَرَى الْأَمْرَيْنِ، وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مُغَيَّاةٌ، فَالْحَدِيثُ بَيَّنَ الْغَايَةَ، وَأَنَّ آيَةَ النُّورِ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ خَصَّصَهَا مِنْ قَبْلِ نُزُولِهَا. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ آيَةُ النُّورِ نَزَلَتْ تَقْرِيرًا لِبَعْضِ الْحُكْمِ الَّذِي فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مُغَيَّاةٌ، لَا يُجْدِي لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُبْهَمَةَ لَمَّا كَانَ بَيَانُهَا إِبْطَالًا لِحُكْمِ الْمُغَيَّى فَاعْتِبَارُهَا اعْتِبَارُ النَّسْخِ، وَهَلِ النَّسْخُ كُلُّهُ إِلَّا إِيذَانٌ بِوُصُولِ غَايَةِ الْحُكْمِ الْمُرَادَةِ لِلَّهِ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ،
275
فَذِكْرُهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَى إِبْهَامِهَا لَا يَكْسُو النُّزُولَ غَيْرَ شِعَارِ النَّسْخِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ شُرِعَ الْأَذَى ثُمَّ نُسِخَ بِالْحَبْسِ فِي
الْبُيُوتِ وَإِنْ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ مُتَأَخِّرًا. وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ فَلَا مُخَلِّصَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إِلَّا بِأَنْ نَجْعَلَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ، وَعَلَى تَعْوِيضِهِ بِالْحَدِّ فِي زمَان النبوءة فيؤول إِلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَيَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ الْجَصَّاصُ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ لِلنَّصِّ تَتَضَمَّنُ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخٌ لِلنَّصِّ.
وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ شُرِعَ بَعْدَ الْجَلْدِ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِيهِ تَضَمَّنَتِ التَّغْرِيبَ مَعَ الْجَلْدِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَغْرِيبٌ بَعْدَ الرَّجْمِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ لَا مَحَالَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ فَهُوَ نَسْخٌ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ: أَجْمَعَ رَأْيُ خِيَارِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ يُغَرَّبُ مِنْهُ، وَتَمَادَى ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَ كُلُّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا غُرِّبَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فأقرّه فِي الزِّنَا خَاصَّةً. قُلْتُ: وَكَانَ فِي الْعَرَبِ الْخَلْعُ وَهُوَ أَنْ يُخْلَعَ الرَّجُلُ مِنْ قَبِيلَتِهِ، وَيَشْهَدُونَ بِذَلِكَ فِي الْمَوْسِمِ، فَإِنْ جَرَّ جَرِيرَةً لَا يُطَالَبُ بِهَا قَوْمُهُ، وَإِنِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ لَا يَطْلُبُ قَوْمُهُ دِيَةً وَلَا نَحْوَهَا، وَقَدْ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِهِ الذِّيبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعَيَّلِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَرَّبُ لِأَنَّ تَغْرِيبَهَا ضَيْعَةٌ، وَأَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ لِأَنَّهُ نَقْلُ ضُرٍّ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَعَوَّضَهُ بِالسَّجْنِ وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالضَّرْبِ وَلَا يُظَنُّ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ شَرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ وَرَجَمَهَا بَعْدَ الْجَلْدِ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
. وَقُرِنَ بِالْفَاءِ خَبَرُ الْمَوْصُولَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَشْهِدُوا وَقَوْلِهِ فَآذُوهُما لِأَنَّ الْمَوْصُولَ أُشْرِبَ مَعْنَى الشَّرْطِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صِلَةَ الْمَوْصُولِ سَبَبٌ فِي الْحُكْمِ الدَّالِّ عَلَيْهِ خَبَرُهُ، فَصَارَ خَبَرُ الْمَوْصُولِ مِثْلَ جَوَابِ الشَّرْطِ وَيَظْهَرُ لِي أنّ ذَلِك عِنْد مَا يَكُونُ الْخَبَرُ جُمْلَةً، وَغَيْرَ صَالِحَةٍ لِمُبَاشَرَةِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ جَزَاءً لَلَزِمَ
276
اقْتِرَانُهَا بِالْفَاءِ.
هَكَذَا وَجَدْنَا مِنِ اسْتِقْرَاءِ كَلَامِهِمْ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ إِنَّمَا يَقع فِي الصَّلَاة الَّتِي تومىء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهَا الَّتِي تُعْطِي رَائِحَةَ التَّسَبُّبِ فِي الْخَبَرِ الْوَارِدِ بَعْدَهَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ دُخُولَ الْفَاءِ عَلَامَةً عَلَى كَوْنِ الْفَاءِ نَائِبَةً عَنْ (أَمَّا).
وَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ إِتْيَانَ النِّسَاءِ بِالْفَاحِشَةِ هُوَ الَّذِي سَبَّبَ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بُنِيَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى جَعْلِ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ هُوَ الْخَبَرَ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ صُورِيٌّ وَإِلَّا فَإِنَّ الْخَبَرَ هُوَ فَأَمْسِكُوهُنَّ لَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ جَوَابًا لِشَرْطٍ هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى فَإِنْ شَهِدُوا فَفَاءُ
فَاسْتَشْهِدُوا هِيَ الْفَاءُ الْمُشْبِهَةُ لِفَاءِ الْجَوَابِ، وَفَاءُ فَإِنْ شَهِدُوا تَفْرِيعِيَّةٌ، وَفَاءُ فَأَمْسِكُوهُنَّ جَزَائِيَّةٌ، وَلَوْلَا قَصْدُ الِاهْتِمَامِ بِإِعْدَادِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ لَقِيلَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِنْ شَهِدَ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَة مِنْكُم.
[١٧، ١٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
اسْتِطْرَادٌ جَرَّ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما [النِّسَاء: ١٦] وَالتَّوْبَةُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي قَوْلِهِ، فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٠] : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.
وإِنَّمَا لِلْحَصْرِ.
وعَلَى هُنَا حَرْفٌ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّعَهُّدِ وَالتَّحَقُّقِ كَقَوْلِكَ: عَلَيَّ لَكَ كَذَا فَهِيَ تُفِيدُ تَحَقُّقَ التَّعَهُّدِ. وَالْمَعْنَى: التَّوْبَةُ تَحِقُّ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا مَجَازٌ فِي تَأْكِيدِ
277
الْوَعْدِ بِقَبُولِهَا حَتَّى جُعِلَتْ كَالْحَقِّ عَلَى اللَّهِ، وَلَا شَيْءَ بِوَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ إِلَّا وُجُوبُ وَعْدِهِ بِفَضْلِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ أَشْيَاءَ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ يَقْتَضِي وُجُوبَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ سَمْعًا وَلَيْسَ وُجُوبًا.
وَقَدْ تَسَلَّطَ الْحَصْرُ عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ، وَذُكِرَ لَهُ قَيْدَانِ وَهُمَا بِجَهالَةٍ ومِنْ قَرِيبٍ. وَالْجَهَالَةُ تُطْلَقُ عَلَى سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَعَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ رَوِيَّةٍ، وَهِيَ مَا قَابَلَ الْحِلْمَ، وَلِذَلِكَ تُطْلَقُ الْجَهَالَةُ عَلَى الظُّلْمِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
وَقَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ». وَالْمُرَادُ هُنَا ظُلْمُ النَّفْسِ، وَذُكِرَ هَذَا الْقَيْدُ هُنَا لِمُجَرَّدِ تَشْوِيهِ عَمَلِ السُّوءِ، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، إِذْ لَا يَكُونُ عَمَلُ السُّوءِ إِلَّا كَذَلِكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجَهَالَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَهْلِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا فَعَلَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى جَهَالَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَعَانِي لَفْظِ
الْجَهْلِ، وَلَوْ عَمِلَ أَحَدٌ مَعْصِيَةً وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يتعلّم ذَلِك ويجتنّبه.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَرِيبٍ، مِنْ فِيهِ لِلِابْتِدَاءِ وقَرِيبٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ مِنْ زَمَنٍ قَرِيبٍ مِنْ وَقْتِ عَمَلِ السُّوءِ.
وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى مِنْ قَرِيبٍ بِأَنَّ الْقَرِيبَ هُوَ مَا قَبْلَ الِاحْتِضَارِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ بَعْدَهُ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ مَعْنَى (قَرِيبٍ).
وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي إِعْمَالِ مَفْهُومِ الْقَيْدَيْنِ «بِجَهَالَةٍ- مِنْ قَرِيبٍ» حَتَّى قِيلَ: إِنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨]، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ قيد (بِجَهَالَة) كوصف كَاشِفٌ لِعَمَلِ السُّوءِ لِأَنَّ الْمُرَادَ عَمَلُ السُّوءِ مَعَ الْإِيمَانِ. فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوْا أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ عَمْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
278
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا قَيْدَانِ ذُكِرَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ شَأْنَ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ جَارِيًا عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْقَيْدَيْنِ وَلَيْسَ مَفْهُومَاهُمَا بِشَرْطَيْنِ لِقَبُولِ التَّوْبَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ إِلَى وَهُمْ كُفَّارٌ قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِلَخْ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ هَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ فِيهَا لِتَفَرُّعِ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ لِلَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ الْعَدْلِ. فَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْحُونَ بِهِ إِلَى أَنَّ التَّائِبَ قَدْ أَصْلَحَ حَالَهُ، وَرَغِبَ فِي اللِّحَاقِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، فَلَوْ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ ذَلِكَ لَكَانَ إِبْقَاءً لَهُ فِي الضَّلَالِ وَالْعَذَابِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ تَعَالَى عَلَى أُصُولِهِمْ، وَهَذَا إِنْ أَرَادُوهُ كَانَ سَفْسَطَةً لِأَنَّ النَّظَرَ هُنَا فِي الْعَفْوِ عَنْ عِقَابٍ اسْتَحَقَّهُ التَّائِبُ مِنْ قَبْلِ تَوْبَتِهِ لَا فِي مَا سَيَأْتِي بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ.
وأمّا عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ لِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ، هِيَ وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرَ، غَيْرَ أَنَّ كَثْرَتَهَا أَفَادَتِ الْقَطْعَ (كَإِفَادَةِ الْمُتَوَاتِرِ الْقَطْعَ مَعَ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ مِنْ آحَادِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَاجْتِمَاعُهَا هُوَ الَّذِي فَادَ الْقَطْعَ، وَفِي تَشْبِيهِ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ نَظَرٌ)، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ، وَابْن عَطِيَّة ووالده أَبُو بَكْرِ ابْن عَطِيَّةَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَبُولَ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ
الْبَاقِلَّانِيِّ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، والمازري والتفتازانيّ، وَشَرَفِ الدِّينِ الْفِهْرِيِّ وَابْنِ الْفُرْسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الظَّوَاهِرِ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ نَظَرًا.
غَيْرَ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ أصُول الدَّين فَلَمَّا ذَا نَطْلُبُ فِي إِثْبَاتِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ.
وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا الْقَبُولَ ذَكَرُوهُ عَلَى إِجْمَالِهِ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمُ اخْتِلَافًا فِي حَالَةٍ، فَالْقَبُولُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ معنى رَضِي اللَّهِ عَنِ التَّائِبِ، وَإِثْبَاتِهِ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ لَمَّا قَالُوا بِأَنَّ قَبُولَهَا قَطْعِيٌّ عَقْلًا. وَفِي كَونه قطعيّا، وَكَونه عقلا، نَظَرٌ وَاضِحٌ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ التَّوْبَةَ
279
لَا تَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى صَلَاحِهِ. وَيُطْلَقُ الْقَبُولُ وَيُرَادُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَهَذَا أَحْسَبُهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَونه سميعا لَا عَقْلِيًّا، إِذِ الْعَقْلُ لَا يَقْتَضِي الصَّفْحَ عَنِ الذُّنُوبِ الْفَارِطَةِ عِنْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ إِتْيَانِ أَمْثَالِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَيُطْلَقُ الْقَبُولُ عَلَى مَعْنَى قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا فِي ذَاتِهَا عَمَلٌ مَأْمُورٌ بِهِ كُلُّ مُذْنِبٍ، أَيْ بِمَعْنَى أَنَّهَا إِبْطَالُ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ الَّتِي كَانَ مُصِرًّا عَلَى إِتْيَانِهَا، فَإِنَّ إِبْطَالَ الْإِصْرَارِ مَأْمُورٌ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ذُنُوبِ الْقَلْبِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ الْقَلْبِ مِنْهُ، فَالتَّائِبُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُعْتَبَرُ مُمْتَثِّلًا لِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ، فَالْقَبُولُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَطْعِيٌّ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَعْنَى الْإِجْزَاءِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ مَنْ أَتَى عَمَلًا مَأْمُورًا بِهِ بِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّة كَانَ عمله مَقْبُولًا بِمَعْنَى ارْتِفَاعِ آثَارِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى الظَّنِّ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ إِذْ قَالَ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ «إِنَّكَ إِذَا فَهِمْتَ مَعْنَى الْقَبُولِ لَمْ تَشُكَّ فِي أَنَّ كُلَّ تَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ هِيَ مَقْبُولَةٌ إِذِ الْقَلْبُ خُلِقَ سَلِيمًا فِي الْأَصْلِ، إِذْ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَإِنَّمَا تَفُوتُهُ السَّلَامَةُ بِكَدِرَةٍ ترهقه من غيرَة الذُّنُوبِ، وَأَنَّ نُورَ النَّدَمِ يَمْحُو عَنِ الْقَلْبِ تِلْكَ الظُّلْمَةَ كَمَا يَمْحُو الْمَاءُ والصابون عَن الثَّوَاب الْوَسَخَ.
فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ وَلَا تُقْبَلُ كَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالظَّلَامُ لَا يَزُولُ، أَوْ أَنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ وَالْوَسَخُ لَا يَزُولُ، نَعَمْ قَدْ يَقُولُ التَّائِبُ بِاللِّسَانِ تُبْتُ وَلَا يُقْلِعُ، فَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَصَّارِ بِلِسَانِهِ غَسَلْتُ الثَّوْبَ وَهُوَ لَمْ يَغْسِلْهُ فَذَلِكَ لَا يُنَظِّفُ الثَّوْبَ»
. وَهَذَا الْكَلَامُ تَقْرِيبٌ إِقْنَاعِيٌّ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّا إِنَّمَا نَبْحَثُ عَنْ طَرْحِ عُقُوبَةٍ ثَابِتَةٍ هَلْ حَدَثَانُ التَّوْبَةِ يَمْحُوهَا.
وَالْإِشَارَةُ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِحْضَارِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْبَالِغَةِ غَايَةَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى
طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، لِيُعْرَفَ أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَدْلُولِ الْمُسْنَدِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] وَالْمَعْنَى: هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ مُسْتَحِقِّينَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ إِلَخْ تَنْبِيهٌ عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ عَنْ نَوْعٍ مِنَ التَّوْبَةِ وَهِيَ الَّتِي
280
تَكُونُ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الْعَزْمِ تَرَتُّبُ آثَارِهِ عَلَيْهِ وَصَلَاح الْحل فِي هَذِهِ الدَّارِ بِالِاسْتِقَامَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ ذَهَبَتْ فَائِدَةُ التَّوْبَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ عطف الْكُفَّارِ عَلَى الْعُصَاةِ فِي شَرْطِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ لِأَنَّ إِيمَانَ الْكَافِرِ تَوْبَةٌ مِنْ كُفْرِهِ، وَالْإِيمَانَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ التَّوْبَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذا مَاتَ كَافِرًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنَ الْكُفْرِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ قَبُولِ تَوْبَتِهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ إِلَّا حُصُولُ الْمَوْتِ، وَتَأَوَّلُوا مَعْنَى وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَدَمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا مَاتَ كَافِرًا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا آمَنَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ قُبِلَ إِيمَانُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَدْ
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ: أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَكَانَ آخِرُ مَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيءُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ.
فَنَزَلَتْ مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ
[التَّوْبَة: ١١٣] وَيُؤْذِنُ بِهِ عَطْفُ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ بِالْمُغَايَرَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ مُخَالَفَةِ تَوْبَتِهِ لِتَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي أَنَّ الْإِيمَانَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَنُطْقٌ لِسَانِيٌّ، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْكَافِرِ التَّائِبِ وَهُوَ حَيٌّ، فَدَخَلَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَقَوَّى بِهِ جَانِبُهُمْ وَفَشَتْ بِإِيمَانِهِ سُمْعَةُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ.
وَثَانِيهمَا: أَنَّ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِمَّا هُمَا عَلَيْهِ، إِذَا حَضَرَهُمَا الْمَوْتُ. وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ بِأَنَّ مَعْنَاهُ يُشْرِفُونَ عَلَى الْمَوْتِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: ٩] أَيْ لَوْ أَشْرَفُوا عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً. وَالدَّاعِي إِلَى التَّأْوِيلِ نَظْمُ الْكَلَامِ لِأَنَّ (لَا) عَاطِفَةٌ عَلَى مَعْمُولٍ لِخَبَرِ التَّوْبَةِ الْمَنْفِيَّةِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
281
فَيَتُوبُونَ، وَلَا
تُعْقَلُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ (يَمُوتُونَ) بِمَعْنَى يُشْرِفُونَ كَقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٠]، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يُونُس: ٩٠، ٩١] الْمُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبَلْ إِيمَانَهُ سَاعَتَئِذٍ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَال بأنّ ذَلِك شَأْنَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ
[يُونُس: ٩٨] فَالْغَرَقُ عَذَابٌ عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ، فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَإِذَا صَحَّتْ تَوْبَةُ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَتْ عَنِ الْكُفْرِ قَطَعْنَا بِقَبُولِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ سِوَاهُ مِنَ الْمَعَاصِي فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقْطَعُ بِقَبُولِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْطَعْ وَيَظُنَّهُ ظَنًّا اهـ.
[١٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.
اسْتِئْنَافُ تَشْرِيعٍ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ الَّتِي كَانَ سِيَاقُ السُّورَةِ لِبَيَانِهَا وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَزَلْ آيُهَا مُبَيِّنَةً لِأَحْكَامِهَا تَأْسِيسًا وَاسْتِطْرَادًا، وَبَدْءًا وَعَوْدًا، وَهَذَا حُكْمٌ تَابِعٌ لِإِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ جَعْلِ زَوْجِ الْمَيِّتِ مَوْرُوثَةً عَنْهُ وَافْتُتِحَ بُقُولِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِلتَّنْوِيهِ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ.
وَخُوطِبَ الَّذِينَ آمَنُوا لِيَعُمَّ الْخِطَابُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، فَيَأْخُذَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَظِّهِ مِنْهُ، فَمُرِيدُ الِاخْتِصَاصِ بِامْرَأَةِ الْمَيِّتِ يَعْلَمُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهُ، والوليّ كَذَلِكَ، وَوُلَاةُ الْأُمُورِ كَذَلِكَ.
وَصِيغَةُ لَا يَحِلُّ صِيغَةُ نَهْيٍ صَرِيحٍ لِأَنَّ الْحِلَّ هُوَ الْإِبَاحَةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلِسَانِ الشَّرِيعَةِ، فَنَفْيُهُ يُرَادِفُ مَعْنَى التَّحْرِيمِ.
وَالْإِرْثُ حَقِيقَتُهُ مَصِيرُ الْكَسْبِ إِلَى شَخْصٍ عَقِبَ شَخْصٍ آخَرَ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَصِيرِ الْأَمْوَالِ، وَيُطْلَقُ الْإِرْثُ مَجَازًا عَلَى تَمَحُّضِ الْمِلْكِ لِأَحَدٍ بَعْدَ الْمُشَارَكِ فِيهِ، أَوْ فِي
282
حَالَةِ ادِّعَاءِ الْمُشَارَكِ فِيهِ، وَمِنْهُ «يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا»، وَهُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَتَاعِ الْمَوْرُوثِ، فَتَقُولُ: وَرِثْتُ مَالَ فُلَانٍ، وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى ذَاتِ الشَّخْصِ الْمَوْرُوثِ، يُقَالُ: وَرِثَ فُلَانٌ أَبَاهُ، قَالَ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مَرْيَم: ٦] وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ إِذَا تَعَدَّى إِلَى مَا لَيْسَ بِمَال.
فتعدية فِعْلِ أَنْ تَرِثُوا إِلَى النِّساءَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ الْأَوَّلِ: بِتَنْزِيلِ النِّسَاءِ مَنْزِلَةَ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ، لِإِفَادَةِ تَبْشِيعِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهلهَا فَنزلت هَذِه الْآيَةُ» وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَالزُّهْرِيِّ كَانَ الِابْنُ الْأَكْبَرُ أَحَقَّ بِزَوْجِ أَبِيهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبْنَاءٌ فَوَلِيُّ الْمَيِّتِ إِذَا سَبَقَ فَأَلْقَى عَلَى امْرَأَةِ الْمَيِّتِ ثَوْبَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ سَبَقَتْهُ فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا كَانَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا. وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ وَلَهَا أَوْلَادٌ مِنْهُ: الْعِيصُ، وَأَبُو الْعِيصِ، وَالْعَاصُ، وَأَبُو الْعَاصِ، وَلَهُ أَوْلَادٌ مِنْ غَيْرِهَا مِنْهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ أُمَيَّةَ فَخَلَفَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ: مُسَافِرًا، وَأَبَا مُعَيْطٍ، فَكَانَ الْأَعْيَاصُ أَعْمَامًا لِمُسَافِرٍ وَأَبِي مُعَيْطٍ وَإخْوَتَهُمَا مِنَ الْأُمِّ».
وَقَدْ قِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ رَامَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ كَبْشَةَ بِنْتَ مَعْنٍ الْأَنْصَارِيَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ لَازِمَةً فِي الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ فِي قُرَيْشٍ مُبَاحَةً مَعَ التَّرَاضِي. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ كَرْهاً حَالًا مِنَ النِّسَاءِ، أَيْ كَارِهَاتٍ غَيْرَ رَاضِيَاتٍ، حَتَّى يَرْضَيْنَ بِأَنْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا لِمَنْ يَرْضَيْنَهُ، مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ النِّكَاحِ، وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْإِكْرَاهُ بعوائدهم الَّتِي تمالؤوا عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَوْ رَامَتِ الْمَرْأَةُ الْمَحِيدَ عَنْهَا، لَأَصْبَحَتْ سُبَّةً لَهَا، وَلَمَا وَجَدَتْ مَنْ يَنْصُرُهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ الْأَزْوَاجُ، أَيْ أَزْوَاجُ الْأَمْوَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ (تَرِثُوا) مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمُتَعَدِّيًا إِلَى الْمَوْرُوثِ فَيُفِيدَ
283
النَّهْيَ عَنْ أَحْوَالٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: مِنْهَا أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَعْضُلُونَ النِّسَاءَ ذَوَاتِ الْمَالِ مِنَ التَّزَوُّجِ خَشْيَةَ أَنَّهُنَّ إِذَا تَزَوَّجْنَ يَلِدْنَ فَيَرِثُهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَأَوْلَادُهُنَّ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْعَاصِبِ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ، وَهُنَّ يَرْغَبْنَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ وَمِنْهَا أَنَّ الْأَزْوَاجَ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَيَأْبَوْنَ أَنْ
يُطَلِّقُوهُنَّ رَغْبَةً فِي أَنْ يَمُتْنَ عِنْدَهُمْ فَيَرِثُوهُنَّ، فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ لَهُنَّ عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى حَالَةِ الْكَرَاهِيَةِ، إِذْ لَا تَرْضَى الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ مُخْتَارَةً، وَعَلَى هَذَا فَالنِّسَاءُ مُرَادٌ بِهِ جَمْعُ امْرَأَةٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَرْهًا- بِفَتْحِ الْكَافِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الْكَافِ- وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ.
عُطِفَ النَّهْيُ عَنِ الْعَضْلِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كَرْهًا لِمُنَاسَبَةِ التَّمَاثُلِ فِي الْإِكْرَاهِ وَفِي أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ سُوءُ مُعَامَلَةِ الْمَرْأَةِ، وَفِي أَنَّ الْعَضْلَ لِأَجْلِ أَخْذِ مَالٍ مِنْهُنَّ.
وَالْعَضْلُ: مَنْعُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ إِيَّاهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢٣٢].
فَإِن كَانَ الْمنْهِي عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً هُوَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ مِنْ فِعْلِ (تَرِثُوا)، وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْمَرْأَةِ كَرْهًا عَلَيْهَا، فَعَطْفُ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ إمّا عطف خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ، إِنْ أُرِيدَ خُصُوصُ مَنْعِ الْأَزْوَاجِ نِسَاءَهُمْ مِنَ الطَّلَاقِ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ، رَغْبَةً فِي بَقَاءِ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُ حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَ مِنْهَا مَالَهَا، أَوْ عَطْفُ مُبَايِنٍ إِنْ أُرِيدَ النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهَا مِنَ الطَّلَاقِ حَتَّى يُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا آتَاهَا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِطْلَاقُ الْعَضْلِ عَلَى هَذَا الْإِمْسَاكِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ لِأَنَّهَا كَالَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا وَلَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ التَّزَوُّجِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ الْمَعْنى الْمجَازِي لترثوا وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مِيرَاثًا، وَهُوَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي مُعَامَلَةِ أَزْوَاجِ أَقَارِبِهِمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَعَطْفُ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ عَطْفُ حُكْمٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُعَامَلَةِ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَعْضُلَ الْوَلِيُّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ لِتَبْقَى عِنْدَهُ فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا،
284
وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ رَاجِعًا إِلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الْأَزْوَاجُ خَاصَّةً، وَهَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ أَنْ يُطْلَقَ ضَمِيرٌ صَالِحٌ لِلْجَمْعِ وَيُرَادَ مِنْهُ بَعْضُ ذَلِكَ الْجَمْعِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩] أَيْ لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ أَخَاهُ، إِذْ قَدْ يُعْرَفُ أَنَّ أَحْدًا لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ، وَكَذَلِكَ فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١] أَيْ يُسَلِّمُ الدَّاخِلُ عَلَى الْجَالِسِ. فَالْمَعْنَى: لِيَذْهَبَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضِ مَا آتَاهُنَّ بَعْضُكُمْ، كَأَنْ يُرِيدَ الْوَلِيُّ أَنْ يَذْهَبَ فِي مِيرَاثِهِ بِبَعْضِ مَالِ مَوْلَاتِهِ الَّذِي وَرِثَتْهُ مِنْ أُمِّهَا أَوْ قَرِيبِهَا أَوْ مِنْ زَوْجِهَا، فَيَكُونُ فِي الضَّمِيرِ تَوْزِيعٌ. وَإِطْلَاقُ الْعَضْلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى
حَقِيقَةٌ. وَالذَّهَابُ فِي قَوْلِهِ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مَجَازٌ فِي الْأَخْذِ، كَقَوْلِهِ:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧]، أَيْ أَزَالُهُ.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
لَيْسَ إِتْيَانُهُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بَعْضًا مِمَّا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا مِنَ الْعَضْلِ وَلَا مِنَ الْإِذْهَابِ بِبَعْضِ الْمَهْرِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا اسْتِثْنَاءً مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَهُوَ إِرَادَةُ الْإِذْهَابِ بِبَعْضِ مَا آتَوْهُنَّ، لِأَنَّ عُمُومَ الْأَفْرَادِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ، أَيْ إِلَّا حَالَ الْإِتْيَانِ بِفَاحِشَةٍ فَيَجُوزُ إِذْهَابُكُمْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، أَيْ لَكِنْ إِتْيَانُهُنَّ بِفَاحِشَةٍ يُحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، فَقِيلَ: هَذَا كَانَ حُكْمَ الزَّوْجَةِ الَّتِي تَأْتِي بِفَاحِشَةٍ وَأَنَّهُ نُسِخَ بِالْحَدِّ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَالْفَاحِشَةُ هُنَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعلمَاء هِيَ الزِّنَا، أَيْ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَحَقَّقَ زِنَى زَوْجِهِ فَلَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا، فَإِذَا طَلَبَتِ الطَّلَاقَ فَلَهُ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ صَدَاقِهَا، لِأَنَّهَا تَسَبَّبَتْ فِي بَعْثَرَةِ حَالِ بَيْتِ الزَّوْجِ، وَأَحْوَجَتْهُ إِلَى تَجْدِيدِ زَوْجَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وَأَمَانَةِ الْإِيمَانِ. فَإِنْ حَادَ عَنْ ذَلِكَ فَلِلْقُضَاةِ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِّ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلِ الْمُفَادَاةَ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ لِئَلَّا تَصِيرَ مُدَّةُ الْعِصْمَةِ عَرِيَّةً عَنْ عِوَضٍ مُقَابِلٍ، هَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ. وَأَبِي قِلَابَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ لَكِنْ قَالَ عَطَاءٌ: هَذَا الْحُكْمُ نسخ بحدّ الزِّنَا وَبِاللَّعَّانِ، فَحُرِّمَ الْإِضْرَارُ وَالِافْتِدَاءُ.
285
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: الْفَاحِشَةُ هُنَا الْبُغْضُ وَالنُّشُوزُ، فَإِذَا نَشَزَتْ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ بِإِجَازَةِ أَخْذِ الْخُلْعِ عَنِ النَّاشِزِ يُنَاسِبُ هَذَا إِلَّا أَنِّي لَا أحفظ لمَالِك نَصًّا فِي الْفَاحِشَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُبِيِّنَةٍ- بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ- اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَيَّنَ اللَّازِمِ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ «بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ». وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَيَّنَ الْمُتَعَدِّي أَيْ بَيَّنَهَا وَأَظْهَرَهَا بِحَيْثُ أَشْهَدَ عَلَيْهِنَّ بِهَا.
عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
أَعْقَبَ النَّهْيَ عَنْ إِكْرَاهِ النِّسَاءِ وَالْإِضْرَارِ بِهِنَّ بِالْأَمْرِ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَهُنَّ، فَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ، لِأَنَّ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ جَامِعٌ لِنَفْيِ الْإِضْرَارِ وَالْإِكْرَاهِ، وَزَائِدٌ بِمَعَانِي إِحْسَانِ الصُّحْبَةِ.
وَالْمُعَاشَرَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعِشْرَةِ وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَرَى اللَّفْظَةَ مِنْ أَعْشَارِ الْجَزُورِ لِأَنَّهَا مُقَاسَمَةٌ وَمُخَالَطَةٌ، أَيْ فَأَصْلُ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ عَدَدُ الْعَشَرَةِ. وَأَنَا أَرَاهَا مُشْتَقَّةً مِنَ الْعَشِيرَةِ أَيِ الْأَهْلِ، فَعَاشَرَهُ جَعَلَهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ، كَمَا يُقَالُ:
آخَاهُ إِذَا جَعَلَهُ أَخًا. أَمَّا الْعَشِيرَةُ فَلَا يُعْرَفُ أَصْلُ اشْتِقَاقِهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مِنَ الْعَشَرَةِ أَيِ اسْمِ الْعَدَدِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَالْمَعْرُوفُ ضِدُّ الْمُنْكَرِ وَسُمِّيَ الْأَمْرُ الْمَكْرُوهُ مُنْكَرًا لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَأْنَسُ بِهِ، فَكَأَنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَهَا نَكِرَةٌ، إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ الْمَجْهُولَ يَكُونُ مَكْرُوهًا ثُمَّ أَطْلَقُوا اسْمَ الْمُنْكَرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَأَطْلَقُوا ضِدَّهُ عَلَى الْمَحْبُوبِ لِأَنَّهُ تَأْلَفُهُ النُّفُوسُ. وَالْمَعْرُوفُ هُنَا مَا حَدَّدَهُ الشَّرْعُ وَوَصَفَهُ الْعُرْفُ.
286
وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ عَلَى لَازِمِ الْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ:
وَعاشِرُوهُنَّ وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، أَيْ فَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ. وَجُمْلَةُ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا نَائِبَةٌ مَنَابَ جَوَابِ الشَّرْط، وَهِي عَلَيْهِ لَهُ فَعُلِمَ الْجَوَابُ مِنْهَا. وَتَقْدِيرُهُ: فَتَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً يُفِيدُ إِمْكَانَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمَكْرُوهَةُ سَبَبَ خَيْرَاتٍ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ فِي الْفِرَاق.
وفَعَسى هُنَا لِلْمُقَارَبَةِ الْمَجَازِيَّةِ أَوِ التَّرَجِّي. أَنْ تَكْرَهُوا سَادٌّ مَسَدَّ مَعْمُولَيْهَا، وَيَجْعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَكْرَهُوا، وَمَنَاطُ الْمُقَارَبَةِ وَالرَّجَاءِ هُوَ مَجْمُوعُ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذِه حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ، إِذْ قَدْ تَكْرَهُ النُّفُوسُ مَا فِي عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ فَبَعْضُهُ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ عِنْدَ غَوْصِ الرَّأْيِ. وَبَعْضُهُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِلنَّاسِ. قَالَ سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ، حِينَ مَرْجِعِهِ مِنْ صِفِّينَ «اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَمْرَهُ لَرَدَدْنَا. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ». وَقَدْ قَالَ تَعَالَى، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٦].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: الْإِرْشَادُ إِلَى إِعْمَاقِ النَّظَرِ وَتَغَلْغُلِ الرَّأْيِ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ، وَعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِالْبَوَارِقِ الظَّاهِرَةِ. وَلَا بِمَيْلِ الشَّهَوَاتِ إِلَى مَا فِي الْأَفْعَالِ مِنْ مُلَائِمٍ، حَتَّى يَسْبِرَهُ بِمِسْبَارِ الرَّأْيِ، فَيَتَحَقَّقَ سَلَامَةَ حُسْنِ الظَّاهِرِ مِنْ سُوءِ خَفَايَا الْبَاطِنِ.
وَاقْتَصَرَ هُنَا عَلَى مُقَارَبَةِ حُصُولِ الْكَرَاهِيَةِ لِشَيْءٍ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، دُونَ مُقَابِلِه، كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٦] وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ لِأَنَّ الْمَقَامَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَقَامُ بَيَانِ الْحَقِيقَةِ بِطَرَفَيْهَا إِذِ الْمُخَاطَبُونَ فِيهَا كَرِهُوا الْقِتَالَ، وَأَحَبُّوا السِّلْمَ، فَكَانَ حَالُهُمْ مُقْتَضِيًا بَيَانَ أَنَّ الْقِتَالَ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْخَيْرَ لِمَا يَحْصُلُ بَعْدَهُ مِنْ أَمْنٍ دَائِمٍ، وَخَضْدِ شَوْكَةِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّ السّلم قد تكون شَرًّا لِمَا يَحْصُلُ مَعَهَا مِنِ
287
اسْتِخْفَافِ الْأَعْدَاءِ بِهِمْ، وَطَمَعِهِمْ فِيهِمْ، وَذَهَابِ عِزِّهِمُ الْمُفْضِي إِلَى اسْتِعْبَادِهِمْ، أَمَّا الْمَقَامُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ لِبَيَانِ حُكْمِ مَنْ حَدَثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجِهِ مَا كَرِهَهُ فِيهَا، وَرَامَ فِرَاقَهَا، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ مَيْلٌ إِلَى غَيْرِهَا، فَكَانَ حَالُهُ مُقْتَضِيًا بَيَانَ مَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَحْبُوبَةِ شُرُورًا لِكَوْنِهِ فَتْحًا لِبَابِ التَّعَلُّلِ لَهُمْ بِمَا يَأْخُذُونَ مِنَ الطَّرَفِ الَّذِي يَمِيلُ إِلَيْهِ هَوَاهُمْ. وَأُسْنِدَ جَعْلُ الْخَيْرِ فِي الْمَكْرُوهِ هُنَا لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً الْمُقْتَضِي أَنَّهُ جَعْلٌ عَارِضٌ لِمَكْرُوهٍ خَاصٍّ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٦] قَالَ: وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّ تِلْكَ بَيَانٌ لِمَا يُقَارِنُ بَعْضَ الْحَقَائِقِ مِنَ الْخَفَاءِ فِي ذَاتِ الْحَقِيقَةِ، لِيَكُونَ رَجَاءُ الْخَيْرِ مِنَ الْقِتَالِ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَيْرَ حَاصِلٍ بِجَعْلٍ عَارِضٍ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ على الزَّوْجَة الموذية أَوِ الْمَكْرُوهَةِ إِذَا كَانَ لِأَجْلِ امْتِثَالِ أَمْرِ الله بِحسن معاشرتها، يَكُونُ جَعْلُ الْخَيْرِ فِي ذَلِكَ جَزَاءً مِنَ اللَّهِ على الِامْتِثَال.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
لَا جَرَمَ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ تَعْقُبُهَا إِرَادَةُ اسْتِبْدَالِ الْمَكْرُوهِ بِضِدِّهِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ الشَّرْطَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ اسْتِطْرَادًا وَاسْتِيفَاءً لِلْأَحْكَامِ.
فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِبْدَالِ طَلَاقُ الْمَرْأَةِ السَّابِقَةِ وَتَزَوُّجُ امْرَأَةٍ أُخْرَى.
والاستبدال: التَّبْدِيلُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١] أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبٌ لِلْفِرَاقِ إِلَّا إِرَادَةَ اسْتِبْدَالِ
زوج بِأُخْرَى فيلجيء الَّتِي يُرِيدُ فِرَاقَهَا، حَتَّى تخالعه، ليجد مَا لَا يُعْطِيهِ مَهْرًا لِلَّتِي رَغِبَ فِيهَا، نَهَى عَنْ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَوْهُ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ مَهْرٍ وَغَيْرِهِ
288
وَالْقِنْطَارُ هُنَا مُبَالَغَةٌ فِي مِقْدَارِ الْمَالِ الْمُعْطَى صَدَاقا أَي مَا لَا كَثِيرًا، كَثْرَةٌ غَيْرُ مُتَعَارَفَةٍ. وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيتَاءَ الْقِنْطَارِ مُبَاحٌ شَرْعًا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُمَثِّلُ بِمَا لَا يَرْضَى شَرْعَهُ مِثْلَ الْحَرَامِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَنَهَى عَنِ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدُقَاتِ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَوْ قَوْلُكَ» قَالَ: «بَلْ كِتَابُ اللَّهِ! بِمَ ذَلِكَ؟» قَالَتْ: إِنَّكَ نَهَيْتَ النَّاسَ آنِفًا أَنْ يُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاء: ٢٠] فَقَالَ عُمَرُ «كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ». وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَأَمِيرٌ أَخْطَأَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ» ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُغَالُوا فِي صَدُقَاتِ النِّسَاءِ فَلْيَفْعَلْ كُلُّ رَجُلٍ فِي مَالِهِ مَا شَاءَ». وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ عَنْ تَحْجِيرِ الْمُبَاحِ لِأَنَّهُ رَآهُ يُنَافِي الْإِبَاحَةَ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَقَدْ كَانَ بَدَا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنَّ فِي الْمُغَالَاةِ عِلَّةً تَقْتَضِي الْمَنْعَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنِ الْمُعَارِضِ لِدَلِيلِ اجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ حَمَلَهَا عَلَى قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْ يَكُونَ رَأَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُحَجِّرَ بَعْضَ الْمُبَاحِ لِلْمَصْلَحَةِ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ لِأَنَّهُ يُنَافِي إِذْنَ الشَّرْعِ فِي فِعْلِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَضَمِيرُ: إِحْداهُنَّ رَاجِعٌ إِلَى النِّسَاءِ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يُرَادُ طَلَاقُهَا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْقِنْطَارِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْخُذُونَهُ إِنْكَارِيٌّ.
وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرٌ كَالشُّكْرَانِ وَالْغُفْرَانِ، مَصْدَرُ بَهَتَهُ كَمَنَعَهَ إِذَا قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ، وَتَقَدَّمَ الْبُهْتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٨].
وَانْتُصِبَ بُهْتاناً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي (تَأْخُذُونَهُ) بِتَأْوِيلِهِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ مُبَاهِتِينَ. وَإِنَّمَا جُعِلَ هَذَا الْأَخْذُ بُهْتَانًا لِأَنَّهُمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا كَرِهُوا الْمَرْأَةَ وَأَرَادُوا طَلَاقَهَا، رَمَوْهَا بِسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، وَاخْتَلَقُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، لِكَيْ تَخْشَى
289
سُوءَ السُّمْعَةِ فتبذل للزَّوْج مَا لَا فِدَاءً ليطلّقها، حكى ذَاك فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، فَصَارَ أَخْذُ الْمَالِ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ مَظِنَّةٌ بِأَنَّهَا أَتَتْ مَا لَا يُرْضِي الزَّوْجَ، فَقَدْ يَصُدُّ ذَلِكَ الرَّاغِبِينَ فِي التَّزَوُّجِ عَنْ خِطْبَتِهَا، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لِلْأَزْوَاجِ بِأَخْذِ الْمَالِ إِذَا أَتَتْ أَزْوَاجُهُمْ بِفَاحِشَةٍ، صَارَ
أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُنَّ بِدُونِ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ أَخَذَهُ فِي مَحَلِّ الْإِذْنِ بِأَخْذِهِ، هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي جعل هَذَا الْأَخْذِ بُهْتَانًا.
وَأَمَّا كَوْنُهُ إِثْمًا مُبِينًا فَقَدْ جُعِلَ هُنَا حَالًا بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الِانْتِسَابِ إِلَى صَاحِبِهَا حَتَّى يُصْبِحَ الْإِنْكَارُ بِاعْتِبَارِهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ كَوْنَهَا إِثْمًا مُبِينًا قَدْ صَارَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً، أَوْ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٩] وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَوْ مِمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَمْوَالِ أَنْ لَا تَحِلَّ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ.
وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ اسْتِفْهَام تعجيبي بَعْدَ الْإِنْكَارِ، أَيْ لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ تَطْمَعُوا فِي أَخْذِ عِوَضٍ عَنِ الْفِرَاقِ بَعْدَ مُعَاشَرَةِ امْتِزَاجٍ وَعَهْدٍ مَتِينٍ. وَالْإِفْضَاءُ الْوُصُولُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَضَاءِ، لِأَنَّ فِي الْوُصُولِ قَطْعَ الْفَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَوَاصِلِينَ وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَلَى نِيَّةِ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَدَوَامِ الْأُلْفَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَلَى حَالِ مَوَدَّةٍ وَمُوَالَاةٍ، فَهِيَ فِي الْمَعْنَى كَالْمِيثَاقِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ.
وَالْغَلِيظُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ غَلُظَ- بِضَمِّ اللَّامِ- إِذَا صَلُبَ، وَالْغِلْظَةُ فِي الْحَقِيقَةِ صَلَابَةُ الذَّوَاتِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ إِلَى صُعُوبَةِ الْمَعَانِي وَشِدَّتِهَا فِي أَنْوَاعِهَا، قَالَ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التَّوْبَة: ١٢٣]. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنَاطَ التَّحْرِيم هُوَ كَون أَخْذُ الْمَالِ عِنْدَ طَلَبِ اسْتِبْدَالِ الزَّوْجَةِ بِأُخْرَى، فَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخًا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ خِلَافًا لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ إِذْ لَا إبِْطَال لمدلول هَذِه الْآيَة.
[٢٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاء: ١٩]، وَالْمُنَاسَبَةُ
290
أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ إِرْثِهِمُ النِّسَاءَ كَرْهًا، أَنْ يَكُونَ ابْنُ الْمَيِّتِ أَوْلَى بِزَوْجَةِ أَبِيهِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، فَنُهُوا عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ نَهْيًا خَاصًّا مُغَلَّظًا، وَتُخُلِّصَ مِنْهُ إِلَى إِحْصَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَمَا نَكَحَ بِمَعْنَى الَّذِي نَكَحَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ وَقْعُ مَا عِوَضَ (مَنْ) لأنّ (من) تَكْثِير فِي الْمَوْصُولِ الْمَعْلُومِ، عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ بِقَوْلِهِ: مِنَ النِّساءِ سَوَّى بَيْنَ (مَا- وَمن) فَرُجِّحَتْ (مَا) لِخِفَّتِهَا، وَالْبَيَانُ أَيْضًا يُعَيِّنُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَوْصُولَةً. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: لَا تَنْكِحُوا نِسَاءَ آبَائِكُمْ لِيَدُلَّ بِلَفْظِ نَكَحَ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْأَبِ عَلَى الْمَرْأَةِ كَافٍ
فِي حُرْمَةِ تَزَوُّجِ ابْنِهِ إِيَّاهَا. وَذِكْرُ مِنَ النِّساءِ بَيَانٌ لِكَوْنِ (مَا) مَوْصُولَةً.
وَالنَّهْيُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مَعَ النَّهْيِ مَدْلُولُهُ إِيجَادُ الْحَدَثِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى نِكَاحِهِنَّ إِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ. وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ شَرْعًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى الْمُعَاشَرَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَعْنَى الصَّحِيحِ شَرْعًا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى دُونَ الْوَطْءِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٠]، فَحَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَقَدَ أَبُوهُ عَلَيْهَا عَقْدَ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَأَمَّا إِطْلَاقُ النِّكَاحِ عَلَى الْوَطْءِ بِعَقْدٍ فَقَدْ حَمَلَ لَفْظَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أَطْلَقَ فِيهِ النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ لِأَنَّهَا لَا يُحِلُّهَا لِمُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ أَيْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِبَيَانِ السُّنَّةِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْكِحَ وَقَدْ بَيَّنْتُ رَدَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.
وَأما الْوَطْءُ الْحَرَامُ مِنْ زِنًى فَكَوْنُهُ مِنْ مَعَانِيَ النِّكَاحِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ دَعْوَى وَاهِيَةٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ هَلْ تَحْرُمُ عَلَى ابْنِهِ أَوْ عَلَى أَبِيهِ. فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَالشَّافِعِيُّ: أَنَّ الزِّنَى لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، وَهَذَا
291
الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ»، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَاللَّيْثِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمَاجِشُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: الزِّنَى يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: مَاتَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: هُوَ مَكْرُوهٌ، وَوَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ (يُفَارِقُهَا) فَحَمَلَهُ الْأَكْثَرُ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ جَرَتْ فِيهَا مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَشَارَ إِلَيْهَا الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِهِ، وَالْفَخْرُ فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ، وَهِيَ طَوِيلَةٌ.
وَمَا قَدْ سَلَفَ هُوَ مَا سَبَقَ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ إِلَّا نِكَاحًا قَدْ سَلَفَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ صَارَ مُحَرَّمًا. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُؤَوَّلًا إِذْ مَا قَدْ سَلَفَ كَيْفَ يُسْتَثْنَى مِنَ النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ وَهُوَ قَدْ حَصَلَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ مِنَ الْإِثْمِ، أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِيمَا قَدْ سَلَفَ. ثُمَّ يَنْتَقِلُ النَّظَرُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يُقَرَّرُ عَلَيْهِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ تَزَوَّجَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا نَقَلَهُ الْفَخْرُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَثَرٍ يُثْبِتُ قَضِيَّةً مُعَيَّنَةً فَرَّقَ فِيهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَ رَجُلٍ وَزَوْجِ أَبِيهِ مِمَّا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَا عَلَى تَعْيِينِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَعَلَّ النَّاسَ قَدْ بَادَرُوا إِلَى فِرَاقِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ تَزَوَّجَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَثِيرٌ أَزْوَاجَ آبَائِهِمْ: مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، خَلَفَ عَلَى زَوْجِ أَبِيهِ أُمَيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْظُورُ بْنُ رَيَّانَ بْنِ سَيَّارٍ، تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مُلْكِيَّةَ بِنْتَ خَارِجَةَ، وَمِنْهُمْ حِصْنُ بْنُ أَبِي قَيْسٍ، تَزَوَّجَ بَعْدَ أَبِي قَيْسٍ زَوْجَهُ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ أَسَلْمَ وَقُرِّرَ عَلَى نِكَاحِ زَوْجِ أَبِيهِ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ لَازِمِ النَّهْيِ وَهُوَ الْعُقُوبَةُ أَيْ لَا عُقُوبَةَ عَلَى مَا قَدْ سَلَفَ. وَعِنْدِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا ظَاهِرٌ لِلنَّاسِ فَلَا يَحْتَاجُ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَمَتَى يَظُنُّ أَحَدٌ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ أَعْمَالٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الدِّينِ وَنُزُولِ النَّهْيِ.
292
وَقِيلَ: هُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ مِنْهُ فَانْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ نِسَاءِ الْآبَاءِ الْبَائِدَةِ، كَأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ يُرَخِّصُ لَهُمْ بَعْضَهُ، فَيَجِدُ السَّامِعُ مَا رُخِّصَ لَهُ مُتَعَذَّرًا فَيَتَأَكَّدُ النَّهْيُ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
وَقَوْلِهِمْ (حَتَّى يَؤُوبَ الْقَارِظَانِ) وَ (حَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ) وَهَذَا وَجْهٌ بَعِيدٌ فِي آيَاتِ التَّشْرِيعِ.
وَالظَّاهِرٌ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قُصِدَ مِنْهُ بَيَانُ صِحَّةِ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعَذَّرَ تَدَارُكُهُ الْآنَ، لِمَوْتِ الزَّوْجَيْنِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. ثُبُوتُ أَنْسَابٍ، وَحُقُوقُ مُهُورٍ وَمَوَارِيثُ، وَأَيْضًا بَيَانُ تَصْحِيحِ أَنْسَابِ الَّذِينَ وُلِدُوا مِنْ ذَلِكَ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتُدِبُوا لِلْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ، وَقَدْ تَأَوَّلَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِوُجُوهٍ تَرْجِعُ إِلَى التَّجَوُّزِ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ فِي مَعْنَى:
مَا نَكَحَ، حَمَلَهُمْ عَلَيْهَا أَنَّ نِكَاحَ زَوْجِ الْأَبِ لَمْ يُقَرِّرْهُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا أَيْ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَرَّرُ لِأَنَّهُ فَاسِدٌ بِالذَّاتِ.
وَالْمَقْتُ اسْمٌ سَمَّتْ بِهِ الْعَرَبُ نِكَاحَ زَوْجِ الْأَبِ فَقَالُوا نِكَاحُ الْمَقْتِ أَيِ الْبُغْضِ، وَسَمَّوْا فَاعِلَ ذَلِكَ الضَّيْزَنَ، وَسُمَّوْا الِابْنَ مِنْ ذَلِكَ النِّكَاح مقيتا.
[٢٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
تَخَلُّصٌ إِلَى ذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ تَحْرِيمِ نِكَاحِ مَا نَكَحَ الْآبَاءُ وَغُيِّرَ
293
أُسْلُوبُ النَّهْيِ فِيهِ لِأَنَّ (لَا تَفْعَلْ) نَهْيٌ عَنِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى زَمَنِ الْحَالِ فَيُؤْذِنُ بِالتَّلَبُّسُ بِالْمَنْهِيِّ، أَوْ إِمْكَانِ التَّلَبُّسِ بِهِ، بِخِلَافِ حُرِّمَتْ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُ الْإِسْلَامُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ» فَمِنْ أَجْلِ هَذَا أَيْضًا نَجِدُ حُكْمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عُبِّرَ فِيهِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فَقِيلَ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
وَتَعَلُّقُ التَّحْرِيمِ بِأَسْمَاءِ الذَّوَاتِ يُحْمَلُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُقْصَدُ مِنْ تِلْكَ الذَّاتِ غَالِبًا فَنَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَخْ مَعْنَاهُ حُرِّمَ أَكْلُهَا، وَنَحْوُ: حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ، أَيْ شُرْبَهَا، وَفِي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ مَعْنَاهُ تَزَوُّجُهُنَّ.
وَالْأُمَّهَاتُ جَمْعُ أُمَّةٍ أَوْ أُمَّهَةٍ، وَالْعَرَبُ أَمَاتُوا أُمَّهَةً وَأُمَّةً وَأَبْقَوْا جَمْعَهُ، كَمَا أَبْقَوْا أُمَّ وَأَمَاتُوا جَمْعَهُ، فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُمُ الْأُمَّاتُ، وَوَرَدَ أُمَّةٌ نَادِرًا فِي قَوْلِ شَاعِرٍ أَنْشَدَهُ ابْنُ كَيْسَانَ:
تَقَبَّلْتَهَا عَنْ أُمَّةٍ لَكَ طَالَمَا تُنُوزِعَ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْهَا خِمَارُهَا
وَوَرَدَ أُمَّهَةٌ نَادِرًا فِي بَيْتٍ يُعْزَى إِلَى قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ:
عِنْدَ تَنَادِيهِمْ بِهَالٍ وَهَبِي أُمَّهَتِي خِنْدَفُ وَإِلْيَاسُ (١) أَبِي
وَجَاءَ فِي الْجَمْعِ أُمَّهَاتٌ بِكَثْرَةٍ، وَجَاءَ أُمَّاتٌ قَلِيلًا فِي قَوْلِ جَرِيرٍ:
لَقَدْ وَلَدَ الْأُخَيْطِلَ أُمُّ سَوْءٍ مُقَلَّدَةٌ مِنَ الْأُمَّاتِ عَارًا
وَقِيلَ: إِنْ أُمَّاتَ خَاصٌّ بِمَا لَا يَعْقِلُ، قَالَ الرَّاعِي:
كَانَتْ نَجَائِبُ مُنْذِرٍ وَمُحَرِّقٍ أُمَّاتُهُنَّ وَطَرَقُهُنَّ فَحِيلَا
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَصْلَ أُمِّ أُمَّا أَوْ أُمَّهَا فَوَقَعَ فِيهِ الْحَذْفُ ثُمَّ أَرْجَعُوهَا فِي الْجَمْعِ.
_________
(١) أَصله وإلياس بِهَمْزَة قطع ووصلت لإِقَامَة الْوَزْن وَهُوَ إلْيَاس بن مُضِيّ، وَوَقع هَذَا المصراع فِي طبعة تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ وَفِي نُسْخَة مخطوطة و «الدّووس» وَهُوَ خطأ.
294
وَمِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ أَسْمَاءَ أَعْضَاءِ الْعَائِلَةِ لَمْ تَجْرِ عَلَى قِيَاسٍ مِثْلَ أَبٍ، إِذْ كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ، وَأَخٍ، وَابْنٍ، وَابْنَةٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ أَنَّهَا مِنَ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْبَشَرُ قَبْلَ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ، ثُمَّ تَطَوَّرَتِ اللُّغَةُ عَلَيْهَا وَهِيَ هِيَ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا الدُّنْيَا وَمَا فَوْقَهَا، وَهَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ النَّسَبِ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ مَنْ ذَكَرَهُنَّ، وَقَدْ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، تَأْكِيدًا لِذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَتَغْلِيظًا لَهُ، إِذْ قَدِ اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي النَّاسِ مِنْ قَبْلُ، فَقَدْ قَالُوا مَا كَانَتِ الْأُمُّ حَلَالًا لِابْنِهَا قَطُّ مِنْ عَهْدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتِ الْأُخْتُ التَّوْأَمَةُ حَرَامًا وَغَيْرُ التَّوْأَمَةِ حَلَالًا، ثُمَّ حَرَّمَ اللَّهُ الْأَخَوَاتِ مُطْلَقًا مِنْ عَهْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَنَاتُ الْأَخِ، وَيُوجَدُ تَحْرِيمُهُنَّ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَقِيَ بَنَاتُ الْأُخْتِ حَلَالًا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى، وَثَبَتَ تَحْرِيمُهُنَّ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا فِيمَا رَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ هُنَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَمِثْلُهُ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ زِيَادَةِ تَوْجِيهِ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ:
إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فِي هَذَيْنِ خَاصَّةً، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَوْطِئَةٌ لِتَأْوِيلِ الِاسْتِثْنَاء فِي قَول إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا سَلَفَ مِنْكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فَقَدْ ذُكِرَ فِيهِنَّ تَحْرِيمُ الرَّبَائِبِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَلَا أَحْسَبُهُنَّ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ قَدْ نَوَّهَتْ بِبَيَانِ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، فَغَرَسَتْ لَهَا فِي النُّفُوسِ وَقَارًا يُنَزَّهُ عَنْ شَوَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ فِي اللَّهْوِ وَالرَّفَثِ، إِذِ الزَّوَاجُ، وَإِنْ كَانَ غَرَضًا صَالِحًا بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ الْخَاطِرَ الْأَوَّلَ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ، وَهُوَ خَاطِرُ اللَّهْوِ وَالتَّلَذُّذِ.
فَوَقَارُ الْوِلَادَةِ، أَصْلًا وَفَرْعًا، مَانِعٌ مِنْ مُحَاوَلَةِ اللَّهْوِ بِالْوَالِدَةِ أَوِ الْمَوْلُودَةِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمه، ثمَّ تَلا حق ذَلِكَ فِي بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، وَكَيْفَ يَسْرِي الْوَقَارُ إِلَى فَرْعِ الْأَخَوَاتِ وَلَا يَثْبُتُ لِلْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ
295
سَرَى وَقَارُ الْآبَاءِ إِلَى أَخَوَاتِ الْآبَاءِ، وَهُنَّ الْعَمَّاتُ، وَوَقَارُ الْأُمَّهَاتِ إِلَى أَخَوَاتِهِنَّ وَهُنَّ الْخَالَاتُ، فَمَرْجِعُ تَحْرِيمِ هَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى قَاعِدَةِ الْمُرُوءَةِ التَّابِعَةِ لِكُلِّيَّةِ حِفْظِ الْعِرْضِ، مِنْ قِسْمِ الْمُنَاسِبِ الضَّرُورِيِّ، وَذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ مَظَاهِرِ الرُّقِيِّ الْبَشَرِيِّ. وَ (الْ) فِي قَوْلِهِ: وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ بَنَاتُ أَخِيكُمْ وَبَنَاتُ أُخْتِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ سَمَّى الْمَرَاضِعَ أُمَّهَاتٍ جَرْيًا عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمَا هُنَّ بِأُمَّهَاتٍ حَقِيقَةً. وَلَكِنَّهُنَّ تَنَزَّلْنَ مَنْزِلَةَ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ بِلِبَانِهِنَّ تَغَذَّتِ الْأَطْفَالُ، وَلِمَا فِي فِطْرَةِ الْأَطْفَالِ مِنْ مَحَبَّةٍ لِمُرْضِعَاتِهِمْ مَحَبَّةَ أُمَّهَاتِهِمُ الْوَالِدَاتِ، وَلِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ هَذَا الْإِطْلَاقِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الْعَرَبُ ثُمَّ أُلْحِقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمُرَادَ الأمّهات إِذْ لَوْلَا قَصْدُ إِرَادَةِ الْمُرْضِعَاتِ لَمَا كَانَ لِهَذَا الْوَصْفِ جَدْوَى.
وَقَدْ أُجْمِلَتْ هُنَا صِفَةُ الْإِرْضَاعِ وَمُدَّتُهُ وَعَدَدُهُ إِيكَالًا لِلنَّاسِ إِلَى مُتَعَارَفِهِمْ. وَمِلَاكُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الرَّضَاعَ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ لَهُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ الْغِذَاءُ الَّذِي لَا غِذَاءَ غَيْرَهُ لِلطِّفْلِ يَعِيشُ بِهِ، فَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَثَرِ فِي دَوَامِ حَيَاةِ الطِّفْلِ مَا يُمَاثِلُ أَثَرَ الْأُمِّ فِي أَصْلِ حَيَاةِ طِفْلِهَا. فَلَا يُعْتَبَرُ الرَّضَاعُ سَبَبًا فِي حُرْمَةِ الْمُرْضِعِ عَلَى رَضِيعِهَا إِلَّا مَا اسْتَوْفَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حُصُولِ تَغْذِيَةِ الطِّفْلِ وَهُوَ مَا كَانَ فِي مُدَّةِ عَدَمِ اسْتِغْنَاءِ الطِّفْلِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ»
. وَقد حُدِّدَتْ مُدَّةُ الْحَاجَّةِ إِلَى الرَّضَاعِ بِالْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٣]. وَلَا اعْتِدَادَ بِالرَّضَاعِ الْحَاصِلِ بَعْدَ مُضِيِّ تَجَاوُزِ الطِّفْلِ حَوْلَيْنِ مِنْ عُمْرِهِ، بِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُدَّةُ حَوْلَانِ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ:
حَوْلَانِ وَأَيَّامٌ يَسِيرَةٌ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: حَوْلَانِ وَشَهْرَانِ. وَرَوَى عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: وَالشَّهْرَانِ وَالثَّلَاثَةُ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَلَا
296
اعْتِدَادَ بِرَضَاعٍ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ زَوْجَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: ٤] إِذْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا كَمَا يَدْخُلُ الْأَبْنَاءُ عَلَى أُمَّهَاتِهِمْ، فَتِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهَا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ الْحِجَابَ أَرْضَعَتْهُ، تَأَوَّلَتْ ذَلِكَ مِنْ إِذْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَهْلَةَ زَوْجِ أَبِي حُذَيْفَةَ
، وَهُوَ رَأْيٌ لَمْ يُوَافِقْهَا عَلَيْهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ عَلَيْهِنَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ بِهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، بِإِعْمَالِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ. وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَ أَنْ أَفْتَى بِهِ.
وأمّا مِقْدَارُ الرَّضَاعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَهُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّضَاعِ وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ فِي الْحَوْلَيْنِ وَلَوْ مَصَّةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ كَانَ
الْحُكْمُ فِي أَوَّلِ أَمْرِ التَّحْرِيمِ أَنْ لَا تَقَعَ الْحُرْمَةُ إِلَّا بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ:
هُوَ مَنْسُوخٌ، وَرَدُّوا قَوْلَهَا (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ) بِنِسْبَةِ الرَّاوِي إِلَى قِلَّةِ الضَّبْطِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُسْتَرَابَةٌ إِذْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْرَأُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا فُطِمَ الرَّضِيعُ قبل الْحَوْلَيْنِ فظاما اسْتَغْنَى بَعْدَهُ عَنْ لَبَنِ الْمُرْضِعِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ مَنْ أَرْضَعَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ إِطْلَاقُ اسْمِ الْأُخْتِ عَلَى الَّتِي رَضَعَتْ مِنْ ثَدْيِ مُرْضِعَةِ مَنْ أُضِيفَتْ أُخْتٌ إِلَيْهِ جَرَى عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِطْلَاقِ الْأُمِّ عَلَى الْمُرْضِعِ. وَالرَّضَاعَةُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- اسْمُ مَصْدَرِ رَضَعَ، وَيَجُوزُ- كَسْرُ الرَّاءِ- وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ.
وَمَحَلُّ مِنَ الرَّضاعَةِ حَالٌ مِنْ أَخَواتُكُمْ وَ (مِنَ) فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ، فَلَا تُعْتَبَرُ أُخُوَّةُ الرَّضَاعَةِ إِلَّا بِرَضَاعَةِ الْبِنْتِ مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتِ الْوَلَدَ.
وَقَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورَاتُ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ هُنَّ الْمُحَرَّمَاتُ بِسَبَبِ الصِّهْرِ، وَلَا أَحْسَبُ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِنْهَا، كَيْفَ وَقَدْ أَبَاحُوا أَزْوَاجَ الْآبَاءِ وَهُنَّ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ جَمِيعِ نِسَاءِ الصِّهْرِ، فَكَيْفَ
297
يُظَنُّ أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبَ وَقَدْ
أُشِيعَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ رَبِيبَتُهُ إِذْ هِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَسَأَلَتْهُ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي لَمَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ»
، وَكَذَلِكَ حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ إِذْ هُنَّ أَبْعَدُ مِنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، فَأَرَى أَنَّ هَذَا مِنْ تَحْرِيمِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ مَا حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (١) لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
وَتَحْرِيمُ هَؤُلَاءِ حِكْمَتُهُ تَسْهِيلُ الْخُلْطَةِ، وَقَطْعُ الْغَيْرَةِ، بَيْنَ قَرِيبِ الْقَرَابَةِ حَتَّى لَا تُفْضِي إِلَى حَزَازَاتٍ وَعَدَاوَاتٍ، قَالَ الْفَخْرُ: «لَوْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْمَرْأَةِ أَبُو الرَّجُلِ وَابْنُهُ، وَلَمْ تَدْخُلْ عَلَى الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ وَابْنَتُهَا، لَبَقِيَتِ الْمَرْأَةُ كَالْمَحْبُوسَةِ. وَلَتَعَطَّلَ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَكْثَرُ الْمَصَالِحِ، وَلَوْ كَانَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِ هَؤُلَاءِ دُونَ حُكْمِ الْمَحْرَمِيَّةِ فَقَدْ تَمْتَدُّ عَيْنُ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ وَتَشْتَدُّ الرَّغْبَةُ فَتَحْصُلُ النُّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُنَّ، وَالْإِيذَاءُ مِنَ الْأَقَارِبِ أَشَدُّ إِيلَامًا،
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّطْلِيقُ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتِ الْمَحْرَمِيَّةُ انْقَطَعَتِ الْأَطْمَاعُ، وَانْحَبَسَتِ الشَّهْوَةُ، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَيَبْقَى النِّكَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَلِيمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ»
قُلْتُ: وَعَلَيْهِ فَتَحْرِيمُ هَؤُلَاءِ مِنْ قِسْمِ الْحَاجِيِّ مِنَ الْمُنَاسِبِ.
وَالرَّبَائِبُ جَمْعُ ربيبة، وَهِي فعلية بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مِنْ رَبَّهُ إِذَا كَفَلَهُ وَدَبَّرَ شُؤُونَهُ، فَزَوْجُ الْأُمِّ رَابٌّ وَابْنَتُهَا مَرْبُوبَةٌ لَهُ، لِذَلِكَ قِيلَ لَهَا رَبِيبَةٌ.
وَالْحُجُورُ جَمْعُ حِجْرٍ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الْجِيمِ- وَهُوَ مَا يَحْوِيهِ مُجْتَمَعُ الرِّجْلَيْنِ لِلْجَالِسِ الْمُتَرَبِّعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَعْنًى مَجَازِيٌّ وَهُوَ الْحَضَانَةُ وَالْكَفَالَةُ، لِأَنَّ أَوَّلَ كَفَالَةِ الطِّفْلِ تَكُونُ بِوَضْعِهِ فِي الْحِجْرِ، كَمَا سُمِّيَتْ حَضَانَةً، لِأَنَّ أَوَّلَهَا وَضْعُ الطِّفْلِ فِي الْحِضْنِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الرَّبِيبَةَ لَا تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي كَفَالَتِهِ،
_________
(١) تقدم فِي صفحة ٧٨ (من هَذِه الصفحات).
298
لِأَنَّ قَوْلَهُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وَصْفٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ إِرَادَةُ التَّقْيِيدِ كَمَا أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ حَضَانَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ. وَنُسِبَ الْأَخْذُ بِهَذَا الظَّاهِرِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَوَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّحَاوِيُّ صِحَّةَ سَنَدِ النَّقْلِ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّهُ نَقْلٌ بَاطِلٌ. وَجَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى بِصِحَّةِ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ بِذَلِكَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَوْنِهَا رَبِيبَةً وَمَا حَدَثَ مِنَ الْوَقَارِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَاجِرِهَا إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَجَعَلُوا هَذَا الْوَصْفَ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَجَعَلُوا الرَّبِيبَةَ حَرَامًا عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هِيَ فِي حِجْرِهِ. وَكَأَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ هُوَ النَّظَرُ إِلَى عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالصِّهْرِ، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا كَلَامُ الْفَخْرِ الْمُتَقَدِّمُ. وَعِنْدِي أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ: أَيْ لِأَنَّهُنَّ فِي حُجُورِكُمْ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ بِالْمَظِنَّةِ فَلَا يَقْتَضِي اطِّرَادَ الْعِلَّةِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِ الْحُكْمِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ذُكِرَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَهُوَ قَيْدٌ فِي تَحْرِيمِ الرَّبَائِبِ بِحَيْثُ لَا تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ إِلَّا إِذَا وَقَعَ الْبِنَاءُ بِأُمِّهَا، وَلَا يُحَرِّمُهَا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى أُمِّهَا، وَهَذَا الْقَيْدُ جَرَى هُنَا وَلَمْ يَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ بَلْ أُطْلِقَ الْحُكْمُ هُنَاكَ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ هُنَاكَ: أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مَعْنَاهُ أُمَّهَاتُ أَزْوَاجِكُمْ، فَأُمُّ الزَّوْجَةِ تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الرَّجُلِ عَلَى ابْنَتِهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ يُصَيِّرُهَا امْرَأَتَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الدُّخُولُ وَلَمْ يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ مِنْهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَعْدَهُ، وَلَا جَعَلُوا الصِّفَةَ
رَاجِعَةً لِلْمُتَعَاطِفَاتِ لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفٍ مُتَعَيِّنٍ تَعَلُّقُهُ بِأَحَدِ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
مِنْ نِسائِكُمُ الْمُتَعَلِّقُ بِقَوْلِهِ: وَرَبائِبُكُمُ وَلَا يَصْلُحُ تَعَلُّقُهُ بِ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا تَحْرُمُ أُمُّ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا حَتَّى يَدْخُلَ بِابْنَتِهَا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مَحْمَلًا. وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْجُمْهُورُ أَنْ
299
يُوَجِّهُوا مَذْهَبَهُمْ بِعِلَّةٍ بَيِّنَةٍ، وَلَا أَنْ يَسْتَظْهِرُوا عَلَيْهِ بِأَثَرٍ. وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا تُسَاوِي عِلَّةَ تَحْرِيمِ رَبِيبَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ الرَّبَائِبَ، فَلَوْ أَرَادَ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ بِالْأُمَّهَاتِ فِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِ بَنَاتِهِنَّ لَذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ مَعَ الرَّبَائِبِ.
وَهُنَالِكَ رِوَايَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الْأُمَّ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلَهُ التَّزَوُّجُ بِابْنَتِهَا، وَإِذَا مَاتَتْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا. وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ عُدُولٌ عَنِ الْعَقْدِ، وَالْمَوْتَ أَمْرٌ قَاهِرٌ، فَكَأَنَّهُ كَانَ نَاوِيًا الدُّخُولَ بِهَا، وَلَا حَظَّ لِهَذَا الْقَوْلِ.
وَقَوْلُهُ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الْحَلَائِلُ جَمْعُ الْحَلِيلَةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، لِأَنَّهَا تَحِلُّ مَعَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ مُحَلَّلَةٍ إِذْ أَبَاحَهَا أَهْلُهَا لَهُ، فَيَكُونُ مِنْ مَجِيءِ فَعِيلٍ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ فِي قَوْلِهِمْ حَكِيمٍ، وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَمَا نَكَحَ أَبْنَاؤُكُمْ- أَوْ- وَنِسَاءُ أَبْنَائِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ تَكْرِيرِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ فِي الْإِطْلَاقِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَدْ سُمِّيَ الزَّوْج أَيْضا بالحليل وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ كَذَلِكَ. وَتَحْرِيمُ حَلِيلَةِ الِابْنِ وَاضِحُ الْعِلَّةِ، كَتَحْرِيمِ حَلِيلَةِ الْأَبِ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْأَبْنَاءِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُتَبَنَّى ابْنًا، وَتَجْعَلُ لَهُ مَا لِلِابْنِ، حَتَّى أَبْطَلَ الْإِسْلَام ذَلِك وَقَوله تَعَالَى:
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: ٥] فَمَا دُعِيَ أَحَدٌ لِمُتَبَنِّيهِ بَعْدُ، إِلَّا الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَعُدَّتْ خُصُوصِيَّةً. وَأَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالتَّشْرِيعِ الْفِعْلِيِّ بِالْإِذْنِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَزَوُّجِ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ تَبَنَّاهُ، وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ. وَابْنُ الِابْنِ وَابْنُ الْبِنْتِ، وَإِنْ سَفَلَا، أَبْنَاءٌ مِنَ الْأَصْلَابِ لِأَنَّ لِلْجِدِّ عَلَيْهِمْ وِلَادَةً لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ هَذَا تَحْرِيمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَحِكْمَتُهُ دَفْعُ
الْغَيْرَةِ عَمَّنْ يُرِيدُ الشَّرْعُ بَقَاءَ تَمَامِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ
300
الْمُرَادَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِيمَا فِيهِ غَيْرَةٌ، وَهُوَ النِّكَاحُ أَصَالَةً، وَيُلْحَقُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسَرِّي بِمِلْكِ الْيَمِينِ، إِذِ الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاء: ٢٤] يُخَصُّ بِغَيْرِ الْمَذْكُورَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي التَّسَرِّي فَقَالَ: «أَحَلَّتْهُمَا» آيَةٌ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ، أَيْ فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسَرِّي حَرَامٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ مَالِكٌ «فَإِنْ تَسَرَّى بِإِحْدَى الْأُخْتَيْنِ ثُمَّ أَرَادَ التَّسَرِّي بِالْأُخْرَى وَقَفَ حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُولَى بِمَا تَحْرُمُ بِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ عِتْقٍ وَلَا يُحَدُّ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا». وَقَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي التَّسَرِّي لِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ، أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مُجَرَّدِ الْمِلْكِ فَلَا حَظْرَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ هُوَ كَنَظِيرِهِ السَّابِقِ، وَالْبَيَانُ فِيهِ كَالْبَيَانِ هُنَاكَ، بَيْدَ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ قَالَ هُنَا: وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى زَائِدًا وَهُوَ جَوَازُ مَا سَلَفَ وَأَنَّهُ إِذَا جَرَى الْجَمْعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا وَإِذَا جَرَى الْجَمْعُ فِي الْإِسْلَامِ خُيِّرَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِجْرَاءِ عُقُودِ الْكُفَّارِ عَلَى مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَعْزُ الْقَوْلَ بِذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ تَقْرِيرَ مَا عَقَدُوهُ مِنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَالْمَغْفِرَةُ لِلتَّجَاوُزِ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ، وَالرَّحْمَةُ لِبَيَانِ سَبَبِ ذَلِكَ التَّجَاوُزِ
301

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٤]

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
عَطْفٌ عَلَى وَأَنْ تَجْمَعُوا [النِّسَاء: ٢٣] وَالتَّقْدِيرُ:
وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَخْ فَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِعَارِضٍ نَظِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
وَالْمُحْصَنَاتُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- مِنْ أَحْصَنَهَا الرَّجُلُ إِذَا حَفِظَهَا وَاسْتَقَلَّ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ،
وَيُقَالُ: امْرَأَةٌ مُحْصِنَةٌ- بِكَسْرِ الصَّادِ- أَحْصَنَتْ نَفْسَهَا عَنْ غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَمْ يُقْرَأْ قَوْلُهُ:
وَالْمُحْصَناتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا بِالْفَتْحِ.
وَيُقَالُ أَحْصَنَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُحْصِنٌ- بِكَسْرِ الصَّادِ- لَا غَيْرُ، وَلَا يُقَالُ مُحْصَنٌ: وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ: مُحْصَنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ- بِفَتْح الصَّاد-، وقريء قَوْلُهُ: ومحصنات- بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ- وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ [النِّسَاء: ٢٥]- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ-. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مَا دُمْنَ فِي عِصْمَةِ أَزْوَاجِهِنَّ، فَالْمَقْصُودُ تَحْرِيمُ اشْتِرَاكِ رَجُلَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي عِصْمَةِ امْرَأَةٍ، وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِنَوْعٍ مِنَ النِّكَاحِ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى الضِّمَادَ، وَلِنَوْعٍ آخَرَ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنْ يَشْتَرِكَ الرِّجَالُ فِي الْمَرْأَةِ وَهُمْ دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ، فَتَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مَنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ، تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ. وَنَوْعٌ آخَرُ يُسَمَّى نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ، فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا رَغْبَةً فِي
5
نَجَابَةِ الْوَلَدِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا كَانَ يَقَعُ بِتَرَاضٍ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَالْمَقْصِدُ لَا يَنْحَصِرُ فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَقَدْ يَكُونُ لِبَذْلِ مَالٍ أَوْ صُحْبَةٍ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ عَقْدٍ عَلَى نِكَاحِ ذَاتِ الزَّوْجِ، أَيْ تَحْرِيمِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ. وَأَفَادَتِ الْآيَةُ تَعْمِيمَ حُرْمَتِهِنَّ وَلَوْ كَانَ أَزْوَاجُهُنَّ مُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أَيْ إِلَّا اللَّائِي سَبَيْتُمُوهُنَّ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَدِ حِينَ تُمْسِكُ السَّيْفَ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ السَّبْيَ هَادِمًا لِلنِّكَاحِ تَقْرِيرًا لِمُعْتَادِ الْأُمَمِ فِي الْحُرُوبِ، وَتَخْوِيفًا أَنْ لَا يُنَاصِبُوا الْإِسْلَامَ لِأَنَّهُمْ لَوْ رُفِعَ عَنْهُمُ السَّبْيُ لَتَكَالَبُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ لَا شَيْءَ يَحْذَرُهُ الْعَرَبِيُّ مِنَ الْحَرْبِ أَشَدُّ مِنْ سَبْيِ نِسْوَتِهِ، ثُمَّ مِنْ أَسْرِهِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا
وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ سَبْيَ الْمَرْأَةِ دُونَ زَوْجِهَا يَهْدِمُ النِّكَاحَ، وَيُحِلُّهَا لِمَنْ وَقَعَتْ فِي قِسْمَتِهِ عِنْدَ قِسْمَةِ الْمَغَانِمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الَّتِي تُسْبَى مَعَ زَوْجِهَا: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ سَبْيَهَا يَهْدِمُ نِكَاحَهَا، وَهَذَا إِغْضَاءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا إِبْقَاءُ حُكْمِ الِاسْتِرْقَاقِ بِالْأَسْرِ. وَأَوْمَأَتْ إِلَيْهَا الصِّلَةُ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَإِلَّا لَقَالَ: إِلَّا مَا تَرَكَتْ
أَزْوَاجَهُنَّ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ الْأَمَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ فِي مِلْكٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مِلْكِ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ يُسَوِّغُ لِمَالِكِهَا الْجَدِيدِ إِبْطَالَ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، كَالَّتِي تُبَاعُ أَوْ تُوهَبُ أَوْ تُورَثُ، فَانْتِقَالُ الْمِلْكِ عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ شُذُوذٌ فَإِنَّ مَالِكَهَا الثَّانِيَ إِنَّمَا اشْتَرَاهَا عَالِمًا بِأَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَصْحِيحُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِبْقَاءُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي قَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْ مَا كُنَّ مَمْلُوكَاتٍ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ مَا تَجَدَّدَ مِلْكُهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حُرَّةً ذَاتَ زَوْجٍ. فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّجَدُّدِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَحَيَّرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ: «لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ». وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مَنْ يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ
6
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَمَةَ الرَّجُلِ إِذَا زَوَّجَهَا مِنْ زَوْجٍ لَا يَحْرُمُ عَلَى السَّيِّدِ قُرْبَانُهَا، مَعَ كَوْنِهَا ذَاتَ زَوْجٍ. وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْقُولًا عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عُمَرَ، وَأَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ عَنْ أَمَتِهِ الَّتِي زَوَّجَهَا وَهَلْ يَطَؤُهَا، فَأَنْكَرَ، فَقَالَ لَهُ: لَوِ اعْتَرَفْتَ لَجَعَلْتُكَ نَكَالًا.
وَقَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَذْيِيلٌ، وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ، فَ عَلَيْكُمْ نَائِبٌ مَنَابَ (الْزَمُوا)، وَهُوَ مُصَيَّرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِمْ: إِلَيْكَ، وَدُونَكَ، وَعَلَيْكَ. وكِتابَ اللَّهِ مَفْعُولُهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، أَوْ يُجْعَلُ مَنْصُوبًا بِ (عَلَيْكُمْ) مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَهُ، تَخْرِيجًا عَلَى تَأْوِيلِ سِيبَوَيْهِ فِي قَول الراجز:
يَا أيّها الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَ إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ يَحْمَدُونَكَ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتابَ مَصْدَرًا نَائِبًا مَنَابَ فِعْلِهِ، أَيْ كَتَبَ اللَّهُ ذَلِكَ كِتَابًا، وعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقًا بِهِ.
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] وَمَا بَعْدَهُ، وَبِذَلِكَ تَلْتَئِمُ
الْجُمَلُ الثَّلَاثُ فِي الْخَبَرِيَّةِ الْمُرَادِ بِهَا الْإِنْشَاءُ، وَفِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْمَاضَوِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
وَأُسْنِدَ التَّحْلِيلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارًا لِلْمِنَّةِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَ طَرِيقَةَ إِسْنَادِ التَّحْرِيمِ إِلَى الْمَجْهُولِ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مَشَقَّةٌ فَلَيْسَ الْمَقَامُ فِيهِ مَقَامَ مِنَّةٍ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: وَأُحِلَّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ- عَلَى الْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ عَلَى طَرِيقَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ.
7
وَالْوَرَاءُ هُنَا بِمَعْنَى غَيْرَ وَدُونَ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْوَرَاءَ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي هِيَ جِهَةُ ظَهْرِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِ السَّائِرِ يَتْرُكُ مَا وَرَاءَهُ وَيَتَجَاوَزُهُ.
وَالْمَعْنَى: أَحَلَّ لَكُمْ مَا عَدَا أُولَئِكُمُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا أُنْزِلَ قَبْلَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ نَحْوَ (لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا)، وَنَحْوَ (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ).
وَقَوْلُهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ (مَا) بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَوْصُولِ مَفْعُولًا لِ (أُحِلَّ)، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ تَبْتَغُوهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ النِّسَاءَ الْمُبَاحَاتِ لَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ وَإِعْطَاءِ الْمُهُورِ، فَالْعَقْدُ هُوَ مَدْلُولُ (تَبْتَغُوا)، وَبَذْلُ الْمَهْرِ هُوَ مَدْلُولُ (بِأَمْوالِكُمْ)، وَرَابِطُ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ: تَقْدِيرُهُ أَنْ تَبْتَغُوهُ، وَالِاشْتِمَالُ هُنَا كَالِاشْتِمَالِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
مَخَافَةَ عَمْرٍو أَنْ تَكُونَ جِيَادُهُ يُقَدْنَ إِلَيْنَا بَيْنَ حَافٍ وَنَاعِلِ
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَنْ تَبْتَغُوا مَعْمُولًا لِلَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ أَحَلَّهُنَّ لِتَبْتَغُوهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ عَيْنُ مَا قُرِّرَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
ومُحْصِنِينَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ (تَبْتَغُوا) أَيْ مُحْصِنِينَ أَنْفُسَكُمْ مِنَ الزِّنَى، وَالْمُرَادُ مُتَزَوِّجِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ. غَيْرَ مُسافِحِينَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَالْمُسَافِحُ الزَّانِي، لِأَنَّ الزِّنَى
يُسَمَّى السِّفَاحَ، مُشْتَقًّا مِنَ السَّفْحِ، وَهُوَ أَنْ يُهْرَاقَ الْمَاءُ دُونَ حَبْسٍ، يُقَالُ: سَفَحَ الْمَاءُ.
وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ يَبْذُلُ كُلُّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ مَا رَامَهُ مِنْهُ دُونَ قيد وَلَا رضى وَلِيٍّ، فَكَأَنَّهُمُ اشْتَقُّوهُ مِنْ مَعْنَى الْبَذْلِ بِلَا تَقَيُّدٍ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ لِأَنَّ الْمِعْطَاءَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ السَّفَّاحُ.
وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ مِنَ الْمَرْأَةِ الْفَاحِشَةَ يَقُولُ لَهَا: سَافِحِينِي، فَرَجَعَ مَعْنَى السفاح إِلَى التباذل وَإِطْلَاقِ الْعِنَانِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ بِلَا عَقْدٍ، فَكَأَنَّهُ سَفَحَ سَفْحًا، أَيْ صَبًّا لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ، وَغَيْرُ هَذَا فِي اشْتِقَاقِهِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالزِّنَى.
8
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
تَفْرِيعٌ عَلَى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وَهُوَ تَفْرِيعٌ لَفْظِيٌّ لِبَيَانِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ وَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ تَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء:
٤] سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الصَّدَاقَ رُكْنًا لِلنِّكَاحِ، أَوْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُجَرَّدَ حَقٍّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ بِهِ وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) اسْمَ شَرْطٍ صَادِقًا عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ، لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ الْفَارِقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ الْخَبَرُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً لِأَنَّهُ اعْتُبِرَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ.
وَالِاسْتِمْتَاعُ: الِانْتِفَاعُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَسَمَّى اللَّهُ النِّكَاحَ اسْتِمْتَاعًا لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَجَمِيعُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [الرَّعْد: ٢٦].
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ عَلَى (مَا). وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: فَإِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ فَلَا يَجُوزُ اسْتِمْتَاعٌ بِهِنَّ دُونَ مَهْرٍ.
أَوْ يَكُونُ (مَا) صَادِقَةً عَلَى النِّسَاءِ، وَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْمَأْخُوذِ مِنِ اسْتَمْتَعْتُمْ وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ، أَيْ فَأَيُّ امْرَأَةٍ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَآتُوهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ (مَا) مَوْصُولَةً، وَيَكُونَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهَا لِمُعَامَلَتِهَا مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَجِيءَ حِينَئِذٍ بِ (مَا) وَلَمْ يُعَبَّرْ بِ (مَنْ) لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النِّسَاءِ لَا الْقَصْدُ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى أَنَّ (مَا) تَجِيءُ لِلْعَاقِلِ كَثِيرًا وَلَا عَكْسَ: وفَرِيضَةً حَالٌ مِنْ أُجُورَهُنَّ أَيْ مَفْرُوضَةً، أَيْ مُقَدَّرَةً بَيْنَكُمْ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ قَطْعُ الْخُصُومَاتِ فِي أَعْظَمِ مُعَامَلَةٍ يُقْصَدُ مِنْهَا الْوِثَاقُ وَحُسْنُ السُّمْعَةِ.
وَأَمَّا نِكَاحُ التَّفْوِيضِ: وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ مَعَ السُّكُوتِ عَنِ الْمَهْرِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ فَجَوَازُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُفَوِّضُونَ إِلَّا وَهُمْ يَعْلَمُونَ مُعْتَادَ أَمْثَالِهِمْ، وَيَكُونُ (فَرِيضَةً) بِمَعْنَى تَقْدِيرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ فِيمَا زِدْتُمْ لَهُنَّ أَوْ أَسْقَطْنَ لَكُمْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بَيِّنًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.
9
وَذَهَبُ جَمْعٌ: مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ. وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ: هُوَ الَّذِي تَعَاقَدَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا مُؤَجَلَةً بِزَمَانٍ أَوْ بِحَالَةٍ، فَإِذَا انْقَضَى ذَلِكَ الْأَجَلُ ارْتَفَعَتِ الْعِصْمَةُ، وَهُوَ نِكَاحٌ قَدْ أُبِيحَ فِي الْإِسْلَامِ لَا مَحَالَةَ، وَوَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ يَوْمَ خَيْبَرَ، أَوْ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالَّذِينَ قَالُوا: حُرِّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالُوا: ثُمَّ أُبِيحَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، ثُمَّ نُهِيَ عَنْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ. وَقِيلَ: نُهِيَ عَنْهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ:
وَهُوَ أَصَحُّ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْنَاهُ أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِيهَا مُضْطَرِبَةٌ اضْطِرَابًا كَبِيرًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَخِيرِ مِنْ شَأْنِهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَقَرَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَسَخَتْهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ لِأَنَّ فِيهَا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ...
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النِّسَاء: ١٢] فَجَعَلَ لِلْأَزْوَاجِ حَظًّا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ كَانَتِ الْمُتْعَةُ لَا مِيرَاثَ فِيهَا. وَقِيلَ: نَسَخَهَا مَا
مُسْلِمٌ عَنْ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ ثَالِثَ يَوْمٍ مِنَ الْفَتْحِ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
. وَانْفِرَادُ سَبْرَةَ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَغْمَزٌ فِي رِوَايَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِهِ. قِيلَ: مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ، وَقِيلَ: فِي حَالِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلَّا شَفًى (١).
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَتْ آيَّةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْزِلْ
بَعْدَهَا آيَةٌ تَنْسَخُهَا، وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ»

يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ نَهَى عَنْهَا فِي زَمَنٍ مِنْ خِلَافَتِهِ بَعْدَ أَنْ عَمِلُوا بِهَا فِي مُعْظَمِ خِلَافَتِهِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْتِي بِهَا، فَلَمَّا قَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَتَدْرِي مَا صَنَعْتَ بِفَتْوَاكَ فَقَدْ سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ:
_________
(١) بفاء بعد الشين، أَي إلّا قَلِيل، وَأَصله من قَوْلهم: شفيت الشَّمْس إِذا غربت وَفِي بعض الْكتب شقي.
10
قَدْ قُلْتُ لِلرَّكْبِ إِذْ طَالَ الثَّوَاءُ بِنَا يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسِ
فِي بَضَّةٍ رَخْصَةِ الْأَطْرَافِ نَاعِمَةٍ تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَرْجِعِ النَّاسِ
أَمْسَكَ عَنِ الْفَتْوَى وَقَالَ: إِنَّمَا أَحْلَلْتُ مِثْلَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ، يُرِيدُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ثَبَاتِ عَلِيٍّ عَلَى إِبَاحَتِهَا، وَفِي رُجُوعِهِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إِبَاحَتِهَا. أَمَّا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فَثَبَتَ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى «الصَّحِيحِ». وَقَالَ مَالِكٌ: يُفْسَخُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ، وَفَسْخُهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَقِيلَ: بِطَلَاقٍ، وَلَا حَدَّ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا رُخْصَةٌ لِلْمُسَافِرِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَحْوَالِ الضَّرُورَاتِ، وَوَجْهُ مُخَالَفَتِهَا لِلْمَقْصِدِ مِنَ النِّكَاحِ مَا فِيهَا مِنَ التَّأْجِيلِ. وَلِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ.
وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُتْعَةَ أَذِنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ، وَنَهَى عَنْهَا مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ مُكَرَّرٍ وَلَكِنَّهُ إِنَاطَةُ إِبَاحَتِهَا بِحَالِ الِاضْطِرَارِ، فَاشْتَبَهَ عَلَى الرُّوَاةِ تَحْقِيقُ عُذْرِ الرُّخْصَةِ بِأَنَّهُ نَسْخٌ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْنَاهُ فِي حُكْمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَأْجِيلِ مُدَّةِ الْعِصْمَةِ، مِثْلُ الْغُرْبَةِ فِي سَفَرٍ أَوْ غَزْوٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَ الرَّجُلِ زَوْجُهُ. وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي النِّكَاحِ مِنْ صَدَاقٍ وَإِشْهَادٍ وَوَلِيٍّ حَيْثُ يُشْتَرَطُ، وَأَنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَجَلِ، وَأَنَّهَا لَا مِيرَاثَ فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي مُدَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الْأَوْلَادَ لَاحِقُونَ بِأَبِيهِمُ الْمُسْتَمْتِعِ. وَشَذَّ النَّحَّاسُ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِأَبِيهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ تَكُونَ نَازِلَةً فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَلَيْسَ سِيَاقُهَا سَامِحًا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا صَالِحَةٌ لِانْدِرَاجِ الْمُتْعَةِ فِي عُمُوم فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ فَيُرْجَعُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إِلَى مَا سَمِعت آنِفا.
11

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٥]

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
عُطِفَ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ [النِّسَاء: ٢٤] تَخْصِيصًا لِعُمُومِهِ بِغَيْرِ الْإِمَاءِ، وَتَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهِ بِاسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ.
وَالطَّوْلُ- بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ- الْقُدْرَةُ، وَهُوَ مَصْدَرُ طَالَ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى قَدَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّوْلَ يَسْتَلْزِمُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: تَطَاوَلَ لِكَذَا، أَيْ تَمَطَّى لِيَأْخُذَهُ، ثُمَّ قَالُوا: تَطَاوَلَ، بِمَعْنَى تَكَلَّفَ الْمَقْدِرَةَ «وَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنْ يَدِ الْمُتَطَاوِلِ» فَجَعَلُوا لِطَالَ الْحَقِيقِيِّ مَصْدَرًا- بِضَمِّ الطَّاءِ- وَجَعَلُوا لِطَالَ الْمَجَازِيِّ مَصْدَرًا- بِفَتْحِ الطَّاءِ- وَهُوَ مِمَّا فَرَّقَتْ فِيهِ الْعَرَبُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ المشتركين.
وَالْمُحْصَناتُ [النِّسَاء: ٢٤] قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- عَلَى اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْ (أُحْصِنَّ) كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيِ اللَّاتِي أَحْصَنَّ أَنْفُسَهُنَّ، أَوْ أَحْصَنَهُنَّ أَوْلِيَاؤُهُنَّ، فَالْمُرَادُ الْعَفِيفَاتُ. وَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا وَصْفٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا إِلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ عَفِيفَةٍ، قَالَ تَعَالَى: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النُّور: ٣٠] أَيْ بِحَسَبِ خُلُقِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِحْصَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَاللُّغَةُ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الطَّوْلَ هُنَا هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى بَذْلِ مَهْرٍ لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ احْتَاجَ لِتَزَوُّجِهَا:
أُولَى، أَوْ ثَانِيَةٍ، أَوْ ثَالِثَةٍ، أَوْ رَابِعَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ:
12
أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢٤] فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النِّسَاء: ٢٤] وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْأَصَحَّ فِي تَفْسِيرِ الطَّوْلِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَهِيَ طَوْلٌ فَلَا يُبَاحُ لَهُ تَزَوُّجُ الْإِمَاءِ لِأَنَّهُ طَالِبُ شَهْوَةٍ إِذْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ تعفّه عَن الزِّنَا. وَوَقَعَ لِمَالِكٍ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ وَالطَّبَرِيُّ، وَهُوَ تَضْيِيقٌ لَا يُنَاسِبُ يُسْرَ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى امْرَأَةٍ ثَانِيَةٍ قَدْ لَا يَكُونُ لِشَهْوَةٍ بَلْ لِحَاجَةٍ لَا تَسُدُّهَا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إِلَى طَلَبِ التَّزَوُّجِ،
وَوُجُودِ الْمَقْدِرَةِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، الطَّوْلُ: الصَّبْرُ وَالْجَلَدُ عَلَى نِكَاحِ الْحَرَائِرِ.
وَوَقَعَ لِمَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الَّذِي يَجِدُ مَهْرَ حُرَّةٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَتِهَا، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، وَهَذَا لَيْسَ لِكَوْنِ النَّفَقَةِ مِنَ الطَّوْلِ وَلَكِنْ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَهْرِ طَوْلٌ، وَالنَّفَقَةَ لَا مَحِيصَ عَنْهَا فِي كِلَيْهِمَا، وَقَالَ أَصْبَغُ: يَجُوزُ لِهَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً لِأَنَّ نَفَقَةَ الْأَمَةِ عَلَى أَهْلِهَا إِنْ لَمْ يَضُمُّهَا الزَّوْجُ إِلَيْهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْخِلَافَ فِي حَالٍ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَنْكِحَ مَعْمُولُ (طَوْلًا) بِحَذْفِ (اللَّامِ) أَوْ (عَلَى) إِذْ لَا يَتَعَدَّى هَذَا الْمَصْدَرُ بِنَفْسِهِ.
وَمَعْنَى أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ أَيْ يَنْكِحَ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ أَبْكَارًا أَوْ ثَيِّبَاتٍ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ.
وَإِطْلَاقُ الْمُحْصَنَاتِ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي يَتَزَوَّجُهُنَّ الرِّجَالُ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ بِعَلَاقَةِ الْمَآلِ، أَيِ اللَّائِي يَصِرْنَ مُحْصَنَاتٍ بِذَلِكَ النِّكَاحِ إِنْ كُنَّ أَبْكَارًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُف: ٣٦] أَي عنبا آئلا إِلَى خَمْرٍ أَوْ بِعَلَاقَةِ مَا كَانَ، إِنْ كُنَّ ثَيِّبَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] وَهَذَا بَيِّنٌ، وَفِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحْصَنَاتِ بِمَعْنَى الْحَرَائِرِ، فَإِنَّهُ إِطْلَاقٌ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ اللُّغَةُ، لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا عَلَى الْمَجَازِ، وَقَدْ تَسَاهَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْقَوْلِ بِذَلِكَ.
وَقَدْ وُصِفَ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا بِالْمُؤْمِنَاتِ، جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ، وَمُعْظَمُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ خَرَجَ لِلْغَالِبِ وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اسْتِطَاعَةَ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ الْكِتَابِيَّاتِ طَوْلٌ، إِذْ لَمْ تَكُنْ إِبَاحَةُ نِكَاحِهِنَّ مَشْرُوطَةً بِالْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ، وَكَانَ
13
نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ مَشْرُوطًا بِالْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِالْعَجْزِ عَنِ الْكِتَابِيَّاتِ أَيْضا بقاعدة قِيَاس الْمُسَاوَاةِ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ يُعَرِّضُ الْأَوْلَادَ لِلرِّقِّ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَتَعْطِيلُ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: الْمُؤْمِناتِ مَعَ الْمُحْصَناتِ حَصَلَ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، فَلِذَلِكَ أَلْغَوُا الْوَصْفَ هُنَا، وَأَعْمَلُوهُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وَشَذَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، فَاعْتَبَرُوا رُخْصَةَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ مَشْرُوطَةً بِالْعَجْزِ عَنِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، وَكَأَنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ وَصْفِ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَكْتَرِثْ عِنْدَ التَّشْرِيعِ بِذِكْرِ غَيْرِ الْغَالِبِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ، فَصَارَ الْمُؤْمِنَاتُ هُنَا كَاللَّقَبِ فِي نَحْوِ (لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ).
وَالْفَتَيَاتُ جَمْعُ فَتَاةٍ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الشَّابَّةُ كَالْفَتَى، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْأَمَةُ أُطْلِقَ
عَلَيْهَا الْفَتَاةُ كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْجَارِيَةُ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْغُلَامُ، وَهُوَ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ يُعَامَلَانِ مُعَامَلَةَ الصَّغِيرِ فِي الْخِدْمَةِ، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ. وَوَصْفُ الْمُؤْمِنَاتِ عَقِبَ الْفَتَيَاتِ مَقْصُودٌ لِلتَّقْيِيدِ عِنْدَ كَافَّةِ السَّلَفِ، وَجُمْهُورِ أَيِمَّةِ الْفِقْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَفْهُومٌ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى تَعْطِيلِهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ نِكَاحُ أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اجْتِمَاعَ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ يُبَاعِدُ الْمَرْأَةَ عَنِ الْحُرْمَةِ فِي اعْتِبَارِ الْمُسْلِمِ، فَيَقِلُّ الْوِفَاقُ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْأَبْنَاءِ إِذْ يَكُونُونَ أَرِقَّاءَ مَعَ مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الدِّينِ الْمُخَالِفِ فَيَمْتَدُّ الْبَوْنُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِيهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَوْقِعُ وَصْفِ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا كَمَوْقِعِهِ مَعَ قَوْلِهِ: الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ كَوْنَهَا مُؤْمِنَةً، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا أَعْرِفُ هَذَا الْقَوْلَ لِأَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا لِعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ- وَهُوَ تَابِعِيٌّ قَدِيمٌ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى إِعْمَالَ الْمَفْهُومِ.
وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَعْنَى مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: أَيْمانُكُمْ وَقَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ لِلتَّقْرِيبِ وَإِزَالَةِ مَا بَقِيَ فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ مِنِ احْتِقَارِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْ نِكَاحِهِمْ وَإِنْكِاحَهِمْ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَإِنْ كنّا نرَاهُ للتقيد فَهُوَ لَا يَخْلُو مَعَ ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةِ التَّقْرِيبِ، إِذِ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ مَالِكٍ تَعْتَمِدُ الدِّينَ أَوَّلًا.
14
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ اعْتِرَاضٌ جَمَعَ مَعَانِيَ شَتَّى، أَنَّهُ أَمْرٌ، وَقَيْدٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إِلَخْ وَقَدْ تَحُولُ الشَّهْوَةُ وَالْعَجَلَةُ دُونَ تَحْقِيقِ شُرُوطِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَحَالَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمُ الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ رَبُّهُمْ. وَمِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَرْضَوْنَ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ وَجَعْلِهَا حَلِيلَةً، وَلَكِنْ يَقْضُونَ مِنْهُنَّ شَهَوَاتِهِمْ بِالْبِغَاءِ، فَأَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، جَزَاءً عَلَى إِيمَانِهِنَّ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ وَحْدَةَ الْإِيمَانِ قَرَّبَتِ الْأَحْرَارَ مِنَ الْعَبِيدِ، فَلَمَّا شَرَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ ذَيَّلَهُ بُقُولِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، أَيْ بِقُوَّتِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ، هُوَ الَّذِي رَفَعَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَاتٍ كَانَ إِيمَانُ الْإِمَاءِ مُقْنِعًا لِلْأَحْرَارِ بِتَرْكِ الِاسْتِنْكَافِ عَنْ تَزَوُّجِهِنَّ، وَلِأَنَّهُ رُبَّ أَمَةٍ يَكُونُ إِيمَانُهَا خَيْرًا مِنْ إِيمَانِ رَجُلٍ حُرٍّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣]. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْأَخِيرِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ تَذْيِيلٌ ثَانٍ أَكَّدَ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِيَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ
فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِمَاءَ مِنْ جَانِبِ الْوَحْدَةِ الدِّينِيَّةِ قَرَّبَهُنَّ إِلَيْهِمْ مِنْ جَانِبِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ كُلَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ فَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةٌ.
وَفَرَّعَ عَنِ الْأَمْرِ بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ بَيَانَ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ فَقَالَ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَشَرَطَ الْإِذْنَ لِئَلَّا يَكُونَ سِرًّا وَزِنًى، وَلِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ دُونَ ذَلِكَ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ أَهْلِ الْإِمَاءِ.
وَالْأَهْلُ هُنَا بِمَعْنَى السَّادَةِ الْمَالِكِينَ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ عَلَى سَادَةِ الْعَبِيدِ فِي كَلَامِ الْإِسْلَامِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ تَلَطُّفًا بِالْعَبِيدِ، كَمَا وَقَعَ النَّهْيُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: سَيِّدِي، بَلْ يَقُولُ: مَوْلَايَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ «أَنَّ أَهْلَهَا أَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ».
وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وَلَايَةِ السَّيِّدِ لِأَمَتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا نَكَحَتِ الْأَمَةُ بِدُونِ إِذَنِ السَّيِّدِ فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ، وَلَوْ أَجَازَهُ سَيِّدُهَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْعَبْدِ: فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُدُ: هُوَ كَالْأَمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: إِذَا أَجَازَهُ السَّيِّدُ جَازَ، وَيُحْتَجُّ بِهَا لِاشْتِرَاطِ أَصْلِ الْوَلَايَةِ فِي الْمَرْأَةِ، احْتِجَاجًا ضَعِيفًا، وَاحْتَجَّ بِهَا
15
الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، إِذْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ إِذْنًا وَلَمْ يُسَمِّهِ عَقْدًا، وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِذْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ لَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِ (انْكِحُوهُنَّ).
وَالْقَوْلُ فِي الْأُجُورِ وَالْمَعْرُوفِ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوهُنَّ وَإِضَافَةَ الْأُجُورِ إِلَيْهِنَّ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ أَحَقُّ بِمَهْرِهَا مِنْ سَيِّدِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الرُّهُونِ، مِنَ الْمُدَوَّنَةِ: إِنَّ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يُجَهِّزَهَا بِمَهْرِهَا. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ الثَّانِي مِنْهَا: إِنَّ لِسَيِّدِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا، فَقِيلَ: هُوَ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: إِذَا لَمْ تُبَوَّأْ أَوْ إِذَا جَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى تُبَوَّأُ إِذَا جَعَلَ سُكْنَاهَا مَعَ زَوْجِهَا فِي بَيْتِ سَيِّدِهَا.
وَقَوله: مُحْصَناتٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْإِمَاءِ، وَالْإِحْصَانُ التَّزَوُّجُ الصَّحِيحُ، فَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ لِيَصِرْنَ مُحْصَنَاتٍ.
وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحاتٍ صِفَةٌ لِلْحَالِ، وَكَذَلِكَ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ قُصِدَ مِنْهَا تَفْظِيعُ مَا كَانَتْ تَرْتَكِبُهُ الْإِمَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِإِذْنِ مَوَالِيهِنَّ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ قَرِيبًا عَصْرُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ.
والمسافحات الزَّوَانِي مَعَ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. ومتّخذات الْأَخْدَانِ هُنَّ مُتَّخِذَاتُ أَخِلَّاءٍ تَتَّخِذُ الْوَاحِدَةُ خَلِيلًا تَخْتَصُّ بِهِ لَا تَأْلَفُ غَيْرَهُ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّعَدُّدِ، إِلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُهُ مِنْ جِهَةِ التَّسَتُّرِ وَجَهْلِ النَّسَبِ وَخَلْعِ بُرْقُعِ الْمُرُوءَةِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ:
غَيْرَ مُسافِحاتٍ سدّ المداخل الزِّنَى كُلِّهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنْوَاعِ الْمُعَاشَرَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ-.
وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ أَيْ أَحْصَنَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، أَيْ فَإِذَا تَزَوَّجْنَ. فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ التَّزَوُّجَ شَرْطٌ فِي إِقَامَة حدّ الزِّنَا عَلَى الْإِمَاءِ، وَأَنَّ الْحَدَّ هُوَ الْجَلْدُ الْمُعَيَّنُ لِأَنَّهُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ التَّنْصِيفُ بِالْعَدَدِ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْمَاضِيَةِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ شَرْعِ حَدِّ الْجَلْدِ لِلزَّانِيَةِ وَالزَّانِي بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ. فَتَكُونَ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ الزَّانِيَةِ بِغَيْرِ الْأَمَةِ، وَيَكُونَ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
16
مِمَّا أُلْحِقَ بِهَذِهِ السُّورَةِ إِكْمَالًا لِلْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِمَاءِ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي نَظَائِرَ عَدِيدَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدَّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدَّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحَيَّرَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُونَ لِاقْتِضَائِهَا أَنْ لَا تُحَدَّ الْأَمَةُ فِي الزِّنَى إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، فَتَأَوَّلَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ بِأَنَّ الْإِحْصَانَ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمَةَ تحدّ فِي الزِّنَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً أَمْ عَزْبَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَيِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ. وَلَا أَظُنُّ أَنَّ دَلِيلَ الْأَيِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ حَمْلُ الْإِحْصَانِ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْإِسْلَامِ، بَلْ مَا
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا الْحَدَّ
. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَالْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ مَحْدُودَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَالْأَمَةُ غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ مَحْدُودَةٌ بِالسُّنَّةِ. وَنِعْمَ هَذَا الْكَلَامُ. قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: فِي حَمْلِ الْإِحْصَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ بُعْدٌ لِأَنَّ ذِكْرَ إِيمَانِهِنَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَهُوَ تَدْقِيقٌ، وَإِنْ أَبَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْأَمَةِ الْجَلْدُ، وَلَمْ تَذْكُرِ الرَّجْمَ، فَإِذَا كَانَ الرَّجْمُ مَشْرُوعًا قَبْلَ نُزُولِهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَا رَجْمَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو ثَوْرٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجْمُ قَدْ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ رَجْمِ الْأَمَةِ، غَيْرَ أَنَّ قَصْدَ التَّنْصِيفِ فِي حَدِّهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا يُبْلَغُ بِهَا حَدُّ الْحُرَّةِ، فَالرَّجْمُ يَنْتَفِي لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ، وَهُوَ مَا ذُهِلَ عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْأَمَةِ فَقَالَ: «الْأَمَةُ أَلْقَتْ فَرْوَةَ رَأْسِهَا مِنْ وَرَاءِ الدَّارِ» أَيْ أَلْقَتْ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا قِنَاعَهَا، أَيْ
أَنَّهَا تَخْرُجُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يُرْسِلُهَا أَهْلُهَا إِلَيْهِ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ، فَتَصِيرُ إِلَى حَيْثُ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْفُجُورِ، قَالُوا: فَكَانَ يَرَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِذَا فَجَرَتْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ فَقَدْ مَنَعَهَا زَوْجُهَا. وَقَوْلُهُ هَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَلَكِنَّنَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ لِلْمُتَبَصِّرِ بِتَصْرِيفِ الشَّرِيعَةِ عِبْرَةً فِي تَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْخِيَانَةِ وَضَعْفِ الْمَعْذِرَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ:
أُحْصِنَّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مُحْصَنَاتٍ- الْمَفْتُوحِ الصَّادِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَهُوَ مَعْنَى مُحْصِنَاتٍ- بِكَسْرِ الصَّادِ-.
17
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحُكْمِ الصَّالِحِ لَأَنْ يَتَقَيَّدَ بِخَشْيَةِ الْعَنَتِ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ هُوَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ.
وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٢٠] وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَشَقَّةُ الْعُزْبَةِ الَّتِي تَكُونُ ذَرِيعَة إِلَى الزِّنَا، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعضهم: أُرِيد الْعَنَت الزِّنَا.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِذَا اسْتَطَعْتُمُ الصَّبْرَ مَعَ الْمَشَقَّةِ إِلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَذَلِكَ خَيْرٌ، لِئَلَّا يُوقِعَ أَبْنَاءَهُ فِي ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الْمَكْرُوهَةِ لِلشَّارِعِ لَوْلَا الضَّرُورَةُ، وَلِئَلَّا يُوقِعَ نَفْسَهُ فِي مَذَلَّةِ تَصَرُّفِ النَّاسِ فِي زَوْجِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ إِنْ خِفْتُمُ الْعَنَتَ وَلَمْ تَصْبِرُوا عَلَيْهِ، وَتَزَوَّجْتُمُ الْإِمَاءَ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ. مُؤْذِنٌ بِأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ لِأَجْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ. غَفُورٌ فَالْمَغْفِرَةُ هُنَا بِمَعْنَى التجاوز عمّا مَا يَقْتَضِي مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمَهُ، فَلَيْسَ هُنَا ذَنْبٌ حتّى يغْفر.
[٢٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٦]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦)
تَذْيِيلٌ يُقْصَدُ مِنْهُ اسْتِئْنَاسُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِنْزَالُ نُفُوسِهِمْ إِلَى امْتِثَالِ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، فَإِنَّهَا أَحْكَامٌ جَمَّةٌ وَأَوَامِرُ وَنَوَاهٍ تُفْضِي إِلَى خَلْعِ عَوَائِدَ أَلِفُوهَا، وَصَرْفِهُمْ عَنْ شَهَوَاتٍ اسْتَبَاحُوهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَواتِ
[النِّسَاء: ٢٧]، أَيِ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ فِي ذَلِكَ بَيَانًا وَهُدًى. حَتَّى لَا تَكُونَ شَرِيعَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ شَرَائِعِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، بَلْ تَفُوقَهَا فِي انْتِظَامِ أَحْوَالِهَا، فَكَانَ هَذَا كَالِاعْتِذَارِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. فَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ تَعْلِيلٌ لِتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ فِي مَوَاقِعِ الشُّبُهَاتِ كَيْ لَا يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أَهْدَى مِمَّا قَبْلَهَا.
وَقَوْلُهُ: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بَيَانٌ لِقَصْدِ إِلْحَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَزَايَا الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا.
18
وَالْإِرَادَةُ: الْقَصْدُ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَمَلِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الصِّفَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُخَصِّصُ الْمُمْكِنَ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. وَالِامْتِنَانُ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ تَوْضِيحِ الْأَحْكَامِ قَدْ حَصَلَتْ إِرَادَتُهُ فِيمَا مضى، وإنّا عُبِّرَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْبَيَانِ وَاسْتِمْرَارِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّشْرِيعَاتِ دَائِمَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ تَكُونُ بَيَانًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُبْقِي بَعْدَهَا بَيَانًا مُتَعَاقِبًا.
وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ انتصب فعل (لِيُبَيِّنَ) بِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ مَحْذُوفَةٍ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مَفْعُولُ (يُرِيدُ)، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لَكُمْ وَالْهُدَى وَالتَّوْبَةَ، فَكَانَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ ذِكْرَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ فَاللَّامُ هُنَا لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَقَدْ شَاعَتْ زِيَادَةُ هَذِهِ اللَّامُ بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَبَعْدَ مَادَّةِ الْأَمر معاقبة لِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ. تَقُولُ، أُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ وَأُرِيدُ لِتَفْعَلَ، وَقَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَة: ٣٢] وَقَالَ:
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصَّفّ: ٨] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [غَافِر: ٦٦] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى: ١٥] فَإِذا جاؤوا بِاللَّامِ أَشْبَهَتْ لَامَ التَّعْلِيلِ فَقَدَّرُوا (أَنْ) بَعْدَ اللَّامِ المؤكّدة كَمَا قد روها بَعْدَ لَامِ كَيْ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي الصُّورَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ نَائِبَةٌ عَنْ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ».
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ لَامُ كَيْ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا عِلَّةٌ، وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ لِيُبَيِّنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فَيُقَدَّرُ: يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لِيُبَيِّنَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُبَالَغَةً بِجَعْلِ الْعِلَّةِ نَفْسَ الْمُعَلَّلِ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: اللَّامُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْفِعْلِ السَّابِقِ،
وَذَلِكَ الْفِعْلُ مُقَدَّرٌ بِالْمَصْدَرِ دُونَ سَابِكٍ عَلَى حَدِّ «تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أَيْ إِرَادَةُ اللَّهِ كَائِنَةٌ لِلْبَيَانِ، وَلَعَلَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ انْحَصَرَتْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ: هَذِهِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ لَامَ التَّقْوِيَةِ إِنَّمَا يُجَاءُ بِهَا إِذَا ضَعُفَ الْعَامِلُ بِالْفَرْعِيَّةِ أَوْ بِالتَّأَخُّرِ. وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، بِدَلِيلِ دُخُولِ اللَّامِ عَلَى كَيْ فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْخَزْرَجِيِّ.
19
وَعَنِ النَّحَّاسِ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ سَمَّى هَذِهِ اللَّامَ لَامَ (أَنْ).
وَمَعْنَى وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْهِدَايَةُ إِلَى أُصُولِ مَا صَلَحَ بِهِ حَالُ الْأُمَمِ الَّتِي سَبَقَتْنَا، مِنْ كُلِّيَّاتِ الشَّرَائِعِ، وَمَقَاصِدِهَا. قَالَ الْفَخْرُ: «فَإِنَّ الشَّرَائِعَ وَالتَّكَالِيفَ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي نَفْسِهَا، إِلَّا أَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي بَابِ الْمَصَالِحِ». قُلْتُ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أَيْ يَتَقَبَّلَ تَوْبَتَكُمْ، إِذْ آمَنْتُمْ وَنَبَذْتُمْ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَنِكَاحِ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ، وَنِكَاحِ الرَّبَائِبِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
وَمَعْنَى: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يَقْبَلُ تَوْبَتَكُمُ الْكَامِلَةَ بِاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَلَا تَنْقُضُوا ذَلِكَ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ. وَلَيْسَ مَعْنَى وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُوَفِّقُكُمْ لِلتَّوْبَةِ، فَيُشْكَلُ بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ لَا يَتَخَلَّفُ، إِذْ لَيْسَ التَّوْفِيقُ لِلتَّوْبَةِ بِمُطَّرِدٍ فِي جَمِيعِ النَّاسِ. فَالْآيَةُ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّوْبَةِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْوَعْدَ بِقَبُولِهَا يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيضَ عَلَيْهَا مِثْلُ مَا
فِي الْحَدِيثِ: «فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ»
هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلِلْفَخْرِ وَغَيْرِهِ هُنَا تَكَلُّفَاتٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مُنَاسِبٌ لِلْبَيَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي التَّوْبَةِ بِطَرِيقِ الْوَعْدِ بِقَبُولِهَا، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَثَرُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي إِرْشَادِ الْأُمَّةِ وَتَقْرِيبِهَا إِلَى الرشد.
[٢٧]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٧]
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧)
كَرَّرَ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً فَلَيْسَ بِتَأْكِيدٍ لَفْظِيٍّ، وَهَذَا كَمَا يُعَادُ اللَّفْظُ فِي الْجَزَاءِ
وَالصِّفَةِ وَنَحْوِهَا، كَقَوْلِ الْأَحْوَصِ فِي الْحَمَاسَةِ.
20
أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ
فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: ٦٣] وَالْمَقْصِدُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِإِرَادَةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى دَخَائِلِ أَعْدَائِهِمْ، لِيَعْلَمُوا الْفَرْقَ بَيْنَ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ. وَمُرَادِ أَعْوَانِ الشَّيَاطِينِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ.
وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لِيَدُلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ الْإِضَافِيِّ. أَيِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، أَيْ يُحَرِّضَكُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ فَيُرِيدُونَ انْصِرَافَكُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَمَيْلَكُمْ عَنْهُ إِلَى الْمَعَاصِي. وَإِطْلَاقُ الْإِرَادَةِ عَلَى رَغْبَةِ أَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ فِي مَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَقِّ لِمُشَاكَلَةِ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاء: ٢٦]. وَالْمَقْصُودُ: وَيُحِبُّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا. وَلَمَّا كَانَتْ رَغْبَتُهُمْ فِي مَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَقِّ رَغْبَةً لَا تَخْلُو عَنْ سَعْيِهِمْ لِحُصُولِ ذَلِكَ، أَشْبَهَتْ رَغْبَتُهُمْ إِرَادَةَ الْمُرِيدِ لِلْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى- بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ- يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ [النِّسَاء: ٤٤].
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَمِيلُوا لِظُهُورِهِ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَأَرَادَ بِالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ الَّذِينَ تَغْلِبُهُمْ شَهَوَاتُهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ: مِنَ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي عَوَاقِبِ الذُّنُوبِ وَمَفَاسِدِهَا وَعُقُوبَتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُرْضُونَ شَهَوَاتِهِمُ الدَّاعِيَةَ إِلَيْهَا. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَةِ هُنَا تَشْنِيعٌ لِحَالِهِمْ، فَفِي الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْلِيلِ الْخَبَرِ.
وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ: أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَالْيَهُودُ أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فِي نِكَاحِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَنِكَاحِ الْعَمَّاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَالْمِيلُ الْعَظِيمُ هُوَ الْبُعْدُ عَنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَالطَّعْنُ فِيهَا. فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَبِّبُونَ لِلْمُسْلِمِينَ الزِّنَى وَيَعْرِضُونَ عَلَيْهِمُ الْبَغَايَا. وَكَانَ الْمَجُوسُ يَطْعَنُونَ فِي تَحْرِيمِ ابْنَةِ الْأَخِ وَابْنَةِ الْأُخْت وَيَقُولُونَ: لماذَا أَحَلَّ دِينُكُمُ ابْنَةَ الْعَمَّةِ وَابْنَةَ الْخَالَةِ. وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: لَا تَحْرُمُ الْأُخْتُ الَّتِي لِلْأَبِ وَلَا تَحْرُمُ الْعَمَّةُ وَلَا الْخَالَةُ وَلَا الْعَمُّ وَلَا الْخَالُ. وَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِالشَّهَوَاتِ لِأَنَّ مَجِيءَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَيَّنَ انْتِهَاءَ إِبَاحَةِ مَا أُبِيحَ فِي الشَّرَائِعِ الْأُخْرَى، بَلْهَ مَا كَانَ حَرَامًا فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا وَتَسَاهَلَ فِيهِ أهل الشّرك.
21

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٨]

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
أَعْقَبَ الِاعْتِذَارَ الَّذِي تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النِّسَاء: ٢٦] بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَزَالُ مُرَاعِيًا رِفْقَهُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِرَادَتِهِ بِهَا الْيُسْرَ دُونَ الْعُسْرِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ بَيَّنَ حِفْظَ الْمَصَالِحِ وَدَرْءَ الْمَفَاسِدِ، فِي أَيْسَرِ كَيْفِيَّةٍ وَأَرْفَقِهَا، فَرُبَّمَا أَلْغَتِ الشَّرِيعَةُ بَعْضَ الْمَفَاسِدِ إِذَا كَانَ فِي الْحَمْلِ عَلَى تَرْكِهَا مَشَقَّةٌ أَوْ تَعْطِيلُ مَصْلَحَةٍ، كَمَا أَلْغَتْ مَفَاسِدَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ نَظَرًا لِلْمَشَقَّةِ عَلَى غَيْرِ ذِي الطَّوْلِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ كَقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج:
٧٨] وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] وَقَوْلِهِ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٥٧]،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»
، وَكَذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمْ إِلَى بَثِّ الدِّينِ فَقَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرا» وَقَالَ: (إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُبَشِّرِينَ لَا مُنَفِّرِينَ). وَقَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا شَكَا بَعْضُ الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ مِنْ تَطْوِيلِهِ «أَفَتَّانٌ أَنْتَ». فَكَانَ التَّيْسِيرُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَعَنْهُ تَفَرَّعَتِ الرُّخَصُ بِنَوْعَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً تَذْيِيلٌ وَتَوْجِيهٌ لِلتَّخْفِيفِ، وَإِظْهَارٌ لِمَزِيَّةِ هَذَا الدِّينِ وَأَنَّهُ أَلْيَقُ الْأَدْيَانِ بِالنَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلِذَلِكَ فَمَا مَضَى مِنَ الْأَدْيَانِ كَانَ مُرَاعًى فِيهِ حَالٌ دُونَ حَالٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦٦]. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الضَّعْفَ هُنَا بِأَنَّهُ الضَّعْفُ مِنْ جِهَةِ النِّسَاء. قَالَ طَاوُوس «لَيْسَ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي شَيْءٍ أَضْعَفَ مِنْهُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ» وَلَيْسَ مُرَادُهُ حَصْرَ مَعْنَى الْآيَةِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا رُوعِيَ فِي الْآيَةِ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا هُوَ تَرْخِيصٌ فِي النِّكَاحِ

[٢٩، ٣٠]

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٢٩ الى ٣٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ.
اسْتِئْنَافٌ مِنَ التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَعَلَامَةُ الِاسْتِئْنَافِ افْتِتَاحُهُ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ وَالنِّكَاحِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَوَامِرَ بِإِيتَاءِ
ذِي الْحَقِّ فِي الْمَالِ حَقَّهُ، كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] وَقَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النِّسَاء: ٢٤] وَقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النِّسَاء: ٤] الْآيَةَ، فَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَشْرِيعٍ عَامٍّ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَكْلَ مَجَازٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ انْتِفَاعًا تَامًّا، لَا يَعُودُ مَعَهُ إِلَى الْغَيْرِ، فَأَكْلُ الْأَمْوَالِ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا بِنِيَّةِ عَدَمِ إِرْجَاعِهَا لِأَرْبَابِهَا، وَغَالِبُ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ اسْتِيلَاءَ ظُلْمٍ، وَهُوَ مَجَازٌ صَارَ كَالْحَقِيقَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الِانْتِفَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: ٤] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: ٦]، وَلِذَلِكَ غَلَبَ تَقْيِيدُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَيْدِ بِالْباطِلِ وَنَحْوِهِ.
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِ (تَأْكُلُوا)، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ أَمْوَالٌ: رَاجِعَانِ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُنْهَى عَنْ أَكْلِ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَا يُسَمَّى انْتِفَاعُهُ بِمَالِهِ أَكْلًا، فَالْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ. وَالْبَاطِلُ ضِدُّ الْحَقِّ، وَهُوَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا كَانَ عَن إِذن ربّه، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْمُلَابَسَةِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَالْمَعْنَى: لَكِنْ كَوْنُ التِّجَارَةِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَمَوْقِعُ الْمُنْقَطِعِ هُنَا بَيِّنٌ جَارٍ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْعَرَبِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ شُمُولُ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِلشَّيْءِ الْمُسْتَدْرَكِ وَلَا يُفِيدُ الِاسْتِدْرَاكُ حَصْرًا، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُقْتَضَى الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَيْدُ الْبَاطِلِ فِي حَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُلْغًى، فَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ وَيَكُونَ مُتَّصِلًا، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ حَصَرَ إِبَاحَةَ أَكْلِ الْأَمْوَالِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، وأياما كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فَتَخْصِيصُ التِّجَارَةِ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ أَنْوَاعِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ
23
شَبَهًا بِالْبَاطِلِ، إِذِ التَّبَرُّعَاتُ كُلُّهَا أَكْلُ أَمْوَالٍ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَالْمُعَاوَضَاتُ غَيْرُ التِّجَارَاتِ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْذَ كِلَا الْمُتَعَاوِضَيْنِ عِوَضًا عَمَّا بَذَلَهُ لِلْآخَرِ مُسَاوِيًا لِقِيمَتِهِ فِي نَظَرِهِ يُطَيِّبُ نَفْسَهُ. وَأَمَّا التِّجَارَةُ فَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ أَخْذِ الْمُتَصَدِّي للتجر مَا لَا زَائِدًا عَلَى قِيمَةِ مَا بَذَلَهُ لِلْمُشْتَرِي قَدْ تُشْبِهُ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَلِذَلِكَ خُصَّتْ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَحِكْمَةُ إِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَالِ الزَّائِدِ فِيهَا أَنَّ عَلَيْهَا مَدَارَ رَوَاجِ السّلع الحاجية والتحسينية، وَلَوْلَا تَصَدِّي التُّجَّارِ وَجَلْبُهُمُ السِّلَعَ لَمَا وَجَدَ صَاحِبُ الْحَاجَةِ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ. وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا مَا فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: فِي احْتِكَارِ الطَّعَامِ «وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ عَلَى عَمُودِ كَبِدِهِ
فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَذَلِكَ ضَيْفُ عُمَرَ فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ وَيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ»
.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً- بِرَفْعِ تِجَارَةٌ- عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِكَانَ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ تَقَعُ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِنَصْبِ تِجَارَةً- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ النَّاقِصَةِ، وَتَقْدِيرُ اسْمِهَا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً، أَيْ أَمْوَالُ تِجَارَةٍ.
وَقَوْلُهُ: عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ صِفَةٌ لِ (تِجَارَةً)، وَ (عَنْ) فِيهِ لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ صَادِرَةٌ عَنِ التَّرَاضِي وَهُوَ الرِّضَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ عُرْفٍ. وَفِي الْآيَةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِقَوْلِ مَالِكٍ مِنْ نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ: لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مَنَاطَ الِانْعِقَادِ هُوَ التَّرَاضِي، وَالتَّرَاضِي يَحْصُلُ عِنْدَ التَّبَايُعِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبٍ نَفْسٍ».
وَفِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»
. وَتَقْدِيمُ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ أَخْطَرُ، إِمَّا لِأَنَّ مُنَاسَبَةَ مَا قَبْلَهُ أَفْضَتْ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ فَاسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ لِذَلِكَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ أَكْلُ الْأَمْوَالِ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ اسْتِخْفَافًا بِهِ مِنْهُمْ بِقَتْلِ الْأَنْفُسِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقَعُ فِي مَوَاقِعِ الضَّعْفِ حَيْثُ لَا يَدْفَعُ صَاحِبُهُ عَنْ نَفْسِهِ كَالْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ وَالزَّوْجَةِ. فَآكِلُ أَمْوَالِ هَؤُلَاءِ فِي مَأْمَنٍ مِنَ التَّبِعَاتِ
24
بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ، فَإِنَّ تَبِعَاتِهِ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، وَإِنْ بَلَغَ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْعِزَّةِ فِي قَوْمِهِ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَلَا أَمْنَعَ مِنْ كُلَيْبِ وَائِلٍ، لِأَنَّ الْقَبَائِلَ مَا كَانَتْ تُهْدِرُ دِمَاءَ قَتْلَاهَا.
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠).
قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ، فَالضَّمِيرَانِ فِيهِ عَلَى التَّوْزِيعِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَتْلُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ لِلْإِنْسَانِ إِتْلَافَ نَفْسِهِ كَمَا أَبَاحَ لَهُ صَرْفَ مَالِهِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا خُصُوصَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فَلَا. وَأَمَّا مَا
فِي «مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ» : أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَيَمَّمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ وَلَمْ يَغْتَسِلْ، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَلِكَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِعُمُومِ ضَمِيرِ (تَقْتُلُوا) دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أَيِ الْمَذْكُورَ: مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَالْقَتْلِ: وَقِيلَ:
الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاءَ: ١٩] لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهُ وَعِيدٌ، وَوَرَدَ وَعِيدٌ قَبْلَهُ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ لِيَخْرُجَ أَكْلُ الْمَالِ بِوَجْهِ الْحَقِّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ كَذَلِكَ، كَقَتْلِ الْقَاتِلِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا»
. وَالْعُدْوَانُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- مَصْدَرٌ بِوَزْنِ كُفْرَانٍ، وَيُقَالُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- وَهُوَ التَّسَلُّطُ بِشِدَّةٍ، فَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ غَالِبًا، وَيَكُونُ بِحَقٍّ، قَالَ تَعَالَى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: ١٩٣] وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَظُلْماً عَلَى عُدْواناً مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
وَ (سَوْفَ) حَرْفٌ يَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فَيُمَحِّضُهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلسِّينِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: (سَوْفَ) تَدُلُّ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ بَعِيدٍ وَسَمَّاهُ: التَّسْوِيفَ، وَلَيْسَ فِي
25
الِاسْتِعْمَالِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً فِي هَذِه السُّورَة [النِّسَاء: ١٠]. وَ (نُصَلِيهِ) نَجْعَلُهُ صَالِيًا أَوْ مُحْتَرِقًا، وَقَدْ مَضَى فِعْلُ صَلِيَ أَيْضًا، وَوَجْهُ نَصْبِ (نَارًا) هُنَالِكَ، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى كُلِّيَّتَيْنِ مِنْ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ: وَهُمَا حِفْظُ الْأَمْوَالِ، وَحِفْظُ الْأَنْفُسِ، مِنْ قِسْمِ الْمُنَاسب الضَّرُورِيّ.
[٣١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣١]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
اعْتِرَاضٌ نَاسَبَ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذِكْرِ ذَنْبَيْنِ كَبِيرَيْنِ: وَهُمَا قَتْلُ النَّفْسِ، وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ، وَفِي انْتِهَازِ الْفُرَصِ فِي إِلْقَاءِ التَّشْرِيعِ عَقِبَ الْمَوَاعِظِ وَعَكْسِهِ.
وَقَدْ دَلَّتْ إِضَافَةُ كَبائِرَ إِلَى مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ قِسْمَانِ: كَبَائِرُ، وَدُونَهَا وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الصَّغَائِرَ، وَصْفًا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَقَدْ سُمِّيَتْ هُنَا سَيِّئَاتٌ. وَوَعَدَ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ السَّيِّئَاتِ لِلَّذِينِ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَالَ فِي آيَةِ النَّجْمِ [٣٢] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ فَسَمَّى الْكَبَائِرَ فَوَاحِشَ وَسَمَّى مُقَابِلَهَا اللَّمَمَ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ عِنْدَ اللَّهِ قِسْمَانِ: مَعَاصٍ كَبِيرَةٌ فَاحِشَةٌ، وَمَعَاصٍ دُونَ ذَلِكَ يَكْثُرُ
أَنْ يُلِمَّ الْمُؤْمِنُ بِهَا، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَعْيِينِ الْكَبَائِرِ. فَعَنْ عَلِيٍّ: هِيَ سَبْعٌ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَاسْتَدَلَّ لِجَمِيعِهَا بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَدِلَّةِ جَازِمِ النَّهْيِ عَنْهَا.
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتَّقُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ... »
فَذَكَرَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَلِيٌّ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ السِّحْرَ عِوَضَ التَّعَرُّبِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هِيَ تِسْعٌ بِزِيَادَةِ الْإِلْحَادِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِلَى هُنَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَعِيدُ نَارٍ أَوْ عَذَابٌ أَوْ لَعْنَةٌ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكَبَائِرُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ. وَأحسن ضبط الْكَبِيرَة قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: هِيَ كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ
26
وَبِضَعْفِ دِيَانَتِهِ. وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ قَالَ:
الذُّنُوبُ كُلُّهَا سَوَاءٌ إِنْ كَانَتْ عَنْ عَمْدٍ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا سَوَاءٌ مُطْلَقًا، وَنَفَى الصَّغَائِرَ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ وَاهِيَانِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ شَاهِدَةٌ بِتَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى قِسْمَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الذُّنُوبُ مِنَ الْمَفَاسِدِ مُتَفَاوِتٌ أَيْضًا، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِثْبَاتُ نَوْعِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى إِثْبَاتِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَحْكَامٌ تَكْلِيفِيَّةٌ: مِنْهَا الْمُخَاطَبَةُ بِتَجَنُّبِ الْكَبِيرَةِ تَجَنُّبًا شَدِيدًا، وَمِنْهَا وُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنْهَا عِنْد اقترابها، وَمِنْهَا أَنَّ تَرْكَ الْكَبَائِرِ يُعْتَبَرُ تَوْبَةً مِنَ الصَّغَائِرِ، وَمِنْهَا سَلْبُ الْعَدَالَةِ عَنْ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ، وَمِنْهَا نَقْضُ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُتَلَبِّسِ بِهَا، وَمِنْهَا جَوَازُ هِجْرَانِ الْمُتَجَاهِرِ بِهَا، وَمِنْهَا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ عَلَى الْمُتَلَبِّسِ بِهَا. وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَسَائِلُ فِي أُصُولِ الدِّينِ: مِنْهَا تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَاعْتِبَارُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. فَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُمَيِّزِ الْكَبَائِرَ عَنِ الصَّغَائِرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا لِلنَّاسِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى كُلِّ ذَنَبٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ إِخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ فِي سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، هَكَذَا حَكَاهُ الْفَخْرُ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذُهُولُ هَذَا الْقَائِلِ، وَذُهُولُ الْفَخْرِ عَنْ رَدِّهِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي نَظَرُوا بِهَا تَرْجِعُ إِلَى فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَكْلِيفٌ فَإِخْفَاؤُهَا يُقْصَدُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِي تَوَخِّي مَظَانِّهَا لِيُكْثِرَ النَّاسُ مَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَكِنَّ إِخْفَاءَ الْأَمْرِ الْمُكَلَّفِ بِهِ إِيقَاعٌ فِي الضَّلَالَةِ، فَلَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنَ الشَّارِعِ.
وَالْمَدْخَلُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- اسْمُ مَكَانِ الدُّخُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا.
وَالْمَعْنَى: نُدْخِلُكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا، أَوْ نُدْخِلُكُمْ دُخُولًا كَرِيمًا. وَالْكَرِيمُ هُوَ النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ.
فَالْمُرَادُ إِمَّا الْجَنَّةُ وَإِمَّا الدُّخُولُ إِلَيْهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الجنّة. والمدخل- بصمّ الْمِيمِ- كَذَلِكَ مَكَانٌ أَوْ مَصْدَرُ أَدْخَلَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: «مَدْخَلًا» - بِفَتْح الْمِيم- وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ- بضمّ الْمِيم-.
27

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٢]

وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء:
٢٩].
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ: أَنَّ التَّمَنِّيَ يُحَبِّبُ لِلْمُتَمَنِّي الشَّيْءَ الَّذِي تَمَنَّاهُ، فَإِذَا أَحَبَّهُ أَتْبَعَهُ نَفْسَهُ فَرَامَ تَحْصِيلَهُ وَافْتَتَنَ بِهِ، فَرُبَّمَا بَعَثَهُ ذَلِكَ الِافْتِتَانُ إِلَى تَدْبِيرِ الْحِيَلِ لِتَحْصِيلِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ، وَإِلَى الِاسْتِئْثَارِ بِهِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْوَاجِبِ مِنْ إِعْطَاءِ الْحَقِّ صَاحِبَهُ وَعَنْ مَنَاهِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْجُمَلُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا. وَقَدْ أَصْبَحَ هَذَا التَّمَنِّي فِي زَمَانِنَا هَذَا فِتْنَةً لِطَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَرَتْ لَهُمْ مِنْ أَخْلَاقِ الْغُلَاةِ فِي طَلَبِ الْمُسَاوَاةِ مِمَّا جَرَّ أُمَمًا كَثِيرَةً إِلَى نِحْلَةِ الشِّيُوعِيَّةِ فَصَارُوا يَتَخَبَّطُونَ لِطَلَبِ التَّسَاوِي فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُعَانُونَ إِرْهَاقًا لَمْ يَحْصُلُوا مِنْهُ على طائل.
فالنهي عَنِ التَّمَنِّي وَتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إِلَى مَا لَيْسَ لَهَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامًّا، فَكَانَ كَالتَّذْيِيلِ لِلْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ لِسَدِّ ذَرَائِعِهَا وَذَرَائِعِ غَيْرِهَا، فَكَانَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فِي دَرْءِ الشُّرُورِ. وَقَدْ كَانَ التَّمَنِّي مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الْجَرَائِمِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْحَسَدِ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلُ جُرْمٍ حَصَلَ فِي الْأَرْضِ نَشَأَ عَنِ الْحَسَدِ. وَلَقَدْ كثر مَا انْتَبَهت أَمْوَالٌ، وَقُتِلَتْ نُفُوسٌ للرغبة فِي بسطة رِزْقٍ، أَوْ فِتْنَةِ نِسَاءٍ، أَوْ نَوَالِ مُلْكٍ، وَالتَّارِيخُ طَافِحٌ بِحَوَادِثَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَالَّذِي يَبْدُو أَنَّ هَذَا التَّمَنِّيَ هُوَ تَمَنِّي أَمْوَالِ الْمُثْرِينَ، وَتَمَنِّي أَنْصِبَاءِ الْوَارِثِينَ، وَتَمَنِّي الِاسْتِئْثَارِ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَتَمَنِّي حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ الْمِيرَاثِ لِيُنَاسِبَ مَا سَبَقَ مِنْ إِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ. وَإِنْصَافِ النِّسَاءِ فِي مُهُورِهِنَّ، وَتَرْكِ مُضَارَّتِهِنَّ إِلْجَاءً إِلَى إِسْقَاطِهَا، وَمِنْ إِعْطَاءِ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ كَمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.
28
وَقَدْ أَبْدَى الْقَفَّالُ مُنَاسَبَةً لِلْعَطْفِ تَنْدَرِجُ فِيمَا ذَكَرْتُهُ. وَفِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا يَغْزُو النِّسَاءُ، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَرِوَايَاتُهُ كُلُّهَا حِسَانٌ لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الصِّحَّةِ. قُلْتُ: لَمَّا كَانَ مُرْسَلًا يَكُونُ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَمَنَّوْا إِلَخْ. مِنْ كَلَامِ مُجَاهِدٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَكَانَ فِي عُمُومِهَا مَا يَرُدُّ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ: بَعْضُهَا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَمَنِّي النِّسَاءِ الْجِهَادَ وَبَعْضُهَا فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْلِ امْرَأَةٍ «إِنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَشَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِرَجُلٍ أَفَنَحْنُ فِي الْعَمَلِ كَذَلِكَ» وَبَعْضُهَا فِي أَنَّ رِجَالًا قَالُوا: إِنَّ ثَوَابَ أَعْمَالِنَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْ ثَوَابِ النِّسَاءِ وَبَعْضُهَا فِي أَنَّ النِّسَاءَ سَأَلْنَ أَجْرَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقُلْنَ لَوْ كُتِبَ عَلَيْنَا الْقِتَالُ لَقَاتَلْنَا. وَكُلُّ ذَلِكَ جُزْئِيَّاتٌ وَأَمْثِلَةٌ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ.
وَالتَّمَنِّي هُوَ طَلَبُ حُصُولِ مَا يَعْسُرُ حُصُولُهُ لِلطَّالِبِ. وَذَلِكَ لَهُ أَحْوَالٌ مِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ فِيهِ إِلَى شَيْءٍ فِي يَدِ الْغَيْرِ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ شَرْعٍ أَوْ عَادَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ كَتَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنِ الْحُصُولِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله ثمَّ أحيى ثُمَّ أقتل ثمَّ أحيى ثُمَّ أُقْتَلُ».
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْتَنَا نَرَى إِخْوَانَنَا»
يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَهُ.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لِمَانِعٍ عَادِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ، كَتَمَنِّي أُمِّ سَلَمَةَ أَنْ يَغْزُوَ النِّسَاءُ كَمَا يَغْزُو الرِّجَالُ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُسَاوِيَةَ الرَّجُلِ فِي الْمِيرَاثِ وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى تَمَنِّيًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِمَا سَاقَهُ اللَّهُ وَالضَّجَرِ مِنْهُ، أَوْ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَالِانْزِعَاجِ، أَوْ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى نِعْمَةً تُمَاثِلُ نِعْمَةً فِي يَدِ الْغَيْرِ مَعَ إِمْكَانِ حُصُولِهَا لِلْمُتَمَنِّي بِدُونِ أَنْ تُسْلَبَ مِنَ الَّتِي هِيَ فِي يَدِهِ كَتَمَنِّي عِلْمٍ مِثْلِ عِلْمِ الْمُجْتَهِدِ أَوْ مَالٍ مِثْلِ مَالِ قَارُونَ.
29
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى ذَلِكَ لَكِنَّ مِثْلَهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِسَلْبِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِهِ كَتَمَنِّي مُلْكِ بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ زَوْجَةِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةٍ عَنِ الْغَيْرِ بِدُونِ قَصْدِ مَصِيرِهَا إِلَى الْمُتَمَنِّي.
وَحَاصِلُ مَعْنَى النَّهْيِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ: إِمَّا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ لَا يَشْغَلُوا نُفُوسَهُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِنَوَالِهِ ضَرُورَة أنّه سمّاه تَمَنِّيًا، لِئَلَّا يَكُونُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي
وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ: «يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ»
، وَيكون قَوْله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِرْشَادٌ إِلَى طَلَبِ الْمُمْكِنِ، إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ وَدُعَاءَهُ يَكُونُ فِي مَرْجُوِّ الْحُصُولِ، وَإِلَّا كَانَ سُوءَ أَدَبٍ.
وَإِمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ الْمُحَرَّمَةِ، فَيَكُونُ جَرِيمَةً ظَاهِرَةً، أَوْ قَلْبِيَّةً كَالْحَسَدِ، بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩].
فَالتَّمَنِّي الْأَوَّلُ وَالرَّابِعُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُمَا، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «بَابُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ»،
وَذَكَرَ حَدِيثَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ»
. وَأَمَّا التَّمَنِّي الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا اضْطِرَابُ النَّفْسِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَالشَّكُّ فِي حِكْمَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَأَمَّا التَّمَنِّي الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُمَا لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مِنَ الْحَسَدِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا»
، وَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ أَنْ يَخْطِبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيه، إلّا إِذْ كَانَ تَمَنِّيهِ فِي الْحَالَةِ الْخَامِسَةِ تَمَنِّي حُصُولِ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَعْجِلُ مَوْتَهُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، لَمَّا اسْتَخْلَفَ عُمَرَ، يُخَاطِبُ الْمُهَاجِرِينَ: «فَكُلُّكُمْ وَرِمَ أَنْفُهُ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَمْرُ دُونَهُ».
وَالسَّادِسُ أَشَدُّ وَهُوَ شَرُّ الْحَسَدَيْنِ إِلَّا إِذَا كَانَ صَاحِبُ النِّعْمَةِ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى ضُرٍّ يَلْحَقُ الدِّينَ أَوِ الْأُمَّةَ أَوْ عَلَى إِضْرَارِ الْمُتَمَنِّي.
30
ثُمَّ مَحَلُّ النَّهْيِ فِي الْآيَةِ: هُوَ التَّمَنِّي، وَهُوَ طَلَبُ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِتَحْصِيلِهِ بِكَسْبِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى سُلُوكِ مَسَالِكِ الْعَدَاءِ، فَأَمَّا طَلَبُ مَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ ضُرٍّ بِالْغَيْرِ فَلَا نَهْيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ بِطَلَبِهِ يَنْصَرِفُ إِلَى تَحْصِيلِهِ فَيُحَصِّلُ فَائِدَةً دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً، أَمَّا طَلَبُ مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِتَحْصِيلِهِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْفَوَائِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلَا ضَيْرَ فِيهِ.
وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنِ الْأَقْسَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ التَّمَنِّي أَنَّهَا تُفْسِدُ مَا بَيْنَ النَّاسِ فِي
مُعَامَلَاتِهِمْ فينشأ عَنْهَا التحاسد، وَهُوَ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ، إِذْ حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ، ثُمَّ يَنْشَأُ عَنِ الْحَسَدِ الْغَيْظُ وَالْغَضَبُ فَيُفْضِي إِلَى أَذَى الْمَحْسُود، وَقد قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [الفلق: ٥]. وَكَانَ سَبَبُ أَوَّلِ جَرِيمَةٍ فِي الدُّنْيَا الْحَسَدَ: إِذْ حسد أحد ابْني آدَمَ أَخَاهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ إِنَّ تَمَنِّي الْأَحْوَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا يَنْشَأُ فِي النُّفُوسِ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ خَاطِرًا مُجَرَّدًا، ثُمَّ يَرْبُو فِي النَّفْسِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَصِيرَ مَلَكَةً، فَتَدْعُو الْمَرْءَ إِلَى اجْتِرَامِ الْجَرَائِمِ لِيَشْفِيَ غِلَّتَهُ، فَلِذَلِكَ نُهُوا عَنْهُ لِيَزْجُرُوا نُفُوسَهُمْ عِنْدَ حُدُوثِ هَاتِهِ التَّمَنِّيَاتِ بِزَاجِرِ الدِّينِ وَالْحِكْمَةِ فَلَا يَدَعُوهَا تَرْبُو فِي النُّفُوسِ. وَمَا نَشَأَتِ الثَّوْرَاتُ والدعايات إِلَى ابتراز الْأَمْوَالِ بِعَنَاوِينَ مُخْتَلِفَةٍ إِلَّا مِنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ اللَّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ إِلَّا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ آحَادُ النَّاسِ، وَلِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ أَصْنَافُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا الْآيَةَ: إِنْ أُرِيدَ بِذِكْرِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ هُنَا قَصْدُ تَعْمِيمِ النَّاسِ مِثْلَ مَا يُذْكَرُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، وَالنَّجْدُ وَالْغَوْرُ، فَالنَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى عُمُومِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي قَطْعًا لِعُذْرِ الْمُتَمَنِّينَ، وَتَأْنِيسًا بِالنَّهْيِ، وَلِذَلِكَ فَصَّلَتْ وَإِنْ أُرِيدَ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كُلًّا مِنَ النَّوْعَيْنِ بِخُصُوصِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الرِّجَالَ يَخْتَصُّونَ بِمَا اكْتَسَبُوهُ، وَالنِّسَاءَ يَخْتَصِصْنَ بِمَا اكْتَسَبْنَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَالنَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَنِّي الَّذِي يُفْضِي إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، أَيْ لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَكْلُ أَمْوَالِ مَوَالِيهِمْ وَوَلَايَاهُمْ إِذْ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا اكْتَسَبَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّتْ هِيَ عَلَيْهَا، تَقْدِيرُهَا: وَلَا تَتَمَنَّوْا فَتَأْكُلُوا أَمْوَالَ مَوَالِيكُمْ.
31
وَالنَّصِيبَ: الْحَظُّ وَالْمِقْدَارُ، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْحَظِّ فِي الْآخِرَةِ وَالْحَظِّ فِي الدُّنْيَا، وَتَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالِاكْتِسَابُ: السَّعْيُ لِلْكَسْبِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِحُصُولِ الشَّيْءِ وَلَوْ بِدُونِ سَعْيٍ وَعِلَاجٍ.
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَحَقَّ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كُلٌّ حَظَّهُ مِنَ الْأجر وَالثَّوَاب المنجرّ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَمَنِّي فَرِيقٍ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ فَرِيقٍ آخَرَ، لِأَنَّ الثَّوَابَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ وَسَائِلَ الثَّوَابِ كَثِيرَةٌ فَلَا يَسُوءُكُمُ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: اسْتَحَقَّ كُلُّ شَخْصٍ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً، حَظَّهُ مِنْ مَنَافِع الدُّنْيَا المنجرّ لَهُ مِمَّا سَعَى إِلَيْهِ بِجُهْدِهِ، أَوِ الَّذِي هُوَ
بَعْضُ مَا سَعَى إِلَيْهِ، فَتَمَنِّي أَحَدٍ شَيْئًا لَمْ يَسْعَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حُقُوقِهِ، هُوَ تَمَنٍّ غَيْرُ عَادِلٍ، فَحَقَّ النَّهْيُ عَنْهُ أَوِ الْمَعْنَى اسْتَحَقَّ أُولَئِكَ نَصِيبَهُمْ مِمَّا كَسَبُوا، أَيْ مِمَّا شُرِعَ لَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَحْسُدْ أَحَدٌ أَحَدًا عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَحَقِّيَّةِ بَعْضِكُمْ عَلَى بعض.
وَقَوله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا إِلَخْ، الَّذِي هُوَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي، فَالْمَعْنَى: لِلرِّجَالِ مَزَايَاهُمْ وَحُقُوقُهُمْ، وَلِلنِّسَاءِ مَزَايَاهُنَّ وَحُقُوقُهُنَّ، فَمَنْ تَمَنَّى مَا لَمْ يُعَدَّ لِصِنْفِهِ فَقَدِ اعْتَدَى، لَكِنْ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا أَعَدَّ لِصِنْفِهِ مِنَ الْمَزَايَا، وَيَجْعَلَ ثَوَابَهُ مُسَاوِيًا لِثَوَابِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَمْ تُعَدَّ لِصِنْفِهِ، كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: «لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»
وَإِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا فَالْمَعْنَى: لَا تَتَمَنَّوْا مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ يَسَعُ الْإِنْعَامَ عَلَى الْكُلِّ، فَلَا أَثَرَ لِلتَّمَنِّي إِلَّا تَعَبُ النَّفْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور:
وَسْئَلُوا- بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ السَّاكِنَةِ وَهِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ- بِفَتْحِ السِّينِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السِّينِ السَّاكِنِ قَبْلَهَا تَخْفِيفًا-.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِهَذَا التَّكْلِيفِ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَمَلِ النَّفْسِ لَا يُرَاقِبُ فِيهِ إلّا ربّه.
32

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٣]

وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء:
٣٢] بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ جَامِعًا لِمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الطَّمَعِ فِي مَالِ صَاحِبِ الْمَالِ، قُصِدَ مِنْهَا اسْتِكْمَالُ تَبْيِينِ مَنْ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْمَالِ.
وَشَأْنُ (كُلٍّ) إِذَا حُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ أَنْ يُعَوِّضَ التَّنْوِينُ عَنِ الْمَحْذُوفِ، فَإِنْ جَرَى فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ قُدِّرَ الْمَحْذُوفُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٨]، وَكَذَلِكَ هُنَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ- قَبْلَهُ- لِلرِّجالِ نَصِيبٌ- وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] فَيُقَدَّرُ:
وَلِكُلِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَوْ لِكُلِّ تَارِكٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ: وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَوْ شَيْءٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ.
وَالْجَعْلُ مِنْ قَوْلِهِ: جَعَلْنا هُوَ الْجَعْلُ التَّشْرِيعِيُّ أَيْ شَرَعْنَا لِكُلِّ مَوَالِي لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الْإِسْرَاء: ٣٣].
وَالْمَوَالِي جَمْعُ مَوْلًى وَهُوَ مَحَلُّ الْوَلْيِ، أَيِ الْقُرْبُ، وَهُوَ مَحَلٌّ مَجَازِيٌّ وَقُرْبٌ مَجَازِيٌّ. وَالْوَلَاءُ اسْمُ الْمَصْدَرِ لِلْوَلْيِ الْمَجَازِيِّ.
وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ تَقَادِيرُ جَدِيرَةٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَجَامِعَةٌ لِمَعَانٍ مِنَ التَّشْرِيعِ:
الْأَوَّلُ: وَلِكُلِّ تَارِكٍ، أَيْ تَارِكٍ مَالًا جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ أَهْلَ وَلَاءٍ لَهُ، أَيْ قُرْبٍ، أَيْ وَرَثَةٍ. وَيَتَعَلَّقُ مِمَّا تَرَكَ بِمَا فِي مَوَالِيَ مِنْ مَعْنَى يَلُونَهُ، أَيْ يَرِثُونَهُ، وَمن لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ يَرِثُونَ مِمَّا ترك. وَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ هُوَ الْمَالُ، وَالصِّلَةُ قَرِينَةٌ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمَوَالِي الْمِيرَاثَ، وَكَوْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (كُلٍّ) هُوَ الْهَالِكُ أَوِ التَّارِكُ. وَلِكُلٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ (جَعَلْنَا)، قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ.
33
وَقَوْلُهُ: الْوالِدانِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَيَّنَ بِهِ المُرَاد فِي (مَوَالِيَ)، وَيَصْلُحُ أَنْ يُبَيِّنَ بِهِ كُلَّ الْمُقَدَّرَ لَهُ مُضَافٌ. تَقْدِيرُهُ: لكلّ تَارِك. وتبيين كِلَا اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ التَّارِكَ:
وَالِدٌ أَوْ قَرِيبٌ، وَالْمَوَالِيَ: وَالِدُونَ أَوْ قَرَابَةٌ. وَفِي ذِكْرِ الْوالِدانِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْأَبْنَاءِ لِتَلَازُمِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْوَالِدَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ فَالْهَالِكُ وَلَدٌ وَإِلَّا فَالْهَالِكُ وَالِدٌ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ عِوَضٌ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ أَيْ: وَالِدَاهُمُ وَأَقْرَبُوهُمْ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَوَالِي، وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النِّسَاء: ٣٢]، أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ جَعَلْنَا مَوَالِيَ يَرِثُونَهُ، وَهُوَ الْجَعْلُ الَّذِي فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ.
وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي: وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ قَوْمًا يَلُونَهُ بِالْإِرْثِ، أَيْ يَرِثُونَهُ، أَيْ يَكُونُ تُرَاثًا لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ اسْمًا نَكِرَةً عَامًّا يُبَيِّنُ نَوْعَهُ الْمَقَامُ، وَيَكُونُ مِمَّا تَرَكَ بَيَانًا لِمَا فِي تَنْوِينِ (كلّ) من الْإِبْهَام، وَيَكُونُ وَالْأَقْرَبُونَ فَاعِلا (لترك).
وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] أَيْ فِي الْأَمْوَالِ، أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الَّذِينَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ يَؤُولُ إِلَيْهِمُ الْمَالُ، فَلَا تَتَمَنَّوْا مَا لَيْسَ لَكُمْ فِيهِ حَقٌّ فِي حَيَاةِ أَصْحَابِهِ، وَلَا مَا جَعَلْنَاهُ لِلْمَوَالِي بَعْدَ مَوْتِ أَصْحَابِهِ.
التَّقْدِيرُ الثَّالِثُ: وَلِكُلٍّ مِنْكُمْ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ عَاصِبِينَ مِنَ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الْوَالِدَانِ، مِثْلَ الْأَعْمَامِ وَالْأَجْدَادِ وَالْأَخْوَالِ، فَإِنَّهُمْ قُرَبَاءُ الْأَبَوَيْنِ، وَمِمَّا تَرَكَهُمُ الْأَقْرَبُونَ مِثْلُ أَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ وَأَبْنَائِهِمْ وَإِنْ تَعَدَّدُوا، وَأَبْنَاءُ الْأَخَوَاتِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ قُرَبَاءُ الْأَقْرَبِينَ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى إِرْجَاعِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْعَصَبَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِلَى ذَوِيِ الْأَرْحَامِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ إِذَا انْعَدَمَ الْوَرَثَةُ الَّذِينَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ حُكْمٌ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
وَقَوْلُهُ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَوْلُهُ: «الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ
، وَقَوله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٧٥]، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَيْهِ فَ (مَا) الْمَوْصُولَةُ فِي قَوْلِهِ:
مِمَّا تَرَكَ بِمَعْنَى (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا
34
التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٨٧] فَتَكُونَ تَكْمِلَةً لِآيَةِ الْمَوَارِيثِ.
التَّقْدِيرُ الرَّابِعُ: وَلِكُلٍّ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِنَا: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ شَرَعْنَا أَحْكَامَ الْوَلَاءِ لِمَنْ هُمْ مُوَالٍ لَكُمْ، فَحُكْمُ الْوَلَاءِ الَّذِي تَرَكَهُ لَكُمْ أَهَالِيكُمْ: الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، أَيْ أَهْلُ الْوَلَاءِ الْقَدِيمِ فِي الْقَبِيلَةِ الْمُنْجَرِّ مِنْ حِلْفٍ قَدِيمٍ، أَوْ بِحُكْمِ الْوَلَاءِ الَّذِي عَاقَدَتْهُ الْأَيْمَانُ، أَيِ الْأَحْلَافُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ، وَهُوَ الْوَلَاءُ الْجَدِيدُ الشَّامِلُ لِلتَّبَنِّي الْمُحْدَثِ، وَلِلْحِلْفِ الْمُحْدَثِ، مِثْلَ الْمُؤَاخَاةِ الَّتِي فَرَضَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَإِنَّ الْوَلَاءَ مِنْهُ وَلَاءٌ قَدِيمٌ فِي الْقَبَائِلِ، وَمِنْهُ مَا يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو تَمَّامٍ.
أَعْطَيْتَ لِي دِيَةَ الْقَتِيلِ وَلَيْسَ لِي عَقْلٌ وَلَا حِلْفٌ هُنَاكَ قَدِيمُ
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يكون وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ معطوفة عَلَى الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [الْبَقَرَة:
١٨٧] فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْمِلَةً لِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ تَقَادِيرُ أُخْرَى لَا تُلَائِمُ بَعْضَ أَجْزَاءِ النَّظْمِ إِلَّا بِتَعَسُّفٍ فَلَا يَنْبَغِي التَّعْرِيجُ عَلَيْهَا.
وَقَوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قِيلَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَقِيلَ هُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمُ الْمَوَالِي؟ فَقِيلَ: الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ
إِلَخْ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ خَبَرٌ عَنْ قَوْله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ.
وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَرُجِّحَ هَذَا بِأَنَّ الْمَشْهُور أنّ الْوَقْت عَلَى قَوْلِهِ: وَالْأَقْرَبُونَ وَلَيْسَ عَلَى قَوْلِهِ: أَيْمانُكُمْ. وَالْمُعَاقَدَةُ: حُصُولُ الْعَقْدِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، أَيِ الَّذِينَ تَعَاقَدْتُمْ مَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَبْنَاءِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ أَبْنَاءِ الْعَمِّ. وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ: إِمَّا بِمَعْنَى الْيَدِ، أُسْنِدَ الْعَقْدُ إِلَى الْأَيْدِي مَجَازًا لِأَنَّهَا تُقَارِنُ الْمُتَعَاقِدِينَ لِأَنَّهُمْ يَضَعُونَ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ فِي أَيْدِي الْآخَرِينَ، عَلَامَةً عَلَى انْبِرَامِ الْعَقْدِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الْعَقْدُ صَفْقَةً أَيْضًا لِأَنَّهُ يُصَفَّقُ فِيهِ الْيَدُ عَلَى الْيَدِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاء: ٣] وَإِمَّا بِمَعْنَى الْقَسَمِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَصْحَبُهُ قَسَمٌ،
35
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّي حِلْفًا، وَصَاحِبُهُ حَلِيفًا. وَإِسْنَادُ الْعَقْدِ إِلَى الْأَيْمَانِ بِهَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْقَسَمَ هُوَ سَبَبُ انْعِقَادِ الْحِلْفِ.
وَالْمُرَادُ ب الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ: قِيلَ مَوَالِي الْحِلْفِ الَّذِي كَانَ الْعَرَبُ يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُحَالِفَ الرَّجُلُ الْآخَرَ فَيَقُولُ لَهُ «دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ- أَيْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا لِلدَّمِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ يَمْضِي عَلَى الْآخَرِ- وَثَأْرِي ثَأْرُكَ وَحَرْبِي حَرْبُكَ وَسِلْمِي سِلْمُكَ وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ وَتَعْقِلُ عَنِّي وَأَعْقِلُ عَنْكَ». وَقَدْ جَمَعَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْمَوَالِي الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ فِي قَوْلِهِ:
مَوَالِيكُمْ مَوْلَى الْوِلَادَةِ مِنْكُمُ وَمَوْلَى الْيَمِينِ حَابِسٌ قَدْ تُقُسِّمَا
قِيلَ: كَانُوا جَعَلُوا لِلْمَوْلَى السُّدُسَ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، فَأَقَرَّتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَة الْأَنْفَال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٧٥] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ جَعَلُوا لِلْمَوْلَى السُّدُسَ وَصِيَّةً لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ مَوَارِيثُ مُعَيَّنَةٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ الَّذِينَ آخَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً. وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَ الْمُتَبَنَّى يَرِثُ الْمُتَبَنِّي (بِالْكَسْرِ) مِثْلُ تَبَنِّي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ الْكَلْبِيَّ، وَتَبَنِّي الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الْمِقْدَادَ الْكِنْدِيَّ، الْمَشْهُورَ بِالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَتَبَنِّي الْخَطَّابِ بن نفَيْل عَامِرًا بْنِ رَبِيعَةَ، وَتَبَنِّي أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بن ربيعَة سالما بْنِ مَعْقِلٍ الْإِصْطَخْرِيَّ، الْمَشْهُورَ بِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْمَوَارِيثِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بأنّ
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَالْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ فِي «الْبُخَارِيِّ» هِيَ نَاسِخَةٌ لِتَوْرِيثِ الْمُتَآخِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ حَصَرَ الْمِيرَاثَ فِي الْقَرَابَةِ، فَتَعَيَّنَ عَلَى هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ:
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أَيْ نَصِيبَ الَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ، أَوْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ.
36
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: نَزَلَتْ فِي التَّبَنِّي أَمْرًا بِالْوَصِيَّةِ لِلْمُتَبَنَّى. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهَا فِي شَأْنِ الْمُوصَى لَهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَنْ تُجْعَلَ الْوَصِيَّةُ لِأَقَارِبِهِ لُزُومًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَاقَدَتْ- بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: عَقَدَتْ- بِدُونِ أَلِفٍ وَمَعَ تَخْفِيفِ الْقَافِ-.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ فَاءُ الْفَصِيحَةِ عَلَى جَعْلِ قَوْله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، أَوْ هِيَ زَائِدَةٌ فِي الْخَبَرِ إِنْ جعل وَالَّذِينَ عَقَدَتْ مُبْتَدَأً عَلَى تَضْمِينِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ. وَالْأَمْرُ فِي الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ظَاهر.
[٣٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٤]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ تَشْرِيعٍ فِي حُقُوقِ الرِّجَالِ وَحُقُوقِ النِّسَاءِ وَالْمُجْتَمَعِ الْعَائِلِيِّ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَقِبَ مَا قَبْلُهُ لِمُنَاسَبَةِ الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إِلَى نِظَامِ الْعَائِلَةِ، لَا سِيَّمَا أَحْكَامُ النِّسَاءِ، فَقَوْلُهُ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أَصْلٌ تَشْرِيعِيٌّ كُلِّيٌّ تَتَفَرَّعُ عَنْهُ الْأَحْكَامُ الَّتِي فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ، فَهُوَ كَالْمُقَدَّمَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَالصَّالِحاتُ تَفْرِيعٌ عَنْهُ مَعَ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَالْحُكْمُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمٌ عَامٌّ جِيءَ بِهِ لِتَعْلِيلِ شَرْعٍ خَاصٍّ.
37
فَلِذَلِكَ فَالتَّعْرِيفُ فِي الرِّجالُ والنِّساءِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مَبْنِيٌّ
عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، كَالتَّعْرِيفِ فِي قَوْلِ النَّاسِ «الرَّجُلُ خَيْرٌ من الْمَرْأَة»، يؤول إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُسْتَقْرَاةَ لِلْحَقَائِقِ أَحْكَامُ أَغْلَبِيَّةٍ، فَإِذَا بُنِيَ عَلَيْهَا اسْتِغْرَاقٌ فَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ. وَالْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ كَشَأْنِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَخْبَارِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالْقَوَّامُ: الَّذِي يَقُومُ عَلَى شَأْنِ شَيْءٍ وَيَلِيهِ وَيُصْلِحُهُ، يُقَالُ: قَوَّامٌ وقيّام وقيّوم وقيّم، وكلّها مشتقّة من الْقيام الْمجَازِي الَّذِي هُوَ مجَاز مُرْسل أَو اسْتِعَارَة تمثيلية، لِأَنَّ شَأْنَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْأَمْرِ وَيَعْتَنِي بِهِ أَنْ يَقِفَ لِيُدِيرَ أَمْرَهُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الِاهْتِمَامِ الْقِيَامُ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ. أَوْ شُبِّهَ الْمُهْتَمُّ بِالْقَائِمِ لِلْأَمْرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ مِنْ أَفْرَادِ حَقِيقَةِ الرَّجُلِ، أَيِ الصِّنْفُ الْمَعْرُوفُ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَهُوَ صِنْفُ الذُّكُورِ، وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ صِنْفُ الْإِنَاثِ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الرِّجَالَ جَمْعَ الرَّجُلِ بِمَعْنَى رَجُلِ الْمَرْأَةِ، أَيْ زَوْجِهَا لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةُ فُلَانٍ، وَلَا الْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ الْجَمْعَ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى الْأَزْوَاجِ الْإِنَاثِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، بَلِ الْمُرَادُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِأَصْلِ الْوَضْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النِّسَاء: ٣٢]، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتَهُ وَوَلَايَاهُ.
فَمَوْقِعُ الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ مَوْقِعُ الْمُقَدَّمَةِ لِلْحُكْمِ بِتَقْدِيمِ دَلِيلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالدَّلِيلِ، إِذْ قد يَقع فِيهِ سُوءُ تَأْوِيلٍ، أَوْ قَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قَوْلُ النِّسَاءِ «لَيْتَنَا اسْتَوَيْنَا مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمِيرَاثِ وَشَرِكْنَاهُمْ فِي الْغَزْوِ».
وَقِيَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ هُوَ قِيَامُ الْحِفْظِ وَالدِّفَاعِ، وَقِيَامُ الِاكْتِسَابِ وَالْإِنْتَاجِ الْمَالِيِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أَيْ: بِتَفْضِيلِ اللَّهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِإِنْفَاقِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِنْ كَانَتْ (مَا) فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَصْدَرِيَّةً، أَوْ بِالَّذِي فَضَلَّ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ، وَبِالَّذِي أَنْفَقُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِنْ كَانَتْ (مَا) فِيهِمَا
38
مَوْصُولَةً، فَالْعَائِدَانِ مِنَ الصِّلَتَيْنِ مَحْذُوفَانِ: أَمَّا الْمَجْرُورُ فَلِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مَجْرُورٌ بِحَرْفٍ مِثْلَ الَّذِي جُرَّ بِهِ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ، وَأَمَّا الْعَائِدُ الْمَنْصُوبُ مِنْ صِلَةِ وَبِما أَنْفَقُوا فَلِأَنَّ الْعَائِدَ الْمَنْصُوبَ يَكْثُرُ حَذْفُهُ مِنَ الصِّلَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ هُوَ فَرِيقُ الرِّجَالِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَإِنَّ الضَّمِيرَيْنِ
لِلرِّجَالِ.
فَالتَّفْضِيلُ هُوَ الْمَزَايَا الْجِبِلِّيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي حَاجَةَ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ فِي الذَّبِّ عَنْهَا وَحِرَاسَتِهَا لِبَقَاءِ ذَاتِهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
يَقُتْنَ جِيَادَنَا وَيَقُلْنَ لَسْتُمْ بُعُولَتَنَا إِذَا لَمْ تَمْنَعُونَا
فَهَذَا التَّفْضِيلُ ظَهَرَتْ آثَارُهُ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ، فَصَارَ حَقًّا مُكْتَسَبًا لِلرِّجَالِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ بُرْهَانِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الرِّجَالِ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ فَإِنَّ حَاجَةَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ مُسْتَمِرَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ تَقْوَى وَتَضْعُفُ.
وَقَوْلُهُ: وَبِما أَنْفَقُوا جِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي للإيماء إِلَى أنّ ذَلِك أَمْرٍ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ مُنْذُ الْقِدَمِ، فَالرِّجَالُ هُمُ الْعَائِلُونَ لِنِسَاءِ الْعَائِلَةِ مِنْ أَزْوَاجٍ وَبَنَاتٍ.
وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الرِّجَالِ لِأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْ شَأْنِ الرِّجَالِ، فَقَدْ كَانَ فِي عُصُورِ الْبَدَاوَةِ بِالصَّيْدِ وَبِالْغَارَةِ وَبِالْغَنَائِمِ وَالْحَرْثِ، وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الرِّجَالِ، وَزَادَ اكْتِسَابُ الرِّجَالِ فِي عُصُورِ الْحَضَارَةِ بِالْغَرْسِ وَالتِّجَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ خِطَابِيَّةٌ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مُصْطَلَحِ غَالِبِ الْبَشَرِ، لَا سِيَّمَا الْعَرَبُ. وَيَنْدُرُ أَنْ تَتَوَلَّى النِّسَاءُ مَسَاعِيَ مِنَ الِاكْتِسَابِ، لَكِنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمَلِ الرَّجُلِ مِثْلَ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ نَفْسَهَا وَتَنْمِيَةِ الْمَرْأَةِ مَالًا وَرِثَتْهُ مِنْ قَرَابَتِهَا.
وَمِنْ بَدِيعِ الْإِعْجَازِ صَوْغُ قَوْلِهِ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فِي قَالَبٍ صَالح للمصدرية وللموصولية، فَالْمَصْدَرِيَّةُ مشعرة بأنّ الْقِيَامَة سَبَبُهَا تَفْضِيلٌ مِنَ اللَّهِ وَإِنْفَاقٌ، وَالْمَوْصُولِيَّةُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ سَبَبَهَا مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ فَضْلِ الرِّجَالِ وَمِنْ إِنْفَاقِهِمْ لِيَصْلُحَ الْخِطَابُ لِلْفَرِيقَيْنِ: عَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ، كَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ أَوِ الْحَارِثِيِّ:
39
وَلِأَنَّ فِي الْإِتْيَان ب (بِمَا) مَعَ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ احْتِمَالِ الْمَصْدَرِيَّةِ جَزَالَةٌ لَا تُوجَدُ فِي قَوْلِنَا: بِتَفْضِيلِ اللَّهِ وَبِالْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ يُرَجِّحُونَ الْأَفْعَالَ عَلَى الْأَسْمَاءِ فِي طُرُقِ التَّعْبِيرِ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّهَا قَوْلُ النِّسَاءِ، وَمِنْهُنَّ أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ:
«أَتَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ» فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] إِلَى هَذِه الْآيَة، فَتكون هَذِهِ الْآيَةِ إِكْمَالًا لِمَا يَرْتَبِطُ
بِذَلِكَ التَّمَنِّي. وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ: نَشَزَتْ مِنْهُ زَوْجُهُ حَبِيبَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ فَلَطَمَهَا فَشَكَاهُ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَلْطِمَهُ كَمَا لَطَمَهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي فَوْرِ ذَلِكَ،
فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَدْتُ شَيْئًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ
، وَنَقَضَ حُكْمَهُ الْأَوَّلَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا السَّبَبِ الثَّانِي حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ مِمَّا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالصَّالِحاتُ لِلْفَصِيحَةِ، أَيْ إِذَا كَانَ الرِّجَالُ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ فَمِنَ الْمُهِمِّ تَفْصِيلُ أَحْوَالِ الْأَزْوَاجِ مِنْهُنَّ وَمُعَاشَرَتِهِنَّ أَزْوَاجَهُنَّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَوَصَفَ اللَّهُ الصَّالِحَاتِ مِنْهُنَّ وَصْفًا يُفِيدُ رِضَاهُ تَعَالَى، فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّشْرِيعِ، أَيْ لِيَكُنَّ صَالِحَاتٍ.
وَالْقَانِتَاتُ: الْمُطِيعَاتُ لِلَّهِ. وَالْقُنُوتُ: عِبَادَةُ اللَّهِ، وَقَدَّمَهُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَلَازُمِ خَوْفِهِنَّ اللَّهَ وَحِفْظِ حَقِّ أَزْوَاجِهِنَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ، أَيْ حَافِظَاتُ أَزْوَاجِهِنَّ عِنْدَ غَيْبَتِهِمْ. وَعَلَّقَ الْغَيْبَ بِالْحِفْظِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُ وَقْتُهُ. وَالْغَيْبُ مَصْدَرُ غَابَ ضِدَّ حَضَرَ. وَالْمَقْصُودُ غِيبَةُ أَزْوَاجِهِنَّ، وَاللَّامُ لِلتَّعْدِيَةِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ، إِذْ هُوَ غَيْرُ فِعْلٍ، فَالْغَيْبُ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَقَدْ جُعِلَ مَفْعُولًا لِلْحِفْظِ عَلَى التَّوَسُّعِ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ ظَرْفٌ لِلْحِفْظِ، فَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا هُوَ مَظِنَّةُ تَخَلُّفِ الْحِفْظِ فِي مُدَّتِهِ: مِنْ كُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَحْرُسَهُ الزَّوْجُ الْحَاضِرُ مِنْ أَحْوَالِ امْرَأَتِهِ فِي عِرْضِهِ وَمَالِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا حَضَرَ يَكُونُ مِنْ حُضُورِهِ وَازِعَانِ: يَزَعُهَا بِنَفْسِهِ وَيَزَعُهَا أَيْضًا اشْتِغَالُهَا بِزَوْجِهَا أَمَّا حَالُ الْغَيْبَةِ فَهُوَ حَالُ نِسْيَانٍ وَاسْتِخْفَافٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَبْدُوَ فِيهِ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا لَا يُرْضِي زَوْجَهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ أَوْ سَفِيهَةَ الرَّأْيِ، فَحَصَلَ بِإِنَابَةِ الظَّرْفِ عَنِ الْمَفْعُولِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَقَدْ تَبِعَهُ بَشَّارٌ إِذْ قَالَ:
وَيَصُونُ غَيْبَكُمْ وَإِنْ نَزَحَا
40
وَالْبَاءُ فِي بِما حَفِظَ اللَّهُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ حِفْظًا مُلَابِسًا لِمَا حَفِظَ اللَّهُ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِحِفْظِ اللَّهِ، وَحَفِظُ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ بِالْحِفْظِ، فَالْمُرَادُ الْحِفْظُ التَّكْلِيفِيُّ، وَمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ أَنَّهُنَّ يَحْفَظْنَ أَزْوَاجَهُنَّ حِفْظًا مُطَابِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْرُ اللَّهِ يَرْجِعُ إِلَى مَا فِيهِ حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ وَحْدَهُمْ أَوْ مَعَ حَقِّ اللَّهِ، فَشَمِلَ مَا يَكْرَهُهُ الزَّوْجُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَرَجٌ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَيَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِلنِّسَاءِ فِيهِ، كَمَا أَذِنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ: أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ. لِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ الشُّهُودَ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فِي غَيْبَتِهِ وَتُشْهِدَهُمْ بِمَا تُرِيدُ وَكَمَا أَذِنَ لَهُنَّ النَّبِيءُ أَنْ
يَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ هَذِهِ بَعْضُ الْأَحْوَالِ الْمُضَادَّةِ لِلصَّلَاحِ وَهُوَ النُّشُوزُ، أَيِ الْكَرَاهِيَةُ لِلزَّوْجِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِسُوءِ خُلُقِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّ لَهَا رَغْبَةً فِي التَّزَوُّجِ بِآخَرَ، وَقَدْ يَكُونُ لِقَسْوَةٍ فِي خُلُقِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ. وَالنُّشُوزُ فِي اللُّغَةِ التَّرَفُّعُ وَالنُّهُوضُ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاضْطِرَابِ وَالتَّبَاعُدِ، وَمِنْهُ نَشَزُ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنْهَا.
قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: النُّشُوزُ عِصْيَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا وَالتَّرَفُّعُ عَلَيْهِ وَإِظْهَارُ كَرَاهِيَتِهِ، أَيْ إِظْهَارُ كَرَاهِيَةٍ لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً مِنْهَا، أَيْ بَعْدَ أَنْ عَاشَرَتْهُ، كَقَوْلِهِ: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا». وَجَعَلُوا الْإِذْنَ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ مُرَتَّبًا عَلَى هَذَا الْعِصْيَانِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ مِنَ الْإِذْنِ لِلزَّوْجِ فِي ضَرْبِ زَوْجَتِهِ النَّاشِزِ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ ظُهُورِ الْفَاحِشَةِ. وَعِنْدِي أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ وَالْأَخْبَارَ مَحْمَلُ الْإِبَاحَةِ فِيهَا أَنَّهَا قَدْ رُوعِيَ فِيهَا عُرْفُ بَعْضِ الطَّبَقَاتِ مِنَ النَّاسِ، أَوْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَهْلُ الْبَدْوِ مِنْهُمْ لَا يَعُدُّونَ ضَرْبَ الْمَرْأَةِ اعْتِدَاءً، وَلَا تَعُدُّهُ النِّسَاءُ أَيْضًا اعْتِدَاءً، قَالَ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ النَّمِرِيُّ الْمُلَقَّبُ بِجِرَانِ الْعَوْدِ.
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ
عَمَدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ وَلَلْكَيْسُ أَمْضَى فِي الْأُمُورِ وَأَنْجَحُ
41
والتحيت: قَشَرْتُ، أَيْ قَدَدْتُ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ أَخَذَ جِلْدًا مِنْ بَاطِنِ عُنُقِ بَعِيرٍ وَعَمِلَهُ سَوْطًا لِيَضْرِبَ بِهِ امْرَأَتَيْهِ، يُهَدِّدُهُمَا بِأَنَّ السَّوْطَ قَدْ جَفَّ وَصَلُحَ لِأَنْ يُضْرَبَ بِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: (كُنَّا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ قَوْمًا نَغْلِبُ نِسَاءَنَا فَإِذَا الْأَنْصَارُ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَأَخَذَ نِسَاؤُنَا يَتَأَدَّبْنَ بِأَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ). فَإِذَا كَانَ الضَّرْبُ مَأْذُونًا فِيهِ لِلْأَزْوَاجِ دُونَ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَكَانَ سَبَبُهُ مُجَرَّدَ الْعِصْيَانِ وَالْكَرَاهِيَةِ دُونَ الْفَاحِشَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ أُذِنَ فِيهِ لِقَوْمٍ لَا يَعُدُّونَ صُدُورَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ إِضْرَارًا وَلَا عَارًا وَلَا بِدْعًا مِنَ الْمُعَامَلَةِ فِي الْعَائِلَةِ، وَلَا تَشْعُرُ نِسَاؤُهُمْ بِمِقْدَارِ غَضَبِهِمْ إِلَّا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّرْتِيبُ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ ذِكْرِهَا مَعَ ظُهُورِ أَنَّهُ لَا يُرَادُ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَالتَّرْتِيبُ هُوَ الْأَصْلُ
وَالْمُتَبَادِرُ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعِظُهَا، فَإِنْ قَبِلَتْ، وَإِلَّا هَجَرَهَا، فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ، وَإِلَّا ضَرَبَهَا، وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاوَ هَنَا مُرَادٌ بِهَا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ أَقْسَامِ النِّسَاءِ فِي النُّشُوزِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا احْتِمَالُ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِيهِ يَجْرِي عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي ضَمَائِرِ تَخافُونَ وَمَا بَعْدَهُ، وَالْمُرَادُ الطَّاعَةُ بَعْدَ النُّشُوزِ، أَيْ إِنْ رَجَعْنَ عَنِ النُّشُوزِ إِلَى الطَّاعَةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَمَعْنَى: فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا فَلَا تَطْلُبُوا طَرِيقًا لِإِجْرَاءِ تِلْكَ الزَّوَاجِرِ عَلَيْهِنَّ، وَالْخِطَابُ صَالِحٌ لِكُلِّ مِنْ جُعِلَ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى الزَّوْجَاتِ فِي حَالَةِ النُّشُوزِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَالسَّبِيلُ حَقِيقَتُهُ الطَّرِيقُ، وَأُطْلِقَ هُنَا مَجَازًا عَلَى التَّوَسُّلِ وَالتَّسَبُّبِ وَالتَّذَرُّعِ إِلَى أَخْذِ الْحَقِّ، وَسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٩١]، وَانْظُرْ قَوْلَهُ الْآتِيَ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.
وعَلَيْهِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِ (سَبِيلًا) لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْحُكْمِ وَالسُّلْطَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: ٩١].
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيٌّ عَلَيْكُمْ، حَاكِمٌ فِيكُمْ، فَهُوَ يَعْدِلُ بَيْنَكُمْ، وَهُوَ كَبِيرٌ، أَيْ قَوِيٌّ قَادِرٌ، فَبِوَصْفِ الْعُلُوِّ يَتَعَيَّنُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَبِوَصْفِ الْقُدْرَةِ يُحْذَرُ بَطْشُهُ عِنْدَ عِصْيَانِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
42
وَمَعْنَى تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ تَخَافُونَ عَوَاقِبَهُ السَّيِّئَةَ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ النُّشُوزُ مَعَ مَخَائِلِ قَصْدِ الْعِصْيَانِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَيْهِ لَا مُطْلَقُ الْمُغَاضَبَةِ أَوْ عَدَمُ الِامْتِثَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْهُ حَالُ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ الْمُغَاضَبَةَ وَالتَّعَاصِيَ يَعْرِضَانِ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَيَزُولَانِ، وَبِذَلِكَ يَبْقَى مَعْنَى الْخَوْفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ تَوَقُّعِ حُصُولِ مَا يَضُرُّ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْوَعْظِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ مَرَاتِبَ بِمِقْدَارِ الْخَوْفِ مِنْ هَذَا النُّشُوزِ وَالْتِبَاسِهِ بِالْعُدْوَانِ وَسُوءِ النِّيَّةِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِضَمِيرِ تَخافُونَ إِمَّا الْأَزْوَاجُ، فَتَكُونُ تَعْدِيَةُ (خَافَ) إِلَيْهِ عَلَى أَصْلِ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ، نَحْوَ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ [آل عمرَان: ١٧٥] وَيَكُونُ إِسْنَادُ فَعِظُوهُنَّ- وَاهْجُرُوهُنَّ- وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ مَجْمُوعَ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْعَمَلِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْأَزْوَاجِ فَيَتَوَلَّى كُلُّ فَرِيقٍ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
[٢٢٩] وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إِلَخ. فخاطب (لَكُمْ) لِلْأَزْوَاجِ، وَخِطَابُ فَإِنْ خِفْتُمْ [الْبَقَرَة:
٢٢٩] لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ». قَالَ: وَمِثْلُ ذَلِكَ غَيْرُ عَزِيزٍ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ [١١- ١٣] : تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ:
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ جَعَلَ (وَبَشِّرِ) عَطْفًا عَلَى (تُؤْمِنُونَ) أَيْ فَهُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنَ الرَّسُولِ خُصَّ بِهِ. وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ أَخَذَ عَطَاءٌ إِذْ قَالَ: لَا يَضْرِبُ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَلَكِنْ يَغْضَبُ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ وَفَهْمِهِ الشَّرِيعَةَ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هُنَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَوَقَفَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى كَقَوْل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ». وَأَنَا أَرَى لِعَطَاءٍ نَظَرًا أَوْسَعَ مِمَّا رَآهُ لَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُ وَضَعَ هَاتِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ: وَأَنْكَرُوا الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ بِالضَّرْبِ. وَأَقُولُ: أَوْ تَأَوَّلُوهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِذْنَ بِالضَّرْبِ لِمُرَاعَاةِ أَحْوَالٍ دَقِيقَةٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَأَذِنَ لِلزَّوْجِ بِضَرْبِ امْرَأَتِهِ ضَرْبَ إِصْلَاحٍ لِقَصْدِ إِقَامَةِ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ تَجَاوَزَ مَا تَقْتَضِيهِ حَالَةُ نُشُوزِهَا كَانَ مُعْتَدِيًا.
وَلِذَلِكَ يَكُونُ الْمَعْنَى وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أَيْ تَخَافُونَ سُوءَ مَغَبَّةِ نُشُوزِهِنَّ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنَّ النُّشُوزَ رُفِعَ إِلَيْهِمْ بِشِكَايَةِ الْأَزْوَاجِ، وَأَنَّ إِسْنَادَ فَعِظُوهُنَّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَمَّا إِسْنَادُ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ فَعَلَى مَعْنَى إِذْنِ الْأَزْوَاجِ بِهِجْرَانِهِنَّ، وَإِسْنَادُ وَاضْرِبُوهُنَّ كَمَا عَلِمْتَ.
43
وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ يَجْرِي عَلَى التَّوْزِيعِ، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ بِمُجَرَّدِ تَوَقُّعِ النُّشُوزِ قَبْلَ حُصُولِهِ اتِّفَاقًا، وَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ الْأَزْوَاجَ كَانَ إِذْنًا لَهُمْ بِمُعَامَلَةِ أَزْوَاجِهِمُ النَّوَاشِزِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، وَكَانَ الْأَزْوَاجُ مُؤْتَمَنِينَ عَلَى تَوَخِّي مَوَاقِعِ هَذِهِ الْخِصَالِ بِحَسَبِ قُوَّةِ النُّشُوزِ وَقَدْرِهِ فِي الْفَسَادِ، فَأَمَّا الْوَعْظُ فَلَا حَدَّ لَهُ، وَأَمَّا الْهَجْرُ فَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَى حَدِّ الْإِضْرَارِ بِمَا تَجِدُهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْكَمَدِ، وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُهُمْ أَقْصَاهُ بِشَهْرٍ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ فَهُوَ خَطِيرٌ وَتَحْدِيدُهُ عَسِيرٌ، وَلَكِنَّهُ أُذِنَ فِيهِ فِي حَالَةِ ظُهُورِ الْفَسَادِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ اعْتَدَتْ حِينَئِذٍ، وَلَكِنْ يَجِبُ تَعْيِينُ حَدٍّ فِي ذَلِكَ، يُبَيَّنُ فِي الْفِقْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُطْلِقَ
لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يَتَوَلَّوْهُ، وَهُمْ حِينَئِذٍ يَشْفُونَ غَضَبَهُمْ، لَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَجَاوُزِ الْحَدِّ، إِذْ قَلَّ مَنْ يُعَاقِبُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ لَا تَسْمَحُ بِأَنْ يَقْضِيَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ لَوْلَا الضَّرُورَةُ. بَيْدَ أَنَّ الْجُمْهُورَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْإِضْرَارِ، وَبِصُدُورِهِ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ الضَّرْبُ بَيْنَهُمْ إِهَانَةً وَإِضْرَارًا. فَنَقُولُ: يَجُوزُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَا يُحْسِنُونَ وَضْعَ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَوَاضِعَهَا، وَلَا الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِهَا أَنْ يَضْرِبُوا عَلَى أَيْدِيهِمُ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وَيُعْلِنُوا لَهُمْ أَنَّ مَنْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ عُوقِبَ، كَيْلَا يَتَفَاقَمَ أَمْرُ الْإِضْرَارِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ ضعف الْوَازِع.
[٣٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٥]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النِّسَاء: ٣٤] وَهَذَا حُكْمُ أَحْوَالٍ أُخْرَى تَعْرِضُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهِيَ أَحْوَالُ الشِّقَاقِ مِنْ مُخَاصَمَةٍ وَمُغَاضَبَةٍ وَعِصْيَانٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ، أَيْ دُونَ نُشُوزٍ مِنَ الْمَرْأَةِ.
44
وَالْمُخَاطَبُ هُنَا وُلَاةُ الْأُمُورِ لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالشِّقَاقُ مَصْدَرٌ كَالْمُشَاقَّةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّقِّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- أَيِ النَّاحِيَةِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَصِيرُ فِي نَاحِيَةٍ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ، كَمَا قَالُوا فِي اشْتِقَاقِ الْعَدُوِّ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ عَدْوَةِ الْوَادِي. وَعِنْدِي أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّقِّ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَهُوَ الصَّدْعُ وَالتَّفَرُّعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: شَقَّ عَصَا الطَّاعَةِ، وَالْخِلَافُ شِقَاقٌ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٧] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ وَأَضَافَ الشِّقَاقَ إِلَى (بَيْنِ). إِمَّا لِإِخْرَاجِ لَفْظِ (بَيْنِ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى مَعْنَى الْبُعْدِ الَّذِي يَتَبَاعَدُهُ الشَّيْئَانِ، أَيْ شِقَاقُ تَبَاعُدٍ، أَيْ تَجَافٍ، وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّعِ، كَقَوْلِهِ «بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَا سَارِقَ اللَّيْلَةَ أَهْلَ الدَّارِ وَمَنْ يَقُولُ بِوُقُوعِ الْإِضَافَةِ عَلَى تَقْدِيرٍ (فِي) يَجْعَلُ هَذَا شَاهِدًا لَهُ كَقَوْلِهِ: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: ٧٨]، وَالْعَرَبُ يَتَوَسَّعُونَ فِي هَذَا الظَّرْفِ كَثِيرًا، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ.
وَضَمِيرُ بَيْنِهِما عَائِدٌ إِلَى الزَّوْجَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ:
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٤].
وَالْحَكَمُ- بِفَتْحَتَيْنِ- الْحَاكِمُ الَّذِي يُرْضَى لِلْحُكُومَةِ بِغَيْرِ وَلَايَةٍ سَابِقَةٍ، وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَكَّمُوهُ فَحَكَمَ، وَهُوَ اسْمٌ قَدِيمٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، كَانُوا لَا يُنَصِّبُونَ الْقُضَاةَ، وَلَا يَتَحَاكَمُونَ إِلَّا إِلَى السَّيْفِ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَرْضَوْنَ بِأَحَدِ عُقَلَائِهِمْ يَجْعَلُونَهُ حَكَمًا فِي بَعْضِ حَوَادِثِهِمْ، وَقَدْ تَحَاكَمَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ لَدَى هَرِمِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ، وَهِيَ الْمُحَاكَمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأَعْشَى فِي قَصِيدَتِهِ الرَّائِيَةِ الْقَائِلِ فِيهَا:
خُذَا حَذَرًا يَا خُلَّتَيَّ فِإِنَّنِي رَأَيْتُ جِرَانَ الْعَوْدِ قَدْ كَادَ يَصْلُحُ
عَلْقَمَ مَا أَنْتَ إِلَى عَامِرٍ النَّاقِضِ الْأَوْتَارِ وَالْوَاتِرِ
وَتَحَاكَمَ أَبْنَاءُ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ إِلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
45
وَالضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِهِ- ومِنْ أَهْلِها عَائِدَانِ عَلَى مَفْهُومَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ:
وَهُمَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَاشْتُرِطَ فِي الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ لِيَكُونَا أَعْلَمَ بِدَخْلِيَّةِ أَمْرِهِمَا وَأَبْصَرَ فِي شَأْنِ مَا يُرْجَى مِنْ حَالِهِمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُخَوِّلُهُمَا الْحُكْمَ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. قَالَ ملك: إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا فَيُبْعَثُ مِنَ الْأَجَانِبِ، قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ: «فَإِذَا بَعَثَ الْحَاكِمُ أَجْنَبِيَّيْنِ مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِ فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ يُنْتَقَضُ الْحُكْمُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ مَاضٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا». قُلْتُ: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِهِمَا مُسْتَحَبٌّ فَلَوْ بُعِثَا مِنَ الْأَجَانِبِ مَعَ وُجُودِ الْأَقَارِبِ صَحَّ.
وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ نِزَاعِ الزَّوْجَيْنِ النِّزَاعَ الْمُسْتَمِرَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالشِّقَاقِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّ الْبَاعِثَ هُوَ الْحَاكِمُ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ، لَا الزَّوْجَانِ، لأنّ فعل فَابْعَثُوا مُؤْذِنٌ بِتَوْجِيهِهِمَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ، فَلَوْ كَانَا مُعَيَّنَيْنِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لَمَا كَانَ لِفِعْلِ الْبَعْثِ مَعْنًى.
وَصَرِيحُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَبْعُوثَيْنِ حَكَمَانِ لَا وَكِيلَانِ، وَبِذَلِك قَالَ أئمّة الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَعَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَمَا قَضَى بِهِ الْحَكَمَانِ مِنْ فُرْقَةٍ أَوْ بَقَاءٍ أَوْ مُخَالَعَةٍ يَمْضِي، وَلَا مَقَالَ لِلزَّوْجَيْنِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى التَّحْكِيمِ، نَعَمْ لَا يَمْنَعُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجَانِ رَجُلَيْنِ عَلَى النَّظَرِ فِي شُؤُونِهِمَا، وَلَا مِنْ أَنْ يُحَكِّمَا حَكَمَيْنِ عَلَى نَحْوِ تَحْكِيمِ الْقَاضِي.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ فَقَالَ: لَا يَحْكُمُ إِلَّا الْقَاضِي دُونَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ حُكْمِهِمَا
وَشُرُوطِهِ تَفْصِيلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَتَأَوَّلَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بَعْثُ حَكَمَيْنِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَعْيِينُ وَسَائِلِ الزَّجْرِ لِلظَّالِمِ مِنْهُمَا، كَقَطْعِ النَّفَقَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ مُدَّةً حَتَّى يَصْلُحَ حَالُهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ التَّطْلِيقُ إِلَّا بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ، فَيَصِيرَانِ وَكِيلَيْنِ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، فَيُرِيدُ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْقَاضِي عَنِ الْغَائِبِ. وَهَذَا صَرْفٌ لِلَفْظِ الْحَكَمَيْنِ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَهُوَ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَالْبَاعِثُ عَلَى تَأْوِيلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ التَّطْلِيقَ بِيَدِ الزَّوْجِ، فَلَوْ رَأَى الْحَكَمَانِ التَّطْلِيقَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ كَانَ ذَلِكَ
46
مُخَالَفَةً لِدَلِيلِ الْأَصْلِ فَاقْتَضَى تَأْوِيلَ مَعْنَى الْحَكَمَيْنِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَا يَطَّرِدُ كَوْنُهُ بِيَدِ الزَّوْجِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُطَلِّقُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَكَمَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْمَسُوقُ لَهُمَا الْكَلَامُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ لِأَنَّهَا الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمَقْصِدَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْحَكَمَيْنِ، فَوَاجِبُ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَنْظُرَا فِي أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ نَظَرًا مُنْبَعِثًا عَنْ نِيَّةِ الْإِصْلَاحِ، فَإِنْ تَيَسَّرَ الْإِصْلَاحُ فَذَلِكَ وَإِلَّا صَارَا إِلَى التَّفْرِيقِ، وَقَدْ وَعَدَهُمَا اللَّهُ بِأَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا إِذَا نَوَيَا الْإِصْلَاحَ، وَمَعْنَى التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا إِرْشَادُهُمَا إِلَى مُصَادَفَةِ الْحَقِّ وَالْوَاقِعِ، فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ أَطْمَنُ لَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَصَرَ الْحَكَمَيْنِ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ حَتَّى يَكُونَ سَنَدًا لِتَأْوِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ رَسُولَانِ لِلْإِصْلَاحِ لَا لِلتَّفْرِيقِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا زَادَ عَلَى أَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ نِيَّةَ الْإِصْلَاحِ تَكُونُ سَبَبًا فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا، وَلَوْ فَهِمَ أَحَدٌ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ مُتَطَوِّحًا عَنْ مُفَادِ التَّرْكِيبِ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْحَكَمَيْنِ يَبْعَثُهُمَا الزَّوْجَانِ وَكِيلَيْنِ عَنْهُمَا، أَيْ إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ مِنْ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ إِصْلَاحَ أَمْرِهِمَا يُوَفِّقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، بِمَعْنَى تَيْسِيرِ عَوْدِ مُعَاشَرَتِهِمَا إِلَى أَحْسَنِ حَالِهَا. وَلَيْسَ فِيهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى قَصْرِ الْحَكَمَيْنِ عَلَى السَّعْيِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ التَّفْرِيقِ: لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الزَّوْجَيْنِ الْإِصْلَاحَ تُحَقِّقُهُ، وَإِرَادَتَهُمَا الشِّقَاقَ وَالشَّغَبَ تَزِيدُهُمَا، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَعْيِينِ خُطَّةِ الْحَكَمَيْنِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَسْأَلَةُ التَّحْكِيمِ مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْه.
47

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٦]

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦)
عَطْفُ تَشْرِيعٍ يَخْتَصُّ بِالْمُعَامَلَةِ مَعَ ذَوِي الْقُرْبَى وَالضُّعَفَاءِ، وَقَدَّمَ لَهُ الْأَمْرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الْإِشْرَاكِ عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ، لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ وَأَنَّهُ أَحَقُّ مَا يَتَوَخَّاهُ الْمُسْلِمُ، تَجْدِيدًا لِمَعْنَى التَّوْحِيدِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَدَّمَ لِذَلِكَ فِي طَالِعِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النِّسَاء: ١]. وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ مَا أُرِيدَ جَمْعُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْمُخَالَطَةِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ تَقَرَّرَ نَفْيُ الشِّرْكِ بَيْنَهُمْ وَأُرِيدَ مِنْهُمْ دَوَامُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَالِاسْتِزَادَةُ مِنْهَا، وَنُهُوا عَنِ الشِّرْكِ تَحْذِيرًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي قُوَّةِ صِيغَةِ حَصْرٍ إِذْ مُفَادُهُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ فَاشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. وَالْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ فِي مِثْلِ هَذَا طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ جَاءَ عَلَيْهَا قَوْلُ السَّمَوْأَلِ، أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيِّ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
وَإِنَّمَا يُصَار إِلَيْهَا عِنْد مَا يَكُونُ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ هُوَ طَرَفَ الْإِثْبَاتِ، ثُمَّ يَقْصِدُ بَعْدَ ذَلِكَ نَفِيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا الْمُثْبَتِ لَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا جِيءَ بِالْقَصْرِ كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ هُوَ نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا الْمَذْكُورِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُقْتَضَى الْمَقَامِ هُنَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمَّا خُوطِبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِنَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ خُوطِبُوا بِطَرِيقَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْبَقَرَة: ٨٣] الْآيَةَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ إِيقَاظُهُمْ إِلَى إِبْطَالِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: «اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ» وَلِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ فِي مُدَّةِ مُنَاجَاةِ مُوسَى رَبَّهُ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ.
48
وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ فَإِنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ هُوَ التَّمَدُّحُ بِأَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ فِي الْحَرْبِ، فَتَزْهَقُ نُفُوسُهُمْ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَعْقَبَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ شَنْشَنَةٌ فِيهِمْ لَا تَتَخَلَّفُ وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا.
وشَيْئاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ (تُشْرِكُوا) أَيْ لَا تَجْعَلُوا شَرِيكًا شَيْئًا مِمَّا يُعْبَدُ كَقَوْلِهِ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الْجِنّ: ٢] وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ شَيْئًا
مِنَ الْإِشْرَاكِ وَلَوْ ضَعِيفًا كَقَوْلِهِ: فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً [الْمَائِدَة: ٤٢].
وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً اهْتِمَامٌ بِشَأْنِ الْوَالِدَيْنِ إِذْ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ [لُقْمَان: ١٤]، وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [لُقْمَان: ١٣، ١٤]، وَلِذَا قَدَّمَ مَعْمُولَ (إِحْسَانًا) عَلَيْهِ تَقْدِيمًا لِلِاهْتِمَامِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ هُنَا لِأَنَّ الْإِحْسَانَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَوَقَعَ الْمَصْدَرُ مَوْقِعَ الْفِعْلِ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ الْإِحْسَانُ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْبِرِّ.
وَشَاعَتْ تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَعِنْدِي أَنَّ الْإِحْسَانَ إِنَّمَا يُعَدَّى بِالْبَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِحْسَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَامَلَةِ الذَّاتِ وَتَوْقِيرِهَا وَإِكْرَامِهَا، وَهُوَ مَعْنَى الْبِرِّ وَلِذَلِكَ جَاءَ «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ» وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ إِيصَالُ النَّفْعِ الْمَالِيِّ عُدِّيَ بِإِلَى، تَقُولُ: أَحْسَنَ إِلَى فُلَانٍ، إِذَا وَصَلَهُ بِمَال وَنَحْوه.
وَذُو الْقُرْبَى صَاحِبُ الْقَرَابَةِ، وَالْقُرْبَى فُعْلَى، اسْمٌ لِلْقُرْبِ مَصْدَرُ قَرُبَ كَالرُّجْعَى، وَالْمُرَادُ بِهَا قَرَابَةُ النَّسَبِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: ذُو الْقُرْبَى، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ اسْتِبْقَاءً لِأَوَاصِرِ الْوِدِّ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، إِذْ كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ حَرَّفُوا حُقُوقَ الْقَرَابَةِ فَجَعَلُوهَا سَبَبَ تَنَافُسٍ وَتَحَاسُدٍ وَتَقَاتُلٍ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي شِعْرِهِمْ قَالَ أَرْطَاةُ بن سهية:
وَنَحْو بَنُو عَمٍّ عَلَى ذَاكَ بَيْنَنَا زَرَابِيٌّ فِيهَا بِغْضَةٌ وَتَنَافُسُ
وَحَسْبُكَ مَا كَانَ بَيْنَ بَكْرٍ وَتَغْلِبَ فِي حَرْبِ الْبَسُوسِ، وَهُمَا أَقَارِبُ وَأَصْهَارٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَهَا عَرَبًا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَلِذَلِكَ حَثَّهُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَةِ.
وَكَانُوا يُحْسِنُونَ بِالْجَارِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ لَمْ يَكْتَرِثُوا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ بَعْدَ الْعَاطِفِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تُؤَكَّدْ بِالْبَاءِ فِي حِكَايَةِ وَصِيَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَذِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: ٨٣] لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَكَّدَ
49
أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مِنْ سَفَالَةِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَسْتَخِفَّ أَحَدٌ بِالْقَرِيبِ لِأَنَّهُ قَرِيبُهُ، وَآمِنٌ مِنْ غَوَائِلِهِ، وَيَصْرِفَ بِرَّهُ وَوُدَّهُ إِلَى الْأَبَاعِدِ لِيَسْتَكْفِيَ شَرَّهُمْ، أَوْ لِيُذْكَرَ فِي الْقَبَائِلِ بِالذِّكْرِ الْحَسَنِ، فَإِنَّ النَّفْسَ الَّتِي يطوّعها الشرّ، وتدينها الشِّدَّةُ، لَنَفْسٌ لَئِيمَةٌ، وَكَمَا
وَرَدَ «شَرُّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ»
فَكَذَلِكَ نَقُولُ: «شَرُّ النَّاسِ مَنْ عَظَّمَ أَحَدًا لِشَرِّهِ».
وَقَوْلُهُ: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ هَذَانِ صِنْفَانِ ضَعِيفَانِ عَدِيمَا النَّصِيرِ، فَلِذَلِكَ أُوصِيَ
بِهِمَا.
وَالْجَارُ هُوَ النَّزِيلُ بِقُرْبِ مَنْزِلِكِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّزِيلِ بَيْنَ الْقَبِيلَةِ فِي جِوَارِهَا، فَالْمُرَادُ بِ الْجارِ ذِي الْقُرْبى الْجَارُ النَّسِيبُ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَبِ الْجارِ الْجُنُبِ الْجَارُ الْغَرِيبُ الَّذِي نَزَلَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنَ الْقَبِيلَةِ، فَهُوَ جُنُبٌ، أَيْ بَعِيدٌ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَانِبِ، وَهُوَ وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ فُعُلٍ، كَقَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ أُجُدٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطَابِقْ مَوْصُوفَهُ، قَالَ بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسٍ:
لَا يَجْتَوِينَا مُجَاوِرٌ أَبَدًا ذُو رَحِمٍ أَوْ مُجَاوِرٌ جُنُبُ
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ فِي شِعْرِهِ الَّذِي اسْتَشْفَعَ بِهِ عِنْدَ الْمَلِكِ الْحَارِثِ ابْن جَبَلَةَ الْغَسَّانِيِّ، لِيُطْلِقَ لَهُ أَخَاهُ شَاسَا، حِينَ وَقَعَ فِي أَسْرِ الْحَارِثِ:
فَلَا تَحْرِمْنِي نائلا عَن جَنَابَة فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسَطَ الْقِبَابِ غَرِيبٌ
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْجَارَ ذَا الْقُرْبَى بِقَرِيبِ الدَّارِ، وَالْجُنُبُ بِعِيدُهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْقُرْبَى لَا تُعْرَفُ فِي الْقُرْبِ الْمَكَانِيِّ، وَالْعَرَبُ مَعْرُوفُونَ بِحِفْظِ الْجِوَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ، وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، فَأُكِدَّ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مِنْ مَحَامِدِ الْعَرَبِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ لِتَكْمِيلِهَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ.
وَأَكَّدَتِ السُّنَّةُ الْوِصَايَةَ بِالْجَارِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ:
فَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُورِّثُهُ».
وَفِيهِ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: «وَاللَّهِ لَا
50
يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ». قِيلَ:
«وَمن يَا رَسُولَ اللَّهِ» قَالَ: «مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي» قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا»
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْهُ جِيرَانَكَ»
. وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجِوَارِ: فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ: وَلَيْسَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ حَدٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ.
وَقَوْلُهُ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ هُوَ الْمُصَاحِبُ الْمُلَازِمُ لِلْمَكَانِ، فَمِنْهُ الضَّيْفُ، وَمِنْهُ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ مُلِمٌّ بِكَ لِطَلَبِ أَنْ تَنْفَعَهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الزَّوْجَةَ.
وَابْنِ السَّبِيلِ هُوَ الْغَرِيبُ الْمُجْتَازُ بِقَوْمٍ غَيْرِ نَاوٍ الْإِقَامَةَ، لِأَنَّ مَنْ أَقَامَ فَهُوَ الْجَارُ الْجُنُبُ. وَكَلِمَةُ (ابْنٍ) فِيهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الِانْتِسَابِ وَالِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِمْ: أَبُو اللَّيْلِ،
وَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: أَبُوهَا وَكِيَّالُهَا. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ، فَابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الَّذِي لَازَمَ الطَّرِيقَ سَائِرًا، أَيْ مُسَافِرًا، فَإِذَا دَخَلَ الْقَبِيلَةَ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَبْنَائِهَا، فَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ ابْنُ الطَّرِيقِ، رَمَى بِهِ الطَّرِيقُ إِلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ وَلَدُهُ. وَالْوِصَايَةُ بِهِ لِأَنَّهُ ضَعِيفُ الْحِيلَةِ، قَلِيلُ النَّصِيرِ، إِذْ لَا يَهْتَدِي إِلَى أَحْوَالِ قَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِهِ، وَبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لِأَنَّ الْعَبِيدَ فِي ضَعْفِ الرِّقِّ وَالْحَاجَةِ وَانْقِطَاعِ سُبُلِ الْخَلَاصِ مِنْ سَادَتِهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا أَحِقَّاءَ بِالْوِصَايَةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ سَمَّاهُمْ بِذَمِّ مَوَانِعِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمُ الْغَالِبَةِ عَلَى الْبَشَرِ. وَالِاخْتِيَالُ: التَّكَبُّرُ، افْتِعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُيَلَاءِ، يُقَالُ: خَالَ الرَّجُلُ خَوْلًا وَخَالًا. وَالْفَخُورُ: الشَّدِيدُ الْفَخْرِ بِمَا فَعَلَ، وَكِلَا الْوَصْفَيْنِ مَنْشَأٌ لِلْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ، فَهُمَا يُنَافِيَانِ الْإِحْسَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَرْكُ التَّرَفُّعِ عَلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ سَبَبٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِقَامِ.
وَمَعْنَى نَفْيِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُ رِضَاهُ وَتَقْرِيبِهِ عَمَّنْ هَذَا وَصْفُهُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الشِّرْكِ، لِمَا عُرِفُوا بِهِ من الغلطة وَالْجَفَاءِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّحْذِيرِ مِنْ بَقَايَا الْأَخْلَاقِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا.
51

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٣٧ إِلَى ٣٩]

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، جِيءَ بِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِمَنْ جَرَى ذِكْرُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَمُنَاسَبَةُ إِرْدَافِ التَّحْرِيضِ على الْإِحْسَان بالتحذير مِنْ ضِدِّهِ وَمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ مِنْ كُلِّ إِحْسَانٍ غَيْرِ صَالِحٍ فَقُوبِلَ الْخُلُقُ الَّذِي دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي خِلَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ ذِكْرِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخر.
فَيكون قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مُبْتَدَأً، وَحُذِفَ خَبَرُهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَقُصِدَ الْعُدُولُ عَنِ الْعَطْفِ: لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً، وَلِمَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الْعُمُومِ، وَفَائِدَةِ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْكَافِرِينَ. فَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أَعَتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا
مُهِينًا وَأَعْتَدْنَا ذَلِكَ لِلْكَافِرِينَ أَمْثَالِهِمْ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ مَعْطُوفَةً أَيْضًا عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مَحْذُوفَةَ الْخَبَرِ أَيْضًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً إِلَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يُنْفقُونَ أَمْوَالهم رثاء النَّاسِ قَرِينُهُمُ الشَّيْطَانُ. وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ إِلَى الْعَطْفِ مِثْلُ نُكْتَةِ مَا قَبْلَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بَدَلًا مِنْ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النِّسَاء: ٣٦] فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَجُمْلَةُ وَأَعْتَدْنا مُعْتَرِضَةٌ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ.
وَالْبُخْلُ- بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ- اسْمُ مَصْدَرِ بَخِلَ مِنْ بَابِ فَرِحَ، وَيُقَالُ الْبَخَلُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْخَاءِ- وَهُوَ مَصْدَرُهُ الْقِيَاسِيُّ، قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الْبَاءِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْخَاءِ-.
52
وَالْبُخْلُ: ضِدُّ الْجُودِ وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٨٠]. وَمَعْنَى ويَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يَحُضُّونَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَشَدُّ الْبُخْلِ، قَالَ أَبُو تمّام:
وإنّ امْر أضنّت يَدَاهُ عَلَى امْرِئٍ بِنَيْلِ يَدٍ مِنْ غَيْرِهِ لَبَخِيلُ
وَالْكِتْمَانُ: الْإِخْفَاءُ. وَمَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَالُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمرَان: ١٨٠] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَبْخَلُونَ وَيَعْتَذِرُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ كِتْمَانُ التَّوْرَاةِ بِمَا فِيهَا مِنْ صِفَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَبْخَلُونَ:
الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِمُ: الْيَهُودَ وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَقَدْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧]. وَقَوْلُهُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً، عَقِبَهُ، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ. وَجُمْلَةُ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً مُعْتَرِضَةٌ.
وَأَصْلُ وأَعْتَدْنا أَعْدَدْنَا، أُبْدِلَتِ الدَّالُ الْأُولَى تَاءً، لِثِقَلِ الدَّالَيْنِ عِنْدَ فَكِّ الْإِدْغَامِ بِاتِّصَالِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ، وَهَكَذَا مَادَّةُ أَعَدَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا أَدْغَمُوهَا لَمْ يُبْدِلُوا الدَّالَ بِالتَّاءِ
لِأَنَّ الْإِدْغَامَ أَخَفُّ، وَإِذَا أَظْهَرُوا أَبْدَلُوا الدَّالَ تَاءً، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: عَتَادٌ لِعُدَّةِ السِّلَاحِ، وَأَعْتُدٌ جَمْعُ عَتَادٍ.
وَوَصَفَ الْعَذَابَ بِالْمُهِينِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ.
وَعَطَفَ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: لِأَنَّهُمْ أَنْفَقُوا إِنْفَاقًا لَا تَحْصُلُ بِهِ فَائِدَةُ الْإِنْفَاقِ غَالِبًا، لِأَنَّ مَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءً لَا يَتَوَخَّى بِهِ مَوَاقِعَ الْحَاجَةِ، فَقَدْ يُعْطِي الْغَنِيَّ وَيَمْنَعُ الْفَقِيرَ، وَأُرِيدَ بِهِمْ هُنَا الْمُنْفِقُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُشْركين، وَلِذَلِكَ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدِ انْقَطَعَ الْجِدَالُ مَعَهُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً مُعْتَرِضَةٌ.
53
وَقَوْلُهُ: فَساءَ قَرِيناً جَوَابُ الشَّرْطِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (سَاءَ) إِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الشَّيْطَان (فَساءَ) بِمَعْنَى بِئْسَ، وَالضَّمِيرُ فَاعِلُهَا، وقَرِيناً تَمْيِيزٌ لِلضَّمِيرِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: ١٧٧]، أَيْ: فَسَاءَ قَرِينًا لَهُ، لِيَحْصُلَ الرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَيَجُوزُ أَن تبقى (فَساءَ) عَلَى أَصْلِهَا ضِدَّ حَسُنَ، وَتَرْفَعَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى (مَنْ) وَيَكُونَ (قَرِينًا) تَمْيِيزَ نِسْبَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: «سَاءَ سمعا فسَاء جابة» أَيْ فَسَاءَ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَرِينَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينِ، وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ سُوءُ حَالِ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا بِإِثْبَاتِ سُوءِ قَرِينِهِ إِذِ الْمَرْءُ يُعْرَفُ بِقَرِينِهِ، كَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي وَقَوْلُهُ: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عُطِفَ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ اسْتِنْزَالُ طَائِرِهِمْ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَماذا اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ هُنَا إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ. وَ (ذَا) إِشَارَةٌ إِلَى (مَا)، وَالْأَصْل لَا يَجِيءَ بَعْدَ (ذَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ نَحْوَ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [الْبَقَرَة: ٢٥٥]. وَكَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ صِلَتِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَقَالَ النُّحَاةُ: نَابَتْ ذَا مَنَابَ الْمَوْصُولِ، فَعَدُّوهَا فِي الْمَوْصُوَلَاتِ وَمَا هِيَ مِنْهَا فِي قُبَيْلٍ وَلَا دُبَيْرٍ، وَلَكِنَّهَا مُؤْذِنَةٌ بِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وعَلى ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، فَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِكَوْنٍ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ، كَقَوْلِهِمْ: عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. ولَوْ آمَنُوا شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قُدِّمَ دَلِيلُ الْجَوَابِ اهْتِمَامًا بِالِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِ
قَتِيلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ:
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ
وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ تَوَلَّدَ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ فِي لَوِ الشَّرْطِيَّةِ، فَأَثْبَتَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي مَعَانِي لَوْ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى لَوْ فِي التَّحْقِيقِ، وَلَكِنَّهُ يَنْشَأُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَوْ آمَنُوا مَاذَا الَّذِي كَانَ يُتْعِبُهُمْ وَيُثْقِلُهُمْ، أَيْ لَكَانَ خَفِيفًا عَلَيْهِمْ وَنَافِعًا لَهُمْ، وَهَذَا من الْجِدَال بِإِرَاءَةِ الْحَالَةِ الْمَتْرُوكَةِ أَنْفَعَ وَمَحْمُودَةً.
ثُمَّ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ التَّفْرِيطَ فِي أَخَفِّ الْحَالَيْنِ وَأَسَدِّهِمَا أَمْرٌ نُكْرٌ، ظَهَرَ أَنَّ الْمُفَرِّطَ فِي ذَلِكَ مَلُومٌ، إِذْ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ بِأَرْشَدِ الْخَلَّتَيْنِ، فَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ اسْتِعْمَالًا
54
كِنَائِيًّا بِوَاسِطَتَيْنِ. وَالْمَلَامُ مُتَوَجِّهٌ لِلْفَرِيقَيْنِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ رِئَاءً، لِقَوْلِهِ: لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ السَّابِقِ.
وَجُمْلَةُ: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهِيَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْجَزَاءِ عَلَى سوء أَعْمَالهم.
[٤٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ حَالَهُمْ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، وَأَرَاهُمْ تَفْرِيطَهُمْ مَعَ سُهُولَةِ أَخْذِهِمْ بِالْحَيْطَةِ لِأَنْفُسِهِمْ لَوْ شَاءُوا، بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ الْقَلِيلِ، بَلْهَ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ، فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِوَعِيدٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ فِي حَقِّهِمْ عَدْلٌ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ أَيْضًا مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً وَلَمَّا كَانَ الْمَنْفِيُّ الظُّلْمَ، عَلَى أَنَّ (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) تَقْدِيرٌ لِأَقَلِّ ظُلْمٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْمُسِيءَ بِأَكْثَرِ مِنْ جَزَاءِ سَيِّئَتِهِ.
وَانْتَصَبَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ لَا يَظْلِمُ ظُلْمًا مُقَدَّرًا بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَالْمِثْقَالُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الثِّقَلُ، فَلِذَلِكَ صِيغَ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْآلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمِقْدَارُ.
وَالذَّرَّةُ تُطْلَقُ عَلَى بَيْضَةِ النَّمْلَةِ، وَعَلَى مَا يَتَطَايَرُ مِنَ التُّرَابِ عِنْدَ النَّفْخِ، وَهَذَا أَحْقَرُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ، فُعُلِمَ انْتِفَاءُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ بِالْأَوْلَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ حَسَنَةً- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّ (تَكُ) مُضَارِعُ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ إِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِنَصْبِ
- حَسَنَةً عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِ تَكُ عَلَى اعْتِبَارِ كَانَ نَاقِصَةً، وَاسْمُ كَانَ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَجِيءَ بِفِعْلِ الْكَوْنِ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُؤَنَّثِ مُرَاعَاةً لفظ ذَرَّةٍ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ مِثْقَالُ، لِأَنَّ لَفْظَ مِثْقَالَ مُبْهَمٌ لَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا لَفْظُ ذَرَّةٍ فَكَانَ كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ.
وَالْمُضَاعَفَةُ إِضَافَةُ الضّعف- بِكَسْر الصَّاد- أَيِ الْمَثَلِ، يُقَالُ: ضَاعَفَ وَضَعَّفَ وَأَضْعَفَ، وَهِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى التَّحْقِيق عِنْد أئمّة اللُّغَةِ، مِثْلِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضَاعَفَ يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفٍ وَاحِدٍ وضعّف يَقْتَضِي ضِعْفَيْنِ. وَرُدَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: ٣٠]. وَأَمَّا دَلَالَةُ إِحْدَى الصِّيَغِ الثَّلَاثِ عَلَى مِقْدَارِ التَّضْعِيفِ فَيُؤْخَذُ مِنَ الْقَرَائِنِ لِحِكْمَةِ الصِّيغَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُضاعِفْها، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَر: يُضاعِفْها- بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ-.
وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ مَا يُزَادُ عَلَى الضِّعْفِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، فَقَالَ: مِنْ لَدُنْهُ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ. وَسَمَّاهُ أَجْرًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي ثَوَاب الْهِجْرَة.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
الْفَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَاءً فَصِيحَةً تَدُلُّ عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنِ الْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ:
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النِّسَاء: ٣٧] وَقَوْلِهِ: فَساءَ قَرِيناً [النِّسَاء: ٣٨] وَعَنِ التَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: وَماذا عَلَيْهِمْ [النِّسَاء: ٣٩] وَعَنِ الْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النِّسَاء: ٤٠] الْآيَةَ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا أَيْقَنْتَ بِذَلِكَ فَكَيْفَ حَالُ كُلِّ أُولَئِكَ إِذَا جَاءَ الشُّهَدَاءُ وَظَهَرَ مُوجَبُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وعَلى الْعَمَل السيّء، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ ضَمِيرُ (بِكَ) إِضْمَارًا فِي مَقَامِ الْإِظْهَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النِّسَاء: ٤٠]، أَيْ يَتَفَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ سُؤَالٌ عَنْ حَالِ النَّاسِ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فَالنَّاسُ بَيْنَ مُسْتَبْشِرٍ وَمُتَحَسِّرٍ، وَعَلَى هَذَا فَضَمِيرُ بِكَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَيَقْتَضِيَ أَنْ يُقَالَ: وَجِئْنَا بِالرَّسُولِ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا، فَعَدَلَ إِلَى الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِزِّ الْحُضُورِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ.
56
وَالْحَالَةُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ تُؤْذِنُ بِحَالَةٍ مَهُولَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَتُنَادِي عَلَى حَيْرَتِهِمْ وَمُحَاوَلَتِهِمُ التَّمَلُّصَ مِنَ الْعِقَابِ بِسُلُوكِ طَرِيقِ إِنْكَارِ أَنْ يَكُونُوا أُنْذِرُوا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَجِيءُ شَهِيدٍ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَيُقَدَّرُ بِنَحْوِ: كَيْفَ أُولَئِكَ، أَوْ كَيْفَ الْمَشْهَدُ، وَلَا يُقَدَّرُ بِكَيْفَ حَالِهِمْ خَاصَّةً، إِذْ هِيَ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ مَا مِنْهَا إِلَّا يَزِيدُهُ حَالُ ضِدِّهِ وُضُوحًا، فَالنَّاجِي يَزْدَادُ سُرُورًا بِمُشَاهَدَةِ حَالِ ضِدِّهِ، وَالْمُوبَقُ يَزْدَادُ تَحَسُّرًا بِمُشَاهَدَةِ حَالِ ضِدِّهِ، وَالْكُلُّ يَقْوَى يَقِينُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُ بِشَهَادَةِ الصَّادِقِينَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الشَّهِيدَ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ مُتَعَلِّقَهُ بِعَلَى أَوِ اللَّامِ: لِيَعُمَّ الْأَمْرَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ مِنَ التَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٥].
وَ (إِذا) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ جِئْنا أَيْ زَمَانِ إِتْيَانِنَا بِشَهِيدٍ. وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى تَقَدَّمَ نُزُولُهَا مِثْلَ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ [٨٩] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ فَلِذَلِكَ صَلَحَتْ لِأَنْ يُتَعَرَّفَ اسْمُ الزَّمَانِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَالظَّرْفُ مَعْمُولٌ لِ (كَيْفَ) لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَهُوَ مَعْنَى التَّعْجِيبِ، كَمَا انْتَصَبَ بِمَعْنَى التَّلَهُّفِ فِي قَوْلِ أَبِي الطَّمْحَانِ:
وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ قَلْبِي مِنْ غَدٍ إِذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ
وَالْمَجْرُورَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَقَوْلِهِ: بِشَهِيدٍ يَتَعَلَّقَانِ بِ (جِئْنَا). وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُخْتَصَرًا عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آل عمرَان: ٢٥].
وَشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ رَسُولُهَا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً.
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُضُورِهِمْ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ عِنْدَ سَمَاعِهِ اسْمَ الْإِشَارَةِ، وَأَصْلُ الْإِشَارَةِ يَكُونُ إِلَى مُشَاهَدٍ فِي الْوُجُودِ أَوْ مُنَزَّلٍ مَنْزِلَتَهُ، وَقَدِ اصْطَلَحَ الْقُرْآنُ عَلَى إِطْلَاقِ إِشَارَةِ (هؤُلاءِ) مُرَادًا بِهَا الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا مَعْنًى أُلْهِمْنَا إِلَيْهِ، استقريناه فَكَانَ مُطَابِقًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النِّسَاء: ٣٧] وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، لِأَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِهِمْ يَجْعَلُهُمْ كَالْحَاضِرِينَ فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ تَوْبِيخِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ صَارُوا كَالْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ
57
الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ أَضْعَفِ الِاحْتِمَالَاتِ أَنْ يَكُونَ هؤُلاءِ إِشَارَةً إِلَى الشُّهَدَاءِ، الدَّالِّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ: كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَإِنْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» حَدِيثٌ يُنَاسِبُهُ فِي شَهَادَةِ نُوحٍ عَلَى قَوْمِهِ وَأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَهُ
فَيَشْهَدُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِدْقِهِ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَذُكِرَ مُتَعَلِّقُ (شَهِيداً) الثَّانِي مَجْرُورًا بِعَلَى لِتَهْدِيدِ الْكَافِرِينَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ، قُلْتُ: أَقْرَأُهُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»
فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حتّى إِذا بَلَغْتُ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، قَالَ: أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. وَكَمَا قُلْتُ: إِنَّهُ أَوْجَزَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ فِي لَفْظِ كَيْفَ فَكَذَلِكَ أَقُولُ هُنَا: لَا فِعْلَ أَجْمَعُ دَلَالَةً عَلَى مَجْمُوعِ الشُّعُورِ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ بُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى شُعُورٍ مُجْتَمِعٍ فِيهِ دَلَائِلُ عَظِيمَةٌ: وَهِيَ الْمَسَرَّةُ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ، وَتَصْدِيقِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُ فِي التَّبْلِيغِ، وَرُؤْيَةِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي أُنْجِزَتْ لَهُمْ بِوَاسِطَتِهِ، وَالْأَسَفِ عَلَى مَا لَحِقَ بَقِيَّةَ أُمَّتِهِ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَمُشَاهَدَةِ نَدَمِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَالْبُكَاءُ تُرْجُمَانُ رَحْمَةٍ وَمَسَرَّةٍ وَأَسَفٍ وَبَهْجَةٍ.
وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَسَاءَلُ عَنِ الْحَالَةِ الْمُبْهَمَةِ الْمَدْلُولَةِ لِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَيَتَطَلَّبُ بَيَانَهَا، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةً لِبَعْضِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ، وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ يَرَوْنَ بِوَارِقَ الشَّرِّ: مِنْ شَهَادَةِ شُهَدَاءِ الْأُمَمِ عَلَى مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَيُوقِنُونَ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ مَأْخُوذُونَ إِلَى الْعَذَابِ، فَيَنَالُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ مَا يَوَدُّونَ مِنْهُ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَجُمْلَةُ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَوَدُّ أَيْ يودّون ودّا يبيّنه قَوْلُهُ: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلِكَوْنِ مَضْمُونِهَا أَفَادَ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمَوْدُودِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ مَفْعُولِ (يَوَدُّ)، فَصَارَ فِعْلُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَصَارَتْ لَوْ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الْمَصْدَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
58
وَقَوْلُهُ: تُسَوَّى قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- فَهُوَ مُضَارِعُ تَسَوَّى الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ سَوَّاهُ إِذَا جَعَلَهُ سَوَاءً لِشَيْءٍ آخَرَ أَيْ مُمَاثِلًا، لِأَنَّ السَّوَاءَ الْمِثْلُ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي السِّينِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى مَعْنَى الْقِرَاءَةِ السَّابِقَةِ لَكِنْ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ تُسَوَّى- بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ- مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، أَيْ تُمَاثَلُ. وَالْمُمَاثَلَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنَ التَّسْوِيَةِ تُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثَلَةً فِي
الذَّاتِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا مِثْلَ الْأَرْضِ لِظُهُورِ أَنْ لَا يُقْصَدَ أَنْ تَصِيرَ الْأَرْضُ نَاسًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠]. وَهَذَا تَفْسِيرُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ إِطْنَابٌ، قُصِدَ مِنْ إِطْنَابِهِ سُلُوكُ طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ عَنْ صَيْرُورَتِهِمْ تُرَابًا بِالْكِنَايَةِ الْمَطْلُوبِ بِهَا نِسْبَةٌ، كَقَوْلِهِمْ: الْمَجْدُ بَيْنَ ثَوْبَيْهِ، وَقَوْلِ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ
أَيْ أَنَّهُ سَمْحٌ ذُو مُرُوءَةٍ كَرِيمٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثَلَةً فِي الْمِقْدَارِ، فَقِيلَ: يَوَدُّونَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبْعَثُوا وَبَقُوا مُسْتَوِينَ مَعَ الْأَرْضِ فِي بَطْنِهَا، وَقِيلَ: يَوَدُّونَ أَنْ يُدْفَنُوا حِينَئِذٍ كَمَا كَانُوا قَبْلَ الْبَعْثِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْمَعْنَى التَّسْوِيَةُ فِي الْبُرُوزِ وَالظُّهُورِ، أَيْ أَنْ تَرْتَفِعَ الْأَرْضُ فَتُسَوَّى فِي الِارْتِفَاعِ بِأَجْسَادِهِمْ، فَلَا يَظْهَرُوا، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمْ وَذُلِّهِمْ، فَيَنْقَبِضُونَ وَيَتَضَاءَلُونَ حَتَّى يَوَدُّوا أَنْ يَصِيرُوا غَيْرَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا وَصَفَ أَحَدُ الْأَعْرَابِ يَهْجُو قوما من طيّء أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ:
إِذَا مَا قِيلَ أَيُّهُمْ لِأَيٍّ تَشَابَهَتِ الْمَنَاكِبُ وَالرُّؤُوسُ
وَهَذَا أَحْسَنُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَأَنْسَبُ بِالْكِنَايَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ لَهَا عَلَى جُمْلَةِ يَوَدُّ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالِيَّةً، أَيْ يَوَدُّونَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فِي حَالِ عَدَمِ كِتْمَانِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا اسْتِشْهَادَ الرُّسُلِ، وَرَأَوْا جَزَاءَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُمَمِِِ
59
السَّالِفَةِ، وَرَأَوْا عَاقِبَةَ كَذِبِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ حَتَّى احْتِيجَ إِلَى إِشْهَادِ رُسُلِهِمْ، عَلِمُوا أَنَّ النَّوْبَةَ مُفْضِيَةٌ إِلَيْهِمْ، وَخَامَرَهُمْ أَنْ يَكْتُمُوا اللَّهَ أَمْرَهُمْ إِذَا سَأَلَهُمُ اللَّهُ، وَلَمْ تُسَاعِدْهُمْ نُفُوسُهُمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالصِّدْقِ، لِمَا رَأَوْا مِنْ عَوَاقِبِ ثُبُوتِ الْكُفْرِ، مِنْ شِدَّةِ هَلَعِهِمْ، فَوَقَعُوا بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ، فَتَمَنَّوْا أَنْ يَخْفَوْا وَلَا يَظْهَرُوا حَتَّى لَا يُسْأَلُوا فَلَا يَضْطَرُّوا إِلَى الِاعْتِرَافِ الْمُوبِقِ وَلَا إِلَى الْكِتْمَانِ الْمُهْلِكِ.
[٤٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.
هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حُكْمَيْنِ يَتَعَلَّقَانِ بِالصَّلَاةِ، دَعَا إِلَى نُزُولِهَا عَقِبَ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ أَنَّهُ آنَ الْأَوَانُ لِتَشْرِيعِ هَذَا الْحُكْمِ فِي الْخَمْرِ حِينَئِذٍ، وَإِلَى قَرْنِهِ بِحُكْمٍ مُقَرَّرٍ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ أَيْضًا. وَيَظْهَرُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَوَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ وَقْتِ نُزُولِهَا وَجَاءَتْ كَالْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ. تَضَمَّنَتْ حُكْمًا أَوَّلَ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي ذَاتِهِ أَيْضًا بِحَسَبِ الْغَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، ذَلِك أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ حَلَالًا لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَبَقِيَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَشْرَبُهَا. وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الْبَقَرَة: ٢١٩] فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ نَشْرَبُهَا لِمَنَافِعِهَا لَا لِإِثْمِهَا، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِثْمِ الْحَرَجُ وَالْمَضَرَّةُ وَالْمَفْسَدَةُ، وَتِلْكَ الْآيَةُ كَانَتْ إِيذَانًا لَهُمْ بِأَنَّ الْخَمْرَ يُوشِكُ أَنْ تَكُونَ حَرَامًا لِأَنَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِثْمِ مُتَّصِفٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ لِلتَّحْرِيمِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَبْقَى إِبَاحَتَهَا رَحْمَةً لَهُمْ فِي مُعْتَادِهِمْ، مَعَ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ إِلَى قَبُولِ تَحْرِيمِهَا، فَحَدَثَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا خَمْرًا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى
. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
60
وَالْقُرْبُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّلَبُّسُ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ (قَرُبَ) حَقِيقَةٌ فِي الدُّنُوِّ مِنَ الْمَكَانِ أَوِ الذَّاتِ يُقَالُ: قَرُبَ مِنْهُ- بِضَمِّ الرَّاءِ- وَقَرِبَهُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- وَهُمَا بِمَعْنًى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَكْسُورَ الرَّاءِ لِلْقُرْبِ الْمَجَازِيِّ خَاصَّةً، وَلَا يَصِحُّ.
وَإِنَّمَا اخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ لَا تُصَلُّوا وَنَحْوِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ حَالَةٌ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَصَاحِبُهَا جَدِيرٌ بِالِابْتِعَادِ عَنْ أَفْضَلِ عَمَلٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْ هُنَا كَانَتْ مُؤْذِنَةً بِتَغَيُّرِ شَأْنِ الْخَمْرِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْهَا، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَوْمَئِذٍ هُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا وَأَعْلَقُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَلَا يَرْمُقُونَ شَيْئًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ الصَّلَاةَ هُنَا بِالْمَسْجِدِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْحَالِ عَلَى الْمَحَلِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الْحَج: ٤٠]، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ قَالُوا: كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ وَمُخَالَفَتُهُ لِمَشْهُورِ الْآثَارِ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ غَايَةٌ لِلنَّهْيِ وَإِيمَاءٌ إِلَى عِلَّتِهِ، وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ (تَقُولُونَ) عَنْ تَفْعَلُونَ لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدَّ مِنَ السُّكْرِ قَدْ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَالِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، إِذِ الْعَمَلُ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الِاخْتِلَالُ بِاخْتِلَالِ الْعَقْلِ قَبْلَ اخْتِلَالِ الْقَوْلِ. وَفِي الْآيَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّ السُّكْرَ الْخَفِيفَ لَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ يَوْمَئِذٍ أَوْ أُرِيدَ مِنَ الْغَايَةِ أَنَّهَا حَالَةُ انْتِهَاءِ السُّكْرِ فَتَبْقَى بَعْدَهَا النَّشْوَةُ. وَسُكَارَى جَمْعُ سَكْرَانٍ، وَالسَّكْرَانُ مَنْ أَخَذَ عَقْلُهُ فِي الِانْغِلَاقِ، مُشْتَقٌّ مِنَ السَّكْرِ، وَهُوَ الْغَلْقُ، وَمِنْهُ سَكْرُ الْحَوْضِ وَسَكْرُ الْبَابِ وسُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الْحجر: ١٥].
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اجْتَنَبَ الْمُسْلِمُونَ شُرْبَ الْخَمْرِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، لِبُعْدِ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَبَيْنَ مَا تَلِيَانِهِمَا، ثُمَّ أُكْمِلَ مَعَ تَحْرِيمِ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ فِي حَالَةِ السُّكْرِ تَحْرِيمُ قُرْبَانِهَا بِدُونِ طَهَارَةٍ.
61
وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَنْتُمْ سُكارى لأنّا فِي مَحَلِّ الْحَالِ، وَهَذَا النَّصْبُ بَعْدَ الْعَطْفِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ مُعْتَبَرَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ.
وَالْجُنُبُ فُعُلٌ، قِيلَ: مَصْدَرٌ، وَقِيلَ: وَصْفٌ مِثْلُ أُجُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْجارِ الْجُنُبِ [النِّسَاء: ٣٦]، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَاعِدُ لِلْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا قَارَفَ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَغْتَسِلَ.
وَوَصْفُ جُنُبٍ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ إِذْ أُخْبِرَ بِهِ عَنْ جَمْعٍ، مِنْ قَوْلِهِ:
وَأَنْتُمْ سُكارى. وَإِطْلَاقُ الْجَنَابَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ الِاغْتِسَالَ مِنَ الْجَنَابَةِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ، وَلَعَلَّهُ مِنْ بَقَايَا الْحَنِيفِيَّةِ، أَوْ مِمَّا أَخَذُوهُ عَنِ الْيَهُودِ، فَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فِي «الْإِصْحَاحِ» ١٥ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فِي «السِّيرَةِ» - أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، لَمَّا رَجَعَ مَهْزُومًا مِنْ بَدْرٍ، حَلَفَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ.
وَالْمَعْنَى لَا تُصَلُّوا فِي حَالِ الْجَنَابَةِ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَخْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً التَّمْهِيدُ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى شَرْعِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّ حُكْمَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ مُقَرَّرٌ مِنْ قَبْلُ، فَذِكْرُهُ هُنَا إِدْمَاجٌ. وَالتَّيَمُّمُ شُرِعَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَنَةَ خَمْسٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ هِيَ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَيَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّهَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا إِلَّا التَّيَمُّمُ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمْرٍو عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ هِيَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٦]، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ جَزَمَ
62
الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ هِيَ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ، قَالَ: لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ تُسَمَّى آيَةَ الْوُضُوءِ. وَكَذَلِكَ الْوَاحِدِيُّ أَوْرَدَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ «هَذِهِ مُعْضِلَةٌ مَا وَجَدْتُ لِدَائِهَا مِنْ دَوَاءٍ لَا نَعْلَمُ أَيَّ الْآيَتَيْنِ عَنَتْ عَائِشَةُ». وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ قِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقِيلَ بَعْدَهَا، وَالْخَطْبُ سَهْلٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وُقُوعِ (جُنُباً)، وَهُوَ حَالٌ نَكِرَةٌ، فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَعَابِرُ السَّبِيلِ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمُسَافِرُ حِينَ سَيْرِهِ فِي سَفَرِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَبْرِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَالِاجْتِيَازُ، يُقَالُ: عَبَرَ النَّهْرَ وَعَبَرَ الطَّرِيقَ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَسَّرَ عابِرِي سَبِيلٍ بِمَارِّينَ فِي طَرِيقٍ، وَقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ طَرِيقُ الْمَسْجِدِ، بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ بِالْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا الْآيَةَ رُخْصَةً فِي مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ الْمُرُورَ لَا الْمُكْثَ، قَالَهُ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الصَّلَاةَ بِالْمَسْجِدِ. وَنُسِبَ أَيْضًا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَقَتَادَةَ، قَالُوا: كَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ كَانَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَبْوَابُ دُورٍ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدَ سَدِّ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ الْمُرُورُ كَذَلِكَ رُخْصَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي بَكْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ وَلِعَلِّيٍ، وَقِيلَ: أبقيت خوخة بنت عَلِيٍّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَصِحَّ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ- عِنْدَ مَنْ فَسَّرَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَفَسَّرَ عابِرِي سَبِيلٍ بِالْمَارِّينَ فِي الْمَسْجِدِ- ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الْجُنُبِ بِاسْتِثْنَاءِ عَابِرِي السَّبِيلِ. وَعَابِرُ السَّبِيلِ الْمَأْخُوذُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقٌ، وَهُوَ عِنْدَ
أَصْحَابِ هَذَا الْمَحْمَلِ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ لَا تَقْيِيدَ فِيهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي مَعْنَى تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَفِي مَعْنَى عَابِرِي السَّبِيلِ فَلَا تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ أَوْ عَلى سَفَرٍ وَلِأَنَّ فِي عُمُومِ الْحَصْرِ تَخْصِيصًا، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ إِنَّمَا قُدِّمَ هُنَا لِأَنَّهُ غَالِبُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ الِاغْتِسَالِ مِنْ جِهَةِ حَاجَةِ الْمُسَافِرِ اسْتِبْقَاءَ الْمَاءِ. وَلِنَدُورِ عُرُوضِ الْمَرَضِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَحْمَلِ الْجُمْهُورِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عِنْدَ
63
مَنْ يَرَى الْمُتَيَمِّمَ جُنُبًا، وَيَرَى التَّيَمُّمَ غَيْرَ رَافِعٍ لِلْحَدَثِ، وَلَكِنَّهُ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ فِي الْوَقْتِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَهُوَ عِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَدَلِيلُهُ ظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْمُتَيَمِّمَ غَيْرَ جُنُبٍ، وَيَرَى التَّيَمُّمَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ حَتَّى يَنْتَقِضَ بِنَاقِضٍ وَيَزُولَ سَبَبُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلِذَلِكَ إِذَا تَيَمَّمَ الْجُنُبُ وَصَلَّى وَصَارَ مِنْهُ حَدَثٌ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ يَتَوَضَّأُ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ بَدَلٌ عَنِ الْغُسْلِ مُطْلَقًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى وَلَيْسَ فِي السُّنَّةِ مَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: فَالْمَشْهُورُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ التَّيَمُّمَ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ، فَلِذَلِكَ لَا يُصَلِّي الْمُتَيَمِّمُ بِهِ إِلَّا فَرْضًا وَاحِدًا، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِجَنَابَةٍ لِعُذْرٍ يَمْنَعُ مِنَ الْغُسْلِ وَانْتَقَضَ وَضُوءُهُ تَيَمَّمَ عَنِ الْوُضُوءِ. وَعَنْ مَالِكٍ، فِي رِوَايَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ، حَتَّى يَنْتَقِضَ تَيَمُّمُهُ بِنَاقِضِ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ ذَكَرَ فَوَائِتَ يُصَلِّيهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ لِغَيْرِهِمَا إِلَّا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ فَكَانَتْ نِيَّةُ التَّيَمُّمِ غَيْرَ جَازِمَةٍ فِي بَقَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ بِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِلْجَنَابَةِ بِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنَ الْغُسْلِ إِذَا انْتَقَضَ وَضَوْءُهُ يَتَوَضَّأُ.
وَفِي مَفْهُومِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفَاهِيمِ مِنَ الْجُمْهُورِ، عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ تَفْصِيلٌ. فَعَابِرُ السَّبِيلِ مُطْلَقٌ قَيَّدَهُ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَبَقِيَ عُمُومُ قَوْلِهِ وَلا جُنُباً فِي غَيْرِ عَابِرِ السَّبِيلِ، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يَبْقَى عَامًّا فِيمَا عَدَا مَا خُصِّصَ، فَخَصَّصَهُ الشَّرْطُ تَخْصِيصًا ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى. ثُمَّ إِنْ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقَعُ بِدُونِ طَهَارَة يبْق قَوْلُهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مُجْمَلًا لِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي قُرْبَانِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لِلْمُسَافِرِ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ بَيَانٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ فَلَا إِجْمَالَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ اسْتِئْنَافًا لِأَحْكَامِ التَّيَمُّمِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ قَصْرُهُ
بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ جَارٍ عَلَى اسْتِعْمَالٍ قَلِيلٍ، كَقَوْلِ مُوسَى بْنِ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ- أُمَوِيٌّ-:
64
لَا أَشْتَهِي يَا قَوْمِ إِلَّا كَارِهًا بَابَ الْأَمِيرِ وَلَا دِفَاعَ الْحَاجِبِ
وَقَوْلُهُ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا غَايَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ إِذَا كَانُوا جُنُبًا، فَهُوَ تَشْرِيعٌ لِلْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَإِيجَابٌ لَهُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، فَلَمَّا نُهُوا عَنِ اقْتِرَابِهَا بِدُونِ الْغُسْلِ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَرْضُ الْغُسْلِ. وَالْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ النَّظَافَةُ، وَنِيطَ ذَلِكَ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ لِيَكُونَ الْمُصَلِّي فِي حَالَةِ كَمَالِ الْجَسَدِ، كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ فِي حَالِ كَمَالِ الْبَاطِنِ بِالْمُنَاجَاةِ وَالْخُضُوعِ. وَمِنْ أَبْدَعِ الْحِكَمِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهَا لَمْ تنط وجوب التنظّف بِحَالِ الْوَسَخِ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْحَالِ مِنَ الْوَسَخِ الَّذِي يَسْتَدْعِي الِاغْتِسَال والتنظف مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ مَدَارِكُ الْبَشَرِ فِي عَوَائِدِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَنِيطَ وُجُوبُ الْغُسْلِ بِحَالَةٍ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي مُدَّةِ مُتَعَارَفِ أَعْمَارِ الْبَشَرِ، وَهِيَ حَالَةُ دَفْعِ فَوَاضِلِ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَحَيْثُ كَانَ بَيْنَ تِلْكَ الْحَالَةِ وَبَيْنَ شِدَّةِ الْقُوَّةِ تَنَاسُبٌ تَامٌّ، إِذْ بِمِقْدَارِ الْقُوَّةِ تَنْدَفِعُ فَضَلَاتُهَا، وَكَانَ أَيْضًا بَيْنَ شِدَّةِ الْقُوَّةِ وَبَيْنَ ظُهُورِ الْفَضَلَاتِ عَلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْوَسَخِ تَنَاسُبٌ تَامٌّ، كَانَ نَوْطُ الِاغْتِسَالِ بِالْجَنَابَةِ إِنَاطَةً بِوَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ فَجُعِلَ هُوَ الْعِلَّةَ أَوِ السَّبَبَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مُحَصِّلًا لِلْمُنَاسَبَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّشْرِيعِ، وَهِيَ إِزَالَةُ الْأَوْسَاخِ عِنْدَ بُلُوغِهَا مِقْدَارًا يُنَاسِبُ أَنْ يُزَالَ مَعَ جَعْلِ ذَلِكَ مُرْتَبِطًا بِأَعْظَمِ عِبَادَةٍ وَهِيَ الصَّلَاةُ، فَصَارَتِ الطَّهَارَةُ عِبَادَةً كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْوُضُوءِ، عَلَى أَنَّ فِي الِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ حِكْمَةً أُخْرَى، وَهِيَ تَجْدِيدُ نَشَاطِ الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي يَعْتَرِيهِ فُتُورٌ بِاسْتِفْرَاغِ الْقُوَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ زَبَدِ الدَّمِ، حَسْبَمَا تَفَطَّنَ لِذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ فَقُضِيَتْ بِهَذَا الِانْضِبَاطِ حِكَمٌ عَظِيمَةٌ.
وَدَلَّ إِسْنَادُ الِاغْتِسَالِ إِلَى الذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ هُوَ إِحَاطَةُ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدَّلْكِ أَيْ إِمْرَارِ الْيَدِ عَلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ: فَشَرَطَهُ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَعْنَى الْغُسْلِ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ»، وَلِأَنَّ الْوضُوء لَا يجزىء بِدُونِ ذَلِك بِاتِّفَاقٍ، فَكَذَلِكَ الْغُسْلُ.
وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: يجزىء فِي الْغُسْلِ إِحَاطَةُ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ بِالصَّبِّ أَوِ الِانْغِمَاسِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي غُسْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُمَا لَمْ تَذْكُرَا أَنَّهُ لَمْ يَتَدَلَّكْ،
65
وَلَكِنَّهُمَا سَكَتَتَا عَنْهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُمَا لِعِلْمِهِمَا بِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ، وَهَذَا أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ رَوَاهَا عَنْهُ أَبُو الْفَرَجِ، وَمَرْوَانُ
بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيُّ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إِلَخْ ذِكْرُ حَالَةِ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الِاغْتِسَالِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ نَازِلَةٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ حُكْمِ التَّيَمُّمِ بِحَذَافِرِهِ. وَفِي جَمْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي نَسَقٍ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَحَصَلَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ عَلى سَفَرٍ بَيَانٌ لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ إِنْ كَانَ فِيهِ إِجْمَالٌ، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ جَدِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ التَّيَمُّمِ الْوَاقِعِ بَدَلا من الْغُسْلِ، بِذِكْرِ التَّيَمُّمِ الْوَاقِعِ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ إِيعَابًا لِنَوْعَيِ التَّيَمُّمِ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِهِ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَذْكُورِ. فَالْمَرِيضُ أُرِيدَ بِهِ الَّذِي اخْتَلَّ نِظَامُ صِحَّتِهِ بِحَيْثُ صَارَ الِاغْتِسَالُ يَضُرُّهُ أَوْ يزِيد علّته. أَوْ جاءَ... مِنَ الْغائِطِ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ الْبَشَرِيَّةِ، شَاعَ فِي كَلَامِهِمُ التَّكَنِّي بِذَلِكَ لِبَشَاعَةِ الصَّرِيحِ.
وَالْغَائِطُ: الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَا غَابَ عَنِ الْبَصَرِ، يُقَالُ: غَاطَ فِي الْأَرْضِ- إِذَا غَابَ- يَغُوطُ، فَهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَذْهَبُونَ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ مِنْ جِهَةِ الْحَيِّ بَعِيدٍ عَنْ بُيُوتِ سُكْنَاهُمْ، فَيُكِنُّونَ عَنْهُ: يَقُولُونَ ذَهَبَ إِلَى الْغَائِطِ أَوْ تَغَوَّطَ، فَكَانَتْ كِنَايَةً لَطِيفَةً ثُمَّ اسْتَعْمَلَهَا النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرًا حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَسَمَجَتْ، فَصَارَ الْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى نَفْسِ الْحَدَثِ وَيُعَلِّقُونَهُ بِأَفْعَالٍ تُنَاسِبُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرىء (لامَسْتُمُ) - بِصِيغَة المفاعلة-، وقرىء (لَمَسْتُمْ) - بِصِيغَةِ الْفِعْلِ- كَمَا سَيَأْتِي، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَمَنْ حَاوَلَ التَّفْصِيلَ لَمْ يَأْتِ بِمَا فِيهِ تَحْصِيلٌ. وَأَصْلُ اللَّمْسِ الْمُبَاشَرَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَقَدْ أُطْلِقَ مَجَازًا وَكِنَايَةً عَلَى الِافْتِقَادِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الْجِنّ: ٨] وَعَلَى النُّزُولِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
لِيَلْتَمِسَنْ بِالْجَيْشِ دَارَ الْمُحَارِبِ
66
وَعَلَى قُرْبَانِ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ مُرَادِفُ الْمَسِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: «فُلَانَةٌ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ»، وَنَظِيرُهُ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَة: ٢٣٧]. وَالْمُلَامَسَةُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا ظَاهِرَهَا، وَهُوَ الْمُلَامَسَةُ بِمُبَاشَرَةِ الْيَدِ أَوْ بَعْضِ الْجَسَدِ جَسَدَ الْمَرْأَةِ،
فَيَكُونُ ذَكَرَ سَبَبًا ثَانِيًا مِنْ أَسْبَابِ الْوُضُوءِ الَّتِي تُوجِبُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ، فَجَعَلَ لَمْسَ الرَّجُلِ بِيَدِهِ جَسَدَ امْرَأَتِهِ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ، وَهُوَ مَحْمَلٌ بَعِيدٌ، إِذْ لَا يَكُونُ لَمْسُ الْجَسَدِ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ وَإِنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ خُرُوجًا مُعْتَادًا. فَالْمَحْمَلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُلَامَسَةَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ. وَتَعْدِيدُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لِجَمْعِ مَا يَغْلِبُ مِنْ مُوجِبَاتِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَالطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بِقَوْلِهِ آنِفًا وَلا جُنُباً لِأَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْأَمْرِ بِالِاغْتِسَالِ، وَهَذَا ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْإِذْنِ بِالتَّيَمُّمِ الرُّخْصَةِ. وَالْمَقَامُ مَقَامُ تَشْرِيعٍ يُنَاسِبُهُ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ وَجْهٌ لِذِكْرِهِ وَجِيهٌ. وَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ فَلَا يَكُونُ لِذِكْرِ سَبَبِ ثَانٍ مِنْ أَسْبَابِ الْوُضُوءِ كَبِيرُ أَهَمِّيَّةٍ. وَإِلَى هَذَا مَالَ الْجُمْهُورُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْوُضُوءُ مَنْ لَمْسِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: إِذَا الْتَذَّ اللَّامِسُ أَوْ قَصَدَ اللَّذَّةَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَحَمَلَ الْمُلَامَسَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَيَيْهَا الْكِنَائِيِّ وَالصَّرِيحِ، لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ الِالْتِذَاذِ، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ، وَأَرَى مَالِكًا اعْتَمَدَ فِي هَذَا عَلَى الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ أَيِمَّةِ السَّلَفِ، وَلَا أُرَاهُ جَعْلَهُ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لامَسْتُمُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ لَمَسْتُمْ- بِدُونِ أَلِفٍ-.
وَقَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً عَطْفٌ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ، وَهُوَ قَيْدٌ فِي الْمُسَافِرِ، وَمَنْ جَاءَ مِنَ الْغَائِط، وَمن لَا مس النِّسَاءَ، أمّا الْمَرِيضُ فَلَا يَتَقَيَّدُ تَيَمُّمُهُ بِعَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ يَتَيَمَّمُ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِدَلَالَةِ مَعْنَى الْمَرَضِ، فَمَفْهُومُ الْقَيْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مُعَطَّلٌ بِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَلَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَرِيضِ الزَّمِنِ، إِذْ لَا يُعْدَمُ الزَّمِنُ مُنَاوِلًا يُنَاوِلُهُ الْمَاءَ إِلَّا نَادِرًا.
وَقَوْلُهُ فَتَيَمَّمُوا جَوَابُ الشَّرْطِ- وَالتَّيَمُّمُ الْقَصْدُ- وَالصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ خَشْفًا مِنْ بَقْرِ الْوَحْشِ نَائِمًا فِي الشَّمْسِ لَا يَكَادُ يُفِيقُ:
67
كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ دَبَّابَةٌ فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ (١)
وَالطَّيِّبُ: الطَّاهِرُ الَّذِي لَمْ تُلَوِّثْهُ نَجَاسَةٌ وَلَا قَذَرٌ، فَيَشْمَلُ الصَّعِيدُ التُّرَابَ وَالرَّمْلَ وَالْحِجَارَةَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالصَّعِيدِ لِيَصْرِفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هَوَسِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا التُّرَابَ أَوِ الرَّمْلَ
مِمَّا تَحْتَ وَجْهِ الْأَرْضِ غُلُوًّا فِي تَحْقِيقِ طَهَارَتِهِ.
وَقَدْ شُرِعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ التَّيَمُّمِ أَوْ قُرِّرَ شَرْعُهُ السَّابِقُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَانَ شَرْعُ التَّيَمُّمِ سَنَةَ سِتٍّ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَسَبَبُ شَرْعِهِ مَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى إِلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعَنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أبي بكر، فو الله مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. قَالَتْ:
فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.
وَالتَّيَمُّمُ مِنْ خَصَائِصِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا
فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي- فَذَكَرَ مِنْهَا- وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»
. وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ جَعَلَهُ الشَّرْعُ عَنِ الطَّهَارَةِ، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيَانًا فِي حِكْمَةِ جَعْلِ التَّيَمُّمِ عِوَضًا عَنِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ هَمِّي زَمَنًا طَوِيلًا وَقْتَ الطَّلَبِ ثُمَّ انْفَتَحَ لِي حِكْمَةُ ذَلِكَ.
_________
(١) أَرَادَ كَأَنَّهُ سَكرَان طرحته الْخمر على الأَرْض فَقَوله: دبابة اسْم فَاعل من دب وَهُوَ صفة لمَحْذُوف، أَي خمر دبابة، أَي تدب فِي الدِّمَاغ، وَعبر عَن الدفاع بعظام الرَّأْس، والخرطوم: الْخمر القوية
68
وَأَحْسَبُ أَنَّ حِكْمَةَ تَشْرِيعِهِ تَقْرِيرُ لُزُومِ الطَّهَارَةِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَقْرِيرُ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَتَرْفِيعُ شَأْنِهَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَلَمْ تُتْرَكْ لَهُمْ حَالَةٌ يَعُدُّونَ فِيهَا أَنْفُسَهُمْ مُصَلِّينَ بِدُونِ طَهَارَةٍ تَعْظِيمًا لِمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ شَرَعَ لَهُمْ عَمَلًا يُشْبِهُ الْإِيمَاءَ إِلَى الطَّهَارَةِ لِيَسْتَشْعِرُوا أَنْفُسَهُمْ مُتَطَهِّرِينَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الْيَدَيْنِ صَعِيدَ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَنْبَعُ الْمَاءِ، وَلِأَنَّ التُّرَابَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَطْهِيرِ الْآنِيَةِ وَنَحْوِهَا، يُنَظِّفُونَ بِهِ مَا عَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْذَارِ فِي ثِيَابِهِمْ وأبدانهم وَمَا عونهم، وَمَا الِاسْتِجْمَارُ إِلَّا ضَرْبٌ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَجْدِيدِ طَلَبِ الْمَاءِ لِفَاقِدِهِ وَتَذْكِيرِهِ بِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ عِنْدَ زَوَالِ مَانِعِهِ، وَإِذَ قَدْ كَانَ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً رَمْزِيَّةً اقْتَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ فِيهِ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَقْصِدَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَدِمُوا الْمَاءَ فِي غَزْوَةِ
الْمُرَيْسِيعِ صَلَّوْا بِدُونِ وُضُوءٍ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ. هَذَا مُنْتَهَى مَا عَرَضَ لِي مِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حِكْمَةٍ مُقْنِعَةٍ فِي النَّظَرِ، وَكُنْتُ أَعُدُّ التَّيَمُّمَ هُوَ النَّوْعَ الْوَحِيدَ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مَعْنَى التَّعَبُّدِ بِنَوْعِهِ، وَأَمَّا التَّعَبُّدُ بِبَعْضِ الْكَيْفِيَّاتِ وَالْمَقَادِيرِ مِنْ أَنْوَاعِ عِبَادَاتٍ أُخْرَى فَكَثِيرٌ، مِثْلَ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ خَاصَّةً وَأَنْ يَنْقُلَ الْمُتَيَمِّمُ مِنْهُ إِلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، رَاعَى فِيهِ مَعْنَى التَّنْظِيفِ كَمَا فِي الِاسْتِجْمَارِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لم ينْقل عِنْد أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ مَا سَبَقَ إِلَى خَاطِرِ
عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاغْتِسَال، فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ»
. وَلِأَجْلِ هَذَا أَيْضًا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَقَعُ التَّيَمُّمُ بَدَلًا إِلَّا عَنِ الْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ، وَأَنَّ الْجُنُبَ لَا يُصَلِّي حَتَّى يَغْتَسِلَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ أَمْ فِي السَّفَرِ. وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي ذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ قَالَ أَبُو مُوسَى لَا بن مَسْعُودٍ: أَرَأَيْتَ إِذَا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا يُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارِ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيءُ: كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَلَمْ تَرَ عمر لم يقنع مِنْهُ بِذَلِكَ، قَالَ أَبُو مُوسَى. فَدَعْنَا مِنْ قَوْلِ عَمَّارٍ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فَمَا دَرَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ: إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي هَذَا لَأَوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَى
69
أَحَدِهِمُ الْمَاءَ أَنْ يَدَعَهُ وَيَتَيَمَّمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، تَأَوَّلَا آيَةَ النِّسَاءِ فَجَعَلَا قَوْلَهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ رُخْصَةً لِمُرُورِ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلَا أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ مُرَادًا بِهِ اللَّمْسُ النَّاقِضُ لِلْوُضُوءِ عَلَى نَحْوِ تَأْوِيلِ الشَّافِعِيِّ، وَخَالَفَ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ فِي هَذَا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَتَيَمَّمُ فَاقِدُ الْمَاءِ وَمَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ أَوِ الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَلَوْ نزلة أَو نَزْلَةً أَوْ حُمَّى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَتَيَمَّمُ إِلَّا فَاقِدُ الْمَاءِ أَوْ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ دُونَ الْمَرَضِ أَوْ زِيَادَتِهِ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مُحَقَّقِ الْحُصُولِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفِ الْخَلْقَ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ.
وَقَدْ تَيَمَّمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، «فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَمْرٌو: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاء: ٢٩] فَضَحِكَ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ
. وَقَوْلُهُ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ جَعَلَ التَّيَمُّمَ قَاصِرًا عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ
وَالْيَدَيْنِ، وَأَسْقَطَ مَسْحَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بَلْهَ أَعْضَاءِ الْغُسْلِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَطْهِيرا حسبّا، وَلَا تَجْدِيدَ النَّشَاطِ، وَلَكِنْ مُجَرَّدَ اسْتِحْضَارِ اسْتِكْمَالِ الْحَالَةِ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّ هَذَا تَيَمُّمٌ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ الْبَدَلَ عَنِ الْغسْل لَا يجزىء مِنْهُ إِلَّا مَسْحُ سَائِرِ الْجَسَدِ بِالصَّعِيدِ، فَعَلَّمَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ التَّيَمُّمَ لِلْجَنَابَةِ مِثْلُ التَّيَمُّمِ لِلْوُضُوءِ، فَقَدْ
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ»
عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي سَفَرٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ (أَيْ تَمَرَّغْتُ) وصلّيت فَأتيت النَّبِي فَذَكَرْتُ ذَلِكَ فَقَالَ «يَكْفِيكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ»
وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالْبَاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ: «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» وَقَوْلِ النَّابِغَةِ- يَرْثِي النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ-:
لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا وَأَصْبَحَ جَدُّ النَّاسِ يَظْلَعَ عَاثِرَا
أَرَادَ إِنْ وَارَتْكَ الْأَرْضُ مُوَارَاةَ الدَّفْنِ. وَالْمَعْنَى: فَامْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْبَاءُ مَعَ الْمَمْسُوحِ فِي الْوُضُوءِ وَمَعَ التَّيَمُّمِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَسْحِ لِئَلَّا تَزِيدَ رُخْصَةٌ عَلَى رُخْصَةٍ.
70
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تَذْيِيلٌ لِحُكْمِ الرُّخْصَةِ إِذْ عَفَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْغُسْلَ أَوِ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْمَرَضِ، وَلَا تَرَقُّبَ وُجُودِ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، حَتَّى تَكْثُرَ عَلَيْهِمُ الصَّلَوَاتُ فَيَعْسُرَ عَلَيْهِم الْقَضَاء.
[٤٤، ٤٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٤٤ إِلَى ٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥)
اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ رَاجِعٌ إِلَى مَهْيَعِ الْآيَاتِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنْ قَوْلِهِ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النِّسَاء: ٣٦] فَإِنَّهُ بَعْدَ نِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ وَجَّهَ الْإِنْذَارَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَوَقَعَتْ آيَاتُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَآيَاتُ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّهَارَةِ لَهَا فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ لِلْأَمْرِ بِتَرْكِ الْخَمْرِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالْأَمْرِ بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْهُدَى الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لِلْيَهُودِ نَظِيرُهُ، فَهُمْ يَحْسُدُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ حُرِمُوا مِنْ مِثْلِهِ وَفَرَّطُوا فِي هُدًى عَظِيمٍ، وَأَرَادُوا إِضْلَالَ الْمُسْلِمِينَ عَدَاءً مِنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ أَلَمْ تَرَ- إِلَى- الْكِتابِ جُمْلَةٌ يُقْصَدُ مِنْهَا التَّعْجِيبُ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهَا تَقْرِيرِيٌّ عَنْ نَفْيِ فِعْلٍ لَا يَوَدُّ الْمُخَاطَبُ انْتِفَاءَهُ عَنْهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُحَرِّضًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ
فَعَلَ، وَهُوَ مُفِيدٌ مَعَ ذَلِكَ لِلتَّعْجِيبِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٣].
وَجُمْلَةُ يَشْتَرُونَ حَالِيَّةٌ فَهِيَ قَيْدٌ لِجُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ، وَحَالَةُ اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ فَقَدْ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ الْمَرْئِيِّ، لِأَنَّ شُهْرَةَ الشَّيْءِ وَتَحَقُّقَهُ تَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ.
وَالنَّصِيبُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ولِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي اخْتِيَارِهِ هُنَا إِلْقَاءُ احْتِمَالِ قِلَّتِهِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، وَإِلَّا لَقِيلَ: أُوتُوا الْكِتَابَ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ
71
هَذَا فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء: ١٤١]، أَيْ نَصِيبٌ مِنَ الْفَتْحِ أَوْ مِنَ النَّصْرِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ، لِأَنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُخْتَلَطِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى.
وَالِاشْتِرَاءُ مَجَازٌ فِي الِاخْتِيَارِ وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِ الشَّيْءِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ آخِذُ الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ من الْمُتَبَايعين، وَالْبَائِعُ هُوَ بَاذِلُ الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ لِحَاجَتِهِ إِلَى ثَمَنِهِ، هَكَذَا اعْتَبَرَ أَهْلُ الْعُرْفِ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ اللُّغَةُ وَإِلَّا فَإِنَّ كِلَا الْمُتَبَايِعَيْنِ مُشْتَرٍ وَشَارٍ، فَلَا جَرَمَ أَنْ أُطْلِقَ الِاشْتِرَاءُ مَجَازًا عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦]. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اقْتَحَمُوا الضَّلَالَةَ عَنْ عَمْدٍ لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ بِكِتَابِهِمْ وَقِلَّةِ جَدْوَى عِلْمِهِمْ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أَيْ يُرِيدُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ الضَّلَالَةَ لِئَلَّا يَفْضُلُوهُمْ بِالِاهْتِدَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: ١٠٩]. فَالْإِرَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْإِرَادَةَ عَلَى الْغَالِبِ فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ الْبَاعِثُ النَّفْسَانِيُّ عَلَى الْعَمَلِ، أَيْ يَسْعَوْنَ لِأَنْ تَضِلُّوا، وَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ وَالسَّعْيِ فِي صَرْفِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً [النِّسَاء: ٢٧].
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ تَعْرِيضٌ فَإِنَّ إِرَادَتَهُمُ الضَّلَالَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ عَدَاوَةٍ وَحَسَدٍ.
وَجُمْلَةُ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [النِّسَاء: ٤٥] تَذْيِيلٌ لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ ضَلَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُلْقِيَ الرَّوْعَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ كَانَ الْيَهُود المحاورون لِلْمُسْلِمِينَ ذَوِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ، وَبِيَدِهِمُ الْأَمْوَالُ، وَهُمْ مَبْثُوثُونَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا: مِنْ قَيْنُقَاعَ
72
وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَخَيْبَرَ، فَعَدَاوَتُهُمْ، وَسُوءُ نَوَايَاهُمْ، لَيْسَا بِالْأَمْرِ الَّذِي يُسْتَهَانُ بِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ:
وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، أَيْ إِذَا كَانُوا مُضْمِرِينَ لَكُمُ السُّوءَ فَاللَّهُ وَلِيُّكُمْ يَهْدِيكُمْ وَيَتَوَلَّى أُمُورَكُمْ شَأْنُ الْوَلِيِّ مَعَ مَوْلَاهُ، وَكَانَ قَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: بِأَعْدائِكُمْ، أَيْ فَاللَّهُ يَنْصُرُكُمْ.
وَفِعْلُ (كَفى) فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً مُسْتَعْمَلٌ فِي تَقْوِيَةِ اتِّصَافِ فَاعِلِهِ بِوَصْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّمْيِيزُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، أَيْ أَنَّ فَاعِلَ (كَفى) أَجْدَرُ مَنْ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَلِأَجْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا غَلَبَ فِي الْكَلَامِ إِدْخَالُ بَاءٍ عَلَى فَاعِلِ فِعْلِ كَفَى، وَهِيَ بَاءٌ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْكِفَايَةِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ إِبْهَامٌ يُشَوِّقُ السَّامِعَ إِلَى مَعْرِفَةِ تَفْصِيلِهِ، فَيَأْتُونَ بِاسْمٍ يُمَيِّزُ نَوْعَ تِلْكَ النِّسْبَةِ لِيَتَمَكَّنَ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.
وَقَدْ يَجِيءُ فَاعِلُ (كَفى) غَيْرَ مَجْرُورٍ بِالْبَاءِ، كَقَوْلِ عَبْدِ بَنِي الْحِسْحَاسِ:
كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ الْبَاءَ هُنَا غَيْرَ زَائِدَةٍ وَقَالَ: ضُمِّنَ فِعْلُ كَفَى مَعْنَى اكْتَفِ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ هِشَامٍ.
وَشَذَّتْ زِيَادَةُ الْبَاءِ فِي الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَوْ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ:
فَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرُنَا حُبُّ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا
وَجَزَمَ الْوَاحِدِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُتَنَبِّي:
كَفَى بِجِسْمِي نُحُولًا أَنَّنِي رَجُلٌ لَوْلَا مُخَاطَبَتِي إِيَّاكَ لَمْ تَرَنِي
بِأَنَّهُ شُذُوذٌ.
وَلَا تُزَادُ الْبَاءُ فِي فَاعِلِ كَفى بِمَعْنَى أَجْزَأَ، وَلَا الَّتِي بِمَعْنَى وَقَى، فَرْقًا بَيْنَ اسْتِعْمَالِ كَفَى الْمَجَازِيِّ وَاسْتِعْمَالِهَا الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الِاكْتِفَاءِ بِذَاتِ الشَّيْءِ نَحْوَ:
كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ من المَال
73

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٦]

مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا.
ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهِيَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِفَتُهُ وَهِيَ جُمْلَةُ يُحَرِّفُونَ وَالتَّقْدِيرُ: قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ.
وَحَذْفُ الْمُبْتَدَإِ فِي مِثْلِ هَذَا شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اجْتِزَاءً بِالصِّفَةِ عَنِ الْمَوْصُوفِ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ مَوْصُوفًا بِجُمْلَةٍ أَوْ ظَرْفٍ، وَكَانَ بَعْضَ اسْمٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ مِنَ، وَذَلِكَ الِاسْمُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُبْتَدَإِ. وَمِنْ كَلِمَاتِ الْعَرَبِ الْمَأْثُورَةِ قَوْلُهُمْ: «مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ» أَيْ مِنَّا فَرِيقٌ ظَعَنَ وَمِنَّا فَرِيقٌ أَقَامَ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ غَالِبٌ لَهُ وَآخَرُ يَذْرِي دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْهَمْلِ
أَيْ وَمِنْهُمْ فَرِيقٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْعَطْفِ وَآخَرُ. وَقَوْلُ تَمِيم بن مقيل:
وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ
وَقَدْ دَلَّ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ يُحَرِّفُونَ أَنَّ هَذَا صَنِيعُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ مِنَ الْيَهُودِ، وَلَعَلَّ قَائِلَ هَذَا يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ الْفَرِيقِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاحِدًا وَيُؤْتَى بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ إِخْفَاءٍ حَتَّى يَكُونَ عَلَى حَدِّ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ»
إِلَخْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا صِفَةً لِلَّذِينِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَتَكُونَ مِنَ بَيَانِيَّةً أَيْ هُمُ الَّذِينَ هَادُوا، فَتَكُونَ جُمْلَةُ يُحَرِّفُونَ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ هادُوا. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ أُثْبِتَتْ لَهُمْ أَوْصَافُ التَّحْرِيفِ وَالضَّلَالَةِ وَمَحَبَّةِ ضَلَالِ الْمُسْلِمِينَ.
74
وَالتَّحْرِيفُ: الْمَيْلُ بِالشَّيْءِ إِلَى الْحَرْفِ وَهُوَ جَانِبُ الشَّيْءِ وَحَافَّتُهُ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٣]، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَيْلِ عَنْ سَوَاءِ الْمَعْنَى وَصَرِيحِهِ إِلَى التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ، كَمَا يُقَالُ: تَنَكَّبَ عَنِ الصِّرَاطِ، وَعَنِ الطَّرِيقِ، إِذَا أَخْطَأَ الصَّوَابَ وَصَارَ إِلَى سُوءِ الْفَهْمِ أَوِ التَّضْلِيلِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا تَحْرِيفُ مُرَادِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَى تَأْوِيلَاتٍ بَاطِلَةٍ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فِي تَحْرِيفِ مَعَانِي الْقُرْآنِ
بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون التحريف مشقّا مِنَ الْحَرْفِ وَهُوَ الْكَلِمَةُ وَالْكِتَابَةُ، فَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ تَغْيِيرُ كَلِمَاتِ التَّوْرَاةِ وَتَبْدِيلُهَا بِكَلِمَاتٍ أُخْرَى لِتُوَافِقَ أَهْوَاءَ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ فِي تَأْيِيدِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ فَاسِدِ الْأَعْمَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدِ ارْتَكَبَهُ الْيَهُودُ فِي كِتَابِهِمْ. وَمَا يُنْقَلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّحْرِيفَ فَسَادُ التَّأْوِيلِ وَلَا يَعْمِدُ قَوْمٌ عَلَى تَغْيِيرِ كِتَابِهِمْ، نَاظِرٌ إِلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ اسْتِعْمَالُ عَنْ فِي قَوْلِهِ:
عَنْ مَواضِعِهِ مَجَازًا، وَلَا مُجَاوَزَةَ وَلَا مَوَاضِعَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ حَقِيقَةً إِذِ التَّحْرِيفُ حِينَئِذٍ نَقْلٌ وَإِزَالَةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ عَطْفٌ عَلَى يُحَرِّفُونَ ذُكِرَ سُوءُ أَفْعَالِهِمْ وَسُوء أَقْوَالهم، وَهِي أَقْوَالِهِمُ الَّتِي يُوَاجِهُونَ بهَا الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-: يَقُولُونَ سَمِعْنَا دَعْوَتَكَ وَعَصَيْنَاكَ، وَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِتَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ لِيَزُولَ طَمَعُ الرَّسُولِ فِي إِيمَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرَوْا فِي قَوْلِهِمْ هَذَا أَذًى لِلرَّسُولِ فَأَعْقَبُوهُ بِقَوْلِهِمْ لَهُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ إِظْهَارٌ لِلتَّأَدُّبِ مَعَهُ.
وَمَعْنَى اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مُرَاجَعَتِهِ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ:
اسْمَعْ مِنَّا، وَيُعَقِّبُونَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أَيْ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِأَنْ تَسْمَعَ، فِي مَعْنَى قَوْلِ الْعَرَبِ: (افْعَلْ غَيْرَ مَأْمُورٍ).
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا، فَلَعَلَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْمَعَهُ بِمَعْنَى سَبَّهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَتْ مَعْرُوفَةَ الْإِطْلَاقِ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالتَّلَطُّفِ.
إِطْلَاقًا مُتَعَارَفًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوهَا لِلرَّسُولِ أَرَادُوا بِهَا مَعْنًى آخَرَ انْتَحَلُوهُ لَهَا مِنْ شَيْءٍ يَسْمَحُ بِهِ تَرْكِيبُهَا الْوَضْعِيُّ، أَيْ أَنْ لَا يَسْمَعَ صَوْتًا من متكلّم. لِأَن يَصِيرَ أَصَمَّ، أَوْ
75
أَنْ لَا يُسْتَجَابَ دُعَاؤُهُ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا- إِلَى قَوْلِهِ:- اسْمَعْ وَانْظُرْنا فَأَزَالَ لَهُمْ كَلِمَةَ (غَيْرَ مُسْمَعٍ). وَقَصْدُهُمْ مِنْ إِيرَادِ كَلَامٍ ذِي وَجْهَيْنِ أَنْ يُرْضُوا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَيُرْضُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُوءِ نِيَّتِهِمْ مَعَ الرَّسُول- عَلَيْهِ السَّلَام- وَيُرْضُوا قَوْمَهُمْ، فَلَا يَجِدُوا عَلَيْهِمْ حُجَّةً.
وَقَوْلُهُمْ: وَراعِنا أَتَوْا بِلَفْظٍ ظَاهِرُهُ طَلَبُ الْمُرَاعَاةِ، أَيِ الرِّفْقِ، وَالْمُرَاعَاةُ مُفَاعَلَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّعْيِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ الشَّائِعَةِ الَّتِي سَاوَتِ الْأَصْلَ، ذَلِكَ لِأَنَّ الرَّعْيَ مِنْ لَوَازِمِهِ الرِّفْقُ بِالْمَرْعِيِّ، وَطَلَبُ الْخِصْبِ لَهُ، وَدَفْعُ الْعَادِيَةِ عَنْهُ. وَهُمْ يُرِيدُونَ بِ راعِنا كَلِمَةً فِي الْعِبْرَانِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الرُّعُونَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا كَلِمَةُ رَاعُونَا وَأَنَّ مَعْنَاهَا الرُّعُونَةُ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا، يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ
النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُتَابَعَتِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ اغْتِرَارًا فَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٤] : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا.
وَاللَّيُّ أَصْلُهُ الِانْعِطَافُ وَالِانْثِنَاءُ، وَمِنْهُ «وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ»، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ فِي كِلْتَا الْكَلِمَتَيْنِ: اللَّيُّ، وَالْأَلْسِنَةُ، أَيْ أَنَّهُمْ يُثْنُونَ أَلْسِنَتَهُمْ لِيَكُونَ الْكَلَامُ مُشْبِهًا لُغَتَيْنِ بِأَنْ يُشْبِعُوا حَرَكَاتٍ، أَوْ يَقْصُرُوا مُشْبَعَاتٍ، أَوْ يُفَخِّمُوا مُرَقَّقًا، أَوْ يُرَقِّقُوا مُفَخَّمًا، لِيُعْطِيَ اللَّفْظُ فِي السَّمْعِ صُورَةً تُشْبِهُ صُورَةَ كَلِمَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ قَدْ تَخْرُجُ كَلِمَةٌ مِنْ زِنَةٍ إِلَى زِنَةٍ، وَمِنْ لُغَةٍ إِلَى لُغَةٍ بِمِثْلِ هَذَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ (اللي) مجازه، وب (الْأَلْسِنَة) مَجَازُهُ: فَاللَّيُّ بِمَعْنَى تَغْيِيرِ الْكَلِمَةِ، وَالْأَلْسِنَةُ مَجَازٌ عَلَى الْكَلَامِ، أَيْ يَأْتُونَ فِي كَلَامِهِمْ بِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَمَحِّضٍ لِمَعْنَى الْخَيْرِ.
وَانْتَصَبَ «لَيًّا» عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ يَقُولُونَ، لِأَنَّ اللَّيَّ كَيْفِيَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْقَوْلِ.
وَانْتَصَبَ طَعْناً فِي الدِّينِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ بَعْضِ الْمَفَاعِيلِ عَلَى بَعْضٍ آخَرَ، وَلَا ضَيْرَ فِيهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُمَا مَعًا مَفْعُولَيْنِ مُطْلَقَيْنِ أَوْ مَفْعُولَيْنِ لِأَجْلِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ قَوْلُهُمْ (طَعْناً فِي الدِّينِ)، لِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا فِي كَلَامِهِمْ قَصْدًا خَبِيثًا فَكَانُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ، وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِيمَانِ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ رَسُولًا لَعَلِمَ مَا أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا، فَلِذَلِكَ فَضَحَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا.
76
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ لَوْ قَالُوا مَا هُوَ قَبُولٌ لِلْإِسْلَامِ لَكَانَ خيرا. وَقَوله: سَمِعْنا وَأَطَعْنا يُشْبِهُ أَنَّهُ مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ بِقَوْلِ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءٍ وَامْتَثَلَهُ «سَمْعٌ وَطَاعَةٌ»، أَيْ شَأْنِي سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَهُوَ مِمَّا الْتُزِمَ فِيهِ حَذْفُ الْمُبْتَدَإِ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ النُّورِ [٥١] قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا.
وَقَوْلُهُ: وَأَقْوَمَ تَفْضِيلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقِيَامِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْوُضُوحِ وَالظُّهُورِ، كَقَوْلِهِمْ: قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَذَا، وَقَامَتْ حُجَّةُ فُلَانٍ. وَإِنَّمَا كَانَ أَقْوَمَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى لَا احْتِمَالَ فِيهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، أَيْ وَلَكِنْ أَثَرُ اللَّعْنَةِ حَاقَ بِهِمْ فَحُرِمُوا مَا هُوَ خَيْرٌ فَلَا تَرْشَحُ نُفُوسُهُمْ إِلَّا بِآثَارِ مَا هُوَ كَمِينٌ فِيهَا من فعل سيّىء وَقَوْلٍ بَذَاءٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفَ أَنْفُسِهِمْ عَنْ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا فَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَأُطْلِقَ الْقِلَّةُ عَلَى الْعَدَمِ. وَفُسِّرَ بِهِ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا:
قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ كَثِيرُ الْهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالْمَسَالِكِ
قَالَ الْجَاحِظُ فِي «كِتَابِ الْبَيَانِ» عِنْدَ قَوْلِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ يَصِفُ أَرْضَ نَصِيبِينَ «كَثِيرَةُ الْعَقَارِبِ قَلِيلَةُ الْأَقَارِبِ»، يَضَعُونَ (قَلِيلًا) فِي مَوْضِعِ (لَيْسَ)، كَقَوْلِهِمْ:
فُلَانٌ قَلِيلُ الْحَيَاءِ. لَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ هُنَاكَ حَيَاءً وَإِنْ قَلَّ». قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: قَلَّ رَجُلٌ يَقُولُ ذَلِكَ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ» «وَالْمَعْنَى نَفْيُ التَّذْكِيرِ. وَالْقِلَّةُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ». وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ الْقِلَّةَ عِوَضًا عَنِ النَّفْيِ لِضَرْبٍ مِنَ الِاحْتِرَازِ وَالِاقْتِصَادِ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَخْشَى أَنْ يُتَلَقَّى عُمُومُ نَفْيِهِ بِالْإِنْكَارِ فَيَتَنَازَلُ عَنْهُ إِلَى إِثْبَاتِ قَلِيلٍ وَهُوَ يُرِيد النَّفْي.
77

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٧]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧)
أَقْبَلَ عَلَى خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أُرِيدَ بِهِمُ الْيَهُودُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِنْ عَجَائِبِ ضَلَالِهِمْ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، مَا فِيهِ وَازِعٌ لَهُمْ لَوْ كَانَ بِهِمْ وَزْعٌ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقُرْآنِ أَنْ لَا يُفْلِتَ فُرْصَةً تَعِنُّ مِنْ فُرَصِ الْمَوْعِظَةِ وَالْهُدَى إِلَّا انْتَهَزَهَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ النَّاصِحِينَ مِنَ الْحُكَمَاءِ وَالْخُطَبَاءِ أَنْ يَتَوَسَّمُوا أَحْوَالَ تَأَثُّرِ نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ وَمَظَانِّ ارْعِوَائِهَا عَنِ الْبَاطِلِ، وَتَبَصُّرِهَا فِي الْحَقِّ، فَيُنْجِدُوهَا حِينَئِذٍ بِقَوَارِعِ الْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ (١١) إِذْ قَالَ: «فَلَمَّا أَلْحَدُوا الْمَيْتَ، وَفَاتَ قَوْلُ لَيْتَ، أَشْرَفَ شَيْخٌ مِنْ رِبَاوَةْ، مُتَأَبِّطًا لِهِرَاوَةْ، فَقَالَ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ» إِلَخْ، لِذَلِكَ جِيءَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ الْآيَةَ- عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ-.
وَهَذَا مُوجِبُ اخْتِلَافِ الصِّلَةِ هُنَا عَنِ الصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [آل عمرَان: ٢٣] لِأَنَّ ذَلِكَ جَاءَ فِي مَقَامِ التَّعْجِيبِ وَالتَّوْبِيخِ فَنَاسَبَتْهُ صِلَةٌ مُؤْذِنَةٌ بِتَهْوِينِ شَأْنِ عِلْمِهِمْ بِمَا أُوتُوهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَمَا هُنَا جَاءَ فِي مَقَامِ التَّرْغِيبِ فَنَاسَبَتْهُ صِلَةٌ تُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ شُرِّفُوا بِإِيتَاءِ التَّوْرَاةِ لِتُثِيرَ هِمَمَهُمْ لِلِاتِّسَامِ بِمِيسَمِ الرَّاسِخِينَ فِي جَرَيَانِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى وَفْقِ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَ الصِّلَتَيْنِ اخْتِلَافٌ فِي الْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ
حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ جَرَيَانِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى خِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ كِتَابُهُمْ، فَالَّذِي لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ مِنْهُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْهُ.
وَجِيءَ بِالصِّلَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: بِما نَزَّلْنا وَقَوْلِهِ: «بِمَا مَعَكُمْ» دُونَ الِاسْمَيْنِ الْعَلَمَيْنِ، وَهُمَا: الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ: لِمَا فِي قَوْلِهِ: بِما نَزَّلْنا مِنَ التَّذْكِيرِ بِعِظَمِ شَأْنِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِإِنْزَالِ اللَّهِ، وَلِمَا فِي قَوْلِهِ: لِما مَعَكُمْ مِنَ التَّعْرِيضِ بِهِمْ فِي أَنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابٌ مُسْتَصْحَبٌ عِنْدَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ حَقَّ عِلْمِهِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الْجُمُعَة: ٥].
78
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً تَهْدِيدٌ أَوْ وَعِيدٌ، وَمَعْنَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ أَيْ آمِنُوا فِي زمن يبتدىء مِنْ قَبْلِ الطَّمْسِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ زَمَنِ الطَّمْسِ عَلَى الْوُجُوهِ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْحَمْلَ عَلَى حَقِيقَةِ الطَّمْسِ بِأَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا يُفْسِدُ بِهِ مُحَيَّاهُمْ فَإِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الطَّمْسُ مَجَازًا عَلَى إِزَالَةِ مَا بِهِ كَمَالُ الْإِنْسَانِ مِنِ اسْتِقَامَةِ الْمَدَارِكِ فَإِنَّ الْوُجُوهَ مَجَامِعُ الْحَوَاسِّ.
وَالتَّهْدِيدُ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُهَدَّدِ بِهِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ»
. وَأَصْلُ الطَّمْسِ إِزَالَةُ الْآثَارِ الْمَاثِلَةِ. قَالَ كَعْبٌ:
عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ وَقَدْ يُطْلَقُ الطَّمْسُ مَجَازًا عَلَى إِبْطَالِ خَصَائِصِ الشَّيْءِ الْمَأْلُوفَةِ مِنْهُ. وَمِنْهُ طَمْسُ الْقُلُوبِ أَيْ إِبْطَالُ آثَارِ التَّمَيُّزِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها عَطْفٌ لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ لَا لِلتَّسَبُّبِ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحْصُلَ الْأَمْرَانِ: الطَّمْسُ وَالرَّدُّ عَلَى الْأَدْبَارِ، أَيْ تَنْكِيسُ الرُّؤُوسِ إِلَى الْوَرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الطَّمْسُ هُنَا مَجَازًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَهُوَ وَعِيدٌ بِزَوَالِ وَجَاهَةِ الْيَهُودِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَرَمْيِهِمْ بِالْمَذَلَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا هُنَاكَ أَعِزَّةً ذَوِي مَالٍ وَعُدَّةٍ، فَقَدْ كَانَ مِنْهُمُ السَّمَوْأَلُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَمِنْهُمْ أَبُو رَافِعٍ تَاجِرُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَمِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، سَيِّدُ جِهَتِهِ فِي عَصْرِ الْهِجْرَةِ.
وَالرَّدُّ عَلَى الْأَدْبَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا بِمَعْنَى الْقَهْقَرَى، أَيْ إِصَارَتُهُمْ إِلَى بِئْسَ الْمَصِيرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَة وَهُوَ ردّ هم مِنْ حَيْثُ أَتَوْا، أَيْ
إِجْلَاؤُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ إِلَى الشَّامِ.
وَالْفَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّسَبُّبِ مَعًا، وَالْكَلَامُ وَعِيدٌ، وَالْوَعِيدُ حَاصِلٌ، فَقَدْ رَمَاهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، ثُمَّ أَجْلَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَذَرِعَاتَ.
79
وَقَوْلُهُ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أُرِيدَ بِاللَّعْنِ هُنَا الْخِزْيُ، فَهُوَ غَيْرُ الطَّمْسِ، فَإِنْ كَانَ الطَّمْسُ مُرَادًا بِهِ الْمَسْخُ فَاللَّعْنُ مُرَادٌ بِهِ الذُّلُّ، وَإِنْ كَانَ الطَّمْسُ مُرَادًا بِهِ الذُّلُّ فَاللَّعْنُ مُرَادٌ بِهِ الْمَسْخُ.
وأَصْحابَ السَّبْتِ هُمُ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة الْبَقَرَة.
[٤٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٨]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَهْدِيدِ الْيَهُودِ بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا، فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِتَرْغِيبِ الْيَهُودِ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ بِحَيْثُ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ حُصُولِ إِيمَانِهِمْ، وَلَوْ كَانَ عَذَابُ الطَّمْسِ نَازِلًا عَلَيْهِمْ، فَالْمُرَادُ بِالْغُفْرَانِ التَّجَاوُزُ فِي الدُّنْيَا عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ لَهُمْ بِعِظَمِ كُفْرِهِمْ وذنوبهم، أَي يرفع الْعَذَابَ عَنْهُمْ. وَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ تَهْدِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا يَحِلُّ بِهِمْ فَلَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يُونُسَ: ٩٨] الْآيَةَ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ آمِنُوا بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ، لِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ مَا دُونُ الْإِشْرَاكِ بِهِ، كَقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: ٣٣]، أَيْ لِيُعَذِّبَهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٣٤]، أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ عذابل الْجُوعِ وَالسَّيْفِ. وَقَوْلُهُ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ [الدُّخان: ١٠، ١١]، أَيْ دُخَانُ عَامِ الْمَجَاعَةِ فِي قُرَيْشٍ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٥، ١٦] أَيْ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْغُفْرَانِ التَّسَامُحَ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ قَبِلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الدُّخُولَ تَحْتَ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ دُونَ الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يَرْضَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ دُونَ الْجِزْيَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ-
80
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ
[التَّوْبَة: ٥]. وَقَالَ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَة: ٢٩].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ قَوَارِعِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَوَاعِظِهِمْ، فَيَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ لِقَصْدِ دَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ أَوِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَعِيدِ، وَهُوَ إِمَّا تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ لِتَشْنِيعِ جُرْمِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ لِيَكُونَ تَمْهِيدًا لِتَشْنِيعِ حَالِ الَّذِينَ فَضَّلُوا الشِّرْكَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِظْهَارًا لِمِقْدَارِ التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمُ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّسَاء: ٥١]، أَيْ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ بِحَالِ مَنْ لَا يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُ. وَالْمَغْفِرَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى التَّجَاوُزِ الدُّنْيَوِيِّ، وَعَلَى مَعْنَى التَّجَاوُزِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ تَعْلِيمِ حِكَمٍ فِي مَغْفِرَةِ ذُنُوبِ الْعُصَاةِ: ابْتُدِئَ بِمُحْكَمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَذُيِّلَ بِمُتَشَابِهٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَالْمَغْفِرَةُ مُرَادٌ مِنْهَا التَّجَاوُزُ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ «فَهَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ» وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أُمُورًا مُشْكَلَةً:
الأول: أنّ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَغْفِرُ الْكُفْرَ الَّذِي لَيْسَ بِشِرْكٍ كَكُفْرِ الْيَهُودِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَغْفِرُ لِمُرْتَكِبِ الذُّنُوبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ لَا يَغْفِرُ لِلْكَافِرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ وَلِلْمُذْنِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، لِأَنَّهُ وَكَّلَ الْغُفْرَانَ إِلَى الْمَشِيئَةِ، وَهِيَ تُلَاقِي الْوُقُوعَ وَالِانْتِفَاءَ. وَكُلُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ قَدْ جَاءَتِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَظَافِرَةُ عَلَى خِلَافِهَا، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مُخَالَفَةِ ظَاهِرِهَا، فَكَانَتِ الْآيَةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْحَاكِمَةُ بِبَيَانِ مَا تَعَارَضَ مِنْ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَتَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنْ يُقَالَ: النَّاسُ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: كَافِرٌ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَهَذَا مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ بِإِجْمَاعٍ، وَمُؤْمِنٌ مُحْسِنٌ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ مَحْتُومٌ عَلَيْهِ حسب الْوَعْد فِي اللَّهِ بِإِجْمَاعٍ وَتَائِبٌ مَاتَ عَلَى تَوْبَتِهِ فَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِ فُقَهَاء الأمّة لَا حق بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِ، وَمُذْنِبٌ مَاتَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ
81
الْخِلَافِ:
فَقَالَتِ الْمُرْجِئَةُ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ بِإِيمَانِهِ وَلَا تَضُرُّهُ سَيِّئَاتُهُ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ كُلَّهَا مُخَصَّصَةً بِالْكُفَّارِ وَآيَاتِ الْوَعْدِ عَامَّةً فِي الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِذَا كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ فَهُوَ فِي
النَّارِ لَا مَحَالَةَ وَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: إِذَا كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ فَهُوَ فِي النَّارِ مُخَلَّدٌ وَلَا إِيمَانَ لَهُ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعْدِ كُلَّهَا مُخَصَّصَةً بِالْمُؤْمِنِ الْمُحْسِنِ وَالْمُؤْمِنِ التَّائِبِ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ عَامَّةً فِي الْعُصَاةِ كُفَّارًا أَوْ مُؤْمِنِينَ وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: آيَاتُ الْوَعْدِ ظَاهِرَةُ الْعُمُومِ وَلَا يَصِحُّ نُفُوذُ كُلِّهَا لِوَجْهِهِ بِسَبَبِ تَعَارُضِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [اللَّيْل: ١٥، ١٦] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنّ: ٢٣]، فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ آيَاتِ الْوَعْدِ لَفْظُهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ:
فِي الْمُؤْمِنِ الْمُحْسِنِ، وَفِيمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَفْوُ عَنْهُ دُونَ تَعْذِيبٍ مِنَ الْعُصَاةِ، وَأَنَّ آيَاتِ الْوَعِيدِ لَفْظُهَا عُمُومٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي الْكَفَرَةِ، وَفِيمَنْ سَبَقَ عِلْمُهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُعَذِّبُهُ مِنَ الْعُصَاةِ. وَآيَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ جَلَتِ الشَّكَّ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ مُبْطِلٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَقَوْلَهُ: لِمَنْ يَشاءُ رادّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ غُفْرَانَ مَا دُونُ الشِّرْكِ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ». وَلَعَلَّهُ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى تَأْوِيلِ الشِّرْكِ بِهِ بِمَا يَشْمَلُ الْكُفْرَ كُلَّهُ، أَوْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ أَشْرَكُوا فَقَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى أَشْرَكُوا فَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ فَخْرُ الدِّينِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ.
فَالْإِشْرَاكُ لَهُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْكَفْرُ دُونَهُ لَهُ مَعْنَاهُ.
وَالْمُعْتَزِلَةُ تَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» : بِأَنَّ قَوْلَهُ لِمَنْ يَشاءُ مَعْمُولٌ يَتَنَازَعُهُ لَا يَغْفِرُ الْمَنْفِيُّ وَيَغْفِرُ الْمُثْبِتُ. وَتَحْقِيقُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيَصِيرُ مَعْنَى لَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ الْمَغْفِرَةَ لَهُ إِذْ لَوْ شَاءَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ لَغَفَرَ لَهُ، لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ الْمُمْكِنَ لَا يَمْنَعُهَا شَيْءٌ، وَهِيَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ، فَلَمَّا قَالَ: لَا يَغْفِرُ علمنَا أنّ (لِمَنْ يَشاءُ) مَعْنَاهُ لَا يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْ فَأَعْرِفُكَ فَاعِلًا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ تَعَسُّفٌ بَيِّنٌ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ تَأْوِيلَ الْخَوَارِجِ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَتَأَوَّلُوا بِمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ مَفْعُولَ لِمَنْ يَشاءُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، أَيْ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
82
الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ الْإِيمَانَ، أَيْ لِمَنْ آمَنَ، وَهِيَ تَعَسُّفَاتٌ تُكْرِهُ الْقُرْآنَ عَلَى خِدْمَةِ مَذَاهِبِهِمْ.
وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، إِنْ كَانَتْ مُرَادًا بِهَا الْإِعْلَامُ بِأَحْوَالِ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ فَهِيَ آيَةٌ اقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَهْوِيلُ شَأْنِ الْإِشْرَاكِ، وَأُجْمِلَ مَا عَدَاهُ إِجْمَالًا عَجِيبًا، بِأَنْ أُدْخِلَتْ صُوَرُهُ كُلُّهَا فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَشاءُ الْمُقْتَضِي مَغْفِرَةً لِفَرِيقٍ مُبْهَمٍ وَمُؤَاخَذَةً لِفَرِيقٍ
مُبْهَمٍ. وَالْحِوَالَةُ فِي بَيَانِ هَذَا الْمُجْمَلِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى الْمُسْتَقْرَاةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ نَسَخَ مَا تَضَمَّنَتْهُ، وَلَا يَهُولُنَا أَنَّهَا خَبَرٌ لِأَنَّهَا خَبَرٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ مُعْظَمِ الْقُرْآنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَهَا، وَبِذَلِكَ يَسْتَغْنِي جَمِيعُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّعَسُّفِ فِي تَأْوِيلِهَا كُلٌّ بِمَا يُسَاعِدُ نِحْلَتَهُ، وَتُصْبِحُ صَالِحَةً لِمَحَامِلِ الْجَمِيعِ، وَالْمَرْجِعُ فِي تَأْوِيلِهَا إِلَى الْأَدِلَّةِ الْمُبَيِّنَةِ، وَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ حمل الْإِشْرَاك على مَعْنَاهُ الْمُتَعَارف فِي الْقُرْآن والشريعة الْمُخَالف لِمَعْنى التَّوْحِيد، خلاف تَأْوِيل الشَّافِعِي الْإِشْرَاكِ بِمَا يَشْمَلُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَلَعَلَّهُ نَظَرَ فِيهِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَحْرِيمِ تَزَوُّجِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ بِأَنَّهُمَا مُشْرِكَتَانِ.. وَقَالَ: أَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِنْ أَن يدعى الله ابْنٌ.
وَأَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ صَرِيحَةٌ فِي اخْتِلَافِ مَفْهُومِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَكَوْنُ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، لَا يَقْتَضِي جَعْلَهُمْ مُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَدَّعُوَا مَعَ ذَلِكَ لِهَذَيْنِ إِلَهِيَّةً تُشَارِكُ اللَّهَ تَعَالَى، وَاخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ بَيْنَ الْكُفْرَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَفْهُومُ مُطْلَقِ الْكُفْرِ، عَلَى أَنَّهُ مَاذَا يُغْنِي هَذَا التَّأْوِيلُ إِذَا كَانَ بَعْضُ الْكَفَرَةِ لَا يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ مِثْلَ مُعْظَمِ الْيَهُودِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ، أَيِ الْإِيمَانَ، يُوجِبُ مَغْفِرَتَهُ سَوَاءٌ كَانَ كُفْرَ إِشْرَاكٍ أَمْ كُفْرًا بِالْإِسْلَامِ، لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، إِمَّا بِوَعْدِ اللَّهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ مُطْلَقًا لَا يُغْفَرُ بِلَا شَكٍّ. إِمَّا بِوَعِيدِ اللَّهِ، أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ وَأَنَّ الْمُذْنِبَ إِذَا تَابَ يُغْفَرُ ذَنْبُهُ قَطْعًا، إِمَّا بِوَعْدِ اللَّهِ أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُذْنِبِ إِذَا مَاتَ عَلَى ذَنْبِهِ وَلَمْ يَتُبْ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا يُغَطِّي عَلَى ذُنُوبِهِ، فَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: يُعَاقَبُ وَلَا يُخَلَّدُ فِي الْعَذَابِ بِنَصِّ الشَّرِيعَةِ، لَا بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَشِيئَةِ، فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ وَعَرَّفَنَا مَشِيئَتَهُ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
83
وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ: هُوَ فِي النَّارِ خَالِدًا بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ. وَقَالَ الْمُرْجِئَةُ: لَا يُعَاقَبُ بِحَالٍ، وَكُلُّ هَاتِهِ الْأَقْسَامِ دَاخِلٌ فِي إِجْمَالِ لِمَنْ يَشاءُ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً زِيَادَةٌ فِي تَشْنِيعِ حَالِ الشِّرْكِ.
وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِلْكَاذِبِ فِيهِ. لِأَنَّهُ مشتقّ من الْقرى، وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدِ.
وَهَذَا مِثْلُ مَا أَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ الِاخْتِلَاقِ مِنَ الْخَلْقِ. وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَالْإِثْمُ الْعَظِيمُ: الْفَاحِشَة الشَّدِيدَة.
[٤٩، ٥٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٤٩ إِلَى ٥٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)
تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ الْيَهُودِ إِذْ يَقُولُونَ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: ١٨] وَقَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [الْبَقَرَة: ١١١] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ إِدْلَالِهِمُ الْكَاذِبِ.
وَقَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِهِمْ بِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ، وَهُوَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يَنْفَعُ أَحَدًا أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ. وَفِي تَصْدِيرِ الْجُمْلَةِ بِ (بَلْ) تَصْرِيحٌ بِإِبْطَالِ تَزْكِيَتِهِمْ. وَأَنَّ الَّذِينَ زَكَّوْا أَنْفُسَهُمْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي تَزْكِيَةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ تَزْكِيَتَهُ، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ (بَلْ) فَقِيلَ واللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ لَكَانَ لَهُمْ مَطْمَعٌ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ زَكَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَعْنَى وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْرِمْهُمْ مَا هُمْ بِهِ أَحْرِيَاءُ، وَأَنَّ تَزْكِيَةَ اللَّهِ غَيْرَهُمْ لَا تُعَدُّ ظُلْمًا لَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا.
وَالْفَتِيلُ: شِبْهُ خَيْطٍ فِي شِقِّ نَوَاةِ التَّمْرَةِ. وَقَدْ شَاعَ اسْتِعَارَتُهُ لِلْقِلَّةِ إِذْ هُوَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا لَهُ مَرْأًى وَاضِحٌ.
وَانْتَصَبَ فَتِيلًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، لِأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: ظُلْمًا كَالْفَتِيلِ، أَيْ بِقَدْرِهِ، فَحُذِفَتْ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النِّسَاء: ٤٠].
وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ جَعَلَ افْتِرَاءَهُمُ الْكَذِبَ، لِشَدَّةِ تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، كَأَنَّهُ أَمْرٌ مَرْئِيٌّ يَنْظُرُهُ النَّاسُ بِأَعْيُنِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا يُسْمَعُ وَيُعْقَلُ، وَكَلِمَةُ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً نِهَايَةٌ فِي بُلُوغِهِ غَايَةَ الْإِثْمِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ تَرْكِيبُ (كَفَى بِهِ كَذَا)، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي (كَفَى) عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [الْفَتْح: ٢٨].
[٥١، ٥٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢)
أُعِيدَ التَّعْجِيبُ مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، بِمَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ حَالِهِمُ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [النِّسَاء: ٤٤] فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَتَصْوِيبَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ تَبَاعُدٌ مِنْهُمْ عَنْ أُصُولِ شَرْعِهِمْ بِمَرَاحِلَ شَاسِعَةٍ، لِأَنَّ أَوَّلَ قَوَاعِدِ التَّوْرَاةِ وَأُولَى كَلِمَاتِهَا الْعَشْرِ هِيَ (لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي، لَا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ). وَتَقَدَّمَ بَيَانُ تَرْكِيبِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ آنِفًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٣].
وَالْجِبْتُ: كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ مِنَ الْحَبَشِيَّةِ، أَيِ الشَّيْطَانُ وَالسِّحْرُ لِأَنَّ مَادَّةَ: ج- ب- ت مُهْمَلَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ دَخِيلَةً. وَقِيلَ: أَصْلُهَا جِبْسٌ: وَهُوَ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، فَأُبْدِلَتِ السِّينُ تَاءً كَمَا أُبْدِلَتْ فِي قَوْلِ عِلْبَاءَ بْنِ أَرْقَمَ:
يَا لَعَنَ اللَّهُ بَنِي السَّعْلَاتِ، وَعَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ، لَيْسُوا أَعِفَّاءَ وَلَا أَكْيَاتِ، أَيْ شِرَارُ النَّاسِ وَلَا بِأَكْيَاسٍ. وَكَمَا قَالُوا: الْجَتُّ بِمَعْنَى الْجَسِّ.
85
وَالطَّاغُوتُ: الْأَصْنَامُ كَذَا فَسَّرَهُ الْجُمْهُورُ هُنَا وَنُقِلَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ فَيُقَالُ: لِلصَّنَمِ طَاغُوتٌ وَلِلْأَصْنَامِ طَاغُوتٌ، فَهُوَ نَظِيرُ طِفْلٍ وَفُلْكٍ.
وَلَعَلَّ الْتِزَامَ اقْتِرَانِهِ بِلَامِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ هُوَ الَّذِي سَوَّغَ إِطْلَاقَهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ نَظِيرَ الْكِتَابِ وَالْكُتُبِ. ثُمَّ لَمَّا شَاعَ ذَلِكَ طَرَّدُوهُ حَتَّى فِي حَالَةِ تَجَرُّدِهِ عَنِ اللَّامِ، قَالَ تَعَالَى:
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النِّسَاء: ٦٠] فَأَفْرَدَهُ، وَقَالَ:
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر: ١٧]، وَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٥٧] إِلَخْ. وَهَذَا الِاسْمُ مُشْتَقٌّ مَنْ طَغَى يَطْغُو إِذَا تَعَاظَمَ وَتَرَفَّعَ، وَأَصْلُهُ مَصَدْرٌ بِوَزْنِ فَعَلُوتٍ لِلْمُبَالَغَةِ، مِثْلُ: رَهَبُوتٍ، وَمَلَكُوتٍ، وَرَحَمُوتٍ، وَجَبَرُوتٍ، فَأَصْلُهُ طَغْوُوتٌ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبُ مَكَانِيٌّ بِتَقْدِيمِ لَامِ الْكَلِمَةِ عَلَى عَيْنِهَا فَصَارَ طَوَغُوتٌ بِوَزْنِ فَلَعُوتٍ، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ تَأَتِّي إِبْدَالِ الْوَاوِ أَلِفًا بِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَهُمْ قَدْ يَقْلِبُونَ حُرُوفَ الْكَلِمَةِ لِيَتَأَتَّى الْإِبْدَالُ كَمَا قَلَبُوا أَرْءَامَ جَمْعَ رِيمٍ إِلَى آرَامَ لِيَتَأَتَّى إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ السَّاكِنَةِ أَلِفًا بَعْدَ الْأُولَى الْمَفْتُوحَةِ، وَقَدْ يُنْزِلُونَ هَذَا الِاسْمَ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ فَيَجْمَعُونَهُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ عَلَى طَوَاغِيتَ وَوَزْنُهُ فَعَالِيلُ،
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِيتِ»
. وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ الطَّاغُوتُ عَلَى عَظِيمِ أَهْلِ الشِّرْكِ كَالْكَاهِنِ، لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهُ لِأَجْلِ
أَصْنَامِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ فِي هَذِه السُّورَة [النِّسَاء: ٦٠].
وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْيَهُودِ، وَفِيهِمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ طَمِعُوا أَنْ يَسْعَوْا فِي اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ لِيُحَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ كَعْبٌ عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ، وَنَزَلَ بَقِيَّتُهُمْ فِي دُورِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ (أَنْتُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَلَعَلَّكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَدْنَى إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعِهِ مِنْكُمْ إِلَيْنَا فَلَا نَأْمَنُ مَكْرَكُمْ) فَقَالُوا لَهُمْ (إِنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ أَرْضَى عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَأَنْتُمْ أَهْدَى سَبِيلًا) فَقَالَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ (فَاسْجُدُوا لِآلِهَتِنَا حَتَّى نَطْمَئِنَّ إِلَيْكُمْ) فَفَعَلُوا، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِعْلَامًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِمَا بَيَّتَهُ الْيَهُودُ وَأَهْلُ مَكَّةَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ يَقُولُونَ لِأَجْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَيْسَ لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، وَأُرِيدَ بِهِمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَذَلِكَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ صِفَةِ الْكُفْرِ
86
أَنَّهُ الشِّرْكُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هؤُلاءِ أَهْدى إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَهُوَ حِكَايَةٌ لِلْقَوْلِ بِمَعْنَاهُ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا: «أَنْتُمْ أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ»، أَوْ قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ لِبَعْضٍ فِي شَأْنِ أَهْلِ مَكَّةَ هؤُلاءِ أَهْدى، أَيْ حِينَ تَنَاجَوْا وَزَوَّرُوا مَا سَيَقُولُونَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ بِالْمَعْنَى نِدَاءً عَلَى غَلَطِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا: «هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعِهِ» وَإِذْ كَانَ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ مُؤْمِنِينَ فَقَدْ لَزِمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا مَحَلُّ التَّعْجِيبِ.
وَعَقَّبَ التَّعْجِيبَ بُقُولِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ هُنَا فِي نِهَايَةِ الرَّشَاقَةِ، لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مِنْ وَصْفِ حَالِهِ هَذَا الْمَبْلَغَ صَارَ كَالْمُشَاهَدِ، فَنَاسَبَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ أَنْ يُشَارَ إِلَى هَذَا الْفَرِيقِ الْمُدَّعَى أَنَّهُ مَرْئِيٌّ، فَيُقَالُ: (أُولَئِكَ). وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا سَيُذْكَرُ مِنَ الْحُكْمِ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.
وَالصِّلَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لَيْسَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ اتِّصَافُ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِهَا اتِّصَافَ مَنِ اشْتُهِرَ بِهَا فَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ إِنْ سَمِعْتُمْ بِقَوْمٍ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَهُمْ هُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْيَهُودَ مَلْعُونُونَ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الصِّلَةِ هُوَ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. وَالْمَوْصُولُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْلِيلِ الْإِخْبَارِ الضِّمْنِيِّ عَنْهُمْ: بِأَنَّهُمْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَالَّذِي
يَلْعَنُهُ لَا نَصِيرَ لَهُ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [النِّسَاء: ٤٥].
87

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٥٣ إِلَى ٥٥]

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
(أَمْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَهِيَ تُؤْذِنُ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةٍ بَعْدَهَا، أَيْ: بَلْ أَلَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَلَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيُّ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّفْيِ. وَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ عَلَى جُمْلَةِ لَهُمْ نَصِيبٌ وَكَذَلِكَ (فَإِذاً) هِيَ جَزَاءٌ لِجُمْلَةِ لَهُمْ نَصِيبٌ، وَاعْتُبِرَ الِاسْتِفْهَامُ دَاخِلًا عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَةِ وَجَزَائِهَا مَعًا لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِي إِعْطَاؤُهُمُ النَّاسَ نَقِيرًا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمُلْكِ لَهُمْ لَا عَلَى انْتِفَائِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ تَهَكُّمٌ عَلَيْهِمْ فِي انتظارهم هُوَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مُلْكُ إِسْرَائِيلَ، وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِالْبُخْلِ الَّذِي لَا يُؤَاتِي مَنْ يَرْجُونَ الْمُلْكَ. كَمَا قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْبُسْتِيُّ:
إِذَا مَلِكٌ لَمْ يَكُنْ ذَا هِبَهْ فَدَعْهُ فَدَوْلَتُهُ ذَاهِبَهْ
وَشُحُّهُمْ وَبُخْلُهُمْ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ.
وَالنَّقِيرُ: شَكْلَةٌ فِي النَّوَاةِ كَالدَّائِرَةِ، يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْقِلَّةِ.
وَلذَلِك عَقَّبَ هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) هَذِهِ إِنْكَارٌ عَلَى حَسَدِهِمْ، وَلَيْسَ مُفِيدًا لِنَفْيِ الْحَسَدِ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفضل النبوءة، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَالْفضل الْهدى بِالْإِيمَان.
وَقَوْلُهُ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، توجيها لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، أَيْ فَلَا بِدْعَ فِيمَا حَسَدُوهُ إِذْ قَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالْمُلْكَ.
وَآل إِبْرَاهِيمَ: أَبْنَاؤُهُ وَعَقِبُهُ وَنَسْلُهُ، وَهُوَ دَاخل فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أُعْطُوهُ لِأَجْلِ كَرَامَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ. وَتَعْرِيفُ (الْكِتَابِ) : تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَيَصْدُقُ
بِالْمُتَعَدِّدِ، فَيَشْمَلُ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ، وَصُحُفَ مُوسَى، وَمَا أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِك. وَالْحكمَة:
النبوءة، وَالْمُلْكُ: هُوَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يُعْطِيَهُ ذُرِّيَّتَهُ وَمَا آتى الله دَاوُود وَسُلَيْمَانَ وَمُلُوكَ إِسْرَائِيلَ.
وَضَمِيرُ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يَحْسُدُونَ. وَضَمِيرُ بِهِ يَعُودُ إِلَى النَّاسِ الْمُرَادِ مِنْهُ محمّد- عَلَيْهِ السَّلَام-: أَيْ فَمِنَ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ. وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ عَلَى هَذَا التَّفْسِير ناشيء عَلَى قَوْلِهِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ فَمِنْهُمْ إِلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَضَمِيرُ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، أَيْ فَقَدْ آتَيْنَاهُمْ مَا ذُكِرَ. وَمِنْ آلِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ مِثْلَ أَبِيهِ آزَرَ، وَامْرَأَةِ ابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ، أَيْ فَلَيْسَ تَكْذِيبُ الْيَهُودِ مُحَمَّدًا بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا [الْإِسْرَاء: ٧٧]، لِيَكُونَ قَدْ حَصَلَ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَمْرَيْنِ فِي إِبْطَالِ مُسْتَنَدِ تَكْذِيبِهِمْ بِإِثْبَاتِ أنّ إتْيَان النبوءة لَيْسَ بِبِدْعٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَيْسَ إِرْسَالُهُ بِأَعْجَبَ مِنْ إِرْسَالِ مُوسَى. وَفِي تَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى لَا يَعُدُّوا تَكْذِيبَهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلمة فِي نبوءته، إِذْ لَا يعرف رَسُولا أَجْمَعَ أَهْلُ دَعْوَتِهِ عَلَى تَصْدِيقِهِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَمَنْ بَعْدَهُ.
وَقَوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِلَّذِينِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ.
وَتَفْسِيرُ هَذَا التَّرْكِيب تقدّم آنِفا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا مِنْ هَذِه السُّورَة [النِّسَاء:
٤٥].
[٥٦، ٥٧]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَافِرِينَ، فَهِيَ أَعَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا، فَلَهَا حُكْمُ التَّذْيِيلِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالْإِصْلَاءُ: مَصْدَرُ أَصْلَاهُ، وَيُقَالُ: صَلَاهُ صَلْيًا، وَمَعْنَاهُ شَيُّ اللَّحْمِ عَلَى النَّارِ،
89
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى (صَلَى) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النِّسَاء: ١٠] وَقَوْلُهُ:
فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا فِي هَذِه السُّورَة [النِّسَاء: ٣٠]، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى (سَوْفَ) فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ. ونُصْلِيهِمْ- بِضَمِّ النُّونِ- مِنَ الْإِصْلَاءِ. ونَضِجَتْ بلغت نِهَايَة الشّيء، يُقَالُ: نَضِجَ الشِّوَاءُ إِذَا بلغ حدّ الشّيء، وَيُقَالُ: نَضِجَ الطَّبِيخُ إِذَا بَلَغَ حَدَّ الطَّبْخِ. وَالْمَعْنَى:
كُلَّمَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا حَيَاةٌ وَإِحْسَاسٌ. بَدَّلْنَاهُمْ، أَيْ عَوَّضْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا،
وَالتَّبْدِيلُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى [الْبَقَرَة: ٦١]. فَقَوْلُهُ: غَيْرَها تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ التَّبْدِيلِ. وَانْتَصَبَ نَارًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَعْطَى.
وَقَوْلُهُ: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: بَدَّلْناهُمْ لِأَنَّ الْجِلْدَ هُوَ الَّذِي يُوَصِّلُ إِحْسَاسَ الْعَذَابِ إِلَى النَّفْسِ بِحَسَبِ عَادَةِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ لَمْ يُبَدَّلِ الْجِلْدُ بَعْدَ احْتِرَاقِهِ لَمَا وَصَلَ عَذَابُ النَّارِ إِلَى النَّفْسِ. وَتَبْدِيلُ الْجِلْدِ مَعَ بَقَاءِ نَفْسِ صَاحِبِهِ لَا يُنَافِي الْعَدْلَ لِأَنَّ الْجِلْدَ وَسِيلَةُ إِبْلَاغِ الْعَذَابِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بالتعذيب، ولأنّه ناشىء عَنِ الْجِلْدِ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ إِعَادَةَ الْأَجْسَامِ فِي الْحَشْرِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِهَا لَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ أُنَاسًا غَيْرَ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لِأَنَّهَا لَمَّا أُودِعَتِ النُّفُوسُ الَّتِي اكْتَسَبَتِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَقَدْ صَارَتْ هِيَ هِيَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ إِعَادَتُهَا عَنْ إِنْبَاتٍ مِنْ أَعْجَابِ الْأَذْنَابِ، حَسْبَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ، لِأَنَّ النَّاشِئَ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ مِنْهُ كَالنَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ، فَالْعِزَّةُ يَتَأَتَّى بِهَا تَمَامُ الْقُدْرَةِ فِي عُقُوبَةِ الْمُجْتَرِئِ عَلَى اللَّهِ، وَالْحِكْمَةُ يَتَأَتَّى بِهَا تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ فِي إِصْلَائِهِمُ النَّارَ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ذُكِرَ هُنَا لِلْمُقَابَلَةِ وَزِيَادَةِ الْغَيْظِ لِلْكَافِرِينَ.
وَاقْتَصَرَ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ عَلَى لَذَّةِ الْجَنَّاتِ وَالْأَزْوَاجِ الصَّالِحَاتِ، لِأَنَّهُمَا أَحَبُّ اللَّذَّاتِ الْمُتَعَارَفَةِ لِلسَّامِعِينَ، فَالزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ آنَسُ شَيْءٍ لِلْإِنْسَانِ، وَالْجَنَّاتُ مَحَلُّ النَّعيم وَحسن المنظر.
وَقَوْلُهُ: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا هُوَ مِنْ تَمَامِ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ، لِأَنَّ الظِّلَّ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ جَمَالُ الجنّات ولذّة التنعّم بِرُؤْيَةِ النُّورِ مَعَ انْتِفَاءِ حَرِّهِ. وَوُصِفَ بِالظَّلِيلِ وَصْفًا مُشْتَقًّا مِنِ اسْمِ الْمَوْصُوفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى بُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي جِنْسِهِ، فَقَدْ يَأْتُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ بِوَزْنِ فَعِيلٍ: كَمَا هُنَا، وَقَوْلُهُمْ: دَاءٌ دَوِيٌّ، وَيَأْتُونَ بِهِ بِوَزْنِ
90
أَفْعَلِ: كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ وَيَوْمٌ أَيْوَمُ، وَيَأْتُونَ بِوَزْنِ فَاعِلٍ: كَقَوْلِهِمْ: شِعْرٌ شَاعِرٌ، وَنصب ناصب.
[٥٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٥٨]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ قُصِدَ مِنْهُ الْإِفَاضَةُ فِي بَيَانِ شَرَائِعِ الْعَدْلِ وَالْحُكْمِ، وَنِظَامِ الطَّاعَةِ،
وَذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ التَّشْرِيعِيَّةِ الْكُبْرَى الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، وَلَا يَتَعَيَّنُ تَطَلُّبُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَهُ، فَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ إِلَى أَحْكَامٍ أُخْرَى فِي أَغْرَاضٍ أُخْرَى. وَهُنَا مُنَاسَبَةٌ، وَهِيَ أَنَّ مَا اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَيِّهِمْ أَلْسِنَتَهُمْ بِكَلِمَاتٍ فِيهَا تَوْجِيهٌ مِنَ السَّبِّ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَحَسَدِهِمْ بِإِنْكَارِ فَضْلِ اللَّهِ إِذْ آتَاهُ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى خِيَانَةِ أَمَانَةِ الدِّينِ، وَالْعِلْمِ، وَالْحَقِّ، وَالنِّعْمَةِ، وَهِيَ أَمَانَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ الْحِسِّيَّةِ إِلَى أَهْلِهَا وَيَتَخَلَّصَ إِلَى هَذَا التَّشْرِيعِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ صَرِيحَةٌ فِي الْأَمْرِ وَالْوُجُوبِ، مِثْلَ صَرَاحَةِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»
. (وَإِنَّ) فِيهَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِظُهُورِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ حَتَّى يُؤَكَّدَ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ إِيجَادِ شَيْءٍ لَا عَنْ وُجُودِهِ، فَهُوَ وَالْإِنْشَاءُ سَوَاءٌ.
وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِتَلَقِّي هَذَا الْخِطَابَ وَالْعَمَلِ بِهِ مِنْ كُلِّ مُؤْتَمَنٍ عَلَى شَيْءٍ، وَمِنْ كُلِّ مَنْ تَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحُقُوق.
وَالْأَدَاء حَقِيقَة فِي تَسْلِيمِ ذَاتٍ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، يُقَالُ: أَدَّى إِلَيْهِ كَذَا، أَيْ دَفَعَهُ وَسَلَّمَهُ، وَمِنْهُ أَدَاءُ الدَّيْنِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ آلِ
91
عِمْرَانَ [٧٥]. وَأَصْلُ أَدَّى أَنْ يَكُونَ مُضَاعَفَ أَدَى- بِالتَّخْفِيفِ- بِمَعْنَى أَوْصَلَ، لَكِنَّهُمْ أَهْمَلُوا أَدَى الْمُخَفَّفَ وَاسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِالْمُضَاعَفِ.
وَيُطْلَقُ الْأَدَاءُ مَجَازًا عَلَى الِاعْتِرَافِ وَالْوَفَاءِ بِشَيْءٍ. وَعَلَى هَذَا فَيُطْلَقُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِهِ وَتَبْلِيغِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ عَلَى حَقِّهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَيُعْرَفُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ قِيَاسَ الْأَدْوَنِ.
وَالْأَمَانَةُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ صَاحِبُهُ عِنْدَ شَخْصٍ لِيَحْفَظَهُ إِلَى أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٣].
وَتُطْلَقُ الْأَمَانَةُ مَجَازًا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ إِبْلَاغُهُ إِلَى أَرْبَابِهِ وَمُسْتَحِقِّيهِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَالدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْعُهُودِ وَالْجِوَارِ وَالنَّصِيحَةِ وَنَحْوِهَا، وَضِدُّهَا الْخِيَانَةُ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ.
وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ.
وَالْأَمَانَاتُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِيمَنِ ائْتَمَنَهُ رَجُلٌ عَلَى شَيْءٍ
وَكَانَ لِلْأَمِينِ حَقٌّ عِنْدَ الْمُؤْتَمَنِ جَحَدَهُ إِيَّاهُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَمَانَةِ عِوَضَ حَقِّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ خِيَانَةٌ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ بِمِقْدَارِ مَا عَلَيْهِ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الطَّبَرَيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَمَكْحُولٍ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ وُلَاةُ الْأُمُورِ، أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.
وَأَهْلُ الْأَمَانَةِ هُمْ مُسْتَحِقُّوهَا، يُقَالُ: أَهْلُ الدَّارِ، أَيْ أَصْحَابُهَا. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِذْ سَلَّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ابْن أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ سِدَانَةُ الْكَعْبَةِ بِيَدِهِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَكَانَتِ السِّدَانَةُ فِيهِمْ، فَسَأَلَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ سِدَانَةَ الْكَعْبَةِ يَضُمُّهَا مَعَ السِّقَايَةِ وَكَانَتِ السِّقَايَةُ بِيَدِهِ، وَهِيَ فِي بَنِي هَاشِمٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ وَابْنَ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَدَفَعَ لَهُمَا مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَمَا كُنْتُ سَمِعْتُهَا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ «خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْتَزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ»
، وَلَمْ يَكُنْ أَخْذُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
92
مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ أَخْذَ انْتِزَاعٍ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَهُ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي شَأْنِهِ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمِفْتَاحِ بِيَدِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ مُسْتَصْحَبٌ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُغَيِّرِ الْإِسْلَامُ حَوْزَهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ تَقَرَّرَ حَقُّ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فِيهِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَبَقِيَتْ سِدَانَةُ الْكَعْبَةِ فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْهَا لِابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، وَكَانَتِ السِّدَانَةُ مِنْ مَنَاصِبِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (١) فَأَبْطَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَهَا فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْفَتْحِ أَوْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَا عَدَا السِّقَايَةَ وَالسِّدَانَةَ.
فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَمَانَةِ فِي الْآيَةِ حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ عُثْمَانَ سَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَة للنبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دُونَ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ.
وَالْأَدَاءُ حِينَئِذٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَا ذَاتٌ يُمْكِنُ إيصالها بِالْفِعْلِ لمستحقّها، فَتَكُونُ الْآيَةُ آمِرَةً بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِيصَالِ وَالْوَفَاءَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ دَفْعُ الْأَمَانَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَلَا مَجَازَ فِي لَفْظِ (تُؤَدُّوا).
وَقَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ عَطَفَ أَنْ تَحْكُمُوا عَلَى أَنْ تُؤَدُّوا وَفَصَلَ بَيْنَ الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ الظَّرْفُ، وَهُوَ جَائِزٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَة: ٢٠١] وَكَذَلِكَ فِي عَطْفِ الْأَفْعَالِ عَلَى الصَّحِيحِ: مِثْلُ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاء: ١٢٩، ١٣٠].
وَالْحُكْمُ مَصْدَرُ حَكَمَ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ، أَيِ اعْتَنَى بِإِظْهَارِ الْمُحِقِّ مِنْهُمَا مِنَ الْمُبْطِلِ، أَوْ إِظْهَارِ الْحَقِّ لِأَحَدِهِمَا وَصَرَّحَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَكْمِ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَهُوَ
_________
(١) مناصب قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة، وَتسَمى مآثر قُرَيْش، هِيَ: السِّقَايَة وَهِي سقِِي الحجيج من مَاء زَمْزَم وَكَانَت لبني هَاشم، والسدانة بِكَسْر السِّين وَهِي حجابة الْكَعْبَة وَهِي لبني عبد البدار، والسفارة لبني عدي، والرفادة بِكَسْر الرَّاء وَهِي أَمْوَال تجمعها قُرَيْش لإعانة الْحجَّاج المعوزين وَهِي لبني نَوْفَل، والديات والحمالات وَهِي لبني تيم، والراية تسمى الْعقَاب وَهِي لبني أُميَّة، والمشورة لبني أَسد بن عبد الْعزي، والأعنة والقبة وَهِي شؤون الْحَرْب كَانُوا يضْربُونَ قبَّة ويجتمعون إِلَيْهَا عِنْد تجهيز الجيوش وَهِي لبني مَخْزُوم، والحكومة وأموال الْآلهَة لبني سهم، والإيسار والإزلام لبني جمح.
93
الرَّدْعُ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حَكَمَةُ اللِّجَامِ، وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تُجْعَلُ فِي فَمِ الْفَرَسِ، وَيُقَالُ: أَحْكِمْ فُلَانًا، أَيْ أَمْسِكْهُ.
وَالْعَدْلُ: ضِدُّ الْجَوْرِ، فَهُوَ فِي اللُّغَةِ التَّسْوِيَةُ، يُقَالُ: عَدَلَ كَذَا بِكَذَا، أَيْ سَوَّاهُ بِهِ وَوَازَنَهُ عَدْلًا ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: ١]، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِيصَالِ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ، وَدَفْعِ الْمُعْتَدِي عَلَى الْحَقِّ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ، إِطْلَاقًا نَاشِئًا عَمَّا اعْتَادَهُ النَّاسُ أَنَّ الْجَوْرَ يَصْدُرُ مِنَ الطُّغَاةِ الَّذِينَ لَا يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ سَوَاءً مَعَ عُمُومِ النَّاسِ، فَهُمْ إِنْ شَاءُوا عَدَلُوا وَأَنْصَفُوا، وَإِنْ شَاءُوا جَارُوا وَظَلَمُوا، قَالَ لَبِيدٌ:
وَمُقَسِّمٌ يُعْطِي الْعَشِيرَةَ حَقَّهَا وَمُغَذْمِرٌ لِحُقُوقِهَا هَضَّامُهَا (١)
فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْعَدْلِ- الَّذِي هُوَ التَّسْوِيَةُ- عَلَى تَسْوِيَةٍ نَافِعَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الصَّلَاحُ وَالْأَمْنُ، وَذَلِكَ فَكُّ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ الْمُعْتَدِي، لِأَنَّهُ تَظْهَرُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فَهُوَ كِنَايَةٌ غَالِبَةٌ. وَمَظْهَرُ ذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِمَّنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى هُنَا: إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ حَتَّى صَارَ يُطْلَقُ عَلَى إِبْلَاغِ الْحَقِّ إِلَى رَبِّهِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ اعْتِدَاءٌ وَلَا نِزَاعٌ.
وَالْعَدْلُ: مُسَاوَاةٌ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ بَيْنَ أَفْرَادِ أُمَّةٍ: فِي تَعْيِينِ الْأَشْيَاءِ لِمُسْتَحِقِّهَا، وَفِي تَمْكِينِ كُلِّ ذِي حَقٍّ مِنْ حَقِّهِ، بِدُونِ تَأْخِيرٍ، فَهُوَ مُسَاوَاةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَشْيَاءِ وَفِي وَسَائِلِ تَمْكِينِهَا بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْعَدْلُ فِي تَعْيِينِ الْحُقُوقِ، وَالثَّانِي هُوَ الْعَدْلُ فِي التَّنْفِيذِ،
وَلَيْسَ الْعَدْلُ فِي تَوْزِيعِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ النَّاسِ سَوَاءٍ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ.
فَالْعَدْلُ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، هُمَا: الْإِفْرَاطُ فِي تَخْوِيلِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ، أَيْ بِإِعْطَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَالتَّفْرِيطُ فِي ذَلِكَ، أَيْ بِالْإِجْحَافِ لَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَكِلَا الطَّرَفَيْنِ يُسَمَّى جَوْرًا، وَكَذَلِكَ الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ فِي تَنْفِيذِ الْإِعْطَاءِ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِهِ، كَإِعْطَاءِ الْمَالِ بِيَدِ السَّفِيهِ، أَوْ تَأْخِيرِهِ كَإِبْقَاءِ الْمَالِ بِيَدِ الْوَصِيِّ بَعْدَ الرُّشْدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ
- إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٥، ٦] فَالْعَدْلُ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ. وَهُوَ حَسَنٌ فِي الْفِطْرَةِ لِأَنَّهُ كَمَا يَصُدُّ الْمُعْتَدِيَ عَنِ اعْتِدَائِهِ،
_________
(١) المغذمر ذُو الغذمرة وَهِي ظُهُور الْغَضَب فِي القَوْل، والهضام صَاحب الهضم وَهُوَ الْكسر وَالظُّلم. [.....]
94
كَذَلِكَ يَصُدُّ غَيْرَهُ عَنِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٢٧٩]. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْعَدْلُ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ تَجُولُ فِي تَحْدِيدِهِ أَفْهَامٌ مُخْطِئَةٌ تَعَيَّنَ أَنْ تُسَنَّ الشَّرَائِعُ لِضَبْطِهِ عَلَى حَسَبِ مَدَارِكِ الْمُشَرِّعِينَ وَمُصْطَلَحَاتِ الْمُشَرَّعِ لَهُمْ، عَلَى أَنَّهَا مُعْظَمَهَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ تَحْرِيفٍ لِحَقِيقَةِ الْعَدْلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْقَوَانِينِ أُسِّسَتْ بِدَافِعَةِ الْغَضَبِ وَالْأَنَانِيَّةِ، فَتَضَمَّنَتْ أَخْطَاءً فَاحِشَةً مِثْلَ الْقَوَانِينِ الَّتِي يُمْلِيهَا الثُّوَّارُ بِدَافِعِ الْغَضَبِ عَلَى مَنْ كَانُوا مُتَوَلِّينَ الْأُمُورَ قَبْلَهُمْ، وَبَعْضُ الْقَوَانِينِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنْ تَخَيُّلَاتٍ وَأَوْهَامٍ، كَقَوَانِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأُمَمِ الْعَرِيقَةِ فِي الْوَثَنِيَّةِ.
وَنَجِدُ الْقَوَانِينَ الَّتِي سَنَّهَا الْحُكَمَاءُ أَمْكَنَ فِي تَحْقِيقِ مَنَافِعِ الْعَدْلِ مِثْلَ قَوَانِينِ أَثِينَةَ وَإِسْبَرْطَةَ، وَأَعْلَى الْقَوَانِينِ هِيَ الشَّرَائِعُ الْإِلَهِيَّةُ لِمُنَاسَبَتِهَا لِحَالِ مَنْ شُرِّعَتْ لِأَجْلِهِمْ، وَأَعْظَمُهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى أَسَاسِ الْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ أَوِ الرَّاجِحَةِ، وَإِعْرَاضِهَا عَنْ أَهْوَاءِ الْأُمَمِ وَالْعَوَائِدِ الضَّالَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَعْبَأُ بِالْأَنَانِيَّةِ وَالْهَوَى، وَلَا بِعَوَائِدِ الْفَسَادِ، وَلِأَنَّهَا لَا تُبْنَى عَلَى مَصَالِحِ قَبِيلَةٍ خَاصَّةٍ، أَوْ بَلَدٍ خَاصٍّ، بَلْ تُبْتَنَى عَلَى مَصَالِحِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَتَقْوِيمِهِ وَهَدْيِهِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا لَمْ يَزَلِ الصَّالِحُونَ مِنَ الْقَادَةِ يُدَوِّنُونَ بَيَانَ الْحُقُوقِ حِفْظًا لِلْعَدْلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَخَاصَّةً الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيد: ٢٥] أَيِ الْعَدْلِ. فَمِنْهَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ الْبَشَرِيَّةِ وَمِنْهَا مَا اسْتَنْبَطَهُ عُلَمَاءُ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ مُدْرَجٌ فِيهَا وَمُلْحَقٌ بِهَا.
وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ بِحَالَةِ التَّصَدِّي لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأُطْلِقَ الْأَمْرُ بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا عَنِ التَّقْيِيدِ: لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَقَعَ بِيَدِهِ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ لَا سِيَّمَا عَلَى اعْتِبَارِ تَعْمِيمِ الْمُرَادِ بِالْأَمَانَاتِ الشَّامِلِ لِمَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ إِبْلَاغُهُ لِمُسْتَحِقِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ،
بِخِلَافِ الْعَدْلِ فَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ وُلَاةُ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَهْلًا لِتَوَلِّي ذَلِكَ.
فَتِلْكَ نُكْتَةُ قَوْلِهِ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ الْفَخْرُ: قَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ هُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ النَّاسِ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْحُكْمِ بَلْ ذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ، فَالْآيَةُ مُجْمَلَةٌ فِي أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَصِيرُ حَاكِمًا وَلَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ إِمَامٍ وَأَنَّهُ يُنَصِّبُ الْقُضَاةَ وَالْوُلَاةَ صَارَت تِلْكَ الدَّلَائِل كالبيان لِهَذِهِ الْآيَةِ.
95
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّحْرِيضِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ، وَأَغْنَتْ (إِنَّ) فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ عَنْ ذِكْرِ فَاءِ التَّعْقِيبِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ إِذَا جَاءَتْ (إنّ) للاهتمام بالْخبر دون التَّأْكِيد.
و (نعمّا) أَصْلُهُ (نِعْمَ مَا) رُكِّبَتْ (نِعْمَ) مَعَ (مَا) بَعْدَ طَرْحِ حَرَكَةِ الْمِيمِ الْأَوْلَى وَتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأُدْغِمَ الْمِيمَانِ وَحُرِّكَتِ الْعَيْنُ السَّاكِنَةُ بِالْكَسْرِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَ (مَا) جَوَّزَ النُّحَاةُ أَن تكون اسْم مَوْصُول، أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، أَوْ نَكِرَةً تَامَّةً وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ (مَا) تَجْرِي عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَعْنَى (مَا)، وَقيل: إنّ (مَا) زَائِدَةٌ كَافَّةٌ (نِعْمَ) عَنِ الْعَمَلِ.
وَالْوَعْظُ: التَّذْكِيرُ وَالنُّصْحُ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ زَجْرٌ وَتَخْوِيفٌ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً أَيْ عَلِيمًا بِمَا تَفْعَلُونَ وَمَا تَقُولُونَ، وَهَذِهِ بِشَارَة ونذارة.
[٥٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٥٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِخِطَابِهِمْ بِالْأَمْرِ بِطَاعَةِ الْحُكَّامِ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ لِأَنَّ الطَّاعَةَ لَهُمْ هِيَ مَظْهَرُ نُفُوذِ الْعَدْلِ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ حُكَّامُهُمْ، فَطَاعَةُ الرَّسُولِ تَشْتَمِلُ عَلَى احترام الْعدْل المشرّع لَهُمْ وَعَلَى تَنْفِيذِهِ، وَطَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ تَنْفِيذٌ لِلْعَدْلِ، وَأَشَارَ بِهَذَا التَّعْقِيبِ إِلَى أَنَّ الطَّاعَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا هِيَ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلِيٌّ: «حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ وَيُوَدِّيَ الْأَمَانَةَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا»
. أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَذَلِكَ بِمَعْنَى طَاعَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مُنَزِّلُ
الشَّرِيعَةِ وَرَسُولَهُ مُبَلِّغُهَا وَالْحَاكِمُ بِهَا فِي حَضْرَتِهِ.
96
وَإِنَّمَا أُعِيدَ فِعْلُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْصِيلِ طَاعَةِ الرَّسُولِ لِتَكُونَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِقَرَائِنِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ الْمَأْمُورَ بِهَا تَرْجِعُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ دُونَ مَا يَأْمُرُ بِهِ فِي غَيْرِ التَّشْرِيعِ، فَإِنَّ امْتِثَالَ أَمْرِهِ كُلِّهِ خَيْرٌ، أَلَا تَرَى
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أَبَا سَعِيدِ بْنَ الْمُعَلَّى، وَأَبُو سَعِيدٍ يُصَلِّي، فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي» فَقَالَ:
«كُنْتُ أُصَلِّي» فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ
[الْأَنْفَال: ٢٤] وَلِذَلِكَ كَانُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ مِنْ أَمْرِهِ رُبَّمَا سَأَلُوهُ: أَهُوَ أَمْرُ تَشْرِيعٍ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالنَّظَرُ، كَمَا
قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَزَلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ: أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَجْتَازَهُ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ:
بَلِ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ... »

الْحَدِيثَ.
وَلَمَّا كَلَّمَ بَرِيرَةَ فِي أَنْ تُرَاجِعَ زَوْجَهَا مُغِيثًا بَعْدَ أَنْ عَتَقَتْ، قَالَتْ لَهُ: أَتَأْمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ تَشْفَعُ، قَالَ: بَلْ أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا أَبْقَى مَعَهُ
. وَلِهَذَا لَمْ يُعَدْ فِعْلُ (فَرُدُّوهُ) فِي قَوْلِهِ: (وَالرَّسُولِ) لِأَنَّ ذَلِكَ فِي التَّحَاكُمِ بَيْنَهُمْ، وَالتَّحَاكُمُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَخْذِ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ تَكْرِيرًا لِفِعْلِ الطَّاعَةِ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُعْطَفْ فِيهَا أُولُو الْأَمْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: ٢٠] وَقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَال: ٤٦] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النُّور: ٥٢]، إِذْ طَاعَةُ الرَّسُولِ مُسَاوِيَةٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ فَلَا يُتَلَقَّى أَمْرُ اللَّهِ إِلَّا مِنْهُ، وَهُوَ منقّذ أَمْرِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ، فَطَاعَتُهُ طَاعَةُ تَلَقٍّ وَطَاعَةُ امْتِثَالٍ، لِأَنَّهُ مبلّغ ومنقّذ، بِخِلَافِ أُولِي الْأَمر فإنّهم منقّذون لِمَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ فَطَاعَتُهُمْ طَاعَةُ امْتِثَالٍ خَاصَّةً. وَلِذَلِكَ كَانُوا إِذَا أَمَرَهُمْ بِعَمَلٍ فِي غَيْرِ أُمُورِ التَّشْرِيعِ، يَسْأَلُونَهُ أَهَذَا أَمْرٌ أَمْ رَأْيٌ وَإِشَارَةٌ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لِلَّذِينَ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ».
وَقَوْلُهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ يَعْنِي ذَوِيهِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَمْرِ وَالْمُتَوَلُّونَ لَهُ. وَالْأَمْرُ هُوَ الشَّأْنُ، أَيْ مَا يُهْتَمُّ بِهِ من الْأَحْوَال والشؤون، فَأُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ وَمِنَ الْقَوْمِ هُمُ الَّذِينَ
97
يُسْنِدُ النَّاسُ إِلَيْهِم تَدْبِير شؤونهم وَيَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَيَصِيرُ الْأَمْرُ كَأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِمْ، فَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ: ذَوُوُ الْأَمْرِ وَأُولُو الْأَمْرِ، وَيُقَالُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ: لَيْسَ لَهُ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلِمْنَا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ طَائِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَهُمْ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ وَأُمَنَاؤُهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ تَثْبُتُ لَهُمْ بِطُرُقٍ شَرْعِيَّةٍ إِذْ أُمُورُ الْإِسْلَامِ لَا تَخْرُجُ عَنِ الدَّائِرَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَطَرِيقُ ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُمْ إِمَّا الْوَلَايَةُ الْمُسْنَدَةُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَنَحْوِهِ، أَوْ مِنْ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُلْطَانٌ، وَإِمَّا صِفَاتُ الْكَمَالِ الَّتِي تَجْعَلُهُمْ مَحَلَّ اقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِهِمْ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْعِلْمُ وَالْعَدَالَةُ. فَأَهْلُ الْعِلْمِ الْعُدُولُ: مِنْ أُولِي الْأَمْرِ بِذَاتِهِمْ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى وِلَايَةٍ، بَلْ هِيَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِأَرْبَابِهَا الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بَيْنَ الْأُمَّةِ بِهَا، لِمَا جُرِّبَ مِنْ عِلْمِهِمْ وَإِتْقَانِهِمْ فِي الْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمِ.
قَالَ مَالِكٌ: «أُولُو الْأَمْرِ: أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ» يَعْنِي أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالِاجْتِهَادِ، فَأُولُو الْأَمْرِ هُنَا هُمْ مَنْ عَدَا الرَّسُولِ مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَى وَالِي الْحِسْبَةِ، وَمِنْ قُوَّادِ الْجُيُوشِ وَمِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْمُجْتَهِدِينَ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ قِوَامُ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَهُوَ تَنَاصُحُ الْأُمَرَاءِ وَالرَّعِيَّةِ وَانْبِثَاثُ الثِّقَةِ بَيْنَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْحَوَادِثُ لَا تَخْلُو مِنْ حُدُوثِ الْخِلَافِ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَى طَرِيقَةِ فَصْلِ الْخِلَافِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. وَمَعْنَى الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي نَظِيرِهِ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: ١٠٤].
وَمَعْنَى الرَّدِّ إِلَى الرَّسُولِ إِنْهَاءُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَحَضْرَتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَظِيرِهِ إِلَى الرَّسُولِ [النِّسَاء: ٨٣] فَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوْ فِي غَيْبَتِهِ، فَالرَّدُّ إِلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالِاحْتِذَاءُ بِسُنَّتِهِ.
روى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ متّكئا على أريكته يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ».
وَفِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْعِرْبَاضِ ابْن سَارِيَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَخْطُبُ يَقُولُ: «أَيَحْسَبُ أحدكُم وَهُوَ متّكىء عَلَى أَرِيكَتِهِ وَقَدْ
98
يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ أَمَرْتُ وَوَعَظْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ»، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ
. وَعَرْضُ الْحَوَادِثِ عَلَى مِقْيَاسِ تَصَرُّفَاتِهِ والصريح من سنّته.
وَالتَّنَازُعُ: شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ النَّزْعِ، أَيِ الْأَخْذِ، قَالَ الْأَعْشَى:
نَازَعْتُهُمْ قُضْبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا وَقَهْوَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ
فَأَطْلَقَ التَّنَازُعَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الشَّدِيدَ يُشْبِهُ التَّجَاذُبَ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، وَغَلَبَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَال: ٤٦] فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى [طه: ٦٢].
وَضَمِيرُ تَنازَعْتُمْ رَاجِعٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فَيَشْمَلُ كُلَّ مَنْ يُمْكِنُ بَيْنَهُمُ التَّنَازُعُ، وَهُمْ مَنْ عَدَا الرَّسُولَ، إِذْ لَا يُنَازِعُهُ الْمُؤْمِنُونَ، فَشَمَلَ تَنَازُعَ الْعُمُومِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ وُلَاةِ الْأُمُورِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، كَتَنَازُعِ الْوُزَرَاءِ مَعَ الْأَمِيرِ أَوْ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ الرَّعِيَّةِ مَعَ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بعض فِي شؤون عِلْمِ الدِّينِ. وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ نَجِدُ الْمُرَادَ ابْتِدَاءً هُوَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ فَسَّرُوهُ بِبَعْضِ صُوَرٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ، فَلَيْسَ مَقْصِدُهُمْ قَصْرَ الْآيَةِ عَلَى مَا فَسَّرُوا بِهِ، وَأَحْسَنُ عِبَارَاتِهِمْ فِي هَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ: «يَعْنِي فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ أَوْ أَنْتُمْ وَأُولُو أَمْرِكُمْ فِيهِ». وَعَنْ مُجَاهِدٍ: فَإِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ رَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ».
وَلَفْظُ (شَيْءٍ) نَكِرَةٌ مُتَوَغِّلَةٌ فِي الْإِبْهَامِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَيَصْدُقُ بِالتَّنَازُعِ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى الْحُقُوقِ، وَيَصْدُقُ بِالتَّنَازُعِ فِي اخْتِلَافِ الْآرَاءِ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ أَوْ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ عَمَلٍ مَا، كَتَنَازُعِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي إِجْرَاءِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ. وَلَقَدْ حَسَّنَ مَوْقِعَ كَلِمَةِ (شَيْءٍ) هُنَا تَعْمِيمُ الْحَوَادِثِ وَأَنْوَاعِ الِاخْتِلَافِ، فَكَانَ مِنَ الْمَوَاقِعِ الرَّشِيقَةِ فِي تَقْسِيمِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَوَاقِعِ لَفْظِ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
99
وَالرَّدُّ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّحَاكُمِ إِلَى الْحَاكِمِ وَفِي تَحْكِيمِ ذِي الرَّأْيِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ.
وَحَقِيقَتُهُ إِرْجَاعُ الشَّيْءِ إِلَى صَاحِبِهِ مِثْلَ الْعَارِيَةِ وَالْمَغْصُوبِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى التَّخَلِّي عَنِ الِانْتِصَافِ بِتَفْوِيضِ الْحُكْمِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَعَنْ عَدَمِ تَصْوِيبِ الرَّأْيِ بِتَفْوِيضِ تَصْوِيبِهِ إِلَى الْغَيْرِ، إِطْلَاقًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، وَغَلَبَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فِي الْكَلَامِ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ.
وَعُمُومُ لَفْظِ شَيْءٍ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَمْرِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَعُمُومُ أَحْوَالِ التَّنَازُعِ، تَبَعًا لِعُمُومِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا، فَمِنْ ذَلِكَ الْخُصُومَاتُ وَالدَّعَاوَى فِي الْحُقُوقِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ من الْآيَة بادىء بَدْءٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» فَإِنَّ هَذَا
كَالْمُقَدِّمَةِ لِذَلِكَ فَأَشْبَهَ سَبَبَ نُزُولٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ الْعَامِّ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّنَازُعِ فِي طُرُقِ تَنْفِيذِ الْأَوَامِرِ الْعَامَّةِ، كَمَا يَحْصُلُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْجُيُوشِ وَبَيْنَ بَعْضِ قُوَّادِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نِزَاعٍ حَدَثَ بَيْنَ أَمِيرِ سَرِيَّةِ الْأَنْصَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ كَمَا سَيَأْتِي، وَمِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعقد فِي شؤون مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَرُومُونَ حَمْلَ النَّاسَ عَلَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ وَالنَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ.
فَكُلُّ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ مَأْمُورٌ أَصْحَابُهُ بِرَدِّ أَمْرِهِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَرَدُّ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُرْجَى مَعَهُ زَوَالُ الِاخْتِلَافِ، وَذَلِكَ بِبَذْلِ الْجُهْدِ وَالْوُسْعِ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ الْجَلِيِّ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ. فَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ فِي تَفْسِيرِ التَّنَازُعِ بِتَنَازُعِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْفَرْدِ الْأَخْفَى مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ.
وَذِكْرُ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ فِي هَذَا مَقْصُودٌ مِنْهُ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ انْجِلَاءِ الْحَقِّ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الرَّدَّ إِلَى الرَّسُولِ يَحْصُلُ بِهِ الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ، إِذِ الرَّسُولُ هُوَ الْمُنْبِئُ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ هُنَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ.
100
ثُمَّ الرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ وَحُضُورِهِ ظَاهَرٌ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَأَمَّا الرَّدُّ إِلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَبِالتَّحَاكُمِ إِلَى الْحُكَّامِ الَّذِينَ أَقَامَهُمُ الرَّسُولُ أَوْ أَمَرَهُمْ بِالتَّعْيِينِ، وَإِلَى الْحُكَّامِ الَّذِينَ نَصَّبَهُمْ وُلَاةُ الْأُمُورِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالشَّرِيعَةِ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ الْعِلْمُ بِوُجُوهِ الشَّرِيعَةِ وَتَصَارِيفِهَا، فَإِنَّ تَعْيِينَ صِفَاتِ الْحُكَّامِ وَشُرُوطِهِمْ وَطُرُقِ تَوْلِيَتِهِمْ، فِيمَا وَرَدَ عَنِ الرَّسُولِ مِنْ أَدِلَّةِ صِفَاتِ الْحُكَّامِ، يَقُومُ مَقَامَ تَعْيِينِ أَشْخَاصِهِمْ، وَبِالتَّأَمُّلِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَسُنَّتِهِ ثُمَّ الصَّدَرِ عَلَى مَا يتبيّن للمتأمّل مِنْ حَالٍ يَظُنُّهَا هِيَ مُرَادُ الرَّسُولِ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ النِّزَاعِ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَاسْتِنْبَاطِ أَحْكَامِهَا الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِنَ الرَّسُولِ، أَوِ الْمَجْهُولِ قَوْلُهُ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَحْرِيضٌ وَتَحْذِيرٌ مَعًا، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ووازعان يزعان عَن مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، وَالتَّعْرِيضِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ لِلتَّلَاشِي، وَعَنِ الْأَخْذِ بِالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا تُرْضِي اللَّهَ وَتَضُرُّ الْأُمَّةَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ دَأْبُ
الْمُسْلِمِ الصَّادِقِ الْإِقْدَامَ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْمَصَالِحِ، وَالتَّأَمُّلَ عِنْدَ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ وَالصَّدْرَ بَعْدَ عَرْضِ الْمُشْكِلَاتِ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.
وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ مَعَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَتُلَازِمُونَ وَاجِبَاتِ الْمُؤْمِنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ خَيْرٌ فَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْوِيهِ، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ الْمَأْخُوذِ مِنْ فَرُدُّوهُ. وَ (خَيْرٌ) اسْمٌ لِمَا فِيهِ نَفْعٌ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّرِّ، وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، وَالْمُرَادُ كَوْنُ الْخَيْرِ وَقُوَّةُ الْحُسْنِ.
وَالتَّأْوِيلُ: مَصْدَرُ أَوَّلَ الشَّيْءَ إِذَا أَرْجَعَهُ، مُشْتَقٌّ مِنْ آلَ يَؤُولُ إِذَا رَجَعَ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى أَحْسَنُ رَدًّا وَصَرْفًا. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيءُ فِي سَرِيَّةٍ.
وَأَخْرَجَ فِي «كِتَابِ الْمَغَازِي» عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيءُ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيءُ أَنْ تُطِيعُونِي» قَالُوا:
«بَلَى» قَالَ: «فَأَجْمِعُوا حَطَبًا» فَجَمَعُوا، قَالَ: «أَوْقِدُوا نَارًا»، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ «ادْخُلُوهَا»، فَهَمُّوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: «فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيءِ مِنَ
101
النَّارِ»، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»
. فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ نَزَلَتْ حِينَ تَعْيِينِهِ أَمِيرًا عَلَى السَّرِيَّةِ وَأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي فِيهَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ تَرَدُّدَ أَهْلِ السَّرِيَّةِ فِي الدُّخُولِ فِي النَّارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ مَا بَلَغَ خَبَرُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا هُوَ قَوْلُهُ:
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ إِلَخْ، وَيَكُونُ ابْتِدَاؤُهَا بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّ مَا فَعَلَهُ ذَلِكَ الْأَمِيرُ يُبْطِلُ الْأَمر بِالطَّاعَةِ.
[٦٠، ٦١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٦٠ إِلَى ٦١]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، نَاسَبَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النِّسَاء: ٥٩]. وَالْمَوْصُولُ مُرَادٌ بِهِ قَوْمٌ مَعْرُوفُونَ وَهُمْ فَرِيقٌ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا مِنَ الْيَهُودِ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لِقَوْلِهِ: رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافًا مُتَقَارِبًا: فَعَنْ قَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ يَهُودِيًّا اخْتَصَمَ مَعَ مُنَافِقٍ اسْمُهُ بِشْرٌ فَدَعَا الْيَهُودِيُّ الْمُنَافِقَ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ وَلَا يَجُورُ فِي الْحُكْمِ، وَدَعَا الْمُنَافِقُ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ كَاهِنٍ مِنْ جُهَيْنَةَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ.
102
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودِيَّ دَعَا الْمُنَافِقَ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْمُنَافِقَ دَعَا إِلَى كَعْبِ ابْن الْأَشْرَفِ، فَأَبَى الْيَهُودِيُّ وَانْصَرَفَا مَعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى لِلْيَهُودِيِّ، فَلَمَّا خَرَجَا، قَالَ الْمُنَافِقُ: لَا أَرْضَى، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ بِمِثْلِ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ، وَأَخْبَرَهُ الْيَهُودِيُّ الْخَبَرَ وَصَدَّقَهُ الْمُنَافِقُ، قَالَ عُمَرُ: رُوَيْدَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا، فَدَخَلَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الْمُنَافِقَ حَتَّى بَرَدَ، وَقَالَ: هَكَذَا أَقْضِي عَلَى مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَلَقَّبَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْفَارُوقَ»
. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ بَيْنَ قُرَيْظَةَ وَالْخَزْرَجِ حِلْفٌ، وَبَيْنَ النَّضِيرِ وَالْأَوْسِ حِلْفٌ، فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتِ النَّضِيرُ أَكْثَرَ وَأَشْرَفَ، فَكَانُوا إِذَا قَتَلَ قُرَظِيٌّ نَضِيرِيًّا قُتِلَ بِهِ وَأَخَذَ أَهْلُ الْقَتِيلِ دِيَةَ صَاحِبِهِمْ بَعْدَ قَتْلِ قَاتِلِهِ، وَكَانَتِ الدِّيَةُ مِائَةَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَإِذَا قَتَلَ نَضِيرِيٌّ قُرَظِيًّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ وَأَعْطَى دِيَتَهُ فَقَطْ: سِتِّينَ وَسْقًا. فَلَمَّا أَسْلَمَ نَفَرٌ مِنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ قَتَلَ نَضِيرِيٌّ قُرَظِيًّا وَاخْتَصَمُوا، فَقَالَتِ النَّضِيرُ: نُعْطِيكُمْ سِتِّينَ وَسْقًا كَمَا كُنَّا اصْطَلَحْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَتْ قُرَيْظَةُ: هَذَا شَيْءٌ فَعَلْتُمُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّكُمْ كَثُرْتُمْ وَقَلَلْنَا فَقَهَرْتُمُونَا، وَنَحْنُ الْيَوْمَ إِخْوَةٌ وَدِينُنَا وَدِينُكُمْ وَاحِدٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ- وَكَانَ مُنَافِقًا: انْطَلِقُوا إِلَى أَبِي بُرْدَةَ- وَكَانَ أَبُو بُرْدَةَ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ إِلَيْهِ فِيهِ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَا بَلْ نَنْطَلِقُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. (وَأَبُو بُرْدَةَ- بِدَالٍ بَعْدَ الرَّاءِ- عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ وَفِي الْإِصَابَةِ لِابْنِ حَجَرٍ، وَوَقَعَ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ بِزَايٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَهُوَ تَحْرِيفٌ اشْتَبَهَ بِأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ نَضْلَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ أَبُو بَرْزَةَ كَاهِنًا قَطُّ). وَنُسِبَ أَبُو بُرْدَةَ الْكَاهِنِ بِالْأَسْلَمِيِّ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ كَانَ فِي جُهَيْنَةَ. وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «كَانَتِ الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا وَاحِدٌ فِي جُهَيْنَةَ وَوَاحِدٌ فِي أَسْلَمَ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ كَهَّانٌ».
وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ أَنَّ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى نَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ تَنَافَرُوا إِلَى أَبِي بُرْدَةَ
الْأَسْلَمِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ بِشْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ،
103
وَالْآخَرُ من الْيَهُود تدارءا فِي حَقٍّ، فَدَعَاهُ الْيَهُودِيُّ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ. وَدَعَاهُ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى التَّحَاكُمِ لِلْكَاهِنِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَرْتَشِي، فَيَقْضِي لَهُ، فَنَزَلَتْ فِيهِمَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ مِثْلُ مَا قَالَ قَتَادَةُ، وَلَكِنَّهُ وَصَفَ الْأَنْصَارِيَّ بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخُصُومَةَ بَيْنَ مُنَافِقٍ وَيَهُودِيٍّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ «لِنَنْطَلِقْ إِلَى مُحَمَّدٍ» وَقَالَ الْمُنَافِقُ «بَلْ نَأْتِي كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ» وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ الطَّاغُوتَ.
وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَزْعُمُونَ مُرَادٌ بِهَا وَاحِدٌ. وَجِيءَ بِاسْمِ مَوْصُولِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامَ تَوْبِيخٍ، كَقَوْلِهِمْ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا، لِيَشْمَلَ الْمَقْصُودَ وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِ. وَالزَّعْمُ: خَبَرٌ كَاذِبٌ، أَوْ مَشُوبٌ بِخَطَأٍ، أَوْ بِحَيْثُ يَتَّهِمُهُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَعْشَى لَمَّا قَالَ يمدح قيسا بْنَ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيَّ:
وَنُبِّئْتُ قَيْسًا وَلَمْ أَبْلُهُ كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أَهْلِ الْيَمَنْ
غَضِبَ قَيْسٌ وَقَالَ: «وَمَا هُوَ إِلَّا الزَّعْمُ»، وَقَالَ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن: ٧]، وَيَقُولُ الْمُحَدِّثُ عَنْ حَدِيثٍ غَرِيبٍ فَزَعَمَ فُلَانٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا، أَيْ لِإِلْقَاءِ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ زَعَمَ الْخَلِيلُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: الزَّعْمُ مَطِيَّةُ الْكَذِبِ.
وَيُسْتَعْمَلُ الزَّعْمُ فِي الْخَبَرِ الْمُحَقَّقِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ:
زَعَمَ الْعَوَاذِلُ أَنَّنِي فِي غَمْرَةٍ صَدَقُوا وَلَكِنْ غَمْرَتِي لَا تَنْجَلِي
فَقَوْلُهُ صَدَقُوا هُوَ الْقَرِينَةُ، وَمُضَارِعُهُ مُثَلَّثُ الْعَيْنِ، وَالْأَفْصَحُ فِيهِ الْفَتْحُ.
وَقَدْ كَانَ الَّذِينَ أَرَادُوا التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَإِطْلَاقُ الزَّعْمِ عَلَى إِيمَانِهِمْ ظَاهِرٌ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ دَخَلَ الْمَعْطُوفُ فِي حَيِّزِ الزَّعْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا، فَلِذَلِكَ كَانَ ادِّعَاؤُهُمْ ذَلِكَ زَعْمًا، لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ هَذَا، إِذْ لَوِِْ
104
كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِهَا حَقًّا، لَمْ يَكُونُوا لِيَتَحَاكَمُوا إِلَى الْكُهَّانِ، وَشَرِيعَةُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تُحَذِّرُ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ يُرِيدُونَ أَيْ يُحِبُّونَ مَحَبَّةً تَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ الْمَحْبُوبِ.
وَالطَّاغُوتُ هُنَا هُمُ الْأَصْنَامُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَلَكِنْ فَسَّرُوهُ بِالْكَاهِنِ، أَوْ بِعَظِيمِ الْيَهُودِ، كَمَا رَأَيْتَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ بِتَشْبِيهِ عَظِيمِ الْكُفْرِ بِالصَّنَمِ الْمَعْبُودِ لِغُلُوِّ قَوْمِهِ فِي تَقْدِيسِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْكَاهِنَ يُتَرْجِمُ عَنْ أَقْوَالِ الصَّنَمِ فِي زَعْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ الطَّاغُوتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النِّسَاء: ٥١] مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَإِنَّمَا قَالَ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً أَيْ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيُحَسِّنُهُ لَهُمْ، لِأَنَّهُ أَلْقَى فِي نُفُوسِهِمُ الدُّعَاءَ إِلَى تَحْكِيمِ الْكُهَّانِ وَالِانْصِرَافَ عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ، أَوِ الْمَعْنَى:
يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِسَبَبِ فَعْلَتِهِمْ هَذِهِ لَوْلَا أَنْ أَيْقَظَهُمُ اللَّهُ وَتَابُوا مِمَّا صَنَعُوا.
وَالضَّلَالُ الْبَعِيدُ هُوَ الْكُفْرُ، وَوَصْفُهُ بِالْبَعِيدِ مَجَازٌ فِي شِدَّةِ الضَّلَالِ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ جِنْسٍ ذِي مَسَافَةٍ كَانَ هَذَا الْفَرْدُ مِنْهُ بَالِغًا غَايَةَ الْمَسَافَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِيَ الْأَمَلَا وَقَوْلُهُ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا الْآيَةَ أَيْ إِذَا قِيلَ لَهُمُ احْضُرُوا أَوِ ايتُوا. فَإِنَّ (تَعَالَ) كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْحُضُورِ وَالْإِقْبَالِ، فَمَفَادُهَا مَفَادُ حَرْفِ النِّدَاءِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَنْبِيهَ فِيهَا.
وَقد اخْتلف أئمّة الْعَرَبِيَّةِ فِي أَنَّهُ فِعْلٌ أَوِ اسْمُ فِعْلٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ فِعْلٌ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّةِ الْعُلُوِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «الصِّحَاحِ» «وَالتَّعَالِي الِارْتفَاع»، تَقُولُ مِنْهُ، إِذَا أَمَرْتَ:
«تَعَالَ يَا رَجُلُ»، وَمِثْلُهُ فِي «الْقَامُوسِ»، وَلِأَنَّهُ تَتَّصِلُ بِهِ ضَمَائِرُ الرَّفْعِ، وَهُوَ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ فِعْلِ الْأَمْرِ، فَذَلِكَ الْبِنَاءُ هُوَ الَّذِي حَدَا فَرِيقًا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِبَعِيدٍ، وَلَمْ يَرِدْ عَنِ الْعَرَبِ غَيْرُ فَتْحِ اللَّامِ، فَلِذَلِكَ كَانَ كَسْرُ اللَّامِ فِي قَوْلِ أَبِي فِرَاسٍ:
105
بِكَسْرِ لَامِ الْقَافِيَةِ الْمَكْسُورَةِ، مَعْدُودًا لَحْنًا.
وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ- أَيْ فِي زَمَانِ الزَّمَخْشَرِيِّ- يَقُولُونَ تَعَالِي لِلْمَرْأَةِ.
فَذَلِكَ مِنَ اللَّحْنِ الَّذِي دَخَلَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِسَبَبِ انْتِشَارِ الدُّخَلَاءِ بَيْنَهُمْ.
وَوَجْهُ اشْتِقَاقِ تَعَالَ مِنْ مَادَّةِ الْعُلُوِّ أَنَّهُمْ تَخَيَّلُوا الْمُنَادِيَ فِي عُلُوٍّ وَالْمُنَادَى (بِالْفَتْحِ) فِي سُفْلٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ بُيُوتَهُمْ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ لِأَنَّهَا أَحْصَنُ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَصْلُهُ
أَنْ يَدُلَّ عَلَى طَلَبِ حُضُورٍ لِنَفْعٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِير فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٠٤] :«تَعَالَ نِدَاءٌ بِبِرٍّ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ حَيْثُ الْبِرُّ وَحَيْثُ ضِدُّهُ». وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ: «وَهِيَ لَفْظَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعُلُوِّ لَمَّا اسْتُعْمِلَتْ فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ وَجَلْبِهِ صِيغَتْ مِنَ الْعُلُوِّ تَحْسِينًا لِلْأَدَبِ كَمَا تَقُولُ: ارْتَفِعْ إِلَى الْحَقِّ وَنَحْوِهِ». وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَالَ لَمَّا كَانَتْ فِعْلًا جَامِدًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُصَاغَ مِنْهُ غَيْرُ الْأَمْرِ، فَلَا تَقُولُ: تَعَالَيْتُ بِمَعْنَى حَضَرْتُ، وَلَا تَنْهَى عَنْهُ فَتَقُولُ: لَا تَتَعَالْ. قَالَ فِي «الصِّحَاحِ» «وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُ تَعَالَيْتُ وَلَا يُنْهَى عَنْهُ». وَفِي «الصِّحَاحِ» عَقِبَهُ «وَتَقُولُ: قَدْ تَعَالَيْتُ وَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ أَتَعَالَى» يَعْنِي أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خُصُوصِ جَوَابِ الطَّلَبِ لِمَنْ قَالَ لَكَ تَعَالَ، وَتَبِعَهُ فِي هَذَا صَاحِبُ «اللِّسَانِ» وَأَغْفَلَ الْعِبَارَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَأَمَّا صَاحِبُ «تَاجِ الْعَرُوسِ» فَرُبَّمَا أَخْطَأَ إِذْ قَالَ: «قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُ: تَعَالَيْتُ وَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ أَتَعَالَى» وَلَعَلَّ النُّسْخَةَ قَدْ وَقَعَ فِيهَا نَقْصٌ أَوْ خَطَأٌ مِنَ النَّاسِخِ لِظَنِّهِ فِي الْعِبَارَةِ تَكْرِيرًا، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى هَذَا لِئَلَّا تَقَعَ فِي أَخْطَاءٍ وَحَيْرَةٍ.
وَ (تَعَالَوْا) مُسْتَعْمَلٌ هُنَا مَجَازًا، إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ حُضُورٌ وَإِتْيَانٌ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي تَحْكِيمِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَحْكِيمِ الرَّسُولِ فِي حُضُورِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِذْ لَا يَحْكُمُ اللَّهُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ كَلَامِهِ، وَأَمَّا تَحْكِيمُ الرَّسُولِ فَأُرِيدَ بِهِ تَحْكِيمُ ذَاتِهِ لِأَنَّ الْقَوْمَ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ (صُدُودًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِقَصْدِ التَّوَصُّلِ بِتَنْوِينِ صُدُوداً لِإِفَادَةِ أَنَّهُ تَنْوِين تَعْظِيم.
106

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٣]

فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ [النِّسَاء: ٦١] الْآيَةَ، لِأَنَّ الصُّدُودَ عَنْ ذَلِكَ يُوجِبُ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَيُوشِكُ أَنْ يُصِيبَهُمُ اللَّهُ بِمُصِيبَةٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ، مِثْلَ انْكِشَافِ حَالِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيُعْرَفُوا بِالْكُفْرِ فَيُصْبِحُوا مُهَدَّدِينَ، أَوْ مُصِيبَةٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُظْهِرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَأَنْ يَقْتُلُوهُمْ لِنِفَاقِهِمْ فَيَجِيئُوا يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِالتَّحَاكُمِ إِلَى أَهْلِ الطَّاغُوتِ إِلَّا قَصْدَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَتَأْلِيفِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا وَعِيد لَهُم لِأَنَّ إِذا لِلْمُسْتَقْبَلِ، فَالْفِعْلَانِ بَعْدَهَا:
وهما أَصابَتْهُمْ وجاؤُكَ مُسْتَقْبَلَانِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقتلُوا تقتيلا»
.
وفَكَيْفَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ: أَيْ كَيْفَ حَالُهُمْ حِينَ تُصِيبُهُمْ مُصِيبَةٌ بِسَبَبِ مَا فَعَلُوا فَيَجِيئُونَكَ مُعْتَذِرِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْوِيلِ، كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ.
وَتَرْكِيبُ «كَيْفَ بِكَ» يُقَالُ إِذَا أُرِيدَتْ بِشَارَةٌ أَوْ وَعِيدٌ تَعْجِيبًا أَوْ تَهْوِيلًا. فَمِنَ الْأَوَّلِ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ: «كَيفَ بك إِذْ لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى»
بِشَارَةً بِأَنَّ سِوَارَيْ كِسْرَى سَيَقَعَانِ بِيَدِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أُتِيَ بِسِوَارَيْ كِسْرَى فِي غَنَائِمِ فتح فَارس ألبسهما عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ تَحْقِيقًا لِمُعْجِزَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
107
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آل عمرَان: ٢٥] وَقَدْ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٤١] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ جَاءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ لِلسَّامِعِينَ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، لِأَنَّهُمْ قَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِمْ مَا جَعَلَهُمْ كَالْمُشَاهَدِينَ، وَأَرَادَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمُ الْكُفْرَ الَّذِي أَبْطَنُوهُ وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ.
وَحَقِيقَةُ الْإِعْرَاضِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الشَّيْءِ بِقَصْدِ التَّبَاعُدِ عَنْهُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، فَلَعَلَّ أَصْلَ الْهَمْزَةِ فِي فِعْلِ أَعْرَضَ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ، أَيْ دَخَلَ فِي عُرْضِ الْمَكَانِ، أَوِ الْهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ، أَيْ صَارَ ذَا عُرْضٍ، أَيْ جَانِبٍ، أَيْ أَظْهَرَ جَانِبَهُ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ وَجْهَهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالًا شَائِعًا فِي التَّرْكِ وَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُحَادَثَةِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِعْرَاضَ غَالِبًا، يُقَالُ: أَعْرَضَ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ: صَدَّ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَام: ٦٨] وَلِذَلِكَ كَثُرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي أَشْعَارِ الْمُتَيَّمِينَ رَدِيفًا لِلصُّدُودِ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْمَعَانِي إِلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، وَقَدْ شَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْعَفْوِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِتَشْبِيهِ حَالَةِ مَنْ يَعْفُو بِحَالَةِ مَنْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الشَّيْءِ فَيُوَلِّيهِ عُرْضَ وَجْهِهِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ صَفَحَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مُشْتَقًّا مِنْ صَفْحَةِ الْوَجْهِ،
أَيْ جَانِبِهِ، وَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّشْبِيهِ.
وَالْوَعْظُ: الْأَمْرُ بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ بِطَرِيقَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ وَتَرْقِيقٌ يَحْمِلَانِ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْمَوْعِظَةُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النِّسَاء: ٥٨]. فَهَذَا الْإِعْرَاضُ إِعْرَاضُ صَفْحٍ أَوْ إِعْرَاضُ عَدَمِ الْحُزْنِ مِنْ صُدُودِهِمْ عَنْكَ، أَيْ لَا تَهْتَمَّ بِصُدُودِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً، وَذَلِكَ إِبْلَاغٌ لَهُمْ فِي الْمَعْذِرَةِ، وَرَجَاءٌ لِصَلَاحِ حَالِهِمْ،. شَأْنَ النَّاصِحِ السَّاعِي بِكُلِّ وَسِيلَةٍ إِلَى الْإِرْشَادِ وَالْهُدَى.
وَالْبَلِيغُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى بَالِغٌ بُلُوغًا شَدِيدًا بِقُوَّةٍ، أَيْ: بَالِغًا إِلَى نُفُوسِهِمْ مُتَغَلْغِلًا فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ بَلِيغًا، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمَجْرُورُ لِلِاهْتِمَامِ بِإِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ قُلْ لَهُمْ، أَيْ قُلْ لَهُمْ قَوْلًا فِي شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ، فَظَرْفِيَّةُ (فِي) ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، شُبِّهَتْ أَنْفُسُهُمْ بِظَرْفٍ لِلْقَوْلِ
108

[٦٤]

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٦٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي خِلَالِ الْخَبَرِ عَنْ قَضِيَّةِ الْمُنَافِقِ الَّذِي تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ. وَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى الْغَرَضِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْإِنْحَاءُ عَلَيْهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ، وَأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ ذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِنِفَاقِهِمْ: بِبَيَانِ أَنَّ مَعْنَى الْإِيمَانِ الرِّضَا بِحُكْمِ الرَّسُولِ إِذْ مَا جَاءَ الرَّسُولُ إِلَّا لِيُطَاعَ فَكَيْفَ يُعْرَضُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (يُطَاعَ) أَيْ مُتَلَبِّسًا فِي ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ بِأَمْرِهِ وَوِصَايَتِهِ، إِذْ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الشَّرَائِعِ بِدُونِ امْتِثَالِهَا. فَمِنَ الرُّسُلِ مَنْ أُطِيعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عُصِيَ تَارَةً أَوْ دَائِمًا، وَقَدْ عُصِيَ مُوسَى فِي مَوَاقِعَ، وَعُصِيَ عِيسَى فِي مُعْظَمِ أَمْرِهِ، وَلَمْ يُعْصَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الْمُحِقِّينَ إِلَّا بِتَأَوُّلٍ، مِثْلِ مَا وَقَعَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ إِذْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَصَيْتُمْ [آل عمرَان: ١٥٢]، وَإِنَّمَا هُوَ عِصْيَانٌ بِتَأَوُّلٍ، وَلَكِنَّهُ اعْتُبِرَ عِصْيَانًا لِكَوْنِهِ فِي الْوَاقِعِ مُخَالَفَةً لِأَمْرِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْمَلُ مَظَاهِرِ الرِّسَالَةِ تَأْيِيدَ الرَّسُولِ بِالسُّلْطَانِ، وَكَوْنَ السُّلْطَانِ فِي شَخْصِهِ لِكَيْلَا يَكُونَ فِي حَاجَةٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا تَمَّ هَذَا الْمَظْهَرُ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ نَبِيءُ الْمَلَاحِمِ، وَقَدِ ابْتَدَأَتْ بَوَارِقُ
ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ تُسْتَكْمَلْ، وَكَمُلَتْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الْحَدِيد: ٢٥] وَلَا أَحْسَبُهُ أَرَادَ بِرُسُلِهِ إِلَّا رَسُوله مُحَمَّدًا- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَكَانَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ الْأَكْمَلُ فِيهِمْ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤).
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [النِّسَاء: ٦٢] تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى تَحَاكُمِهِمْ إِذْ كَانَ ذَلِكَ عِصْيَانًا عَلَى عِصْيَانٍ، فَإِنَّهُمْ مَا كَفَاهُمْ أَنْ أَعْرَضُوا عَنْ تَحْكِيمِ الرَّسُولِ حَتَّى زَادُوا فَصَدُّوا عَمَّنْ قَالَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ.
فَلَوِ
اسْتَفَاقُوا حِينَئِذٍ مِنْ غُلَوَائِهِمْ لَعَلِمُوا أَنَّ إِرَادَتَهُمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الْكُفَّارِ وَالْكَهَنَةِ جَرِيمَةٌ يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهَا وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا. وَفِي ذِكْرِ (لَوْ) وَجَعْلِ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً جَوَابًا لَهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ حُرِمُوا الْغُفْرَانَ.
وَكَانَ فِعْلُ هَذَا الْمُنَافِقِ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ. لِأَنَّهُ أَقْحَمَهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، فَجَرَّ لَهَا عِقَابَ الْآخِرَةِ وَعَرَّضَهَا لِمَصَائِبِ الِانْتِقَامِ فِي العاجلة.
[٦٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٦٥]
فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)
تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ [النِّسَاء: ٦٠] وَمَا بَعْدَهُ إِذْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَكَانَ الزَّعْمُ إِشَارَةً إِلَى انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ أُرْدِفَ بِمَا هُوَ أَصْرَحُ وَهُوَ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ تُنَافِي كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ وَبِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ.
وأصل الْكَلَام: فو ربّك لَا يُؤْمِنُونَ، وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِحَرْفِ النَّفْيِ قَبْلَ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ جَوَابُ الْقَسَمِ مَنْفِيًّا لِلتَّعْجِيلِ بِإِفَادَةِ أَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ قَسَمٌ عَلَى النَّفْيِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا، فَتَقْدِيمُ النَّفْيِ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّفْيِ، كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ:
أَيَا جَارَتَا مَا أَنْصَفَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي
فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا
وَيَكْثُرُ أَنْ يَأْتُوا مَعَ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ الْعَاطِفِ بِحَرْفِ نَفْيٍ مِثْلِهِ فِي الْجَوَابِ لِيَحْصُلَ مَعَ الِاهْتِمَامِ التَّأْكِيدُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْأَكْثَرُ، وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَقْدِيمَ (لَا) عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ إِبْطَالًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، وَوَقَعَ فِي قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
لَا وَالَّذِي هُوَ عَالِمٌ أَنَّ النَّوَى صَبْرٌ وَأَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ كَرِيمُ
وَلَيْسَتْ (لَا) هَذِهِ هِيَ الَّتِي تَرِدُ مَعَ فِعْلِ الْقَسَمِ مَزِيدَةً وَالْكَلَامُ مَعَهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ، نَحْوَ لَا أُقْسِمُ [الْقِيَامَة: ١] وَفِي غَيْرِ الْقسم نَحْو لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الْحَدِيد: ٢٩]، لِأَنَّ تِلْكَ لَيْسَ الْكَلَامُ مَعَهَا
110
عَلَى النَّفْيِ، وَهَذِهِ الْكَلَامُ مَعَهَا نَفْيٌ، فَهِيَ تَأْكِيدٌ لَهُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ خِلَافًا لِصَاحِبِ «الْكَشَّافِ»، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَوَاقِعُ الْحَرْفِ الْوَاحِدِ مُتَّحِدَةً فِي الْمَوَاقِعِ الْمُتَقَارِبَةِ.
وَقَدْ نُفِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا يَزْعُمُونَ فِي حَالٍ يَظُنُّهُمُ النَّاسُ مُؤْمِنِينَ، وَلَا يَشْعُرُ النَّاسُ بِكُفْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ احْتَاجَ الْخَبَرُ لِلتَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ وَبِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، لِأَنَّهُ كَشْفٌ لِبَاطِنِ حَالِهِمْ. وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ هُوَ: الْغَايَةُ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِثُمَّ، مَعًا، فَإِنْ هُمْ حَكَّمُوا غَيْرَ الرَّسُولِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، أَيْ إِذَا كَانَ انْصِرَافُهُمْ عَنْ تَحْكِيمِ الرَّسُولِ لِلْخَشْيَةِ مِنْ جَوْرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ فَافْتَضَحَ كُفْرَهُمْ، وَأَعْلَمَ اللَّهُ الْأُمَّةَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ حَتَّى يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ وَلَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِنْ حُكْمِهِ، أَيْ حَرَجًا يَصْرِفُهُمْ عَنْ تَحْكِيمِهِ، أَوْ يُسْخِطُهُمْ مَنْ حُكْمِهِ بَعْدَ تَحْكِيمِهِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَنْصَرِفُونَ عَنْ تَحْكِيمِ الرَّسُولِ وَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِنْ قَضَائِهِ بِحُكْمِ قِيَاسِ الْأَحْرَى.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَرَجَ الَّذِي يَجِدُهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مِنْ كَرَاهِيَةِ مَا يُلْزَمُ بِهِ إِذَا لَمْ يُخَامِرْهُ شَكٌّ فِي عَدْلِ الرَّسُولِ وَفِي إِصَابَتِهِ وَجْهَ الْحَقِّ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ كَيْفَ يَكُونُ الْإِعْرَاضُ عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ كُفْرًا، سَوَاءً كَانَ مِنْ مُنَافِقٍ أَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ، إِذْ قَالَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ «وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا الله مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ- ثُمَّ قَالَ- إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»، لِأَنَّ حُكْمَ الرَّسُولِ بِمَا شَرَعَ اللَّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ لَا يَحْتَمِلُ الْحَيْفَ إِذْ لَا يُشَرِّعُ اللَّهُ إِلَّا الْحَقَّ، وَلَا يُخَالِفُ الرَّسُولُ فِي حُكْمِهِ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةً بِحُكْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْ حُكْمِ غَيْرِ الرَّسُولِ فَلَيْسَ بِكُفْرٍ إِذَا جَوَّزَ
الْمُعْرِضُ عَلَى الْحَاكِمِ عَدَمَ إِصَابَتِهِ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَدَمَ الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ. وَقَدْ كَرِهَ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ حُكْمَ أَبِي بَكْرٍ وَحُكْمَ عُمَرَ فِي قَضِيَّةِ مَا تَرَكَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْضِ فَدَكَ، لِأَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنَّ اجْتِهَادَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ. وَقد قَالَ عَيْنِيَّة بْنُ حِصْنٍ لِعُمَرَ: «إِنَّكَ لَا تَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا تَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ» فَلَمْ يُعَدُّ طَعْنُهُ فِي حُكْمِ عُمَرَ كُفْرًا
111
مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ التقاضي لَدَى قَاضِي يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ قَدْ يَكُونُ لِلطَّعْنِ فِي الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ الثَّابِتِ كَوْنِهَا حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كُفْرٌ لِدُخُولِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا [النُّور: ٥٠] وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ مُتَابَعَةِ الْهَوَى إِذَا كَانَ الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ مُلَائِمًا لِهَوَى الْمَحْكُومِ لَهُ، وَهَذَا فُسُوقٌ وَضَلَالٌ، كَشَأْنِ كُلِّ مُخَالَفَةٍ يُخَالِفُ بِهَا الْمُكَلَّفُ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ لِاتِّبَاعِ الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلطَّعْنِ فِي الْحَاكِمِ وَظَنِّ الْجَوْرِ بِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْصُومٍ، وَهَذَا فِيهِ مَرَاتِبُ بِحَسَبِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِصَافِ من الْحَاكِم وتقوميه، وَسَيَجِيءُ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٤٤].
وَمَعْنَى شَجَرَ تَدَاخَلَ وَاخْتَلَفَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ الْإِنْصَافُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّجَرِ لِأَنَّهُ يَلْتَفُّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَتَلْتَفُّ أَغْصَانُهُ. وَقَالُوا: شَجَرَ أَمْرُهُمْ، أَيْ كَانَ بَيْنَهُمُ الشَّرُّ. وَالْحَرَجُ:
الضِّيقُ الشَّدِيدُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: ١٢٥].
وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ عَلَى مَا قَبْلَهُ يَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَضِيَّةُ الْخُصُومَةِ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْمُنَافِقِ، وَتَحَاكُمِ الْمُنَافِقِ فِيهَا لِلْكَاهِنِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ.
وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ الزُّبَيْرِ: أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي خُصُومَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدِ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجٍ مِنَ الْحَرَّةِ (أَيْ مَسِيلِ مِيَاهٍ جَمْعُ شَرْجٍ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- وَهُوَ مَسِيلُ الْمَاءِ يَأْتِي مِنْ حَرَّةِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْحَوَائِطِ الَّتِي بِهَا) إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولِ اللَّهِ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لَأَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. فَتَغَيَّرَ وَجْهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ الْجَدْرَ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ وَاسْتَوْفِ حَقَّكَ
(وَالْجَدْرُ هُوَ مَا يُدَارُ بِالنَّخْلِ مِنَ التُّرَابِ كَالْجِدَارِ) فَكَانَ قَضَاؤُهُ الْأَوَّلُ صُلْحًا، وَكَانَ قَضَاؤُهُ الثَّانِي أَخْذًا بِالْحَقِّ، وَكَأَنَّ هَذَا الْأنْصَارِيّ ظمّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الصُّلْحَ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهٍ فِيهِ تَوْفِيرٌ لِحَقِّ الزُّبَيْرِ جَبْرًا لِخَاطِرِهِ، وَلَمْ يَرَ فِي ذَلِكَ مَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ مُتَفَاوِتِينَ فِي الْعِلْمِ بِحَقَائِقِ صِفَاتِ الرَّسُولِ مَدْفُوعِينَ فِي سَبْرِ النُّفُوسِ بِمَا اعْتَادُوهُ مِنَ
الْأَمْيَالِ وَالْمُصَانَعَاتِ، فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْعِصْمَةِ. وَلَيْسَ هَذَا الْأَنْصَارِيُّ بِمُنَافِقٍ وَلَا شَاكٍّ
112
فِي الرَّسُولِ، فَإِنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِالْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ وَصْفٌ لِخِيرَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا وَصَفُوهُ بِالْمُنَافِقِ، وَلَكِنَّهُ جَهِلَ وَغَفَلَ فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَتِبْهُ.
وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي التَّكْفِيرِ بِلَازِمِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَفِيهَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ لِابْنِ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ فِي كِتَابِ «الْجَنَائِزِ» وَكِتَابِ «الْمُرْتَدِّينَ». خُلَاصَتُهُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْبِيهِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ مِثْلُ هَذَا عَلَى مَا يَلْزَمُ قَوْلَهُ مِنْ لَازِمِ الْكُفْرِ فَإِنِ الْتَزَمَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ عُدَّ كَافِرًا، لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَغْفُلُ عَنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَيُؤْخَذُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ مِنْ أُسْلُوبِ الْآيَةِ لِقَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- تَسْلِيماً فَنَبَّهَ الْأَنْصَارِيُّ بِأَنَّهُ قَدِ الْتَبَسَ بِحَالَةٍ تُنَافِي الْإِيمَانَ فِي خَفَاءٍ إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلَى عَاقِبَتِهَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا.
وَالْأَنْصَارِيُّ، قِيلَ: هُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَحَبَّذَا إِخْفَاؤُهُ، وَقِيلَ: هُوَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَهُوَ سَهْوٌ مِنْ مُؤَلِّفِهِ، وَقِيلَ: ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ إِيمَانُهُمْ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْحَادِثَتَيْنِ وَقَعَتَا فِي زَمَنٍ مُتَقَارِبٍ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ حَادِثَةِ بِشْرٍ الْمُنَافِقِ فَظَنَّهَا الزُّبَيْرُ نَزَلَتْ فِي حَادِثَتِهِ مَعَ الْأنْصَارِيّ.
[٦٦- ٦٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٦٦ إِلَى ٦٨]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ لِيُعْطَفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا لَيْسَ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَيْ لَيْسَ أَوْلَى بِالِامْتِثَالِ حَتَّى يُقَالَ: لَوْ أَنَّا كَلَّفْنَاهُمْ بِالرِّضَا بِمَا هُوَ دُونَ قَطْعِ الْحُقُوقِ لَمَا رَضُوا، بَلِ الْمَفْرُوضُ هُنَا أَشُدُّ عَلَى النُّفُوسِ مِمَّا عَصَوْا فِيهِ. فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَجْهُ اتِّصَالِهَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لَمَّا لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا أَسْخَفَ هَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ ثُمَّ لَا
113
يَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ، وَنَحْنُ قَدْ أَمَرَنَا نَبِيئُنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا وَبَلَغَتِ الْقَتْلَى مِنَّا سَبْعِينَ أَلْفًا فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ: لَوْ كُتِبَ ذَلِكَ عَلَيْنَا لَفَعَلْنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ عَنِ السِّيَاقِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قِيلَ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ بَلْ قِيلَ: لَفَعَلَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْفَخْرُ: هِيَ تَوْبِيخٌ لِلْمُنَافِقِينَ، أَيْ لَوْ شَدَّدْنَا عَلَيْهِمُ التَّكْلِيفَ لَمَا كَانَ مِنَ الْعَجَبِ ظُهُورُ عِنَادِهِمْ، وَلَكِنَّا رَحِمْنَاهُمْ بِتَكْلِيفِهِمُ الْيُسْرَ فَلْيَتْرُكُوا الْعِنَادَ. وَهِيَ عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ تَحْرِيضًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى امْتِثَالِ الرَّسُولِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِلَّا الْيُسْرَ، كُلُّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَتْلِ النُّفُوسِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدٌ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ.
وَعِنْدِي أَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ هُنَا مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ تَهْيِئَةً لِانْتِقَالِ الْكَلَامِ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النِّسَاء: ٧١] وَأَنَّ الْمُرَادَ بِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: لِيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ وَأَقَارِبَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ الْهِجْرَةُ، أَيْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ هِجْرَةً مِنَ الْمَدِينَةِ، وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَّا قَلِيلٌ- بِالرَّفْعِ- عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْوَاوِ فِي مَا فَعَلُوهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِالنَّصْبِ- عَلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَنْفِيِّ.
وَمَعْنَى مَا يُوعَظُونَ بِهِ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النِّسَاء: ٦٣]، أَيْ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ أَمْرَ تَحْذِيرٍ وَتَرْقِيقٍ، أَيْ مَضْمُونُ مَا يُوعَظُونَ لِأَنَّ الْوَعْظَ هُوَ الْكَلَامُ وَالْأَمْرُ، وَالْمَفْعُولُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، أَيْ لَوْ فَعَلُوا كُلَّ مَا يُبَلِّغُهُمُ الرَّسُولُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ.
وَكَوْنُهُ خَيْرًا أَنَّ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَشَدَّ تَثْبِيتاً يَحْتَمِلُ أَنَّهُ التَّثْبِيتُ عَلَى الْإِيمَانِ وَبِذَلِكَ فَسَّرُوهُ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنَّهُ أَشَدُّ تَثْبِيتًا لَهُمْ، أَيْ لِبَقَائِهِمْ بَيْنَ أَعْدَائِهِمْ وَلِعِزَّتِهِمْ وَحَيَاتِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ اسْتِبْقَاءً لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الْمُهَاجَرَةَ حُبًّا لِأَوْطَانِهِمْ، فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْجِهَادَ وَالتَّغَرُّبَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَشَدُّ تَثْبِيتًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ يَذُودُ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ:
114
وَمِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ خَيْرُ الدُّنْيَا، وَبِالتَّثْبِيتِ التَّثْبِيتُ فِيهَا، قَوْلُهُ عَاطِفًا عَلَيْهِ وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً.
وَجُمْلَةُ وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جَوَابِ (لَوْ)، وَالتَّقْدِيرُ: لَكَانَ خَيْرًا وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَلَآتَيْنَاهُمْ إِلَخْ، وَوُجُودُ اللَّامِ الَّتِي تَقَعُ فِي جَوَابِ (لَوْ) مُؤْذِنٌ بِذَلِكَ. وَأَمَّا وَاوُ الْعَطْفِ فَلِوَصْلِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِالْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا (إِذَنْ) فَهِيَ حَرْفُ جَوَابٍ
وَجَزَاءٍ، أَيْ فِي مَعْنَى جَوَابٍ لِكَلَامٍ سَبَقَهَا وَلَا تَخْتَصُّ بِالسُّؤَالِ، فَأُدْخِلَتْ فِي جَوَابِ (لَوْ) بِعَطْفِهَا عَلَى الْجَوَابِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْجَزَاءِ، فَقَدْ أُجِيبَتْ (لَوْ) فِي الْآيَةِ بِجَوَابَيْنِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ، وَلَا يَحْسُنُ اجْتِمَاعُ جَوَابَيْنِ إِلَّا بِوُجُودِ حَرْفِ عَطْفٍ.
وَقَرِيبٌ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ الْعَنْبَرِيِّ فِي الْحَمَاسَةِ:
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا
لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شِيبَانَا
إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لَوْثَةٍ لَانَا
قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (إِذَنْ لَقَامَ) جَوَابَ: (لَوْ كُنْتَ مِنْ مَازِنٍ) فِي الْبَيْتِ السَّابِقِ كَأَنَّهُ أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ: قِيلَ وَمَاذَا يَكُونُ لَهُمْ بَعْدَ التَّثْبِيتِ، فَقِيلَ: وَإِذَنْ لآتيناهم. قَالَ التَّفْتَازَانِيّ:
«عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ»، أَيْ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُنَافِي تَقْدِيرَ سُؤَالٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ مَا صَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا الْتِزَامَ كَوْنِ (إِذَنْ) حَرْفًا لِجَوَابِ سَائِلٍ، وَالْوَجْهُ أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ مَا يُتَلَقَّى بِهِ كَلَامٌ آخَرُ سَوَاءً كَانَ سُؤَالًا أَوْ شَرْطًا أَوْ غَيْرَهُمَا.
وَقَوْلُهُ: وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أَيْ لَفَتَحْنَا لَهُمْ طُرُقَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، لِأَنَّ تَصَدِّيَهُمْ لِامْتِثَالِ مَا أُمِرُوا بِهِ هُوَ مَبْدَأُ تَخْلِيَةِ النُّفُوسِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِأَوْهَامِهَا وَعَوَائِدِهَا الْحَاجِبَةِ لَهَا عَنْ دَرَكِ الْحَقَائِق، فَإِذا ابتدأوا يَرْفُضُونَ هَذِهِ الْمَوَاقِعَ فَقَدِ اسْتَعَدُّوا لِتَلَقِّي الْحِكْمَةِ وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ فَفَاضَتْ عَلَيْهِمُ الْمَعَارِفُ تَتْرَى بِدَلَالَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَبِتَيْسِيرِ اللَّهِ صَعْبَهَا بِأَنْوَارِ الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّاعَةَ مِفْتَاحُ الْمَعَارِفِ بَعْدَ تعَاطِي أَسبَابهَا.
115

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٦٩ إِلَى ٧٠]

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاء: ٦٧] وَإِنَّمَا عُطِفَتْ بِاعْتِبَارِ إِلْحَاقِهَا بِجُمْلَةِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ [النِّسَاء: ٦٦]. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى جَدَارَتِهِمْ بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ الْمَنْزِلَةِ فِي الْجَنَّةِ وَإِن وَإِنْ كَانَتِ الدَّرَجَاتُ مُتَفَاوِتَةً.
وَمَعْنَى مَنْ يُطِعِ مَنْ يَتَّصِفُ بِتَمَامِ مَعْنَى الطَّاعَةِ، أَيْ أَنْ لَا يَعْصِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَدَلَّتْ (مَعَ) عَلَى أَنَّ مَكَانَةَ مَدْخُولِهَا أَرْسَخُ وَأَعْرَفُ،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»
. وَالصِّدِّيقُونَ هُمُ الَّذِينَ صَدَّقُوا الْأَنْبِيَاءَ ابْتِدَاءً، مِثْلَ الْحَوَارِيِّينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَهُمْ مَنْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ. وَالصَّالِحُونَ الَّذِينَ لَزِمَتْهُمُ الِاسْتِقَامَةُ.
وَ (حَسُنَ) فِعْلٌ مُرَادٌ بِهِ الْمَدْحُ مُلْحَقٌ بِنِعْمَ وَمُضَمَّنٌ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ حُسْنِهِمْ، وَذَلِكَ شَأْنُ فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- مِنَ الثُّلَاثِيِّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ بِحَسَبِ مَادَّتِهِ مَعَ التَّعَجُّبِ.
وَأَصْلُ الْفِعْلِ حَسَنَ- بِفَتْحَتَيْنِ- فَحُوِّلَ إِلَى فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- لِقَصْدِ الْمَدْحِ وَالتَّعَجُّبِ.
وأُولئِكَ فَاعِلُ حَسُنَ. ورَفِيقاً تَمْيِيزٌ، أَيْ مَا أَحْسَنَهُمْ حَسُنُوا مِنْ جِنْسِ الرُّفَقَاءِ.
وَالرَّفِيقُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ،
وَفِي حَدِيثِ الْوَفَاةِ «الرَّفِيقَ الْأَعْلَى».
وَتَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَهُوَ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ أَنْوَاعٌ، وَأَصْنَافٌ، وَلَكِنَّهُ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي قُوَّةِ هَذَا الْفَضْلِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ الرَّجُلُ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ تَلَبَّسُوا بِهَذِهِ الْمَنْقَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُمُ النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُمْ وَالْجَزَاءُ بِيَدِهِ فَهُوَ يُوَفِّيهِمُ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ مَا عَلِمَ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي هَذِه السُّورَة.

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٣]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣)
اسْتِئْنَافٌ وَانْتِقَالٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ بِمُنَاسَبَةٍ لَطِيفَةٍ، فَإِنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ إِلَى ذِكْرِ أَشَدِّ التَّكَالِيفِ، ثُمَّ ذِكْرِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيئِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَكَانَ الْحَالُ أَدْعَى إِلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الشَّهَادَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْخِلَالِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهَا الْمُمْكِنَةِ النَّوَالِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ لَا مَحَالَةَ إِلَى تَهْيِئَةِ غَزْوَةٍ مِنْ غَزَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ غَزْوَةٍ لِأَنَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ وَقَعَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ غَزْوَةُ أُحُدٍ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَلَيْسَتْ نَازِلَةً فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَانْفِرُوا ثُباتٍ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَازُونَ لَا مَغْزُوُّونَ، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ إِلَى قَوَاعِدِ الِاسْتِعْدَادِ لِغَزْوِ الْعَدُوِّ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ
الْعَدُوِّ الْكَاشِحِ، وَمِنَ الْعَدُوِّ الْكَائِدِ، وَلَعَلَّهَا إِعْدَادٌ لِغَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَكَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فِي سِنَةِ ثَمَانٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ كَانَتْ مُدَّةَ اشْتِدَادِ التَّأَلُّبِ مِنَ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ لِنُصْرَةِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَالذَّبِّ عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ [النِّسَاء: ٧٥] إِلَخْ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١٤١] فَإِنَّ اسْمَ الْفَتْحِ أُرِيدَ بِهِ فَتْحُ مَكَّةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: ٢٧].
وَابْتَدَأَ بِالْأَمْرِ بِأَخْذِ الْحَذَرِ. وَهِيَ أَكْبَرُ قَوَاعِدِ الْقِتَالِ لِاتِّقَاءِ خُدَعِ الْأَعْدَاءِ. وَالْحَذَرُ:
هُوَ تَوَقِّي الْمَكْرُوهِ.
117
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ مِنْ هُدْنَةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ وَأَنْصَارَهُ يَتَرَبَّصُونَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ، وَمِنْ بَيْنِهِمْ مُنَافِقُونَ هُمْ أَعْدَاءٌ فِي صُورَةِ أَوْلِيَاءَ، وَهُمُ الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ- إِلَى- فَوْزاً عَظِيماً.
وَلَفْظُ خُذُوا اسْتِعَارَةٌ لِمَعْنَى شِدَّةِ الْحَذَرِ وَمُلَازَمَتِهِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَخْذِ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ بَعِيدًا عَنْكَ. وَلَمَّا كَانَ النِّسْيَانُ وَالْغَفْلَةُ يُشْبِهَانِ الْبُعْدَ وَالْإِلْقَاءَ كَانَ التَّذَكُّرُ وَالتَّيَقُّظُ يُشْبِهَانِ أَخْذَ الشَّيْءِ بَعْدَ إِلْقَائِهِ، كَقَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ [الْأَعْرَاف: ١٩٩]، وَقَوْلِهِمْ: أَخَذَ عَلَيْهِ عَهْدًا وَمِيثَاقًا. وَلَيْسَ الْحَذَرُ مَجَازًا فِي السِّلَاحِ كَمَا تَوَهَّمَهُ كَثِيرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النِّسَاء: ١٠٢]. فَعَطَفَ السِّلَاحَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً تَفْرِيعٌ عَنْ أَخْذِ الْحَذَرِ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَخَذُوا حِذْرَهُمْ تَخَيَّرُوا أَسَالِيبَ الْقِتَالِ بِحَسَبِ حَالِ الْعَدُوِّ. وانْفِرُوا بِمَعْنَى اخْرُجُوا لِلْحَرْبِ، وَمَصْدَرُهُ النَّفْرُ، بِخِلَافِ نَفَرَ ينفر- بضمّ الْعين- فِي الْمُضَارِعِ فَمَصْدَرُهُ النُّفُورُ.
وَ (ثُبَاتٍ) بِضَمِّ الثَّاءِ جَمْعُ ثُبَةٍ- بِضَمِّ الثَّاءِ أَيْضًا- وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَأَصْلُهَا ثُبَيَةٌ أَوْ ثُبَوَةٌ بِالْيَاءِ أَو بِالْوَاو، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا بِالْوَاوِ، لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي بَقِيَ مِنْ أُصُولِهَا حَرْفَانِ وَفِي آخرهَا هَاء للتأنيث أَصْلُهَا الْوَاوُ نَحْوَ عِزَةٌ وَعِضَةٌ فَوَزْنُهَا فِعَةٌ، وَأَمَّا ثُبَةُ الْحَوْضِ، وَهِيَ وَسَطُهُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ فَهِيَ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ إِذَا رَجَعَ، وَأَصْلُهَا ثُوَبَةٌ فَخُفِّفَتْ فَصَارَتْ بِوَزْنِ فُلَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهَا تُصَغَّرُ عَلَى ثُوَيْبَةٍ، وَأَنَّ الثُّبَةَ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ تُصَغَّرُ عَلَى ثُبَيَّةٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: «رُبَّمَا تَوَهَّمَ الضَّعِيفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا» وَمَعَ هَذَا فَقَدَ جَعَلَهُمَا صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ وَهُوَ حَسَنٌ، إِذْ قَدْ تَكُونُ ثُبَةُ الْحَوْضِ مَأْخُوذَةً مِنَ الِاجْتِمَاعِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُ التَّصْغِيرِ بِسَمَاعٍ صَحِيحٍ.
وَانْتَصَبَ ثُباتٍ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ: مُتَفَرِّقِينَ، وَمَعْنَى جَمِيعاً جَيْشًا وَاحِدًا.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أَيْ مِنْ جَمَاعَتِكُمْ وَعِدَادِكُمْ، وَالْخَبَرُ الْوَارِدُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فِي خَلْوَتِهِمْ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنْ أَبْطَأَ عَنِ الْجِهَادِ لَا يَقُولُ: «قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا»، فَهَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمِثْلِ هَذَا صَرَاحَةً فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً إِلَى قَوْلِهِ:
118
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: ١٣٨- ١٤١]. وَعَلَى كَوْنِ المُرَاد ب لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الْمُنَافِقِينَ حَمَلَ الْآيَةَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمْ ضَعَفَةُ الْمُؤْمِنِينَ يَتَثَاقَلُونَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى أَنْ يَتَّضِحَ أَمْرُ النَّصْرِ. قَالَ الْفَخْرُ «وَهَذَا اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ» وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى ومِنْكُمْ أَيْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ. وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِأَقْوَى الْمُؤَكِّدَاتِ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَلَقَّى بِالِاسْتِغْرَابِ. وَبَطَّأَ- بِالتَّضْعِيفِ- قَاصِرٌ، بِمَعْنَى تَثَاقَلَ فِي نَفْسِهِ عَنْ أَمْرٍ، وَهُوَ الْإِبْطَاءُ عَنِ الْخُرُوجِ إِبْطَاءٌ بِدَاعِي النِّفَاقِ أَوِ الْجُبْنِ. وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ، وَالتَّعْرِيضَ بِهِ، مَعَ كَوْنِ الْخَبَرِ بَاقِيًا عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ لَا تُوصَفُ بِالْمَجَازِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ تَفْرِيعٌ عَنْ لَيُبَطِّئَنَّ، إِذْ هَذَا الْإِبْطَاءُ تَارَةً يَجُرُّ لَهُ الِابْتِهَاجَ بِالسَّلَامَةِ، وَتَارَةً يَجُرُّ لَهُ الْحَسْرَة والندامة.
و (الْمُصِيبَة) اسْمٌ لِمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ مِنْ شَرٍّ، وَالْمُرَادُ هُنَا مُصِيبَةُ الْحَرْبِ أَعْنِي الْهَزِيمَةَ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ.
وَمَعْنَى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِنْعَامُ بِالسَّلَامَةِ: فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَوَصْفُ ذَلِكَ بِالنِّعْمَةِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقَتْلَ عِنْدَهُمْ مُصِيبَةٌ مَحْضَةٌ إِذْ لَا يَرْجُونَ مِنْهُ ثَوَابًا وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَدْ عَدَّ نِعْمَةَ الْبَقَاءِ أَوْلَى مِنْ نِعْمَةِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ لِشِدَّةِ الْجُبْنِ، وَهَذَا مِنْ تَغْلِيبِ الدَّاعِي الْجِبِلِّيِّ عَلَى الدَّاعِي الشَّرْعِيِّ.
وَالشَّهِيدُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِمَّا بِمَعْنَى الْحَاضِرِ الْمُشَاهِدِ لِلْقِتَالِ، وَإِمَّا تَهَكُّمٌ مِنْهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ قَوْلِهِ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المُنَافِقُونَ: ٧] وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الشَّهِيدُ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ الْقَتِيلُ فِي الْجِهَادِ. وَأُكِّدَ قَوْلُهُ:
وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ، بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ وَبِلَامِ جَوَابِ الْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ، تَنْبِيهًا عَلَى غَرِيبِ حَالَتِهِ حَتَّى يُنَزَّلَ سَامِعُهَا مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْفَضْلِ الْفَتْحُ وَالْغَنِيمَةُ. وَهَذَا الْمُبَطِّئُ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ الْجَيْشِ لِيَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا، وَهُوَ الْفَوْزُ
119
بِالْغَنِيمَةِ وَالْفَوْزُ بِأَجْرِ الْجِهَادِ، حَيْثُ وَقَعَتِ السَّلَامَةُ وَالْفَوْزُ بِرِضَا الرَّسُولِ، وَلذَلِك أتبع فَأَفُوزَ بِالْمَصْدَرِ وَالْوَصْفِ بِعَظِيمٍ. وَوَجْهٌ غَرِيبٌ حَالُهُ أَنَّهُ أَصْبَحَ مُتَلَهِّفًا عَلَى مَا فَاتَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَوَدُّ أَنْ تَجْرِيَ الْمَقَادِيرُ عَلَى وَفْقِ مُرَادِهِ، فَإِذَا قَعَدَ عَنِ الْخُرُوجِ لَا يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ. وَالْمَوَدَّةُ الصُّحْبَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْمَوَدَّةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ الصُّورِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً إِنْ أُرِيدَ ضَعَفَةُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَشَبَّهَ حَالَهُمْ فِي حِينِ هَذَا الْقَوْلِ بِحَالِ مَنْ لَمْ تَسْبِقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ مَوَدَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ صُورِيَّةٌ، فَاقْتَضَى التَّشْبِيهُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقَوْلِ.
وَوَجْهُ هَذَا التَّشْبِيهِ أَنَّهُ لَمَّا تَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ وَتَحَسَّرَ عَلَى فَوَاتِ فَوْزِهِ لَوْ حَضَرَ مَعَهُمْ، كَانَ حَالُهُ فِي تَفْرِيطِهِ رُفْقَتَهُمْ يُشْبِهُ حَالَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اتِّصَالٌ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَشْهَدُ مَا أَزْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ، فَهَذَا التَّشْبِيهُ مَسُوقٌ مَسَاقَ زِيَادَةِ تَنْدِيمِهِ وَتَحْسِيرِهِ، أَيْ أَنَّهُ الَّذِي أَضَاعَ عَلَى نَفْسِهِ سَبَبَ الِانْتِفَاعِ بِمَا حَصَلَ لِرُفْقَتِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَيْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ مِنَ الْخِلْطَةِ مَعَ الْغَانِمِينَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي خُرُوجِهِ مَعَهُمْ، وَانْتِفَاعِهِ بِثَوَابِ النَّصْرِ وَفَخْرِهِ وَنِعْمَةِ الْغَنِيمَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمْ يَكُنْ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَهُوَ طَرِيقَةٌ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ لِمَا لَفْظُهُ مُؤَنَّثٌ غَيْرُ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ، مِثْلَ لَفْظِ مَوَدَّةٌ هُنَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فَصْلٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ- عَلَامَةِ الْمُضَارِعِ الْمُسْنَدِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ اعْتِبَارًا بِتَأْنِيثِ لفظ مودّة.
120

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٧٤ إِلَى ٧٦]

فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)
الْفَاءُ: إِمَّا لِلتَّفْرِيعِ، تَفْرِيعُ الْأَمْرِ عَلَى الْآخَرِ، أَيْ فُرِّعَ فَلْيُقاتِلْ عَلَى خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا [النِّسَاء: ٧١]، أَوْ هِيَ فَاءٌ فَصِيحَةٌ، أَفْصَحَتْ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:
خُذُوا حِذْرَكُمْ وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [٧٢] لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ اقْتَضَى الْأَمْرَ بِأَخْذِ الحذر، وَهُوَ مهيّء لِطَلَبِ الْقِتَالِ وَالْأَمْرِ بِالنَّفِيرِ وَالْإِعْلَامِ بِمَنْ حَالُهُمْ حَالُ الْمُتَرَدِّدِ الْمُتَقَاعِسِ، أَيْ فَإِذَا عَلِمْتُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ لَا كُلُّ أَحَدٍ.
ويَشْرُونَ مَعْنَاهُ يَبِيعُونَ، لِأَنَّ شَرَى مُقَابِلُ اشْتَرَى، مِثْلَ بَاعَ وَابْتَاعَ وَأَكْرَى وَاكْتَرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦]. فَالَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا هُمُ الَّذِينَ يَبْذُلُونَهَا وَيَرْغَبُونَ فِي حَظِّ الْآخِرَةِ. وَإِسْنَادُ الْقِتَال الْمَأْمُور بِعْ إِلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ وَهِيَ: يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِفَضْلِ الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَذْلُهُمْ حَيَاتَهُمُ الدُّنْيَا لِطَلَبِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَفَضِيحَةِ أَمْرِ الْمُبَطِّئِينَ حَتَّى يَرْتَدِعُوا عَنِ التَّخَلُّفِ، وَحَتَّى يَكْشِفَ الْمُنَافِقُونَ عَنْ دَخِيلَتِهِمْ، فَكَانَ
121
مَعْنَى الْكَلَامِ: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَإِنَّهُمْ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ مُخْتَصٌّ بِفَرِيقٍ دُونَ آخَرَ، لِأَنَّ بَذْلَ الْحَيَاةِ فِي الْحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ شَيْءٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ حَتَّى يُعَلَّقَ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَمَائِرُ بَيْنَ الْعِبَادِ وَرَبِّهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِسْنَادَ الْأَمْرِ إِلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ مَقْصُودٌ مِنْهُ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ، وَتَحْقِيرُ الْمُبَطِّئِينَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ «لَيْسَ بِعُشِّكِ فَادْرُجِي». فَهَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِوَجْهٍ لَا يَعْتَرِيهِ إِشْكَالٌ. وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَغْلِبْ أَصْنَافُ الْغَلَبَةِ عَلَى الْعَدُوِّ بِقَتْلِهِمْ أَوْ أَسْرِهِمْ أَوْ غُنْمِ أَمْوَالِهِمْ.
وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْقَتْلِ وَالْغَلَبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ وَلَمْ يَزِدْ أَوْ يُؤْسَرْ إِبَايَةً مِنْ أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ حَالَةً ذَمِيمَةً لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ حَالَةُ الْأَسْرِ فَسَكَتَ عَنْهَا لِئَلَّا يَذْكُرَهَا فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهَا أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْضًا إِذَا بَذَلَ جُهْدَهُ فِي الْحَرْب فعلب إِذِ الْحَرْبُ لَا تَخْلُو مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِمَأْمُورٍ أَنْ يُلْقِيَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُجْدِي عَنْهُ الِاسْتِبْسَالُ، فَإِنَّ مِنْ مَنَافِعِ الْإِسْلَامِ اسْتِبْقَاءَ رِجَالِهِ لِدِفَاعِ الْعَدُوِّ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ، وَهُوَ طَرِيقُ
الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ إِلَى طَرِيقِ الْمُخَاطَبَةِ.
وَمَعْنَى مَا لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ مَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْقِتَالِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: أَيُّ شَيْءٍ حَقٌّ لَكُمْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ، فَجُمْلَةُ لَا تُقاتِلُونَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا شَيْءَ لَكُمْ فِي حَالِ لَا تُقَاتِلُونَ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي هُوَ لَكُمْ هُوَ أَنْ تُقَاتِلُوا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَمْرٍ، أَيْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَصُدُّكُمْ شَيْءٌ عَنِ الْقِتَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٦].
وَمَعْنَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِأَجْلِ دِينِهِ وَلِمَرْضَاتِهِ، فَحَرْفُ (فِي) لِلتَّعْلِيلِ، وَلِأَجْلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَيْ لِنَفْعِهِمْ وَدَفْعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ.
وَ (الْمُسْتَضْعَفُونَ) الَّذِينَ يَعُدُّهُمُ النَّاس ضعفاء، و (فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْحُسْبَانِ، وَأَرَادَ بِهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ مَنَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْهِجْرَةِ بِمُقْتَضَى الصُّلْحِ الَّذِي
122
انْعَقَدَ بَيْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ سَفِيرِ قُرَيْشٍ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو إِذْ كَانَ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي انْعَقَدَ عَلَيْهَا الصُّلْحُ: أَنَّ مَنْ جَاءَ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ لَا يُرَدُّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ جَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَارًّا مِنْ مَكَّةَ مُؤْمِنًا يُرَدُّ إِلَى مَكَّةَ. وَمِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ. وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ. وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ. وَأَمَّا النِّسَاءُ فَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ أَوْ وَلَايَى الْأَوْلِيَاءِ الْمُشْرِكِينَ اللَّائِي يَمْنَعُهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَأَوْلِيَاؤُهُنَّ مِنَ الْهِجْرَةِ: مِثْلَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُمِّ الْفَضْلِ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ الْعَبَّاسِ، فَقَدْ كُنَّ يُؤْذَيْنَ وَيُحَقَّرْنَ. وَأَمَّا الْوِلْدَانُ فَهُمُ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْلَمُونَ مِنْ مُشَاهَدَةِ تَعْذِيبِ آبَائِهِمْ وَذَوِيهِمْ وَإِيذَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ وَحَاضِنَاتِهِمْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ.
وَالْقِتَالُ فِي سَبِيلِ هَؤُلَاءِ ظَاهِرٌ، لِإِنْقَاذِهِمْ مِنْ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْقَاذِ الْوِلْدَانِ مِنْ أَنْ يَشِبُّوا عَلَى أَحْوَالِ الْكُفْرِ أَوْ جَهْلِ الْإِيمَانِ.
والقرية هِيَ مَكَّةُ. وَسَأَلُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا لِمَا كَدَّرَ قُدْسَهَا مِنْ ظُلْمِ أَهْلِهَا، أَيْ ظُلْمِ الشِّرْكِ وَظُلْمِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَرَاهِيَةُ الْمُقَامِ بِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا صَارَتْ يَوْمَئِذٍ دَارَ شِرْكٍ وَمُنَاوَاةٍ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَحَلَّهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَهَا، وَقَدْ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَفْتَخِرُ بِاقْتِحَامِ خَيْلِ قَوْمِهِ فِي زُمْرَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ:
شَهِدْنَ مَعَ النَّبِيءِ مُسَوَّمَاتٍ حُنَيْنًا وَهِيَ دَامِيَةُ الْحَوَامِي
وَوَقْعَةَ خَالِدٍ شَهِدَتْ وَحَكَّتْ سَنَابِكَهَا عَلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ
وَقَدْ سَأَلُوا مِنَ اللَّهِ وَلِيًّا وَنَصِيرًا، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ بِنَبِيئِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دَعْوَتَهُمْ وَهَيَّأَ لَهُمُ النَّصْرَ بِيَدِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ:
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، أَيْ فَجَنَّدَ اللَّهُ لَهُمْ عَاقِبَةَ النَّصْرِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً.
123
وَ (الطَّاغُوتُ) : الْأَصْنَامُ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥]، وَقَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النِّسَاء: ٦٠].
وَالْمُرَادُ بِكَيْدِ الشَّيْطَانِ تَدْبِيرُهُ. وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عَلَى أَنْصَارِهِ مِنَ الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالتَّدْبِيرِ لِتَأْلِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِمُؤَكِّدَيْنِ (إِنَّ) (وَكَانَ) الزَّائِدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقَرُّرِ وَوصف الضَّعْفِ لِكَيْدِ الشَّيْطَانِ.
[٧٧- ٧٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٧٧ الى ٧٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِلتَّذْكِيرِ بِحَالِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَ أَوَّلُ حَالِهِ وَآخِرُهُ، فَاسْتَطْرَدَ هُنَا
التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ يَوَدُّونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فِي إِبَّانِهِ جَبُنُوا. وَقَدْ عُلِمَ مَعْنَى حِرْصِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، لِأَنَّ كَفَّ الْيَدِ مُرَادٌ، مِنْهُ تَرْكُ الْقِتَالَ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الْفَتْح: ٢٤].
وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: ٧٥] وَالْجُمَلِ الَّتِي بَعْدَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: ٧٤] الْآيَةَ اقْتَضَتِ اعْتِرَاضَهَا مُنَاسَبَةُ الْعِبْرَةِ بِحَالِ هَذَا
124
الْفَرِيقِ وَتَقَلُّبِهَا، فَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ هُمْ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَسَبَبُ الْقَوْلِ لَهُمْ هُوَ سُؤَالُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَمَحَلُّ التَّعْجِيبِ إِنَّمَا هُوَ حَالُ ذَلِكَ الْفَرِيقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَعْنَى كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ فِي عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ الْقَادِرِينَ. وَقَدْ دَلَّتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ لَمْ يَكُنْ تُتَرَقَّبُ مِنْهُمْ هَذِهِ الْحَالَةُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظْهَرُونَ مِنَ الْحَرِيصِينَ عَلَى الْقِتَالِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا لَقُوا بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَذًى شَدِيدًا،
فَقَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً» وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أمرت بِالْعَفو
كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفُرِضَ الْجِهَادُ جَبُنَ فَرِيقٌ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ فِي الْقِتَالِ، فَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ.
وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ عبد الرحمان بْنَ عَوْفٍ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَقُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَأَصْحَابَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ حَيْثُ رَغِبُوا تَأْخِيرَ الْعَمَلِ بِأَمْرِ اللَّهِ بِالْجِهَادِ لِخَوْفِهِمْ مِنْ بَأْسِ الْمُشْرِكِينَ، فَالتَّشْبِيهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ حَمْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ لَا يُلَائِمُ حَالَهُمْ مِنْ فَضِيلَةِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: «الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ»
قَوْمٌ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ وَسَأَلُوا أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فَلَمَّا فُرِضَ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ يَخْشَوْنَ النَّاسَ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْفَرِيقِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ فَقِيلَ: هُمْ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا فِي مَكَّةَ فِي أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْكَلْبِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَلَعَلَّ الَّذِي حَوَّلَ عَزْمَهُمْ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي أَمْنٍ وَسَلَامَةٍ مِنَ الْإِذْلَالِ وَالْأَذَى، فَزَالَ عَنْهُمُ الِاضْطِرَارُ لِلدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْفَرِيقَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ نَظْمِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ
اسْتَأْذَنُوا فِي قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ فِي مَكَّةَ أَنَّهُمْ لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ كَرَّرُوا الرَّغْبَةَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَعَادَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْدِئَتَهُمْ زَمَانًا، وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ تَظَاهَرُوا بِالرَّغْبَةِ فِي ذَلِكَ تَمْوِيهًا لِلنِّفَاقِ، فَلَمَّا كُتِبَ الْقِتَالُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَبُنَ الْمُنَافِقُونَ،
125
وَهَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ. وَتَأْوِيلُ وَصْفِهِمْ بِقَوْلِهِ مِنْهُمْ: أَيْ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَهَذَا عَلَى غُمُوضِهِ هُوَ الَّذِي يَنْسَجِمُ مَعَ أُسْلُوبِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا بَعْدَهُ، كَمَا سَيَأْتِي، أَمَّا عَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ.
فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ لِلتَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ. وَالْمُتَعَجَّبُ مِنْهُمْ لَيْسُوا هُمْ جَمِيعُ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فِي مَكَّةَ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، بَلْ فَرِيقٌ آخَرُ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا عُلِّقَ التَّعْجِيبُ بِجَمِيعِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ حَالُهُمْ كَمَا وُصِفَ، فَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ.
وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ قَوْلِهِ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٠].
وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ لِحِكْمَةِ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بَلْوَى. (وَالْأَجَلُ الْقَرِيبُ) مُدَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ رَيْثَمَا يَتِمُّ اسْتِعْدَادُهُمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [المُنَافِقُونَ: ١٠].
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ (الْأَجَلِ) الْعُمْرُ،. بِمَعْنَى لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ آجَالَنَا دُونَ قِتَالٍ، فَيَصِيرُ تَمَنِّيًا لِانْتِفَاءِ فَرْضِ الْقِتَالِ، وَهَذَا بعيد لعدم ملائمته لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، إِذْ لَيْسَ الْمَوْتُ فِي الْقِتَالِ غَيْرَ الْمَوْتِ بِالْأَجَلِ، وَلِعَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِوَصْفِهِ بِقَرِيبٍ، لِأَنَّ أَجَلَ الْمَرْءِ لَا يُعْرَفُ أَقَرِيبٌ هُوَ أَمْ بَعِيدٌ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَقْلِيلُ الْحَيَاةِ كُلِّهَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْقِتَالُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا هُوَ أَوَّلُ قِتَالٍ أُمِرُوا بِهِ، وَالْآيَةُ ذَكَّرَتْهُمْ بِذَلِكَ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا حِينَ التَّهَيُّؤِ لِلْأَمْرِ بِفَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُرِيدَ بِالْفَرِيقِ بَعْضٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ مِنْ فَرَائِضِهِ وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُقَاتِلُوا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ جَبُنُوا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ، وَيكون الْقِتَال الَّذين خَافُوهُ هُوَ غَزْوُ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَشُوا بَأْسَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا فِي نُفُوسِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَبْدُو هُوَ الْمُتَعَيِّنُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَرِيقِ فَرِيقَ الْمُنَافِقِينَ فَهُمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلَنًا لِيُوقِعُوا الْوَهْنَ فِي قُلُوبِ الْمُسْتَعِدِّينَ لَهُ
126
وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ الْآيَةُ مِثَالًا ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، تَحْذِيرًا لَهُمْ فِي الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٦].
وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَهِيَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الْمَرْوِيَّةِ بَصَرِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَعَلَى بَعْضِهَا بَصَرِيَّةٌ تَنْزِيلِيَّةٌ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي اشْتِهَارِ ذَلِكَ.
وَانْتَصَبَ خَشْيَةً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ أَشَدَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٠].
وَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُمْ لِسَانِيًّا وَهُوَ بَيِّنٌ، أَمْ كَانَ نَفْسِيًّا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ عَلَى مَا تُضْمِرُهُ نُفُوسُهُمْ، أَيْ أَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يُفِيدُ وَالتَّعَلُّقَ بِالتَّأْخِيرِ لِاسْتِبْقَاءِ الْحَيَاةِ لَا يُوَازِي حَظَّ الْآخِرَةِ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ مَا أَرَادُوا مِنَ الْفِتْنَةِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا مَوْقِعُ زِيَادَةِ التَّوْبِيخِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، أَيْ وَلَا تُنْقَصُونَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَارِكُمُ الْمَكْتُوبَةِ، فَلَا وَجْهَ لِلْخَوْفِ وَطَلَبِ تَأْخِيرِ فَرْضِ الْقِتَالِ وَعَلَى تَفْسِيرِ الْأَجَلِ فِي: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ بِأَجَلِ الْعُمْرِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْمُسْتَبْعَدُ، يَكُونُ مَعْنَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا تَغْلِيطَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقَتْلَ يُعَجِّلُ الْأَجَلَ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَقِيدَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ قَبْلَ رُسُوخِ تَفَاصِيلِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ عَقِيدَةَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ.
وَقِيلَ مَعْنَى نَفْيِ الظُّلْمِ هُنَا أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ ثَوَابِ جِهَادِهِمْ، فَيَكُونُ مَوْقِعُهُ مَوْقِعَ التَّشْجِيعِ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ، وَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ أَقَلِّ زَمَنٍ مِنْ آجَالِهِمْ، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يُجْعَلَ تُظْلَمُونَ بِمَعْنَى تُنْقَصُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: ٣٣]، أَيْ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ مِنْ أُكُلِهَا، وَيَكُونُ فَتِيلًا مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ سَاعَةً، فَلَا مُوجِبَ لِلْجُبْنِ.
127
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُظْلَمُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الرَّسُولَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ
الْغَيْبَةِ- عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَلِّغَهُ إِلَيْهِمْ.
وَالْفَتِيلُ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النِّسَاء:
٤٩].
وَجُمْلَةُ: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ. وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا تَغْلِيطٌ لَهُمْ فِي طَلَبِ التَّأْخِيرِ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وَجُمْلَةُ: أَيْنَما تَكُونُوا إِلَخْ مَسُوقَةٌ لِإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّ الْجُبْنَ هُوَ الَّذِي جملهم عَلَى طَلَبِ التَّأْخِيرِ إِلَى أَمَدٍ قَرِيبٍ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ مَوَاقِعَ الْقِتَالِ تُدْنِي الْمَوْتَ مِنَ النَّاسِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَدْ تَمَّ، وَأَنَّ جُمْلَةَ أَيْنَما تَكُونُوا تَوَجُّهٌ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَوَجُّهٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ، فَتَكُونُ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ. وَ (أَيْنَمَا) شَرْطٌ يَسْتَغْرِقُ الْأَمْكِنَةَ (وَلَوْ) فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ وَصْلِيَّةٌ- وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعْنَاهَا وَاسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ:- فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١] : فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ.
وَالْبُرُوجُ جَمْعُ بُرْجٍ، وَهُوَ الْبِنَاءُ الْقَوِيُّ وَالْحِصْنُ: وَالْمُشَيَّدَةُ: الْمَبْنِيَّةُ بِالشِّيدِ، وَهُوَ الْجِصُّ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعَةِ الْعَالِيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَطَالُوا الْبِنَاءَ بَنَوْهُ بِالْجِصِّ، فَالْوَصْفُ بِهِ مُرَادٌ بِهِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيُّ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْبُرُوجُ عَلَى مَنَازِلِ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفرْقَان: ٦١] وَقَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: ١].
وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الْبُرُوجُ هُنَا بُرُوجُ الْكَوَاكِبِ، أَيْ وَلَوْ بَلَغْتُمُ السَّمَاءَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ وَصْفُ مُشَيَّدَةٍ مَجَازًا فِي الِارْتفَاع، وَهُوَ بَصِير مجَازًا فِي الِارْتِفَاعِ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
128
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩).
يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِمَّا رُوِيَ فِي تَعْيِينِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ مِنْ أَنَّهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ عَائِدًا إِلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مِنَ الْمَقَامِ، وَلِسَبْقِ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النِّسَاء: ٧٢] وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَطْفَ
قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَإِنَّ مَا حُكِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُنَافِقِينَ، وَيَكُونُ الْغَرَضُ انْتَقَلَ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ إِلَى وَصْفِ الَّذِينَ لَا يَسْتَجِيبُونَ إِلَى الْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا يُبَلِّغُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ السُّدِّيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَانُوا عَلَى شَفَا الشَّكِّ فَإِذَا حَلَّ بِهِمْ سُوءٌ أَوْ بُؤْسٌ تَطَيَّرُوا بِالْإِسْلَامِ فَقَالُوا: هَذِهِ الْحَالَةُ السُّوأَى مِنْ شُؤْمِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ كَانَ إِذَا أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَمَتْ أَنْعَامُهُ وَرَفُهَتْ حَالُهُ حَمِدَ الْإِسْلَامَ، وَإِذَا أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ مَوَتَانٌ فِي أَنْعَامِهِ تَطَيَّرَ بِالْإِسْلَامِ فَارْتَدَّ عَنْهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْحُمَّى فِي الْمَدِينَةِ فَاسْتَقَالَ مِنَ النَّبِيءِ بَيْعَتَهُ
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِهِ: «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا»
. وَالْقَوْلُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ هُوَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ عَلَنًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ. أَوْ هُوَ قَوْلٌ يَقُولُونَهُ بَيْنَ إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ،
129
يَقُولُونَ: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِكَافِ الْخِطَابِ مِنْ قَبِيلِ حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِحَاصِلِ مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَقَامِ الْحَاكِي وَالْمَحْكِيِّ لَهُ، وَهُوَ وَجْهٌ مَطْرُوقٌ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ الْغَائِبِ عَنِ الْمُخَاطَبِ إِذَا حَكَى كَلَامَهُ لِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: ١١٧]. وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ. وَوَرَدَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الْيَهُودُ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ مَعْرُوفُونَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَدِيمًا قِيلَ لِأَسْلَافِهِمْ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: ١٣١]. وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ هُنَا مَا تَعَارَفَهُ الْعَرَبُ مِنْ قِبَلِ اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ أَعْنِي الْكَائِنَةِ الْمُلَائِمَةِ والكائنة المنافرة، كَقَوْلِهِم: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: ١٣١] وَقَوْلُهُ:
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [الْبَقَرَة: ٢٠١]، وَتَعَلُّقُ فِعْلِ الْإِصَابَةِ بِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ بِالِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، أَعْنِي الْفِعْلَ الْمُثَابَ عَلَيْهِ وَالْفِعْلَ الْمُعَاقَبَ عَلَيْهِ، فَلَا مَحْمَلَ لَهُمَا هُنَا إِذْ لَا يَكُونَانِ إِصَابَتَيْنِ، وَلَا تُعْرَفُ إِصَابَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا اعْتِبَارَانِ شَرْعِيَّانِ.
وَقيل: كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: «لَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ الْمَدِينَةَ قَلَّتِ الثِّمَارُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ». فَجَعَلُوا كَوْنَ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُدُوثِ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَتِ الْحَوَادِثُ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَا يُلَائِمُهُمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَلِمَةُ (عِنْدَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ إِذِ
الْعِنْدِيَّةُ هُنَا عِنْدِيَّةُ التَّأْثِيرِ التَّامِّ بِدَلِيلِ التَّسْوِيَةِ فِي التَّعْبِيرِ، فَإِذَا كَانَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعْنَاهُ مِنْ تَقْدِيرِهِ وَتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ مُسَاوِيهِ وَهُوَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْعَرَبِ: يَقُولُونَهُ إِذَا أَرَادُوا الِارْتِدَادَ وَهُمْ أَهْلُ جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ، فَلَعَلَّ فِيهِمْ مَنْ شَافَهَ الرَّسُولَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ الَّذِي سَاقَهَا إِلَيْهِمْ وَأَتْحَفَهُمْ بِهَا لِمَا هُوَ مُعْتَادُهُ مِنَ الْإِكْرَامِ لَهُمْ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ الْيَهُودَ. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِكَ أَيْ مِنْ شُؤْمِ قُدُومِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَامِلُهُمْ إِلَّا بِالْكَرَامَةِ، وَلَكِنَّهُ صَارَ يَتَخَوَّلَهُمْ بِالْإِسَاءَةِ لِقَصْدِ أَذَى الْمُسْلِمِينَ فَتَلْحَقُ الْإِسَاءَةُ الْيَهُودَ مِنْ جَرَّاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَدِّ وَاتَّقُوا فِتْنَةً [الْأَنْفَال:
٢٥] الْآيَةَ.
130
وَقَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَكَوْنِ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ الَّذِي قَدَّرَ ذَلِكَ وَهَيَّأَ أَسْبَابَهُ، إِذْ لَا يَدْفَعُهُمْ إِلَى الْحَسَنَاتِ مُبَاشَرَةً. وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَمَا أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ عِنْدِهِ، فَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا أَرَادَهُ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ عَقْلٍ غَيْرِ مُنْضَبِطِ التَّفْكِيرِ، لأنّهم جعلُوا بعض الْحَوَادِثَ مِنَ اللَّهِ وَبَعْضَهَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَلذَلِك قَالَ: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أَيْ يَكَادُونَ أَنْ لَا يَفْقَهُوا حَدِيثًا، أَيْ أَنْ لَا يَفْقَهُوا كَلَامَ مَنْ يُكَلِّمُهُمْ، وَهَذَا مَدْلُولُ فِعْلِ (كَادَ) إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: ٧١].
وَالْإِصَابَةُ: حُصُولُ حَالٍ أَوْ ذَاتٍ، فِي ذَاتٍ يُقَالُ: أَصَابَهُ مَرَضٌ، وَأَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ، وَأَصَابَهُ سهم، وَهِي، مشقّة مِنَ اسْمِ الصَّوْبِ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَا يَتَصَرَّفُ مِنَ الْإِصَابَةِ مشعرا بِحُصُول مفاجىء أَوْ قَاهِرٍ.
وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِمَا يُجِيبُ بِهِ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ عَلَّمَهُ حَقِيقَةَ التَّفْصِيلِ فِي إِصَابَةِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ مِنْ جِهَةِ تَمَحُّضِ النِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوِ اخْتِلَاطِهَا بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْعَبْدِ، فَقَالَ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. وَوُجِّهَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لِإِبْطَالِ مَا نَسَبَهُ الضَّالُّونَ إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ مَصْدَرَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْحَوَادِثِ كُلِّهَا مُؤَثِّرًا. وَسَبَبًا مُقَارنًا، وأدلّة تنبىء عَنْهَا وَعَنْ عَوَاقِبِهَا، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ لَا تَخْلُو عَنْهَا الْحَوَادِثُ كُلُّهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ غَيْرَ اخْتِيَارِيَّةٍ، أَمِ اخْتِيَارِيَّةً كَأَفْعَالِ الْعِبَادِ. فَاللَّهُ قَدَّرَ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ بِعِلْمِهِ وَقَدَرِهِ وَخَلَقَ مُؤَثِّرَاتِهَا وَأَسْبَابَهَا، فَهَذَا الْجُزْءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَاللَّهُ أَقَامَ بِالْأَلْطَافِ الْمَوْجُودَاتِ، فَأَوْجَدَهَا وَيَسَّرَ لَهَا أَسْبَابَ الْبَقَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْعُقُولِ وَالْإِلْهَامَاتِ، وَحَفَّهَا كُلَّهَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهَا بِأَلْطَافٍ كَثِيرَةٍ، لَوْلَاهَا لَمَا بَقِيَتِ الْأَنْوَاعُ، وَسَاقَ إِلَيْهَا أُصُولَ الْمُلَاءَمَةِ، وَدَفَعَ عَنْهَا أَسْبَابَ الْآلَامِ فِي الْغَالِبِ، فَاللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ. فَهَذَا الْجُزْءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
131
وَاللَّهُ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ لِلنَّاسِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِمُخْتَلِفِ الْأَدِلَّةِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالْعَادِيَّةِ، وَالشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَّمَ طَرَائِقَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَطَرَائِقَ الْحَيْدَةِ عَنْهَا، وَأَرْشَدَ إِلَى مَوَانِعِ التَّأْثِيرِ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يُمَانِعَهَا، وَبَعَثَ الرُّسُلَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ فَعَلَّمَنَا بِذَلِكَ كُلِّهِ أَحْوَالَ الْأَشْيَاءِ وَمَنَافِعَهَا وَمَضَارَّهَا، وَعَوَاقِبَ ذَلِكَ الظَّاهِرَةَ وَالْخَفِيَّةَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَكْمَلَ الْمِنَّةَ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، وَقَطَعَ الْمَعْذِرَةَ، فَهَدَى بِذَلِكَ وَحَذَّرَ إِذْ خَلَقَ الْعُقُولَ وَوَسَائِلَ الْمَعَارِفِ، وَنَمَّاهَا بِالتَّفْكِيرَاتِ والْإِلْهَامَاتِ، وَخَلَقَ الْبَوَاعِثَ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ، فَهَذَا الْجُزْءُ أَيْضًا لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الْمُقَارِنَةُ لِلْحَوَادِثِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَالْجَانِيَةِ لِجَنَاهَا حِينَ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَسَائِلِ مُصَادَفَةِ الْمَنَافِعِ، وَالْجَهْلِ بِتِلْكَ الْوَسَائِلِ، وَالْإِغْضَاءِ عَنْ مَوَانِعَ الْوُقُوعِ فِيهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَذَلِكَ بِمِقْدَارِ مَا يُحَصِّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَسَائِلِ الرَّشَادِ، وَبِاخْتِيَارِهِ الصَّالِحَ لاجتناء الْخَيْر، ومقدارا ضِدِّ ذَلِكَ: مِنْ غَلَبَةِ الْجَهْلِ، أَوْ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَمِنَ الِارْتِمَاءِ فِي الْمَهَالِكِ بِدُونِ تَبَصُّرٍ، وَذَلِكَ جُزْءٌ صَغِيرٌ فِي جَانِبِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَهَذَا الْجُزْءُ جَعَلَ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ حَظًّا فِيهِ، مَلَّكَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا جَاءَتِ الْحَسَنَةُ أَحَدًا فَإِنَّ مَجِيئَهَا إِيَّاهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ مِمَّا لَا صَنْعَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، أَوْ بِمَا أَرْشَدَ اللَّهُ بِهِ الْعَبْدَ حَتَّى عَلِمَ طَرِيقَ اجْتِنَاءِ الْحَسَنَةِ، أَيِ الشَّيْءِ الْمُلَائِمِ وَخَلَقَ لَهُ اسْتِعْدَادَهُ لِاخْتِيَارِ الصَّالِحِ فِيمَا لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّافِعَةِ حَسْبَمَا أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَانَتِ الْمِنَّةُ فِيهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، إِذْ لَوْلَا لُطْفُهُ وَإِرْشَادُهُ وَهَدْيُهُ، لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي حَيْرَةٍ، فَصَحَّ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ أَوْ كُلَّهَا مِنْهُ.
أَمَّا السَّيِّئَةُ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تَأْتِي بِتَأْثِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ إِصَابَةَ مُعْظَمِهَا الْإِنْسَانَ يَأْتِي مِنْ جَهْلِهِ، أَوْ تَفْرِيطِهِ، أَوْ سُوءِ نَظَرِهِ فِي الْعَوَاقِبِ، أَوْ تَغْلِيبِ هَوَاهُ عَلَى رُشْدِهِ، وَهُنَالِكَ
سَيِّئَاتُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِهِ مِثْلَ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ مِنْ خَسْفٍ وَأَوْبِئَةٍ، وَذَلِكَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِأَكْثَرِ السَّيِّئَاتِ، عَلَى أَنَّ بَعْضًا مِنْهُ كَانَ جَزَاءً عَلَى سُوءِ فِعْلٍ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْحَظُّ الْأَعْظَمُ فِي إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ الْإِنْسَانَ لِتَسَبُّبِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ، فَصَحَّ أَنْ يُسْنِدَ تَسَبُّبَهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ وَحْدَهُ مِنْهَا هُوَ الْأَقَلُّ. وَقَدْ فَسَّرَ هَذَا الْمَعْنَى مَا
وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ»، فَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «لَا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ مَا دُونَهَا إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ»
132
وَشَمَلَتِ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ، كَالْمَطَرِ وَالصَّوَاعِقِ، وَالثَّمَرَةِ وَالْجَرَادِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَعْرَاضِ كَالصِّحَّةِ، وَهُبُوبِ الصَّبَا، وَالرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ. وَأَضْدَادِهَا كَالْمَرَضِ، وَالسَّمُومِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْخَسَارَةِ. وَفِي هَذَا النَّوْعِ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَالطَّاعَاتِ النَّافِعَةِ لِلطَّائِعِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَعَاصِي الضَّارَّةِ بِهِ وَبِالنَّاسِ، وَفِي هَذَا الْأَمْرِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ: ٥٠] وَهُوَ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَازِلَةً فِيهِ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ دَقِيقَةَ الْفَهْمِ نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى قِلَّةِ فَهْمِهِمْ لِلْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، فَقَوْلُهُ: لَا يَكادُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ اعْتِبَارِ الْقَلْبِ، أَيْ يَكَادُونَ لَا يَفْقَهُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: ٧١] فَيَكُونُ فِيهِ اسْتِبْقَاءٌ عَلَيْهِمْ فِي الْمَذَمَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ وَضْعِ التَّرْكِيبِ، أَيْ لَا يُقَارِبُونَ فَهْمَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْفُطَنَاءُ، فَيَكُونُ أَشَدَّ فِي الْمَذَمَّةِ.
وَالْفِقْهُ فَهْمُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: «هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ». وَعَرَّفَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ «إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ».
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِتَنَاسُقِ الضمائر، ثمَّ يعلم أَنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ شَاعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا شَاعَ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الْمَعْصِيَةَ وَالشَّرَّ لِقَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ شَبِيبُ بْنُ حَيْدَرَةَ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِ «حَزِّ الْغَلَاصِمِ» : إِنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَا فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَهْلٌ لِابْتِنَائِهِ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ هِيَ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَلَيْسَتَا كَذَلِكَ.
وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهَا إِلَّا قَوْلًا بِمُوجَبِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ مَعْنَى الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ- كَمَا بَيَّنْتُهُ
133
آنِفًا- يَجْعَلُ الْآيَةَ صَالِحَةً لِلِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ تَقْرِيبِيٌّ لِأَنَّ أُصُولَ الدِّينِ لَا يُسْتَدَلُّ فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ كَالْعُمُومِ.
وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ بِكَلِمَةٍ (عِنْدَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ نِسْبَةِ الْحَسَنَةِ إِلَى اللَّهِ وَنِسْبَةِ السَّيِّئَةِ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْ قَالُوا مَا يُفِيدُ جَزْمَهُمْ بِذَلِكَ الِانْتِسَابِ.
وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ قَالَ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِمْ، وَإِعْرَابًا عَنِ التَّقْدِيرِ الْأَزَلِيِّ عِنْدَ اللَّهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فَلَمْ يُؤْتَ فِيهِ بِكَلِمَةِ (عِنْدَ)، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ مَجِيءِ الْحَسَنَةِ مِنَ اللَّهِ وَمَجِيءِ السَّيِّئَةِ مِنْ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ، ابْتِدَاءُ الْمُتَسَبِّبِ لِسَبَبِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ ابْتِدَاءَ الْمُؤَثِّرِ فِي الْأَثَرِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ لِلرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ: السَّيِّئَةُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، أَيْ أَنَّكَ بُعِثْتَ مُبَلِّغًا شَرِيعَةً وَهَادِيًا، وَلَسْتَ مُؤَثِّرًا فِي الْحَوَادِثِ وَلَا تَدُلُّ مُقَارَنَةُ الْحَوَادِثِ الْمُؤْلِمَةِ عَلَى عَدَمِ صِدْقِ الرِّسَالَةِ. فَمَعْنَى أَرْسَلْناكَ بَعَثْنَاكَ كَقَوْلِهِ وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ [الْحجر:
٢٢] وَنَحْوِهِ. ولِلنَّاسِ مُتَعَلِّقٌ بِ أَرْسَلْناكَ. وَقَوْلُهُ رَسُولًا حَالٌ مِنْ أَرْسَلْناكَ، وَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ هُنَا مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ: وَهُوَ النَّبِيءُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ لفظ لقيي دَالٌّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ اسْمَ الْمَفْعُولِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَلِهَذَا حَسُنَ مَجِيئُهُ حَالًا مُقَيِّدَةً لِ «أَرْسَلْنَاكَ»، لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ، أَيْ بَعَثْنَاكَ مُبَلِّغًا لَا مُؤَثِّرًا فِي الْحَوَادِثِ، وَلَا أَمَارَةً عَلَى وُقُوعِ الْحَوَادِثِ السَّيِّئَةِ. وَبِهَذَا يَزُولُ إِشْكَالُ مَجِيءِ هَذِهِ الْحَالِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ إِلَّا التَّأْكِيدَ، حَتَّى احْتَاجُوا إِلَى جَعْلِ الْمَجْرُورِ مُتَعَلِّقًا بِ رَسُولًا، وَأَنَّهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ دَلَالَةً عَلَى الْحَصْرِ بِاعْتِبَارِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّعْرِيفِ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ»، أَيْ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَا لِبَعْضِهِمْ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمَقَامُ هَذَا الْحصْر.
134

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٨٠ إِلَى ٨١]

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١)
هَذَا كَالتَّكْمِلَةِ لِقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا [النِّسَاء: ٧٩] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ رَدِّ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مَصْدَرُ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ، ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: ٧٩] إِلَخْ، الْمُؤْذِنُ بِأَنَّ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ فَرْقًا فِي التَّأْثِيرِ وَأَنَّ الرِّسَالَةَ مَعْنًى آخَرَ فَاحْتَرَسَ بِقَوْلِهِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ عَنْ تَوَهُّمِ السَّامِعِينَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أُمُورِ التَّشْرِيعِ، فَأَثْبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ فِي تَبْلِيغِهِ إِنَّمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، فَأَمْرُهُ أَمْرُ اللَّهِ، وَنَهْيُهُ نَهْيُ اللَّهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ اللَّهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ رَسُولًا وَاسْتِلْزَامِهَا أَنَّهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَأَنَّ ذَلِكَ تَبْلِيغٌ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ فِي غَفْلَةٍ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ اخْتِلَافَ مَقَامَاتِ الرَّسُولِ، وَمَنْ تَوَلَّى أَوْ أَعْرَضَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْمُكَابَرَةِ فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، أَيْ حارسا لَهُم ومسؤولا عَنْ إِعْرَاضِهِمْ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِهِمْ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ بِأَنْ صَرَفَهُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِهِمْ، فَيُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَتَوَلَّى عِقَابَهُمْ.
وَالتَّوَلِّي حَقِيقَتُهُ الِانْصِرَافُ وَالْإِدْبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها [الْبَقَرَة: ٢٠٥] وَفِي قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٢]. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي الْعِصْيَانِ وَعَدَمِ الْإِصْغَاءِ إِلَى الدَّعْوَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لِضَعْفِ نُفُوسِهِمْ لَا يُعْرِضُونَ جَهْرًا بَلْ يُظْهِرُونَ الطَّاعَةَ، فَإِذَا أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ أَوْ نَهَاهُمْ يَقُولُونَ لَهُ طاعَةٌ أَيْ: أَمْرُنَا طَاعَةٌ، وَهِيَ كَلِمَةٌ يَدُلُّونَ بِهَا عَلَى الِامْتِثَالِ، وَرُبَّمَا يُقَالُ: سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ،
135
أَيْ أَمْرُنَا أَوْ شَأْنُنَا طَاعَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: ١٨]. وَلَيْسَ هُوَ نَائِبًا عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي يُعْدَلُ عَنْ نَصْبِهِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ مِثْلَ «قَالَ سَلَامٌ»، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا إِحْدَاثَ الطَّاعَةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّنَا سَنُطِيعُ وَلَا يَكُونُ مِنَّا عِصْيَانٌ.
وَمَعْنَى بَرَزُوا خَرَجُوا، وَأَصْلُ مَعْنَى الْبُرُوزِ الظُّهُورُ، وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَجَازًا مُرْسَلًا.
وبَيَّتَ هُنَا بِمَعْنَى قَدَّرَ أَمْرًا فِي السِّرِّ وَأَضْمَرَهُ، لِأَنَّ أَصْلَ الْبَيَاتِ هُوَ فِعْلُ شَيْءٍ فِي اللَّيْلِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعِيرُ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى الْإِسْرَارِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ أَكْتَمُ لِلسِّرِّ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: هَذَا
أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ، أَيْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ. وَقَالَ تَعَالَى: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النَّمْل: ٤٩] أَيْ:
لَنَقْتُلَنَّهُمْ لَيْلًا. وَقَالَ: وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
[النِّسَاء: ١٠٨]. وَتَاءُ الْمُضَارَعَةِ فِي غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لِلْمُؤَنَّثِ الْغَائِبِ، وَهُوَ الطَّائِفَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ خِطَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهُمْ أَنْتَ، فَيُجِيبُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: طَاعَةٌ. وَمَعْنَى وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ التَّهْدِيدُ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ لَنْ يُفْلِتَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ، فَلَا يَغُرَّنَّهُمْ تَأَخُّرُ الْعَذَابِ مُدَّةً.
وَقَدْ دَلَّ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَكْتُبُ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُضَاعُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَمْرٌ بِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُخْشَى خِلَافُهُمْ، وَأَنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيْ مُتَوَكَّلًا عَلَيْهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى طَاعَةِ هَؤُلَاءِ وَلَا يُحْزِنُهُ خِلَافُهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَيَّتَ طائِفَةٌ- بِإِظْهَارِ تَاءِ (بَيَّتَ) مِنْ طَاءِ (طَائِفَةٍ) -. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ- تَخْفِيفًا لقرب مخرجيهما.
136

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٢]

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)
الْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْكَفَرَةِ الصُّرَحَاءِ وَبِتَوَلِّيهِمُ الْمُعَرَّضَ بِهِمْ فِي شَأْنِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النِّسَاء: ٨٠]، وبقولهم طاعَةٌ [النِّسَاء: ٨١]، ثُمَّ تَدْبِيرُ الْعِصْيَانِ فِيمَا وُعِدُوا بِالطَّاعَةِ فِي شَأْنِهِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ أَثَرًا مِنْ آثَارِ اسْتِبْطَانِ الْكُفْرِ، أَوِ الشَّكِّ، أَوِ اخْتِيَارِ مَا هُوَ فِي نَظَرِهِمْ أَوْلَى مِمَّا أُمِرُوا بِهِ، وَكَانَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ الدِّينِ، مُنْبِئًا بِقِلَّةِ تَفَهُّمِهِمُ الْقُرْآنَ، وَضَعْفِ اسْتِفَادَتِهِمْ، كَانَ الْمَقَامُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ قِلَّةِ تَفَهُّمِهِمْ. فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ فِي اسْتِمْرَارِ جَهْلِهِمْ مَعَ تَوَفُّرِ أَسْبَابِ التَّدْبِيرِ لَدَيْهِمْ.
تَحَدَّى اللَّهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ، كَمَا تَحَدَّاهُمْ بِأَلْفَاظِهِ، لِبَلَاغَتِهِ إِذْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ شَكُّوا فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ يُظْهِرُونَ الطَّاعَةَ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ مَجْلِسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِعَدَمِ ثِقَتِهِمْ، وَيُشَكِّكُونَ وَيَشُكُّونَ إِذَا بَدَا لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ التَّعَارُضِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَدْبِيرِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ
[آل عمرَان: ٧] الْآيَةَ.
وَالتَّدَبُّرُ مُشْتَقٌّ مِنَ الدُّبُرِ، أَيِ الظَّهْرِ، اشْتَقُّوا مِنَ الدُّبُرِ فِعْلًا، فَقَالُوا: تَدَبَّرَ إِذَا نَظَرَ فِي دُبُرِ الْأَمْرِ، أَيْ فِي غَائِبِهِ أَوْ فِي عَاقِبَتِهِ، فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي اشْتُقَّتْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ.
وَالتَّدَبُّرُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمُتَأَمِّلِ فِيهِ بِنَفْسِهِ، يُقَالُ: تَدَبَّرَ الْأَمْرَ. فَمَعْنَى يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يَتَأَمَّلُونَ دَلَالَتَهُ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَأَمَّلُوا دَلَالَةَ تَفَاصِيلِ آيَاتِهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْمُسْلِمِينَ، أَيْ تَدَبُّرُ تَفَاصِيلِهِ وَثَانِيهُمَا أَنْ يَتَأَمَّلُوا دَلَالَةَ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ صَادِقٌ. وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَاتِ يُرَجِّحُ حَمْلَ التَّدَبُّرِ هُنَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَيْ لَوْ تَأَمَّلُوا وَتَدَبَّرُوا هَدْيَ الْقُرْآنِ لَحَصَلَ
137
لَهُمْ خَيْرٌ عَظِيمٌ، وَلَمَا بَقُوا عَلَى فِتْنَتِهِمُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ إِضْمَارِهِمُ الْكُفْرَ مَعَ إِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَالِحٌ بِحَالِهِمْ، إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ أَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِمَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ فَيَكُونُوا أُمِرُوا بِالتَّدَبُّرِ فِي تَفَاصِيلِهِ، وَأُعْلِمُوا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ انْتِفَاءُ الِاخْتِلَافِ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالتَّدَبُّرِ عَامًّا، وَهَذَا جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ التَّدَبُّرِ ذُكِرَ هُنَا انْتِهَازًا لِفُرْصَةِ الْمُنَاسَبَةِ لَغَمْرِهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ زَائِدًا عَلَى الْإِنْكَارِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، تَعَرَّضَ لَهُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُهِمِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ أَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مِنْ مَعْنَيَيِ التَّدَبُّرِ هُنَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ «الْقُرْآنِ»، وَيَكُونُ قَيْدًا لِلتَّدَبُّرِ، أَيْ أَلَا يَتَدَبَّرُونَ انْتِفَاءَ الِاخْتِلَافِ مِنْهُ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْنَيَيِ التَّدَبُّرِ.
وَمِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِلْإِعْرَابِ الْأَوَّلِ عَدَمُ ذِكْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْآيَةِ الْمُمَاثِلَةِ لِهَذِهِ مِنْ سُورَةِ الْقِتَالِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها
[مُحَمَّد: ٢٠- ٢٤] وَهَذِهِ دَقَائِقُ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَهْمَلَهَا جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالِاخْتِلَافُ يَظْهَرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اخْتِلَافُ بَعْضِهِ مَعَ بَعْضٍ، أَيِ اضْطِرَابُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اخْتِلَافُهُ مَعَ أَحْوَالِهِمْ: أَيْ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ مَا يَذْكُرُهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَبَيْنَ الْوَاقِعِ فَلْيَكْتَفُوا بِذَلِكَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ يَصِفُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَصْفَ الْمُطَّلِعِ عَلَى الْغُيُوبِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ وَجِيزٌ وَعَجِيبٌ قُصِدَ مِنْهُ قَطْعُ مَعْذِرَتِهِمْ فِي اسْتِمْرَارِ كُفْرِهِمْ.
وَوُصِفَ الِاخْتِلَافُ بِالْكَثِيرِ فِي الطَّرَفِ الْمُمْتَنِعِ وُقُوعُهُ بِمَدْلُولِ (لَوْ). لِيَعْلَمَ الْمُتَدَبِّرُ أَنَّ انْتِفَاءَ
الِاخْتِلَافِ مِنْ أَصْلِهِ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا الْقَيْدُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الطَّرَفِ الْمُقَابِلِ لِجَوَابِ (لَوْ)، فَلَا يُقَدَّرُ ذَلِكَ الطَّرَفُ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: كَثِيراً بَلْ يُقَدَّرُ هَكَذَا: لَكِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ أصلا.
138

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٣]

وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ طاعَةٌ [النِّسَاء: ٨١] فَضَمِيرُ الْجَمْعِ رَاجِعٌ إِلَى الضَّمَائِرِ قَبْلَهُ، الْعَائِدَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلسِّيَاقِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ إِلَّا قَوْلُهُ: وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، وسنعلم تَأْوِيلَهُ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ هَذَا رَاجَعٌ إِلَى فَرِيقٍ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ:
مِمَّنْ قَلَّتْ تَجْرِبَتُهُ وَضَعُفَ جَلَدُهُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَيَكُونُ مَعَادُ الضَّمِيرِ مَحْذُوفًا مِنَ الْكَلَامِ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ حَالِ النُّزُولِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢].
وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ لِلْمُنَافِقِينَ وَاللَّوْمِ لِمَنْ يَقْبَلُ مِثْلَ تِلْكَ الْإِذَاعَةِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَغْرَارِ.
وَمَعْنَى جاءَهُمْ أَمْرٌ أَيْ أُخْبِرُوا بِهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي فَالْمَجِيءُ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فِي سَمَاعِ الْأَخْبَارِ، مِثْلُ نَظَائِرِهِ. وَهِيَ: بَلَغَ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ وَأَتَاهُ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَتَأْنِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّيْءِ، وَهُوَ هُنَا الْخَبَرُ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَذاعُوا بِهِ.
وَمَعْنَى أَذاعُوا أَفْشَوْا، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْخَبَرِ بِنَفْسِهِ، وَبِالْبَاءِ، يُقَالُ: أَذَاعَهُ وَأَذَاعَ بِهِ، فَالْبَاءُ لِتَوْكِيدِ اللُّصُوقِ كَمَا فِي وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦].
وَالْمَعْنَى إِذَا سَمِعُوا خَبَرًا عَنْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَمْنِ، أَيِ الظَّفَرِ الَّذِي يُوجِبُ أَمْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْخَوْفَ وَهُوَ مَا يُوجِبُ خَوْفَ الْمُسْلِمِينَ، أَيِ اشْتِدَادَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ،
139
بَادَرُوا بِإِذَاعَتِهِ، أَوْ إِذَا سَمِعُوا خَبَرًا عَنِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فِي تَدْبِيرِ أَحْوَالِ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، تَحَدَّثُوا بِتِلْكَ الْأَخْبَارِ فِي الْحَالَيْنِ، وَأَرْجَفُوهَا بَيْنَ النَّاسِ لِقَصْدِ التَّثْبِيطِ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ، إِذَا جَاءَتْ أَخْبَارُ أَمْنٍ حَتَّى يُؤْخَذَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ غَارُّونَ، وَقَصْدِ التَّجْبِينِ إِذَا جَاءَتْ أَخْبَارُ الْخَوْفِ، وَاخْتِلَافِ الْمَعَاذِيرِ لِلتَّهْيِئَةِ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ إِذَا اسْتُنْفِرُوا إِلَيْهِ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَائِدِ هَؤُلَاءِ، وَنَبَّهَ هَؤُلَاءِ عَلَى دَخِيلَتِهِمْ، وَقَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ فِي كَيْدِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ إِلَخْ، أَيْ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ السُّوءَ لَاسْتَثْبَتُوا الْخَبَرَ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَالْآيَةُ عِتَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا التَّسَرُّعِ بِالْإِذَاعَةِ، وَأَمْرُهُمْ بِإِنْهَاءِ الْأَخْبَارِ إِلَى الرَّسُولِ وَقَادَةِ الصَّحَابَةِ لِيَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ وَيُعَلِّمُوهُمْ مَحَامِلَهُ.
وَقِيلَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَخْتَلِقُونَ الْأَخْبَارَ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْوَاقِعِ، لِيَظُنَّ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْنَ حِينَ الْخَوْفِ فَلَا يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، أَوِ الْخَوْفَ حِينَ الْأَمْنِ فَتَضْطَرِبُ أُمُورُهُمْ وَتَخْتَلُّ أَحْوَالُ اجْتِمَاعِهِمْ، فَكَانَ دَهْمَاءُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ رَاجَ عِنْدَهُمْ فَأَذَاعُوا بِهِ، فَتَمَّ لِلْمُنَافِقِينَ الدَّسْتُ، وَتَمَشَّتِ الْمَكِيدَةُ، فَلَامَهُمُ اللَّهُ وَعَلَّمَهُمْ أَنْ يُنْهُوا الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَجِلَّةِ أَصْحَابِهِ قَبْلَ إِشَاعَتِهِ لِيَعْلَمُوا كُنْهَ الْخَبَرِ وَحَالَهُ مِنَ الصِّدْقِ أَوِ الْكَذِبِ، وَيَأْخُذُوا لِكُلِّ حَالَةٍ حَيْطَتَهَا، فَيَسْلَمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مَكْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي قَصَدُوهُ.
وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ قَوْلِهِ: جاءَهُمْ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: لَعَلِمَهُ هُوَ دَلِيلُ جَوَابِ (لَوْ) وَعِلَّتُهُ، فَجُعِلَ عِوَضَهُ وَحُذِفَ الْمَعْلُول، إِذْ الْمَقْصُود لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ فَلَبَيَّنُوهُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا الْخَبَرَ فَلَخَابُوا إِذْ يُوقِنُونَ بِأَنَّ حِيلَتَهُمْ لَمْ تَتَمَشَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ الْمَوْصُولُ صَادِقًا عَلَى الْمُخْتَلِقِينَ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، وَيَكُونُ ضَمِيرُ مِنْهُمْ الثَّانِي عَائِدًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَالرَّدُّ حَقِيقَتُهُ إِرْجَاعُ شَيْءٍ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ يَدٍ. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي إِبْلَاغِ الْخَبَرِ إِلَى أَوْلَى النَّاسِ بِعِلْمِهِ. وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ كُبَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الرَّأْيِ
140
مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمُ الْمُنَافِقِينَ فَوَصْفُ أُولِي الْأَمْرِ بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ، أَيْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَنْفُسَهُمْ بَعْضَهُمْ وَإِنْ كَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ، فَالتَّبْعِيضُ ظَاهِرٌ.
وَالِاسْتِنْبَاطُ حَقِيقَتُهُ طَلَبُ النَّبَطِ- بِالتَّحْرِيكِ- وَهُوَ أَوَّلُ الْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْبِئْرِ عِنْدَ الْحَفْرِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَعْرِفَةِ عَوَاقِبِهِ، وَأَصْلُهُ مَكْنِيَّةٌ: شَبَّهَ الْخَبَرَ الْحَادِثَ بِحَفِيرٍ يُطْلَبُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَذِكْرُ الِاسْتِنْبَاطِ تَخْيِيلٌ. وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى صَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، فَصَارَ الِاسْتِنْبَاطُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ وَالتَّبْيِينِ، وَتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْأَمْرِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقِيلَ: يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ هُوَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وَإِذَا جَرَيْتَ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِ (يَسْتَنْبِطُونَ) بِمَعْنَى يَخْتَلِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ كَانَتْ يَسْتَنْبِطُونَهُ تَبَعِيَّةً، بِأَنْ شَبَّهَ الْخَبَرَ الْمُخْتَلَقَ بِالْمَاءِ الْمَحْفُورِ عَنْهُ، وَأَطْلَقَ يَسْتَنْبِطُونَ بِمَعْنَى يَخْتَلِقُونَ، وَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ الْمُسْتَخْرَجُ. وَالْعَرَبُ يُكْثِرُونَ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ أَحْوَالِ الْمِيَاهِ كَقَوْلِهِمْ: يُصْدِرُ وَيُورِدُ، وَقَوْلِهِمْ ضَرَبَ أَخْمَاسًا لِأَسْدَاسٍ، وَقَوْلِهِمْ: يَنْزِعُ إِلَى كَذَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ [الذاريات: ٥٩]، وَقَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ:
فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَسَاجَلَ الْقَوْمُ، أَصْلُهُ مِنَ السَّجْلِ، وَهُوَ الدَّلْوُ.
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:
إِذَا مَا اصْطَبَحْتُ أَرْبَعًا خَطَّ مِئْزَرِي وَأَتْبَعْتُ دَلْوِي فِي السَّمَاحِ رِشَاءَهَا
فَذَكَرَ الدَّلْوَ وَالرِّشَاءَ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
خَطَاطِيفُ حَجْنٍ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ
وَقَالَ:
141
وَقَالُوا أَيْضًا: «انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ»، وَالْفُرْصَةُ نَوْبَةُ الشُّرْبِ، وَقَالُوا: صدر ألوم عَنْ رَأْيِ فُلَانٍ وَوَرَدُوا عَلَى رَأْيِهِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ وَصْفٌ لِلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ، وَهُمْ خَاصَّةُ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يَرُدُّونَهُ إِلَى جَمَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فَيَفْهَمُهُ الْفَاهِمُونَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، وَإِذَا فَهِمَهُ جَمِيعُهُمْ فَأَجْدَرُ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ امْتِنَانٌ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْمَكَائِدِ وَمِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ وَأَنْصَارِهِ.
وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمُؤَذّن بهَا لَاتَّبَعْتُمُ، أَيْ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ قَلِيلَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا يَشْمَلُ الْبَعْثَةَ فَمَا بَعْدَهَا، فَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَنْسَاقُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِالْوَازِعِ الْعَقْلِيِّ أَوِ الْعَادِيِّ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ النَّصَائِحُ وَالْإِرْشَادُ فَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِثْنَاءً من ضمير لَاتَّبَعْتُمُ أَيْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ، فَالْمُرَادُ مِنَ الِاتِّبَاعِ اتِّبَاعُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَكَائِدِ الَّتِي لَا تَرُوجُ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ من الْمُؤمنِينَ.
[٨٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٤]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَمِنْ وَصْفِ الْمُثَبِّطِينَ عَنْهُ، وَالْمُتَذَمِّرِينَ مِنْهُ، وَالَّذِينَ يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ قَدْ أَفَادَ الِاهْتِمَامَ بِأَمْرِ الْقِتَالِ، وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ، فَتَهَيَّأَ الْكَلَامُ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ فَصِيحَةً بَعْدَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ، أَيْ: إِذَا كَانَ كَمَا عَلِمْتَ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى مَا مَضَى مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. فَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْقِتَالَ، وَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِ تَبْلِيغَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ وَتَحْرِيضَهُمْ عَلَيْهِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: ٨٤] وَهَذَا الْأُسْلُوبُ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْحَثِّ وَالتَّحْرِيضِ لِغَيْرِ الْمُخَاطَبِ، لِأَنَّهُ إِيجَابُ الْقِتَالِ عَلَى الرَّسُولِ، وَقَدْ عُلِمَ إِيجَابُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ [النِّسَاء: ٧٤] فَهُوَ أَمْرٌ لِلْقُدْوَةِ بِمَا يَجِبُ اقْتِدَاءُ النَّاسِ بِهِ فِيهِ. وَبَيَّنَ لَهُمْ عِلَّةَ الْأَمْرِ وَهِيَ رَجَاءُ كَفِّ بَأْسِ الْمُشْرِكِينَ، فَ (عَسَى) هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْوَعْدِ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا كُفَّارُ مَكَّةَ، فَالْآيَاتُ تَهْيِئَةٌ لِفَتْحِ مَكَّةَ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تَذْيِيلٌ لِتَحْقِيقِ الرَّجَاءِ أَوِ الْوَعْدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا إِذَا شَاءَ إِظْهَارَ ذَلِكَ، وَمِنْ دَلَائِلِ الْمَشِيئَةِ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ الَّتِي مِنْهَا الِاسْتِعْدَادُ وَتَرَقُّبُ الْمُسَبِّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا.
وَالتَّنْكِيلُ عِقَابٌ يَرْتَدِعُ بِهِ رَائِيهِ فَضْلًا عَنِ الَّذِي عُوقِبَ بِهِ.
[٨٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٥]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥)
اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ وَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: ٨٤] وَهُوَ بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِأَنَّ جِهَادَ الْمُجَاهِدِينَ بِدَعْوَتِهِ يَنَالُهُ مِنْهُ نَصِيبٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَجْرِ، فَإِنَّ تَحْرِيضَهُ إِيَّاهُمْ وَسَاطَةٌ بِهِمْ فِي خَيْرَاتٍ عَظِيمَةٍ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِهَذَا الْحُكْمِ الْعَامِّ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي انْتِهَازِ فُرَصِ الْإِرْشَادِ. وَيُعْلَمُ مِنْ عُمُومِهَا أَنَّ التَّحْرِيضَ عَلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَنَّ سَعْيَ الْمُثَبِّطِينَ لِلنَّاسِ مِنْ قَبِيلِ الشَّفَاعَةِ السَّيِّئَةِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِيذَانًا لِلْفَرِيقَيْنِ بِحَالَتِهِمَا. وَالْمَقْصُودُ مَعَ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي التَّوَسُّطِ فِي الْخَيْرِ وَالتَّرْهِيبُ مِنْ ضِدِّهِ.
وَالشَّفَاعَةُ: الْوَسَاطَةُ فِي إِيصَالِ خَيْرٍ أَوْ دَفْعِ شَرٍّ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِطَلَبٍ مِنَ الْمُنْتَفِعِ أَمْ لَا، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٨]،
وَفِي الْحَدِيثِ «اشْفَعُوا
143
فَلْتُؤْجَرُوا»
. وَوَصْفُهَا بِالْحَسَنَةِ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْوَسَاطَةِ فِي الْخَيْرِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الشَّفَاعَةِ عَلَى السَّعْيِ فِي جَلْبِ شَرٍّ فَهُوَ مُشَاكَلَةٌ، وَقَرِينَتُهَا وَصْفُهَا بِسَيِّئَةٍ، إِذْ لَا يُقَالُ (شَفَعَ) لِلَّذِي سَعَى بِجَلْبِ سُوءٍ.
وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٢].
وَالْكِفْلُ- بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ- الْحَظُّ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِي وَجْهُ اشْتِقَاقِهِ بِوُضُوحٍ. وَيُسْتَعْمَلُ الْكِفْلُ بِمَعْنَى الْمِثْلُ، فَيُؤْخَذُ مِنَ التَّفْسِيرَيْنِ أَنَّ الْكِفْلَ هُوَ الْحَظُّ الْمُمَاثِلُ لِحَظٍّ آخَرَ، وَقَالَ صَاحِبُ «اللِّسَانِ» : لَا يُقَالُ هَذَا كِفْلُ فُلَانٍ حَتَّى يكون قد هيّىء لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ، وَلَمْ يَعْزُ هَذَا، وَنَسَبَهُ الْفَخْرُ إِلَى ابْنِ الْمُظَفَّرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرَ هَذَيْنِ فِيمَا عَلِمْتُ، وَلَعَلَّهُ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الْحَدِيد: ٢٨]. وَهَلْ يُحْتَجُّ بِمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ- وَابْنُ الْمُظَفَّرِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْمُظَفَّرِ الْحَاتِمِيُّ الْأَدِيبُ مُعَاصِرُ الْمُتَنَبِّي-. وَفِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ أَنَّ الْكِفْلَ هُوَ الْحَظُّ مِنَ الشَّرِّ وَالشِّدَّةِ، وَأَنَّهُ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْكِفْلِ وَهُوَ الشَّيْءُ الرَّدِيءُ، فَالْجَزَاءُ فِي جَانِبِ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ بِأَنَّهُ نَصِيبٌ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَجْرٌ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ مَنْ شَفَعَ عِنْدَهُ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً
الْآيَةَ، لِإِفَادَةِ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِي عَلَى كُلِّ عَمَلٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ حُسْنٍ أَوْ سُوءٍ.
وَالْمُقِيتُ الْحَافِظُ، وَالرَّقِيبُ، وَالشَّاهِدُ، وَالْمُقْتَدِرُ. وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَافِظُ. وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَقَاتَ إِذَا أَعْطَى الْقُوتَ، فَوَزْنُهُ مُفْعِلٌ وَعَيْنُهُ وَاوٌ. وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي مَعَانِي الْحِفْظِ وَالشَّهَادَةِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، لِأَنَّ مَنْ يُقِيتُ أَحَدًا فَقَدْ حَفِظَهُ مِنَ الْخَصَاصَةِ أَوْ مِنَ الْهَلَاكِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الِاطِّلَاعِ، أَوْ مُضَمَّنٌ مَعْنَاهُ، كَمَا يَنْبِيءُ عَنْهُ تَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (عَلَى). وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُقِيتُ، وَفَسَّرَهُ الْغَزَالِيُّ بِمُوَصِّلِ الْأَقْوَاتِ. فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى الرَّازِقِ، إِلَّا أَنَّهُ أَخَصُّ، وَبِمَعْنَى الْمُسْتَوْلِي عَلَى الشَّيْءِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى الْقُدْرَة وَالْعلم.
144

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٦]

وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً [النِّسَاء: ٨٥] بِاعْتِبَارِ مَا قُصِدَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَهُوَ التَّرْغِيبُ فِي الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الشَّفَاعَةِ السَّيِّئَةِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي قَبُولِ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَرَدِّ الشَّفَاعَةِ السَّيِّئَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِ الشَّفِيعِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُسْتَشْفَعِ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ اسْتِئْنَاسًا لَهُ لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ، فَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا الْعَطْفِ هِيَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تَقْتَضِي حُضُورَ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ صِفَةَ تَلَقِّي الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ لِلشَّفِيعِ تُؤْذِنُ بِمِقْدَارِ اسْتِعْدَادِهِ لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ بَوَادِرِ اللِّقَاءِ هُوَ السَّلَامُ وَرَدُّهُ، فَعَلَّمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَدَبَ الْقَبُولِ وَاللِّقَاءِ فِي الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا- وَقَدْ كَانَ لِلشَّفَاعَاتِ عِنْدَهُمْ شَأْنٌ عَظِيمٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ قَالُوا: هَذَا جَدِيرٌ إِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ
... الْحَدِيثَ- حَتَّى إِذَا قَبِلَ الْمُسْتَشْفَعُ إِلَيْهِ الشَّفَاعَةَ كَانَ قَدْ طَيَّبَ خَاطِرَ الشَّفِيعِ، وَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ كَانَ فِي حُسْنِ التَّحِيَّةِ مَرْضَاةٌ لَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَهَذَا دَأْبُ الْقُرْآنِ فِي انْتِهَازِ فُرَصِ الْإِرْشَادِ وَالتَّأْدِيبِ.
وَبِهَذَا الْبَيَانِ تَنْجَلِي عَنْكَ الْحَيْرَةُ الَّتِي عَرَضَتْ فِي تَوْجِيهِ انْتِظَامِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ سَابِقَتِهَا، وَتَسْتَغْنِي عَنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى الْمُنَاسَبَاتِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي صَارُوا إِلَيْهَا.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها عَلَى الْأَمْرِ بِرَدِّ السَّلَامِ، وَوُجُوبِ الرَّدِّ لأنّ أصل صغية الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي مَحْمَلِ صِيغَةِ الْأَمْرِ،
وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ رَدِّ السَّلَامِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةً هَلْ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وُجُوبَ الْكِفَايَةِ فَإِذَا رَدَّ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً يَصِيرُ رَدُّ الْجَمِيعِ غَوْغَاءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الرَّدُّ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِعَيْنِهِ. وَلَعَلَّ دَلِيلَهُ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسُ.
145
وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُمْ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ النُّورِ [٢٧].
وَأَفَادَ قَوْلُهُ: بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَيُعْلَمُ مِنْ تَقْدِيمِ قَوْلِهِ:
بِأَحْسَنَ مِنْها أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ.
وَحَيَّى أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ دَعَا لَهُ بِالْحَيَاةِ، وَلَعَلَّهُ مِنْ قَبِيلِ النَّحْتِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: حَيَّاكَ اللَّهُ، أَيْ وَهَبَ لَكَ طُولَ الْحَيَاةِ. فَيُقَالُ لِلْمَلِكِ: حَيَّاكَ اللَّهُ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي دُعَاءِ التَّشَهُّدِ (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ) أَيْ هُوَ مُسْتَحِقُّهَا لَا مُلُوكُ النَّاسِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
يُحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ أَيْ يُحَيَّوْنَ مَعَ تَقْدِيمِ الرَّيْحَانِ فِي يَوْمِ عِيدِ الشَّعَانِينِ- وَكَانَتِ التَّحِيَّةُ خَاصَّةً بِالْمُلُوكِ بِدُعَاءِ (حَيَّاكَ اللَّهُ) غَالِبًا، فَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا التَّحِيَّةَ عَلَى الْمُلْكِ فِي قَوْلِ زُهَيْر بن جنّات الْكَلْبِيِّ:
وَلَوْلَا أَبُو الشَّقْرَاءِ مَا زَالَ مَاتِحٌ يُعَالِجُ خَطَّافًا بِإِحْدَى الْجَرَائِرِِِ
وَلَكُلُّ مَا نَالَ الْفَتَى قَدْ نِلْتُهُ إِلَّا التَّحِيَّةَ
يُرِيدُ أَنَّهُ بَلَغَ غَايَةَ الْمَجْدِ سِوَى الْمُلْكِ. وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْمَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ:
تَحِيَّةُ كِسْرَى فِي الثَّنَاءِ وَتُبَّعِ لِرَبْعِكِ لَا أَرْضَى تَحِيَّةَ أَرْبُعِ
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ: عَلَّمَ اللَّهُ بِهَا أَنْ يَرُدُّوا عَلَى الْمُسَلِّمِ بِأَحْسَنَ مِنْ سَلَامِهِ أَوْ بِمَا يُمَاثِلُهُ، لِيَبْطُلَ مَا كَانَ بَيْنَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَفَاوُتِ السَّادَةِ وَالدَّهْمَاءِ. وَتَكُونُ التَّحِيَّةُ أَحْسَنَ بِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات:
٢٥] : إِنَّ تَحِيَّةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ أَحْسَنَ إِذْ عَبَّرَ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَقْوَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَهُوَ رَفْعُ الْمَصْدَرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَتَنَاسِي الْحُدُوثِ الْمُؤْذِنِ بِهِ نَصْبُ الْمَصْدَرِ، وَلَيْسَ فِي لُغَةِ إِبْرَاهِيمَ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَدِيعِ التَّرْجَمَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَفِي رَدِّهَا وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ فِيهِ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ. وَقَالَ بَعْضُ
النَّاسِ: إِنَّ الْوَاوَ فِي رَدِّ السَّلَامِ تُفِيدُ مَعْنَى الزِّيَادَةِ فَلَوْ كَانَ الْمُسَلِّمُ بَلَغَ غَايَةَ التَّحِيَّةِ أَنْ يَقُولَ:
146
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَإِذَا قَالَ الرَّادُّ: «وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ» إِلَخْ، كَانَ قَدْ رَدَّهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا بِزِيَادَةِ الْوَاوِ، وَهَذَا وَهْمٌ.
وَمَعْنَى (رُدُّوهَا) رُدُّوا مِثْلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، لِظُهُورِ تَعَذُّرِ رَدِّ ذَاتِ التَّحِيَّةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها [النِّسَاء: ١٧٦] فَعَادَ ضَمِيرُ «وَهُوَ» وَهَاءُ «يَرِثُهَا» إِلَى اللَّفْظَيْنِ لَا إِلَى الذَّاتَيْنِ، وَدَلَّ الْأَمْرُ عَلَى وُجُوبِ رَدِّ السَّلَامِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى حُكْمِ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ، فَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا لَا يُقَدِّمُونَ اسْمَ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ الْمَجْرُورِ بِعَلَى فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ إِلَّا فِي الرِّثَاءِ، فِي مِثْلِ قَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطّيب:
عَلَيْك السَّلَام اللَّهِ قَيْسُ بْنَ عَاصِمٍ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا
وَفِي قَوْلِ الشَّمَّاخِ:
عَلَيْكَ سَلَامٌ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ يَدُ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ
يَرْثِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَوْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ.
روى أَبُو دَاوُود أَنَّ جَابِرَ بْنَ سُلَيْمٍ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، قُلِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ»
. وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً لِقَصْدِ الِامْتِنَانِ بِهَذِهِ التَّعْلِيمَاتِ النَّافِعَةِ.
وَالْحَسِيبُ: الْعَلِيمُ وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ: مِنْ حَسِبَ- بِكَسْرِ السِّينِ- الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ، فَحُوِّلَ إِلَى فَعُلَ- بِضَمِّ عَيْنِهِ- لَمَّا أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْعِلْمَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُ، وَبِذَلِكَ نَقَصَتْ تَعْدِيَتُهُ فَاقْتَصَرَ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى الْمُحْصِي فعدي إِلَيْهِ بعلى. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ. قِيلَ: الْحَسِيبُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، كَالْأَكِيلِ وَالشَّرِيبِ. فَعَلَى كَلَامِهِمْ يَكُونُ التَّذْيِيلُ وَعْدًا بِالْجَزَاءِ عَلَى قَدْرِ فَضْلِ رَدِّ السَّلَامِ، أَو بالجزاء السّيّء عَلَى تَرْكِ الرَّدِّ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدْ أُكِّدَ وَصْفُ اللَّهِ بِحَسِيبٍ بِمُؤَكِّدَيْنِ: حَرْفُ (إِنَّ) وَفِعْلُ (كَانَ) الدَّالُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ مقرّر أزلي.
147

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٧]

اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، جَمَعَ تَمْجِيدَ اللَّهِ، وَتَهْدِيدًا، وتحذيرا من مُخَالف أَمْرِهِ، وَتَقْرِيرًا لِلْإِيمَانِ بِيَوْمِ الْبَعْثِ، وَرَدًّا لِإِشْرَاكِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ.
فَاسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأٌ. وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ لِتَمْجِيدِ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَاقِعٍ جَمِيعُهُ مَوْقِعَ الْخَبَرِ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ: بِلَامِ الْقَسَمِ، وَنُونِ التَّوْكِيدِ، وَبِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، لِتَقْوِيَةِ تَحْقِيقِ هَذَا الْخَبَرِ. إِبْطَالًا لِإِنْكَارِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ.
وَمَعْنَى لَا رَيْبَ فِيهِ نَفْيٌ أَنْ يَتَطَرَّقَهُ جِنْسُ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ أَيْ فِي مَجِيئِهِ، وَالْمَقْصُودُ لَا رَيْبَ حَقِيقِيًّا فِيهِ، أَوْ أَنَّ ارْتِيَابَ الْمُرْتَابِينَ لِوَهَنِهِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْجِنْسِ الْمَعْدُومِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَصْدَقَ مِنَ اللَّهِ هُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَ «حَدِيثًا» تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ فعل التَّفْضِيل.
[٨٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٨]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨)
تَفْرِيعٌ عَنْ أَخْبَارِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، لِأَنَّ مَا وُصِفَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ لَا يَتْرُكُ شَكًّا عِنْدَ الْمُؤمنِينَ فِي حَيْثُ طَوِيَّتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، أَوْ هُوَ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النِّسَاء: ٨٧]. وَإِذْ قَدْ حَدَّثَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَا وَصَفَ مِنْ سَابِقِ الْآيِ، فَلَا يَحِقُّ التَّرَدُّدُ فِي سُوءِ نَوَايَاهُمْ وَكُفْرِهِمْ، فَمَوْقِعُ الْفَاءِ هَنَا نَظِيرُ مَوْقِعِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
148
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ وَاللَّوْمِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُنافِقِينَ لِلْعَهْدِ، وفِئَتَيْنِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ فَهِيَ قَيْدٌ لِعَامِلِهِ، الَّذِي هُوَ التَّوْبِيخُ، فَعُلِمَ أَنَّ مَحَلَّ التَّوْبِيخِ هُوَ الِانْقِسَامُ: فِي الْمُنافِقِينَ مُتَعَلِّقٌ بِفِئَتَيْنِ لِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى «مُنْقَسِمِينَ»، وَمَعْنَاهُ: فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِ الْمُنَافِقِينَ.
وَالْفِئَةُ: الطَّائِفَةُ. وَزْنُهَا فِلَةٌ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفَيْءِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بعض فِي شؤونهم. وَأَصْلُهَا فَيْءٌ، فَحَذَفُوا الْيَاءَ مِنْ وَسَطِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَوَّضُوا عَنْهَا الْهَاءَ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الِانْقِسَامَ إِلَى فِئَتَيْنِ مَا هُوَ إِلَّا انْقِسَامٌ فِي حَالَةٍ مِنْ حَالَتَيْنِ، وَالْمَقَامُ لِلْكَلَامِ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، أَيْ فَمَا لَكُمْ بَيْنَ مُكَفِّرٍ لَهُمْ وَمُبَرِّرٍ، وَفِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ أَوِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي المنخزلين يَوْمَ أُحُدٍ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَتْبَاعِهِ، اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْإِيمَانِ أَوِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ فِعْلَتِهِمْ تِلْكَ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: رَجَعَ نَاسٌ من أَصْحَاب النَّبِي مِنْ أُحُدٍ، وَكَانَ النَّاسُ فِيهِمْ فَرِيقَيْنِ، فَرِيقٌ يَقُولُ: اقْتُلْهُمْ، وَفَرِيقٌ يَقُولُ: لَا، فَنَزَلَتْ «فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ»، وَقَالَ: «إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ» أَيْ وَلَمْ يَقْتُلْهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرْيًا عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ. فَتَكُونُ الْآيَةُ لِبَيَانِ أَنَّهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي أَمْرِهِمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ، وَهَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنُوا فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ، لِيَأْتُوا بِبِضَاعَةٍ يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُؤْمِنِينَ، فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي شَأْنِهِمْ: أَهُمْ مُشْرِكُونَ أَمْ مُسْلِمُونَ. وَيُبَيِّنُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُبْطِنُونَ الشِّرْكَ وَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ لِلْمُسْلِمِينَ، لِيَكُونُوا فِي أَمْنٍ مِنْ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ بِحَرْبٍ فِي خُرُوجِهِمْ فِي تِجَارَاتٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ فِي تِجَارَةٍ، فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:
نَرْكَبُ إِلَيْهِمْ فَنُقَاتِلُهُمْ، وَقَالَ فَرِيقٌ: كَيْفَ نَقْتُلُهُمْ وَقَدْ نَطَقُوا بِالْإِسْلَامِ، فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُغَيِّرْ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ.
149
وَعَنِ الضَّحَّاكِ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ [النِّسَاء: ٩٧] الْآيَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ كُلَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَكَانُوا مَثَلًا لِعُمُومِهَا وَهِيَ عَامَّةٌ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ عُرِفَ بِالنِّفَاقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ فَاتَ وَقْتُ قِتَالِهِمْ، لِقَصْدِ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَقْتَ خُرُوجِهِمْ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَعَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ فَمَوْقِعُ الْمَلَامِ هُوَ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ لِضَعْفِ دَلِيلِ الْمُخْطِئِينَ لِأَنَّ دَلَائِلَ كُفْرِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ كَانَتْ تَرْجُحُ عَلَى دَلِيلِ إِسْلَامِهِمُ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، مَعَ التَّجَرُّدِ عَنْ إِظْهَارِ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا اسْتَنَدَ إِلَى دَلِيلٍ ضَعِيفٍ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْعَالِمُ لَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ
الْمَلَامِ- فِي الدُّنْيَا- عَلَى أَنْ أَخْطَأَ فِيمَا لَا يخطىء أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِثْلِهِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا حَالِيَّةٌ، أَيْ إِنْ كُنْتُمُ اخْتَلَفْتُمْ فِيهِمْ فَاللَّهُ قَدْ رَدَّهُمْ إِلَى حَالِهِمُ السُّوأَى، لِأَنَّ مَعْنَى أَرْكَسَ رَدَّ إِلَى الرِّكْسِ، وَالرِّكْسُ قَرِيبٌ مِنَ الرِّجْسِ.
وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الرَّوْثِ «إِنَّ هَذَا رِكْسٌ»
وَقِيلَ: مَعْنَى أَرْكَسَ نَكَّسَ، أَيْ رَدَّ رَدًّا شَنِيعًا، وَهُوَ مُقَارِبٌ لِلْأَوَّلِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ جَزَاءً لِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ وَقِلَّةِ إِخْلَاصِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ تَتَوَالَدُ مِنْ جِنْسِهَا، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَأْتِي بِزِيَادَةِ الصَّالِحَات، وَالْعَمَل السيّء يَأْتِي بِمُنْتَهَى الْمَعَاصِي، وَلِهَذَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ الْعَمَلِ سَبَبًا فِي بُلُوغِ الْغَايَاتِ مِنْ جِنْسِهِ.
وَقَوْلُهُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنِ اللَّوْمِ وَالتَّعْجِيبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ، لِأَنَّ السَّامِعِينَ يَتَرَقَّبُونَ بَيَانَ وَجْهِ اللوم، ويتساءلون عمّا ذَا يَتَّخِذُونَ نَحْوَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ دَلَّ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ الْمَشُوبُ بِاللَّوْمِ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ هِيَ مَحَلُّ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، وَتَقْدِيرُهَا: إِنَّهُمْ قَدْ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ
150
أَضَلَّهُمْ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَسَاءَ حَالَهُمْ، وَسُوءُ الْحَالِ أَمْرٌ مُجْمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الْبَيَانِ، فَيَكُونُ فَصْلُ الْجُمْلَةِ فَصْلُ الِاسْتِئْنَافِ.
وَإِنْ جَعَلْتَ مَعْنَى وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، كَانَتْ جملَة أَتُرِيدُونَ اسْتِئْنَاف ابْتِدَائِيًّا، وَوَجْهُ الْفَصْلِ أَنَّهُ إِقْبَالٌ عَلَى اللَّوْمِ وَالْإِنْكَارِ، بَعْدَ جُمْلَةِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ الَّتِي هِيَ خَبَرِيَّةٌ، فَالْفَصْلُ لِكَمَالِ الِانْقِطَاعِ لاخْتِلَاف الغرضين.
[٨٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٩]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩)
الْأَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ «وَدُّوا» عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: ٨٨]. فَضَحَ اللَّهُ هَذَا الْفَرِيقَ فَأَعْلَمَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ مُضْمِرُونَ الْكُفْرَ، وَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ رَدَّ مَنْ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفْرِ.
وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ الْمُهَاجَرَةِ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا
يُنَاسِبُ مَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْمُهَاجَرَةِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاللَّهُ نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ وِلَايَتِهِمْ إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي غَزْوَةٍ تَقَعُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ، الَّتِي انْخَزَلَ عَنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، قَدْ مَضَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَمَا أَبْلَغَ التَّعْبِيرَ فِي جَانِبِ مُحَاوَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِرَادَةِ فِي قَوْلِهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النِّسَاء: ٨٨]، وَفِي جَانِبِ مُحَاوَلَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْوُدِّ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ يَنْشَأُ عَنْهَا الْفِعْلُ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَقْرِبُونَ حُصُولَ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَرِيبٌ مِنْ فِطْرَةِ النَّاسِ، وَالْمُنَافِقُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرْتَدُّونَ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرَوْنَ مِنْهُمْ مَحَبَّتَهُمْ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَبُهُمْ تَكْفِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا تَمَنِّيًا، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْوُدِّ الْمُجَرَّدِ.
وَجُمْلَةُ فَتَكُونُونَ سَواءً تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَضْمُون قَوْله: كَما كَفَرُوا قُصِدَ مِنْهَا تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حِبَالَةِ الْمُنَافِقِينَ.
وَقَوْلُهُ: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَقَامَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ عَلَامَةً عَلَى كُفْرِ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ، حَتَّى لَا يَعُودَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ فِي شَأْنِهِمْ، وَهِيَ عَلَامَةٌ بَيِّنَةٌ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ النِّفَاقِ شَيْءٌ مَسْتُورٌ إِلَّا نِفَاقَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَالْمُهَاجَرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِقَصْدِ مُفَارَقَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ لِأَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى دِينِهِ الَّذِي أَرَادَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْمُهَاجَرَةِ. وَهَذَا إِنْذَارٌ لَهُمْ قَبْلَ مُؤَاخَذَتِهِمْ، إِذِ الْمَعْنَى: فَأَبْلِغُوهُمْ هَذَا الْحُكْمَ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَقَبَّلُوهُ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ شَيْءٌ يَحْتَمِلُ الْكُفْرَ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يُتَقَدَّمَ لَهُ، وَيُعَرَّفَ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ، وَيُعْذَرَ إِلَيْهِ، فَإِنِ الْتَزَمَهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، ثُمَّ يُسْتَتَابُ. وَهُوَ الَّذِي أَفْتَى بِهِ سَحْنُونٌ.
وَالْوَلِيُّ: الْمُوَالِي الَّذِي يَضَعُ عِنْدَهُ مَوْلَاهُ سِرَّهُ وَمَشُورَتَهُ. وَالنَّصِيرُ الَّذِي يُدَافِعُ عَنْ وليّه ويعينه.
[٩٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٩٠]
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)
الْاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ أَيْ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَلم هَاجرُوا. أَوْ إِلَّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ إِلَى مَكَّةَ بعد أَن يهاجروا، وَهَؤُلَاءِ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ مِمَّنْ عَاهَدُوكُمْ، فَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِالْقَتْلِ، لِئَلَّا تَنْقُضُوا عُهُودَكُمُ الْمُنْعَقِدَةَ مَعَ قَوْمِهِمْ.
152
وَمَعْنَى (يَصِلُونَ) يَنْتَسِبُونَ، مِثْلُ مَعْنَى اتَّصَلَ فِي قَوْلِ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ:
أَلا بلغا خلّني رَاشِدًا وَصِنْوِي قَدِيمًا إِذَا مَا اتَّصَلَ
أَيِ انْتَسَبَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْتَحَقَ، أَيْ إِلَّا الَّذِينَ يَلْتَحِقُونَ بِقَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فَيَدْخُلُونَ فِي عَهْدِهِمْ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ هُمْ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ أَصَالَةً وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي هُمْ كَالْمُعَاهَدِينَ لِأَنَّ مُعَاهَدَ الْمُعَاهَدِ كَالْمُعَاهَدِ. وَالْمُرَادُ بِ (الَّذِينَ يَصِلُونَ) قَوْمٌ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ، بَلْ كُلُّ مَنِ اتَّصَلَ بِقَوْمٍ لَهُمْ عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ:
هَؤُلَاءِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: ٨٨].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَبَائِلُ الَّتِي كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا نَزَلَتْ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الْآيَةَ خَافَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، فَذَهَبُوا بِبَضَائِعِهِمْ إِلَى هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرِ الْأَسْلَمِيِّ، وَكَانَ قَدْ حَالَفَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى: أَنْ لَا يُعِينَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ لَجَأَ إِلَى هِلَالٍ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ فَلَهُ مِنَ الْجِوَارِ مِثْلُ مَا لَهُ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ خُزَاعَةُ، وَقِيلَ: بَنُو بَكْرِ بْنِ زَيْدِ مَنَاءَةٍ كَانُوا فِي صُلْحٍ وَهُدْنَةٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا آمَنُوا يَوْمَئِذٍ وَقِيلَ: هُمْ بَنُو مُدْلِجٍ إِذْ كَانَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ قَدْ عَقَدَ عَهْدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِهِ بَنِي مُدْلِجٍ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، عَلَى أَنْ لَا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمُوا وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ قُرَيْشٌ فَهُمْ لَا يُسْلِمُونَ، لِئَلَّا تَخْشُنَ قُلُوبُ قُرَيْشٍ عَلَيْهِمْ. وَالْأَوْلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْقَبَائِلِ مَشْمُولٌ لِلْآيَةِ.
وَمعنى أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ إِلَخْ: أَوْ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرِينَ وَلَكِنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ لَا يُقَاتِلُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ قَوْمَهُمْ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ ذَلِكَ. وَكَانَ هَذَا رُخْصَةً لَهُمْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، إِذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ هَادَنُوا قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ تَأَلُّفًا لَهُمْ، وَلِمَنْ دَخَلَ فِي عَهْدِهِمْ، فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ صَارَ الْجِهَادُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، أَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَشْتَرِطُوا هَذَا الشَّرْطَ فَلَا تَشْمَلُهُمُ الرُّخْصَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوا مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «حَصِرَتْ» - بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ الْمُقْتَرِنِ بِتَاءِ تَأْنِيثِ الْفِعْلِ- وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ «حَصِرَةً» - بِصِيغَةِ الصِّفَةِ وَبَهَاءِ تَأْنِيثِ الْوَصْفِ فِي آخِرِهِ مَنْصُوبَةً مُنَوَّنَةً-.
153
وَ (حَصِرَتْ) بِمَعْنَى ضَاقَتْ وَحَرِجَتْ.
وَ (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) مَجْرُورٌ بِحَذْفِ عَنْ، أَيْ ضَاقَتْ عَنْ قِتَالِكُمْ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ لَا يَرْضَوْنَ قِتَالَ إِخْوَانِهِمْ، وَعَنْ قِتَالِ قَوْمِهِمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ نَسَبٍ وَاحِدٍ، فَعَظُمَ عَلَيْهِمْ قِتَالُهُمْ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَنْ صِدْقٍ مِنْهُمْ. وَأُرِيدَ بِهَؤُلَاءِ بَنُو مُدْلِجٍ:
عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَذَرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ إِذْ صَدَقُوا، وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَائِدَةَ هَذَا التَّسْخِيرِ الَّذِي سَخَّرَ لَهُمْ مِنْ قَوْمٍ قَدْ كَانُوا أَعْدَاءً لَهُمْ فَصَارُوا سِلْمًا يَوَدُّونَهُمْ. وَلَكِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ قِتَالَ قَوْمِهِمْ فَقَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ.
وَلِذَلِكَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَفِّ أَيْدِيهِمْ عَنْ هَؤُلَاءِ إِنِ اعْتَزَلُوهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:
فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أَيْ إِذْنا بعد أذن أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ غَيْرِهِمْ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ.
وَالسَّبِيلُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِوَسِيلَةِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي خَبَرِهِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ دُونَ حَرْفِ الْغَايَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ فِي سُورَة بَرَاءَة [٩١].
[٩١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٩١]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
هَؤُلَاءِ فَرِيقٌ آخَرُ لَا سَعْيَ لَهُمْ إِلَّا فِي خُوَيْصَّتِهِمْ، وَلَا يَعْبَأُونَ بِغَيْرِهِمْ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَأْمَنُوا غَزْوَهُمْ، وَيُظْهِرُونَ الْوُدَّ لِقَوْمِهِمْ لِيَأْمَنُوا غَائِلَتَهُمْ، وَمَا هُمْ بِمُخْلِصِينَ الْوُدَّ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلِذَلِكَ وُصِفُوا بِإِرَادَةِ أَنْ يَأْمَنُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ قَوْمِهِمْ، فَلَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا حُظُوظُ أَنْفُسِهِمْ، يَلْتَحِقُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي قَضَاءِ لُبَانَاتٍ
لَهُمْ فَيُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ فَيَرْتَدُّونَ إِلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها [النِّسَاء: ٩١]. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ مَعْنَى (أُرْكِسُوا) قَرِيبًا. وَهَؤُلَاءِ هُمْ غَطَفَانُ وَبَنُو أَسَدٍ مِمَّنْ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُصَ إِسْلَامُهُمْ، وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، كَانُوا يَأْتُونَ الْمَدِينَةَ فَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى مَكَّةَ فَيَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَأَمْرُ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي
مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ وَمُعَامَلَةِ الْفَرِيقِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [النِّسَاء: ٩٠] أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ تَرْكُهُمْ إِذَا تَرَكُوا الْمُؤْمِنِينَ وَسَالَمُوهُمْ، وَقِتَالُهُمْ إِذَا نَاصَبُوهُمُ الْعَدَاءَ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الشَّرْطَ الْمَفْرُوضَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلِينَ: أَنَّهُمْ يَعْتَزِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّلَمَ، وَلَا يُقَاتِلُونَهُمْ، وَجَعَلَ الشَّرْطَ الْمَفْرُوضَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَزِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّلَمَ، وَلَا يَكُفُّونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُمْ، نَظَرًا إِلَى الْحَالَةِ الْمُتَرَقَّبَةِ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْمَذْكُورِينَ. وَهُوَ افْتِنَانٌ بَدِيعٌ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ اخْتِلَافٌ فِي الْحُكْمِ وَلَكِنْ صَرَّحَ بِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، وَبِوَصْفِ مَا فِي ضَمِيرِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَالْوِجْدَانُ فِي قَوْلِهِ: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ بِمَعْنَى الْعُثُورِ وَالِاطِّلَاعِ، أَيْ سَتَطَّلِعُونَ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، وَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ وَجَدَ، وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَقَوْلُهُ: يُرِيدُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ تَصَارِيفِ اسْتِعْمَالِ الْوِجْدَانِ فِي كَلَامِهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٨٢].
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ.
(وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ) هُوَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نِفَاقِهِمْ، فَلَا يُخْشَى أَنْ يُنْسَبَ الْمُسْلِمُونَ فِي قِتَالِهِمْ إِلَى اعْتِدَاءٍ وتفريق الجامعة.
[٩٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٩٢]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
155
(٩٢)
انْتِقَالُ الْغَرَضِ يُعِيدُ نَشَاطَ السَّامِعِ بِتَفَنُّنِ الْأَغْرَاضِ، فَانْتَقَلَ مِنْ تَحْدِيدِ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْعَدُوِّ إِلَى أَحْكَامِ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ: مِنْ وُجُوبِ كَفِّ عُدْوَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْغَرَضِ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ: أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْكَلَامُ فِي قِتَالِ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ الَّذِينَ ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَتَشَوَّفَ النَّفْسُ إِلَى حُكْمِ قَتْلِ
الْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ حَدَثَ حَادِثُ قَتْلِ مُؤْمِنٍ خَطَأً بِالْمَدِينَةِ نَاشِئٌ عَنْ حَزَازَاتٍ أَيَّامَ الْقِتَالِ فِي الشِّرْكِ أَخْطَأَ فِيهِ الْقَاتِلُ إِذْ ظَنَّ الْمَقْتُولَ كَافِرًا. وَحَادِثُ قَتْلِ مُؤْمِنٍ عَمْدًا مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَالْحَادِثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النِّسَاء: ٩٤] وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، فَتَزْدَادُ الْمُنَاسَبَةُ وُضُوحًا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَصِيرُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِمَا وَرَدَ بَعْدَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الْقَتْلِ.
هَوَّلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، وَجَعَلَهُ فِي حَيِّزِ مَا لَا يَكُونُ، فَقَالَ:
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً فَجَاءَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، وَهِيَ صِيغَةُ الْجُحُودِ، أَيْ مَا وُجِدَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْخَطَأِ، أَوْ أَنْ يَقْتُلَ قَتْلًا مِنَ الْقَتْلِ إِلَّا قَتْلَ الْخَطَأِ، فَكَانَ الْكَلَامُ حَصْرًا وَهُوَ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ مُرَادٌ بِهِ الْمُبَالَغَةُ كَأَنَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ فِي الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ تُنَافِي الِاجْتِمَاعَ مَعَ الْقَتْلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُنَافَاةَ الضِّدَّيْنِ لِقَصْدِ الْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا قَتَلَ مُؤْمِنًا فَقَدْ سُلِبَ عَنْهُ الْإِيمَانُ وَمَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ، عَلَى نَحْوِ «وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً عَمَّا بَعْدَهَا، غَيْرَ مُرَادٍ بِهَا التَّشْرِيعُ، بَلْ هِيَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلتَّشْرِيعِ، لِقَصْدِ تَفْظِيعِ حَالِ قَتْلِ المؤمنِ المؤمنَ قَتْلًا غَيْرَ خَطَأٍ، وَتَكُونُ خَبَرِيَّةً لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقِيًّا مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، أَيْ
156
يَنْتَفِي قَتْلُ الْمُؤْمِنِ مُؤْمِنًا فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ عَدَمِ الْقَصْدِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَبْدُو فِي مَعْنَى الْآيَةِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ خَبَرًا مُرَادًا بِهِ النَّهْيُ، اسْتُعْمِلَ الْمُرَكَّبُ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ التَّمْثِيلِيِّ، وَتَجْعَلَ قَوْلَهُ: إِلَّا خَطَأً تَرْشِيحًا لِلْمَجَازِ: عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَيَحْصُلُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ صُورَةَ الْخَطَأِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا النَّهْيُ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْخَطَأَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، يَعْنِي إِنْ كَانَ نَوْعٌ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ مَأْذُونًا فِيهِ لِلْمُؤْمِنِ، فَهُوَ قَتْلُ الْخَطَأِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْطِئَ لَا يَأْتِي فِعْلَهُ قَاصِدًا امْتِثَالًا وَلَا عِصْيَانًا، فَرَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى مَعْنَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا قَتْلًا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِرَادَةُ وَالْقَصْدُ بِحَالٍ أَبَدًا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَبْدَأَ التَّشْرِيعِ، وَمَا بَعْدَهَا كَالتَّفْصِيلِ لَهَا وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يُشْكِلُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا خَطَأً. وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى أَنَّ مَا كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً مُرَادٌ بِهِ النَّهْيُ، أَيْ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ فَالْتَجَأُوا إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى (لَكِنْ) فِرَارًا مِنَ اقْتِضَاءِ مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ إِبَاحَةَ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا خَطَأً، وَقَدْ فَهِمْتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ هُنَا.
وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً مُرَادٌ بِهِ ادِّعَاءُ الْحَصْرِ أَوِ النَّهْيِ كَمَا عَلِمْتَ، وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَاسْتَغْنَى عَنِ الْقَيْدِ لِانْحِصَارِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِمُقْتَضَاهُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، فَيُسْتَغْنَى عَنْ تَقْيِيدِهِ بِهِ.
رَوَى الطَّبَرَيُّ، وَالْوَاحِدِيُّ، فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَة: أنّ عيّاشا بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ فَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ فِي طَلَبِهِ، فَأَتَوْهُ بِالْمَدِينَةِ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ أُمَّكَ أَقْسَمَتْ أَنْ لَا يُظِلَّهَا بَيْتٌ حَتَّى تَرَاكَ، فَارْجِعْ مَعَنَا حَتَّى تَنْظُرَ إِلَيْكَ ثُمَّ ارْجِعْ، وَأَعْطَوْهُ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ أَن لَا يهجوه، وَلَا يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِينِهِ، فَخَرَجَ مَعَهُمْ فَلَمَّا جَاوَزُوا الْمَدِينَةَ أَوْثَقُوهُ، وَدَخَلُوا بِهِ مَكَّةَ، وَقَالُوا لَهُ «لَا نَحُلُّكَ مِنْ وَثَاقِكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِالَّذِي آمَنْتَ بِهِ». وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ يَجْلِدُهُ وَيُعَذِّبُهُ، فَقَالَ عَيَّاشٌ لِلْحَارِثِ «وَاللَّهِ لَا أَلْقَاكَ خَالِيًا إِلَّا قَتَلْتُكَ» فَبَقِيَ بِمَكَّةَ
157
حَتَّى خَرَجَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَقِيَ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ بِقُبَاءٍ، وَكَانَ الْحَارِثُ قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيَّاشٌ بِإِسْلَامِهِ، فَضَرَبَهُ عَيَّاشٌ فَقَتَلَهُ، وَلَمَّا أُعْلِمَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ رَجَعَ عَيَّاشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ فَنَزَلَتْ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَفِي ابْنِ عَطِيَّةَ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي الْيَمَانِ، وَالِدِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، حِينَ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأً.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ حِينَ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَعَدَلَ إِلَى شِعْبٍ فَوَجَدَ رَجُلًا فِي غَنَمٍ لَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ الرَّجُلُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ وَجَاءَ بِغَنَمِهِ إِلَى السَّرِيَّةِ، ثُمَّ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا فَأَتَى إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
وَقَوْلُهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الْفَاءُ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ، وَ (تَحْرِير) مَرْفُوعٌ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ: لِظُهُورِ أَنَّ الْمَعْنَى: فَحُكْمُهُ أَوْ فَشَأْنُهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَقَوْلِهِ:
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: ١٨]. وَالتَّحْرِيرُ تَفْعِيلٌ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، أَيْ جَعْلُ الرَّقَبَةِ حُرَّةً. وَالرَّقَبَةُ أُطْلِقَتْ عَلَى الذَّاتِ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ، كَمَا يَقُولُونَ، الْجِزْيَة على الرؤوس عَلَى كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ.
وَمِنْ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ حِرْصُهَا عَلَى تَعْمِيمِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ بِكَيْفِيَّةٍ مُنْتَظِمَةٍ،
فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا بَعَثَ رَسُولَهُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْعُبُودِيَّةُ مُتَفَشِّيَةً فِي الْبَشَرِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهَا ثَرَوَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتْ أَسْبَابُهَا مُتَكَاثِرَةً: وَهِيَ الْأَسْرُ فِي الْحُرُوبِ، والتصيير فِي الدِّيوَان، وَالتَّخَطُّفُ فِي الْغَارَاتِ، وَبَيْعُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَبْنَاءَهُمْ، وَالرَّهَائِنُ فِي الْخَوْفِ، وَالتَّدَايُنُ.
فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ أَسْبَابِهَا عَدَا الْأَسْرِ، وَأَبْقَى الْأَسْرَ لِمَصْلَحَةِ تَشْجِيعِ الْأَبْطَالِ، وَتَخْوِيفِ أَهْلِ الدَّعَارَةِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْعَرَبِيَّ مَا كَانَ يَتَّقِي شَيْئًا مِنْ عَوَاقِبِ الْحُرُوبِ مِثْلَ الْأَسْرِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
158
ثُمَّ دَاوَى تِلْكَ الْجِرَاحَ الْبَشَرِيَّةَ بِإِيجَادِ أَسْبَابِ الْحُرِّيَّةِ فِي مُنَاسَبَاتٍ دِينِيَّةٍ جَمَّةٍ: مِنْهَا وَاجِبَةٌ، وَمِنْهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا. وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْوَاجِبَةِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ الْمَذْكُورَةُ هُنَا. وَقَدْ جُعِلَتْ كَفَّارَةُ قَتْلِ الْخَطَأِ أَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَقَدْ جُعِلَ هَذَا التَّحْرِيرُ بَدَلًا مِنْ تَعْطِيلِ حَقِّ اللَّهِ فِي ذَاتِ الْقَتِيلِ، فَإِنَّ الْقَتِيلَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَيُرْجَى مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يَقُومُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ دِينِهِ، فَلَمْ يَخْلُ الْقَاتِلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَوَّتَ بِقَتْلِهِ هَذَا الْوَصْفَ، وَقَدْ نَبَّهَتِ الشَّرِيعَةُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ، وَأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ مَوْتٌ فَمَنْ تَسَبَّبَ فِي مَوْتِ نَفْسٍ حَيَّةٍ كَانَ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي إِحْيَاءِ نَفْسٍ كَالْمَيِّتَةِ وَهِيَ الْمُسْتَعْبَدَةُ. وَسَنَزِيدُ هَذَا بَيَانًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٢٠]، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْقَذَهُمْ مِنَ اسْتِعْبَادِ الْفَرَاعِنَةِ فَصَارُوا كَالْمُلُوكِ لَا يَحْكُمُهُمْ غَيْرُهُمْ.
وَثَانِيهُمَا الدِّيَةُ. وَالدِّيَةُ مَالٌ يُدْفَعُ لِأَهْلِ الْقَتِيلِ خَطَأً، جَبْرًا لِمُصِيبَةِ أَهْلِهِ فِيهِ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ نَقْدَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا، كَمَا سَيَأْتِي.
وَالدِّيَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ بِمَعْنَاهَا وَمَقَادِيرِهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يُفَصِّلْهَا الْقُرْآنُ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ جَعَلُوا الدِّيَةَ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَكَانَتْ عِوَضًا عَنْ دَمِ الْقَتِيلِ فِي الْعَمْدِ وَفِي الْخَطَأِ، فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَكَانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِأَخْذِهَا. قَالَ الْحَمَاسِيُّ:
حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مقادتي وَلَا نسوتهي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا
فَلَوْ أَنَّ حَيًّا يَقْبَلُ الْمَالَ فِدْيَةً لَسُقْنَا لَهُمْ سَيْبًا مِنَ الْمَالِ مُفْعَمَا
وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ رِضَى الْعَارِ فَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا
وَإِذَا رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ بِدِيَةٍ بِشَفَاعَةِ عُظَمَاءِ الْقَبِيلَةِ قَدَّرُوهَا بِمَا يَتَرَاضَوْنَ عَلَيْهِ. قَالَ زُهَيْرٌ:
تُعَفَّى الْكُلُومُ بِالْمِئِينَ فَأَصْبَحَتْ يُنَجِّمُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِمُجْرِمِ
وَأَمَّا فِي الْخَطَأِ فَكَانُوا لَا يَأْبَوْنَ أَخْذَ الدِّيَةِ، قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَهَا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ، إِذْ فَدَى وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ نَذَرَ ذَبْحَهُ لِلْكَعْبَةِ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَرَتْ فِي قُرَيْشٍ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَبِعَهُمُ الْعَرَبُ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ أَبُو سَيَّارَةَ عُمَيْلَةُ الْعَدَوَانِيُّ، وَكَانَتْ دِيَةُ الْمَلِكِ أَلْفًا مِنَ
159
الْإِبِلِ، وَدِيَةُ السَّادَةِ مِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ، وَدِيَةُ الْحَلِيفِ نِصْفُ دِيَةِ الصَّمِيمِ. وَأَوَّلُ مَنْ وُدِيَ بِالْإِبِلِ هُوَ زَيْدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ. إِذْ قَتَلَهُ أَخُوهُ مُعَاوِيَةُ جَدُّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ.
وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَقْدِيرِ الدِّيَة من مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ مُخَمَّسَةٌ أَخْمَاسًا: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ.
وَدِيَةُ الْعَمْدِ، إِذَا رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ بِالدِّيَةِ، مُرَبَّعَةٌ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ. وَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ عَلَى أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ تَغْلِيظًا بِالصِّنْفِ لَا بِالْعَدَدِ، إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ خَطَأً: ثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، أَيْ نُوقًا فِي بُطُونِهَا أَجِنَّتُهَا.
وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْقَتِيلِ غَيْرَ أَهْلِ إِبِلٍ نُقِلَتِ الدِّيَةُ إِلَى قِيمَةِ الْإِبِلِ تَقْرِيبًا فَجُعِلَتْ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْغَنَمِ أَلْفَيْ شَاةٍ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ، أَيْ أَهْلِ النَّسِيجِ مِثْلَ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِائَةُ حُلَّةٍ.
وَالْحُلَّةُ ثَوْبَانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ.
وَمِعْيَارُ تَقْدِيرِ الدِّيَاتِ، بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَقْطَارِ، الرُّجُوعُ إِلَى قِيمَةِ مِقْدَارِهَا مِنَ الْإِبِلِ الْمُعَيَّنِ فِي السُّنَّةِ. وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ الْقَتِيلَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَدِيَةُ الْكِتَابِيِّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ الْكِتَابِيِّ. وَتُدْفَعُ الدِّيَةُ مُنَجَّمَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بَعْدَ كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ، وَابْتِدَاءُ تِلْكَ النُّجُومِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ أَوِ التَّرَاوُضِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ وَعَاقِلَةِ الْقَاتِلِ.
وَالدِّيَةُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ مَصْدَرُ وَدَى، أَيْ أَعْطَى، مِثْلَ رَمَى، وَمَصْدَرُهُ وَدْيٌ مِثْلُ وَعْدٍ، حُذِفَتْ فَاءُ الْكَلِمَةِ تَخْفِيفًا، لِأَنَّ الْوَاوَ ثَقِيلَةٌ، كَمَا حُذِفَتْ فِي عِدَّةٍ، وَعُوِّضَ عَنْهَا الْهَاءُ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ مِثْلَ شِيَةٍ مِنَ الْوَشْيِ.
وَأَشَارَ قَوْلُهُ: مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَرْضِيَةٌ لِأَهْلِ الْقَتِيلِ. وَذُكِرَ الْأَهْلُ
مُجْمَلًا فَعُلِمَ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى الْقَتِيلِ، فَإِنَّ الْأَهْلَ هُوَ الْقَرِيبُ، وَالْأَحَقُّ بِهَا الْأَقْرَبُ. وَهِيَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ يَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْقَتِيلِ عَلَى حَسَبِ الْمِيرَاثِ
160
إِلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ خَطَأً إِذَا كَانَ وَارِثًا لِلْقَتِيلِ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَعْوِيضِ الْمُتْلَفَاتِ، جُعِلَتْ عِوَضًا لِحَيَاةِ الَّذِي تَسَبَّبَ الْقَاتِلُ فِي قَتْلِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: تَكَايُلُ الدِّمَاءِ، وَقَالُوا: هُمَا بَوَاءٌ، أَيْ كُفْآنِ فِي الدَّمِ وَزَادُوا فِي دِيَةِ سَادَتِهِمْ.
وَجُعِلَ عَفْوُ أَهْلِ الْقَتِيلِ عَنْ أَخْذِ الدِّيَةِ صَدَقَةً مِنْهُمْ تَرْغِيبًا فِي الْعَفْوِ.
وَقَدْ أَجْمَلَ الْقُرْآنُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الدِّيَةِ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِأَنَّهُمُ الْعَاقِلَةُ، وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
وَالْعَاقِلَةُ: الْقَرَابَةُ مِنَ الْقَبِيلَةِ. تَجِبُ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ بِحَسَبِ التَّقَدُّمِ فِي التَّعْصِيبِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ أَيْ إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ مُؤْمِنًا وَكَانَ أَهْلُهُ كُفَّارًا، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَدَاوَةٌ، يُقْتَصَرُ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ دُونَ دَفْعِ دِيَةٍ لَهُمْ، لِأَنَّ الدِّيَةَ: إِذَا اعْتَبَرْنَاهَا جَبْرًا لِأَوْلِيَاءِ الدَّمِ، فَلَمَّا كَانُوا أَعْدَاءً لَمْ تَكُنْ حِكْمَةٌ فِي جَبْرِ خَوَاطِرِهِمْ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهَا عِوَضًا عَنْ مَنَافِعِ قَتِيلِهِمْ، مِثْلَ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، يَكُونُ مَنْعُهَا مِنَ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلِأَنَّا لَا نُعْطِيهِمْ مَالَنَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَيْنَا. وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ الْمُؤْمِنُ بَاقِيًا فِي دَارِ قَوْمِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ أَوْلِيَاؤُهُ كُفَّارًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَسْقُطُ عَنِ الْقَاتِلِ دِيَتُهُ، وَتُدْفَعُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ:
تَسْقُطُ الدِّيَةُ لِأَنَّ سَبَبَ سُقُوطِهَا أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا كُفَّارٌ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِأَهْلِ الْقَتِيلِ لَا بِمَكَانِ إِقَامَتِهِ، إِذْ لَا أَثَرَ لِمَكَانِ الْإِقَامَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَلَوْ كَانَتْ إِقَامَتُهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِيهَا.
وَأَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ بِلَفْظِ عَدُوٍّ وَهُوَ مُفْرَدٌ، لِأَنَّ فَعُولًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ يَكْثُرُ فِي كَلَامِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَوْصُوفِهِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً [النِّسَاء: ١٠١] لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ [الْأَنْعَام: ١١٢]، وَامْرَأَةٌ عَدُوٌّ وَشَذَّ قَوْلُهُمْ عَدُوَّةٌ. وَفِي كَلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّهُ قَالَ لِلنِّسْوَةِ اللَّاتِي كُنَّ بِحَضْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
161
فَلَمَّا دَخَلَ عُمَرُ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ لَمَّا رَأَيْنَهُ «يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ». وَيُجْمَعُ بِكَثْرَةٍ عَلَى أَعْدَاءٍ، قَالَ
تَعَالَى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: ١٩].
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَيْ إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ الْمُؤْمِنَ. فَجَعَلَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، أَيْ عَهْدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، دِيَةَ قَتِيلِهِمُ الْمُؤْمِنِ اعْتِدَادًا بِالْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَنَا- وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الدِّيَةَ جَبْرٌ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ، وَلَيْسَتْ مَالًا مَوْرُوثًا عَنِ الْقَاتِلِ، إِذْ لَا يَرْثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ بِأَنْ يَكُونَ لِلْمَقْتُولِ الْمُؤْمِنِ وَارِثٌ مُؤْمِنٌ فِي قَوْمٍ مُعَاهَدِينَ، أَوْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُعَاهَدًا لَا مُؤْمِنًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي «كَانَ» عَائِدٌ عَلَى الْقَتِيلِ بِدُونِ وَصْفِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْآيَةِ فِيمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً. وَلَا يَهُولَنَّكُمُ التَّصْرِيحُ بِالْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ لِأَنَّ ذَلِكَ احْتِرَاسٌ وَدَفْعٌ لِلتَّوَهُّمِ عِنْدَ الْخَبَرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ أَيْضًا عَدُوٌّ لَنَا فِي الدِّينِ. وَشَرْطُ كَوْنِ الْقَتِيلِ مُؤْمِنًا فِي هَذَا لحكم مَدْلُولٌ بِحَمْلِ مُطْلَقِهِ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي قَوْلِهِ هُنَالِكَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَيَكُونُ مَوْضُوعُ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي الْقَتِيلِ الْمُسْلِمِ خَطَأً لِتَصْدِيرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى إِبْقَاءِ الْمُطْلَقِ هُنَا عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَحَمَلُوا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ، يُقْتَلُ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا كَانَ حُكْمًا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ صُلْحٌ إِلَى أَجَلٍ، حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ، وَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ نُسِخَ.
وَقَوْلُهُ: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ وُصِفَ الشَّهْرَانِ بِأَنَّهُمَا مُتَتَابِعَانِ وَالْمَقْصُودُ تَتَابُعُ أَيَّامِهِمَا. لِأَنَّ تَتَابُعَ الْأَيَّامِ يَسْتَلْزِمُ تَوَالِيَ الشَّهْرَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: «تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ» مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ: شَرَعَ اللَّهُ الصِّيَامَ تَوْبَةً مِنْهُ. وَالتَّوْبَةُ هُنَا مَصْدَرُ تَابَ بِمَعْنَى قَبِلَ التَّوْبَةَ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِ (مِنْ)، لِأَنَّ تَابَ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَى نَدِمَ وَعَلَى مَعْنَى قَبِلَ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النِّسَاء: ١٧] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنِ الْقَاتِلِ فَشَرَعَ الصِّيَامَ لِيَتُوبَ عَلَيْهِ فِيمَا أَخْطَأَ فِيهِ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي عَظِيمٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ تَوْبَةً مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ رَاجِعًا إِلَى تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ وَالدِّيَةِ وَبَدَلِهِمَا، وَهُوَ الصِّيَامُ، أَيْ شَرَعَ اللَّهُ
162
الْجَمِيعَ تَوْبَةً مِنْهُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَوْ لَمْ يَشْرَعْ لَهُ ذَلِكَ لَعَاقَبَهُ عَلَى أَسْبَابِ الْخَطَأِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى تَفْرِيطِ الْحَذَرِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ. أَوْ هُوَ حَالٌ مِنْ «صِيَامٍ»، أَيْ سَبَبُ تَوْبَةٍ، فَهُوَ حَالٌ مجازية عقلية.
[٩٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٩٣]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)
هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْرِيعِ لِأَحْكَامِ الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِتَهْوِيلِ أَمْرِهِ، فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ قَتْلِ الْخَطَأِ بِعُنْوَانِ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاء: ٩٢].
وَالْمُتَعَمِّدُ: الْقَاصِدُ لِلْقَتْلِ، مُشْتَقٌّ مِنْ عَمَدَ إِلَى كَذَا بِمَعْنَى قَصَدَ وَذَهَبَ. وَالْأَفْعَالُ كُلُّهَا لَا تَخَرُجُ عَنْ حَالَتَيْ عَمْدٍ وَخَطَأٍ، وَيُعْرَفُ التَّعَمُّدُ بِأَنْ يَكُونَ فِعْلًا لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ بِأَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ قَاصِدٌ إِزْهَاقَ رُوحِهِ بِخُصُوصِهِ بِمَا تُزْهَقُ بِهِ الْأَرْوَاحُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ، وَذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ: الْقَتْلُ نَوْعَانِ عَمْدٌ وَخَطَأٌ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى وَفْقِ الْآيَةِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ جَعَلَ نَوْعًا ثَالِثًا سَمَّاهُ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَاسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى آثَارٍ مَرْوِيَّةٍ، إِنْ صَحَّتْ فَتَأْوِيلُهَا مُتَعَيِّنٌ وَتُحْمَلُ عَلَى خُصُوصِ مَا وَرَدَتْ فِيهِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْوَاحِدِيُّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَة أنّ مقيسا بْنَ صُبَابَةَ (١) وأخاه هِشَام جَاءَا مُسْلِمَيْنِ مُهَاجِرَيْنِ فَوُجِدَ هِشَامٌ قَتِيلًا فِي بَنِي النَّجَّارِ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَاءِ أَخِيهِ مِقْيَسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، دِيَةَ أَخِيهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ فِهْرٍ فَلَمَّا أَخَذَ مِقْيَسٌ الْإِبِلَ عَدَا عَلَى الْفِهْرِيِّ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَاقَ الْإِبِلَ، وَانْصَرَفَ إِلَى مَكَّةَ كَافِرًا، وَأَنْشَدَ فِي شَأْنِ أَخِيهِ:
_________
(١) مقيس بميم مسكورة وقاف وتحتية بِوَزْن مِنْبَر. وصبابة بصاد مُهْملَة وبائين موحدتين. قيل هُوَ اسْم أمه.
163
قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ سُرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ (١)
حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْتُ ثَأْرَتِي وَكُنْتُ إِلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ
وَقَدْ أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقُتِلَ بِسُوقِ مَكَّةَ.
وَقَوْلُهُ: خالِداً فِيها مَحْمَلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى طُولِ الْمُكْثِ فِي النَّارِ لِأَجْلِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا، لِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ لَيْسَ كُفْرًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا خُلُودَ فِي النَّارِ إِلَّا لِلْكُفْرِ، عَلَى قَوْلِ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْخُلُودِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي طُولِ الْمُكْثِ،
وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ. قَالَ النَّابِغَةُ فِي مَرَضِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ:
وَنَحْنُ لَدَيْهِ نَسْأَلُ اللَّهَ خُلْدَهُ يَرُدُّ مَلْكًا وَلِلْأَرْضِ عَامِرَا
وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْكَبَائِرِ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَعِنْدَ مَنْ يُوجِبُ الْخُلُودَ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ، عَلَى وَتِيرَةِ إِيجَابِ الْخُلُودِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ.
وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَرِدُ عَلَى جَرِيمَةِ قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا، كَمَا تَرِدُ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، إِلَّا أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ شَذَّ شُذُوذًا بَيِّنًا فِي مَحْمَلِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَاتِلَ النَّفْسِ مُتَعَمِّدًا لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرِفَ بِهِ، أَخْذًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ:
آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الْآيَةَ: هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِطَرِيقِ التَّأْوِيلِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
فَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ مُسْتَنَدَهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، فَقَدْ نَسَخَتِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، الَّتِي تَقْتَضِي عُمُومَ التَّوْبَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ١١٦]، فَقَاتِلُ النَّفْسِ مِمَّنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ يَغْفِرَ لَهُ وَمِثْلُ قَوْلِهِ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢]، وَمِثْلُ قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الْفرْقَان: ٦٨، ٦٩].
_________
(١) فارع اسْم حصن فِي الْمَدِينَة لبني النجار.
164
وَالْحَقُّ أَنَّ مَحَلَّ التَّأْوِيلِ لَيْسَ هُوَ تَقَدُّمُ النُّزُولِ أَوْ تَأَخُّرُهُ، وَلَكِنَّهُ فِي حَمْلِ مُطْلَقِ الْآيَةِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي قَيَّدَتْ جَمِيعَ أَدِلَّةِ الْعُقُوبَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِحَالَةِ عَدَمِ التَّوْبَةِ. فَأَمَّا حُكْمُ الْخُلُودِ فَحَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ عَلَى مَجَازِهِ، وَهُوَ طُولُ الْمُدَّةِ فِي الْعِقَابِ، مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَا حَاجَةَ إِلَى الْخَوْضِ فِيهَا حِينَ الْخَوْضِ فِي شَأْنِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ، وَكَيْفَ يُحْرَمُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ مَقْبُولَةٌ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ دُونَهُ مِنَ الذُّنُوبِ.
وَحَمَلَ جَمَاعَةٌ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى قَصْدِ التَّهْوِيلِ والزجر، لئلّا يجترىء النَّاسُ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا، وَيَرْجُونَ التَّوْبَةَ، وَيُعَضِّدُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «أَلِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا تَوْبَةٌ» فَقَالَ: «لَا إِلَّا النَّارَ»، فَلَمَّا ذَهَبَ قَالَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ «أَهَكَذَا كُنْتَ تُفْتِينَا فَقَدْ كُنْتَ تَقُولُ إِنَّ تَوْبَتَهُ مَقْبُولَةٌ» فَقَالَ: «إِنِّي لَأَحْسَبُ السَّائِلَ رَجُلًا
مُغْضَبًا يُرِيدُ أَنْ يقتل مُؤمنا»
، قل: فَبَعَثُوا فِي أَثَرِهِ فَوَجَدُوهُ كَذَلِكَ. وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ إِذَا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ قَتَلَ نَفْسًا يَقُولُ لَهُ: «تَوْبَتُكَ مَقْبُولَةٌ» وَإِذَا سَأَلَهُ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ، وَتَوَسَّمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُحَاوِلُ قَتْلَ نَفْسٍ، قَالَ لَهُ: لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ.
وَأَقُولُ: هَذَا مَقَامٌ قَدِ اضْطَرَبَتْ فِيهِ كَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا عَلِمْتَ، وَمِلَاكُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا فِي وَعِيدِ قَاتِلِ النَّفْسِ قَدْ تَجَاوَزَ فِيهِ الْحَدَّ الْمَأْلُوفَ مِنَ الْإِغْلَاظِ، فَرَأَى بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِحَمْلِ الْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ، دُونَ تَأْوِيلٍ، لِشِدَّةِ تَأْكِيدِهِ تَأْكِيدًا يَمْنَعُ مَنْ حَمْلِ الْخُلُودِ عَلَى الْمَجَازِ، فَيُثْبِتُ لِلْقَاتِلِ الْخُلُودَ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ آيِ الْوَعِيدِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَخُوضُونَ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْآيَةِ مُحْكَمَةً أَوْ مَنْسُوخَةً، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا مَلْجَأً آخَرَ يَأْوُونَ إِلَيْهِ فِي حَمْلِهَا عَلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْوَعِيدِ: مِنْ مَحَامِلِ التَّأْوِيلِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ، فَآوَوْا إِلَى دَعْوَى نَسْخِ نَصِّهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٦٨، ٦٩] : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إِلَى قَوْلِهِ- إِلَّا مَنْ تابَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَجْمُوعُ الذُّنُوبِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا كَانَ فَاعِلُ مَجْمُوعِهَا تَنْفَعُهُ التَّوْبَةُ فَفَاعِلُ بَعْضِهَا وَهُوَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَجْدَرُ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ فَاعِلُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَالْقَتْلُ عَمْدًا مِمَّا عُدَّ مَعَهَا. وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:
إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ
165
كَلَامٌ مِثْلُ هَذَا، ثُمَّ أَنْ يُطَالَ وَتَتَنَاقَلَهُ النَّاسُ وَتَمُرَّ عَلَيْهِ الْقُرُونُ، فِي حِينِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ وَعِيدٌ لِقَاتِلِ النَّفْسِ وَبَيْنَ آيَاتِ قَبُولِ التَّوْبَةِ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى الْجَوَابِ بِأَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨]، بِنَاءً عَلَى أنّ عُمُوم لِمَنْ يَشاءُ نَسَخَ خُصُوصَ الْقَتْلِ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ، وَهُوَ كَافِرٌ- فَالْخُلُودُ لِأَجْلِ الْكُفْرِ، وَهُوَ جَوَابٌ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَطٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ عَامٌّ إِذْ هُوَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ «مَنْ» شَرْطِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ صِيغَ الْعُمُومِ فَلَا تُحْمَلُ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ سَبَبَ الْعَامِّ يُخَصِّصُهُ بِسَبَبِهِ لَا غَيْرُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ. وَهَذِه كلّها ملاجىء لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ آيَاتِ التَّوْبَةِ نَاهِضَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا مُتَظَاهِرَةٌ ظَوَاهِرُهَا، حَتَّى بَلَغَتْ حَدَّ النَّصِّ الْمَقْطُوعِ بِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا آيَاتُ وَعِيدِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا حَتَّى الْكُفْرِ. عَلَى أَنَّ تَأْكِيدَ الْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا يَرْفَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ فِي كَوْنِهِ وَعِيدًا لَا فِي تَعْيِينِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ وَهُوَ الْخُلُودُ. إِذِ الْمُؤَكِّدَاتُ هُنَا مُخْتَلِفَةُ الْمَعَانِي فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَبَرَ أَحَدُهَا مُؤَكِّدًا لِمَدْلُولِ الْآخَرِ بَلْ إِنَّمَا أَكَّدَتِ الْغَرَضَ. وَهُوَ الْوَعِيدُ، لَا أَنْوَاعُهُ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْقَاطِعُ لَهَاتِهِ الْحَيْرَةِ. وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ اللَّجَأُ إِلَيْهِ، والتعويل عَلَيْهِ.
[٩٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٩٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ خُوطِبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، اسْتِقْصَاءً لِلتَّحْذِيرِ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِذِكْرِ أَحْوَالٍ قَدْ يُتَسَاهَلُ فِيهَا وَتَعْرِضُ فِيهَا شُبَهٌ. وَالْمُنَاسَبَةُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ دِيَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَرَدَّ غُنَيْمَتَهُ
166
وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْقَاتِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْمَقْتُولَ مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكٍ الْفَزَارِيُّ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْقَاتِلَ مُحَلَّمٌ مِنْ جَثَّامَةَ، وَالْمَقْتُولَ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُ أَبُو قَتَادَةَ، وَقِيلَ أَبُو الدَّرْدَاء، وَأَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَّخَ الْقَاتِلَ، وَقَالَ لَهُ: «فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ»
. وَمُخَاطَبَتُهُمْ بِ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُلَوِّحُ إِلَى أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى قَتْلِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ قَصْدُ الْقَاتِلِ الْحِرْصَ عَلَى تَحَقُّقِ أَنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ ثَابِتٌ لِلْمَقْتُولِ، فَإِنَّ هَذَا التَّحَقُّقَ غَيْرُ مُرَادٍ لِلشَّرِيعَةِ، وَقَدْ نَاطَتْ صِفَةُ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» أَوْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ».
وَالضَّرْبُ: السَّيْرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٦]. وَقَوْلُهُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ضَرَبْتُمْ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ «ضَرَبْتُمْ» لِأَنَّ الضَّرْبَ أَيِ السَّيْرَ لَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ إِذْ سَبِيلُ اللَّهِ لَقَبٌ لِلْغَزْوِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى الْآيَةَ.
وَالتَّبَيُّنُ: شِدَّةُ طَلَبِ الْبَيَانِ، أَيِ التَّأَمُّلُ الْقَوِيُّ، حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ. وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى فِعْلِ «تَبَيَّنُوا» لِمَا فِي (إِذَا) مِنْ تَضَمُّنِ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ غَالِبًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
فَتَبَيَّنُوا- بِفَوْقِيَّةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ ثُمَّ نُونٍ- مِنَ التَّبَيُّنِ وَهُوَ تَفَعُّلٌ، أَيْ تَثَبَّتُوا وَاطْلُبُوا بَيَانَ الْأُمُورِ فَلَا تَعْجَلُوا فَتَتَّبِعُوا الْخَوَاطِرَ الْخَاطِفَةَ الْخَاطِئَةَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ،
وَخَلَفٌ: فَتَثَبَّتُوا- بِفَاءٍ فَوْقِيَّةٍ فَمُثَلَّثَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَفَوْقِيَّةٍ- بِمَعْنَى اطْلُبُوا الثَّابِتَ، أَيِ الَّذِي لَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَحْتَمِلُ نَقِيضَ مَا بَدَا لَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ «السَّلَمَ» - بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدِ اللَّامِ- وَهُوَ ضِدُّ الْحَرْبِ، وَمَعْنَى أَلْقَى السَّلَمَ أَظْهَرَهُ بَيْنَكُمْ كَأَنَّهُ رَمَاهُ بَيْنَهُمْ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ «السَّلَامَ» - بِالْأَلِفِ- وَهُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ مَعْنَى السَّلَمِ ضِدَّ الْحَرْبِ، وَمَعْنَى تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ قَوْلُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَيْ مَنْ خَاطَبَكُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ.
167
وَجُمْلَةُ لَسْتَ مُؤْمِناً مَقُولُ لَا تَقُولُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُؤْمِناً- بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ- بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَا تَنْفُوا عَنْهُ الْإِيمَانَ وَهُوَ يُظْهِرُهُ لَكُمْ، وَقَرَأَهُ ابْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ- بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ لَا تَقُولُوا لَهُ لَسْتَ مُحَصِّلًا تَأْمِينَنَا إِيَّاكَ، أَي إنّك مقتولا أَوْ مَأْسُورٌ. وعَرَضَ الْحَياةِ: متاح الْحَيَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَنِيمَةُ فَعَبَّرَ عَنْهَا بِ عَرَضَ الْحَياةِ تَحْقِيرًا لَهَا بِأَنَّهَا نَفْعٌ عَارِضٌ زَائِلٌ.
وَجُمْلَةُ تَبْتَغُونَ حَالِيَّةٌ، أَيْ نَاقَشْتُمُوهُ فِي إِيمَانِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ إِحْرَازَ مَالِهِ، فَكَانَ عَدَمُ تَصْدِيقِهِ آئِلًا إِلَى ابْتِغَاءِ غَنِيمَةِ مَاله، فأوخذوا بالمئال. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ زِيَادَةُ التَّوْبِيخِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ: لَسْتَ مُؤْمِنًا، وَقَتْلَهُ غَيْرَ آخِذٍ مِنْهُ مَالًا لَكَانَ حُكْمُهُ أَوْلَى مِمَّنْ قَصَدَ أَخْذَ الْغَنِيمَةِ، وَالْقَيْدُ يَنْظُرُ إِلَى سَبَبِ النُّزُولِ، وَالْحُكْمُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أَيْ لَمْ يَحْصُرِ اللَّهُ مَغَانِمَكُمْ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ.
وَزَادَ فِي التَّوْبِيخِ قَوْلُهُ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أَيْ كُنْتُمْ كُفَّارًا فَدَخَلْتُمُ الْإِسْلَامَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا أَبَى أَنْ يُصَدِّقَكُمْ فِي إِسْلَامِكُمْ أَكَانَ يُرْضِيكُمْ ذَلِكَ. وَهَذِهِ تَرْبِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَسْتَشْعِرَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ مُؤَاخَذَتِهِ غَيْرَهُ أَحْوَالًا كَانَ هُوَ عَلَيْهَا تُسَاوِي أَحْوَالَ مَنْ يُؤَاخِذُهُ، كَمُؤَاخَذَةِ الْمُعَلِّمِ التِّلْمِيذَ بِسُوءٍ إِذَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي إِعْمَالِ جُهْدِهِ. وَكَذَلِكَ هِيَ عَظِيمَة لِمَنْ يَمْتَحِنُونَ طَلَبَةَ الْعِلْمِ فَيَعْتَادُونَ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِمْ وَتَطَلُّبَ عَثَرَاتِهِمْ، وَكَذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ وَكِبَارُ الْمُوَظَّفِينَ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ لِنَظَرِهِمْ مِنْ صِغَارِ الْمُوَظَّفِينَ، وَكَذَلِكَ الْآبَاءُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ إِذَا بَلَغَتْ بِهِمُ الْحَمَاقَةُ أَنْ يَنْتَهِرُوهُمْ عَلَى اللَّعِبِ الْمُعْتَادِ أَوْ عَلَى الضَّجَرِ مِنَ الْآلَامِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ فِي حِفْظِ الْجَامِعَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ بَثُّ الثِّقَةِ وَالْأَمَانِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَطَرْحُ مَا مِنْ شَأْنِهِ إِدْخَالُ الشَّكِّ لِأَنَّهُ إِذَا فُتِحَ هَذَا الْبَابُ عَسُرَ سَدُّهُ، وَكَمَا
يَتَّهِمُ الْمُتَّهَمُ غَيْرَهُ فَلِلْغَيْرِ أَنْ يَتَّهِمَ مَنِ اتَّهَمَهُ، وَبِذَلِكَ تَرْتَفِعُ الثِّقَةُ، وَيَسْهُلُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ الْمُرُوقُ، إِذْ قَدْ أَصْبَحَتِ التُّهْمَةُ تُظِلُّ الصَّادِقَ وَالْمُنَافِقَ، وَانْظُر مُعَاملَة النَّبِي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُنَافِقِينَ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ. عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ سَرِيعُ السَّرَيَانِ فِي الْقُلُوبِ فَيَكْتَفِي أَهْلُهُ بِدُخُولِ الدَّاخِلِينَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُنَاقَشَةٍ، إِذْ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَأْلَفُوهُ،
168
وَتُخَالِطَ بِشَاشَتُهُ قُلُوبَهُمْ، فَهُمْ يَقْتَحِمُونَهُ عَلَى شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ فَيَصِيرُ إِيمَانًا رَاسِخًا، وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ ثِقَةُ السَّابِقِينَ فِيهِ بِاللَّاحِقِينَ بِهِمْ.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَعَادَ اللَّهُ الْأَمْرَ فَقَالَ: فَتَبَيَّنُوا تَأْكِيدًا لِ (تَبَيَّنُوا) الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَهُوَ يَجْمَعُ وعيدا ووعدا.
[٩٥، ٩٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٩٥ إِلَى ٩٦]
لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
وَلَمَّا لَامَ اللَّهُ بَعْضَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنِ التَّعَمُّقِ فِي الْغَايَةِ مِنَ الْجِهَادِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ فَضْلِ الْمُجَاهِدِينَ كَيْلَا يَكُونَ ذَلِكَ اللَّوْمُ مُوهِمًا انْحِطَاطَ فَضِيلَتِهِمْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ دَفْعًا لِلْيَأْسِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَنْ أَنْفُسِ الْمُسْلِمِينَ.
يَقُولُ الْعَرَبُ «لَا يَسْتَوِي وَلَيْسَ سَوَاءً» بِمَعْنَى أَنَّ أَحَدَ الْمَذْكُورِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ.
وَيَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْيِينِ الْمُفَضَّلِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ.
قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ غَيْرُهُ:
فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ تَعَالَى: لَيْسُوا سَواءً [آل عمرَان: ١١٣]، وَقَدْ يُتْبِعُونَهُ بِمَا يُصَرِّحُ بِوَجْهِ نَفْيِ السَّوَائِيَّةِ: إِمَّا لِخَفَائِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الْحَدِيد: ١٠]، وَقَدْ يَكُونُ التَّصْرِيحُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ:
169
لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الْحَشْر: ٢٠]. وَإِذْ قَدْ كَانَ وَجْهُ التَّفَاضُلِ مَعْلُومًا فِي أَكْثَرِ مَوَاقِعِ أَمْثَالِ هَذَا التَّرْكِيبِ، صَارَ فِي الْغَالِبِ أَمْثَالُ هَذَا التَّرْكِيبِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْكِنَايَةِ، وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِالْمَفْضُولِ فِي تَفْرِيطِهِ
وَزُهْدِهِ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مَعَ الْمُكْنَةِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ هُنَا لِظُهُورِ أَنَّ الْقَاعِدَ عَنِ الْجِهَادِ لَا يُسَاوِي الْمُجَاهِدَ فِي فَضِيلَةِ نُصْرَةِ الدِّينِ، وَلَا فِي ثَوَابِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ التَّعْرِيضُ بِالْقَاعِدِينَ وَتَشْنِيعُ حَالِهِمْ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ كَيْلَا يَحْسَبَ أَصْحَابُ الضَّرَرِ أَنَّهُمْ مَقْصُودُونَ بِالتَّحْرِيضِ فَيَخْرُجُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُكَلِّفُوهُمْ مَؤُونَةَ نَقْلِهِمْ وَحِفْظِهِمْ بِلَا جَدْوَى، أَوْ يَظُنُّوا أَنَّهُمْ مَقْصُودُونَ بِالتَّعْرِيضِ فَتَنْكَسِرُ لِذَلِكَ نُفُوسُهُمْ، زِيَادَةً عَلَى انْكِسَارِهَا بِعَجْزِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي اسْتِثْنَائِهِمْ إِنْصَافًا لَهُمْ وَعُذْرًا بِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ لَمَا قَعَدُوا، فَذَلِكَ الظَّنُّ بِالْمُؤْمِنِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ صَرِيحَ الْمَعْنَى لَمَا كَانَ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَوْقِعٌ. فَاحْفَظُوا هَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ مَقْصُودٌ، وَلَهُ مَوْقِعٌ من البلاغة لايضاع، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرُ الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ تَجَاوُزُ التَّعْرِيضِ أَصْحَاب الضَّرَر مَعْلُومَات فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ فَالِاسْتِثْنَاءُ عُدُولٌ عَنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَرِينَةِ إِلَى التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا
فِي «الصَّحِيحَيْنِ»، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ:
اكْتُبْ، فَكَتَبْتُ فِي كَتِفٍ (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)، وَخَلْفَ النَّبِيءِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الْآيَةَ. فَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَهِمَ الْمَقْصُودَ مِنْ نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ فَظَنَّ أَنَّ التَّعْرِيضَ يَشْمَلُهُ وَأَمْثَالَهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْقَاعِدِينَ، وَلِأَجْلِ هَذَا الظَّنِّ عَدَلَ عَنْ حِرَاسَةِ الْمَقَامِ إِلَى صَرَاحَةِ الْكَلَامِ، وَهُمَا حَالَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي عُرْفِ الْبُلَغَاءِ، هُمَا حَالُ مُرَاعَاةِ خِطَابِ الذَّكِيِّ وَخِطَابِ الْغَبِيِّ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مُفِيتَةً مُقْتَضَى حَالٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَلَكِنَّهَا مُعَوِّضَتُهُ بِنَظِيرِهِ لِأَنَّ السَّامِعِينَ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ: غَيْرُ- بِنَصْبِ الرَّاءِ- عَلَى الْحَالِ مِنَ الْقاعِدُونَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ- بِالرَّفْعِ- عَلَى النَّعْتِ لِ الْقاعِدُونَ.
170
وَجَازَ فِي «غَيْرَ» الرَّفْعُ عَلَى النَّعْتِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ (الْقَاعِدُونَ) تَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ فَيَجُوزُ فِيهِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى.
وَالضَّرَرُ: الْمَرَضُ وَالْعَاهَةُ مِنْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ أَوْ زَمَانَةٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِمَصَادِرِ الْأَدْوَاءِ وَنَحْوِهَا، وَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعَمَى، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْأَعْمَى: ضَرِيرٌ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْأَعْرَجِ وَالزَّمِنِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُصُوصُ الْعَمَى وَأَنَّ غَيْرَهُ مَقِيسٌ عَلَيْهِ.
وَالضَّرَر مَصْدَرُ ضَرِرَ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- مِثْلَ مَرِضَ، وَهَذِهِ الزِّنَةُ تَجِيءُ فِي الْعَاهَاتِ وَنَحْوِهَا، مِثْلَ عَمِيَ وَعَرِجَ وَحَصِرَ، وَمَصْدَرُهَا مَفْتُوحُ الْعَيْنِ مِثْلَ الْعَرَجِ، وَلِأَجْلِ خِفَّتِهِ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- امْتَنَعَ إِدْغَامُ الْمِثْلَيْنِ فِيهِ، فَقِيلَ: ضَرَرٌ بِالْفَكِّ، وَبِخِلَافِ الضُّرِّ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ ضَرَّهُ فَهُوَ وَاجِبُ الْإِدْغَامِ إِذْ لَا مُوجِبَ لِلْفَكِّ. وَلَا نَعْرِفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقَ الضَّرَرِ عَلَى غَيْرِ الْعَاهَاتِ الضَّارَّةِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَهُوَ نَادِرٌ أَوْ جَرَى عَلَى الْإِتْبَاعِ وَالْمُزَاوَجَةِ لِاقْتِرَانِهِ بِلَفْظِ ضِرَارَ وَهُوَ مُفَكَّكٌ. وَزَعَمَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ ضَرَرَ اسْمُ مَصْدَرِ الضُّرِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا شَاهِدَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الْجِهَادَ يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ: بَذْلَ النَّفْسِ وَبَذْلَ الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ الْجِهَادَ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَو لم يتَّفق شَيْئًا، بَلْ وَلَوْ كَانَ كَلًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَنَّ مَنْ بَذَلَ الْمَالَ لِإِعَانَةِ الْغُزَاةِ، وَلَمْ يُجَاهِدْ بِنَفْسِهِ، لَا يُسَمَّى مُجَاهِدًا وَإِنْ كَانَ لَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ وَكَانَ يَتَمَنَّى زَوَالَ عُذْرِهِ وَاللَّحَاقَ بِالْمُجَاهِدِينَ، لَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّ فَضْلَ الْجِهَادِ بِالْفِعْلِ لَا يُسَاوِيهِ فَضْلُ الْآخَرِينَ.
وَجُمْلَةُ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَحَقِيقَةُ الدَّرَجَةِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ مَكَانٍ يَكُونُ أَعْلَى مِنْ جُزْءٍ آخَرَ مُتَّصِلٍ بِهِ، بِحَيْثُ تَتَخَطَّى الْقَدَمُ إِلَيْهِ بِارْتِقَاءٍ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ بِصُعُودٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَرَجَةِ الْعُلَيَّةِ وَدَرَجَةِ السُّلَّمِ.
وَالدَّرَجَةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] وَالْعُلُوُّ الْمُرَادُ هُنَا عُلُوُّ الْفَضْلِ وَوَفْرَةِ الْأَجْرِ.
171
وَجِيءَ بِ (دَرَجَةً) بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَلَيْسَ إِفْرَادُهَا لِلْوَحْدَةِ، لِأَنَّ دَرَجَةً هُنَا جِنْسٌ مَعْنَوِيٌّ لَا أَفْرَادَ لَهُ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَهَا تَأْكِيدًا لَهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ: دَرَجاتٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ أَقْوَى مِنَ الْمُفْرَدِ.
وَتَنْوِينُ دَرَجَةً لِلتَّعْظِيمِ. وَهُوَ يُسَاوِي مَفَادَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي دَرَجاتٍ مِنْهُ.
وَانْتَصَبَ دَرَجَةً بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ فِي فِعْلِ فَضَّلَ إِذِ الدَّرَجَةُ هُنَا زِيَادَةٌ فِي مَعْنَى الْفَضْلِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ فَضْلًا هُوَ دَرَجَةٌ، أَيْ دَرَجَةً فَضْلًا.
وَجُمْلَةُ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى مُعْتَرِضَةٌ. وَتَنْوِينُ «كُلًّا» تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكُلُّ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ.
وَعُطِفَ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً عَلَى جُمْلَةِ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ زِيَادَةِ أَجْراً عَظِيماً فَبِذَلِكَ غَايَرَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا مُغَايَرَةً سَوَّغَتِ الْعَطْفَ، مَعَ مَا فِي إِعَادَةِ مُعْظَمِ أَلْفَاظِهَا مِنْ تَوْكِيدٍ لَهَا.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الْمُجاهِدِينَ الْمُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ الْقَيْدِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِهِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ. وَانْتَصَبَ أَجْراً عَظِيماً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ لِأَنَّ الْأَجْرَ هُوَ ذَلِكَ التَّفْضِيلُ، وَوُصِفَ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ.
وَانْتَصَبَ دَرَجَاتٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ أَجْراً عَظِيماً، أَوْ عَلَى الْحَالِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِ دَرَجَاتٍ بِأَنَّهَا مِنْهُ أَيْ مِنَ اللَّهِ.
وَجُمِعَ دَرَجاتٍ لِإِفَادَةِ تَعْظِيمِ الدَّرَجَةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْكَثْرَةِ تُسْتَعَارُ صِيغَتُهُ لِمَعْنَى الْقُوَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلْقَمَةَ لَمَّا أَنْشَدَ الْحَارِثَ بْنَ جَبَلَةَ مَلِكَ غَسَّانَ قَوْلَهُ يَسْتَشْفِعُ لِأَخِيهِ شَأْسِ بْنِ عَبْدَةَ:
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
قَالَ لَهُ الْملك «وأذنبة».
172

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٩٧ إِلَى ٩٩]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)
فَلَمَّا جَاءَ ذِكْرُ الْقَاعِدِينَ عَنِ الْجِهَادِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِعُذْرٍ وَبِدُونِهِ، فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ، كَانَ حَالُ الْقَاعِدِينَ عَنْ إِظْهَارِ إِسْلَامِهِمْ مِنَ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، أَوِ اتَّبَعُوهُ ثُمَّ صَدَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ عَنْهُ وَفَتَنُوهُمْ حَتَّى أَرْجَعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِعُذْرٍ وَبِدُونِهِ، بِحَيْثُ يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ أَنْ يَتَسَاءَلَ عَنْ مَصِيرِهِمْ إِنْ هُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُجِيبَةً عَمَّا يَجِيشُ بِنُفُوسِ السَّامِعِينَ مِنَ التَّسَاؤُلِ عَنْ مَصِيرِ أُولَئِكَ، فَكَانَ مَوْقِعُهَا اسْتِئْنَافًا
بَيَانِيًّا لِسَائِلٍ مُتَرَدِّدٍ، وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ، وَلِذَلِكَ صُدِّرَتْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ، فَإِنَّ حَالَهُمْ يُوجِبُ شَكًّا فِي أَنْ يَكُونُوا مُلْحَقِينَ بِالْكُفَّارِ، كَيْفَ وَهُمْ قَدْ ظَهَرَ مَيْلُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ فِيهِ بِالْفِعْلِ ثُمَّ صُدَّ عَنْهُ أَوْ فُتِنَ لِأَجْلِهِ.
وَالْمَوْصُولُ هُنَا فِي قُوَّةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ شَخْصًا أَوْ طَائِفَةً بَلْ جِنْسَ مَنْ مَاتَ ظَالِمًا نَفْسَهُ، وَلِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، أَيْ لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَمَعْنَى تَوَفَّاهُمُ تُمِيتُهُمْ وَتَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ يَمُوتُونَ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَعَدَلَ عَنْ يَمُوتُونَ أَوْ يُتَوَفَّوْنَ إِلَى تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لِبَيَانِ شَنَاعَةِ فِتْنَتِهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَ «الْمَلَائِكَةُ» جَمْعٌ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، فَاسْتَوَى فِي إِفَادَةِ مَعْنَى الْجِنْسِ جَمْعُهُ، كَمَا هُنَا، وَمُفْرَدُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَة: ١١] فَيَجُوزُ
173
أَنْ يَكُونَ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي يَقْبِضُ أَرْوَاحَ النَّاسِ وَاحِدًا، بِقُوَّةٍ مِنْهُ تَصِلُ إِلَى كُلِّ هَالِكٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ هَالِكٍ مَلَكٌ يَقْبِضُ رُوحَهُ، وَهَذَا أَوْضَحُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ إِلَى قَوْلِهِ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ.
وتَوَفَّاهُمُ فِعْلُ مُضِيٍّ يُقَالُ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ، وَتَوَفَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقْرَنْ بِعَلَامَةِ تَأْنِيثِ فَاعِلِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ صِيَغِ جُمُوعِ التَّكْسِيرِ تَأْنِيثٌ لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ فَيَجُوزُ لَحَاقَ تَاءِ التَّأْنِيثِ لِفِعْلِهَا، تَقُولُ: غزت الْعَرَب، وغزى الْعَرَبُ.
وَظُلْمُ النَّفْسِ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدٌ فِعْلًا يَؤُولُ إِلَى مَضَرَّتِهِ، فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَفْعَلُوهُ لِوَخَامَةِ عُقْبَاهُ. وَالظُّلْمُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِقُّ فِعْلُهُ وَلَا تَرْضَى بِهِ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ وَالشَّرَائِعُ، وَاشْتُهِرَ إِطْلَاقُ ظُلْمِ النَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا حِينَ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ أَقَامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ بِمَكَّةَ فَفَتَنُوهُمْ فَارْتَدُّوا، وَخَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَكَثَّرُوا سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ، فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ كَافِرِينَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُمْ أُكْرِهُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالُوا: وَكَانَ مِنْهُمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَهَؤُلَاءِ قُتِلُوا. وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَقِيلٌ وَنَوْفَلٌ ابْنَا أَبِي طَالِبِ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ أُسِرُوا وَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ وَأَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالظُّلْمِ عَدَمُ الْهِجْرَةِ إِذْ كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَتَقَاعَسُوا عَنِ الْهِجْرَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ يُعْتَبَرُ كَافِرًا حَتَّى يُهَاجِرَ، يَعْنِي وَلَوْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَتَرَكَ حَالَ الشِّرْكِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً وَلَا يَكْفُرُ تَارِكُهَا. فَعَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ فَالظُّلْمُ مُرَادٌ بِهِ أَيْضًا الْكُفْرُ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ مِنَ الْكُفْرِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، أَيْ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَكْتَفِ بِالْإِيمَانِ إِذَا لَمْ يُهَاجِرْ صَاحِبُهُ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بِعِيدٌ فَقَدْ
174
قَالَ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الْأَنْفَال: ٧٢] الْآيَةَ فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَصْرَهُمْ فِي الدِّينِ إِنِ اسْتَنْصَرُوهُمْ، وَهَذِهِ حَالَةٌ تُخَالِفُ حَالَةَ الْكُفَّارِ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ: فَالظُّلْمُ الْمَعْصِيَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْوَعِيدُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَالِحٌ لِلْأَمْرَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعُدُّوا الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي عِدَادِ الصَّحَابَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَيَّنِ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِمَا عَرَفُوا مِنْهُمْ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجُمْلَةُ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ خَبَرُ (إِنَّ). وَالْمَعْنَى: قَالُوا لَهُمْ قَوْلَ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ بِالْوَعِيدِ وَتَمْهِيدٍ لِدَحْضِ مَعْذِرَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، فَقَالُوا لَهُمْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ مَوْضِعَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ تَوَفَّاهُمُ، فَإِنَّ تَوَفِّيَ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمُ الْمَحْكِيَّ هُنَا يَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ لَهُمْ فِيمَ كُنْتُمْ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ فَهِيَ مَفْصُولَةٌ عَنِ الْعَاطِفِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُقَاوَلَةِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، عَلَى مَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ: قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً. وَيَكُونُ خَبَرُ (إِنَّ) قَوْلَهُ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً عَلَى أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ لِكَوْنِ اسْمِ إِنَّ مَوْصُولًا فَإِنَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ أَسْمَاءِ الشُّرُوطِ كَثِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْفَاءِ هُنَا أَوْلَى لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ اسْمِ (إِنَّ) وَخَبَرِهَا بِالْمُقَاوَلَةِ، بِحَيْثُ صَارَ الْخَبَرُ كَالنَّتِيجَةِ لِتِلْكَ الْمُقَاوَلَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اسْمُ الْإِشَارَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فِيمَ كُنْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ.
وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَ (مَا) اسْتِفْهَامٌ عَنْ حَالَةٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ (فِي). وَقَدْ علم الْمَسْئُول أنّ الْحَالة الْمَسْئُولُونَ أَنَّ الْحَالَةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا حَالَةُ بَقَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ عَدَمِ الْهِجْرَةِ. فَقَالُوا مُعْتَذِرِينَ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ.
175
وَالْمُسْتَضْعَفُ: الْمَعْدُودُ ضَعِيفًا فَلَا يَعْبَأُ بِمَا يُصْنَعُ بِهِ فَلَيْسَ هُوَ فِي عِزَّةٍ تُمَكِّنُهُ مِنْ إِظْهَارِ إِسْلَامِهِ، فَلِذَلِكَ يَضْطَرُّ إِلَى كِتْمَانِ إِسْلَامِهِ. وَالْأَرْضُ هِيَ مَكَّةُ. أَرَادُوا: كُنَّا مُكْرَهِينَ عَلَى الْكُفْرِ مَا أَقَمْنَا فِي مَكَّةَ، وَهَذَا جَوَابٌ صَادِقٌ إِذْ لَا مَطْمَعَ فِي الْكَذِبِ فِي عَالَمِ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ حَسِبُوا ذَلِكَ عُذْرًا يُبِيحُ الْبَقَاءَ عَلَى الشِّرْكِ، أَوْ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْهِجْرَةِ، عَلَى اخْتِلَافِ التَّفْسِيرَيْنِ، فَلِذَلِكَ رَدَّ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، أَيْ تَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي تُسْتَضْعَفُونَ فِيهَا، فَبِذَلِكَ تُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، أَوْ فَقَدِ اتَّسَعَتِ الْأَرْضُ فَلَا تَعْدَمُونَ أَرْضًا تَسْتَطِيعُونَ الْإِقَامَةَ فِيهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى كُلِّ بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْفِتْنَةِ يُعَدُّ هِجْرَةً، لَكِنْ دَلَّ قَوْلُهُ: مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٠٠] أَنَّ الْمَقْصُودَ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً، وَأَمَّا هِجْرَةُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ فَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ وَفَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا بَعْدُ بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ بِإِذْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا رَدٌّ مُفْحِمٌ لَهُمْ.
وَالْمُهَاجَرَةُ: الْخُرُوجُ مِنَ الْوَطَنِ وَتَرْكُ الْقَوْمِ، مُفَاعَلَةٌ مِنْ هَجَرَ إِذَا تَرَكَ، وَإِنَّمَا اشْتُقَّ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْوَطَنِ اسْمُ الْمُهَاجَرَةِ لِأَنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَكُونُ عَنْ كَرَاهِيَةٍ بَيْنَ الرَّاحِلِ وَالْمُقِيمِينَ، فَكُلُّ فَرِيقٍ يَطْلُبُ تَرْكَ الْآخَرِ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهَا عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ بِدُونِ هَذَا الْقَيْدِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [النِّسَاء: ٩٧] تَفْرِيعٌ عَلَى مَا حَكَى مِنْ تَوْبِيخِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ وَتَهْدِيدِهِمْ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ فِتْنَةِ الشِّرْكِ بِالْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِهِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْوَعِيدِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ حَقًّا، أَيِ الْعَاجِزِينَ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ لِقِلَّةِ جُهْدٍ، أَوْ لِإِكْرَاهِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ وَإِيثَاقِهِمْ عَلَى الْبَقَاءِ:
مِثْلَ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمُتَقَدِّمِ خَبَرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاء: ٩٢]، وَمِثْلَ سَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ.
وَفِي «الْبُخَارِيِّ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَدْعُو
176
فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ: «اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»
. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ.
وَالتَّبْيِينُ بِقَوْلِهِ: مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. وَالْمَقْصِدُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مِنَ الرِّجَالِ مُسْتَضْعَفِينَ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِذِكْرِهِمْ ثُمَّ أُلْحِقَ بِذِكْرِهِمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لِأَنَّ وُجُودَهُمْ فِي الْعَائِلَةِ يَكُونُ عُذْرًا لِوَلِيِّهِمْ إِذَا كَانَ لَا يَجِدُ حِيلَةً. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [النِّسَاء:
٧٥]، وَإِعَادَةُ ذِكْرِهِمْ هُنَا مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي التَّهْيِئَةِ لِفَتْحِ مَكَّةَ.
وَجُمْلَةُ: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا حَالٌ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مُوَضِّحَةٌ لِلِاسْتِضْعَافِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ الِاسْتِضْعَافِ الَّذِي يَقُولُهُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً فِي الْخُرُوجِ إِمَّا لِمَنْعِ أَهْلِ مَكَّةَ إِيَّاهُمْ، أَوْ لِفَقْرِهِمْ:
وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أَيْ مَعْرِفَةً لِلطَّرِيقِ كَالْأَعْمَى.
وَجُمْلَةُ فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ الْفَاءُ فِيهَا لِلْفَصِيحَةِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ.
وَفِعْلُ عَسَى فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ يَرْجُو أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَإِذْ كَانَ اللَّهُ هُوَ فَاعِلُ الْعَفْوِ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُمْ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ بِالتَّعْيِينِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الرَّجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ عَسَى هُنَا مَعْنًى مَجَازِيًّا بِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْ ذَنْبِهِمْ عَفْوٌ عَزِيزُ الْمَنَالِ، فَمُثِّلَ حَالُ الْعَفْوِ عَنْهُمْ بِحَالِ مَنْ لَا يُقْطَعُ بِحُصُولِ الْعَفْوِ عَنْهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيقُ تَحَقُّقِ عُذْرِهِمْ، لِئَلَّا يَتَسَاهَلُوا فِي شُرُوطِهِ اعْتِمَادًا عَلَى عَفْوِ اللَّهِ، فَإِنَّ عُذْرَ اللَّهِ لَهُمْ بِاسْتِضْعَافِهِمْ رُخْصَةٌ وَتَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى إِظْهَارِ الشِّرْكِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ الْوَاجِبُ الْعَزِيمَةُ أَنْ يُكَلَّفُوا بِإِعْلَانِ الْإِيمَانِ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ جَلَبَ لَهُمُ التَّعْذِيبَ وَالْهَلَاكَ، كَمَا فَعَلَتْ سُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ.
وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ هُوَ مَحْمَلُ مَوَارِدِ عَسَى وَ (لَعَلَّ) إِذَا أُسْنِدَا إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
177
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ: «عَسَى مِنَ اللَّهِ إِيجَابٌ» وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ عَسَى
وَلَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ لِلْيَقِينِ، وَمُرَادُهُمْ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً [الْكَهْف: ٢٤].
وَمِثْلُ هَذَا مَا قَالُوهُ فِي وُقُوعِ حَرْفِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ فِي حُصُولِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ انْقَضَى يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً لِمُفَارَقَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ، وَلِلتَّمَكُّنِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ دُونَ حَائِلٍ يَحُولُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَتْ مَكَّةُ دَارَ إِسْلَامٍ سَاوَتْ غَيْرَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ
حَدِيثُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»
فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَبْقَوْنَ فِي أَوْطَانِهِمْ إِلَّا الْمُهَاجِرِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدُّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ»
قَالَهُ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ. غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ يَفْتَحُ لِلْمُجْتَهِدِينَ نَظَرًا فِي أَحْكَامِ وُجُوبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يُفْتَنُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ فِي دِينِهِ، وَهَذِهِ أَحْكَام يجمعها ستّة أَحْوَالٍ:
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ بِبَلَدٍ يُفْتَنُ فِيهِ فِي إِيمَانِهِ فَيُرْغَمُ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ، وَقَدْ هَاجَرَ مُسْلِمُونَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ حِينَ أَكْرَهَهُمُ النَّصَارَى عَلَى التَّنَصُّرِ، فَخَرَجُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي كُلِّ وَادٍ تَارِكِينَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ نَاجِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَهَلَكَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ٩٠٢ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى أَنْ كَانَ الْجَلَاءُ الْأَخِيرُ سَنَةَ ١٠١٦.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بِبَلَدِ الْكُفْرِ غَيْرَ مَفْتُونٍ فِي إِيمَانِهِ وَلَكِنْ يَكُونُ عُرْضَةً لِلْإِصَابَةِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ بِأَسْرٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ مُصَادَرَةِ مَالٍ، فَهَذَا قَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلضُّرِّ وَهُوَ حَرَامٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَهَذَا مُسَمَّى الْإِقَامَةِ بِبَلَدِ الْحَرْبِ الْمُفَسَّرَةِ بِأَرْضِ الْعَدُوِّ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ بِبَلَدٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَفْتِنُوا النَّاسَ فِي إِيمَانِهِمْ وَلَا فِي عِبَادَاتِهِمْ وَلَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بِإِقَامَتِهِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا عَرَضَ لَهُ حَادِثٌ مَعَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ هُمْ
178
غَيْرُ مُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يُقِيمُ الْيَوْمَ بِبِلَادِ أُورُوبَّا النَّصْرَانِيَّةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُقَامَ فِي مثل ذَلِك مكسوره كَرَاهَةً شَدِيدَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ التِّجَارَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَرْبِ وَالْعُتْبِيَّةِ، كَذَلِكَ تَأَوَّلَ قَوْلَ مَالِكٍ فُقَهَاءُ الْقَيْرَوَانِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّسَالَةِ، وَصَرِيحُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ فِي طَالِعَةِ كِتَابِ التِّجَارَةِ إِلَى أَرْضِ
الْحَرْبِ مِنْ تَبْصِرَتِهِ، وَارْتَضَاهُ ابْنُ مُحْرِزٍ وَعَبْدُ الْحَقِّ، وَتَأَوَّلَهُ سَحْنُونٌ وَابْنُ حَبِيبٍ عَلَى الْحُرْمَةِ وَكَذَلِكَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغُ وَالْمَازِرِيُّ، وَزَادَ سَحْنُونٌ فَقَالَ: إِنَّ مُقَامَهُ جَرْحَةٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ، وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْكَلَامُ فِي السَّفَرِ فِي سُفُنِ النَّصَارَى إِلَى الْحَجِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْبَرْزَلِيُّ عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ: إِنْ كَانَ أَمِيرُ تُونِسَ قَوِيًّا عَلَى النَّصَارَى جَازَ السَّفَرُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمْ يُهِينُونَ الْمُسْلِمِينَ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَغَلَّبَ الْكُفَّارُ عَلَى بَلَدِ أَهْلِهِ مُسْلِمُونَ وَلَا يَفْتِنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَا فِي عِبَادَتِهِمْ وَلَا فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُ لَهُمْ حُكْمُ الْقُوَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ، وَتَجْرِي الْأَحْكَامُ بَيْنَهُمْ عَلَى مُقْتَضَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا وَقَعَ فِي صِقِلِّيَّةَ حِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا رُجَيْرٍ النَّرَمَنْدِيُّ.
وَكَمَا وَقَعَ فِي بِلَادِ غَرْنَاطَةَ حِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا طَاغِيَةُ الْجَلَالِقَةِ عَلَى شُرُوطٍ مِنْهَا احْتِرَامُ دِينِهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَهَا أَقَامُوا بِهَا مُدَّةً وَأَقَامَ مِنْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَكَانُوا يَلُونَ الْقَضَاءَ وَالْفَتْوَى وَالْعَدَالَةَ وَالْأَمَانَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَاجَرَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فَلَمْ يَعِبِ الْمُهَاجِرُ عَلَى الْقَاطِنِ، وَلَا الْقَاطِنُ عَلَى الْمُهَاجِرِ.
الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ نُفُوذٌ وَسُلْطَانٌ عَلَى بَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، مَعَ بَقَاءِ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ فِيهَا، وَاسْتِمْرَارِ تَصَرُّفِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، وَوِلَايَةِ حُكَّامِهِمْ مِنْهُمْ، وَاحْتِرَامِ أَدْيَانِهِمْ وَسَائِرِ شَعَائِرِهِمْ، وَلَكِنَّ تَصَرُّفَ الْأُمَرَاءِ تَحْتَ نَظَرِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَبِمُوَافَقَتِهِمْ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْحِمَايَةِ وَالِاحْتِلَالِ وَالْوِصَايَةِ وَالِانْتِدَابِ، كَمَا وَقَعَ فِي مِصْرَ مُدَّةَ احْتِلَالِ جَيْشِ الْفَرَنْسِيسِ بِهَا، ثُمَّ مُدَّةَ احْتِلَالِ الْأَنْقَلِيزِ، وَكَمَا وَقَعَ بِتُونِسَ وَالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى من حماية فرانسا، وَكَمَا وَقَعَ فِي سُورْيَا وَالْعِرَاقِ أَيَّامَ الِانْتِدَابِ وَهَذِهِ لَا شُبْهَةَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْهَا.
الْحَالَةُ السَّادِسَةُ: الْبَلَدُ الَّذِي تَكْثُرُ فِيهِ الْمَنَاكِرُ وَالْبِدَعُ، وَتَجْرِي فِيهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ عَلَى خِلَافِ صَرِيحِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ يَخْلِطُ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَلَا يُجْبَرُ الْمُسْلِمُ فِيهَا عَلَى
179
ارْتِكَابِهِ خِلَافَ الشَّرْعِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا إِلَّا بِالْقَوْلِ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ أَصْلًا وَهَذِهِ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وُجُوبُ الْخُرُوجِ مِنْهَا، رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَدَثَ فِي الْقَيْرَوَانِ أَيَّامَ بَنِي عُبَيْدٍ فَلَمْ يُحْفَظْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِهَا الصَّالِحِينَ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْهِجْرَةِ.
وَحَسْبُكَ بِإِقَامَةِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالِهِ. وَحَدَثَ فِي مِصْرَ مُدَّةَ الْفَاطِمِيِّينَ أَيْضًا فَلَمْ يُغَادِرْهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهَا الصَّالِحِينَ. وَدُونَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السِّتَّةِ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ هِيَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْإِقَامَةِ، وَأَنَّهَا مَرَاتِبُ، وَإِنَّ لِبَقَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوْطَانِهِمْ إِذَا لَمْ يُفْتَنُوا فِي دِينِهِمْ
مَصْلَحَةً كُبْرَى للجامعة الإسلامية.
[١٠٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٠٠]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)
جُمْلَةُ وَمَنْ يُهاجِرْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النِّسَاء: ٩٧]، وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ. وَالْمُهَاجَرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هِيَ الْمُهَاجَرَةُ لِأَجْلِ دِينِ اللَّهِ. وَالسَّبِيلُ اسْتِعَارَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وزادها قبولا هُنَا أَنَّ الْمُهَاجَرَةَ نَوْعٌ مِنَ السَّيْرِ، فَكَانَ لِذِكْرِ السَّبِيلِ مَعَهَا ضَرْبٌ مِنَ التَّوْرِيَةِ. وَالْمُرَاغَمُ اسْمُ مَكَانٍ مِنْ رَاغَمَ إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَفِعْلُ رَاغَمَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّغَامِ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- وَهُوَ التُّرَابُ. أَوْ هُوَ مِنْ رَاغَمَ غَيْرَهُ إِذَا غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، وَلَعَلَّ أَصْلَهُ أَنَّهُ أَبْقَاهُ عَلَى الرَّغَامِ، أَيِ التُّرَابِ، أَيْ يَجِدُ مَكَانًا يُرْغِمُ فِيهِ مَنْ أَرْغَمَهُ، أَيْ يَغْلِبُ فِيهِ قَوْمَهُ بِاسْتِقْلَالِهِ عَنْهُمْ كَمَا أَرْغَمُوهُ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى الْكُفْرِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ وَعْلَةَ الذُّهْلِيُّ:
لَا تَأْمَنَنَّ قَوْمًا ظَلَمْتَهُمْ وَبَدَأْتَهُمْ بِالشَّتْمِ وَالرَّغَمِ
إِنْ يَأْبِرُوا نَخْلًا لِغَيْرِهِمْ وَالشَّيْءُ تَحْقِرُهُ وَقَدْ يَنْمِي
أَيْ أَنْ يَكُونُوا عَوْنًا لِلْعَدُوِّ عَلَى قَوْمِهِمْ. وَوَصْفُ الْمُرَاغَمِ بِالْكَثِيرِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ جِنْسُ الْأَمْكِنَةِ. وَالسَّعَةُ ضِدُّ الضِّيقِ، وَهِيَ حَقِيقَةُ اتِّسَاعِ الْأَمْكِنَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى رَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ، فَهِيَ سَعَةٌ مَجَازِيَّةٌ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَاغَمُ هُوَ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ فَعَطْفُ السَّعَةِ عَلَيْهِ عَطْفَِِ
180
تَفْسِيرٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَكَانُ الْإِغَاضَةِ فَعَطْفُ السَّعَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِدُهُ مُلَائِمًا مِنْ جِهَةِ إِرْضَاءِ النَّفْسِ، وَمِنْ جِهَةِ رَاحَةِ الْإِقَامَةِ.
ثُمَّ نَوَّهَ اللَّهُ بِشَأْنِ الْهِجْرَةِ بِأَنْ جَعَلَ ثَوَابَهَا حَاصِلًا بِمُجَرَّدِ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ إِلَى الْبَلَدِ الْمُهَاجَرِ إِلَيْهِ. بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ. وَمَعْنَى الْمُهَاجَرَةِ إِلَى اللَّهِ الْمُهَاجَرَةُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّهُ. وَعُطِفَ الرَّسُولُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى خُصُوصِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلِالْتِحَاقِ بِالرَّسُولِ وَتَعْزِيزِ جَانِبِهِ، لِأَنَّ الَّذِي يُهَاجِرُ إِلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ قَدْ سَلِمَ مِنْ إِرْهَاقِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَحْصُلْ عَلَى نُصْرَةِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ بَادَرَ أَهْلُ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ إِلَى اللَّحَاقِ بِالرَّسُولِ حِينَ بَلَغَهُمْ مُهَاجَرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَمَعْنَى يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، أَيْ فِي الطَّرِيقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ مُهَاجِرًا، أَيْ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى بِلَادِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
الْهِجْرَةِ الْمُرَادَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقِيلَ: الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَعِنْدَ مَنْ قَالُوا إِنَّ الْمُرَادَ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالُوا الْمُرَادُ بِمَنْ يَخْرُجْ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَقِيَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: ٩٧- ١٠٠] كَتَبَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَرِيضًا، فَقَالَ: إِنِّي لَذُو مَالٍ وَعَبِيدٍ، فَدَعَا أَبْنَاءَهُ وَقَالَ لَهُمْ: احْمِلُونِي إِلَى الْمَدِينَةِ. فَحَمَلُوهُ عَلَى سَرِيرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ التَّنْعِيمَ تُوُفِّيَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ، وَتَعُمُّ أَمْثَالَهُ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لَا يُخَصِّصُهَا سَبَبُ النُّزُولِ.
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ كِنَانَةَ، وَقِيلَ مِنْ خُزَاعَةَ، وَقِيلَ مِنْ جُنْدَعٍ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: جُنْدُبُ بْنُ حَمْزَةَ الْجُنْدَعِيُّ، حُنْدُجُ بْنُ ضَمْرَةَ اللَّيْثِيُّ الْخُزَاعِيُّ. ضَمْرَةُ بْنُ بَغِيضٍ اللَّيْثِيُّ، ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الضَّمْرِيُّ، ضَمرَة بن جُنْدُب الضمرِي، ضَمْرَةُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ نُعَيْمٍ. ضَمْرَةُ مِنْ خُزَاعَةَ (كَذَا). ضَمْرَةُ بْنُ الْعِيصِ. الْعِيصُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ زِنْبَاعٍ، حَبِيبُ بْنُ ضَمْرَةَ، أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ.
181
وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ قَالُوا: إِنَّ الْمَعْنِيَّ بِمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ خَالِدُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى الْحَبَشَةِ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ. وَسِيَاقُ الشَّرْطِ يَأْبَى هَذَا التَّفْسِير.
[١٠١، ١٠٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٠١ إِلَى ١٠٢]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)
انْتِقَالٌ إِلَى تَشْرِيعٍ آخَرَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ السَّفَرِ لِلْخُرُوجِ مِنْ سُلْطَةِ الْكُفْرِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْنِينِ أَغْرَاضِهِ، وَالْتِمَاسِ مُنَاسَبَاتِهَا. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالضَّرْبُ
فِي الْأَرْضِ: السَّفَرُ.
(وَإِذَا) مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهَا، فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ كَجَوَابِ الشَّرْطِ. (وَإِذَا) مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ الْجَوَابِ.
وَقَصْرُ الصَّلَاةِ: النَّقْصُ مِنْهَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَجْزَاءَ الصَّلَاةِ هِيَ الرَّكَعَاتُ بِسَجَدَاتِهَا وَقِرَاءَاتِهَا، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقَصْرَ مِنَ الصَّلَاةِ هُوَ نَقْصُ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِعْلُ
182
النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ صَيَّرَ الصَّلَاةَ ذَاتَ الْأَرْبَعِ الرَّكَعَاتِ ذَاتَ رَكْعَتَيْنِ. وَأَجْمَلَتِ الْآيَةُ فَلَمْ تُعَيِّنِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَعْتَرِيهَا الْقَصْرُ، فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِأَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ. وَلَمْ تَقْصُرِ الصُّبْحَ لِأَنَّهَا تَصِيرُ رَكْعَةً وَاحِدَةً فَتَكُونُ غَيْرَ صَلَاةٍ، وَلَمْ تَقْصُرِ الْمَغْرِبَ لِئَلَّا تَصِيرَ شَفْعًا فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وَلِئَلَّا تَصِيرَ رَكْعَةً وَاحِدَةً كَمَا قُلْنَا فِي الصُّبْحِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى قَصْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَيَظْهَرُ مِنْ أُسْلُوبِهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ شُرِعَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ، وَقِيلَ: بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَدْ رَوَى أَهْلُ الصَّحِيحِ قَوْلَ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ، وَهُوَ حَدِيثٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ. وَمَحْمَلُ الْآيَةِ عَلَى مُقْتَضَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ فَتَقَرَّرَتْ كَذَلِكَ فَلَمَّا صَارَتِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ أَرْبَعًا نُسِخَ مَا كَانَ مِنْ عَدَدِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَبْدَأِ الْهِجْرَةِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ مُقَامًا عَلَى حَالَةِ الْحَضَرِ وَهِيَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ، بَطَلَ إِيقَاعُ الصَّلَوَاتِ الْمَذْكُورَاتِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا غَزَوْا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَذِنَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا تِلْكَ الصَّلَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ وَقَالَ: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ وَإِنَّمَا قَالَتْ عَائِشَةُ «أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ» حَيْثُ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَنِ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوهَا تَامَّةً فِي السَّفَرِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهَا وَبَيْنَ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَرْطٌ دَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ الْإِذْنِ بِالْقَصْرِ بِحَالِ الْخَوْفِ مِنْ تَمَكُّنِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ وَإِبْطَالِهِمْ عَلَيْهِمْ صَلَاتَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْقَصْرِ لِتَقَعَ الصَّلَاةُ عَنِ اطْمِئْنَانٍ، فَالْآيَةُ هَذِهِ خَاصَّةٌ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْخَوْفِ، وَهُوَ الْقَصْرُ الَّذِي لَهُ هَيْئَةٌ خَاصَّةٌ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا رَأْيُ مَالِكٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» :
أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ «إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَصَلَاةَ الْحَضَرِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ»، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «يَا ابْنَ أَخِي إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا
مُحَمَّدًا وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ»
، يَعْنِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَرَّ السَّائِلَ وَأَشْعَرَهُ بِأَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ تَرَى عَائِشَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالْخَوْفِ، فَكَانَا يُكْمِلَانِ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ. وَهَذَا
183
التَّأْوِيلُ هُوَ الْبَيِّنُ فِي مَحْمَلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَيَكُونُ ثُبُوتُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ بِدُونِ الْخَوْفِ وَقَصْرُ الصَّلَاةِ فِي الْحَضَرِ عِنْدَ الْخَوْفِ ثَابِتَيْنِ بِالسُّنَّةِ، وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ.
وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ خِفْتُمْ وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ. فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»
. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَحْمَلَ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ عُمَرَ عَلَى فَهْمِهِ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقَصْرِ لِأَجْلِ الْخَوْفِ، فَكَانَ الْقَصْرُ لِأَجْلِ الْخَوْفِ رُخْصَةً لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ، وَقَوْلُهُ: لَهُ صَدَقَةٌ إِلَخْ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ لِغَيْرِ الْخَوْفِ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ تَخْفِيفٌ، وَهُوَ دُونَ الرُّخْصَةِ فَلَا تَرُدُّوا رُخْصَتَهُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا تَمَحَّلُوا بِهِ فِي تَأْوِيلِ الْقَيْدِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ:
إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَتَقْتَصِرُ الْآيَةُ عَلَى صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَيَسْتَغْنِي الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقَائِلُونَ بِتَأْكِيدِ سُنَّةِ الْقَصْرِ مِثْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ، عَنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ بِمَا لَا يُلَائِمُ إِطْلَاقَ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِعَادَةً لِتَشْرِيعِ رُخْصَةِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ لِقَصْدِ التَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ:
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الْآيَاتِ.
أَمَّا قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الْفِعْلِيَّةُ، وَاتَّبَعَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ إِلَّا عَائِشَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، حَتَّى بَالَغَ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ بَقِيَتْ عَلَى فَرْضِهَا، فَلَوْ صَلَّاهَا رُبَاعِيَّةً لَكَانَتْ زِيَادَةً فِي الصَّلَاةِ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ. وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ إِلَّا الْقَصْرُ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ. وَإِنَّمَا أَتَمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الصَّلَاةَ فِي الْحَجِّ خَشْيَةَ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْأَعْرَابُ أَنَّ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا رَكْعَتَانِ. غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِهِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ لِمُنَافَاتِهِ لِصِيَغِ الْوُجُوبِ. وَلَقَدْ أَجَادَ مَحَامِلَ الْأَدِلَّةِ.
وَأُخْبِرَ عَنِ الْكَافِرِينَ وَهُوَ جَمْعٌ بِقَوْلِهِ: عَدُوًّا وَهُوَ مُفْرَدٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ [النِّسَاء: ٩٢].
184
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ هَذِهِ صِفَةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ صَلَاةَ الْخَوْفِ. وَأَكْثَرُ الْآثَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا كَانَتْ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: نَخْلَةُ بَيْنَ عُسْفَانَ وَضَجْنَانَ مِنْ نَجْدٍ، حِينَ لَقُوا جُمُوعَ غَطَفَانَ: مُحَارِبٌ وَأَنْمَارُ وَثَعْلَبَةُ.
وَكَانَتْ بَيْنَ سَنَةِ سِتٍّ وَسَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ بِهَا هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَأَنَّ سَبَبَهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَوْا حِرْصَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاةِ قَالُوا: هَذِهِ الصَّلَاةُ فُرْصَةٌ لَنَا لَوْ أَغَرْنَا عَلَيْهِمْ لَأَصَبْنَاهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، فَأَنْبَأَ الله بذلك نبيّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ. غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَدَّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَاقْتَضَى بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا تَقَعُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ خُصُوصِيَّةٌ لِإِقَامَتِهِ.
وَبِهَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ، وَأَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ، وَعَلَّلُوا الْخُصُوصِيَّةَ بِأَنَّهَا لِحِرْصِ النَّاسِ عَلَى فَضْلِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرَّسُولِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَيِمَّةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَأْتَمَّ كُلُّ طَائِفَةٍ بِإِمَامٍ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ: لِمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ مَقْصِدَ شَرْعِ الْجَمَاعَةِ هُوَ اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوْطِنِ الْوَاحِدِ، فَيُؤْخَذُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. عَلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَرَى دَلَالَةَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِإِمَامَةِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ جَزَمَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ صَلَاةَ الْخَوْفِ لِلْمُسْلِمِينَ أَبَدًا. وَمَحْمَلُ هَذَا الشَّرْطِ عِنْدَهُمْ جَارٍ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُلَازَمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَزَوَاتِهِمْ وَسَرَايَاهُمْ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ، كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «لَوْلَا أَنَّ قَوْمًا لَا يَتَخَلَّفُونَ بَعْدِي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ سَارَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاحْتِرَازَ عَنْ كَوْنِ غَيْرِهِ فِيهِمْ وَلَكِنَّ التَّنْوِيهَ بِكَوْنِ النَّبِيءِ فِيهِمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْأُمَرَاءُ قَائِمِينَ مَقَامَهُ فِي الْغَزَوَاتِ فَالَّذِي رَخَّصَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مَعَهُ يُرَخِّصُهُ لَهُمْ مَعَ أُمَرَائِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التَّوْبَة: ١٠٣].
وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: «فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ» عُلِمَ أَنَّ ثَمَّةَ طَائِفَةً أُخْرَى، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ لِلطَّائِفَةِ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهَا، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ قَوْلِهِ: فَإِذا سَجَدُوا لِلطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَ النَّبِيءِ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ مَعِيَّةُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ:
185
فَإِذا سَجَدُوا. وَضَمِيرُ قَوْلِهِ: فَلْيَكُونُوا لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، لِظُهُورِ أَنَّ الْجَوَابَ وَهُوَ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ مُتَعَيِّنٌ لِفِعْلِ الطَّائِفَةِ الْمُوَاجِهَةِ الْعَدُوِّ.
وَقَوْلُهُ: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى هَذِهِ هِيَ الْمُقَابِلَةُ لِقَوْلِهِ: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ.
وَقَدْ أَجْمَلَتِ الْآيَةُ مَا تَصْنَعُهُ كُلُّ طَائِفَةٍ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ. وَلَكِنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ قَالَ: فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ. فَجَعَلَهُمْ تَابِعِينَ لِصَلَاتِهِ، وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ صَلَاتَهُ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً مُسْتَقِلَّةً لَقَالَ تَعَالَى فَلْتُصَلِّ بِهِمْ. وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتِمًّا لِلصَّلَاةِ غَيْرَ مُقَصِّرٍ، أَوْ يَكُونُ صَلَّى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَبِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ صَلَاةً: نَافِلَةً لَهُ، فَرِيضَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَسَنُ ذَلِكَ. وَيَرَى جَوَازَ ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ الِائْتِمَامَ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَقْسِيمِ الصَّلَاةِ: بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُومِينَ. وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا
رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ»، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَصَفَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ قَامَ، وَأَتَمُّوا رَكْعَةً لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَوَقَفُوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَوُا الرَّكْعَةَ الَّتِي فَاتَتْهُمْ وَسَلَّمُوا
وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَوْفَقُ بِلَفْظِ الْآيَةِ، وَالرِّوَايَاتُ غَيْرُ هَذِهِ كَثِيرَةٌ.
وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ ذَاتُ الْكَثْرَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَإِنْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ. وَقَدْ تَزِيدُ عَلَى الْأَلِفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الْأَنْعَام: ١٥٦]. وَأَصْلُهَا مَنْقُولَةٌ مِنْ طَائِفَةِ الشَّيْءِ وَهِيَ الْجُزْءُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ اسْتُعْمِلَ الْأَخْذُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ: لِأَنَّ أَخْذَ الْحَذَرِ مَجَازٌ، إِذْ حَقِيقَةُ الْأَخْذِ التَّنَاوُلُ، وَهُوَ مُجَازٌ فِي التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ.
وَأَخْذُ الْأَسْلِحَةِ حَقِيقَةٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الْحَشْر: ٩]،
186
فَإِنَّ تَبَوُّأَ الْإِيمَانِ الدُّخُولُ فِيهِ وَالِاتِّصَافُ بِهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْكُفْرِ. وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا أَسْلِحَتَكُمْ، لِأَنَّ أَخْذَ السِّلَاحِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ، وُدُّهُمْ هَذَا مَعْرُوفٌ إِذْ هُوَ شَأْنُ كُلِّ مُحَارِبٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَعْرُوفُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ وَدُّوا وُدًّا مُسْتَقْرَبًا عِنْدَهُمْ، لِظَنِّهِمْ أَنَّ اشْتِغَالَ الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِ دِينِهِمْ يُبَاعِدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ جَهْلًا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ، فَطَمِعُوا أَنْ تُلْهِيَهُمُ الصَّلَاةُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِأَعْدَائِهِمْ، فَنَبَّهَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ذَلِكَ كَيْلَا يَكُونُوا عِنْدَ ظَنِّ الْمُشْرِكِينَ، وَلِيُعَوِّدَهُمْ بِالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَلِيُرِيَهُمْ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا صِنْوَانٌ.
وَالْأَسْلِحَةُ جَمْعُ سِلَاحٍ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِآلَةِ الْحَرْبِ كُلِّهَا مِنَ الْحَدِيدِ، وَهِيَ السَّيْفُ وَالرُّمْحُ وَالنِّبْلُ وَالْحَرْبَةُ وَلَيْسَ الدِّرْعُ وَلَا الْخُوذَةُ وَلَا التُّرْسُ بِسِلَاحٍ. وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.
وَالتَّذْكِيرُ أَفْصَحُ، وَلِذَلِكَ جَمَعُوهُ عَلَى أَسْلِحَةٍ وَهُوَ مِنْ زِنَاتِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ.
وَالْأَمْتِعَةُ جَمْعُ مَتَاعٍ وَهُوَ كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ عُرُوضٍ وَأَثَاثٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا لَهُ عَوْنٌ فِي الْحَرْبِ كَالسُّرُوجِ وَلَأْمَةِ الْحَرْبِ كَالدُّرُوعِ وَالْخُوذَاتِ. فَيَمِيلُونَ مُفَرَّعٌ عَنْ قَوْلِهِ:
لَوْ تَغْفُلُونَ إِلَخْ، وَهُوَ مَحَلُّ الْوُدِّ، أَيْ وَدُّوا غَفْلَتَكُمْ لِيَمِيلُوا عَلَيْكُمْ. وَالْمَيْلُ: الْعُدُولُ عَنِ الْوَسَطِ إِلَى الطَّرَفِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ شَيْءٍ كَانَ مَعَهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، كَمَا هُنَا، أَيْ فَيَعْدِلُونَ عَنْ مُعَسْكَرِهِمْ إِلَى جَيْشِكُمْ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَيْلِ هُنَا الْكَرَّ وَالشَّدَّ، عُدِّيَ بِ (عَلَى)، أَيْ فَيَشُدُّونَ عَلَيْكُمْ فِي حَالِ غَفْلَتِكُمْ.
وَانْتَصَبَ (مَيْلَةً) عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِبَيَانِ الْعَدَدِ، أَيْ شِدَّةً مُفْرَدَةً. وَاسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الْمَرَّةِ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الشَّدِيدَ الْقَوِيَّ يَأْتِي بِالْغَرَضِ مِنْهُ سَرِيعًا دُونَ مُعَاوَدَةِ عِلَاجٍ، فَلَا يَتَكَرَّرُ الْفِعْلُ لِتَحْصِيلِ الْغَرَضِ، وَأَكَّدَ مَعْنَى الْمَرَّةِ الْمُسْتَفَادَ مِنْ صِيغَةِ فَعْلَةٍ بِقَوْلِهِ: واحِدَةً تَنْبِيهًا عَلَى قَصْدِ مَعْنَى الْكِنَايَةِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَصْدَرَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ: فَيَمِيلُونَ.
187
وَقَوْلُهُ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ إِلَخْ رُخْصَةٌ لَهُمْ فِي وَضْعِ الْأَسْلِحَةِ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ، وَقَدْ صَارَ مَا هُوَ أَكْمَلُ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ رُخْصَةً هُنَا، لِأَنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا وَمَا يَحْصُلُ عَنْهَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَلِذَلِكَ قَيَّدَ الرُّخْصَةَ مَعَ أَخْذِ الْحَذَرِ.
وَسَبَبُ الرُّخْصَةِ أَنَّ فِي الْمَطَرِ شَاغِلًا لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَمُوجِبٌ لِلرُّخْصَةِ لِخُصُوصِ الْمَرِيضِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً تَذْيِيلٌ لِتَشْجِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَرَّرَ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ وَالْحَذَرِ، خِيفَ أَنْ تَثُورَ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ مَخَافَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ مِنْ شِدَّةِ التَّحْذِيرِ مِنْهُ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا، وَهُوَ عَذَابُ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التَّوْبَة: ١٤]، فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالسِّلَاحِ إِلَّا لِتَحْقِيقِ أَسْبَابِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ. وَفِيهِ
تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَطْلُبُوا الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا، أَيْ إِنْ أَخَذْتُمْ حِذْرَكُمْ أَمِنْتُمْ من عدوّكم.
[١٠٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٠٣]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣)
الْقَضَاءُ: إِتْمَامُ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [الْبَقَرَة: ٢٠٠]. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الذِّكْرِ هُنَا النَّوَافِلُ، أَوْ ذِكْرُ اللِّسَانِ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، (فَقَدْ كَانُوا فِي الْأَمْنِ يَجْلِسُونَ إِلَى أَنْ يَفْرَغُوا مِنَ التَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ)، فَرَخَّصَ لَهُمْ حِينَ الْخَوْفِ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالْمُرَادُ الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ وَالْكَوْنُ عَلَى الْجُنُوبِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحْوَالِ الْحَرْبِ لَا لِأَجْلِ الِاسْتِرَاحَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النِّسَاء: ١٠١] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَالِاطْمِئْنَانُ مُرَادٌ
بِهِ الْقُفُولُ مِنَ الْغَزْوِ، لِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَوْطَانِ سُكُونًا مِنْ قَلَاقِلِ السَّفَرِ وَاضْطِرَابِ الْبَدَنِ، فَإِطْلَاقُ الِاطْمِئْنَانِ عَلَيْهِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاطْمِئْنَانَ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْخَوْفِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الِاطْمِئْنَانِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٠].
وَمَعْنَى: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ صَلُّوهَا تَامَّةً وَلَا تَقْصُرُوهَا، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، فَيَكُونُ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النِّسَاء: ١٠١]، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ هُوَ حُكْمُ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ، دُونَ قَصْرِ السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ. فَالْإِقَامَةُ هُنَا الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ قَائِمًا أَيْ تَامًّا، عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ [الرَّحْمَن: ٩] وَقَوْلِهِ: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: ١٣]. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْأَيِمَّةِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَسُفْيَانَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُؤَدِّي الْمُجَاهِدُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَزُولَ الْخَوْفُ، لِأَنَّهُ رَأَى مُبَاشَرَةَ الْقِتَالِ فِعْلًا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ [النِّسَاء: ١٠١- ١٠٣] يُرَجِّحُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْحِرْصِ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا.
وَالْمَوْقُوتُ: الْمَحْدُودُ بِأَوْقَاتٍ، وَالْمُنَجَّمُ عَلَيْهَا، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْمَفْرُوضِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ. وَالْأَوَّلُ أظهر هُنَا.
[١٠٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٠٤]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النِّسَاء: ١٠٢] زِيَادَةً فِي تَشْجِيعِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، وَفِي تَهْوِينِ الْأَعْدَاءِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَتَمَّ عُدَّةً، وَمَا كَانَ شَرْعُ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَأَحْوَالِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، إِلَّا تَحْقِيقًا لِنَفْيِ الْوَهْنِ فِي الْجِهَادِ.
وَالِابْتِغَاءُ مَصْدَرُ ابْتَغَى بِمَعْنَى بَغَى الْمُتَعَدِّي، أَيِ الطَّلَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٨٣].
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُبَادَأَةُ بِالْغَزْوِ، وَأَنْ لَا يَتَقَاعَسُوا، حَتَّى يَكُونَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمُبْتَدِئِينَ بِالْغَزْوِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: طَلَبْنَا بَنِي فُلَانٍ، أَيْ غَزَوْنَاهُمْ. وَالْمُبَادِئُ بِالْغَزْوِ لَهُ رُعْبٌ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ. وَزَادَهُمْ تَشْجِيعًا عَلَى طَلَبِ الْعَدُوِّ بِأَنَّ تَأَلُّمَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَحَارِبَيْنِ وَاحِدٌ، إِذْ كُلٌّ يَخْشَى بَأْسَ الْآخَرِ، وَبِأَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَزِيَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُوهُ الْكُفَّارُ، وَذَلِكَ رَجَاءُ الشَّهَادَةِ إِنْ قُتِلُوا، وَرَجَاءُ ظُهُورِ دِينِهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ إِذَا انْتَصَرُوا، وَرَجَاءُ الثَّوَابِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ تَرْجُونَ.
وَحُذِفَ الْعَائِدُ الْمَجْرُورُ بِمِنْ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَرْجُونَ لِدَلَالَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي جُرَّ بِهِ اسْمُ الْمَوْصُولِ عَلَيْهِ، وَلَكَ أَنْ تجْعَل مَا صدق مَا لَا يَرْجُونَ هُوَ النَّصْرُ، فَيَكُونُ وَعْدًا لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ، وَبِشَارَةً بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَرْجُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَصْرًا، وَأَنَّهُمْ آيِسُونَ مِنْهُ بِمَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، وَهَذَا مِمَّا يَفُتُّ فِي سَاعِدِهِمْ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ اعْتِرَاضًا أَوْ حَالًا مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا كَقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١].
[١٠٥- ١٠٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٠٥ إِلَى ١٠٩]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩)
190
اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَرْجِعُ إِلَى مَا مَضَى مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَمُنَاصِرِيهِمْ، وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِقِتَالِ الْمُنَاوِينَ لِلْإِسْلَامِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا [النِّسَاء: ٧١] الْآيَةَ، وَتَخَلَّلَ فِيهِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي تَرَبُّصِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ وَمُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الْقَبَائِلِ فِي عَلَائِقِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَطْرَدَ لِذِكْرِ قَتْلِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ، وَانْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ الْهِجْرَةِ، وَعَقَّبَ بِذِكْرِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، عَادَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ.
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ حَادِثَةٍ رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ حَاصِلُهَا:
أَنَّ إِخْوَةً ثَلَاثَةً يُقَالُ لَهُمْ: بِشْرٌ وَبَشِيرٌ وَمُبَشِّرٌ، أَبْنَاءُ أُبَيْرِقٍ، وَقِيلَ: أَبْنَاءُ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ بَشِيرٌ أَحَدُهُمْ يُكَنَّى أَبَا طُعْمَةَ، وَهُمْ مِنْ بَنِي ظَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ بَشِيرٌ شَرَّهُمْ، وَكَانَ مُنَافِقًا يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ بِشِعْرٍ يُشِيعُهُ وَيَنْسُبُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ فِي فَاقَةٍ، وَكَانُوا جِيرَةً لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَتْ عِيرٌ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّامِ بِدَرْمَكٍ- وَهُوَ دَقِيقُ الْحُوَّارَى أَيِ السَّمِيذُ- فَابْتَاعَ مِنْهَا رَفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنْ دَرْمَكٍ لِطَعَامِهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَأْكُلُونَ دَقِيقَ الشَّعِيرِ، فَإِذَا جَاءَ الدَّرْمَكُ ابْتَاعَ مِنْهُ سَيِّدُ الْمَنْزِلِ شَيْئًا لِطَعَامِهِ فَجَعَلَ الدَّرْمَكَ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ وَفِيهَا سِلَاحٌ، فَعَدَى بَنُو أُبَيْرِقٍ عَلَيْهِ فَنَقَبُوا مَشْرَبَتَهُ وَسَرَقُوا الدَّقِيقَ وَالسِّلَاحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رِفَاعَةُ وَوَجَدَ مَشْرَبَتَهُ قَدْ سُرِقَتْ أَخْبَرَ ابْنَ أَخِيهِ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ بِذَلِكَ، فَجعل يتحسّس، فأنبىء بِأَنَّ بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ نَارًا، وَلَعَلَّهُ عَلَى بَعْضِ طَعَامِ رِفَاعَةَ، فَلَمَّا افْتَضَحَ بَنُو أُبَيْرِقٍ طَرَحُوا الْمَسْرُوقَ فِي دَارِ أَبِي مُلَيْلٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَقِيلَ: فِي دَارِ يَهُودِيٍّ اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ، وَقِيلَ: لَبِيَدُ بْنُ سَهْلٍ، وَجَاءَ بَعْضُ بَنِي ظَفَرٍ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَكَوْا إِلَيْهِ أَنَّ رِفَاعَةَ وَابْنَ أَخِيهِ اتَّهَمَا بِالسَّرِقَةِ أَهْلَ بَيْتِ إِيمَانٍ وَصَلَاحٍ،
قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لِي «عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ فَرَمَيْتَهُمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ». وَأَشَاعُوا فِي النَّاسِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ فِي دَارِ أَبِي مُلَيْلٍ أَوْ دَارِ الْيَهُودِيِّ. فَمَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى جَلِيَّةِ الْأَمْرِ، مُعْجِزَةً لَهُ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ أَحَدٌ فِي أَنْ يُرَوِّجَ عَلَى الرَّسُولِ بَاطِلًا
. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي سَوْقِ هَذَا الْخَبَرِ. وَوَقَعَ فِي «كِتَابِ أَسْبَابِ النُّزُولِ»
191
لِلْوَاحِدِيِّ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الطَّبَرَيِّ سَوْقُ الْقِصَّةِ بِبَعْضِ مُخَالَفَةٍ لِمَا ذَكَرْتُهُ: وَأَنَّ بَنِي ظَفَرٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ أَصْحَابِهِمْ كَيْ
لَا يَفْتَضِحُوا وَيَبْرَأَ الْيَهُودِيُّ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ هَمَّ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَامَ الْيَهُودِيَّ وَبَرَّأَ الْمُتَّهَمَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَاهِيَةٌ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ خَطَأٌ بَيِّنٌ مِنْ أَهْلِ الْقَصَصِ دُونَ عِلْمٍ وَلَا تَبَصُّرٍ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِلتَّلْوِيحِ إِلَى الْقِصَّةِ، فَهُوَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَا، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ مَا يُلَوِّحُ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّ مَبْدَأَ التَّلْوِيحِ إِلَى الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: بِما أَراكَ اللَّهُ الْبَاءُ لِلْآلَةِ جَعَلَ مَا أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ آلَةٍ لِلْحُكْمِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى مُصَادَفَةِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَنَفْيِ الْجَوْرِ، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ عِلْمُ اللَّهِ الْخَطَأَ. وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ:
أَراكَ اللَّهُ عِرْفَانِيَّةٌ، وَحَقِيقَتُهَا الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ، فَأُطْلِقَتْ عَلَى مَا يُدْرَكُ بِوَجْهِ الْيَقِينِ لِمُشَابَهَتِهِ الشَّيْءَ الْمُشَاهَدَ. وَالرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ تَنْصِبُ مَفْعُولًا وَاحِدًا فَإِذْ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ نَصَبَتْ مَفْعُولَيْنِ كَمَا هُنَا، وَقَدْ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَنَّهُ ضَمِيرُ الْمَوْصُولِ، فَأَغْنَى عَنْهُ الْمَوْصُولُ، وَهُوَ حَذْفٌ كَثِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بِمَا أَرَاكَهُ اللَّهُ.
فَكُلُّ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ حَقًّا فِي كِتَابِهِ فَقَدْ أَمَرَ بِالْحُكْمِ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُعْلِمُهُ الْحَقَّ فِي جَانِبِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا عَلَى الْحَقِّ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُلْفَى مَدْلُولًا لِجَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ صَلُحَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بِالطُّرُقِ وَالْقَضَايَا الدَّالَّةِ عَلَى وَصْفِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا الْعَدْلُ فَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، بِأَنْ تَنْدَرِجَ جُزْئِيَّاتُ أَحْوَالِهِمْ عِنْدَ التَّقَاضِي تَحْتَ الْأَوْصَافِ الْكُلِّيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْكِتَابِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: ٤]، فَقَدْ أَبْطَلَ حُكْمَ التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعْلَمَنَا أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِمَنْ لَيْسَ وَلَدَهُ: هَذَا وَلَدِي، لَا يَجْعَلُ لِلْمَنْسُوبِ حَقًّا فِي مِيرَاثِهِ. وَرَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يخطىء فِي إِدْرَاجِ الْجُزْئِيَّاتِ تَحْتَ كُلِّيَّاتِهَا، وَقَدْ يَعْرِضُ الْخَطَأُ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَادِفُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِ وُجُوهِهِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ
192
أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ»
. وَغير الرَّسُول يخطىء فِي الِانْدِرَاجِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ بَذْلُ الْجُهْدِ وَاسْتِقْصَاءُ الدَّلِيلِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ قَضَيْتُ بِمَا أَرَانِيَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ ذَلِك إلّا لنبيّه وَأَمَّا الْوَاحِدُ مِنَّا فَرَأْيُهُ يَكُونُ ظَنًّا وَلَا يَكُونُ عِلْمًا»، وَمَعْنَاهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ
عُرُوضِ الْخَطَأِ فِي الْفَهْمِ لِغَيْرِ الرَّسُولِ دُونَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْخائِنِينَ خَصِيماً لَامُ الْعِلَّةِ وَلَيْسَتْ لَامُ التَّقْوِيَةِ. وَمَفْعُولُ خَصِيماً مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ مُقَابِلِهِ وَهُوَ لِلْخائِنِينَ أَيْ لَا تَكُنْ تُخَاصِمُ مَنْ يُخَاصِمُ الْخَائِنِينَ، أَيْ لَا تُخَاصِمْ عَنْهُمْ. فَالْخَصِيمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُنْتَصِرُ الْمُدَافِعُ كَقَوْلِهِ: «كُنْتُ أَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ الْأُمَّةُ، لِأَنَّ الْخِصَامَ عَنِ الْخَائِنِينَ لَا يُتَوَقَّعُ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَحْذِيرُ الَّذِينَ دَفَعَتْهُمُ الْحَمِيَّةُ إِلَى الِانْتِصَارِ لِأَبْنَاءِ أُبَيْرِقٍ.
وَالْأَمْرُ بِاسْتِغْفَارِ اللَّهِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الرَّسُولِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ غَيْرُهُ، أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ وَهُوَ اسْتِغْفَارُ اللَّهِ مِمَّا اقْتَرَفُوهُ، أَوْ أَرَادَ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِلْخَائِنِينَ لِيُلْهِمَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ بِبَرَكَةِ اسْتِغْفَارِكَ لَهُمْ فَذَلِكَ أَجْدَرُ مِنْ دِفَاعِ الْمُدَافِعِينَ عَنْهُمْ.
وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النِّسَاء: ٦٤] وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ اسْتِغْفَارَ النَّبِيءِ لِنَفْسِهِ، كَمَا أَخْطَأَ فِيهِ مَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَرَ بِبَالِهِ مَا أَوْجَبَ أَمْرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ هَمُّهُ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَرَقُوا، خَشْيَةَ أَنْ يَفْتَضِحُوا، وَهَذَا مِنْ أَفْهَامِ الضُّعَفَاءِ وَسُوءِ وَضْعِهِمُ الْأَخْبَارَ لِتَأْيِيدِ سَقِيمِ أَفْهَامِهِمْ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُجادِلْ
لِلرَّسُولِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ الْأُمَّةِ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُتَرَقَّبُ صُدُورُهُ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.
193
وَ (يَخْتانُونَ) بِمَعْنَى يَخُونُونَ، وَهُوَ افْتِعَالٌ دَالٌّ عَلَى التَّكَلُّفِ وَالْمُحَاوَلَةِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْخِيَانَةِ. وَمَعْنَى خِيَانَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ بِارْتِكَابِهِمْ مَا يَضُرُّ بِهِمْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخُونُ غَيْرَهُ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٨٧]. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أَنْفُسَهُمْ
هُنَا بِمَعْنَى بَنِي أَنْفُسِهِمْ، أَيْ بَنِي قَوْمِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: ٨٥]، وَقَوْلِهِ فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١]، أَيِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ نَاسًا مِنْ أَهْلِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هُوَ تَمِيمِيٌّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ لَيْسَ بِمَوْلًى وَلَا لَصِيقٍ.
وَالْمُجَادَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْخِصَامِ وَالْحُجَّةِ فِيهِ، وَهِيَ مُنَازَعَةٌ بِالْقَوْلِ لِإِقْنَاعِ الْغَيْرِ بِرَأْيِكَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ عِلْمُ قَوَاعِدِ الْمُنَاظَرَةِ وَالِاحْتِجَاجِ فِي الْفِقْهِ عِلْمَ الْجَدَلِ، (وَكَانَ يَخْتَلِطُ بِعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَعِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ وَعِلْمِ الْمَنْطِقِ). وَلَمْ يُسْمَعْ
لِلْجَدَلِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ أَصْلِيٌّ، وَالْمَسْمُوعُ مِنْهُ جَادَلَ لِأَنَّ الْخِصَامَ يَسْتَدْعِي خَصْمَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: جَدَلَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى غَلَبَهُ فِي الْمُجَادَلَةِ، فَلَيْسَ فِعْلًا أَصْلِيًّا فِي الِاشْتِقَاقِ. وَمَصْدَرُ الْمُجَادَلَةِ، الْجِدَالُ، قَالَ تَعَالَى: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: ١٩٧]. وَأَمَّا الْجَدَلُ بِفَتْحَتَيْنِ فَهُوَ اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ الصَّرْعُ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسَمَّى الْجَدَالَةَ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- يُقَالُ: جَدَلَهُ فَهُوَ مَجْدُولٌ.
وَجُمْلَةُ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
بَيَانٌ لِ يَخْتانُونَ
. وَجُمْلَةُ: وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
حَالٌ، وَذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ الِاسْتِغْرَابِ مِنْ حَالِهِمْ وَكَوْنِهِمْ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَالِاسْتِخْفَاءُ مِنَ اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْحَيَاءِ، إِذْ لَا يَعْتَقِدُ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْفِيَ مِنَ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُوَ مَعَهُمْ
حَالٌ مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ وإِذْ يُبَيِّتُونَ
ظَرْفٌ، وَالتَّبْيِيتُ جَعْلُ الشَّيْءِ فِي الْبَيَاتِ، أَيِ اللَّيْلِ، مِثْلُ التَّصْبِيحِ، يُقَالُ:
بَيَّتَهُمُ الْعَدُوُّ وَصَبَّحَهُمُ الْعَدُوُّ وَفِي الْقُرْآنِ: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النَّمْل: ٤٩] أَيْ لنأتينّهم لَيْلًا فنقلتهم. وَالْمُبَيَّتُ هُنَا هُوَ مَا لَا يُرْضِي مِنَ الْقَوْلِ، أَيْ دَبَّرُوهُ وَزَوَّرُوهُ لَيْلًا لِقَصْدِ الْإِخْفَاءِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ، أَوْ تُشُوِّرَ فِيهِ بِلَيْلٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَدْبِيرُ مَكِيدَتِهِمْ لِرَمْيِ الْبُرَآءِ بِتُهْمَةِ السَّرِقَةِ.
194
وَقَوْلُهُ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
اسْتِئْنَافٌ أَثَارَهُ قَوْلُهُ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
، وَالْمُخَاطَبُ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُخَاطَبَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْكَلَامُ جَارٍ مَجْرَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَوْ مَجْرَى التَّعْرِيضِ بِبَعْضِ بَنِي ظَفَرٍ الَّذِينَ جَادَلُوا عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ.
وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [١١٩] هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ.
وَ (أَمْ) فِي قَوْلِهِ: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَ (مَنِ) اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ.
وَالْوَكِيلُ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آل عمرَان [١٧٣].
[١١٠- ١١٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١١٠ إِلَى ١١٣]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)
اعْتِرَاضٌ بِتَذْيِيلٍ بَيْنَ جُمْلَةِ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
وَبَيْنَ جُمْلَةِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
[النِّسَاء: ١٠٩- ١١٣].
وَعَمَلُ السُّوءِ هُوَ الْعِصْيَانُ وَمُخَالَفَةُ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ. وَظُلْمُ النَّفْسِ شَاعَ إِطْلَاقُهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي. وَأَحْسَنُ
195
مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ عَمَلَ السُّوءِ أُرِيدَ بِهِ عَمَلُ السُّوءِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حُقُوقِهِمْ، وَأَنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ هُوَ الْمَعَاصِي الرَّاجِعَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْمَرْءِ فِي أَحْوَالِهِ الْخَاصَّةِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ.
وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةُ وَطَلَبُ الْعَفْوِ مِنَ اللَّهِ عَمَّا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَمَعْنَى يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، فَاسْتُعِيرَ فِعْلُ يَجِدِ
لِلتَّحَقُّقِ لِأَنَّ فِعْلَ وَجَدَ حَقِيقَتُهُ الظَّفَرُ بِالشَّيْءِ وَمُشَاهَدَتُهُ، فَأُطْلِقَ عَلَى تَحْقِيقِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.
وَمَعْنَى غَفُوراً رَحِيماً
شَدِيدَ الْغُفْرَانِ وَشَدِيدَ الرَّحْمَةِ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُمُومِ وَالتَّعْجِيلِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى يَجِدِ اللَّهَ غَافِرًا لَهُ رَاحِمًا لَهُ، لِأَنَّهُ عَامُّ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَحَدٌ اسْتَغْفَرَهُ وَتَابَ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ شُمُولُ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ زَمَنًا، فَكَانَتْ صِيغَةُ غَفُوراً رَحِيماً
مَعَ يَجِدِ
دَالَّةً عَلَى الْقَبُولِ مِنْ كُلِّ تَائِبٍ بِفَضْلِ اللَّهِ.
وَذِكْرُ الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ، فَالْمُرَادُ بِالْخَطِيئَةِ الْمَعْصِيَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِثْمِ الْكَبِيرَةُ.
وَالرَّمْيُ حَقِيقَتُهُ قَذْفُ شَيْءٍ مِنَ الْيَدِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى نِسْبَةِ خَبَرٍ أَوْ وَصْفٍ لِصَاحِبِهِ بِالْحَقِّ أَوِ الْبَاطِلِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي نِسْبَةِ غَيْرِ الْوَاقِعِ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ» وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النُّور: ٤] وَكَذَلِكَ هُوَ هُنَا، وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ الْقَذْفُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا.
وَمَعْنَى يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ وَيَحْتَالُ لِتَرْوِيجِ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ يَنْزِعُ ذَلِكَ الْإِثْمَ عَنْ
نَفْسِهِ وَيَرْمِي بِهِ الْبَرِيءَ. وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الْفَاحِشُ. وَجُعِلَ الرَّمْيُ بِالْخَطِيئَةِ وَبِالْإِثْمِ مَرْتَبَةً وَاحِدَةً فِي كَوْنِ ذَلِكَ إِثْمًا مُبِينًا: لِأَنَّ رَمْيَ الْبَرِيءِ بِالْجَرِيمَةِ فِي ذَاتِهِ كَبِيرَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ. وَدَلَّ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْبُهْتَانِ بِقَوْلِهِ: احْتَمَلَ
تَمْثِيلًا لِحَالِ فَاعِلِهِ بِحَالِ عَنَاءِ الْحَامِلِ ثِقْلًا. وَالْمُبِينُ الَّذِي يَدُلُّ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى أَنَّهُ إِثْمٌ، أَيْ إِثْمًا ظَاهِرًا لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِهِ إِثْمًا.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
عُطِفَ عَلَى وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النِّسَاء: ١٠٥].
196
وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ هُنَا نِعْمَةُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ تَفْصِيلًا لِوُجُوهِ الْحَقِّ فِي الْحُكْمِ وَعِصْمَتِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ فِيهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَمَّ طَائِفَةٍ مِنَ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أنفسهم بِأَن يضلّون الرَّسُولَ غَيْرُ وَاقِعٍ مِنْ أَصْلِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُضِلُّوهُ بِالْفِعْلِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِأَمَانَتِهِ يَزَعُهُمْ عَنْ مُحَاوَلَةِ تَرْوِيجِ الْبَاطِلِ عَلَيْهِ إِذْ قَدِ اشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِينٌ فَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا حِكَايَةُ الصِّدْقِ عِنْدَهُ، وَأَنَّ بَنِي ظَفَرٍ لَمَّا اشْتَكَوْا إِلَيْهِ مِنْ صَنِيعِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَعَمِّهِ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ أَصْحَابَهُمْ بَنِي أُبَيْرِقٍ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ أَنَّ بَنِي أُبَيْرِقٍ لَمَّا شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ بِمَا صَنَعَهُ قَتَادَةُ كَانُوا مُوجِسِينَ خِيفَةً أَنْ يَطَّلِعَ اللَّهُ رَسُوله عَلَى جَلِيَّةِ الْأَمْرِ، فَكَانَ مَا حَاوَلُوهُ مِنْ تَضْلِيلِ الرَّسُولِ طَمَعًا لَا هَمًّا، لِأَنَّ الْهَمَّ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ وَالثِّقَةُ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ انْتِفَاءُ هَمِّهِمْ تَضْلِيلَهُ فَضْلًا وَرَحْمَةً، لِدَلَالَتِهِ عَلَى وَقَارِهِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَذَلِكَ فَضْلٌ عَظِيمٌ.
وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الِانْتِفَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ انْتِفَاءُ أَثَرِهِ، أَيْ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ لَضَلَلْتَ بِهَمِّهِمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ عَنِ الضَّلَالِ، فَيَكُونُ كِنَايَةً. وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ بُعْدٌ مِنْ جَانِبِ نَظْمِ الْكَلَامِ وَمِنْ جَانِبِ الْمَعْنَى.
وَمَعْنَى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
أَنَّهُمْ لَوْ هَمُّوا بِذَلِكَ لَكَانَ الضلال لَا حَقًا بِهِمْ دُونَكَ، أَيْ يَكُونُونَ قَدْ حَاوَلُوا تَرْوِيجَ الْبَاطِلِ وَاسْتِغْفَالَ الرَّسُولِ، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالُ بِذَلِكَ، ثُمَّ لَا يَجِدُونَكَ مُصْغِيًا لِضَلَالِهِمْ، وَ (مِنْ)
زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. وشَيْءٍ
أَصْلُهُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِقَوْلِهِ يَضُرُّونَكَ
أَيْ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ، وَجُرَّ لِأَجْلِ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
عَطْفٌ عَلَى وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
. وَمَوْقِعُهَا لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
وَلِذَلِكَ خَتَمَهَا
بِقَوْلِهِ: وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
، فَهُوَ مِثْلُ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَالْكتاب:
وَالْقُرْآن. وَالْحكمَة: النُّبُوءَةَ. وَتَعْلِيمُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هُوَ مَا زَادَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْعِلْمِ الْوَارِدِ فِي السُّنَّةِ والإنباء بالمغيّبات.
197

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١١٤]

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤)
لَمْ تَخْلُ الْحَوَادِثُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيُ السَّابِقَةُ، وَلَا الْأَحْوَالُ الَّتِي حَذَّرَتْ مِنْهَا، مِنْ تَنَاجٍ وَتَحَاوُرٍ، سِرًّا وَجَهْرًا، لِتَدْبِيرِ الْخِيَانَاتِ وَإِخْفَائِهَا وَتَبْيِيتِهَا، لِذَلِكَ كَانَ الْمَقَامُ حَقِيقًا بِتَعْقِيبِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِذِكْرِ النَّجْوَى وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْلِيمًا وَتَرْبِيَةً وَتَشْرِيعًا، إِذِ النَّجْوَى مِنْ أَشْهَرِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلنَّاسِ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ، لَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَدْ كَانَ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ وَضُعَفَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ التَّنَاجِي فَاشِيًا لِمَقَاصِدَ مُخْتَلِفَةٍ، فَرُبَّمَا كَانَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الرَّائِينَ لِتِلْكَ الْمُنَاجَاةِ شَكًّا، أَيْ خَوْفًا، إِذْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي حَالِ مُنَاوَاةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ النَّهْيُ عَنِ النَّجْوَى فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى [المجادلة: ٨] الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ: إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الْإِسْرَاء: ٤٧] وَقَوْلُهُ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٤]، فَلِذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ النَّجْوَى هُنَا أَيْضًا، فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِإِفَادَةِ حُكْمِ النَّجْوَى، وَالْمُنَاسَبَةُ قَدْ تَبَيَّنَتْ.
وَالنَّجْوَى مَصْدَرٌ، هِيَ الْمُسَارَّةُ فِي الْحَدِيثِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّجْوِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُسْتَتِرُ الَّذِي الْمُفْضِي إِلَيْهِ يَنْجُو مِنْ طَالِبِهِ، وَيُطْلَقُ النَّجْوَى عَلَى الْمُنَاجِينَ، وَفِي الْقُرْآنِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى، وَهُوَ- وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ- وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالضَّمِيرُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ نَجْوى ضَمِيرُ جَمَاعَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَما يُعْلِنُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥]، وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ الَّتِي قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
[النِّسَاء: ١٠٨] إِلَى هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَانِعٌ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى تِلْكَ الْجَمَاعَةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا فِيمَا يَخْتَصُّ بِقَضِيَّتِهِمْ، فَلَا عُمُومَ لَهَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَرْبِيَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ دَعَتْ إِلَيْهَا الْمُنَاسَبَةُ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُحَادَثَاتِ
198
وَالْمُحَاوَرَاتِ أَنْ تَكُونَ جَهْرَةً، لِأَنَّ الصَّرَاحَةَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَخْلَاقِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى ثِقَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِرَأْيِهِ، وَعَلَى شَجَاعَتِهِ فِي إِظْهَارِ مَا يُرِيدُ إِظْهَارَهُ مِنْ تَفْكِيرِهِ، فَلَا
يَصِيرُ إِلَى الْمُنَاجَاةِ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ شَاذَّةٍ يُنَاسِبُهَا إِخْفَاءُ الْحَدِيثِ. فَمَنْ يُنَاجِي فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ رُمِيَ بِأَنَّ شَأْنَهُ ذَمِيمٌ، وَحَدِيثَهُ فِيمَا يَسْتَحْيِي مِنْ إِظْهَارِهِ، كَمَا قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
السِّتْرُ دُونَ الْفَاحِشَاتِ وَلَا يَغْشَاكَ دُونَ الْخَيْرِ مِنْ سِتْرِ
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ النَّجْوَى غَيْرَ مَرَّةٍ، لِأَنَّ التَّنَاجِيَ كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ [المجادلة: ٨] وَقَالَ:
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة: ١٠].
وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ نَهْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ ثَالِثٍ أَنَّ النَّجْوَى تَبْعَثُ الرِّيبَةَ فِي مَقَاصِدِ الْمُتَنَاجِينَ، فَعَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَغْلِبُ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الرِّيَبِ وَالشُّبُهَاتِ، بِحَيْثُ لَا تَصِيرُ دَأْبًا إِلَّا لِأُولَئِكَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَفَى اللَّهُ الْخَيْرَ عَنْ أَكْثَرِ النَّجْوَى.
وَمَعْنَى لَا خَيْرَ أَنَّهُ شَرٌّ، بِنَاءً عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِثْبَاتُ نَقِيضِهِ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْوَاسِطَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُس:
٣٢]، وَلِأَنَّ مَقَامَ التَّشْرِيعِ إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَقَدْ نَفَى الْخَيْرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ أَوْ مُتَنَاجِيهِمْ، فَعُلِمَ مِنْ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنَّ قَلِيلًا مِنْ نَجْوَاهُمْ فِيهِ خَيْرٌ، إِذْ لَا يَخْلُو حَدِيثُ النَّاسِ مِنْ تَنَاجٍ فِيمَا فِيهِ نَفْعٌ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ:
إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: إِلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ، أَوْ بِدُونِ تَقْدِيرٍ إِنْ كَانَتِ النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ، وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كَثِيرٍ، فَحَصَلَ مِنْ مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ قِسْمَانِ مِنَ النَّجْوَى يَثْبُتُ لَهُمَا الْخَيْرُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمَا قَلِيلٌ مِنْ نَجْوَاهُمْ.
أَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي أَخْرَجَتْهُ الصِّفَةُ، فَهُوَ مُجْمَلٌ يَصْدُقُ فِي الْخَارِجِ عَلَى كُلِّ نَجْوَى تَصْدُرُ مِنْهُمْ فِيهَا نَفْعٌ، وَلَيْسَ فِيهَا ضَرَرٌ، كَالتَّنَاجِي فِي تَشَاوُرٍ فِيمَنْ يَصْلُحُ لِمُخَالَطَةٍ، أَوْ نِكَاحٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
199
وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الصَّدَقَةُ، وَالْمَعْرُوفُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَوْ لَمْ تُذْكَرْ لَدَخَلَتْ فِي الْقَلِيلِ مِنْ نَجْوَاهُمُ الثَّابِتِ لَهُ الْخَيْرُ، فَلَمَّا ذُكِرَتْ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلِمْنَا أَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعٍ فَأَخْرَجَ مَا فِيهِ الْخَيْرُ مِنْ نَجْوَاهُمُ ابْتِدَاءً بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، ثُمَّ أُرِيدُ الِاهْتِمَامُ بِبَعْضِ هَذَا الْقَلِيلِ مِنْ نَجْوَاهُمْ، فَأُخْرِجَ مِنْ كَثِيرِ نَجْوَاهُمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ نَجْوَاهُمْ، وَهُوَ
الْكَثِيرُ، مَوْصُوفًا بِأَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَأَنْ لَا دَاعِيَ إِلَى جَعْلِهِ مُنْقَطِعًا. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الِاهْتِمَامُ وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ تَنَاجَى فِيهَا مَنْ غَالِبُ أَمْرِهِ قَصْدُ الشَّرِّ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِلَخْ وَعْدٌ بِالثَّوَابِ عَلَى فِعْلِ الْمَذْكُورَاتِ إِذَا كَانَ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا خَيْرًا وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلِأَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا فِي الشَّرْعِ، إِلَّا أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عَنْ فِعْلِهَا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ كَمَا
فِي حَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (نُؤْتِيهِ) - بِنُونِ الْعَظَمَةِ- عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ فِي قَوْله: مَرْضاتِ اللَّهِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ.
[١١٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١١٥]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)
عَطْفٌ عَلَى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [النِّسَاء: ١١٤] بِمُنَاسَبَةِ تَضَادِّ الْحَالَيْنِ.
وَالْمُشَاقَّةُ: الْمُخَالَفَةُ الْمَقْصُودَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشِّقِّ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ كَأَنَّهُ يَخْتَارُ شِقًّا يَكُونُ فِيهِ غَيْرَ شِقِّ الْآخَرِ.
فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا آمَنَ بِالرَّسُولِ فَتَكُونُ الْآيَةُ وَعِيدًا لِلْمُرْتَدِّ. وَمُنَاسَبَتُهَا هُنَا أَنَّ بَشِيرَ بْنَ أُبَيْرِقٍ صَاحِبَ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ،
200
لَمَّا افْتَضَحَ أَمْرُهُ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظَهَرَ صِدْقُ الرَّسُولِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَلَكِنَّهُ شَاقَّهُ عِنَادًا وَنِوَاءً لِلْإِسْلَامِ.
وَسَبِيلُ كُلِّ قَوْمٍ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا فِي وَصْفِهِمُ الْخَاصِّ، فَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِلِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْعَادَاتِ، الَّتِي يُلَازِمُهَا أَحَدٌ وَلَا يَبْتَغِي التَّحَوُّلَ عَنْهَا، كَمَا يُلَازِمُ قَاصِدُ الْمَكَانِ طَرِيقًا يُبَلِّغُهُ إِلَى قَصْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يُوسُف: ١٠٨] وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ٣٢]، فَمَنِ اتَّبَعَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَ سَبِيلَ غَيْرِهِمْ فِي غَيْرِ الْكُفْرِ مِثْلَ اتِّبَاعِ سَبِيل يهود خَبِير فِي غِرَاسَةِ النَّخِيلِ، أَوْ بِنَاءِ الْحُصُونِ، لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَأَنَّ فَائِدَةَ عَطْفِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ الْحَيْطَةُ لِحِفْظِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَعْدَ
الرَّسُولِ، فَقَدِ ارْتَدَّ بَعْضُ الْعَرَبِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ فِي ذَلِكَ:
أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ كَانَ بَيْنَنَا فَيَا لِعِبَادِ اللَّهِ مَا لِأَبِي بَكْرِ
فَكَانُوا مِمَّنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يُشَاقُّوا الرَّسُولَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، أَيْ نَتْرُكُهُ وَشَأْنَهُ لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ»
. وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِكَوْنِ إِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ حُجَّةً، وَأَوَّلُ مَنِ احْتَجَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْفَخْرُ: «رُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَمِائَةِ مَرَّةٍ حَتَّى وَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبًا. بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَاقَّةُ الرَّسُولِ وَحْدَهَا مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُوجِبًا لَهُ، لَكَانَ ذَلِكَ ضَمًّا لِمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْوَعِيدِ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ وَاجِبًا». وَقَدْ قَرَّرَ
201
غَيْرُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِطُرُقٍ أُخْرَى، وَكُلُّهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ ضَعْفٍ فِي التَّقْرِيبِ، وَهُوَ اسْتِلْزَامُ الدَّلِيلِ لِلْمُدَّعِي، قَدْ أُورِدَتْ عَلَيْهَا نُقُوضٌ أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْمُخْتَصَرِ».
وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ: الْغَزَالِيِّ، وَالْإِمَامِ فِي «الْمَعَالِمِ»، وَابْنِ الْحَاجِبِ، عَلَى تَوْهِينِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حجّيّة الْإِجْمَاع.
[١١٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١١٦]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، جُعِلَ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ شِرْكِهِمْ. وَتَعْقِيبُ الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِهَذِهِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْكُفْرِ مِنْ شِرْكٍ وَغَيْرِهِ، فَعَقَّبَهُ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَكَّدَهُ بِأَنَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى رَفْعِ احْتِمَالِ الْمُبَالَغَةِ أَوِ الْمَجَازِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَرِيبًا. غَيْرَ أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ قَالَ فِيهَا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النِّسَاء: ٤٨] وَقَالَ فِي هَذِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً وَإِنَّمَا قَالَ فِي السَّابِقَةِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ
[النِّسَاء: ٤٧] فَنُبِّهُوا عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ مِنْ قَبِيلِ الِافْتِرَاءِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ الِافْتِرَاءِ وَتَفْظِيعًا لِجِنْسِهِ. وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَنُبِّهُوا عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ مِنَ الضَّلَالِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الضَّلَالِ. وَأُكِّدَ الْخَبَرُ هُنَا بِحَرْفِ (قَدْ) اهْتِمَامًا بِهِ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَ بِالْكَلَامِ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ، وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي تَحَقُّقِ ذَلِكَ.
وَالْبَعِيدُ أُرِيدَ بِهِ الْقَوِيُّ فِي نَوْعِهِ الَّذِي لَا يُرْجَى لِصَاحِبِهِ اهْتِدَاءٌ، فَاسْتُعِيرَ لَهُ الْبَعِيدُ لِأَنَّ الْبَعِيدَ يُقْصِي الْكَائِنَ فِيهِ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى حَيْثُ صدر.

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١١٧ إِلَى ١٢١]

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١)
كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ يَدْعُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً [النِّسَاء: ١١٦]، وَأَيُّ ضَلَالٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُشْرِكَ أَحَدٌ بِاللَّهِ غَيْرَهُ ثُمَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ شُرَكَاءَهُ إِنَاثٌ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْأُنْثَى أَضْعَفُ الصِّنْفَيْنِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا صَادِرًا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ حَالَ الْمَرْأَةِ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ حَرَمُوهَا مِنْ حُقُوقٍ كَثِيرَةٍ وَاسْتَضْعَفُوهَا. فَالْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّهُ أَعْجَبُ أَحْوَالِ إِشْرَاكِهِمْ، وَلِأَنَّ أَكْبَرَ آلِهَتِهِمْ يَعْتَقِدُونَهَا أُنْثَى وَهِيَ: اللَّاتُ، وَالْعُزَّى، وَمَنَاةُ، فَهَذَا كَقَوْلِكَ لَا عَالِمَ إِلَّا زِيدٌ.
وَكَانَتِ الْعُزَّى لِقُرَيْشٍ، وَكَانَتْ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُعْظَمَ الْمُعَانِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا مِنْ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ: مُشْرِكُو قُرَيْشٍ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عداء لِلْإِسْلَامِ:
ومنافقوا الْمَدِينَةِ وَمُشْرِكُوهَا أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً فِي الْإِسْلَامِ.
وَمَعْنَى وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً أَنَّ دَعْوَتَهُمُ الْأَصْنَامَ دَعْوَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا جُعِلُوا يَدْعُونَ الشَّيْطَانَ لِأَنَّهُ الَّذِي سَوَّلَ لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ.
وَالْمَرِيدُ: الْعَاصِي وَالْخَارِجُ عَنِ الْمَلِكِ، وَفِي الْمَثَلِ «تَمَرَّدَ مَارِدٌ وَعَزَّ الْأَبْلَقُ» اسْمَا حِصْنَيْنِ لِلسَّمَوْأَلِ، فَالْمَرِيدُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَرُدَ- بِضَمِّ الرَّاءِ- إِذَا عَتَا فِي الْعِصْيَانِ.
وَجُمْلَةُ لَعَنَهُ اللَّهُ صِفَةٌ لِشَيْطَانٍ، أَيْ أَبْعَدَهُ وَتَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو
عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِالدُّعَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ. وَعَطْفُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِ يَزِيدُ احْتِمَالَ
203
الدُّعَاءِ بُعْدًا. وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ كَسِيَاقِ أُخْتِهَا فِي قَوْلِهِ: فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: ١٣- ١٦] الْآيَةَ فَكُلُّهَا أَخْبَارٌ. وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ فِي أَوَّلِ خَلْقِ الْبَشَرِ مِنْ تَنَافُرِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ لِأَحْوَالِ الْبَشَرِ، وَنَشْأَةِ الْعَدَاوَةِ عَنْ ذَلِكَ التَّنَافُرِ، وَمَا كَوَّنَهُ اللَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الذَّوْدِ عَنْ مَصَالِحِ الْبَشَرِ أَنْ تَنَالَهَا الْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةُ نَوَالَ إِهْلَاكٍ بِحِرْمَانِ الشَّيَاطِينِ مِنْ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ مُدَاخَلَتِهِمْ فِي مَوَاقِعِ الصَّلَاحِ، إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا تَنْتَهِزُ تِلْكَ الْقُوَى مِنْ فَرْضِ مَيْلِ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ إِلَى الْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةِ وَانْجِذَابِهَا، فَتِلْكَ خُلَسٌ تَعْمَلُ الشَّيَاطِينُ فِيهَا عَمَلَهَا، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: ٤١، ٣٢]. وَتِلْكَ أَلْطَافٌ مِنَ اللَّهِ أَوْدَعَهَا فِي نِظَامِ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ عِنْدَ التَّكْوِينِ، فَغَلَبَ بِسَبَبِهَا الصَّلَاحُ عَلَى جَمَاعَةِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَبَقِيَ مَعَهَا مِنَ الشُّرُورِ حَظٌّ يَسِيرٌ يَنْزِعُ فِيهِ الشَّيْطَانُ مَنَازِعَهُ وَكَّلَ اللَّهُ أَمْرَ الذِّيَادِ عَنْهُ إِلَى إِرَادَةِ الْبَشَرِ، بَعْدَ تَزْوِيدِهِمْ بِالنُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ بِوَاسِطَةِ الشَّرَائِعِ وَالْحِكْمَةِ.
فَمَعْنَى الْحِكَايَةِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الشَّيْطَانِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَيْقَنَ بِمُقْتَضَاهُ أَنَّ فِيهِ الْمَقْدِرَةَ عَلَى فِتْنَةِ الْبَشَرِ وَتَسْخِيرِهِمْ، وَكَانَتْ فِي نِظَامِ الْبَشَرِ فُرَصٌ تَدْخُلُ فِي خِلَالِهَا آثَارُ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، فَذَلِكَ هُوَ النَّصِيبُ الْمَفْرُوضُ، أَيِ الْمَجْعُولُ بِفَرْضِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: مِنْ عِبادِكَ إِنْكَارًا مِنَ الشَّيْطَانِ لِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهَا جَلَافَةُ الْخِطَابِ النَّاشِئَةُ عَنْ خَبَاثَةِ التَّفْكِيرِ الْمُتَأَصِّلَةِ فِي جِبِلَّتِهِ، حَتَّى لَا يَسْتَحْضِرَ الْفِكْرَ مِنَ الْمَعَانِي الْمَدْلُولَةِ إِلَّا مَا لَهُ فِيهِ هَوًى، وَلَا يَتَفَطَّنُ إِلَى مَا يَحُفُّ بِذَلِكَ مِنَ الْغِلْظَةِ، وَلَا إِلَى مَا يَفُوتُهُ مِنَ الْأَدَبِ وَالْمَعَانِي الْجَمِيلَةِ، فَكُلُّ حَظٍّ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِي تَصَرُّفَاتِ الْبَشَرِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَعْنَوِيَّةِ: كَالْعَقَائِدِ وَالتَّفْكِيرَاتِ الشِّرِّيرَةِ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَحْسُوسَةِ: كَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِعْلَانِ بِخِدْمَةِ الشَّيْطَانِ: كَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالتَّقْرِيبِ لَهَا، وَإِعْطَاءِ أَمْوَالِهِمْ لِضَلَالِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ.
وَمَعْنَى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ إِضْلَالُهُمْ عَنِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ لَأَعِدَنَّهُمْ مَوَاعِيدَ كَاذِبَةً، أُلْقِيهَا فِي نُفُوسِهِمْ، تَجْعَلُهُمْ يَتَمَنَّوْنَ، أَيْ يُقَدِّرُونَ غَيْرَ الْوَاقِعِ وَاقِعًا، إِغْرَاقًا،
204
فِي الْخَيَالِ، لِيَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى تَهْوِينِ انْتِشَارِ الضَّلَالَاتِ بَيْنَهُمْ. يُقَالُ: مَنَّاهُ، إِذَا وَعَدَهُ الْمَوَاعِيدَ الْبَاطِلَةَ، وَأَطْمَعَهُ فِي وُقُوعِ مَا يُحِبُّهُ مِمَّا لَا يَقَعُ، قَالَ كَعْبٌ:
فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ وَمِنْهُ سُمِّيَ بِالتَّمَنِّي طَلَبُ مَا لَا طَمَعَ فِيهِ أَوْ مَا فِيهِ عُسْرٌ.
وَمَعْنَى: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أَيْ آمُرَنَّهُمْ بِأَنْ يُبَتِّكُوا آذَانَ الْأَنْعَامِ فَلَيُبَتِّكُنَّهَا، أَيْ يَأْمُرُهُمْ فَيَجِدُهُمْ مُمْتَثِلِينَ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ أَمَرَ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ.
وَالتَّبْتِيكُ: الْقَطْعُ. قَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا:
وَيَجْعَلُ عَيْنَيْهِ رَبِيئَةَ قَلْبِهِ إِلَى سَلَّةٍ مِنْ حَدِّ أَخْلَقَ بَاتِكِ
وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا شَيْئًا مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ مِمَّا يَخُصُّ أَحْوَالَ الْعَرَبِ، إِذْ كَانُوا يَقْطَعُونَ آذَانَ الْأَنْعَامِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ، عَلَامَةً عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّرَةٌ لِلْأَصْنَامِ، فَكَانُوا يَشُقُّونَ آذَانَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ، فَكَانَ هَذَا الشَّقُّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، إِذْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ غَرَضًا شَيْطَانِيًّا.
وَقَوْلُهُ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ تَعْرِيضٌ بِمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ لِدَوَاعٍ سَخِيفَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَرْجِعُ إِلَى شَرَائِعِ الْأَصْنَامِ مِثْلَ فَقْءُ عَيْنِ الْحَامِي، وَهُوَ الْبَعِيرُ الَّذِي حَمَى ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوبِ لِكَثْرَةِ مَا أَنْسَلَ، وَيُسَيَّبُ لِلطَّوَاغِيتِ.
وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ إِلَى أَغْرَاضٍ ذَمِيمَةٍ كَالْوَشْمِ إِذْ أَرَادُوا بِهِ التَّزَيُّنَ، وَهُوَ تَشْوِيهٌ، وَكَذَلِكَ وَسْمُ الْوُجُوهِ بِالنَّارِ.
وَيُدْخُلُ فِي مَعْنَى تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ وَضْعُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي غَيْرِ مَا خَلَقَهَا اللَّهُ لَهُ، وَذَلِكَ مِنَ الضَّلَالَاتِ الْخُرَافِيَّةِ. كَجَعْلِ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً. وَجَعْلِ الْكُسُوفَاتِ وَالْخُسُوفَاتِ دَلَائِلَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَسْوِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، الَّذِي هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ، وَالْفِطْرَةُ خَلْقُ اللَّهِ فَالْعُدُولُ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ تَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ.
وَلَيْسَ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ التَّصَرُّفُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَلَا مَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْحُسْنِ فَإِنَّ الْخِتَانَ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ لِفَوَائِدَ صِحِّيَّةٍ، وَكَذَلِكَ حَلْقُ الشَّعْرِ لِفَائِدَةِ
205
دَفْعِ بَعْضِ الْأَضْرَارِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ لِفَائِدَةِ تَيْسِيرِ الْعَمَلِ بِالْأَيْدِي، وَكَذَلِكَ ثَقْبُ الْآذَانِ لِلنِّسَاءِ لِوَضْعِ الْأَقْرَاطِ وَالتَّزَيُّنِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ لَعْنِ الْوَاصِلَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ فَمِمَّا أَشْكَلَ تَأْوِيلُهُ. وَأَحْسَبُ تَأْوِيلَهُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ سِمَاتٍ كَانَتْ تُعَدُّ مِنْ سِمَاتِ الْعَوَاهِرِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، أَوْ مِنْ سِمَاتِ الْمُشْرِكَاتِ، وَإِلَّا فَلَوْ فَرَضْنَا هَذِهِ مَنْهِيًّا عَنْهَا لَمَا بَلَغَ النَّهْيُ إِلَى حَدِّ لَعْنِ فَاعِلَاتِ ذَلِكَ. وَمِلَاكُ الْأَمْرِ أَنَّ تَغْيِيرَ
خَلْقِ اللَّهِ إنّما يكون إِنَّمَا إِذَا كَانَ فِيهِ حَظٌّ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، بِأَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةً لِنِحْلَةٍ شَيْطَانِيَّةٍ، كَمَا هُوَ سِيَاقُ الْآيَةِ وَاتِّصَالُ الْحَدِيثِ بِهَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى:
«النَّظَرُ الْفَسِيحُ عَلَى مُشْكِلِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ».
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً تَذْيِيلٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ: مِنْ تَبْتِيكِ آذَانِ الْأَنْعَامِ، وَتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ، إِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِشْعَارِهِمْ بِشِعَارِهِ، وَالتَّدَيُّنِ بِدَعْوَتِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَنْفَعُهُ أَنْ يُبَتِّكَ أَحَدٌ أُذُنَ نَاقَتِهِ، أَوْ أَنْ يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْ خِلْقَتِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِلتَّأَثُّرِ بِدَعْوَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ أَنْجَزَ عَزْمَهَ فَوَعَدَ وَمَنَّى وَهُوَ لَا يَزَالُ يَعِدُ وَيُمَنِّي، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْمُضَارِعِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ فَيُبَتِّكُونَ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَيُغَيِّرُونَ خَلْقَ اللَّهِ لِظُهُورِ وُقُوعِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لِتَنْبِيهِ السَّامِعِينَ إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ وَأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءُ بِهِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِمْ.
وَالْمَحِيصُ: الْمَرَاغُ وَالْمَلْجَأُ، مِنْ حَاصَ إِذَا نَفَرَ وَرَاغَ، وَفِي حَدِيث هر قل «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ». وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عُلْبَةَ الْحَارِثِيُّ:
وَلَمْ نَدْرِ إِنْ حِصْنَا مِنَ الْمَوْتِ حَيْصَةً كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ وَالْمَدَى مُتَطَاوِلُ
رُوِيَ: حِصْنَا وَحَيْصَةً- بِالْحَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ- وَيُقَالُ: جَاضَ أَيْضًا- بِالْجِيمِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ-، وَبِهِمَا رُوِيَ بَيْتُ جَعْفَر أَيْضا.
206

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٢٢]

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [النِّسَاء: ١٢١] جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْإِنْذَارِ بِالْبِشَارَةِ، وَالْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ.
وَقَوْلُهُ: وَعْدَ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي إِلَخْ، وَهِيَ بِمَعْنَاهُ، فَلِذَلِكَ يُسَمِّي النُّحَاةُ مِثْلَهُ مُؤَكِّدًا لِنَفْسِهِ، أَيْ مُؤَكِّدًا لِمَا هُوَ بِمَعْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ: حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ، إِذْ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْوَعْدِ، أَيْ هَذَا الْوَعْدُ أُحَقِّقُهُ حَقًّا، أَيْ لَا يَتَخَلَّفُ. وَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ
خَالِيًا عَنْ مَعْنَى الْإِحْقَاقِ كَانَ هَذَا الْمَصْدَرُ مِمَّا يُسَمِّيهِ النُّحَاةُ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِغَيْرِهِ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ تَذْيِيلٌ لِلْوَعْدِ وَتَحْقِيقٌ لَهُ: أَيْ هَذَا مِنْ وَعْدِ اللَّهِ، وَوُعُودُ اللَّهِ وُعُودُ صِدْقٍ، إِذْ لَا أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا. فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّ التَّذْيِيلَ مِنْ أَصْنَافِ الِاعْتِرَاضِ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَانْتَصَبَ قِيلًا عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةٍ مِنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ.
وَالْقِيلُ: الْقَوْلُ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ بِوَزْنِ فِعْلٍ يَجِيءُ فِي الشرّ وَالْخَيْر.
[١٢٣، ١٢٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٢٣ إِلَى ١٢٤]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً
207
(١٢٤)
الْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّنْوِيهِ بِفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَالتَّشْوِيهِ بِمَسَاوِيهَا، وَأَنَّ فِي (لَيْسَ) ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الْجَزَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يُجْزَ بِهِ، أَيْ لَيْسَ الْجَزَاءُ تَابِعًا لِأَمَانِيِّ النَّاسِ وَمُشْتَهَاهُمْ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَقْدِيرًا بِحَسَبَ الْأَعْمَالِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ تَذْيِيلٍ مُشْعِرٍ بِالنِّهَايَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاء: ١٢٢]. وَمِمَّا يُرَجِّحُهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ إِبْهَامًا فِي الضَّمِيرِ، ثُمَّ بَيَانا لَهُ بالحملة بَعْدَهُ، وَهِيَ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمُ جُمْلَةِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ عَنْ مَوْقِعِهَا الَّذِي يُتَرَقَّبُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، وَتَهْيِئَةً لِإِبْهَامِ الضَّمِيرِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا خَصَائِصُ مِنْ طُرُقِ الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ. وَجُمْلَةُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَسَاءَلُ عَنْ بَيَانِ هَذَا النَّفْيِ الْمُجْمَلِ. وَلِهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مَوْقِعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَخُصُوصِيَّةٌ تَفُوتُ بِغَيْرِ هَذَا النَّظْمِ الَّذِي فَسَّرْنَاهُ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ عَائِدًا عَلَى وَعْدِ اللَّهِ، أَيْ لَيْسَ وَعْدُ اللَّهِ بِأَمَانِيِّكُمْ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِنْ تَكْمِلَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ حَالًا مِنْ وَعْدَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١٢٢]، وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مَحْضًا.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي صَالِحٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ إِلَى مَسْرُوقٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ، أَنَّ سَبَبَ
نُزُولِهَا: أَنَّهُ وَقَعَ تَحَاجٌّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كُلُّ فَرِيقٍ يَقُولُ لِلْآخَرَيْنِ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَيَحْتَجُّ لِذَلِكَ وَيَقُولُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ الْآيَات مُبين أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ هُدَى اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكُلَّ مَنْ ضَلَّ وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُجَازًى بِسُوءِ عَمِلِهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْيَهُودِ قَبْلَ بَعْثَةِ عِيسَى وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى دِينِ عِيسَى، فَبَطَلَ قَوْلُ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَبَطَلَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَكَمًا فَصْلًا بَيْنَ الْفِرَقِ، وَتَعْلِيمًا لَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا فِي تَوَفُّرِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَتَوَفُّرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ اللَّهُ أَمَانِيَّ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ:
208
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. ثُمَّ إِنِ اللَّهَ لَوَّحَ إِلَى فَلْجِ حُجَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِإِشَارَةِ قَوْلِهِ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِنْ كَانَ إِيمَانٌ اخْتَلَّ مِنْهُ بَعْضُ مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ الْحَقُّ، فَهُوَ كَالْعَدَمِ، فَعَقَّبَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النِّسَاء: ١٢٥]. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْفَوْزَ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ، لَا لِأَنَّ أَمَانِيَّهُمْ كَذَلِكَ، بَلْ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ مُتَوَفِّرَةٌ فِي دِينِهِمْ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَّا. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَا نُبْعَثُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَمانِيِّكُمْ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ لَيْسَ الْجَزَاءُ حَاصِلًا حُصُولًا عَلَى حَسَبِ أَمَانِيِّكُمْ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْبَاءُ الَّتِي تُزَادُ فِي خَبَرِ لَيْسَ لِأَنَّ أَمَانِيَّ الْمُخَاطَبِينَ وَاقِعَةٌ لَا مَنْفِيَّةٌ.
وَالْأَمَانِيُّ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِلتَّمَنِّي، أَيْ تَقْدِيرِ غَيْرِ الْوَاقِعِ وَاقِعًا. وَالْأُمْنِيَّةُ بِوَزْنِ أُفْعُولَةٍ كَالْأُعْجُوبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٨]. وَكَأَنَّ ذِكْرَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمَانِيِّ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَى مَا حَكَمَ اللَّهُ وَوَعَدَ، وَأَنَّ مَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَمَا وَافَقَهُ هُوَ الْحَقُّ، وَالْمَقْصِدُ الْمُهِمُّ هُوَ قَوْلُهُ: وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ عَلَى نَحْوِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤] فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا فِي غُرُورٍ، يَقُولُونَ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تِلْكَ أَمَانِيَّ عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: ٨٠] تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ [الْبَقَرَة: ١١١]. أمّا الْمُسلمُونَ فماحشون مِنَ اعْتِقَادِ مِثْلِ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ، أَيْ لَيْسَ بِأَمَانِيِّ الْمُشْرِكِينَ، إِذْ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُفَعَاءَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ وَأَسْلَافَهُمْ يُغْنُونَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهُوَ مَحْمَلٌ لِلْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ، لِرَدِّ عَقِيدَةِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَحَدًا يُغْنِي عَنْ عَذَابِ اللَّهِ.
وَالْوَلِيُّ هُوَ الْمَوْلَى، أَيِ الْمُشَارِكُ فِي نَسَبِ الْقَبِيلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُدَافِعُ عَنْ قَرِيبِهِ، وَالنَّصِيرُ الَّذِي إِذَا اسْتَنْجَدْتَهُ نَصَرَكَ، أَوِ الْحَلِيفُ، وَكَانَ النَّصْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ.
209
وَوَجْهُ قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى قَصْدُ التَّعْمِيمِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَحْرِمُ الْمَرْأَةَ حُظُوظًا كَثِيرَةً مِنَ الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ»
. وَ (مِنْ) لِبَيَانِ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَدْخُلُونَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْخَاءِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ- عَلَى الْبناء للنائب.
[١٢٥، ١٢٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٢٥ إِلَى ١٢٦]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)
الْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النِّسَاء: ١٢٤] الَّذِي مَا صدقه الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ، فَلَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْقَبَهُ بِتَفْضِيلِ دِينِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ.
وَانْتَصَبَ دِيناً عَلَى التَّمْيِيزِ. وَإِسْلَامُ الْوَجْهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَمَامِ الطَّاعَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْكِنَايَاتِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَفِيهِ مَا كَانَ بِهِ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا، وَفِي الْقُرْآنِ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: ٢٠]. وَالْعَرَبُ تَذْكُرُ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَقَوْلِهِ: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [العلق: ١٥]، وَيَقُولُونَ: أَخَذَ بِسَاقِهِ، أَيْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِإِمْسَاكِ الرُّعَاةِ الْأَنْعَامَ.
وَفِي الْحَدِيثِ «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ»
وَيَقُولُونَ: أَلْقَى إِلَيْهِ الْقِيَادَ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ الزِّمَامَ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
يَقُولُ أَنْفِي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ وَيَقُولُونَ: يَدِي رَهْنٌ لِفُلَانٍ. وَأَرَادَ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ الِاعْتِرَافَ بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ بَيَان لهَذَا عَنَّا، قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩] وَقَوله: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: ١٣٢].
210
وَجُمْلَةُ «وَهُوَ مُحْسِنٌ» حَالٌ قُصِدَ مِنْهَا اتِّصَافُهُ بِالْإِحْسَانِ حِينَ إِسْلَامِهِ وَجْهَهُ لِلَّهِ، أَيْ خَلَعَ الشِّرْكَ قَاصِدًا الْإِحْسَانَ، أَيْ رَاغِبًا فِي الْإِسْلَامِ لِمَا رَأَى فِيهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِحْسَانِ.
وَمَعْنَى وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَنَّهُ اتَّبَعَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ عَلَى أُسُسِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ بِهَا يَكْمُلُ مَعْنَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَعَلَّهَا هِيَ: الْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، وَالْإِسْلَامُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ مُحْسِنٌ مُخْلِصٌ رَاغِبٌ فِي الْخَيْرِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَنَى بِهِ التَّوْحِيدَ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ حَنِيفاً مَعْنَاهُ مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ أَوْ مُتَعَبِّدًا. وَإِذَا جَعَلْتَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُوَ مُحْسِنٌ أَيْ عَامِلٌ الصَّالِحَاتِ كَانَ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْمُرَادِفِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَقَوْلُهُ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا عَطَفَ ثَنَاءَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَدْحِ مَنِ اتَّبَعَ دِينَهُ زِيَادَةَ تَنْوِيهٍ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَالْخَلِيلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الصَّاحِبُ الْمُلَازِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ صَاحِبِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْخِلَالِ، وَهُوَ النَّوَاحِي الْمُتَخَلِّلَةُ لِلْمَكَانِ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النُّور: ٤٣] فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً [الْكَهْف: ٣٣]. هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي اشْتِقَاقِ الْخَلِيلِ. وَيُقَالُ: خِلٌّ وَخُلٌّ- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا- وَمُؤَنَّثُهُ: خُلَّةٌ- بِضَمِّ الْخَاءِ-، وَلَا يُقَالُ- بِكَسْرِ الْخَاءِ-، قَالَ كَعْبٌ:
أَكْرِمْ بِهَا خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ وَجَمْعُهَا خَلَائِلُ. وَتُطْلَقُ الْخُلَّةُ- بِضَمِّ الْخَاءِ- عَلَى الصُّحْبَةِ الْخَالِصَةِ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: ٢٥٤]، وَجَمْعُهَا خِلَالٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إِبْرَاهِيم: ٣١]. وَمَعْنَى اتِّخَاذِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا شدّة رضى اللَّهِ عَنْهُ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْخُلَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ فَأُرِيدَ لوازمها وَهِي الرضى، وَاسْتِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَذِكْرُهُ بِخَيْرٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِلَخْ تَذْيِيلٌ جُعِلَ كَالِاحْتِرَاسِ، عَلَى
أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيلِ لَازِمُ مَعْنَى الْخُلَّةِ، وَلَيْسَتْ هِيَ كَخُلَّةِ النَّاسِ مُقْتَضِيَةً الْمُسَاوَاةَ أَوِ التَّفْضِيلَ، فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْكِنَايَةُ عَنْ عُبُودِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي جُمْلَةِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَالْمُحِيط: الْعَلِيم.
211

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٢٧]

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)
عُطِفَ تَشْرِيعٌ عَلَى إِيمَانٍ وَحِكْمَةٍ وَعِظَةٍ. وَلَعَلَّ هَذَا الِاسْتِفْتَاءُ حَدَثَ حِينَ نُزُولِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. فَذَكَرَ حُكْمَهُ عَقِبَهَا مَعْطُوفًا. وَهَذَا الِاسْتِفْتَاءُ حَصَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٣] إِلَخْ. وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى قَالَتْ: يَا بن أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالَهَا وَجَمَالَهَا فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. وَأَنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ قَالَتْ: فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ من أجل رغبتهم عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، وَكَانَ الْوَلِيُّ يَرْغَبُ عَنْ أَنْ يَنْكِحَهَا وَيَكْرَهَ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَيُشْرِكَهُ فِي مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلُهَا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
فَالْمُرَادُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣]. وَأَخَصُّ الْأَحْكَامِ بِالنِّسَاءِ: أَحْكَام وَلَا يتهنّ، وَأَحْكَام مُعَاشَرَتِهِنَّ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا مِيرَاثَ النِّسَاءِ إِذْ لَا خُطُورَ لَهُ بِالْبَالِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَعْدٌ بِاسْتِيفَاءِ الْإِجَابَةِ عَنِ الِاسْتِفْتَاءِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ
تَبْشِيرِ السَّائِلِ الْمُتَحَيِّرِ بِأَنَّهُ قَدْ وَجَدَ طِلْبَتَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ.
212
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: ٧٨]. وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذِهِ الْفُتْيَا.
وَقَوْلُهُ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ عُطِفَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ وَيُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، أَيِ الْقُرْآنِ، وَإِسْنَادُ الْإِفْتَاءِ إِلَى مَا يُتْلَى إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ، لِأَنَّ مَا يُتْلَى دَالٌّ عَلَى إِفْتَاءِ اللَّهِ فَهُوَ سَبَبٌ فِيهِ، فَآلَ الْمَعْنَى إِلَى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ بِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، وَالْمرَاد بذلك بِمَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَمَا سَيُتْلَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّذْكِيرَ بِهِ وَتَكْرِيرَهُ إِفْتَاءٌ بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَمَا أَتْبَعَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ إِفْتَاءٌ أَيْضًا. وَقَدْ أَلَمَّتِ الْآيَةُ بِخُلَاصَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النِّسَاء:
٢- ٦]. وَكَذَلِكَ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى فِقَرٍ مِمَّا تَقَدَّمَ: بِقَوْلِهِ هُنَا: فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ فَأَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: ٣، ٤].
وَلِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ بَعْدَ تَرْغَبُونَ- هُنَا- مَوْقِعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْإِيجَازِ وَإِكْثَارِ الْمَعْنَى، أَيْ تَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِ بَعْضِهِنَّ، وَفِي نِكَاحِ بَعْضٍ آخَرَ، فَإِنَّ فِعْلَ رَغِبَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (عَنْ) لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُحَبُّ وَبِحَرْفِ (فِي) لِلشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ. فَإِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ احْتَمَلَ الْمَعْنَيَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ، وَذَلِكَ قَدْ شَمَلَهُ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا [النِّسَاء: ٣] إِلَخْ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ هُنَا وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ إِلَى قَوْلِهِ هُنَالِكَ وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ- إِلَى- كَبِيراً [النِّسَاء: ٢] وَإِلَى قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ إِلَى قَوْله: مَعْرُوفاً [النِّسَاء: ٥].
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ إِلَى قَوْلِهِ هُنَالِكَ وَابْتَلُوا الْيَتامى - إِلَى- حَسِيباً [النِّسَاء: ٦].
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُتْلَى فِي الْكِتَابِ هُوَ مِنْ إِفْتَاءِ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِفْتَاءِ كَانَ مُغَايِرًا لِلْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، فَلِذَلِكَ صَحَّ عَطْفُهُ عَلَيْهِ عَطْفَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ. وَالْإِفْتَاءُ الْأُنُفُ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً- إِلَى- واسِعاً حَكِيماً [النِّسَاء: ١٢٨- ١٣٠].
وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي يَتامَى النِّساءِ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ فِي شَأْنِهِنَّ، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِهِنَّ، وَمَعْنَى كُتِبَ لَهُنَّ فُرِضَ لَهُنَّ إِمَّا مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يَرِثْنَهُمْ، أَوْ مِنَ
213
الْمُهُورِ الَّتِي
تَدْفَعُونَهَا لَهُنَّ، فَلَا تُوَفُّوهُنَّ مُهُورَ أَمْثَالِهِنَّ، وَالْكُلُّ يُعَدُّ مَكْتُوبًا لَهُنَّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَجِيءُ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَفِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ. مَقْصُودَيْنِ عَلَى حَدِّ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ عَطْفٌ عَلَى يَتامَى النِّساءِ، وَهُوَ تَكْمِيلٌ وَإِدْمَاجٌ، لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ كَانَ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَالْمُرَادُ الْمُسْتَضْعَفُونَ وَالْمُسْتَضْعَفَاتُ، وَلَكِنَّ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ تَغْلِيبٌ، وَكَذَلِكَ الْوِلْدَانُ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ مَنْ فِي حِجْرِهِمْ مِنَ الصِّغَارِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُومُوا عَطْفٌ عَلَى يَتامَى النِّساءِ، أَيْ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْقِيَامِ لِلْيَتَامَى بِالْعَدْلِ. وَمَعْنَى الْقِيَامِ لَهُم التَّدْبِير لشؤونهم، وَذَلِكَ يَشْمَلُ يتامى النِّسَاء.
[١٢٨- ١٣٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٢٨ إِلَى ١٣٠]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)
عَطْفٌ لِبَقِيَّةِ إِفْتَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَالِ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النِّسَاء: ٣٤] الْآيَةَ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَذَلِكَ حُكْمُ فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا، وَمَا هَنَا حُكْمُ الِانْفِصَالِ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ ذُكِرَ فِيهِ نُشُوزُ الْمَرْأَةِ،
214
وَهُنَا ذُكِرَ نُشُوزُ الْبَعْلِ. وَالْبَعْلُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٨].
وَصِيغَةُ فَلا جُناحَ مِنْ صِيَغِ الْإِبَاحَةِ ظَاهِرًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِذْنِ لِلزَّوْجَيْنِ فِي صُلْحٍ يَقَعُ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تُذْكَرُ إِلَّا حَيْثُ يُظَنُّ الْمَنْعُ، فَالْمَقْصُودُ الْإِذْنُ فِي صُلْحٍ يَكُونُ بِخُلْعٍ: أَيْ عِوَضٍ مَالِيٍّ تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ، أَوْ تَنَازُلٍ عَنْ بَعْضِ حُقُوقِهَا، فَيَكُونُ مَفَادُ هَذِهِ الْآيَةِ أَعَمَّ مِنْ مَفَادِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [الْبَقَرَة: ٢٢٩]، فَسَمَّاهُ هُنَاكَ افْتِدَاءً، وَسَمَّاهُ هُنَا صُلْحًا. وَقَدْ شَاعَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِطْلَاقُ
الصُّلْحِ عَلَى التَّرَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى إِسْقَاطِ بَعْضِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ هُنَا. وَاصْطَلَحَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: عَلَى إِطْلَاقِ الِافْتِدَاءِ عَلَى اخْتِلَاعِ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالٍ تُعْطِيهِ، وَإِطْلَاقِ الْخُلْعِ عَلَى الِاخْتِلَاعِ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُ بَقِيَّةَ الصَّدَاقِ، أَوِ النَّفَقَةَ لَهَا، أَوْ لِأَوْلَادِهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تكون صِيغَة فَلا جُناحَ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الصُّلْحِ، أَيْ إِصْلَاحِ أَمْرِهِمَا بِالصُّلْحِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، فَنَفْيُ الْجُنَاحِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْلِيحِيَّةِ شَبَّهَ حَالَ مَنْ تَرَكَ الصُّلْحَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ بِحَالِ مَنْ تَرَكَ الصُّلْحَ عَنْ عَمْدٍ لِظَنِّهِ أَنَّ فِي الصُّلْحِ جُنَاحًا. فَالْمُرَادُ الصُّلْحُ بِمَعْنَى إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْأَشْهَرُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ الْإِصْلَاحُ.
وَالْمَقْصُودُ الْأَمْرُ بِأَسْبَابِ الصُّلْحِ، وَهِيَ: الْإِغْضَاءُ عَنِ الْهَفَوَاتِ، وَمُقَابَلَةُ الْغِلْظَةِ بِاللِّينِ، وَهَذَا أَنْسَبُ وَأَلْيَقُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.
وَلِلنُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ: تَقْوَى وَتَضْعُفُ، وَتَخْتَلِفُ عَوَاقِبُهَا، بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَنْفُسِ، وَيَجْمَعُهَا قَوْلُهُ: خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً. وَلِلصُّلْحِ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا الْمُخَالَعَةُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى حَوَادِثَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً قَالَتْ: الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ لَهُ أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَوْدَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ:
215
أَنَّ ابْنَةَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ كَانَتْ عِنْدَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَكَرِهَ مِنْهَا أَمْرًا، أَيْ كِبَرًا فَأَرَادَ طَلَاقَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: أَمْسِكْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا بَدَا لَكَ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يَصَّالَحَا- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَفَتْحِ اللَّامِ- وَأَصْلُهُ يَتَصَالَحَا، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: «أَنْ يُصْلِحَا» - بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ وَكَسْرِ اللَّامِ- أَيْ يُصْلِحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَأْنَهُمَا بِمَا يَبْدُو مِنْ وُجُوهِ الْمُصَالَحَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَلَيْسَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ أَنَّ مَاهِيَّةَ الصُّلْحِ خَيْرٌ لِلنَّاسِ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصُّلْحِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ آنِفًا، وَهُوَ الْخُلْعُ، خَيْرٌ مِنَ النِّزَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ هَذَا، وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ فَائِدَةَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْفَرُ، وَلِأَنَّ فِيهِ التَّفَادِيَ عَنْ إِشْكَالِ تَفْضِيلِ الصُّلْحِ عَلَى النِّزَاعِ فِي الْخَيْرِيَّةِ مَعَ أَنَّ النِّزَاعَ لَا خَيْرَ فِيهِ أَصْلًا. وَمَنْ جَعَلَ الصُّلْحَ
الثَّانِيَ عَيْنَ الْأَوَّلِ غَرَّتْهُ الْقَاعِدَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَهِيَ: أَنَّ لَفْظَ النَّكِرَةِ إِذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَهُوَ عَيْنُ الْأُولَى. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي الْبَابِ السَّادِسِ، فَقَالَ: يَقُولُونَ: «النَّكِرَةُ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، وَإِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، أَوْ أُعِيدَتِ الْمَعْرِفَةُ مَعْرِفَةً أَوْ نَكِرَةً كَانَتِ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى»، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ تَرُدُّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْأَرْبَعَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً [الرّوم: ٥٤] وَقَوله: أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النِّسَاء: ١٢٨] زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّحْل: ٨٨] وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ فَوْقَ نَفْسِهِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: ٤٥] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاء: ١٥٣]، وَأَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يَرُدُّ ذَلِكَ أَيْضًا. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ لَا لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ، كَمَا هُنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ نَكِرَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٣]. وَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٧].
وَقَوْلُهُ خَيْرٌ لَيْسَ هُوَ تَفْضِيلًا وَلَكِنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَزْنُهُ فَعْلٌ، كَقَوْلِهِمْ: سَمْحٌ وَسَهْلٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى خُيُورٍ. أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ مُقَابِلُ الشَّرِّ، فَتَكُونُ إِخْبَارًا بِالْمَصْدَرِ. وَأَمَّا
216
الْمُرَادُ بِهِ التَّفْضِيلُ فَأَصْلُ وَزْنِهِ أَفْعَلُ، فَخُفِّفَ بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ ثُمَّ قَلْبِ حَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ.
جَمْعُهُ أَخْيَارٌ، أَيْ وَالصُّلْحُ فِي ذَاتِهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ. وَالْحَمْلُ عَلَى كَوْنِهِ تَفْضِيلًا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ هُوَ النُّشُوزُ وَالْإِعْرَاضُ. ، وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ مَعْنًى.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى شِدَّةِ التَّرْغِيبِ فِي هَذَا الصُّلْحِ بِمُؤَكِّدَاتٍ ثَلَاثَةٍ: وَهِيَ الْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدُ فِي قَوْلِهِ: صُلْحاً، وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فِعْلِ سَجِيَّةٍ.
وَمَعْنَى وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ مُلَازَمَةُ الشُّحِّ لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى كَأَنَّهُ حَاضِرٌ لَدَيْهَا. وَلِكَوْنِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْجِبِلَّةِ بُنِيَ فِعْلُهُ لِلْمَجْهُولِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي بِنَاءِ كُلِّ فِعْلٍ غَيْرِ مَعْلُومِ الْفَاعِلِ لِلْمَجْهُولِ، كَقَوْلِهِمْ: شُغِفَ بِفُلَانَةٍ، وَاضْطُرَّ إِلَى كَذَا. فَ «الشُّحَّ» مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ «أُحْضِرَتْ» لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَعْطَى.
وَأَصْلُ الشُّحِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبُخْلُ بِالْمَالِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ
شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى»

، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: ٩] وَيُطْلَقُ عَلَى حِرْصِ النَّفْسِ عَلَى الْحُقُوقِ وَقِلَّةِ التَّسَامُحِ فِيهَا، وَمِنْهُ الْمُشَاحَّةُ، وَعَكْسُهُ السَّمَاحَةُ فِي الْأَمْرَيْنِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صُلْحَ الْمَالِ، وَهُوَ الْفِدْيَةُ. فَالشُّحُّ هُوَ شُحُّ الْمَالِ، وَتَعْقِيبُ قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ بِقَوْلِهِ: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ فِي مَوْعِظَةٍ أَوْ نَحْوِهَا: وَمَا إِخَالُكَ تَفْعَلُ، لِقَصْدِ التَّحْرِيضِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشُّحِّ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ: مِنَ الْمُشَاحَّةِ، وَعَدَمِ التَّسَاهُلِ، وَصُعُوبَةِ الشَّكَائِمِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الصُّلْحِ صُلْحَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ تَعْقِيبِهِ بِهِ تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهَذِهِ الْمُشَاحَّةِ الْحَائِلَةِ دُونَ الْمُصَالَحَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْبُخْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٨٠]. وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ ذَمُّ الشُّحِّ بِالْمَالِ، وَذَمُّ مَنْ لَا سَمَاحَةَ فِيهِ، فَكَانَ هَذَا التَّعْقِيبُ تَنْفِيرًا مِنَ الْعَوَارِضِ الْمَانِعَةِ مِنَ السَّمَاحَةِ وَالصُّلْحِ، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً لِمَا فِيهِ مِنَ
217
التَّرْغِيبِ فِي الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى.
ثُمَّ عَذَرَ النَّاسَ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ فَقَالَ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أَيْ تَمَامَ الْعَدْلِ. وَجَاءَ بِ (لَنْ) لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، لِأَنَّ أَمْرَ النِّسَاءِ يُغَالِبُ النَّفْسَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حُسْنَ الْمَرْأَةِ وَخُلُقَهَا مُؤَثِّرًا أَشَدَّ التَّأْثِيرِ، فَرُبَّ امْرَأَةٍ لَبِيبَةٍ خَفِيفَةِ الرُّوحِ، وَأُخْرَى ثَقِيلَةٌ حَمْقَاءُ، فَتَفَاوُتُهُنَّ فِي ذَلِكَ وَخُلُوُّ بَعْضِهِنَّ مِنْهُ يُؤَثِّرُ لَا مَحَالَةَ تَفَاوُتًا فِي مَحَبَّةِ الزَّوْجِ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ، وَلَوْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِظْهَارِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَلِذَلِكَ قَالَ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، وَأَقَامَ اللَّهُ مِيزَانَ الْعَدْلِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، أَيْ لَا يُفَرِّطُ أَحَدُكُمْ بِإِظْهَارِ الْمَيْلِ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَشَدَّ الْمَيْلِ حَتَّى يَسُوءَ الْأُخْرَى بِحَيْثُ تَصِيرُ الْأُخْرَى كَالْمُعَلَّقَةِ. فَظَهَرَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ تَمِيلُوا مُقَدَّرٌ بِإِحْدَاهُنَّ، وأنّ ضمير فَتَذَرُوها الْمَنْصُوبَ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ الْمُتَعَلِّقِ الْمَحْذُوفِ بِالْقَرِينَةِ، وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَالْمُعَلَّقَةُ: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يَهْجُرُهَا زَوْجُهَا هَجْرًا طَوِيلًا، فَلَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ وَلَا هِيَ زَوْجَةٌ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِيَ الْعَشَنَّقُ إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ»، وَقَالَتِ ابْنَةُ الْحُمَارِسِ:
إِنْ هِيَ إِلَّا حِظَةٌ أَوْ تَطْلِيقُ أَوْ صَلَفٌ أَوْ بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقُ (١)
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَمْرٌ قَهْرِيٌّ، وَأَنَّ لِلتَّعَلُّقِ بِالْمَرْأَةِ أَسْبَابًا تُوجِبُهُ قَدْ لَا تَتَوَفَّرُ فِي بَعْضِ النِّسَاءِ، فَلَا يُكَلَّفُ الزَّوْجُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ مِنَ الْحُبِّ وَالِاسْتِحْسَانِ، وَلَكِنَّ مِنَ الْحُبِّ حَظًّا هُوَ اخْتِيَارِيٌّ، وَهُوَ أَنْ يُرَوِّضَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ عَلَى الْإِحْسَانِ لِامْرَأَتِهِ، وَتَحَمُّلِ مَا لَا يُلَائِمُهُ مِنْ خُلُقِهَا أَوْ أَخْلَاقِهَا مَا اسْتَطَاعَ، وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ لَهَا، حَتَّى يُحَصِّلَ مِنَ الإِلْفِ بِهَا وَالْحُنُوِّ عَلَيْهَا اخْتِيَارًا بِطُولِ التَّكَرُّرِ وَالتَّعَوُّدِ. مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ. فَذَلِكَ مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهَا الْمُوصَى بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، أَيْ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَوْ عَنْ إِحْدَاهُنَّ.
_________
(١) هَذَا الرجز مَنْسُوب لامْرَأَة يُقَال لَهَا ابْنة الحمارس (بِضَم الْحَاء وَتَخْفِيف الْمِيم) البكرية وَفِي رِوَايَة:
إِن هِيَ إِلَّا حظوة، وَهِي رِوَايَة إصْلَاح الْمنطق، والحظة (بِكَسْر الْحَاء) والحظوة (بِضَم الْحَاء وَكسرهَا) المكانة وَالْقَبُول عِنْد الزَّوْج. والصلف ضدها. وَالتَّعْلِيق الهجران المستمر. وَالضَّمِير فِي قَوْلهَا: إِن هِيَ، يعود إِلَى الْمَرْأَة. وَمعنى الْبَيْت أَنَّهَا إِذا تزوجت لَا تَدْرِي أتكون ذَات حظوة عِنْد الزَّوْج أَو يطلقهَا أَو يكرهها أَو يعلقها.
218
ثُمَّ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا إِنْ لَمْ تَنْجَحِ الْمُصَالَحَةُ بَيْنَهُمَا فَأَذِنَ لَهُمَا فِي الْفِرَاقِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفِرَاقَ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا لَهُمَا لِأَنَّ الْفِرَاقَ خَيْرٌ مِنْ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ. وَمَعْنَى إِغْنَاءِ اللَّهِ كُلًّا: إِغْنَاؤُهُ عَنِ الْآخَرِ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِغْنَاءَ اللَّهِ كُلًّا إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْفِرَاقِ الْمَسْبُوقِ بِالسَّعْيِ فِي الصُّلْحِ.
وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً تَذْيِيلٌ وَتَنْهِيَةٌ لِلْكَلَامِ فِي حكم النِّسَاء.
[١٣١- ١٣٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٣١ إِلَى ١٣٣]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣)
جُمْلَةُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمُتَضَمِّنَةِ التَّحْرِيضِ عَلَى التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ وَإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا [النِّسَاء: ١٢٨] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا [النِّسَاء: ١٢٩] وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتْ تَذْيِيلَاتٍ لِتِلْكَ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَخْ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ لِوُجُوبِ تَقْوَى اللَّهِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالَّتِي سَبَقَتْهَا: وَهِيَ جُمْلَةُ يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النِّسَاء: ١٣٠] أَنَّ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُغْنِيَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ سَعَتِهِ. وَهَذَا تَمْجِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَكِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلتَّقْوَى.
219
وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النِّسَاء: ١١٦].
وَجُعِلَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى وَصِيَّةً: لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَوْلٌ فِيهِ أَمْرٌ بِشَيْءٍ نَافِعٍ جَامِعٍ لِخَيْرٍ كَثِيرٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ الشَّأْنُ فِي الْوَصِيَّةِ إِيجَازَ الْقَوْلِ لِأَنَّهَا يُقْصَدُ مِنْهَا وَعْيُ السَّامِعِ، وَاسْتِحْضَارُهُ كَلِمَةَ الْوَصِيَّةِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ. وَالتَّقْوَى تَجْمَعُ الْخَيْرَاتِ، لِأَنَّهَا امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الْمَنَاهِي، وَلِذَلِكَ قَالُوا: مَا تَكَرَّرَ لَفْظٌ فِي الْقُرْآنِ مَا تَكَرَّرَ لَفْظُ التَّقْوَى، يَعْنُونَ غَيْرَ الْأَعْلَامِ، كَاسْمِ الْجَلَالَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ:
«أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ»
. فَذِكْرُ التَّقْوَى فِي أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ إِلَخْ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ وَصَّيْنَا، فَأَنْ فِيهِ تَفْسِيرِيَّةٌ. وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْصَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ بِالتَّقْوَى مَقْصُودٌ مِنْهُ إِلْهَابُ هِمَمِ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّهَمُّمِ بِتَقْوَى اللَّهِ لِئَلَّا تَفْضُلَهُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ لِلِائْتِسَاءِ أَثَرًا بَالِغًا فِي النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَة: ١٨٣]، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتَابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَصْدُقُ بِالْمُتَعَدِّدِ.
وَالتَّقْوَى الْمَأْمُورُ بِهَا هَنَا مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى أَسَاسِهَا وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلِذَلِكَ قُوبِلَتْ بِجُمْلَةِ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
وَبَيَّنَ بِهَا عَدَمَ حَاجَتِهِ تَعَالَى إِلَى تَقْوَى النَّاسِ، وَلَكِنَّهَا لِصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: ٧]. فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّضَرُّرِ بِعِصْيَانِ مَنْ يَعْصُونَهُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا
جَوَابًا لِلشَّرْطِ، إِذِ التَّقْدِيرُ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ الْقَصْدُ بِتَذْيِيلِهَا بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً أَيْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِكُمْ، مَحْمُودًا لِذَاتِهِ، سَوَاءٌ حَمِدَهُ الْحَامِدُونَ وَأَطَاعُوهُ، أَمْ كَفَرُوا وَعَصَوْهُ.
وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ جُمْلَةَ وَإِنْ تَكْفُرُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ فَهِيَ مِنْ تَمَامِ الْوَصِيَّةِ، أَيْ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ وَصَّيْنَا، فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ حَمِيداً.
220
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا، أَتَى بهَا تميهدا لِقَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فَهِيَ مُرَادٌ بِهَا مَعْنَاهَا الْكِنَائِيُّ الَّذِي هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ، وَلِذَلِكَ لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَكِيلًا. فَقَدْ تَكَرَّرَتْ جُمْلَةُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هُنَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَتَالِيَاتٍ مُتَّحِدَةً لَفْظًا وَمَعْنًى أَصْلِيًّا، وَمُخْتَلِفَةَ الْأَغْرَاضِ الْكِنَائِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا، وَسَبَقَتْهَا جُمْلَةٌ نَظِيرَتُهُنَّ: وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً [النِّسَاء: ١٢٦]. فَحَصَلَ تَكْرَارُهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي كَلَامٍ مُتَنَاسِقٍ.
فَأَمَّا الْأُولَى السَّابِقَةُ فَهِيَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ١١٦]، وَلِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً [النِّسَاء: ١١٦]، وَالتَّذْيِيلِ لَهُمَا، وَالِاحْتِرَاسِ لِجُمْلَةِ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاء: ١٢٥]، كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَوَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ الَّتِي تَلِيهَا فَهِيَ عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَقْوَاكُمْ وَإِيمَانِكُمْ فَإِنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ وَلَا يَزَالُ غَنِيًّا حَمِيدًا. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ الَّتِي تَلِيهَا فَعَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ وَكَيْلٌ عَلَيْكُمْ وَوَكِيلٌ عَنْ رَسُولِهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
وَجُمْلَةُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّفْرِيعِ عَنْ قَوْلِهِ: غَنِيًّا حَمِيداً. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْخِطَابَ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِهَذَا النِّدَاءِ. وَمَعْنَى يَأْتِ بِآخَرِينَ يُوجِدُ نَاسًا آخَرِينَ يَكُونُونَ خَيْرًا مِنْكُمْ فِي تَلَقِّي الدِّينِ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ بقوله: بِآخَرِينَ أَنَّ الْمَعْنَى بِنَاسٍ آخَرِينَ غَيْرِ كَافِرِينَ، عَلَى مَا هُوَ الشَّائِعُ فِي الْوَصْفِ بِكَلِمَةِ آخَرَ أَوْ أُخْرَى، بَعْدَ ذِكْرِ مُقَابِلٍ
لِلْمَوْصُوفِ، أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِكَلِمَةِ آخَرَ بَعْضًا مِنْ جِنْسِ مَا عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا جَعَلَهُ الْمُتَكَلِّمُ جِنْسًا فِي كَلَامِهِ، بِالتَّصْرِيحِ أَوِ التَّقْدِيرِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ إِلَى لُزُومِ ذَلِكَ، وَاحْتَفَلَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَرِيرِيُّ فِي «دُرَّةِ الْغَوَّاصِ». وَحَاصِلُهَا: أَنَّ الْأَخْفَشَ الصَّغِيرَ، وَالْحَرِيرِيَّ، وَالرَّضِيَّ، وَابْنَ يَسْعُونَ، وَالصِّقِلِّيَّ، وَأَبَا حَيَّانَ، ذَهَبُوا إِلَى اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ جِنْسِ الْمَوْصُوفِ بِكَلِمَةِ آخَرَ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهَا مَعَ جِنْسِ مَا عُطِفَ هُوَ
221
عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَقُولَ: رَكِبْتُ فَرَسًا وَحِمَارًا آخَرَ، وَمَثَّلُوا لِمَا اسْتَكْمَلَ الشَّرْطَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: ١٨٤] ثُمَّ قَالَ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] وَبِقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النَّجْم: ١٩، ٢٠] فَوَصَفَ مَنَاةَ بِالْأُخْرَى لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى فِي أَنَّهَا صَنَمٌ، قَالُوا: وَمِثْلُ كَلِمَةِ آخَرَ فِي هَذَا كَلِمَاتُ: سَائِرٍ، وَبَقِيَّةٍ، وَبَعْضٍ، فَلَا تَقُولُ: أَكْرَمْتُ رَجُلًا وَتَرَكْتُ سَائِرَ النِّسَاءِ. وَلَقَدْ غَلَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ النُّحَاةِ فَاشْتَرَطُوا الِاتِّحَادَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ بِآخَرَ وَبَيْنَ مَا عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ حَتَّى فِي الْإِفْرَادِ وَضِدِّهِ. قَالَهُ ابْنُ يَسْعُونَ وَالصِّقِلِّيُّ، وَرَدَّهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «التَّذْكِرَةِ» مُحْتَجًّا بِقَوْلِ رَبِيعَةَ بْنِ مُكَدَّمٍ:
وَلَقَدْ شَفَعْتُهُمَا بِآخَرَ ثَالِثٍ وَأَبَى الْفِرَارَ لِيَ الْغَدَاةَ تَكَرُّمِي
وَبِقَوْلِ أَبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ:
وَكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلًا فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ
وَقَالَ قَوْمٌ بِلُزُومِ الِاتِّحَادِ فِي التَّذْكِيرِ وَضِدِّهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جِنِّي، وَخَالَفَهُمُ الْمُبَرِّدُ، وَاحْتَجَّ الْمُبَرِّدُ بِقَوْلِ عَنْتَرَةَ:
وَالْخَيْلُ تَقْتَحِمُ الْغُبَارَ عَوَابِسًا مِنْ بَيْنِ شَيْظَمَةٍ وَآخَرَ شَيْظَمِ
وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَوْصُوفِ بِآخَرَ مَعَ مَا عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جَوَّزَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ آخَرِينَ غَيْرِ الْإِنْسِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِكَلِمَةِ آخَرَ مَوْصُوفٌ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ ذِكْرُ مُقَابِلٍ لَهُ أَصْلًا، فَلَا تَقُولُ: جَاءَنِي آخَرُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ قَبْلُ، لِأَنَّ مَعْنَى آخَرَ مَعْنًى مُغَايِرٌ فِي الذَّاتِ مُجَانِسٌ فِي الْوَصْفِ. وَأَمَّا قَوْلُ كُثَيِّرٍ:
صَلَّى على عزّة الرحمان وَابْنَتِهَا لُبْنَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِهَا الْأُخَرِ
فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ ابْنَتَهَا جَارَةً، أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ: صَلَّى عَلَى حَبَائِبِي: عَزَّةَ وَابْنَتِهَا وَجَارَاتِهَا حَبَائِبِي الْأُخَرِ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَلَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ بِشَاهِدٍ.
222
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَقَدْ يَجُوزُ مَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ. نَحْوِ: رَأَيْتُ فَرَسًا وَحِمَارًا آخَرَ بِتَأْوِيلِ أَنَّهُ دَابَّةٌ، وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
إِذَا قُلْتُ هَذَا صَاحِبِي وَرَضِيتُهُ وَقَرَّتْ بِهِ الْعَيْنَانِ بُدِّلْتُ آخَرَا
قُلْتُ: وَقَدْ يُجْعَلَ بَيْتُ كُثَيِّرٍ مِنْ هَذَا، وَيَكُونُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْقَرِينَةِ.
وَقَدْ عُدَّ فِي هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الْعَرَبِ: «تَرِبَتْ يَمِينُ الْآخَرِ»، وَفِي الْحَدِيثِ: قَالَ الْأَعْرَابِيُّ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْآخَرَ وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي رَمَضَانَ» كِنَايَةً عَنْ نَفْسِهِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ. أَيْ جَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ شَخْصًا تَنْزِيهًا لِنَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَتَحَدَّثَ عَنْهَا بِمَا ذَكَرَهُ. وَفِي حَدِيثِ الْأَسْلَمِيِّ فِي «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ «إِنَّ الْآخَرَ قَدْ زَنَى» وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَضْبُطُونَهُ- بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْخَاءِ-،. وَصَوَّبَهُ الْمُحَقِّقُونَ.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيُخْلِفُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَوْمًا آخَرِينَ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شِرْكِهِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَشَأْ إِهْلَاكَ جَمِيعِهِمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ من يعبده
. [١٣٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٣٤]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)
لَمَّا كَانَ شَأْنُ التَّقْوَى عَظِيمًا عَلَى النُّفُوسِ، لِأَنَّهَا يَصْرِفُهَا عَنْهَا اسْتِعْجَالُ النَّاسِ لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا عَلَى خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، نَبَّهَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ خَيْرَ الدُّنْيَا بِيَدِ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْآخِرَةِ أَيْضًا، فَإِنِ اتَّقَوْهُ نَالُوا الْخَيْرَيْنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَصُدَّهُمُ الْإِيمَانُ عَنْ طَلَبِ ثَوَابِ الدُّنْيَا، إِذِ الْكُلُّ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَذْكِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ لَا يُلْهِيهِمْ طَلَبُ خَيْرِ الدُّنْيَا عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، إِذِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَلُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ
: «فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ بِمَا كَسَبُوا» أَوْ هِيَ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَطْلُبُوا خَيْرَ الدُّنْيَا مِنْ طُرُقِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ فِي الْحَلَالِ سَعَةً لَهُمْ وَمَنْدُوحَةً، وَلْيَتَطَلَّبُوهُ مِنَ الْحَلَالِ يُسَهِّلْ لَهُمُ اللَّهُ حُصُولَهُ، إِذِ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللَّهِ، فَيُوشِكُ أَنْ يَحْرِمَ مَنْ
يَتَطَلَّبُهُ مِنْ وَجْهٍ لَا يُرْضِيهِ أَوْ لَا يُبَارِكَ لَهُ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِالثَّوَابِ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْخَيْرُ وَمَا يَرْجِعُ بِهِ طَالِبُ النَّفْعِ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ، مُشْتَقٌّ مِنْ ثَابَ بِمَعْنَى رَجَعَ. وَعَلَى الِاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا فَجَوَابُ الشَّرْطِ بِ «مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا» مَحْذُوفٌ، تَدُلُّ عَلَيْهِ عِلَّتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَلَا يُعْرِضُ عَنْ دِينِ اللَّهِ، أَوْ فَلَا يَصُدُّ عَنْ سُؤَالِهِ، أَوْ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى سُؤَالِهِ، أَوْ فَلَا يُحَصِّلُهُ مِنْ وُجُوهٍ لَا تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى: كَمَا فَعَلَ بَنُو أُبَيْرِقٍ وَأَضْرَابُهُمْ، وَلْيَتَطَلَّبْهُ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ لِأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ يَسَعُ الْخَيْرَيْنِ، وَالْكُلُّ مِنْ عِنْدِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِ الْقُطَامِيِّ:
فَمَنْ تَكُنِ الْحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ فَأَيُّ رِجَالِ بَادِيَةٍ تَرَانَا
التَّقْدِيرُ: فَلَا يَغْتَرِرْ أَوْ لَا يَبْتَهِجْ بِالْحَضَارَةِ، فَإِنَّ حَالَنَا دَلِيلٌ عَلَى شرف البداوة.
[١٣٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٣٥]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥)
انْتِقَالٌ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ مُعَامَلَاتِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ إِلَى الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ الَّذِي يَعُمُّ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا، وَمَا يُقَارِنُهُ مِنَ الشَّهَادَةِ الصَّادِقَةِ، فَإِنَّ الْعَدْلَ فِي الْحُكْمِ وَأَدَاءَ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ هُوَ قِوَامُ صَلَاحِ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالِانْحِرَافُ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ يَجُرُّ إِلَى فَسَادٍ مُتَسَلْسِلٍ.
وَصِيغَةُ قَوَّامِينَ دَالَّةٌ عَلَى الْكَثْرَةِ الْمُرَادِ لَازِمُهَا، وَهُوَ عَدَمُ الْإِخْلَالِ بِهَذَا الْقِيَامِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
224
وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٨]. وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْعَدْلِ إِلَى كَلِمَةِ الْقِسْطِ لِأَنَّ الْقِسْطَ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ أُدْخِلَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِدَلَالَتِهَا فِي اللُّغَةِ الْمَنْقُولَةِ مِنْهَا عَلَى الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا لَفْظُ الْعَدْلِ فَأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: شُهَداءَ لِلَّهِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ عَلَائِقِ الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ.
ولِلَّهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ شُهَداءَ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ لَامَ تَعْدِيَةِ شُهَداءَ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ تَعَلُّقَ الْمَشْهُودِ لَهُ بِمُتَعَلَّقِهِ وَهُوَ وَصْفُ شُهَداءَ لِإِشْعَارِ الْوَصْفِ بِتَعْيِينِهِ، أَيِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِحَقٍّ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ أَصْلَيِ التَّحَاكُمِ، وَهُمَا الْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ حَالِيَّةٌ، وَ (لَوْ) فِيهَا وَصْلِيَّةٌ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي تَحْقِيقِ مَوْقِعِ (لَوْ) الْوَصْلِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١].
وَيَتَعَلَّقُ عَلى أَنْفُسِكُمْ بِكُلٍّ مِنْ قَوَّامِينَ وشُهَداءَ لِيَشْمَلَ الْقَضَاءَ وَالشَّهَادَةَ.
وَالْأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ وَأَصْلُهَا أَنْ تُطْلَقَ عَلَى الذَّاتِ، وَيُطْلِقُهَا الْعَرَبُ أَيْضًا عَلَى صَمِيمِ الْقَبِيلَةِ، فَيَقُولُونَ: هُوَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْفُسِكُمْ هُنَا بِالْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ بِهِ غَالِبًا، أَيْ: قُومُوا بِالْعَدْلِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاشْهَدُوا لِلَّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَيْ قَضَاءً غَالِبًا لِأَنْفُسِكُمْ وَشَهَادَةً غَالِبَةً لِأَنْفُسِكُمْ، لِأَنَّ حَرْفَ (عَلَى) مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مُتَعَلِّقَهُ شَدِيدٌ فِيهِ كُلْفَةٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِعَلَى، أَيْ وَلَوْ كَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي مِنْكُمْ وَشَهَادَةُ الشَّاهِدِ مِنْكُمْ بِمَا فِيهِ ضُرٌّ وَكَرَاهَةٌ لِلْقَاضِي وَالشَّاهِدِ، وَهَذَا أَقْصَى مَا يُبَالِغُ عَلَيْهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْأَذَى، لِأَنَّ أَشَقَّ شَيْءٍ عَلَى الْمَرْءِ مَا يَنَالُهُ مِنْ أَذًى وَضُرٍّ فِي ذَاتِهِ، ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ لِأَنَّ أَقْضِيَةَ الْقَاضِي وَشَهَادَةَ الشَّاهِدِ فِيمَا يُلْحِقُ ضُرًّا وَمَشَقَّةً بِوَالِدَيْهِ وَقَرَابَتَهُ أَكْثَرُ مِنْ قَضَائِهِ وَشَهَادَتِهِ فِيمَا يَؤُولُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَلَو على قيبلتكم أَوْ وَالِدَيْكُمْ وَقَرَابَتِكُمْ. وَمَوْقِعُ الْمُبَالَغَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ (لَوْ) الْوَصْلِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَنْتَصِرُوا بِمَوَالِيهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ وَيَدْفَعُوا عَنْهُمْ
225
مَا يَكْرَهُونَهُ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ إِبَاءِ الضَّيْمِ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْهِمْ، وَيَعُدُّونَ التَّقْصِيرَ فِي ذَلِكَ مَسَبَّةً وَعَارًا يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ. قَالَ مُرَّةُ بْنُ عَدَّاءٍ الْفَقْسِيُّ:
رَأَيْتُ مَوَالِيَّ الْأُلَى يَخْذُلُونَنِي عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ إِذْ يَتَقَلَّبُ
وَيَعُدُّونَ الِاهْتِمَامَ بِالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، حَتَّى يَقُولُونَ فِي الدُّعَاء: (فَذَاك أَبِي وَأُمِّي)، فَكَانَتِ الْآيَةُ تُبْطِلُ هَذِهِ الْحَمِيَّةَ وَتَبْعَثُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الِانْتِصَارِ لِلْحَقِّ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمَظْلُومِ. فَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا جَعْلَ الْأَنْفُسِ بِمَعْنَى ذَوَاتِ الشَّاهِدِينَ فَاجْعَلْ عَطْفَ «الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» بَعْدَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاحْتِرَاسِ لِئَلَّا يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ، فَهُوَ أَمِيرُ نَفْسِهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَالِدَيْهِ أَوْ أَقَارِبِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَسَبَّةِ وَالْمَعَرَّةِ أَوِ التَّأَثُّمِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنًى مُشْتَرِكٍ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمرَان: ١٨].
وَقَوْلُهُ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِمَجْمُوعِ جُمْلَةِ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ: أَيْ إِنْ يَكُنِ الْمُقْسَطُ فِي حَقِّهِ، أَوِ الْمَشْهُودُ لَهُ، غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، فَلَا يَكُنْ غِنَاهُ وَلَا فَقْرُهُ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّأَثُّرِ بِأَحْوَالٍ يَلْتَبِسُ فِيهَا الْبَاطِلُ بِالْحَقِّ لِمَا يَحُفُّ بِهَا مِنْ عَوَارِضَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ رَعْيَهَا ضَرْبٌ مِنْ إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ، وَحِرَاسَةِ الْعَدَالَةِ، فَلَمَّا أَبْطَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا التَّأَثُّرَ لِلَحْمِيَّةِ أُعْقِبَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِإِبْطَالِ التَّأَثُّرِ بِالْمَظَاهِرِ الَّتِي تَسْتَجْلِبُ النُّفُوسَ إِلَى مُرَاعَاتِهَا فَيَتَمَحَّضُ نَظَرُهَا إِلَيْهَا. وَتُغْضِي بِسَبَبِهَا عَنْ تَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَتَذْهَلُ عَنْهُ، فَمِنَ النُّفُوسِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْغِنَى يَرْبَأُ بِصَاحِبِهِ عَنْ أَخْذِ حَقِّ غَيْرِهِ، يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: هَذَا فِي غُنْيَةٍ عَنْ أَكْلِ حَقِّ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمِيلُ إِلَى الْفَقِيرِ رِقَّةً لَهُ، فَيَحْسَبُهُ مَظْلُومًا، أَوْ يَحْسَبُ أَنَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِمَالِ الْغَنِيِّ لَا يَضُرُّ الْغَنِيَّ شَيْئًا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ التَّأْثِيرَاتِ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما.
وَهَذَا التَّرْدِيدُ صَالِحٌ لِكُلٍّ مِنْ أَصْحَابِ هَذَيْنِ التَّوَهُّمَيْنِ، فَالَّذِي يُعَظِّمُ الْغَنِيَّ يَدْحَضُ لِأَجْلِهِ حَقَّ الْفَقِيرِ، وَالَّذِي يَرِقُّ لِلْفَقِيرِ يَدْحَضُ لِأَجْلِهِ حَقَّ الْغَنِيِّ، وَكِلَا ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الَّذِي يُرَاعِي حَالَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَيُقَدِّرُ إِصْلَاحَ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
226
فَقَوْلُهُ: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما لَيْسَ هُوَ الْجَوَابُ، وَلَكِنَّهُ دَلِيلُهُ وَعِلَّتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا يُهِمُّكُمْ أَمْرُهُمَا عِنْدَ التَّقَاضِي، فَاللَّهُ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِي شَأْنِهِمَا، وَإِنَّمَا عَلَيْكُمُ النَّظَرُ فِي الْحَقِّ.
وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا فَجَعَلَ الْمَيْلَ نَحْوَ الْمَوَالِي وَالْأَقَارِبِ مِنَ الْهَوَى، وَالنَّظَرَ إِلَى الْفَقْرِ وَالْغِنَى مِنَ الْهَوَى.
وَالْغَنِيُّ: ضِدُّ الْفَقِيرِ، فَالْغِنَى هُوَ عَدَمٌ إِلَى الِاحْتِيَاجِ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّفَاوُتِ، فَيُعْرَفُ بِالْمُتَعَلِّقِ كَقَوْلِهِ: «كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ»، وَيُعْرَفُ بِالْعُرْفِ يُقَالُ:
فُلَانٌ غَنِيٌّ، بِمَعْنَى لَهُ ثَرْوَةٌ يَسْتَطِيعُ بِهَا تَحْصِيلَ حَاجَاتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَوِجْدَانُ أُجُورِ الْأُجَرَاءِ غِنًى، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُحْتَاجًا إِلَى الْأُجَرَاءِ، لِأَنَّ وِجْدَانَ الْأُجُورِ يَجْعَلُهُ كَغَيْرِ الْمُحْتَاجِ، وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْفَقِيرُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ افْتَقَرَ إِلَى كَذَا، بِالتَّخْصِيصِ، فَإِذَا قِيلَ: هُوَ فَقِيرٌ، فَمَعْنَاهُ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ كَثِيرُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى فَضْلِ النَّاسِ، أَوْ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى الْحَاجَةِ لِقِلَّةِ ثَرْوَتِهِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَقِيرٌ فَقْرًا نِسْبِيًّا، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّد: ٣٨].
وَاسْمُ يَكُنْ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ
مِنْ مَعْنَى التَّخَاصُمِ وَالتَّقَاضِي. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَكُنْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ هَذَا الْوَصْفِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسَانِ، وَ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ، وَتَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما لِأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى «غَنِيًّا وَفَقِيرًا» بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ إِلَى فَرْدٍ مُعَيَّنٍ ذِي غِنًى، وَلَا إِلَى فَرْدٍ مُعَيَّنٍ ذِي فَقْرٍ، بَلْ فَرْدٍ شَائِعٍ فِي هَذَا الْجِنْسِ وَفِي ذَلِكَ الْجِنْسِ.
وَقَوْلُهُ: أَنْ تَعْدِلُوا مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفُ الْجَرِّ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ مَعَ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ لَامَ التَّعْلِيلِ فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ، أَيْ لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِتَعْدِلُوا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ (عَنْ)، أَيْ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى عَنِ الْعَدْلِ، أَيْ مُعْرِضِينَ عَنْهُ.
وَقَدْ عَرَفْتُ قَاضِيًا لَا مَطْعَنَ فِي ثِقَتِهِ وَتَنَزُّهِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُبْتَلًى بِاعْتِقَادِ أَنَّ مَظِنَّةَ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ لَيْسُوا إِلَّا ظَلَمَةً: مِنْ أَغْنِيَاءَ أَوْ رِجَالٍ. فَكَانَ يَعْتَبِرُ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مَحْقُوقَيْنِ فَلَا يَسْتَوْفِي التَّأَمُّلَ مِنْ حُجَجِهِمَا.
227
وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَهَى وَحَذَّرَ، عَقَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالتَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَلْوُوا- بِلَامٍ سَاكِنَةٍ وَوَاوَيْنِ بَعْدَهَا، أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ- فَهُوَ مُضَارِعُ لَوَى، وَاللَّيُّ: الْفَتْلُ وَالثَّنْيُ. وَتَفَرَّعَتْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَعَانٍ شَاعَتْ فَسَاوَتِ الْحَقِيقَةَ، مِنْهَا: عُدُولٌ عَنْ جَانِبٍ وَإِقْبَالٌ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَإِذَا عُدِّيَ بِعَنْ فَهُوَ انْصِرَافٌ عَنِ الْمَجْرُورِ بِعَنْ، وَإِذَا عُدِّيَ بِإِلَى فَهُوَ انْصِرَافٌ عَنْ جَانِبٍ كَانَ فِيهِ، وَإِقْبَالٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِعَلَى، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ [آل عمرَان: ١٥٣] أَيْ لَا تَعْطِفُونَ عَلَى أَحَدٍ. وَمِنْ مَعَانِيهِ: لَوَى عَنِ الْأَمْرِ تَثَاقَلَ، وَلَوَى أَمْرَهُ عَنِّي أَخْفَاهُ، وَمِنْهَا: لَيُّ اللِّسَانِ، أَيْ تَحْرِيفُ الْكَلَامِ فِي النُّطْقِ بِهِ أَوْ فِي مَعَانِيهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٨]، وَقَوْلِهِ: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٦].
فَمَوْقِعُ فِعْلِ تَلْوُوا هُنَا مَوْقِعٌ بَلِيغٌ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِتَقْدِيرِ مُتَعَلِّقِهِ الْمَحْذُوفِ مَجْرُورًا بِحَرْفِ (عَنْ) أَوْ مَجْرُورًا بِحَرْفِ (عَلَى) فَيَشْمَلُ مَعَانِيَ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِّ فِي الْحُكْمِ، وَالْعُدُولِ عَنِ الصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، أَوِ التَّثَاقُلِ فِي تَمْكِينِ الْمُحِقِّ مِنْ حَقِّهِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِطَالِبِهَا، أَوِ الْمِيلِ فِي أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ فَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْقَضَاءِ وَمِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْمُمَاطَلَةُ فِي الْحُكْمِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ، وَهُوَ غَيْرُ اللَّيِّ كَمَا رَأَيْتَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَخلف: وَإِنْ تَلْوُوا- بِلَامٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ- فَقِيلَ: هُوَ مُضَارِعُ وَلِيَ
الْأَمْرَ، أَيْ بَاشَرَهُ. فَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَلُوا الْقَضَاءَ بَيْنَ الْخُصُومِ، فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: أَنْ تَعْدِلُوا وَلَا يَتَّجِهُ رُجُوعُهُ إِلَى الشَّهَادَةِ، إِذْ لَيْسَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِوِلَايَةٍ. وَالْوَجْهُ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَخْفِيفُ تَلْوُوا نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا فَالْتَقَى وَاوَانِ سَاكِنَانِ فَحُذِفَ أَحَدُهُمَا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً كِنَايَةٌ عَنْ وَعِيدٍ، لِأَنَّ الْخَبِيرَ بِفَاعِلِ السُّوءِ، وَهُوَ قَدِيرٌ، لَا يُعْوِزُهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ ب «إنّ» و «كَانَ».
228

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٣٦]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)
تَذْيِيلٌ عُقِّبَ بِهِ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ عَقِبَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ جَامِعٌ لِمَعَانِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ: بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَيَدُومُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَيَحْذَرُوا مَسَارِبَ مَا يُخِلُّ بِذَلِكَ.
وَوَصْفُ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا، وَإِرْدَافُهُ بِأَمْرِهِمْ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إِلَى آخِرِهِ يُرْشِدُ السَّامِعَ إِلَى تَأْوِيلِ الْكَلَامِ تَأْوِيلًا يَسْتَقِيمُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهِمْ آمَنُوا وَكَوْنِهِمْ مَأْمُورِينَ بِإِيمَانٍ، وَيَجُوزُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ خَمْسَةُ مَسَالِكَ:
الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: تَأْوِيلُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُ إِيمَانٌ مُخْتَلٌّ مِنْهُ بَعْضُ مَا يَحِقُّ الْإِيمَانُ بِهِ، فَيَكُونُ فِيهَا خِطَابٌ لِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ آمَنُوا، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَأَسَدٌ وَأُسَيْدٌ ابْنَا كَعْبٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَسَلَامُ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلَمَةُ ابْنُ أَخِيهِ، وَيَامِينُ بْنُ يَامِينَ، سَأَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَبِكِتَابِهِ، كَمَا آمَنُوا بِمُوسَى وَبِالتَّوْرَاةِ، وَأَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِالْإِنْجِيلِ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْوَاحِدِيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ فِي الْإِيمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنَّهُ إِيمَانٌ كَامِلٌ لَا تَشُوبُهُ كَرَاهِيَةُ بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ، تَحْذِيرًا مِنْ ذَلِكَ. فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ آمَنُوا صَارَ كَاللَّقَبِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَا عُطِفَ عَلَى اسْمِهِ هُنَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِأَمْرِهِمْ بِذَلِكَ: إِمَّا زِيَادَةُ تَقْرِيرِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَتَكْرِيرُ اسْتِحْضَارِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى لَا يَذْهَلُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ اهْتِمَامًا بِجَمِيعِهِ وَإِمَّا النَّهْيُ عَنْ إِنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى
مُوسَى وَإِنْكَارِ نُبُوءَتِهِ، لِئَلَّا يَدْفَعَهُمْ بُغْضُ الْيَهُودِ وَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الشَّنَآنِ إِلَى مُقَابَلَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يُصَرِّحُ بِهِ الْيَهُودُ مِنْ تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا أُرِيدَ بِهِ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
229
ثُمَّ يُنْكِرُونَ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُنْكِرُونَ الْقُرْآنَ، حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ لِذَلِكَ، وَهُمُ الْيَهُودُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْمَلُ الْأُمَمِ إِيمَانًا، وَأَوْلَى النَّاسِ بِرُسُلِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ، فَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ يَسُودُوا غَيْرَهُمْ لِسَلَامَةِ إِيمَانِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ فَضَائِلِ أَهْلِ الْفَضَائِلِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ «وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ»، وَيَزِيدُ ذَلِكَ تَأْيِيدًا أَنَّهُ قَالَ: وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَطَفَهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَنْ يَكْفُرُ بِهَا فَقَدْ ضَلَّ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ الْيَهُودُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِيمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ.
الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ الدَّوَامُ عَلَيْهِ تَثْبِيتًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ الِارْتِدَادِ، فَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، وَلِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النِّسَاء: ١٣٧] الْآيَةَ.
الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُنَافِقِينَ، يَعْنِي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ أَخْلِصُوا إِيمَانَكُمْ حَقًّا.
الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ بِأَنَّهُ طَلَبٌ لِثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْجُبَّائِيُّ. وَهُوَ الْجَارِي عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ جَعَلُوا الْآيَةَ شَاهِدًا لِاسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ الْجِنْسُ، وَالتَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ يَعْنِي: وَالْكُتُبُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ «وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ».
وَقَرَأَ نَافِعٌ. وَعَاصِمٌ. وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: «نَزَّلَ- وَأنزل» - كِلَيْهِمَا بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو- بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ-.
وَجَاءَ فِي صِلَةِ وَصْفِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ بِصِيغَةِ التَّفْعِيلِ، وَفِي صِلَةِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ بِصِيغَةِ الْإِفْعَالِ تَفَنُّنًا، أَوْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ حِينَئِذٍ بِصَدَدِ النُّزُولِ نُجُومًا، وَالتَّوْرَاةَ يَوْمَئِذٍ قَدِ انْقَضَى نُزُولُهَا. وَمَنْ قَالَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مُنَجَّمًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ فَقَدْ أَخْطَأَ إِذْ لَا يُعْرَفُ كِتَابٌ نَزَلَ دفْعَة وَاحِدَة.
230

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٣٧]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧)
اسْتِئْنَافٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ [النِّسَاء: ١٣٦] الْآيَةَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكُفْرُ كَمَا عَلِمْتَ، فَمَا ظَنُّكَ بِكُفْرٍ مُضَاعَفٍ يُعَاوِدُهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ، وَزَالَتْ عَنْهُ عَوَائِقُ الِاعْتِرَافِ بِالصِّدْقِ، فَكُفْرُهُ بِئْسَ الْكُفْرُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ أَشَارَتْ إِلَى الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ إِذْ عَبَدُوا الْعِجْلَ، ثُمَّ آمَنُوا بِمُوسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ تَكُونُ مِنَ الذَّمِّ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى الْأُمَّةِ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ سَلَفِهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ حُكْمٌ لَا ذَمٌّ، لِقَوْلِهِ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَفَرُوا إِذْ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَلَكِنَّهُمْ تَابُوا فَمَا اسْتَحَقُّوا عَدَمَ الْمَغْفِرَةِ وَعَدَمَ الْهِدَايَةِ، كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: ٥٤]، وَلِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مَا عَبَدُوا الْعِجْلَ حَتَّى يُعَدَّ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ الْأَوَّلُ، عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كَفَرُوا غَيْرَ مَرَّةٍ فِي تَارِيخِهِمْ فَكَفَرُوا بَعْدَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ وَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ، وَكَفَرُوا فِي زَمَنِ بُخْتُنَصَّرَ. وَالظَّاهِرُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أَنَّهُمْ كَفَرُوا كَفْرَةً أُخْرَى، بَلِ الْمُرَادُ الْإِجْمَالُ، أَيْ ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ الْوَاقِفُ: وَأَوْلَادُهُمْ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْجِيلِ الثَّالِثِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِينَ عُرِفَ مِنْ دَأْبِهِمُ الْخِفَّةُ إِلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَإِلَى خَلْعِ رِبْقَةِ الدِّيَانَةِ، هُمْ قَوْمٌ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ صُنْعُهُمْ إِذْ كَانَ ذَلِكَ عَنِ اسْتِخْفَافٍ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ إِذْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ إِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ كَفَرُوا، وَلَا قَصْدَ حِينَئِذٍ إِلَى عَدَدِ الْإِيمَانَاتِ وَالْكَفَرَاتِ. وَعِنْدِي: أَنَّهُ يَعْنِي أَقْوَامًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَتَّجِرُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيُؤْمِنُونَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ كَفَرُوا وَتَكَرَّرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: ٨٨].
231
وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَاسْمُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ... كَفَرُوا مُرَادٌ مِنْهُ فَرِيقٌ مَعْهُودٌ، فَالْآيَةُ وَعِيدٌ لَهُمْ وَنِذَارَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الْهُدَى فَلَمْ يَكُنْ لِيَغْفِرَ لَهُمْ، لِأَنَّهُ حَرَمَهُمْ سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ مِنْ أَحْوَالِ الْكُفْرِ مَا لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ بَعْدَهُ. فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَلَوْ كَفَرَ الْمَرْءُ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذُّنُوبِ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شِبْهُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٩٠] وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَخْبَرَ بِنَفْيِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ، فَإِذَنْ لَا فَائِدَةَ فِي الطَّلَبِ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ، فَهَلْ هُمْ مَخْصُوصُونَ مِنْ آيَاتِ عُمُومِ الدَّعْوَةِ.
قُلْتُ: الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، كَأَبِي جَهْلٍ، وَلَمْ يُخْبِرْ نَبِيئَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ مَعَ عُمُومِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ لَمْ يُنْصَبْ عَلَيْهِ أَمَارَةٌ، كَمَا عُلِمَ مِنْ مَسْأَلَةِ (التَّكْلِيف بالمحال الْعَارِض) فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَوْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَارِفَةً عَنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ فَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ إِيمَانِهِ وَلَمْ يُخْبِرْ بِهِ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ ضَابِطٌ يَتَحَقَّقُ بِهِ أَنَّهُمْ دُعُوا بِأَعْيَانِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا.
وَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أَبْلَغُ مِنْ: لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ، لِأَنَّ أَصْلَ وَضْعِ هَذِهِ الصِّيغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اسْمَ كَانَ لَمْ يُجْعَلْ لِيَصْدُرَ مِنْهُ خَبَرُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَمْ يُجْعَلُ لِشَيْءٍ يَكُونُ نَابِيًا عَنْهُ، لِأَنَّهُ ضِدُّ طَبْعِهِ، وَلَقَدْ أَبْدَعَ النُّحَاةُ فِي تَسْمِيَةِ اللَّامِ الَّتِي بَعْدَ كَانَ الْمَنْفِيَّةِ (لَام الْجُحُود).
232

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٣٨ إِلَى ١٤١]

بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)
اسْتِئْنَاف ابتدائي ناشىء عَنْ وَصْفِ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا، فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مُظْهِرِينَ الْكُفْرَ بِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ ثَمَّةَ طَائِفَةٌ تُبْطِنُ الْكُفْرَ وَهُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ، وَلَمَّا كَانَ التَّظَاهُرُ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ تَعْقِيبُهُ بِالْكُفْرِ ضَرْبًا مِنَ التَّهَكُّمِ بِالْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، جِيءَ فِي جَزَاءِ عَمَلِهِمْ بِوَعِيدٍ مُنَاسِبٍ لِتَهَكُّمِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ إِذْ قَالَ: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ، فَإِنَّ الْبِشَارَةَ هِيَ الْخَبَرُ بِمَا يَفْرَحُ الْمُخْبَرُ بِهِ، وَلَيْسَ الْعَذَابُ كَذَلِكَ، وَلِلْعَرَبِ فِي التَّهَكُّمِ أَسَالِيبُ كَقَوْلِ شَقِيقِ ابْن سُلَيْكٍ الْأَسَدِيِّ:
أَتَانِي مِنْ أَبِي أنس وَعِيد فسلىّ لِغَيْظَةِ الضَّحَّاكِ جِسْمِي
وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
فَإِنَّكَ سَوْفَ تَحْلُمُ أَوْ تَنَاهَى إِذَا مَا شِبْتَ أَوْ شَابَ الْغُرَابُ
وَقَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ:
نُبِّئْتُ عَمْرًا غَارِزًا رَأْسَهُ فِي سِنَةٍ يُوعِدُ أَخْوَالَهُ
233
وَمَجِيءُ صِفَتِهِمْ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِ لِإِفَادَةِ تَعْلِيلِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، أَيْ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيِ اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ لِأَجْلِ مُضَادَّةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ مُشْرِكُو مَكَّةَ، أَوْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِالْمَدِينَةِ مُشْرِكُونَ صُرَحَاءُ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَيْسَ إِلَّا مُنَافِقُونَ وَيَهُودُ. وَجُمْلَةُ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَقَوْلُهُ: أَيَبْتَغُونَ هُوَ مَنْشَأُ الِاسْتِئْنَافِ، وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ تَكُنْ مُوَالَاتُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ لِأَجْلِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الدِّينِ وَالْعَقِيدَةِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ، بَلِ اتَّخَذُوهُمْ لِيَعْتَزُّوا بِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ شَعَرُوا بِالضَّعْفِ فَطَلَبُوا الِاعْتِزَازَ، وَفِي ذَلِكَ نِهَايَةُ التَّجْهِيلِ وَالذَّمِّ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ، وَلِذَلِكَ صَحَّ التَّفْرِيعُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أَيْ لَا عِزَّةَ إِلَّا بِهِ، لِأَنَّ الِاعْتِزَازَ بِغَيْرِهِ بَاطِلٌ. كَمَا قِيلَ: مَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِ اللَّهِ هَانَ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْيَهُودَ فَالِاسْتِفْهَامُ تَهَكُّمٌ بِالْفَرِيقَيْنِ كَقَوْلِ الْمَثَلِ: كَالْمُسْتَغِيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ التَّحْذِيرَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ تَذْكِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا كَانُوا أُعْلِمُوا بِهِ مِمَّا يُؤَكِّدُ التَّحْذِيرَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ، فَضَمِيرُ الْخِطَابِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ (يَتَّخِذُونَ)، فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ خِطَابًا لِأَصْحَابِ الصِّلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ [النِّسَاء: ١٣٩] عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، كَأَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّلَةُ صَارُوا مُعَيَّنِينَ مَعْرُوفِينَ، فَالْتُفِتَ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ تِلْكَ الصِّلَةِ، فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ. وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ الْخِطَابِ لِلْمُنَافِقِينَ، وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ لِلْكَافِرِينَ، وَالَّذِي نُزِّلَ فِي الْكِتَابِ هُوَ آيَاتٌ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْقُرْآنِ: فِي شَأْنِ كُفْرِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاسْتِهْزَائِهِمْ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ هُنَا هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ [٦٨] الْأَنْعَامِ:
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْكَافِرِينَ يَسْرِي إِلَى الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَالظَّاهِرُ أَنِ الَّذِي أَحَالَ اللَّهُ عَلَيْهِ هُوَ مَا
234
تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ مِمَّا حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِهِ تَقَرُّرُ هَذَا الْمَعْنَى.
وَ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ تَفْسِيرِيَّةٌ، لِأَنَّ (نُزِّلَ) تَضَمَّنَ مَعْنَى الْكَلَامِ دُونَ حُرُوفِ الْقَوْلِ، إِذْ لَمْ يَقْصِدْ حِكَايَةَ لَفْظِ (مَا نُزِّلَ) بَلْ حَاصِلَ مَعْنَاهُ. وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمَهَا ضَمِيرَ شَأْنٍ مَحْذُوفًا، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَإِسْنَادُ الْفِعْلَيْنِ: يُكْفَرُ ويُسْتَهْزَأُ إِلَى الْمَجْهُولِ لِتَتَأَتَّى، بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، صَلَاحِيَةُ إِسْنَادِ الْفِعْلَيْنِ إِلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَرْكَنُونَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِالْآيَاتِ وَيَسْتَهْزِئُونَ، فَتَنْثَلِجُ لِذَلِكَ نُفُوسُ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَتَظَاهَرُوا بِذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَشْفِي غَلِيلَهُمْ أَنْ يَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَقَدْ جُعِلَ زَمَانُ كُفْرِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ هُوَ زَمَنُ سَمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ آيَاتِ اللَّهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ زَمَنُ نُزُولِ آيَاتِ اللَّهِ أَوْ قِرَاءَةِ آيَاتِ اللَّهِ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى سَمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، لِيُشِيرَ إِلَى عَجِيبِ تضادّ الْحَالين، فلفي حَالَةِ اتِّصَافِ الْمُنَافِقِينَ بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْهَزْلِ بِآيَاتِهِ يَتَّصِفُ الْمُؤْمِنُونَ بِتَلَقِّي آيَاتِهِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا وَقَصْدِ الْوَعْيِ لَهَا وَالْعَمَلِ بِهَا.
وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَفْرِيعِ النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ حَتَّى يَنْتَقِلُوا إِلَى غَيْرِهَا، لِئَلَّا يَتَوَسَّلَ الشَّيْطَانُ بِذَلِكَ إِلَى اسْتِضْعَافِ حِرْصِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ لِلْأَخْلَاقِ عَدْوَى، وَفِي الْمَثَلِ «تُعْدِي الصِّحَاحَ مَبَارِكُ الْجُرْبِ».
وَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِمُغَادَرَةِ مَجَالِسِهِمْ إِذَا خَاضُوا فِي الْكُفْرِ بِالْآيَاتِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا. وَفِي النَّهْيِ عَنِ الْقُعُودِ إِلَيْهِمْ حِكْمَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ وُجُوبُ إِظْهَارِ الْغَضَبِ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة: ١].
وَ (حَتَّى) حَرْفٌ يَعْطِفُ غَايَةَ الشَّيْءِ عَلَيْهِ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهم غَايَته أم يَكُفُّوا عَنِ الْخَوْضِ فِي الْكُفْرِ بِالْآيَاتِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا.
وَهَذَا الْحُكْمُ تَدْرِيجٌ فِي تَحْرِيمِ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَافِرِينَ، جُعِلَ مَبْدَأُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَحْضُرُوا مَجَالِسَ كُفْرِهِمْ لِيَظْهَرَ التَّمَايُزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَّصِ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ، وَرُخِّصَ
235
لَهُمُ الْقُعُودُ مَعَهُمْ إِذْ خَاضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِ حَدِيثِ الْكُفْرِ. ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التَّوْبَة: ٢٣، ٢٤].
وَجُعِلَ جَوَابُ الْقُعُودِ مَعَهُمُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِآيَاتِ اللَّهِ إِذْ قَالَ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فَإِنَّ (إِذَنْ) حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ لِكَلَامٍ مَلْفُوظٍ بِهِ أَوْ مُقَدَّرٍ. وَالْمُجَازَاةُ هُنَا لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: إِنْ قَعَدْتُمْ مَعَهُمْ إِذَنْ إِنَّكُمْ مِثْلُهُمْ. وَوُقُوعُ إِذَنْ جَزَاءً لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الْعَنْبَرِيِّ:
وَتِلْكَ مِنْهُ غَيْرُ مَأْمُونَةٍ أَنْ يَفْعَلَ الشَّيْءَ إِذَا قَالَهُ
لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ شَيْبَانَا
إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لَوْثَةٍ لَانَا
قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» :«وَفَائِدَةُ (إِذَنْ) هُوَ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبَيْتَ الثَّانِيَ مَخْرَجَ جَوَابِ قَائِلٍ لَهُ: وَلَوِ اسْتَبَاحُوا مَاذَا كَانَ يَفْعَلُ بَنُو مَازِنٍ؟ فَقَالَ: إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ». قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: ٤٨]. التَّقْدِيرُ: فَلَوْ كُنْتَ تَتْلُو وَتَخُطُّ إِذَنْ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.
فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْجَزَاءَ فِي قَوْله: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا عَنِ النَّهْيِ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ:
لَا تَتْرُكَنِّي فِيهِمْ شَطِيرَا إِنِّي إِذَنْ أَهْلِكَ أَوْ أَطِيرَا
وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَجْلِسُونَ هَذِهِ الْمَجَالِسَ فَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى تَغْيِيرِ هَذَا وَلَا يَقُومُونَ عَنْهُمْ تَقِيَّةً لَهُمْ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ لَهُمْ خَارِجَةٌ مَخْرَجَ التَّغْلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، وَلَا يَصِيرُ الْمُؤْمِنُ مُنَافِقًا بِجُلُوسِهِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَأُرِيدَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ لَا فِي مِقْدَارِهَا، أَيْ أَنَّكُمْ تَصِيرُونَ مِثْلَهُمْ فِي التَّلَبُّسِ بِالْمَعَاصِي.
236
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً تَحْذِيرٌ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ سَوَاءٌ فِي عَدَوَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَعِيدٌ لِلْمُنَافِقِينَ بِعَدَمِ جَدْوَى
إِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ لَهُمْ.
وَجُمْلَةُ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ صِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَحْدَهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ.
وَالتَّرَبُّصُ حَقِيقَةً فِي الْمُكْثِ بِالْمَكَانِ، وَقَدْ مَرَّ قَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٨]. وَهُوَ مَجَازٌ فِي الِانْتِظَارِ وَتَرَقُّبِ الْحَوَادِثِ. وَتَفْصِيلُهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ الْآيَاتِ. وَجُعِلَ مَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ فَتْحًا لِأَنَّهُ انْتِصَارٌ دَائِمٌ، وَنُسِبَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُقَدِّرُهُ وَمُرِيدُهُ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ وَمُعْجِزَاتٍ بَيِّنَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَا حَظَّ لِلْيَهُودِ فِي الْحَرْبِ، وَجُعِلَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ النَّصْرِ نَصِيبًا تَحْقِيرًا لَهُ، وَالْمُرَادُ نَصِيبٌ مِنَ الْفَوْزِ فِي الْقِتَالِ.
وَالِاسْتِحْوَاذُ: الْغَلَبَةُ وَالْإِحَاطَةُ، أَبْقَوُا الْوَاوَ عَلَى أَصْلِهَا وَلَمْ يَقْلِبُوهَا أَلِفًا بَعْدَ الْفَتْحَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَهَذَا أَحَدُ الْأَفْعَالِ الَّتِي صُحِّحَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِثْلَ:
اسْتَجْوَبَ، وَقَدْ يَقُولُونَ: اسْتَحَاذَ عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا يَقُولُونَ: اسْتَجَابَ وَاسْتَصَابَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ. وَمَعْنَى أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ألم نتولّ شؤونكم وَنُحِيطْ بِكُمْ إِحَاطَةَ الْعِنَايَةِ وَالنُّصْرَةِ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ مِنْ أَنْ يَنَالَكُمْ بِأْسُهُمْ، فَالْمَنْعُ هُنَا إِمَّا مَنْعٌ مَكْذُوبٌ يُخَيِّلُونَهُ الْكُفَّارَ وَاقِعًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَإِمَّا مَنْعٌ تَقْدِيرِيٌّ وَهُوَ كَفُّ النُّصْرَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّجَسُّسُ عَلَيْهِمْ بِإِبْلَاغِ أَخْبَارِهِمْ لِلْكَافِرِينَ، وَإِلْقَاءُ الْأَرَاجِيفِ وَالْفِتَنِ بَيْنَ جُيُوشِ الْمُؤْمِنِينَ، وكلّ ذَلِك ممّ يُضْعِفُ بَأْسَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ وَقَعَ، وَهَذَا الْقَوْلُ كَانَ يَقُولُهُ مَنْ يَنْدَسُّ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْغَزَوَاتِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ جُيُوشُ الْمُشْرِكِينَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ مِثْلَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ.
وَقَوْلُهُ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ الْفَاءُ لِلْفَصِيحَةِ، وَالْكَلَامُ إِنْذَارٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَكِفَايَةٌ لِمُهِمِّ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَنْ فُوِّضَ أَمْرُ جَزَاءِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى مَكَائِدِهِمْ وَخُزَعْبِلَاتِهِمْ إِلَيْهِ تَعَالَى.
237
وَقَوْلُهُ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا تَثْبِيتٌ للْمُؤْمِنين، لأنّ مثيل هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنْ دَخَائِلِ الْأَعْدَاءِ وَتَأَلُّبِهِمْ: مِنْ عَدُوٍّ مُجَاهِرٍ بِكُفْرِهِ. وَعَدُوٍّ مُصَانِعٍ مُظْهِرٍ لِلْأُخُوَّةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْبَالِغَةِ أَقْصَى الْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ، يُثِيرُ مَخَاوِفَ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ يُخَيِّلُ لَهُمْ مَهَاوِيَ الْخَيْبَةِ فِي مُسْتَقْبَلِهِمْ. فَكَانَ مِنْ شَأْنِ التَّلَطُّفِ بِهِمْ أَنْ يُعَقِّبَ
ذَلِكَ التَّحْذِيرَ بِالشَّدِّ عَلَى الْعَضُدِ، وَالْوَعْدِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْكَافِرِينَ، وَإِنْ تَأَلَّبَتْ عِصَابَاتُهُمْ. وَاخْتَلَفَتْ مَنَاحِي كُفْرِهِمْ، سَبِيلًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّبِيلِ طَرِيقُ الْوُصُولِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْهَزِيمَةِ وَالْغَلَبَةِ، بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِعَلَى، وَلِأَنَّ سَبِيلَ الْعَدُوِّ إِلَى عَدُوِّهِ هُوَ السَّعْيُ إِلَى مَضَرَّتِهِ، وَلَوْ قَالَ لَكَ الْحَبِيبُ: لَا سَبِيلَ إِلَيْكَ، لَتَحَسَّرْتَ وَلَوْ قَالَ لَكَ الْعَدُوُّ: لَا سَبِيلَ إِلَيْكَ لَتَهَلَّلْتَ بِشْرًا، فَإِذَا عُدِّيَ بِعَلَى صَارَ نَصًّا فِي سَبِيلِ الشَّرِّ وَالْأَذَى، فَالْآيَةُ وَعْدٌ مَحْضُ دُنْيَوِيٍّ، وَلَيْسَتْ مِنَ التَّشْرِيعِ فِي شَيْءٍ، وَلَا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ فِي شَيْءٍ لِنُبُوِّ الْمَقَامِ عَنْ هَذَيْنِ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ وَعْدًا لَمْ يَجُزْ تَخَلُّفُهُ. وَنَحْنُ نَرَى الْكَافِرِينَ يَنْتَصِرُونَ على الْمُؤمنِينَ انتصرا بَيِّنًا، وَرُبَّمَا تَمَلَّكُوا بِلَادَهُمْ وَطَالَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تَأْوِيلُ هَذَا الْوَعْدِ. قُلْتُ: إِنْ أُرِيدَ بِالْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ الطَّائِفَتَانِ الْمَعْهُودَتَانِ بِقَرِينَةِ الْقِصَّةِ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَاقِبَةَ النَّصْرِ أَيَّامَئِذٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقَطَعَ دَابِرَ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ ثُقِفُوا وَأُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا وَدَخَلَتْ بَقِيَّتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَأَصْبَحُوا أَنْصَارًا لِلدِّينِ وَإِنْ أُرِيدَ الْعُمُومُ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ الَّذِينَ تَلَبَّسُوا بِالْإِيمَانِ بِسَائِرِ أَحْوَالِهِ وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَلَوِ اسْتَقَامَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ لَمَا نَالَ الْكَافِرُونَ مِنْهُمْ مَنَالًا، وَلَدَفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ خيبة وخبالا.
[١٤٢، ١٤٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٤٢ إِلَى ١٤٣]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
238
(١٤٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، فِيهِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَسَاوِيهِمْ. وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ حَالَتِهِمُ الْعَجِيبَةِ وَتَحْقِيقِ مَا عَقَبَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ خادِعُهُمْ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى مُخَادَعَةِ الْمُنَافِقِينَ اللَّهَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩] عِنْدَ قَوْلِهِ:
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا.
وَزَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ خادِعُهُمْ
أَيْ فَقَابَلَهُمْ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ، فَكَمَا كَانَ فِعْلُهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ خِدَاعًا لِلَّهِ تَعَالَى، كَانَ إِمْهَالُ اللَّهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى اطْمَأَنُّوا وَحَسِبُوا أَنَّ حِيلَتَهُمْ وَكَيْدَهُمْ رَاجَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ نَاصِرَهُمْ، وَإِنْذَارُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِكَيْدِهِمْ حَتَّى لَا تَنْطَلِيَ عَلَيْهِمْ حِيَلُهُمْ، وَتَقْدِيرُ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ بِأَخَرَةٍ، شَبِيهًا
بِفعل المخادع جُزْءا وِفَاقًا. فَإِطْلَاقُ الْخِدَاعِ عَلَى اسْتِدْرَاجِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، وَحَسَّنَتْهَا الْمُشَاكَلَةُ لِأَنَّ الْمُشَاكَلَةَ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ اسْتِعَارَةَ لَفْظٍ لِغَيْرِ مَعْنَاهُ مَعَ مَزِيدِ مُنَاسَبَةٍ مَعَ لَفْظٍ آخَرَ مِثْلِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعَارِ. فَالْمُشَاكَلَةُ ترجع إِلَى التلميح، أَيْ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ عَلَاقَةٌ بَيْنَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى الْمُرَادِ إِلَّا مُحَاكَاةَ اللَّفْظِ، سُمِّيَتْ مُشَاكَلَةٌ كَقَوْلِ أَبِي الرَّقَعْمَقِ.
قَالُوا: اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ... قُلْتُ: أَطْبِخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا
وَ «كُسَالَى» جَمْعُ كَسْلَانَ عَلَى وَزْنِ فُعَالَى، وَالْكَسْلَانُ الْمُتَّصِفُ بِالْكَسَلِ، وَهُوَ الْفُتُورُ فِي الْأَفْعَالِ لِسَآمَةٍ أَوْ كَرَاهِيَةٍ. وَالْكَسَلُ فِي الصَّلَاةِ مُؤْذِنٌ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ الْمُصَلِّي بِهَا وَزُهْدِهِ فِي فِعْلِهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شِيَمِ الْمُنَافِقِينَ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَذَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْ تَجَاوُزِ حَدِّ النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ خَشْيَةَ السَّآمَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ «عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تملّوا». وَنهى على الصَّلَاةِ وَالْإِنْسَانُ يُرِيدُ حَاجَتَهُ، وَعَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ حُضُورِ الطَّعَامِ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَكُونَ إِقْبَالُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الصَّلَاةِ بِشَرَهٍ وَعَزْمٍ، لِأَنَّ
239
النَّفْسَ إِذَا تَطَرَّقَتْهَا السَّآمَةُ مِنَ الشَّيْءِ دَبَّتْ إِلَيْهَا كَرَاهِيَتُهُ دَبِيبًا حَتَّى تَتَمَكَّنَ مِنْهَا الْكَرَاهِيَةُ، وَلَا خَطَرَ عَلَى النَّفْسِ مِثْلُ أَنْ تَكْرَهَ الْخَيْرَ.
وَ «كُسَالَى» حَالٌ لَازِمَةٌ مِنْ ضَمِيرِ (قامُوا)
، لِأَنَّ قَامُوا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَقَعَ وَحْدَهُ جَوَابًا لِ «إِذَا» الَّتِي شَرْطُهَا «قَامُوا»، لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ مُجَرَّدًا لَكَانَ الْجَوَابُ عَيْنَ الشَّرْطِ، فَلَزِمَ ذِكْرُ الْحَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: ٧٢] وَقَوْلِ الْأَحْوَصِ الْأَنْصَارِيِّ:
فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الأقران
وَجُمْلَة يُراؤُنَ النَّاسَ
حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَوْ صِفَةٌ لِ (كُسَالَى)، أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ جَوَابِ مَنْ يَسْأَلُ: مَاذَا قَصْدُهُمْ بِهَذَا الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ وَهَلَّا تَرَكُوا هَذَا الْقِيَامَ مِنْ أَصْلِهِ، فَوَقَعَ الْبَيَانُ بِأَنَّهُمْ يُرَاءُونَ بصلاتهم النَّاس. ويُراؤُنَ
فِعْلٌ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُرُونَ النَّاسَ صَلَاتَهُمْ وَيُرِيهِمُ النَّاسُ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِرَاءَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي بَابِ الْمُفَاعَلَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
مَعْطُوف على يُراؤُنَ
إِن كَانَ يُراؤُنَ
حَالًا أَوْ صِفَةً، وَإِن كَانَ يُراؤُنَ
اسْتِئْنَاف فَجُمْلَةُ وَلا يَذْكُرُونَ
حَالٌ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ: وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ بِالصَّلَاةِ إِلَّا قَلِيلًا. فَالِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مِنْ أَزْمِنَةِ الذِّكْرِ، أَيْ إِلَّا
وَقْتًا قَلِيلًا، وَهُوَ وَقْتُ حُضُورِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ مَعَهُمْ حِينَئِذٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ بِالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ، وَإِمَّا مِنْ مَصْدَرِ يَذْكُرُونَ
، أَيْ إِلَّا ذِكْرًا قَلِيلًا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي يُرَاءُونَ بِهَا، وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْ تَرْكِهِ مِثْلَ: التَّأْمِينِ، وَقَوْلِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَالتَّكْبِيرِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَقُولُونَهُ مِنْ تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ، وَقِرَاءَةِ رَكَعَاتِ السِّرِّ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ وَلا يَذْكُرُونَ
مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا قامُوا
، فَهِيَ خَبَرٌ عَنْ خِصَالِهِمْ، أَيْ هُمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا حَالًا قَلِيلًا أَوْ زَمَنًا قَلِيلًا وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي لَا يَخْلُو عَنْهُ عَبْدٌ يَحْتَاجُ لِرَبِّهِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، أَيْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِثْلَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْآيَةُ أَفَادَتْ عُبُودِيَّتَهُمْ وَكُفْرَهُمْ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ زِيَادَةً عَلَى كُفْرِهِمْ بِرَسُولِهِ وَقُرْآنِهِ.
ثُمَّ جَاءَ بِحَالٍ تُعَبِّرُ عَنْ جَامِعِ نِفَاقِهِمْ وَهِيَ قَوْلُهُ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ وَهُوَ حَالٌ من ضمير يُراؤُنَ.
240
وَالْمُذَبْذَبُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الذَّبْذَبَةِ. يُقَالُ: ذَبْذَبَهُ فَتَذَبْذَبَ. وَالذَّبْذَبَةُ: شِدَّةُ الِاضْطِرَابِ مِنْ خَوْفٍ أَوْ خَجَلٍ، قِيلَ: إِنَّ الذَّبْذَبَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَكْرِيرِ ذَبَّ إِذَا طَرَدَ، لِأَنَّ الْمَطْرُودَ يُعَجِّلُ وَيَضْطَرِبُ، فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَفَادَتْ كَثْرَةَ الْمَصْدَرِ بِالتَّكْرِيرِ، مَثْلَ زَلْزَلَ وَلَمْلَمَ بِالْمَكَانِ وَصَلْصَلَ وَكَبْكَبَ، وَفِيهِ لُغَةٌ بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، وَهِيَ الَّتِي تَجْرِي فِي عَامِّيَّتِنَا الْيَوْمَ، يَقُولُونَ: رَجُلٌ مُدَبْدَبٌ، أَيْ يَفْعَلُ الْأَشْيَاءَ عَلَى غَيْرِ صَوَابٍ وَلَا تَوْفِيقٍ. فَقِيلَ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدُّبَّةِ- بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ- أَيِ الطَّرِيقَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْلُكُ مَرَّةً هَذَا الطَّرِيقَ وَمَرَّةً هَذَا الطَّرِيقَ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بَيْنَ ذلِكَ إِلَى مَا اسْتُفِيدَ من قَوْله: يُراؤُنَ النَّاسَ
لِأَنَّ الَّذِي يَقْصِدُ مِنْ فِعْلِهِ إِرْضَاءَ النَّاسِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ مُذَبْذَبًا، إِذْ يَجِدُ فِي النَّاسِ أَصْنَافًا مُتَبَايِنَةَ الْمَقَاصِدِ وَالشَّهَوَاتِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْإِشَارَةِ رَاجِعَةً إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَلَكِنْ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ، أَيْ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ طَرَفَيْنِ كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ.
وَجُمْلَةُ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ صِفَةٌ لِ مُذَبْذَبِينَ لِقَصْدِ الْكَشْفِ عَنْ مَعْنَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خَفَاءِ الِاسْتِعَارَةِ، أَوْ هِيَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ. وهؤُلاءِ أَحَدُهُمَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْآخَرُ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَافِرِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، إِذْ لَيْسَ فِي الْمَقَامِ إِلَّا فَرِيقَانِ فَأَيُّهَا جَعَلْتَهُ مُشَارًا إِلَيْهِ بِأَحَدِ اسْمَيِ الْإِشَارَةِ صَحَّ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى «فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ».
وَالتَّقْدِيرُ لَا هُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا هُمْ إِلَى الْكَافِرِينَ. وَ (إِلَى) مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ، أَيْ لَا ذَاهِبِينَ إِلَى هَذَا الْفَرِيقِ وَلَا إِلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَالذَّهَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ (إِلَى) ذَهَابٌ مَجَازِيٌّ وَهُوَ الِانْتِمَاءُ وَالِانْتِسَابُ، أَيْ هُمْ أَضَاعُوا النِّسْبَتَيْنِ فَلَا هُمْ مُسْلِمُونَ وَلَا هُمْ كَافِرُونَ ثَابِتُونَ، وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى (لَا) النَّافِيَةِ مُكَرَّرَةً فِي غَرَضَيْنِ: تَارَةً يَقْصِدُونَ بِهِ إِضَاعَةَ الْأَمْرَيْنِ، كَقَوْلِ إِحْدَى نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [الْقِيَامَة: ٣١] لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ [الْبَقَرَة: ٧١]. وَتَارَةً يَقْصِدُونَ بِهِ إِثْبَاتَ حَالَةٍ وَسَطٍ بَيْنَ حَالَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: ٣٥]- لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ [الْمَائِدَة:
٦٨]، وَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
فَلَا هُوَ أَخْفَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمِ
241
وَعَلَى الِاسْتِعْمَالَيْنِ فَمَعْنَى الْآيَةِ خَفِيٌّ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ إِثْبَاتَ حَالَةٍ وَسَطٍ لِلْمُنَافِقِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، لِأَنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَ مَعْنَاهُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْأَوَّلِ، أَيْ لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مِنَ الْكَافِرِينَ. وَهُمْ فِي التَّحْقِيقِ. ، إِلَى الْكَافِرِينَ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ.
كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: ١٣٩] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: ١٤١]. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَضَاعُوا الْإِيمَانَ وَالِانْتِمَاءَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَضَاعُوا الْكُفْرَ بِمُفَارَقَةِ نُصْرَةِ أَهْلِهِ، أَيْ كَانُوا بِحَالَةِ اضْطِرَابٍ وَهُوَ مَعْنَى التَّذَبْذُبِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْقِيرُهُمْ وَتَنْفِيرُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ صُحْبَتِهِمْ لِيَنْبِذَهُمُ الْفَرِيقَانِ.
وَقَوْلُهُ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا الْخِطَابُ لِغَيْرِ معّين، وَالْمعْنَى: لم تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إِلَى الْهُدَى بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ.
[١٤٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٤٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤)
أَقْبَلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ دَخَائِلَهُمْ وَاسْتِصْنَاعَهُمْ لِلْمُنَافِقِينَ لِقَصْدِ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُ لَوْلَا عَدَاوَةُ الْكَافِرِينَ لِهَذَا الدِّينِ لَمَا كَانَ النِّفَاقُ، وَمَا كَانَتْ تَصَارِيفُ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، لِأَنَّهَا تَوْجِيهُ خِطَابٍ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الْإِخْبَارِ
عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ. وَهَذِهِ آيَةٌ جَامِعَةٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ. فَالتَّحْذِيرُ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ، وَمن الْوُقُوع فِي النِّفَاق، لإن الْمُنَافِقين تظاهروا بِالْإِيمَان ووالوا الْكَافِرِينَ تَحْذِيرٌ مِنَ الِاسْتِشْعَارِ بِشِعَارِ النِّفَاقِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاءُ الْكَافِرِينَ، وَتَشْهِيرٌ بِنِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُولُوا: كُنَّا نَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مُوَالَاةَ الْكَافِرِينَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَافِرِينَ هُنَا مُشْرِكُو مَكَّةَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا فِي الْأَكْثَرِ مُوَالِينَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِمَّا يَبْعَثُ النَّاسَ عَلَى مَعْرِفَةِ جَزَاءِ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَصْدِ التَّشْهِيرِ بِالْمُنَافِقِينَ وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ، أَيْ أَنَّكُمْ إِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ جَعَلْتُمْ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ حُجَّةً وَاضِحَةً عَلَى فَسَادِ إِيمَانِكُمْ، فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ.
فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّحْذِيرِ وَالْإِنْذَارِ مَجَازًا مُرْسَلًا.
وَهَذَا السُّلْطَانُ هُوَ حُجَّةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْكُفْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ، أَوْ أُرِيدَ حُجَّةُ افْتِضَاحِهِمْ يَوْمَ الْحِسَابِ بِمُوَالَاةِ الْكَافرين، كَقَوْلِه: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاء: ١٦٥]. وَمِنْ هُنَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُجَّةِ قَطْعَ حُجَّةِ مَنْ يَرْتَكِبُ هَذِهِ الْمُوَالَاةَ والإعذار إِلَيْهِ.
[١٤٥، ١٤٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٤٥ إِلَى ١٤٦]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)
عَقَّبَ التَّعْرِيضَ بِالْمُنَافِقِينَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ كَمَا تَقَدَّمَ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَشَدُّ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا. فَإِنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ إِلَى ذِكْرِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْكَافرين أَوْلِيَاء معدودن مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ لِانْتِقَالَاتِ جُمَلِ الْكَلَامِ مَعَانِيَ لَا يُفِيدُهَا الْكَلَامُ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَرْتِيبِ الْخَوَاطِرِ فِي الْفِكْرِ.
243
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، ثَانِيًا إِذْ هِيَ عَوْدٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِإِفَادَةِ أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ.
وَالدَّرَكُ: اسْمُ جَمْعِ دَرَكَةٍ، ضِدُّ الدَّرَجِ اسْمُ جَمْعِ دَرَجَةٍ. وَالدَّرَكَةُ الْمَنْزِلَةُ فِي الْهُبُوطِ. فَالشَّيْءُ الَّذِي يُقْصَدُ أَسْفَلُهُ تَكُونُ مُنَازِلُ التَّدَلِّي إِلَيْهِ دَرَكَاتٍ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُقْصَدُ أَعْلَاهُ تَكُونُ مَنَازِلُ الرُّقِيِّ إِلَيْهِ دَرَجَاتٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ الِاسْمَانِ عَلَى الْمَنْزِلَةِ الْوَاحِدَةِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ، أَيْ فِي أَذَلِّ مَنَازِلِ الْعَذَابِ، لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَسْوَأُ الْكُفْرِ لِمَا حَفَّ بِهِ مِنَ الرَّذَائِلِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي الدَّرْكِ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جَمْعِ دَرَكَةٍ ضِدِّ الدَّرَجَةِ.
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ. وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِسُكُونِ الرَّاءِ- وَهُمَا لُغَتَانِ وَفَتْحُ الرَّاءِ هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ أَشْهَرُ.
وَالْخِطَابُ فِي وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ سَمَاعُ الْخِطَابِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْوَعِيدِ، وَقَطْعٌ لِرَجَائِهِمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ أَلِفُوا الشَّفَاعَاتِ وَالنَّجَدَاتِ فِي الْمَضَائِقِ. فَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ تَذْيِيلُ الْوَعِيدِ بِقَطْعِ الطَّمَعِ فِي النَّصِيرِ وَالْفِدَاءِ وَنَحْوِهِمَا.
وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ مَنْ آمَنَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَصْلَحَ حَالَهُ، وَاعْتَصَمَ بِاللَّهِ دُونَ الِاعْتِزَازِ بِالْكَافِرِينَ، وَأَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ، فَلَمْ يَشُبْهُ بِتَرَدُّدٍ وَلَا تَرَبَّصَ بِانْتِظَارِ مَنْ يَنْتَصِرُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ: الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ صَارَتْ حَالُهُ إِلَى هَذَا الْخَيْرِ فَهُوَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي لَفْظِ (مَعَ) إِيمَاءٌ إِلَى فَضِيلَةِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَصِمْ نَفْسَهُ بِالنِّفَاقِ لِأَنَّ (مَعَ) تَدَخُلُ عَلَى الْمَتْبُوع وَهُوَ الأفصل.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَابُوا، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ زَادَهُ هُنَا تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً. وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ هُنَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَجْرِ أَجْرُ الدُّنْيَا وَهُوَ النَّصْرُ وَحُسْنُ الْعَاقِبَةِ وَأَجْرُ الْآخِرَةِ، إِذِ الْكُلُّ مُسْتَقْبَلٌ، وَأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الثَّوَابَ لِأَنَّهُ حَصَلَ من قبل.
244

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٤٧]

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
تَذْيِيلٌ لِكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ: جُمْلَةِ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِاسْتِثْنَاءِ مَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ وَيُؤْمِنُ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاء: ١٤٦].
وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ ارْتِفَاقًا بِهِمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أُرِيدَ بِهِ الْجَوَابُ بِالنَّفْيِ فَهُوَ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَفْعَلُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا.
وَمَعْنَى يَفْعَلُ يَصْنَعُ وَيَنْتَفِعُ، بِدَلِيلِ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَعِيدَ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَإِذَا تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ غَفَرَ لَهُمُ الْعَذَابَ، فَلَا يَحْسَبُوا أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ لِكَرَاهَةٍ فِي ذَاتِهِمْ أَوْ تَشَفٍّ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ جَزَاءُ السُّوءِ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَيُجَازِي عَلَى الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ، وَعَلَى الْإِسَاءَةِ بِالْإِسَاءَةِ، فَإِذَا أَقْلَعَ الْمُسِيءُ عَنِ الْإِسَاءَةِ أَبْطَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ بِالسُّوءِ، إِذْ لَا يَنْتَفِعُ بِعَذَابٍ وَلَا بِثَوَابٍ، وَلَكِنَّهَا الْمُسَبِّبَاتُ تَجْرِي عَلَى الْأَسْبَابِ. وَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ ثَبَتُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ وَشُكْرِهِمْ،. وَتَجَنَّبُوا مُوَالَاةَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَاللَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ، إِذْ لَا مُوجِبَ لِعَذَابِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهُوَ إِعْلَامٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَطِّلُ الْجَزَاءَ الْحَسَنَ عَنِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَشْكُرُونَ نِعَمَهُ الْجَمَّةَ، وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَوَّلُ دَرَجَاتِ شُكْرِ العَبْد ربّه.

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٤٨ إِلَى ١٤٩]

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْآيِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا شَوَّهَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ وَشَهَّرَ بِفَضَائِحِهِمْ تَشْهِيرًا طَوِيلًا، كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ بِحَيْثُ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ نُفُورًا مِنَ النِّفَاقِ وَأَحْوَالِهِ، وَبُغْضًا لِلْمَلْمُوزِينَ بِهِ، وَخَاصَّةً بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ، وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ، فَحَذَّرَ اللَّهُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَغِيظَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَتَوَسَّمُونَ فِيهِ النِّفَاقَ، فَيُجَاهِرُوهُمْ بِقَوْلِ السُّوءِ، وَرَخَّصَ لِمَنْ ظُلِمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْهَرَ لِظَالِمِهِ بِالسُّوءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ دِفَاعٌ عَنْ نَفْسِهِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّ رِجَالًا اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَائِلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تَقُلْ ذَلِكَ أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ»
. الْحَدِيثَ. فَظَنَّ هَذَا الْقَائِلُ بِمَالِكٍ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، لِمُلَازَمَتِهِ لِلْمُنَافِقِينَ، فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِلصَّدِّ عَنِ الْمُجَازَفَةِ بِظَنِّ النِّفَاقِ بِمَنْ لَيْسَ مُنَافِقًا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ إِظْهَارُ خِلَافِ مَا يُبْطِنُونَ فَقَدْ ذُكِرَتْ نَجْوَاهُمْ وَذُكِرَ رِيَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذُكِرَتْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْ إِظْهَارِهِمْ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَانَ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي النُّفُوسِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ نِفَاقًا فَأَرَادَ اللَّهُ تَبَيُّنَ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ.
وَجُمْلَةُ لَا يُحِبُّ مَفْصُولَةٌ لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِهَذَا الْغَرَضِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ: الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهِيَةَ
5
تَسْتَحِيلُ حَقِيقَتِهِمَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمَا انْفِعَالَانِ لِلنَّفْسِ نَحْوَ اسْتِحْسَانِ الْحَسَنِ، وَاسْتِنْكَارِ الْقَبِيحِ، فَالْمُرَادُ لَازِمُهُمَا الْمُنَاسِبُ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَهُمَا الرِّضَا وَالْغَضَبُ.
وَصِيغَةُ لَا يُحِبُّ، بِحَسَبِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ، صِيغَةُ نَفْيِ الْإِذْنِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ. وَهَذَا الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّ لَا يُحِبُّ يُفِيدُ مَعْنَى يَكْرَهُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى النَّهْيِ.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا- إِلَى قَوْلِهِ- وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»
. فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ أَكْثَرُ أَحْوَالِهَا مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْجَهْرِ مَا يَبْلُغُ إِلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ إِذْ لَيْسَ السِّرُّ بِالْقَوْلِ فِي نَفْسِ النَّاطِقِ مِمَّا يَنْشَأُ عَنْهُ ضُرٌّ. وَتَقْيِيدُهُ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ أَنْوَاعِ الْأَذَى فَيُعْلَمُ أَنَّ السُّوءَ مِنَ الْفِعْلِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا.
وَاسْتَثْنَى مَنْ ظُلِمَ فَرَخَّصَ لَهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، الْمُفِيدُ لِلْعُمُومِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ جَهْرَ أَحَدٍ بِالسُّوءِ، أَوْ يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى مُضَافًا مَحْذُوفًا، أَيْ: إِلَّا جَهْرَ مَنْ ظُلِمَ، وَالْمَقْصُودُ ظَاهِرٌ، وَقَدْ قُضِيَ فِي الْكَلَامِ حَقُّ الْإِيجَازِ.
وَرَخَّصَ اللَّهُ لِلْمَظْلُومِ الْجَهْر بالْقَوْل السيّء لِيَشْفِيَ غَضَبَهُ، حَتَّى لَا يَثُوبَ إِلَى السَّيْفِ أَوْ إِلَى الْبَطْش بِالْيَدِ، فَفِي هَذَا الْإِذْنِ تَوْسِعَةٌ عَلَى مَنْ لَا يَمْسِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ لِحَاقِ الظُّلْمِ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا هُوَ الِاحْتِرَاسُ فِي حُكْمِ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْإِذْنِ لِلْمَظْلُومِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا لَا يَتَجَاوَزُ حَدَّ التَّظَلُّمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ظَالِمِهِ، أَوْ شِكَايَةَ ظُلْمِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: ظَلَمْتَنِي، أَوْ أَنْتَ ظَالِمٌ وَأَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ ظَالِمٌ. وَمِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ جَهْرًا لِأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ إِعْلَانٌ بِظُلْمِهِ وَإِحَالَتِهِ عَلَى عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِمَا لَا يُؤَدِّي إِلَى الْقَذْفِ، فَإِنَّ دَلَائِلَ النَّهْيِ عَنِ الْقَذْفِ وَصِيَانَةَ النَّفْسِ مِنْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِحَدِّ الْقَذْف أَو تعزيز الْغِيبَةِ، قَائِمَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ. فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُفِيدٌ إِبَاحَةَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ مِنْ جَانِبِ
6
الْمَظْلُومِ فِي جَانِبِ ظَالِمِهِ وَمِنْهُ مَا
فِي الْحَدِيثِ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»
أَيْ فَلِلْمَمْطُولِ أَنْ يَقُولَ: فُلَانٌ مُمَاطِلٌ وَظَالِمٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»
. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً عَطْفٌ عَلَى لَا يُحِبُّ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِالْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ كُلِّهَا، عَلِيمٌ بِالْمَقَاصِدِ وَالْأُمُورِ كُلِّهَا، فَذَكَرَ «عَلِيمًا» بَعْدَ «سَمِيعًا» لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي الْعِلْمِ، تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ عَالِمٍ بِبَعْضِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ.
وَبَعْدَ أَنْ نَهَى وَرَخَّصَ، نَدَبَ الْمُرَخَّصَ لَهُمْ إِلَى الْعَفْوِ وَقَوْلِ الْخَيْرِ، فَقَالَ: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً، فَإِبْدَاءُ الْخَيْرِ إِظْهَارُهُ.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ أَوْ تُخْفُوهُ لِزِيَادَةِ التَّرْغِيبِ أَنْ لَا يَظُنُّوا أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى إِبْدَاءِ الْخَيْرِ خَاصَّةً، كَقَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة:
٢٧١]. وَالْعَفْوُ عَنِ السُّوءِ بِالصَّفْحِ وَتَرْكِ الْمُجَازَاةِ، فَهُوَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ.
وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَهُوَ عِلَّةٌ لَهُ، وَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: يَعْفُ عَنْكُمْ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْكُمْ، كَمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُ الْخَيْرَ جَهْرًا وَخُفْيَةً وَعَفَوْتُمْ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى الْأَخْذِ بِحَقِّكُمْ، لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ شَرْعًا يُعْتَبَرُ مَقْدُورًا لِلْمَأْذُونِ، فَجَوَابُ الشَّرْطِ وَعْدٌ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ فِي بَعْضِ مَا يَقْتَرِفُونَهُ جَزَاءً عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَعَنِ الْعَفْوِ عَمَّنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا فَذَكَرَ إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ تَكْمِلَةً لِمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ اسْتِكْمَالًا لِمُوجِبَاتِ الْعَفْوِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا.
هَذَا مَا أَرَاهُ فِي مَعْنَى الْجَوَابِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: جُمْلَةُ الْجَزَاءِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْعَفْوِ بِبَيَانِ أنّ فِيهِ تخلّفا بِالْكَمَالِ، لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَايَةُ الْكَمَالَاتِ. وَالتَّقْدِير: إِن تبدو خَيْرًا إِلَخْ تَكُونُوا مُتَخَلِّقِينَ بِصِفَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا قَوْلَهُ:
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ وَلَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ:
7
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ إِلَّا إِذَا خَصَّصَ ذَلِكَ بِإِبْدَاءِ الْخَيْرِ لِمَنْ ظَلَمَهُمْ، وَإِخْفَائِهِ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلَ من قَطعك»
. [١٥٠- ١٥٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٥٠ إِلَى ١٥٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)
عَادَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ إِلَى أَحْوَالِ مَنْ أَظْهَرُوا النِّوَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى صِفَاتِ الْآخَرِينَ، فَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ هُنَا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَهُودُ خَاصَّةً لِأَنَّهُمُ الْمُخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَهُودًا وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجه الْخَيْر، وَمِنْ شَنَاعَةِ صَنِيعِهِمْ لِيُنَاسِبَ الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَجَمَعَ الرُّسُلَ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَفَرُوا بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَالنَّصَارَى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمَعَ الرُّسُلَ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْكُفَّارِ، أَوْ أَرَادَ بِالْجَمْعِ الِاثْنَيْنِ، أَوْ أَرَادَ بِالْإِضَافَةِ مَعْنَى الْجِنْسِ فَاسْتَوَى فِيهِ صِيغَةُ الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذَمُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُمْ بِدُونِ تعْيين فريق، وَطَرِيق الْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذَا أَن يعبّروا بِصِيغَة الْجُمُوعِ وَإِنْ كَانَ الْمُعَرَّضُ بِهِ وَاحِدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [النِّسَاء: ٥٤] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النِّسَاء: ٣٧]
8
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [الْمَائِدَة: ٤٤]
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا»
. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُتَجَدِّدٌ فِيهِمْ مُسْتَمِرٌّ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَفَرُوا فِي الْمَاضِي ثُمَّ رَجَعُوا لَمَا كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِالذَّمِّ.
وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ: أَنَّهُمْ لَمَّا آمَنُوا بِهِ وَوَصَفُوهُ بِصِفَاتٍ غَيْرِ صِفَاتِهِ مِنَ التَّجْسِيمِ
وَاتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالْحُلُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ آمَنُوا بِالِاسْمِ لَا بِالْمُسَمَّى، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ كَفَرُوا بِالْمُسَمَّى، كَمَا إِذَا كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ فُلَانًا فَقُلْتَ لَهُ: صِفْهُ لِي، فَوَصَفَهُ بِغَيْرِ صِفَاتِهِ، تَقُولُ لَهُ: «أَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ» عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْحَوَادِثِ، فَقَدْ كَفَرُوا بِإِلَهِيَّتِهِ الْحَقَّةِ، إِذْ مِنْهُمْ مَنْ جَسَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ ثَلَّثَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ ذَلِكَ فَأُطْلِقَتِ الْإِرَادَةُ عَلَى الْمُحَاوَلَةِ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ أَمْرٌ صَعْبُ الْمَنَالِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا مَا أَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يُحَاوِلُونَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ وَلَوْ بَلَغُوا إِلَيْهِ لَقَالَ: وَفَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ.
وَمَعْنَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ صِدْقَ بَعْضِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ، وَيَعْتَرِفُونَ بِصِدْقِ بَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ إِذْ نَفَوْا رِسَالَتَهُمْ فَأَبْعَدُوهُمْ مِنْهُ، وَهَذَا اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، شَبَّهَ الْأَمْرَ الْمُتَخَيَّلَ فِي نُفُوسِهِمْ بِمَا يُضْمِرُهُ مُرِيدُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَحْبَابِ، فَهِيَ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ بِهَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ، وَالْغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ تَشْوِيهُ الْمُشَبَّهِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمُتَّصِلِينَ ذَمِيمَةٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٦]، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٨٥]،
9
وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: ٨٤] إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّسُلِ، وَالْآيَةُ هَذِهِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ، وَمَآلُ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ: لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الرُّسُلِ يَسْتَلْزِمُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ.
وَإِضَافَةُ الْجَمْعِ إِلَى الضَّمِيرِ هُنَا لِلْعَهْدِ لَا لِلْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ.
وَجُمْلَةُ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَاقِعَةٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ لِأَنَّهَا شَأْنٌ خاصّ من شؤونهم، إِذْ مَدْلُولُهَا قَوْلٌ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الشَّنِيعَةِ، وَمَدْلُولُ يُرِيدُونَ هَيْئَةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ كُفْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الْعَطْفُ بِاعْتِبَارِ الْمُغَايَرَةِ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ فُصِلَتْ لَكَانَ صَحِيحًا.
وَمَعْنَى يَقُولُونَ نُؤْمِنُ الْخَ أَنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِمُوسَى وَنَكْفُرُ بِعِيسَى
وَمُحَمَّدٍ، وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِمُوسَى وَعِيسَى وَنَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ، فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ ظَاهِرًا وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ رُسُلِهِ.
وَالْإِرَادَةُ فِي قَوْلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَالسَّبِيلُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ سَبِيلَ النَّجَاةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ تَوَهُّمًا أَنَّ تِلْكَ حِيلَةٌ تُحَقِّقُ لَهُمُ السَّلَامَةَ عَلَى تَقْدِيرِ سَلَامَةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَبِيلَ التَّنَصُّلِ مِنَ الْكُفْرِ بِبَعْضِ الرُّسُلِ، أَوْ سَبِيلًا بَيْنَ دِينَيْنِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ يُنَاسِبَانِ انْتِقَالَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ الظَّاهِرِ إِلَى النِّفَاقِ، فَكَأَنَّهُمَا تَهْيِئَةٌ لِلنِّفَاقِ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْعَطْفِ مُشَرِّكًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ الأول صلَة للَّذين، كَانَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ صِلَاتٍ لِذَلِكَ الْمَوْصُولِ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَوْصُولُ صَاحِبَ تِلْكَ الصِّلَاتِ كُلِّهَا.
10
وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ جَعَلَ الْوَاوَاتِ فِيهَا بِمَعْنَى (أَوْ) وَجَعَلَ الْمَوْصُولَ شَامِلًا لِفِرَقٍ مِنَ الْكُفَّارِ تَعَدَّدَتْ أَحْوَالُ كُفْرِهِمْ عَلَى تَوْزِيعِ الصِّلَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ، فَجَعَلَ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَالَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ قَوْمًا أَثْبَتُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا النُّبُوءَاتِ كُلَّهَا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَسَكَتَ عَنِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ أُولَئِكَ فَرِيقًا آخَرَ: وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الْمُتَرَدِّدُونَ الَّذِينَ لَمْ يَثْبُتُوا عَلَى إِيمَانٍ وَلَا عَلَى كُفْرٍ، بَلْ كَانُوا بَيْنَ الْحَالَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ [النِّسَاء: ١٤٣]. وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فَرِيقًا جَمَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لِأَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ الْكُفْرُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرُ بِهَا نَفْيَ الْإِلَهِيَّةِ.
وَهَذَا الْأُسْلُوبُ نَادِرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُقَالَ: وَالَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا [الْأَنْفَال: ٧٢].
وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا الْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الصِّلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَمَوْقِعُ الْإِشَارَةِ هُنَا لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ لِاسْتِحْضَارِهِمْ بِتِلْكَ
الْأَوْصَافِ أَحْرِيَاءٌ بِمَا سَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُكْمِ الْمُعَاقِبِ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَأَفَادَ تَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ وَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ تَأْكِيدَ قَصْرِ صِفَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ مَجَازِيٌّ بِتَنْزِيلِ كُفْرِ غَيْرِهِمْ فِي جَانِبِ كُفْرِهِمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: هُمُ الْعَدُوُّ [المُنَافِقُونَ: ٤]. وَمِثْلُ هَذَا الْقَصْرِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْمَوْصُوفِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ الْمَقْصُورَةِ.
11
وَوَجْهُ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ: أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَحْوَالٍ عَدِيدَةٍ مِنَ الْكُفْرِ، وَعَلَى سَفَالَةٍ فِي الْخُلُقِ، أَوْ سَفَاهَةٍ فِي الرَّأْيِ بِمَجْمُوعِ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ من تِلْكَ الصَّلَاة، فَإِنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهَا إِذَا انْفَرَدَتْ هِيَ كُفْرٌ، فَكَيْفَ بِهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ.
وحَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، أَيْ حُقَّهُمْ حَقًّا أَيُّهَا السَّامِعُ بِالِغِينَ النِّهَايَةَ فِي الْكُفْرِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُمْ: (جِدًّا). وَالتَّوْكِيدُ فِي مِثْلِ هَذَا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ عَلَى مَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ، وَلَيْسَ هُوَ لِرَفْعِ الْمَجَازِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى النِّهَايَةِ لِأَنَّ الْقَصْرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَمْ يَقْصِدْ بِالتَّوْكِيدِ أَنْ يَصِيرَ الْقَصْرُ حَقِيقِيًّا لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ، فَقَوْلُ بَعْضِ النُّحَاةِ، فِي الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ: إِنَّهُ يُفِيدُ رَفْعَ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى الْغَالِبِ فِي مُفَادِ التَّأْكِيدِ.
وأَعْتَدْنا مَعْنَاهُ هَيَّأْنَا وَقَدَّرْنَا، وَالتَّاءُ فِي أَعْتَدْنا بَدَلٌ مِنَ الدَّالِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: التَّاءُ أَصْلِيَّةٌ، وَأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى حِدَةٍ هُوَ غَيْرُ بِنَاءِ عَدَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَتُدَ هُوَ الْأَصْلُ وَأَنَّ عَدَّ أُدْغِمَتْ مِنْهُ التَّاءُ فِي الدَّالِ، وَقَدْ وَرَدَ الْبِنَاءَانِ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ وَفِي الْقُرْآنِ.
وَجِيءَ بِجُمْلَةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إِلَى آخِرِهَا لِمُقَابَلَةِ الْمُسِيئِينَ بِالْمُحْسِنِينَ، وَالنِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ وَخَاصَّةً مَنْ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. فَهُمْ مَقْصُودُونَ ابْتِدَاءً لِمَا أَشْعَرَ بِهِ مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ وَلِمَا اقْتَضَاهُ تَذْيِيلُ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ غَفُورًا لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهِمْ، رَحِيمًا بِهِمْ.
وَالْقَوْلُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ وَبِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالْقَوْلِ فِي مُقَابِلِهِ.
وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٦].
12
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُؤْتِيهِمْ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِيَاءِ الْغَائِبِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.
[١٥٣، ١٥٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٥٣ إِلَى ١٥٤]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤)
لَمَّا ذَكَرَ مَعَاذِيرَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي إِنْكَارِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْقَبَهَا بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ مَجِيءَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى وِفْقِ مَطَالِبِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ.
وَمَجِيءُ الْمُضَارِعِ هُنَا: إِمَّا لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ حَالَتِهِمُ الْعَجِيبَةِ فِي هَذَا السُّؤَالِ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يَرَاهُمْ كَقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨]، وَقَوْلِهِ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: ١٢]، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: ٩]. وَإِمَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكْرَارِ السُّؤَالِ وَتَجَدُّدِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى بِأَنْ يَكُونُوا أَلَحُّوا فِي هَذَا السُّؤَالِ لِقَصْدِ الْإِعْنَاتِ، كَقَوْلِ طَرِيفِ بْنِ تَمِيمٍ الْعَنْبَرِيِّ:
بَعَثُوا إِلَيَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ أَيْ يُكَرِّرُ التَّوَسُّمَ. وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ التَّعْجِيبُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى. وَالسَّائِلُونَ هُمُ الْيَهُودُ، سَأَلُوا مُعْجِزَةً مِثْلَ مُعْجِزَةِ مُوسَى بِأَنْ يُنَزَّلَ
13
عَلَيْهِ مِثْلُ مَا أُنْزِلَتِ الْأَلْوَاحُ فِيهَا الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ عَلَى مُوسَى، وَلَمْ يُرِيدُوا جَمِيعَ التَّوْرَاةِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَإِنَّ كِتَابَ التَّوْرَاةِ لَمْ يُنَزَّلْ دُفْعَةً وَاحِدَةً. فَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا خُصُوصُ الْيَهُودِ.
وَالْكِتَابُ هُنَا إِمَّا اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَكْتُوبِ كَمَا نَزَلَتْ أَلْوَاحُ مُوسَى، وَإِمَّا اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مُلْتَئِمَةٍ مِنْ أَوْرَاقٍ مَكْتُوبَةٍ، فَيَكُونُونَ قَدْ سَأَلُوا مُعْجِزَةً تُغَايِرُ مُعْجِزَةَ مُوسَى.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى فَاءُ الْفَصِيحَةِ دالّة على مقدّرة دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّعْجِيبُ، أَيْ فَلَا تَعْجَبْ مِنْ هَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ لِأَسْلَافِهِمْ مَعَ رَسُولِهِمْ إِذْ سَأَلُوهُ مُعْجِزَةً أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى حَالَتِهِمْ بِحَالَةِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ
قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَخْلَاقِ الْأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ عَلَى أَحْوَالِ الْعَشَائِرِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَثِيرٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَالَةٌ عَلَى جَرَاءَتِهِمْ، وَإِظْهَارُ أَنَّ الرُّسُلَ لَا تَجِيءُ بِإِجَابَةِ مُقْتَرَحَاتِ الْأُمَمِ فِي طَلَبِ الْمُعْجِزَاتِ بَلْ تَأْتِي الْمُعْجِزَاتُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ تَحَدِّي الْأَنْبِيَاءِ، وَلَوْ أَجَابَ اللَّهُ الْمُقْتَرِحِينَ إِلَى مَا يَقْتَرِحُونَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ لَجَعَلَ رُسُلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَعْوِذِينَ وَأَصْحَابِ الْخَنْقَطَرَاتِ وَالسِّيمِيَاءِ، إِذْ يَتَلَقَّوْنَ مُقْتَرَحَاتِ النَّاسِ فِي الْمَحَافِلِ وَالْمَجَامِعِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَهَذَا مِمَّا يَحُطُّ مِنْ مِقْدَارِ الرِّسَالَةِ.
وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلْمَسِيحِ: نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً فَقَالَ: «جِيلٌ شِرِّيرٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلَا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ». وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى. وَقَدْ يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عِيسَى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ- إِلَى قَوْلِهِ- قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: ١١٢، ١١٥]، وَقَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الْإِسْرَاء: ٥٩].
14
وَهُمْ لَمَّا سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً مَا أَرَادُوا التَّيَمُّنَ بِاللَّهِ، وَلَا التَّنَعُّمَ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا عَجَبًا يَنْظُرُونَهُ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، وَلَمْ يَقُولُوا:
لَيْتَنَا نَرَى رَبَّنَا. وجَهْرَةً ضِدُّ خُفْيَةٍ، أَيْ عَلَنًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ (أَرِنَا)، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَرْفُوعِ فِي (أَرِنَا) : أَيْ حَالَ كَوْنِكَ مُجَاهِرًا لَنَا فِي رُؤْيَتِهِ غَيْرَ مُخْفٍ رُؤْيَتَهُ.
وَاسْتَطْرَدَ هُنَا مَا لَحِقَهُمْ مِنْ جَرَّاءِ سُؤَالِهِمْ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَقَالَ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٥] بِقَوْلِهِ:
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَكَانَ ذَلِكَ إِرْهَابًا لَهُمْ وَزَجْرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ:
بِظُلْمِهِمْ.
وَالظُّلْمُ هُوَ الْمَحْكِيُّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ تَصْدِيقِ مُوسَى إِلَى أَنْ يَرَوُا اللَّهَ جَهْرَةً، وَلَيْسَ الظُّلْمُ لِمُجَرَّدِ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ مُوسَى قَدْ سَأَلَ مِثْلَ سُؤَالِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى:
حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ الْآيَةَ
فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٣]. وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْدَعْهُمْ ذَلِكَ فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَهًا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ اتِّخَاذِهِمُ الْعَجَلَ بِحَرْفِ (ثُمَّ) الْمُفِيدِ فِي عَطْفِهِ الْجُمَلَ مَعْنَى التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ. فَإِنَّ اتِّخَاذَهُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّا حُكِيَ قَبْلَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وَآتَى مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ حُجَّةً وَاضِحَةً عَلَيْهِمْ فِي تَمَرُّدِهِمْ، فَصَارَ يَزْجُرُهُمْ وَيُؤَنِّبُهُمْ. وَمِنْ سُلْطَانِهِ الْمُبِينِ أَنْ أَحْرَقَ لَهُمُ الْعِجْلَ الَّذِي اتَّخَذُوهُ إِلَهًا.
ثُمَّ ذَكَرَ آيَاتٍ أُخْرَى أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَهِيَ: رَفْعُ الطُّورِ، وَالْأَمْرُ بِقِتَالِ أَهْلِ أَرِيحَا، وَدُخُولِهِمْ بَابَهَا سُجَّدًا. وَالْبَابُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَابُ مَدِينَةِ أَرِيحَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَابُ الْمَمَرِّ بَيْنَ الْجِبَالِ وَنَحْوِهَا، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَجُلانِ مِنَ
15
الَّذِينَ يَخافُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٢٣] وَتَحْرِيمُ صَيْدِ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ فِي السَّبْتِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا جَمِيعًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْعَهْدُ، وَوَصْفُهُ بِالْغَلِيظِ. أَيِ الْقَوِيِّ، وَالْغِلَظُ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، فَاسْتُعِيرَ لِقُوَّةِ الْمَعْنَى وَكَنَّى بِهِ عَنْ تَوَثُّقِ الْعَهْدِ لِأَنَّ الْغِلَظَ يَسْتَلْزِمُ الْقُوَّةَ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْمِيثَاقِ الصَّادِقِ بِالْعُهُودِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذُكِرَ أَكْثَرُهَا فِي آيِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِظْهَارُ تَأَصُّلِهِمْ فِي اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ، مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ، تَسْلِيَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَ مِنْهُمْ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النِّسَاء: ١٥٥].
وَقَوْلُهُ: لَا تَعْدُوا قَرَأَهُ نَافِعٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، وَهِيَ لِوَرْشٍ عَنْهُ وَلِقَالُونَ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ عَنْهُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ الْمَضْمُومَةِ- أَصْلُهُ: لَا تَعْتَدُوا، وَالِاعْتِدَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعَدْوِ، يُقَالُ: اعْتَدَى عَلَى فُلَانٍ، أَيْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْحَقِّ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَتِ التَّاءُ قَرِيبَةً مِنْ مَخْرَجِ الدَّالِ وَوَقَعَتْ مُتَحَرِّكَةً وَقَبْلَهَا سَاكِنٌ، تَهَيَّأَ إِدْغَامُهَا، فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْعَيْنِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا، وَأُدْغِمَتْ فِي الدَّالِ إِدْغَامًا لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ، وَلِذَلِكَ جَازَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِظْهَارُهَا فَقَالُوا: تَعْتَدُوا وَتَعَدُّوا، لِأَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَ الدَّالِ، فَكَانَتْ غَيْرَ مَجْذُوبَةٍ إِلَى مَخْرَجِهِ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَعْدَ الدَّالِ لَوَجَبَ إِدْغَامُهَا فِي نَحْوِ أَدَّانَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَالُونُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ: «لَا تَعْدُوا» - بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ- مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ مِنَ الْعَدْوِ، وَهُوَ الْعُدْوَانُ، كَقَوْلِهِ: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦٣] وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ قَالُونَ:- بِاخْتِلَاسِ الْفَتْحَةِ-، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ:- بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ-، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ نَافِعٍ أَيْضًا، رَوَاهَا ابْنُ مُجَاهِدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، فِي «الْحُجَّةِ» : وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّحْوِيِّينَ يُنْكِرُونَ الْجَمْعَ بَين الساكنين إِذْ كَانَ الثَّانِي مِنْهُمَا مُدْغَمًا وَلَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حَرْفَ لِينٍ، نَحْوَ دَابَّةٍ، يَقُولُونَ: الْمَدُّ يَصِيرُ عِوَضًا عَنِ الْحَرَكَةِ، قَالَ: وَإِذَا جَازَ نَحْوُ دُوَيْبَّةٍ مَعَ نُقْصَانِ الْمَدِّ الَّذِي
16
فِيهِ لَمْ يُمْتَنَعْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ فِي نَحْوِ: تَعْدُوا. لِأَنَّ مَا بَيْنَ حَرْفِ اللِّينِ وَغَيْرِهِ يَسِيرٌ، أَيْ مَعَ عَدَمِ تَعَذُّرِ النُّطْق بِهِ.
[١٥٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٥٥]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥)
التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاء: ١٥٤] وَالْبَاءُ لِلسَّبِيبَةِ جَارَّةٌ لِ نَقْضِهِمْ، وَ (وَمَا) مَزِيدَةٌ بَعْدَ الْبَاءِ لِتَوْكِيدِ التَّسَبُّبِ. وَحَرْفُ (مَا) الْمَزِيدُ بَعْدَ الْبَاءِ لَا يَكُفُّ الْبَاءَ عَنْ عَمَلِ الْجَرِّ وَكَذَلِكَ إِذَا زِيدَ (مَا) بَعْدَ (مِنْ) وَبَعْدَ (عَنْ). وَأَمَّا إِذَا زِيدَ بَعْدَ كَافِ الْجَرِّ وَبَعْدَ رُبَّ فَإِنَّهُ يَكُفُّ الْحَرْفَ عَنْ عَمَلِ الْجَرِّ.
ومتعلّق قَوْله فَبِما نَقْضِهِمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا، لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ فِي مَذَاهِبِ الْهَوْلِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاء: ١٦٠]، وَمَا بَيْنَهُمَا مُسْتَطْرَدَاتٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا [النِّسَاء: ١٦٠] كَالْفَذْلَكَةِ الْجَامِعَةِ لِجَرَائِمِهِمُ الْمَعْدُودَةِ مِنْ قَبْلُ. وَلَا يَصْلُحُ تَعْلِيقُ الْمَجْرُورِ بِ طَبَعَ لِأَنَّهُ وَقَعَ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا غُلْفٌ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْطُوفَاتِ الطَّالِبَةِ لِلتَّعَلُّقِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «طَبَعَ» دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا فِي موَاضعهَا. وتقدّم الْمُتَعَلِّقُ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ: وَهُوَ أَنْ لَيْسَ التَّحْرِيمُ إِلَّا لِأَجْلِ مَا صَنَعُوهُ، فَالْمَعْنَى: مَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ إِلَّا بِسَبَبِ نَقْضِهِمْ، وَأَكَّدَ معنى الْحصْر والسّبب بِمَا الزَّائِدَةِ، فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ حَصْرًا وَتَأْكِيدًا.
وَقَوْلُهُ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمَعَاطِيفِ. وَالطَّبْعُ: إِحْكَامُ الْغَلْقِ بِجَعْلِ طِينٍ وَنَحْوِهِ عَلَى سَدِّ الْمَغْلُوقِ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ مُسْتَخْرِجُ
مَا فِيهِ إِلَّا بَعْدَ إِزَالَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَطْبُوعِ بِهِ، وَقَدْ يَسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ الْغَلْقِ بِسِمَةٍ تَتْرُكُ رَسْمًا فِي ذَلِكَ الْمَجْعُولِ، وَتُسَمَّى الْآلَةُ الْوَاسِمَةُ طَابَعًا- بِفَتْحِ الْبَاءِ- فَهُوَ يُرَادِفُ الْخَتْمَ. وَمَعْنَى بِكُفْرِهِمْ بِسَبَبِهِ، فَالْكُفْرُ الْمُتَزَايِدُ يَزِيدُ تَعَاصِيَ الْقُلُوبِ عَنْ تَلَقِّي الْإِرْشَادِ، وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: بِكُفْرِهِمْ كُفْرُهُمُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْ عُمُومِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ: أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا
إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا، وَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ إِذِ الْإِيمَانُ لَا يَقْبَلُ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ، فَالْقَلِيلُ مِنَ الْإِيمَانِ عَدَمٌ، فَهُوَ كُفْرٌ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: ٨٨].
وَيجوز أَن يكون قِلَّةُ الْإِيمَانِ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ أَصْحَابِهِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.
[١٥٦- ١٥٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٥٦ الى ١٥٨]
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ.
عُطِفَ وَبِكُفْرِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً عَلَى قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: ١٥٥] وَلَمْ يَسْتَغْنِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ [النِّسَاء: ١٥٥] وَأُعِيدَ مَعَ ذَلِكَ حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي يُغْنِي عَنْهُ حَرْفُ الْعَطْفِ قَصْدًا لِلتَّأْكِيدِ، وَاعْتُبِرَ الْعَطْفُ لِأَجْلِ بُعْدِ مَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَلِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ لِأَمْرِ الْكُفْرِ، فَالْمُتَكَلِّمُ يَذْكُرُهُ وَيُعِيدُهُ: يَتَثَبَّتُ وَيُرِي أَنَّهُ لَا رِيبَةَ فِي إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّكْرِيرِ قَوْلُ لَبِيدٍ:
فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يَشِبُّ ضِرَامُهَا
18
فَأَعَادَ التَّشْبِيهَ بِقَوْلِهِ: (كَدُخَانِ نَارٍ) لِيُحَقِّقَ مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْأَوَّلِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» «تَكَرَّرَ الْكُفْرُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُوسَى ثُمَّ بِعِيسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فَعُطِفَ بَعْضُ كُفْرِهِمْ عَلَى بَعْضٍ»، أَيْ فَالْكَفْرُ الثَّانِي اعْتُبِرَ مُخَالِفًا لِلَّذِي قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ عَطْفِ قَوْلِهِ:
وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُوَيْفٍ الْقَوَافِيِّ:
مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجٍ كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَاِ
اللؤم أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَوَالِدِهِ وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَمَا وَلَدَا
إِذْ عَطَفَ قَوْلَهُ: (وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ الثَّانِي قَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَمَا وَلَدَا).
وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرُ بَهَتَهُ إِذَا أَتَاهُ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَا يَتَرَقَّبُهُ وَلَا يَجِدُ لَهُ جَوَابًا، وَالَّذِي يَتَعَمَّدُ
ذَلِكَ بَهُوتٌ، وَجَمْعُهُ: بُهُتٌ وَبُهْتٌ. وَقَدْ زَيَّنَ الْيَهُودُ مَا شَاءُوا فِي الْإِفْكِ عَلَى مَرْيَمَ- عَلَيْهَا السَّلَامُ-. أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَمَحَلُّ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُ: هُوَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَنْ يَعُدُّوا هَذَا الْإِثْمَ فِي مَفَاخِرِ أَسْلَافِهِمُ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْإِخْلَافِ بِالْعَهْدِ الْمُبِينِ فِي سَبِيلِ نَصْرِ الدِّينِ.
وَالْمَسِيحُ كَانَ لَقَبًا لِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَقَّبَهُ بِهِ الْيَهُودُ تَهَكُّمًا عَلَيْهِ: لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسِيحِ فِي اللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ بِمَعْنَى الْمَلِكِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٤٥]، وَهُوَ لَقَبٌ قَصَدُوا مِنْهُ التَّهَكُّمَ، فَصَارَ لَقَبًا لَهُ بَيْنَهُمْ.
وَقَلَبَ اللَّهُ قَصْدَهُمْ تَحْقِيرَهُ فَجَعَلَهُ تَعْظِيمًا لَهُ. وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ يُطْلِقُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ مُذَمَّمٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ: مُذَمَّمًا عَصَيْنَا، وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا.
فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتُمُونَ وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ (١)
_________
(١) عَن أبي هُرَيْرَة فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» فِي بَاب مَا جَاءَ فِي أَسمَاء النَّبِي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كتاب المناقب.
19
وَقَوْلُهُ: رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْحِكَايَةِ: فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الثَّنَاء عَلَيْهِ وَالْإِيمَان إِلَى أَنَّ الَّذِينَ يَتَبَجَّحُونَ بِقَتْلِهِ أَحْرِيَاءُ بِمَا رَتَّبَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ نَصْبُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الْمَدْحِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَحْكِيِّ: فوصفهم إيّاه مَقْصُود مِنْهُ التَّهَكُّمَ، كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦] وَقَوْلِ أَهْلِ مَدْيَنَ لِشُعَيْبٍ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: ٨٧] فَيَكُونُ نَصْبُ «رَسُولِ اللَّهِ» عَلَى النَّعْتِ لِلْمَسِيحِ.
وَقَوْلُهُ وَما قَتَلُوهُ الْخَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِيهِ لِلْحَالِ، أَيْ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ، وَلَيْسَ خَبَرًا عَنْ نَفْيِ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَاقْتَضَى الْحَالُ تَأْكِيدَهُ بِمُؤَكِّدَاتٍ قَوِيَّةٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ الْقَوْلِ الْمَعْطُوفِ عَلَى أَسْبَابِ لَعْنِهِمْ وَمُؤَاخَذَتِهِمْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ مُفِيدَةً ثُبُوتَ كَذِبِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ خَبَرًا مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمَلِ الْمُخْبَرِ بِهَا عَنْهُمْ، وَيَكُونُ تَجْرِيدُهُ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ: إِمَّا لِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَإِمَّا لِاعْتِبَارِ هَذَا الْخَبَرِ غَنِيًّا عَنِ التَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ تَرْكُ التَّأْكِيدِ تَخْرِيجًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُتَلَقَّ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الْعَالِمِ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ فَكَانَ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُؤَكَّدَ.
وَعَطَفَ وَما صَلَبُوهُ لِأَنَّ الصَّلْبَ قَدْ يَكُونُ دُونَ الْقَتْلِ، فَقَدْ كَانُوا رُبَّمَا صَلَبُوا
الْجَانِيَ تَعْذِيبًا لَهُ ثُمَّ عَفَوْا عَنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...
أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الْمَائِدَة: ٣٣]. وَالْمَشْهُورُ فِي الِاسْتِعْمَالِ: أَنَّ الصَّلْبَ هُوَ أَنْ يُوثَقَ الْمَعْدُودُ لِلْقَتْلِ عَلَى خَشَبَةٍ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ التَّحَرُّكَ ثُمَّ يُطْعَنُ بِالرُّمْحِ أَوْ يُرْمَى بِسَهْمٍ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى صُلِبَ ثُمَّ طُعِنَ بِرُمْحٍ فِي قَلْبِهِ.
وَجُمْلَةُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ اسْتِدْرَاكٌ، وَالْمُسْتَدْرَكُ هُوَ مَا أَفَادَهُ وَما قَتَلُوهُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْقَوْلِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. وَأَنَّهُ اخْتِلَاقٌ مَحْضٌ، فَبَيَّنَ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ أَصْلَ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَهِيَ شُبْهَةٌ أَوْهَمَتِ الْيَهُودَ
20
أَنَّهُمْ قَتَلُوا الْمَسِيحَ، وَهِيَ مَا رَأَوْهُ ظَاهِرًا مِنْ وُقُوعِ قَتْلٍ وَصَلْبٍ عَلَى ذَاتٍ يَعْتَقِدُونَهَا ذَاتَ الْمَسِيحِ، وَبِهَذَا وَرَدَتِ الْآثَارُ فِي تَأْوِيلِ كَيْفِيَّةِ مَعْنَى الشَّبَهِ.
وَقَوْلُهُ: شُبِّهَ لَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ زَعَمُوا قَتْلَهُمُ الْمَسِيحَ فِي زَمَانِهِمْ قَدْ شُبِّهَ لَهُمْ مُشَبَّهٌ بِالْمَسِيحِ فَقَتَلُوهُ، وَنَجَّى اللَّهُ الْمَسِيحَ مِنْ إِهَانَةِ الْقَتْلِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: شُبِّهَ فِعْلًا مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، مُشْتَقًّا مِنَ الشَّبَهِ، وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الصُّورَةِ. وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ نَائِبَ فَاعل (شبّه) للدلالة فِعْلِ (شُبِّهَ) عَلَيْهِ فَالتَّقْدِيرُ: شُبِّهَ مُشَبَّهٌ فَيَكُونُ «لَهُمْ» نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ. وَضَمِيرُ (لَهُمْ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ قَالُوا:
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَهُمْ يَهُودُ زَمَانِهِ، أَيْ وَقَعَتْ لَهُمُ الْمُشَابَهَةُ، وَاللَّامُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى عِنْدَ كَمَا تَقُولُ: حَصَلَ لِي ظَنٌّ بِكَذَا. وَالِاسْتِدْرَاكُ بَيِّنٌ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَكِنْ شُبِّهَ لِلْيَهُودِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ خَبَرُ صَلْبِ الْمَسِيحِ، أَيِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ بِالصِّدْقِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: خُيِّلَ إِلَيْكَ، وَاخْتَلَطَ عَلَى فُلَانٍ. وَلَيْسَ ثَمَّةَ شَبِيهٌ بِعِيسَى وَلَكِنَّ الْكَذِبَ فِي خَبَرِهِ شَبِيهٌ بِالصِّدْقِ، وَاللَّامُ عَلَى هَذَا لَامُ الْأَجَل: أَي لَيْسَ الْخَبَرُ كَذِبُهُ بِالصِّدْقِ لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِتَضْلِيلِهِمْ، أَيْ أَنَّ كُبَرَاءَهُمُ اخْتَلَقُوهُ لَهُمْ لِيُبَرِّدُوا غَلِيلَهُمْ مِنَ الْحَنَقِ عَلَى عِيسَى إِذْ جَاءَ بِإِبْطَالِ ضَلَالَاتِهِمْ. أَوْ تَكُونُ اللَّامُ بِمَعْنَى- عَلَى- لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاء: ٧]. وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنْ حَرْفٍ- عَلَى- تَضْمِينِ فِعْلِ شُبِّهَ مَعْنَى صُنِعَ، أَيْ صَنَعَ الْأَحْبَارُ هَذَا الْخَبَرَ لِأَجْلِ إِدْخَالِ الشُّبْهَةِ عَلَى عَامَّتِهِمْ.
وَفِي الْأَخْبَارِ أَنَّ (يَهُوذَا الِاسْخِرْيُوطِيَّ) أَحَدُ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ، وَكَانَ قَدْ ضَلَّ وَنَافَقَ، هُوَ الَّذِي وَشَى بِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيسَى، وَأَنَّهُ الَّذِي صُلِبَ، وَهَذَا أَصْلُهُ فِي إِنْجِيلِ بِرَنَابِي أَحَدُ تَلَامِيذِ الْحَوَارِيِّينَ، وَهَذَا يُلَائِمُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ (بِيلَاطِسَ)، وَالِيَ فِلَسْطِينَ، سُئِلَ فِي رُومَةَ عَنْ قَضِيَّةِ قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَتَأَيَّدَ بِذَلِكَ اضْطِرَابُ
21
النَّاسِ فِي وُقُوعِ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، وَلَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا اخْتَلَقَ الْيَهُودُ خَبَرَهُ، وَهَذَا يُلَائِمُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِي.
وَالَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُقْتَلْ، وَلَا صُلِبَ، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ وَنَجَّاهُ مِنْ طَالِبِيهِ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ مُحْتَمَلٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي رَفْعِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٥].
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ خِلَافٍ فِي شَأْنِ قَتْلِ الْمَسِيحِ. وَالْخِلَافُ فِيهِ مَوْجُودٌ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ: فَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ: قَتَلَتْهُ الْيَهُودُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَمْ يَقْتُلْهُ الْيَهُودُ، وَلَكِنْ قَتَلُوا يَهُوذَا الِاسْخِرْيُوطِيَّ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ بِالْمَسِيحِ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ مَسْطُورٌ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابِي- الَّذِي تَعْتَبِرُهُ الْكَنِيسِيَّةُ الْيَوْمَ كِتَابًا مُحَرَّفًا- فَالْمَعْنَى أَنَّ مُعْظَمَ النَّصَارَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي شَأْنِهِ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِصَلْبِهِ، بَلْ يُخَالِجُ أَنْفُسَهُمُ الشَّكُّ، وَيَتَظَاهَرُونَ بِالْيَقِينِ، وَمَا هُوَ بِالْيَقِينِ، فَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ قَاطِعٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ. فَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا: مَعْنَى الشَّكِّ، وَقَدْ أُطْلِقَ الظَّنُّ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي الْقُرْآنِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: ١٢]،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»
فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنُ ظَنٍّ بِصَاحِبِ
وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨).
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ.
وَالْيَقِينُ: الْعِلْمُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ، فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَالْمَصْدَرُ الْيَقَنُ بِالتَّحْرِيكِ، يُقَالُ: يَقِنَ كَفَرِحَ يَيْقَنُ يَقَنًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَيُقَالُ: أَيْقَنَ يُوقِنُ إِيقَانًا، وَهُوَ الشَّائِعُ.
22
وَقَوْلُهُ يَقِيناً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُصِبَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةٍ قَبْلَهُ: لِأَنَّ مَضْمُونَ: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَعْدَ قَوْلِهِ: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ إِلَى قَوْلِهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ قَتْلِهِمْ إِيَّاهُ أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ يَقِينًا مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْمَضْمُونِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ
الْوَاوِ فِي قَتَلُوهُ، أَيْ مَا قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنِينَ قَتْلَهُ، وَيَكُونُ النَّفْيُ مُنْصَبًّا عَلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ مَعًا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ، أَيْ: هُمْ فِي زَعْمِهِمْ قَتْلَهُ لَيْسُوا بِمُوقِنِينَ بِذَلِكَ لِلِاضْطِرَابِ الَّذِي حَصَلَ فِي شَخْصِهِ حِينَ إِمْسَاكِ مَنْ أَمْسَكُوهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْقَتْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَتَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الشَّيْءِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ:
قَتَلَ الْخَمْرَ إِذَا مَزَجَهَا حَتَّى أَزَالَ قُوَّتَهَا، وَقَوْلِهِمْ: قَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا، وَمِنْ شِعْرِ «الْحَمَاسَةِ» فِي بَابِ الْهِجَاءِ:
يَرُوعُكَ مِنْ سَعِدِ ابْن عَمْرٍو جُسُومُهَا وَتَزْهَدُ فِيهَا حِينَ تَقْتُلُهَا خُبْرَا
وَقَول الشَّاعِر:
كَذَلِك تُخْبِرُ عَنْهَا الْعَالِمَاتُ بِهَا وَقَدْ قَتَلْتُ بِعِلْمِي ذَلِكُمْ يَقَنًا
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
قَتَلَتْنِيَ الْأَيَّامُ حِينَ قَتَلْتُهَا خُبْرًا فَأُبْصِرُ قَاتِلًا مَقْتُولًا
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَتَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْعِلْمِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ، فَيَكُونُ يَقِيناً عَلَى هَذَا تَمْيِيزًا لِنِسْبَةِ (قَتَلُوهُ).
وَلِذَلِكَ كُلِّهِ أَعْقَبَ بِالْإِبْطَالِ بِقَوْلِهِ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَيْ فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ. وَالرَّفْعُ:
إِبْعَادُهُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى عَالَمِ السَّمَاوَاتِ، وَ (إِلَى) إِفَادَةُ الِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ، أَيْ رَفَعَهُ اللَّهُ رَفْعَ قُرْبٍ وَزُلْفَى.
23
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى هَذَا الرَّفْعِ، وَعَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَنَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَقِيَ حَيًّا أَوْ أَمَاتَهُ اللَّهُ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٥].
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ظَاهِرُ الْمَوْقِعِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَزَّ فَقَدْ حَقَّ لِعِزِّهِ أَنْ يُعِزَّ أَوْلِيَاءَهُ، وَلَمَّا كَانَ حَكِيمًا فَقَدْ أَتْقَنَ صُنْعَ هَذَا الرَّفْعِ فَجَعَلَهُ فِتْنَةً لِلْكَافِرِينَ، وَتَبْصِرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعُقُوبَةً ليهوذا الخائن.
[١٥٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٥٩]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما قَتَلُوهُ [النِّسَاء: ١٥٧]. وَهَذَا الْكَلَامُ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ أَمْرًا لَهُمْ، لِأَنَّ وُقُوعَ لَامِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ يُنَادِي عَلَى الْخَبَرِيَّةِ. وإِنْ نَافِيَةٌ ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَحَدٌ.
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ لعيسى: أيّ ليومننّ بِعِيسَى، وَالضَّمِيرُ فِي مَوْتِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَحَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ الْكِتَابِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُطْلَقُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِعِيسَى مِنْ قَبْلُ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْيَهُودَ مَعَ شِدَّةِ كُفْرِهِمْ بِعِيسَى لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَهُوَ يُؤْمِنُ بِنُبُوَّتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَيْ يَنْكَشِفُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ قَبْلَ انْزِهَاقِ رُوحِهِ، وَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ بِهَا عَلَى عِيسَى، إِذْ جَعَلَ أَعْدَاءَهُ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَقَدْ آمَنُوا بِهِ جَزَاءً لَهُ عَلَى مَا لَقِيَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَتَّعْ بِمُشَاهَدَةِ أُمَّةٍ تَتْبَعُهُ. وَقِيلَ: كَذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ يَنْكَشِفُ لَهُ أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ.
وَعِنْدِي أَنَّ ضَمِيرَ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الرَّفْعِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النِّسَاء:
١٥٨]، وَيَعُمُّ قَوْلُهُ أَهْلِ الْكِتابِ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، حَيْثُ اسْتَوَوْا مَعَ الْيَهُودِ فِي اعْتِقَادِ وُقُوعِ الصَّلْبِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ يَقْذِفُ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الشَّكَّ فِي صِحَّةِ الصَّلْبِ، فَلَا يَزَالُ الشَّكُّ يُخَالِجُ قُلُوبَهُمْ وَيَقْوَى حَتَّى يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّلْبِ فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ تَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَذَّبَ أَخْبَارَهُمْ فَنَفَى الصَّلْبَ عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مَوْتِهِ عَائِدٌ إِلَى عِيسَى، أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، فَفَرَّعَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا تَفَارِيعَ: مِنْهَا أَنَّ مَوْتَهُ لَا يَقَعُ إِلَّا آخِرَ الدُّنْيَا لِيَتِمَّ إِيمَانُ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ إِيمَانَهُمْ مُسْتَقْبَلًا وَجَعَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مُسْتَقْبَلًا وَمِنْهَا مَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَنْزِلُ فِي آخِرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا لِيُؤْمِنَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ
، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يُبْطِلُ هَذَا التَّفْسِيرَ: لِأَنَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ- عَلَى حَسَبِ هَذَا التَّأْوِيلِ- هُمُ الَّذِينَ سَيُوجَدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا جَمِيعُهُمْ.
وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ بَلَّغَ لَهُمْ دَعْوَةَ رَبِّهِمْ فَأَعْرَضُوا، وَبِأَنَّ النَّصَارَى بَدَّلُوا،
وَمَعْنَى الْآيَةِ مُفَصَّلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الْآيَاتِ فِي سُورَة الْعُقُود [١٠٩].
[١٦٠- ١٦٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٦٠ إِلَى ١٦٢]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
25
(١٦٢)
إِنْ كَانَ مُتَعَلَّقَ قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: ١٥٥] مَحْذُوفًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ كَانَ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مُفَرَّعًا عَلَى مَجْمُوعِ جَرَائِمِهِمُ السَّالِفَةِ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِظُلْمِهِمْ ظُلْمًا آخَرَ غَيْرَ مَا عُدِّدَ مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: ١٥٥] مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ فَقَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ الْخَ بَدَلٌ مُطَابِقٌ مِنْ جُمْلَةِ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النِّسَاء: ١٥٥] بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ مِنْهُ لِطُولِ الْفَصْلِ. وَفَائِدَةُ الْإِتْيَانِ بِهِ أَنْ يَظْهَرَ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ إِذْ بَعُدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النِّسَاء: ١٥٥] لِيَقْوَى ارْتِبَاطُ الْكَلَامِ. وَأُتِيَ فِي جُمْلَةِ الْبَدَلِ بِلَفْظٍ جَامِعٍ لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ: لِأَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ، وَالْكُفْرَ، وَقَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلَهُمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وَقَوْلَهُمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا، وَقَوْلَهُمْ قَتَلْنَا عِيسَى: كُلُّ ذَلِكَ ظُلْمٌ. فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَبِذَلِكَ كُلِّهِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ، لَكِنْ عَدَلَ إِلَى لَفْظِ الظُّلْمِ لِأَنَّهُ أَحْسَنُ تَفَنُّنًا، وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: ١٥٥]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا آخَرَ أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ.
وَتَنْكِيرُ (ظُلْمٍ) لِلتَّعْظِيمِ، وَالْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ «فَبِظُلْمِهِمْ»، حَتَّى تَأْتِيَ الضَّمَائِرُ مُتَتَابِعَةً مِنْ قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ إِلَى آخِرِهِ، إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِينَ هادُوا لِأَجْلِ بُعْدِ الضَّمِيرِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا: وَهِيَ فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: ١٥٥].
وَلِأَنَّ فِي الْمَوْصُولِ وَصْلَتِهِ مَا يَقْتَضِي التَّنَزُّهَ عَنِ الظُّلْمِ لَوْ كَانُوا كَمَا وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ١٥٦] فَصُدُورُ الظُّلْمِ عَنِ الَّذِينَ هَادُوا مَحَلُّ اسْتِغْرَابٍ.
وَالْآيَةُ اقْتَضَتْ: أَنَّ تَحْرِيمَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَ عِقَابًا لَهُمْ، وَأَنَّ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِد مَا يتقضي تَحْرِيمَ تَنَاوُلِهَا، وَإِلَّا لَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ مَجِيءِ
الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الطَّيِّبَاتِ هُوَ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما- إِلَى قَوْلِهِ- ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٦]، فَهَذَا هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى ظُلْمِهِمْ.
26
نَقَلَ الْفَخْرُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ قَالَ: «نَفْسُ التَّحْرِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى جُرْمٍ صَدَرَ مِنْهُمْ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوَابِ، وَالتَّعْرِيضَ لِلثَّوَابِ إِحْسَانٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ جَزَاءً عَلَى الْجُرْمِ. قَالَ الْفَخْرُ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْتِفَاعِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ».
وَهَذَا الْجَوَابُ مُصَادَرَةٌ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُقَوِّي الْإِشْكَالَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ حَقُّهَا أَنْ تُخَصَّ بِالْمُجْرِمِينَ ثُمَّ تُنْسَخَ. فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْجَوَابِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ تَحْرِيمِ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ أَنَّ مَا سَرَى فِي طِبَاعِهِمْ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ مِنَ الْقَسَاوَةِ صَارَ ذَلِكَ طَبْعًا فِي أَمْزِجَتِهِمْ فَاقْتَضَى أَنْ يُلَطِّفَ اللَّهُ طِبَاعَهُمْ بِتَحْرِيمِ مَأْكُولَاتٍ مِنْ طَبْعِهَا تَغْلِيظُ الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَهُمْ عِيسَى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ بَعْضَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ لِزَوَالِ مُوجِبِ التَّحْرِيمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ عِقَابًا لِلَّذِينِ ظَلَمُوا وَبَغَوْا ثُمَّ بَقِيَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ جَاءَ بِعْدَهُمْ لِيَكُونَ لَهُمْ ذِكْرَى وَيَكُونَ لِلْأَوَّلِينَ سُوءُ ذِكْرٍ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: ٢٥]،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا»
. ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ. وَإِمَّا لِأَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَعْرِضُ لِهَذَا التَّحْرِيمِ تَارَةً مِنَ الثَّوَابِ عَلَى نِيَّةِ الِامْتِثَالِ لِلنَّهْيِ، لِنُدْرَةِ حُصُولِ هَذِهِ النِّيَّةِ فِي التَّرْكِ.
وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: إِنْ كَانَ مَصْدَرَ صَدَّ الْقَاصِرُ الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصِدُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- فَالْمَعْنَى بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرَ الْمُتَعَدِّي الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ- بِضَمِّ الصَّادِ-، فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ التَّقْوَى، وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنَا، مِنْ زَمَنِ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ. أَمَّا بَعْدَ مُوسَى فَقَدْ صَدُّوا النَّاسَ كَثِيرًا، وَعَانَدُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَحَاوَلُوهُمْ عَلَى كَتْمِ الْمَوَاعِظِ، وَكَذَّبُوا عِيسَى، وَعَارَضُوا دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوَّلُوا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، جَهْرًا أَوْ نِفَاقًا، الْبَقَاءَ عَلَى الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي
27
قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النِّسَاء: ٥١] الْآيَاتِ.
وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِ كَثِيراً حَالًا مِنْهُ.
وَأَخْذُهُمُ الرِّبَا الَّذِي نُهُوا عَنْهُ هُوَ أَنْ يَأْخُذُوهُ مَنْ قَوْمِهِمْ خَاصَّةً وَيَسُوغُ لَهُمْ أَخْذُهُ مِنْ
غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ ٢٣ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ «لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بربا رَبًّا قضّة أَوْ رِبَا طَعَامٍ أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَا مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا. لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا». وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْإِصْحَاحِ ٢٢ «إِنْ أَقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الْفَقِيرِ الَّذِي عِنْدَكَ فَلَا تَكُنْ لَهُ كَالْمُرَابِي لَا تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا» وَأَكْلُهُمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَعَمُّ مِنَ الرِّبَا فَيَشْمَلُ الرَّشْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ عِنْدَهُمْ، وَأَخْذَهُمُ الْفِدَاءَ عَلَى الْأَسْرَى مِنْ قَوْمِهِمْ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إِلَخ ناشيء عَلَى مَا يُوهِمُهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ ابْتِدَاءً من قَوْله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النِّسَاء: ١٥٣] مِنْ تَوَغُّلِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ حَتَّى لَا يُرْجَى لِأَحَدٍ مِنْهُمْ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ، فَاسْتُدْرِكَ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ لَيْسُوا كَمَا تُوُهِّمَ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ.
وَالرَّاسِخُ حَقِيقَتُهُ الثَّابِتُ الْقَدَمِ فِي الْمَشْيِ، لَا يَتَزَلْزَلُ وَاسْتُعِيرَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْوَصْفِ مِثْلُ الْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تَغُرُّهُ الشَّبَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧]. وَالرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ بَعِيدٌ عَنِ التَّكَلُّفِ وَعَنِ التَّعَنُّتِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ حَاجِبٌ، فَهُمْ يَعْرِفُونَ دَلَائِلَ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَسْأَلُونَهُمْ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ.
وَعَطْفُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الرَّاسِخُونَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يُرِيَهُمُ الْآيَاتِ الْخَوَارِقَ لِلْعَادَةِ. فَلِذَلِكَ قَالَ يُؤْمِنُونَ، أَيْ جَمِيعُهُمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، أَيِ الْقُرْآنِ، وَكَفَاهُمْ بِهِ آيَةً، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى الرُّسُلِ، وَلَا يُعَادُونَ رُسُلَ اللَّهِ تَعَصُّبًا وَحَمِيَّةً.
28
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، مِثْلَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي كَانَ يَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ.
وَعَطْفُ الْمُقِيمِينَ بِالنَّصْبِ ثَبَتَ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَقَرَأَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الأقطار دون نَكِير فَعَلِمْنَا أَنَّهُ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي عَطْفِ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتٍ مَحَامِدَ، عَلَى أَمْثَالِهَا، فَيَجُوزُ فِي بَعْضِ الْمُعْطُوفَاتِ النَّصْبُ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالْمَدْحِ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِلِاهْتِمَامِ، كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي النُّعُوتِ الْمُتَتَابِعَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِدُونِ عَطْفٍ أَمْ بِعَطْفٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ- إِلَى قَوْله- وَالصَّابِرِينَ [الْبَقَرَة: ١٧٧]. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» «بَابُ مَا يَنْتَصِبُ فِي التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً فَجَرَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ شِئْتَ قَطَعْتَهُ فَابْتَدَأْتَهُ». وَذَكَرَ مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: «فَلَوْ
كَانَ كُلُّهُ رَفْعًا كَانَ جَيِّدًا»
، وَمِثْلُهُ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْبَقَرَة: ١٧٧]، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْخِرْنَقِ:
لَا يبعدن قومِي الَّذِي هُمُو سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزُرِ
النَّازِلُونَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الْأُزُرِ
فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنِ الْعَرَبِ: بِرَفْعِ (النَّازِلُونَ) وَنَصْبِ (الطَّيِّبِينَ)، لِتَكُونَ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَجْرِي عَلَى قَصْدِ التَّفَنُّنِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْمُتَتَابِعَاتِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ وُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْطُوفَاتٍ مُتَتَابِعَاتٍ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْله:
والصَّابِئُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٦٩].
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبَانٍ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ نَصْبَ الْمُقِيمِينَ خَطَأٌ، مِنْ كَاتِبِ الْمُصْحَفِ وَقَدْ عَدَّتْ مِنَ الْخَطَأِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ [الْبَقَرَة: ١٧٧] وَقَوْلِهِ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: ٦٣]. وَقَوله: الصَّابِئُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٦٩]. وَقَرَأَتْهَا عَائِشَةُ، وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ:
وَالْمُقِيمُونَ- بِالرَّفْعِ-. وَلَا تُرَدُّ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ.
29
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ نَصْبَ الْمُقِيمِينَ وَنَحْوَهُ هُوَ مَظْهَرُ تَأْوِيلِ قَوْلِ عُثْمَانَ لِكُتَّابِ الْمَصَاحِفِ حِينَ أَتَمُّوهَا وَقَرَأَهَا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: «أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ وَأَرَى لَحْنًا قَلِيلًا سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا». وَهَذِهِ أَوْهَامٌ وَأَخْبَارٌ لَمْ تَصِحَّ عَنِ الَّذِينَ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ. وَمِنَ الْبَعِيدِ جدّا أَن يخطىء كَاتِبُ الْمُصْحَفِ فِي كَلِمَةٍ بَيْنَ أَخَوَاتِهَا فَيُفْرِدَهَا بِالْخَطَأِ دُونَ سَابِقَتِهَا أَوْ تَابِعَتِهَا، وَأَبْعَدَ مِنْهُ أَنْ يَجِيءَ الْخَطَأُ فِي طَائِفَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ وَهِيَ الَّتِي إِعْرَابُهَا بِالْحُرُوفِ النَّائِبَةِ عَنْ حَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ مِنَ الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ عَلَى حَدِّهِ. وَلَا أَحْسَبُ مَا رَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ صَحِيحًا. وَقَدْ عَلِمْتُ وَجْهَ عَرَبِيَّتِهِ فِي الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَأَمَّا وَجْهُ عَرَبِيَّةِ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ فَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلَام فِي سُورَةِ طه [٦٣].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِ عُثْمَانَ هُوَ مَا وَقَعَ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ مِنْ نَحْوِ الْأَلِفَاتِ الْمَحْذُوفَةِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :«وَهُمْ كَانُوا أَبْعَدَ هِمَّةً فِي الْغَيْرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَذَبِّ الْمَطَاعِنِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلْمَةً لِيَسُدَّهَا مَنْ بَعْدَهُمْ وَخَرْقًا يَرْفُوهُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ». وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧].
وَالْوَعْدُ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاسِخِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِرَسُولِهِمْ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْرَيْنِ،
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ سَبَقُوا غَيْرَهُمْ بِالْإِيمَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنُؤْتِيهِمْ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.
[١٦٣- ١٦٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٦٣ إِلَى ١٦٥]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
30
(١٦٥)
اسْتَأْنَفَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الرَّدَّ عَلَى سُؤَالِ الْيَهُودِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، بَعْدَ أَنْ حُمِقُوا فِي ذَلِكَ بِتَحْمِيقِ أَسْلَافِهِمْ: بِقَوْلِهِ: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النِّسَاء: ١٥٣]، وَاسْتُطْرِدَتْ بَيْنَهُمَا جُمَلٌ مِنْ مُخَالَفَةِ أَسْلَافِهِمْ، وَمَا نَالَهُمْ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ الْآنَ عَلَى بَيَانِ أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بِدَعًا، فَإِنَّهُ شَأْنُ الْوَحْيِ لِلرُّسُلِ، فَلَمْ يُقْدَحْ فِي رِسَالَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ.
وَالتَّأْكِيدُ (بِإِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ أَوْ لِتَنْزِيلِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ كَيْفِيَّةَ الْوَحْيِ لِلرُّسُلِ غَيْرِ مُوسَى، إِذْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ عِلْمِهِمْ حَتَّى أَنْكَرُوا رِسَالَةَ رَسُولٍ لَمْ يُنْزَلْ إِلَيْهِ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ.
وَالْوَحْيُ إِفَادَةُ الْمَقْصُودِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ الْكَلَامِ، مِثْلَ الْإِشَارَةِ قَالَ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَم: ١١]. وَقَالَ دَاوُود بْنُ جَرِيرٍ:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً وَحْيُ اللَّوَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ تَشْبِيهٌ بِجِنْسِ الْوَحْيِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ، فَإِنَّ الْوَحْيَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْوَحْيِ وَرَدَ بَيَانُهَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سُؤَالِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ- بِخِلَافِ الْوَحْيِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ
سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ بَعْضٌ مِنَ الْأَنْوَاعِ، عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْهُ الْكِتَابُ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَكُنْ لِبَعْضِ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُ كِتَابٌ. وَعَدَّ اللَّهُ هُنَا جَمْعًا مِنَ النَّبِيئِينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ يُوحَى إِلَيْهِمْ.
31
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي مَعْنَى الرَّسُولِ وَالنَّبِيءِ. فَفِي كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَائِنَا لَا نَجِدُ تَفْرِقَةً، وَأَنَّ كُلَّ نَبِيءٍ فَهُوَ رَسُولٌ لِأَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِمَا لَا يَخْلُو مِنْ تَبْلِيغِهِ وَلَوْ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ. وَقَدْ يَكُونُ حَالُ الرَّسُول مُبْتَدأ بنبؤة ثُمَّ يَعْقُبُهَا إرْسَاله، فَتلك النُّبُوَّة تمهيد الرسَالَة كَمَا كَانَ أَمْرُ مَبْدَأِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ خَدِيجَةَ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: ٢١٤]. وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ، وَهُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ مَعَ الْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ، وَالنَّبِيءُ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّبْلِيغِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُبَلِّغُ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالدُّعَاءِ لِلْخَيْرِ، يَعْنِي بِدُونِ إِنْذَارٍ وَتَبْشِيرٍ.
وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: الْأَنْبِيَاءُ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَعَدُّ الرُّسُلِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَسُولًا
. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوَّلُ الرُّسُلِ. وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الدِّينَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ آدَمَ وَأَنَّ الْجَزَاءَ كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ، فَقَدْ قَرَّبَ ابْنَا آدَمَ قُرْبَانًا، وَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَة: ٢٧]، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [الْمَائِدَة: ٢٨، ٢٩]. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُمْ مَنْ يَأْخُذُ عَلَى يَدِ الْمُعْتَدِي وَيَنْتَصِفُ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، فَإِنَّمَا كَانَ مَا تَعَلَّمُوهُ مِنْ طَرِيقَةِ الْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ وَكَانَتْ رِسَالَةً عَائِلِيَّةً.
وَنُوحٌ هُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ، وَهُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَمَكُ بْنُ مُتُوشَالِحَ بْنِ أَخْنُوخَ. وَيُسَمِّيهِ الْمِصْرِيُّونَ هُرْمُسَ، وَيُسَمِّيهِ الْعَرَبُ إِدْرِيسُ بْنُ يَارِدَ بْنِ مَهْلَلْئِيلَ بْنِ قِينَانَ بْنِ أَنْوَشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ، حَسَبَ- قَوْلِ التَّوْرَاةِ-. وَفِي زَمَنِهِ وَقَعَ الطُّوفَانُ الْعَظِيمُ. وَعَاشَ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ ذَلِكَ. وَقَدْ مَاتَ نُوحٌ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ وَتِسْعمِائَة سنة وَأَرْبع وَسَبْعِينَ سَنَةً عَلَى حَسَبِ حِسَابِ الْيَهُودِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ كِتَابِهِمْ.
وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ الْخَلِيلُ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارِحَ- وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ آزَرَ- بْنَ نَاحُورَ بْنِ ساروغ بن أرغو بْنِ فَالِغَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شَالِحَ بْنِ قِينَانَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. وُلِدَ سَنَةَ ٢٨٩٣ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فِي بَلَدِ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَمَاتَ فِي بِلَادِ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَهِيَ سُورِيَا، فِي حَبْرُونَ حَيْثُ مَدْفَنُهُ الْآنَ الْمَعْرُوفُ بِبَلَدِ الْخَلِيلِ سَنَةَ ٢٧١٨ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
32
وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْجَارِيَةِ الْمِصْرِيَّةِ هَاجَرَ. تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ٢٦٨٦ قَبْلَ الْهِجْرَةِ تَقْرِيبًا. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ رَسُولًا إِلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ حَلَّ بَيْنَهُمْ مِنْ جُرْهُمَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِلَى أَبْنَائِهِ وَأَهْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مَرْيَم: ٥٤].
وَإِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ سَارَةَ ابْنَةَ عَمِّهِ، تُوُفِّيَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ سَنَةَ ٢٦١٣، وَكَانَ إِسْحَاقُ نَبِيًّا مُؤَيِّدًا لِشَرْعِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيم وَلم يجىء بِشَرْعٍ.
وَيَعْقُوبُ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ، الْمُلَقَّبُ بِإِسْرَائِيلَ. تُوُفِّيَ سَنَةَ ٢٥٨٦ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَكَانَ يَعْقُوبُ نَبِيًّا مُؤَيِّدًا لِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [الْبَقَرَة:
١٣٢] وَلم يجىء بِشَرْعٍ جَدِيدٍ.
وَالْأَسْبَاطُ هُمْ أَسْبَاطُ إِسْحَاقَ، أَيْ أَحْفَادُهُ، وَهُمْ أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ ابْنًا: رُوبِينُ، وَشَمْعُونُ، وَجَادُ، وَيَهُوذَا، وَيَسَاكِرُ، وَزَبُولُونُ، وَيُوسُفُ، وَبِنْيَامِينُ، وَمُنَسَّى، وَدَانٍ، وَأَشْيَرُ، وَثَفْتَالِي. فَأَمَّا يُوسُفُ فَكَانَ رَسُولًا لِقَوْمِهِ بِمِصْرَ. قَالَ تَعَالَى خطابا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ مُؤْمِنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غَافِر: ٣٤].
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَسْبَاطِ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَائِمًا بِدَعْوَةِ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي بَنِيهِ وَقَوْمِهِ. وَالْوَحْيُ إِلَى هَؤُلَاءِ مُتَفَاوِتٌ.
وَعِيسَى هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وُلِدَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ سَنَةَ ٦٢٢. وَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَهَا سَنَةَ ٥٨٩. وَهُوَ رَسُولٌ بِشَرْعٍ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَدَامَتْ دَعْوَتُهُ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَ سِنِينَ.
وَأَيوب هُوَ نبيء. قِيلَ: أَنَّهُ عَرَبِيُّ الْأَصْلِ مِنْ أَرْضِ عُوصٍ، فِي بِلَادِ أَدَوْمَ، وَهِيَ مِنْ بِلَادِ حَوْرَانَ، وَقِيلَ: هُوَ أَيُّوبُ بْنُ نَاحُورَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَوَضٌ، وَقِيلَ: هُوَ يُوبَابُ ابْنُ حَفِيدِ عِيسُو. وَقِيلَ: كَانَ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ بِمِائَةِ سَنَةٍ.
33
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ وَقَبْلَ مُوسَى فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، أَيْ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْكِتَابَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ أَصْلُهُ مُؤَلَّفٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَقَلَهُ إِلَى الْعِبْرَانِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ، فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْبَاحِثِينَ فِي التَّارِيخِ أَنَّ أَيُّوبَ مِنْ قَبِيلَةٍ عَرَبِيَّةٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ. وَكَانَ أَيُّوبُ رَسُولًا نَبِيًّا. وَكَانَ لَهُ صَاحِبٌ اسْمُهُ الْيَفَازُ الْيَمَانِيُّ هُوَ الَّذِي شَدَّ أَزْرَهُ فِي الصَّبْرِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنَّمَا
مُنِعَ اسْمُهُ مِنَ الصَّرْفِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَرَبِ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ اعْتَبَرَتِ الْقَبَائِلَ الْبَعِيدَةَ عَنْهَا عَجَمًا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُمْ عَرَبِيًّا، وَلِذَلِكَ مَنَعُوا ثَمُودَ مِنَ الصَّرْفِ إِذْ سَكَنُوا الْحِجْرَ.
وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ مَتَّى مِنْ سِبْطِ زَبُولُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى عَاصِمَةِ الْآشُورِيِّينَ، بَعْدَ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ فِي حُدُودِ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
وَهَارُونُ أَخُو مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ١٩٧٢ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ رَسُولٌ مَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ دَاوُدَ. كَانَ نَبِيًّا حَاكِمًا بِالتَّوْرَاةِ وَمَلِكًا عَظِيمًا. تُوُفِّيَ سَنَةَ ١٥٩٧ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَمِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِ مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ «الْجَامِعَةِ» وَكِتَابُ «الْأَمْثَالِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوَاعِظِ»، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى سُلَيْمَانَ وَلَمْ يُقَلْ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ أَوْحَاهَا إِلَيْهِ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ مُوحَى بِمَعَانِيهَا دُونَ لَفْظِهَا.
وَدَاوُدُ أَبُو سُلَيْمَانَ هُوَ دَاوُدُ بْنُ يَسِي، تُوُفِّيَ سَنَةَ ١٦٢٦ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، بَعَثَهُ اللَّهُ لِنَصْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ مَوَاعِظُ وَأَمْثَالُ، كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَرَنَّمُونَ بِفُصُولِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالزَّبُورِ. وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ مِثْلُ قَبُولٍ. وَيُقَالُ فِيهِ: زُبُورٌ- بِضَمِّ الزَّايِ- أَيْ مَصْدَرًا مِثْلَ الشُّكُورِ، وَمَعْنَاهُ الْكِتَابَةُ وَيُسَمَّى الْمَكْتُوبُ زَبُورًا فَيُجْمَعُ عَلَى الزُّبُرِ، قَالَ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ [آل عمرَان: ١٨٤]. وَقَدْ صَارَ
34
عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى كِتَابِ دَاوُدَ النَّبِيءِ، وَهُوَ أَحَدُ أَسْفَارِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عِنْدَ الْيَهُودِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً عَلَى أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. وَلَمْ يُعْطَفِ اسْمُ دَاوُدَ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّبُورَ مُوحًى بِأَنْ يَكُونَ كِتَابًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ زَبُوراً- بِفَتْحِ الزَّايِ-، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الزَّايِ-.
وَقَوْلُهُ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يَعْنِي فِي آيِ الْقُرْآنِ مِثْلَ: هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَشُعَيْبَ، وَزَكَرِيَّاءَ، وَيَحْيَى، وَإِلْيَاسَ، وَالْيَسَعَ، وَلُوطٍ، وَتُبَّعٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ:
وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ لَمْ يَذْكُرْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ فِي السُّنَّةِ: مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ نَبِيءِ أَصْحَابِ الرَّسِّ، وَمِثْلُ بَعْضِ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ عِنْدَ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْحِكْمَةِ. قَالَ السَّهْرَوَرْدِيُّ فِي «حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ» :«مِنْهُمْ أَهْلُ السِّفَارَةِ». وَمِنْهُمْ مَنْ
ذَكَرَتْهُ السُّنَّةُ: مِثْلُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ اشْتُهِرُوا عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُحَاجَّتُهُمْ. وَإِنَّمَا تَرَكَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءَ كَثِيرٍ مِنَ الرُّسُلِ لِلِاكْتِفَاءِ بِمَنْ قَصَّهُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَذْكُورِينَ هُمْ أَعْظَمُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ قَصَصًا ذَاتَ عِبَرٍ.
وَقَوْلُهُ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً غُيِّرَ الْأُسْلُوبُ فَعُدِلَ عَنِ الْعَطْفِ إِلَى ذِكْرِ فِعْلٍ آخَرَ، لِأَنَّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوَحْيِ مَزِيدَ أَهَمِّيَّةٍ، وَهُوَ مَعَ تِلْكَ الْمَزِيَّةِ لَيْسَ إِنْزَالَ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عِبْرَةٌ إِلَّا بِإِنْزَالِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ حَسَبَ اقْتِرَاحِهِمْ، فَقَدْ بَطَلَ أَيْضًا مَا عَدَا الْكَلِمَاتِ الْعَشْرِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْأَلْوَاحِ عَلَى مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عِنْدَنَا، وَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِبْلَاغِ مُرَادِ اللَّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ، وَقَدْ تَوَاتَرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ تَوَاتُرًا ثَبَتَ
35
عِنْدَ جَمِيعِ الْمِلِّيِّينَ، فَكَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى التَّحْقِيقِ إِذْ لَا تَدُلُّ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَجِبُ لَهُ إِبْلَاغُ مُرَادِهِ النَّاسَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُوجِدَ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ يَتْرُكُهَا وَشَأْنَهَا، فَلَا يَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ بِحَمْلِهَا عَلَى ارْتِكَابِ حَسَنِ الْأَفْعَالِ وَتَجَنُّبِ قَبَائِحِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَلَقَ الْعَجْمَاوَاتِ فَمَا أَمَرَهَا وَلَا نَهَى، فَلَوْ تَرَكَ النَّاسَ فَوْضَى كالحيوان لما ستحال ذَلِكَ. وَأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ حَمْلَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى شَيْءٍ يُرِيدُهُ فَطَرَهَا عَلَى ذَلِكَ فَانْسَاقَتْ إِلَيْهِ بِجِبِلَّاتِهَا، كَمَا فَطَرَ النَّحْلَ عَلَى إِنْتَاجِ الْعَسَلِ، وَالشَّجَرِ عَلَى الْإِثْمَارِ. وَلَوْ شَاءَ لَحَمَلَ النَّاسَ أَيْضًا عَلَى جِبِلَّةٍ لَا يَعْدُونَهَا، غَيْرَ أَنَّنَا إِذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَالِمٌ، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ، وَالْعِلْمُ يَقْتَضِي انْكِشَافَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، فَهُوَ إِذْ يَعْلَمُ حَسَنَ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا، يُرِيدُ حُصُولَ الْمَنَافِعِ وَانْتِفَاءَ الْمَضَارِّ، وَيَرْضَى بِالْأُولَى، وَيَكْرَهُ الثَّانِيَةَ، وَإِذِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ أَنْ جَعَلَ الْبَشَرَ قَابِلًا لِلتَّعَلُّمِ وَالصَّلَاحِ، وَجَعَلَ عُقُولَ الْبَشَرِ صَالِحَةً لِبُلُوغِ غَايَاتِ الْخَيْرِ، وَغَايَاتِ الشَّرِّ، وَالتَّفَنُّنِ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَبْلُغُ فِيمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِلَى غَايَةٍ فُطِرَ عَلَيْهَا لَا يَعْدُوهَا، فَكَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ طُغْيَانُ الشَّرِّ عَلَى الْخَيْرِ بِعَمَلِ فَرِيقِ الْأَشْرَارِ مِنَ الْبَشَرِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ الَّذِي يَرْضَاهُ، وَتَرْكِ الشَّرِّ الَّذِي يَكْرَهُهُ، وَحَمْلُهُمْ عَلَى هَذَا قَدْ يَحْصُلُ بِخَلْقِ أَفَاضِلِ النَّاسِ وَجَبْلِهِمْ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ، فَيَكُونُونَ دُعَاةً لِلْبَشَرِ، لَكِنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ اقْتَضَى أَنْ يَخْلُقَ الصَّالِحِينَ الْقَابِلِينَ لِلْخَيْرِ، وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى بُلُوغِ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ بِإِرْشَادِهِ وَهَدْيِهِ، فَخَلَقَ النُّفُوسَ الْقَابِلَةَ لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَأَمَدَّهَا بِالْإِرْشَادِ الدَّالِّ عَلَى مُرَادِهِ الْمُعَبِّرِ عَنْهُ بِالْوَحْيِ، كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: ١٢٤] فَأَثْبَتَ رِسَالَةً وَتَهْيِئَةَ الْمُرْسَلِ لِقَبُولِهَا وَمِنْ هُنَا ثَبَتَتْ صِفَةُ الْكَلَامِ. فَعَلِمْنَا بِأَخْبَارِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنَ الْبَشَرِ الصَّلَاحَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِذَلِكَ بَلَغَ إِلَى الْبَشَرِ فِي عُصُورٍ، كَثِيرَةٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بَعْضَ أَعْمَالِ الْبَشَرِ وَلَا يَرْضَى بَعْضَهَا وَأَنَّ ذَلِكَ يسمّى كلَاما نفسيا، وَهُوَ أَزَلِيٌّ.
ثُمَّ إِنَّ حَقِيقَةَ صِفَةِ الْكَلَامِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ الْعِلْمِ، أَوْ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ الْإِرَادَةِ، أَوْ صِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُتَمَيِّزَةٍ عَنِ الصِّفَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ
36
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلِمَ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى الْإِرْشَادِ فَأَرْشَدَهُمْ، أَوْ أَرَادَ هُدَى النَّاسِ فَأَرْشَدَهُمْ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي مِنْهَا الرِّضَا وَالْكَرَاهِيَةُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْبَشَرِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ، فَثَبَتَتْ صِفَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ هِيَ صِفَةُ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَقَارِبٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
أَمَّا تَكْلِيمُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَ عِبَادِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْبَشَرِ فَهُوَ إِيجَادُ مَا يَعْرِفُ مِنْهُ الْمَلَكُ أَوِ الرَّسُولُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ أَوْ يَنْهَى أَوْ يُخْبِرُ. فَالتَّكْلِيمُ تَعَلُّقٌ لِصِفَةِ الْكَلَامِ بِالْمُخَاطَبِ عَلَى جَعْلِ الْكَلَامِ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً، أَوْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِإِيصَالِ الْمَعْلُومِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، أَوْ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِإِبْلَاغِ الْمُرَادِ إِلَى الْمُخَاطَبِ. فَالْأَشَاعِرَةُ قَالُوا: تَكْلِيمُ اللَّهِ عَبْدَهُ هُوَ أَنْ يَخْلُقَ لِلْعَبْدِ إِدْرَاكًا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ يَتَحَصَّلُ بِهِ الْعِلْمَ بِكَلَامِ اللَّهِ دُونَ حُرُوفٍ وَلَا أَصْوَاتٍ. وَقَدْ وَرَدَ تَمْثِيلُهُ بِأَنَّ مُوسَى سَمِعَ مِثْلَ الرَّعْدِ عَلِمَ مِنْهُ مَدْلُولَ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ. قُلْتُ: وَقَدْ
مَثَّلَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ «الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»
، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْمُوعُ لِلرَّسُولِ أَوِ الْمَلَكِ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا بَلْ هُوَ عِلْمٌ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَةِ سَمْعِهِ يَتَّصِلُ بِكَلَامِ اللَّهِ، وَهُوَ تَعَلُّقٌ مِنْ تَعَلُّقَاتِ صِفَةِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ بِالْمُكَلِّمِ فِيمَا لَا يَزَالُ، فَذَلِكَ التَّعَلُّقُ حَادِثٌ لَا مَحَالَةَ كَتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَخْلُقُ اللَّهُ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا بِلُغَةِ الرَّسُولِ فَيَسْمَعُهَا الرَّسُولُ، فَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِعِلْمٍ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ، يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، فَهُمْ يُفَسِّرُونَهُ بِمِثْلِ مَا نُفَسِّرُ بِهِ نَحْنُ نُزُولَ الْقُرْآنِ فَإِسْنَادُ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ فِي الْإِسْنَادِ، عَلَى قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ. وَالْكَلَامُ حَقِيقَةً حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ، وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ فِي الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ أَحَدٌ بِأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ تَتَّصِفُ بِهَا الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ. وَهُوَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ غَيْرُ الْوَحْيِ الَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِ الرَّسُولِ، وَغَيْرُ التَّبْلِيغِ الَّذِي يَكُونُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: ٥١].
37
أَمَّا كَلَامُ اللَّهِ الْوَارِدُ لِلرَّسُولِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ وبالتّوراة وَالْإِنْجِيل وَبِالزَّبُورِ: فَتِلْكَ أَلْفَاظٌ وَحُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ يُعْلِمُهَا اللَّهُ لِلْمَلَكِ بِكَيْفِيَّةٍ لَا نَعْلَمُهَا، يَعْلَمُ بِهَا الْمَلَكُ أَنَّ اللَّهَ يَدُلُّ، بِالْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ الْمُلْقَاةِ لِلْمَلَكِ، عَلَى مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَيُلْقِيهَا الْمَلَكُ عَلَى الرَّسُولِ كَمَا هِيَ قَالَ تَعَالَى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ
[الشورى: ٥١] وَقَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٣- ١٩٥]. وَهَذَا لَا يَمْتَرِي فِي حُدُوثِهِ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْعِلْمِ فِي الدِّينِ. وَلَكِنْ أَمْسَكَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِحُدُوثِهِ، أَوْ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا، فِي مَجَالِسِ الْمُنَاظَرَةِ الَّتِي غَشِيَتْهَا الْعَامَّةُ، أَوْ ظُلْمَةُ الْمُكَابَرَةِ، وَالتَّحَفُّزُ إِلَى النَّبْزِ وَالْأَذَى: دَفْعًا لِلْإِيهَامِ، وَإِبْقَاءً عَلَى النِّسْبَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَنَصُّلًا من غوغاء الطَّعَام، فَرَحِمَ اللَّهُ نُفُوسًا فَتَنَتْ، وَأَجْسَادًا أَوْجَعَتْ، وَأَفْوَاهًا سَكَتَتْ، وَالْخَيْرَ أَرَادُوا، سَوَاءً اقْتَصَدُوا أَمْ زَادُوا. وَاللَّهُ حَسِيبُ الَّذِينَ أَلَّبُوا عَلَيْهِمْ وَجَمَعُوا، وَأَغْرُوا بِهِمْ وَبِئْسَ مَا صَنَعُوا.
وَقَوْلُهُ تَكْلِيماً مَصْدَرٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَالتَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ يَرْجِعُ إِلَى تَأْكِيدِ النِّسْبَةِ وَتَحْقِيقِهَا مِثْلَ (قَدْ) وَ (إِنَّ)، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ رَفْعُ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَتِ الْعَرَبُ بِالْمَصْدَرِ أَفْعَالًا لَمْ تُسْتَعْمَلْ إِلَّا مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يُطَهِّرُهُمُ الطَّهَارَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ، أَيِ الْكَمَالَ النَّفْسِيَّ، فَلَمْ يُفِدِ التَّأْكِيدُ رَفْعَ الْمَجَازِ. وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ تَذُمُّ زَوْجَهَا رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ:
بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدُهُ وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامَ الْمَطَارِفُ
وَلَيْسَ الْعَجِيجُ إِلَّا مَجَازًا، فَالْمَصْدَرُ يُؤَكِّدُ، أَيْ يُحَقِّقُ حُصُول الْفِعْل الموكّد عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْنَى قَبْلَ التَّأْكِيدِ.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: تَكْلِيماً هُنَا: أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِحَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ بِكَلَامٍ، أَوْ أَوْحَى إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ صُدُورِ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ جَانِبِ اللَّهِ فَغَرَضٌ آخَرُ هُوَ مَجَالٌ لِلنَّظَرِ بَيْنَ الْفِرَقِ، وَلِذَلِكَ
38
فَاحْتِجَاجُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى الصِّفَةَ الذَّاتِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِاللَّهِ تَعَالَى احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ الْمَازِرِيُّ قَالَ فِي «شَرْحِ التَّلْقِينِ» : إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى مُبَاشَرَةً بَلْ بِوَاسِطَةِ خَلْقِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ، وَأَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ التُّونِسِيَّ، شَيْخَ ابْنِ عَرَفَةَ، رَدَّهُ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ لِإِزَالَةِ
الشَّكِّ عَنِ الْحَدِيثِ لَا عَنِ الْمُحَدِّثِ عَنْهُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا يَؤُولُ إِلَى تَأْيِيدِ رَدِّ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
وَقَوْلُهُ: رُسُلًا حَالٌ مِنَ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ رُسُلًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهِيَ حَالٌ مُوَطِّئَةٌ لِصِفَتِهَا، أَعْنِي مُبَشِّرِينَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَال.
وَقَوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَسُوقٌ لِبَيَانِ صِحَّةِ الرِّسَالَةِ مَعَ الْخُلُوِّ عَنْ هُبُوطِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣]. فموقع قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ مَوْقِعَ الْإِدْمَاجِ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ بِحِكْمَةٍ مِنَ الحكم فِي بعثته الرُّسُلَ.
وَالْحُجَّةُ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي وَحَقِّيَّةِ الْمُعْتَذِرِ، فَهِيَ تَقْتَضِي عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ أَوِ التَّقْصِيرِ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْعُذْرُ الْبَيِّنُ الَّذِي يُوجِبُ التَّنَصُّلَ مِنَ الْغَضَبِ وَالْعِقَابِ.
فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ لِقَطْعِ عُذْرِ الْبَشَرِ إِذَا سُئِلُوا عَنْ جَرَائِمِ أَعْمَالِهِمْ، وَاسْتَحَقُّوا غَضَبَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ لِلنَّاسِ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ حُجَّةً إِلَى اللَّهِ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْقَصَص: ٤٧].
وَأَشْعَرَتِ الْآيَةُ أَنَّ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ مَا هُوَ بِحَيْثُ يُغْضِبُ اللَّهَ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَهِيَ الْأَفْعَالُ الَّتِي تَدُلُّ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ عَلَى قُبْحِهَا لِإِفْضَائِهَا إِلَى الْفَسَادِ وَالْأَضْرَارِ الْبَيِّنَةِ. وَوَجْهُ الْإِشْعَارِ أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا تُقَابِلُ مُحَاوَلَةَ عَمَلٍ مَا، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ لِقَطْعِ الْحُجَّةِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ حِينَ بَعَثَ الرُّسُلَ كَانَ بِصَدَدِ أَنْ يُؤَاخِذَ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمْ، فَاقْتَضَتْ رَحْمَتُهُ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّتَهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَإِرْشَادِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ قَطْعَ الْحُجَّةِ عِلَّةً غَائِيَّةً لِلتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ: إِذِ التَّبْشِيرُ وَالْإِنْذَارُ إِنَّمَا يُبَيِّنَانِ عَوَاقِبَ الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَلِّلْ بَعْثَةَ الرُّسُلِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ وَمَا يُسْخِطُهُ.
39
فَهَذِهِ الْآيَةُ مُلْجِئَةٌ جَمِيعَ الْفِرَقِ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِالذُّنُوبِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذُّنُوبُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الِاعْتِقَادِ، وَالرَّاجِعَةُ إِلَى الْعَمَلِ، وَفِي وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ. فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ عِنْدَنَا مِنْ تَمَامِ الْعَدْلِ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرْسِلْهُمْ لَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْعَذَابِ مُجَرَّدَ الْإِطْلَاقِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْخَالِقِيَّةُ إِذْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَكَانَتْ عَدْلًا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ.
فَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ تُتَرْجَمُ عَنْ أَقْوَالِهِمْ طَرِيقَةُ الْأَشْعَرِيِّ، فَعَمَّمُوا وَقَالُوا:
لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى تَرْكٍ أَوْ فِعْلٍ إِلَّا بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ حَتَّى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا: مِثْلِ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء:
١٥] وَبِالْإِجْمَاعِ. وَفِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ نَظَرٌ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ نَظَرٌ آخَرُ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ، وَهِيَ ظَوَاهِرُ، عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ نَظَرٌ ثَالِثٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَكَاثَرَتْ كَثْرَةً أَبْلَغَتْهَا إِلَى مَرْتَبَةِ الْقَطْعِ، وَهَذَا أَيْضًا مَجَالٌ لِلنَّظَرِ، وَهُمْ مُلْجَئُونَ إِلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِمُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ.
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرُّسُلَ فِي الْآيَةِ كُلٌّ إِفْرَادِيٌّ، صَادِقٌ بِالرَّسُولِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّعْوَةِ. فَأَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى جُمْلَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ بِالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، الَّذِينَ تَقَرَّرَ مِنْ دَعَوَاتِهِمْ عِنْدَ الْبَشَرِ وُجُوبُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَأَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى تَفْصِيلِ الْآيَاتِ وَالصِّفَاتِ وَإِلَى فُرُوعِ الشَّرَائِعِ، فَهِيَ تَتَقَرَّرُ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَخْتَصُّونَ بِأُمَمٍ مَعْرُوفَةٍ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أثبتوا الْحسن والقبح الذَّاتِيَّيْنِ فِي حَالَةِ عَدَمِ إِرْسَالِ رَسُولٍ فَقَالُوا:
إِنَّ الْعَقْلَ يَثْبُتُ بِهِ وُجُوبُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَحُرْمَةُ كَثِيرٍ، لَا سِيَّمَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ دَافِعَةٌ لِلضُّرِّ الْمَظْنُونِ، وَهُوَ الضُّرُّ الْأُخْرَوِيُّ، مِنْ لِحَاقِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَخَوْفِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفِرَقِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْمُحَارِبَاتِ، وَهُوَ ضُرٌّ دُنْيَوِيٌّ، وَكُلُّ مَا يَدْفَعُ الضُّرَّ الْمَظْنُونَ أَوِ الْمَشْكُوكَ وَاجِبٌ عَقْلًا،
40
كَمَنْ أَرَادَ سُلُوكَ طَرِيقٍ فَأُخْبِرَ بِأَنَّ فِيهِ سَبُعًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي أَنْ يَتَوَقَّفَ وَيَبْحَثَ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَسْلُكُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ النَّظَرِ فِي مُعْجِزَةِ الرُّسُلِ وَسَائِرِ مَا يُؤَدِّي إِلَى ثُبُوتِ الشَّرَائِعِ. فَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» إِذْ قَالَ: «فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ قَبْلَ الرُّسُلِ وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي النَّظَرُ فِيهَا مُوَصِّلٌ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَالرُّسُلُ فِي أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَتَوَصَّلُوا إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، أَيْ قَبْلَ الرِّسَالَةِ. قُلْتُ: الرُّسُلُ مُنَبِّهُونَ عَنِ الْغَفْلَةِ وَبَاعِثُونَ عَلَى النَّظَرِ مَعَ تَبْلِيغِ مَا حَمَلُوهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَتَعْلِيمِ الشَّرَائِعِ فَكَانَ إِرْسَالُهُمْ إِزَاحَةً لِلْعِلَّةِ وَتَتْمِيمًا لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ». يَعْنِي أَنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ لَا عَدْلٌ، وَلَوْ لَمْ يَبْعَثْهُمْ لَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى الْقَبَائِحِ عَدْلًا، فَبِعْثَةُ الرُّسُلِ إِتْمَامٌ لِلْحُجَّةِ فِي أَصْلِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَإِتْمَامٌ لِلْحُجَّةِ فِي زِيَادَةِ التَّزْكِيَةِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: رَبَّنَا لِمَ لَمْ تُرْشِدْنَا إِلَى مَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِنَا فِي مَرَاتِبِ الصِّدِّيقِينَ وَقَصَرْتَنَا عَلَى مُجَرَّدِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، حِينَ اهْتَدَيْنَا لِأَصْلِ التَّوْحِيدِ بِعُقُولِنَا.
وَقَالَ الْمَاتِرِيدِيُّ بِمُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ فِيمَا عَدَا الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إِرَادَةِ إِفْحَامِ الرُّسُلِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ رَآهُ مَبْنَى أُصُولِ الدِّينِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ فِي «التَّوْضِيحِ» «أَيْ يَكُونُ الْفِعْلُ صِفَةً يُحْمَدُ فَاعِلُ الْفِعْلِ وَيُثَابُ لِأَجْلِهَا أَوْ يُذَمُّ وَيُعَاقَبُ لِأَجْلِهَا لِأَنَّ وُجُوبَ تَصْدِيقِ النَّبِيءِ إِنْ تَوَقَّفَ عَلَى الشَّرْعِ يُلْزِمُ الدَّوْرَ» وَصَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّهَا تُعَرِّفُ بِالشَّرْعِ أَيْضًا.
وَقَدْ ضَايَقَ الْمُعْتَزِلَةُ الْأَشَاعِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِ وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ فَقَالُوا: لَوْ لَمْ تَجِبِ الْمَعْرِفَةُ إِلَّا بِالشَّرْعِ لَلَزِمَ إِفْحَامُ الرُّسُلِ، فَلَمْ تَكُنْ لِلْبَعْثَةِ فَائِدَةٌ. وَوَجْهُ اللُّزُومِ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا قَالَ لِأَحَدٍ: انْظُرْ فِي مُعْجِزَتِي حَتَّى يَظْهَرَ صِدْقِي لَدَيْكَ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنْظُرُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ، لِأَنَّ تَرْكَ غَيْرَ الْوَاجِبِ جَائِزٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيَّ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدِي الْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ، وَلَا يَثْبُتُ الشَّرْعُ مَا دُمْتُ لَمْ أَنْظُرْ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرْعِ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ.
وَظَاهَرَهُمُ الْمَاتِرِيدِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ.
41
وَلَمْ أَرَ لِلْأَشَاعِرَةِ جَوَابًا مُقْنِعًا، سِوَى أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» أَجَابَ: بِأَنَّ هَذَا مُشْتَرِكُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّأَمُّلِ فِي الْمُعْجِزَةِ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ لَا مَحَالَةَ، فَلِمَنْ دَعَاهُ الرَّسُولُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَتَأَمَّلُ فِي الْمُعْجِزَةِ مَا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ عَقْلًا، وَلَا يَجِبُ عَلَيَّ عَقْلًا مَا لَمْ أَنْظُرْ، لِأَنَّهُ وُجُوبٌ نَظَرِيٌّ، وَالنَّظَرِيُّ يَحْتَاجُ إِلَى تَرْتِيبِ مُقَدِّمَاتٍ، فَأَنَا لَا أُرَتِّبُهَا.
وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ جَمِيعُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَعْدَهُ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ مِثْلُ الْبَيْضَاوِيّ والعضد والتفتازانيّ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «الشَّامِلِ» : إِنَّهُ اعْتِرَافٌ بِلُزُومِ الْإِفْحَامِ فَلَا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ بَلْ يُعَمِّمُهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَلَمْ يَحْصُلْ دَفْعُ الْإِشْكَالِ وَكَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ رَدٌّ مُتَمَكِّنٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنْ يُسْقِطَ اسْتِدْلَالَ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ بِتَمَحُّضِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ مَطْلُوبُنَا.
وَأَنَا أَرَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: بِالْمَنْعِ، وَهُوَ أَنْ نَمْنَعَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ سَمَاعِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ مُتَوَقِّفًا عَلَى الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَالنَّظَرِ فِي مُعْجِزَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ يَلْزَمُ إِفْحَامَ الرَّسُولِ، بَلْ نَدَّعِي أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَبَتَ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي تَعَاقَبَ وُرُودُهَا بَيْنَ الْبَشَرِ، بِحَيْثُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ مَنْ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالْمَدَنِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ بِأَنَّ دُعَاةً أَتَوْا إِلَى النَّاسِ فِي عُصُورٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَدَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ: كُلٌّ يَقُولُ إِنَّهُ مَبْعُوثٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَاسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ أَنَّ هُنَالِكَ إِيمَانًا وَكُفْرًا، وَنَجَاةً وَارْتِبَاقًا، اسْتِقْرَارًا لَا يَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ سَبِيلًا إِلَى دَفْعِهِ، فَإِذَا دَعَا الرَّسُولُ النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ حَضَرَتْ فِي نَفْسِ الْمَدْعُوِّ
السَّامِعِ تِلْكَ الْأَخْبَارُ الْمَاضِيَةُ وَالْمُحَاوَرَاتُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ وُجُوبًا اضْطِرَارِيًّا اسْتِمَاعُهُ وَالنَّظَرُ فِي الْأَمْرِ الْمُقَرَّرِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ، وَلِذَلِكَ آخَذَ اللَّهُ أَهْلَ الْفَتْرَةِ بِالْإِشْرَاكِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلِذَلِكَ فَلَوْ قَدَّرْنَا أَحَدًا لَمْ يُخَالِطْ جَمَاعَاتِ الْبَشَرِ، وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ شُعُورٌ بِأَنَّ النَّاسَ آمَنُوا وَكَفَرُوا وَأَثْبَتُوا وَعَطَّلُوا، لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِصْغَاءُ إِلَى الرَّسُولِ لِأَنَّ ذَلِكَ
42
الِانْسِيَاقَ الضَّرُورِيَّ مَفْقُودٌ عِنْدَهُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْوُجُوبُ غَيْرَ شَرْعِيٍّ، وَلَا عَقْلِيٍّ نَظَرِيٍّ، بَلْ هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهَا فَلَا عَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْمُؤَاخَذَةُ بِتَعَمُّدِ مُخَالَفَتِهَا.
وَثَانِي الْجَوَابَيْنِ: بِالتَّسْلِيمِ، غَيْرَ أَنَّ مَا وَقَرَ فِي جِبِلَّةِ الْبَشَرِ مِنِ اسْتِطْلَاعِ الْحَوَادِثِ وَالْأَخْبَارِ الْجَدِيدَةِ، وَالْإِصْغَاءِ لِكُلِّ صَاحِبِ دَعْوَةٍ، أَمْرٌ يَحْمِلُ كُلَّ مَنْ دَعَاهُ الرَّسُولُ إِلَى الدِّينِ عَلَى أَنْ يَسْتَمِعَ لِكَلَامِهِ، وَيَتَلَقَّى دَعْوَتَهُ وَتَحَدِّيَهُ وَمُعْجِزَتَهُ، فَلَا يَشْعُرُ إِلَّا وَقَدْ سَلَكَتْ دَعْوَتُهُ إِلَى نَفْسِ الْمَدْعُوِّ، فَحَرَّكَتْ فِيهِ دَاعِيَةَ النَّظَرِ، فَهُوَ يَنْجَذِبُ إِلَى تَلَقِّي الدَّعْوَةِ، رُوَيْدًا رُوَيْدًا، حَتَّى يَجِدَ نَفْسَهُ قَدْ وَعَاهَا وَعَلِمَهَا عِلْمًا لَا يَسْتَطِيعُ بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَا أَنْظُرُ الْمُعْجِزَةَ، أَوْ لَا أُصْغِي إِلَى الدَّعْوَةِ. فَإِنْ هُوَ أَعْرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَارَ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَكَانَ مُؤَاخَذًا، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَحَدًا مَرَّ بِرَسُولٍ يَدْعُو فَشَغَلَهُ شَاغِلٌ عَنْ تَعَرُّفِ أَمْرِهِ وَالْإِصْغَاءِ لِكَلَامِهِ وَالنَّظَرِ فِي أَعْمَالِهِ، لَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُخَاطِبًا، وَأَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ وَأَمْثَالَهُ إِذَا أَفْحَمَ الرَّسُولَ لَا تَتَعَطَّلُ الرِّسَالَةُ، وَلَكِنَّهُ خَسِرَ هَدْيَهُ، وَسَفَّهَ نَفْسَهُ.
وَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا أَنَّ مَنْ سَمِعَ دَعْوَةَ الرَّسُولِ فَجَعَلَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَأَعْرَضَ هَارِبًا حِينَئِذٍ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وُجُوبُ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ هَذَا مَا صَنَعَ صُنْعَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَهَيَّأَ لِتَوَجُّهِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ إِذَا سَمِعَ فَعَصَى، وَكَفَى بِهَذَا شُعُورًا مِنْهُ بِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ نُوحٍ: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ- أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ- لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: ٧].
وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَ الرُّسُلِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَهُمْ، لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهَا حَتَّى تَسِيرَ مِسْرَى الْأَمْثَالِ.
وَمُنَاسَبَةُ التَّذْيِيلِ بِالْوَصْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: عَزِيزاً حَكِيماً: أَمَّا بِوَصْفِ الْحَكِيمِ فَظَاهِرَةٌ،
43
لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا دَلِيلُ حِكْمَتِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا بِوَصْفِ الْعَزِيزِ فَلِأَنَّ الْعَزِيزَ يُنَاسِبُ عِزَّتَهُ أَنْ يَكُونَ غَالِبًا مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ فَهُوَ غَالِبٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْبُودِيَّةِ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَغَالِبٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْقُولِيَّةِ إِذْ شَاءَ أَنْ لَا يُؤَاخِذَ عَبِيدَهُ إِلَّا بَعْدَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ. وَتَأْخِيرُ
وَصْفِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ إِجْرَاءَ عِزَّتِهِ عَلَى هَذَا التَّمَامِ هُوَ أَيْضًا مِنْ ضُرُوبِ الْحِكْمَة الباهرة.
[١٦٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٦٦]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦)
هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَعْنًى أَثَارَهُ الْكَلَامُ: لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ من قَوْله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النِّسَاء: ١٥٣] مَسُوقٌ مَسَاقَ بَيَانِ تَعَنُّتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ عَنْ أَنْ يَشْهَدُوا بِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ نِسْبَةِ الْقُرْآنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ يَأْبَوْنَ مِنَ الشَّهَادَةِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. فَإِنَّ الِاسْتِدْرَاكَ تَعْقِيبُ الْكَلَامِ بِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ أَوْ نَفْيُهُ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يَشْهَدْ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكِنَّ اللَّهَ شَهِدَ وَشَهَادَةُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ شَهَادَتِهِمْ.
وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٢]، أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ إِخْبَارٌ لِتَصْدِيقِ مُخْبِرٍ، وَتَكْذِيبِ مُخْبِرٍ آخَرَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْخَبَرِ الْمُحَقِّقِ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُهُ الشَّكُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٨]. فَالشَّهَادَةُ فِي قَوْلِهِ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ أُطْلِقَتْ عَلَى الْإِخْبَارِ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ إِطْلَاقًا مَجَازِيًّا، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ تَضَمَّنَ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ وَتَكْذِيبَ مُعَانَدِيهِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ مِنَ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقِيِّ هُوَ غَيْرُ الْإِطْلَاقِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: ١٨] فَإِنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَعُطِفَ شَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى شَهَادَةِ اللَّهِ: لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِتَعَدُّدِ الشُّهُودِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ اللَّهِ مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ وَشَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ
حَقِيقَةٌ. وَإِظْهَارُ فِعْلِ يَشْهَدُونَ مَعَ وُجُودِ حَرْفِ الْعَطْفِ لِلتَّأْكِيدِ. وَحَرْفُ (لَكِنْ) بِسُكُونِ النُّونِ مُخَفَّفُ لَكِنَّ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ (إِنَّ) وَإِذَا خُفِّفَتْ بَطُلَ عَمَلُهَا.
وَقَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَقَعَ تَحْوِيلٌ فِي تَرْكِيبِ الْجُمْلَةِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ، لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: يَشْهَدُ بِإِنْزَالِ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ بِعِلْمِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ لَمْ يُفَدِ الْمَشْهُودُ بِهِ إِلَّا ضِمْنًا مَعَ الْمَشْهُودِ فِيهِ إِذْ جِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِيُوصِلَ بِصِلَةٍ فِيهَا إِيمَاءٌ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّهَادَةِ الَّذِي هُوَ حَقُّ مَدْخُولِ الْبَاءِ بَعْدَ مَادَّةِ شَهِدَ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ مُكَمِّلَةَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ التَّحْوِيلِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: «مَوْقِعُ قَوْلِهِ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ مَوْقِعُ الْجُمْلَةِ الْمُفَسِّرَةِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلشَّهَادَةِ وَأَنَّ شَهَادَتَهُ بِصِحَّتِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ». فَلَعَلَّهُ يَجْعَلُ جُمْلَةَ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ مُسْتَقِلَّةً بِالْفَائِدَةِ، وَأَنَّ مَعْنَى بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ بِصِحَّةِ مَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ، وَمَا ذَكَرْتُهُ أَعْرَقُ فِي الْبَلَاغَةِ.
وَمَعْنَى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أَيْ مُتَلَبِّسًا بِعِلْمِهِ، أَيْ بَالِغًا الْغَايَةَ فِي بَابِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، شَأْنُ مَا يَكُونُ بِعِلْمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَكَمَا أَعْجَزَ الْبُلَغَاءَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ أَعْجَزَ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَصْلُهُ: كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا كَقَوْلِهِ:
كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا أَوْ يُضَمَّنُ (كَفَى) مَعْنَى اقْتَنِعُوا، فَتَكُونُ الْبَاء للتعدية.
[١٦٧]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٦٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً
45
(١٦٧)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا أَهْلَ الْكِتَابِ، أَيِ الْيَهُودَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ الرَّادِّ عَلَى الْيَهُودِ مِنَ التَّحَاوُرِ الْمُتَقَدِّمِ. وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَدِّ الْقَاصِرِ الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ يَصِدُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ-، أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. أَيِ الْإِسْلَامِ، أَوْ هُوَ مِنْ صَدَّ الْمُتَعَدِّي الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ- بِضَمِّ الصَّادِ-، أَيْ صَدُّوا النَّاسَ. وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ. فَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَرَّضُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْفِتْنَةِ، وَيُقَوُّونَ أَوْهَامَ الْمُشْرِكِينَ بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُشْرِكِينَ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، انْتَقَلَ إِلَيْهِ بِمُنَاسَبَةِ الْخَوْضِ فِي مُنَاوَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْإِسْلَامِ. وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ مَشْهُورٌ.
وَالضَّلَالُ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ ضَيَاعٌ عَنِ الْإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ، فَإِطْلَاقُ الضَّلَالِ عَلَى الْكُفْرِ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اسْتِعَارَةِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ لِلْإِيمَانِ. وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ مَعَ أَنَّ الْبُعْدَ مِنْ صِفَاتِ الْمَسَافَاتِ هُوَ اسْتِعَارَةُ الْبُعْدِ لِشِدَّةِ الضَّلَالِ وَكَمَالِهِ فِي نَوْعِهِ، بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُ مِقْدَارُهُ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ: أَنْ يُشَبِّهُوا بُلُوغَ الْكَمَالِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَسَافَاتِ وَالنِّهَايَاتِ كَقَوْلِهِمْ: بَعِيدُ الْغَوْرِ، وَبَعِيدُ الْقَعْرِ، وَلَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلَا غَايَةَ لَهُ، وَرَجُلٌ بَعِيدُ الْهِمَّةِ، وَبَعِيدُ الْمَرْمَى، وَلَا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا، وَبَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَقَوْلِهِمْ:
هَذَا إِغْرَاقٌ فِي كَذَا.
وَمِنْ بَدِيعِ مُنَاسَبَتِهِ هُنَا أَنَّ الضَّلَالَ الْحَقِيقِيَّ يَكُونُ فِي الْفَيَافِي وَالْمَوَامِي، فَإِذَا اشْتَدَّ التِّيهُ وَالضَّلَالُ بَعُدَ صَاحِبُهُ عَنِ الْمَعْمُورِ، فَكَانَ فِي وَصْفِهِ بِالْبَعِيدِ تَعَاهُدٌ لِلْحَقِيقَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ نقلا عرفيا.
46

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٦٨ إِلَى ١٦٩]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩)
الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النِّسَاء: ١٦٧]، لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ مَعْرِفَةَ جَزَاءِ هَذَا الضلال قبيّنته هَذِهِ الْجُمْلَةُ.
وَإِعَادَةُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ دُونَ أَنْ يُذْكَرَ ضَمِيرُهُمْ لِتُبْنَى عَلَيْهِ صِلَةُ وَظَلَمُوا، وَلِأَنَّ فِي تَكْرِيرِ الصِّلَةِ تَنْدِيدًا عَلَيْهِمْ. وَيَجِيءُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الظُّلْمِ عَلَى الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ ظُلْمُ النَّفْسِ، وَظُلْمُ النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ اللَّائِقُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الشِّرْكُ، كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَال الْقُرْآن كَقَوْلِه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣]، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ فِي الْأَنْوَاعِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ، كَظُلْمِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَتَأْلِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَظُلْمِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَعْذِيبِهِمْ فِي اللَّهِ، وَإِخْرَاجِهِمْ، وَمُصَادَرَتِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَمُعَامَلَتِهِمْ بِالنِّفَاقِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالْخِدَاعِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ ارْتِكَابُ الْمَفَاسِدِ وَالْجَرَائِمِ مِمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ أَنَّهُ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ.
وَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ صِيغَةُ جُحُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩]، فَهِيَ تَقْتَضِي تَحْقِيقَ النَّفْيِ، وَقَدْ نُفِيَ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ تَحْذِيرًا مِنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ نِيطَ بِالْوَصْفِ وَلَمْ يُنَطْ بِأَشْخَاصٍ مَعْرُوفِينَ، فَإِنْ هُمْ أَقْلَعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا. وَمَعْنَى نَفْيِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا: إِنْ كَانَ طَرِيقا يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهُوَ وَاضِحٌ: أَيْ لَا يهْدِيهم طَرِيقا بوصلهم إِلَى مَكَانٍ إِلَّا طَرِيقًا يُوَصِّلُ إِلَى جَهَنَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الطَّرِيقِ الْآيَاتُ فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦]. فَنَفْيُ هَدْيِهِمْ إِلَيْهِ
إِنْذَارٌ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يُخَيِّمَا عَلَى الْقَلْبِ بِغِشَاوَةٍ تَمْنَعُهُ مِنْ وُصُولِ الْهُدَى إِلَيْهِ، لِيُحَذِّرَ الْمُتَلَبِّسَ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ مِنَ التَّوَغُّلِ فِيهِمَا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يُصْبِحَ وَلَا
مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهُمَا. وَنَفْيُ هُدَى اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي نَفْيِ تَيْسِيرِ أَسْبَابِ الْهُدَى بِحَسَبِ قَانُونِ حُصُولِ الْأَسْبَابِ وَحُصُولِ آثَارِهَا بَعْدَهَا. وَعَلَى أَيِّ الِاحْتِمَالَيْنِ فَتَوْبَةُ الْكَافِرِ الظَّالِمِ بِالْإِيمَانِ مَقْبُولَةٌ، وَكَثِيرًا مَا آمَنَ الْكَافِرُونَ الظَّالِمُونَ وَحَسُنَ إِيمَانُهُمْ، وَآيَاتُ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَكَذَلِكَ مُشَاهَدَةُ الْوَاقِعِ، مِمَّا يَهْدِي إِلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَرِيبًا، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النِّسَاء: ١٣٧] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ الَّذِي نَفَى هَدْيَهُمْ إِلَيْهِ الطَّرِيقَ الْحَقِيقِيَّ، وَمُنْقَطِعٌ إِنْ أُرِيدَ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ الْهُدَى. وَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ: لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلْإِنْذَارِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ رَائِحَةُ إِطْمَاعٍ، ثُمَّ إِذَا سُمِعَ الْمُسْتَثْنَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْذَارِ. وَفِيهِ تَهَكُّمٌ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنَ الطَّرِيقِ الْمَعْمُولِ لِيَهْدِيَهُمْ، وَلَيْسَ الْإِقْحَامُ بِهِمْ فِي طَرِيقِ جَهَنَّمَ بِهَدْيٍ لِأَنَّ الْهَدْيَ هُوَ إِرْشَادُ الضَّالِّ إِلَى الْمَكَانِ الْمَحْبُوبِ.
وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَكانَ ذلِكَ أَيِ الْإِقْحَامُ بِهِمْ فِي طَرِيقِ النَّارِ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا إِذْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَإِذْ هُمْ عَبِيدُهُ يَصْرِفُهُمْ إِلَى حَيْثُ يَشَاء.
[١٧٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٧٠]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)
بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْحِوَارِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ خِطَابِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِمَا هُوَ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا:
48
لِيَكُونَ تَذْيِيلًا وَتَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَهُ، إِذْ قَدْ تَهَيَّأَ مِنَ الْقَوَارِعِ السَّالِفَةِ مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ، وَاتَّسَعَتِ الْمَحَجَّةُ، فَكَانَ الْمَقَامُ لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْخَطِيبِ إِذَا تَهَيَّأَتِ الْأَسْمَاعُ، وَلَانَتِ الطِّبَاعُ.
وَيُسَمَّى هَذَا بِالْمَقْصِدِ مِنَ الْخِطَابِ، وَمَا يَتَقَدَّمُهُ بِالْمُقَدِّمَةِ. عَلَى أنّ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ يَعْنِي خُصُوصَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْغَالِبِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الرَّسُولُ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. (والحقّ) هُوَ الشَّرِيعَةُ وَالْقُرْآنُ، ومِنْ رَبِّكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ جاءَكُمُ، أَوْ صِفَةٌ لِلْحَقِّ، وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ فِيهِمَا، وَتَعْدِيَةُ جَاءَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّ الَّذِي يَجِيءُ مُهْتَمًّا بِنَاسٍ يَكُونُ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُ، وَأَيْضًا فِي طَرِيقِ الْإِضَافَةِ مِنْ قَوْلِهِ رَبِّكُمْ تَرْغِيبٌ ثَانٍ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنِ اخْتِصَاصِهِمْ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي هُوَ آتٍ مِنْ رَبِّهِمْ، فَلِذَلِكَ أُتِيَ بِالْأَمْرِ
بِالْإِيمَانِ مُفَرَّعًا عَلَى هَاتِهِ الْجُمَلِ بِقَوْلِهِ: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.
وَانْتَصَبَ خَيْراً عَلَى تَعَلُّقِهِ بِمَحْذُوفٍ لَازِمِ الْحَذْفِ فِي كَلَامِهِمْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَجَرَى مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَذَلِكَ فِيمَا دَلَّ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنَ الْكَلَامِ نَحْوَ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النِّسَاء: ١٧١]، وَوَرَاءَكَ أَوْسَعَ لَكَ، أَيْ تَأَخَّرْ، وَحَسْبُكَ خَيْرًا لَكَ، وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ أَوِ الرُّبَى بَيْنَهُمَا. أَسْهَلَا
فَنَصْبُهُ مِمَّا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَنِ الْعَرَبِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النَّحْوِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَحْذُوفِ: فَجَعَلَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِعْلًا أَمْرًا مَدْلُولًا عَلَيْهِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، تَقْدِيرُهُ: ايْتِ أَوِ اقْصِدْ، قَالَا: لِأَنَّكَ لَمَّا قُلْتَ لَهُ: انْتَهِ، أَوِ افْعَلْ، أَوْ حَسْبُكَ، فَأَنْتَ تَحْمِلُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ أَفْضَلَ لَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: هُوَ فِي مِثْلِهِ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ لَا يَتَأَتَّى فِيمَا كَانَ مُنْتَصِبًا بَعْدَ نَهْيٍ، وَلَا فِيمَا كَانَ مُنْتَصِبًا بَعْدَ غَيْرِ مُتَصَرِّفٍ، نَحْوَ: وَرَاءَكَ وَحَسْبُكَ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: نُصِبَ بِكَانَ مَحْذُوفَةٍ مَعَ خَبَرِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: يَكُنْ خَيْرًا. وَعِنْدِي:
أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى
49
الْحَالِ مِنَ الْمَصْدَرِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْفِعْلُ، وَحْدَهُ، أَوْ مَعَ حَرْفِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَآمَنُوا حَالَ كَوْنِ الْإِيمَانِ خَيْرًا، وَحَسْبُكَ حَالُ كَوْنِ الِاكْتِفَاءِ خَيْرًا، وَلَا تَفْعَلْ كَذَا حَالَ كَوْنِ الِانْتِهَاءِ خَيْرًا. وَعَوْدُ الْحَالِ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ فِي مَثَلِهِ كَعَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨]، لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَرَى هَذَا مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَشَأْنُ الْأَمْثَالِ قُوَّةُ الْإِيجَازِ. وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَأَبُو الْبَقَاءِ.
وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَكْفُرُوا أُرِيدَ بِهِ أَنْ تَبْقَوْا عَلَى كُفْرِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ إِيمَانِكُمْ لِأَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَصَرَّحَ بِمَا حُذِفَ هُنَا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [٧] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُخَاطَبِينَ، أَيْ إِنَّ كُفْرَكُمْ لَا يُفْلِتُكُمْ مِنْ عِقَابِهِ، لِأَنَّكُمْ عَبِيدُهُ، لِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ.
[١٧١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٧١]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١)
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِخِطَابٍ مُوَجَّهٍ إِلَى النَّصَارَى خَاصَّةً. وَخُوطِبُوا بِعُنْوَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ خَالَفُوا كِتَابَهُمْ. وَقَرِينَةُ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى قَوْله: نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
[النِّسَاء: ١٧٢] فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنْ إِجْمَالِ قَوْلِهِ:
لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَابْتُدِئَتْ مَوْعِظَتُهُمْ بِالنَّهْيِ عَنِ الْغُلُوِّ لِأَنَّ النَّصَارَى غَلَوْا فِي تَعْظِيمِ عِيسَى- فَادَّعَوْا لَهُ بُنُوَّةَ اللَّهِ، وَجَعَلُوهُ ثَالِثَ الْآلِهَةِ.
وَالْغُلُوُّ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمَأْلُوفِ، مُشْتَقٌّ مِنْ غَلْوَةِ السَّهْمِ، وَهِيَ مُنْتَهَى انْدِفَاعِهِ،
50
وَاسْتُعِيرَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنَ الْمَعْقُولِ، أَوِ الْمَشْرُوعِ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ، وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَالْأَفْعَالِ. وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ أَنْ يُظْهِرَ الْمُتَدَيِّنُ مَا يَفُوتُ الْحَدَّ الَّذِي حَدَّدَ لَهُ الدِّينُ. وَنَهَاهُمْ عَنِ الْغُلُوِّ لِأَنَّهُ أَصْلٌ لِكَثِيرٍ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ الصَّادِقِينَ. وَغُلُوُّ أَهْلِ الْكِتَابِ تَجَاوُزُهُمُ الْحَدَّ الَّذِي طَلَبَهُ دِينُهُمْ مِنْهُمْ: فَالْيَهُودُ طُولِبُوا بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِمْ، فَتَجَاوَزُوهُ إِلَى بِغْضَةِ الرُّسُلِ كَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَالنَّصَارَى طُولِبُوا بِاتِّبَاعِ الْمَسِيحِ فَتَجَاوَزُوا فِيهِ الْحَدَّ إِلَى دَعْوَى إِلَهِيَّتِهِ أَوْ كَوْنِهِ ابْنَ اللَّهِ، مَعَ الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّهْيِ عَنِ الِافْتِرَاءِ الشَّنِيعِ. وَفِعْلُ الْقَوْلِ إِذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) دَلَّ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الْقَائِلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِ (عَلَى) نِسْبَةٌ كَاذِبَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [آل عمرَان: ٧٨].
وَمَعْنَى الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ هُنَا: أَنْ يَقُولُوا شَيْئًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ دِينِهِمْ، فَإِنَّ الدِّينَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَلَقَّى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْحَدِّ الَّذِي كَانَ الْغُلُوُّ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ مُجْمَلٌ وَمُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ.
وَلِكَوْنِهَا تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ فُصِلَتْ عَنْهَا. وَقَدْ أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ قَصْرَ الْمَسِيحِ عَلَى صِفَاتٍ ثَلَاثٍ: صِفَةُ الرِّسَالَةِ، وَصِفَةُ كَوْنِهِ كَلِمَةَ اللَّهِ أُلْقِيَتْ إِلَى مَرْيَمَ، وَصِفَةُ كَوْنِهِ رُوحًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَالْقَصْرُ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ. وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْقَصْرِ إِبْطَالُ مَا أَحْدَثَهُ غُلُوُّهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ غُلُوًّا أَخْرَجَهَا عَنْ كُنْهِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ ثَابِتَةٌ
لِعِيسَى، وَهُمْ مُثْبِتُونَ لَهَا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ وَصْفُ عِيسَى بِهَا، لَكِنَّهُمْ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ الْمَحْدُودَ لَهَا فَجعلُوا الرسَالَة النبوّة، وَجَعَلُوا الْكَلِمَةَ اتِّحَادَ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِعِيسَى فِي بَطْنِ مَرْيَمَ فَجَعَلُوا
51
عِيسَى ابْنًا لِلَّهِ وَمَرْيَمَ صَاحِبَةً لِلَّهِ- سُبْحَانَهُ-، وَجَعَلُوا مَعْنَى الرُّوحِ عَلَى مَا بِهِ تَكَوَّنَتْ حَقِيقَةُ الْمَسِيحِ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ مِنْ نَفْسِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ، أَيْ عِيسَى مَقْصُورٌ عَلَى صِفَةِ الرِّسَالَةِ وَالْكَلِمَةِ وَالرُّوحِ، لَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى مَا يُزَادُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ كَوْنِ الْمَسِيحِ ابْنًا لِلَّهِ وَاتِّحَادِ الْإِلَهِيَّةِ بِهِ وَكَوْنِ مَرْيَمَ صَاحِبَةً.
وَوَصْفُ الْمَسِيحِ بِأَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَصْفٌ جَاءَ التَّعْبِيرُ بِهِ فِي الْأَنَاجِيلِ فَفِي صَدْرِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَة، والكلامة كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ- ثُمَّ قَالَ- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا». وَقَدْ حَكَاهُ الْقُرْآنُ وَأَثْبَتَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْإِنْجِيلِيَّةِ، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَثَرُ كَلِمَةِ اللَّهِ. وَالْكَلِمَةُ هِيَ التَّكْوِينُ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ بِ (كُنْ). فَإِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى التَّكْوِينِ مَجَازٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِكَلِمَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ.
وَوَصْفُ عِيسَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِتَكْوِينِهِ التَّأْثِيرُ الظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فِي تَكْوِينِ الْأَجِنَّةِ، فَكَانَ حُدُوثُهُ بِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ، فَيَكُونُ فِي كَلِمَتُهُ فِي الْآيَةِ مَجَازَانِ: مَجَازُ حَذْفٍ، وَمَجَازُ اسْتِعَارَةٍ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً.
وَمَعْنَى أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أَوْصَلَهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوعِيَ فِي الضَّمِيرِ تَأْنِيثُ لَفْظِ الْكَلِمَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا عِيسَى، أَوْ أَرَادَ كَلِمَةَ أَمْرِ التَّكْوِينِ. وَوَصْفُ عِيسَى بِأَنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَصْفٌ وَقَعَ فِي الْأَنَاجِيلِ. وَقَدْ أَقَرَّهُ اللَّهُ هُنَا، فَهُوَ مِمَّا نَزَلَ حَقًّا.
وَمَعْنَى كَوْنِ عِيسَى رُوحًا مِنَ اللَّهِ أَنَّ رُوحَهُ مِنَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي هِيَ عَنَاصِرُ الْحَيَاةِ، لَكِنَّهَا نُسِبَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَى مَرْيَمَ بِدُونِ تَكَوُّنٍ فِي نُطْفَةٍ فَبِهَذَا امْتَازَ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَرْوَاحِ. وَوُصِفَ بِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ عِيسَى لَمَّا غَلَبَتْ عَلَى نَفْسِهِ الْمَلَكِيَّةُ وُصِفَ بِأَنَّهُ رُوحٌ، كَأَنَّ حُظُوظَ الْحَيَوَانِيَّةِ مُجَرَّدَةٌ عَنْهُ. وَقِيلَ: الرُّوحُ النَّفْخَةُ.
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي النَّفْسَ رُوحًا وَالنَّفْخَ رُوحًا. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَذْكُرُ لِرَفِيقِهِ أَنْ يُوقِدَ نَارًا بِحَطَبٍ:
52
فَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ فَأَحْيِهَا بِرُوحِكَ وَاقْتُتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرًا
(أَيْ بِنَفْخِكَ).
وَتَلْقِيبُ عِيسَى بِالرُّوحِ طَفَحَتْ بِهِ عِبَارَاتُ الْأَنَاجِيلِ. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ عَلَى التَّقَادِيرِ.
فَإِنْ قُلْتَ: مَا حِكْمَةُ وُقُوعِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ هُنَا عَلَى مَا فِيهِمَا مِنْ شُبْهَةٍ ضَلَّتْ بِهَا النَّصَارَى، وَهَلَّا وُصِفَ الْمَسِيحُ فِي جُمْلَةِ الْقَصْرِ بِمِثْلِ مَا وُصِفَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الْكَهْف: ١١٠] فَكَانَ أَصْرَحُ فِي بَيَانِ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَنْفَى لِلضَّلَالِ.
قُلْتُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَقَعَا فِي كَلَامِ الْإِنْجِيلِ، أَوْ فِي كَلَامِ الْحَوَارِيِّينَ وَصْفًا لِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَكَانَا مَفْهُومَيْنِ فِي لُغَةِ الْمُخَاطَبِينَ يَوْمَئِذٍ، فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ أَسَالِيبُ اللُّغَاتِ وَسَاءَ الْفَهْمُ فِي إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ تَسَرَّبَ الضَّلَالُ إِلَى النَّصَارَى فِي سُوءِ وَضْعِهِمَا فَأُرِيدَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ الْخَطَأِ فِي التَّأْوِيلِ، أَيْ أَنَّ قُصَارَى مَا وَقَعَ لَدَيْكُمْ مِنْ كَلَامِ الْأَنَاجِيلِ هُوَ وَصْفُ الْمَسِيحِ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَبِرَوْحِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يُؤَدِّي إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَأَنَّهُ إِلَهٌ.
وَتَصْدِيرُ جُمْلَةِ الْقَصْرِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ يُنَادِي عَلَى وَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ إِذْ لَا يُرْسِلُ الْإِلَهُ إِلَهًا مِثْلَهُ، فَفِيهِ كِفَايَةٌ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَعْنَى الْكَلِمَةِ وَالرُّوحِ.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ وَمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ. أَيْ إِذَا وَضَحَ كُلُّ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ
53
مِنْ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَتَنْزِيهِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، يَتَفَرَّعُ أَنْ آمُرَكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَأُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ، أَيِ النَّصَارَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَصَفُوا اللَّهَ بِمَا لَا يَلِيقُ فَقَدْ أَفْسَدُوا الْإِيمَانَ، وَلِيَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَمْهِيدًا لِلْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي. وَأُرِيدَ بِالرُّسُلِ جَمِيعُهُمْ، أَيْ لَا تَكْفُرُوا بِوَاحِدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ عَنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمُونَ أَنْ يُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أَيْ لَا تَنْطِقُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ شِعَارًا لِلنَّصَارَى فِي دِينِهِمْ كَكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ عَوَائِدِهِمُ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّثْلِيثِ بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاثَةِ: الْإِبْهَامِ وَالْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ النُّطْقِ بِالْمُشْتَهِرِ
مِنْ مَدْلُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَعَنِ الِاعْتِقَادِ. لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ الصِّدْقُ فَلَا يَنْطِقُ أَحَدٌ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ، فَالنَّهْيُ هُنَا كِنَايَةٌ بِإِرَادَةِ الْمَعْنَى وَلَازِمِهِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولُوا خُصُوصُ النَّصَارَى.
وثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَانَ حَذْفُهُ لِيَصْلُحَ لِكُلِّ مَا يَصْلُحُ تَقْدِيرُهُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مِنَ التَّثْلِيثِ، فَإِنَّ النَّصَارَى اضْطَرَبُوا فِي حَقِيقَةِ تَثْلِيثِ الْإِلَهِ كَمَا سَيَأْتِي، فَيُقَدَّرُ الْمُبْتَدَأُ الْمَحْذُوفُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَرْدُودُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّثْلِيثِ مِمَّا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِلَفْظِ ثَلاثَةٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِلَهِ، وَهِيَ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ. فَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَة: ٧٣]. وَفِي آيَةِ آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ١١٦]، أَيْ إِلَهَيْنِ مَعَ اللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي، فَالْمَجْمُوعُ ثَلَاثَةٌ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَهٌ وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ إِلَهٌ وَاحِدٌ أَوِ اتَّحَدَتِ الثَّلَاثَة فَصَارَ إِلَه وَاحِد. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :(ثَلَاثَةٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَإِنْ صَحَّتِ الْحِكَايَةُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، فَتَقْدِيرُهُ اللَّهُ ثَلَاثَةٌ وَإِلَّا فَتَقْدِيرُهُ الْآلِهَةُ ثَلَاثَةٌ اهـ.
وَالتَّثْلِيثُ أَصْلٌ فِي عَقِيدَةِ النَّصَارَى كُلِّهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّتِهِ. وَنَشَأَ
54
مِنِ اعْتِقَادِ قُدَمَاءِ الْإِلَهِيِّينَ مِنْ نَصَارَى الْيُونَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (ثَالُوثٌ)، أَيْ أَنَّهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا الْجَوْهَرُ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ، وَاحِدُهَا أُقْنُومٌ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونُ الْقَافِ-. قَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : هُوَ كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ، وَفَسَّرَهُ الْقَامُوسُ بِالْأَصْلِ، وفسّره التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» بِالصِّفَةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مُعَرَّبُ كَلِمَةِ (قَنُومَ بِقَافٍ مُعَقَّدٍ عَجَمِيٍّ) وَهُوَ الِاسْمُ، أَيِ (الْكَلِمَةُ). وَعَبَّرُوا عَنْ مَجْمُوعِ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ بِعِبَارَةٍ (آبَا- ابْنَا- رُوحَا قُدُسَا) وَهَذِهِ الْأَقَانِيمُ يَتَفَرَّعُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ: فَالْأُقْنُومُ الْأَوَّلُ أُقْنُومُ الذَّاتِ أَوِ- الْوُجُودِ الْقَدِيمِ وَهُوَ الْأَبُ وَهُوَ أَصْلُ الْمَوْجُودَاتِ.
وَالْأُقْنُومُ الثَّانِي أُقْنُومُ الْعِلْمِ، وَهُوَ الِابْنُ، وَهُوَ دُونُ الْأُقْنُومِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ كَانَ تَدْبِيرُ جَمِيعِ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ.
وَالْأُقْنُومُ الثَّالِثُ أُقْنُومُ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَهُوَ صِفَةُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ دُونُ أُقْنُومِ الْعِلْمِ وَمِنْهَا كَانَ إِيجَادُ عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ.
وَقَدْ أَهْمَلُوا ذِكْرَ صِفَاتٍ تَقْتَضِيهَا الْإِلَهِيَّةُ، مِثْلَ الْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ، وَتَرَكُوا صِفَةَ الْكَلَامِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَتَأَوَّلُوا مَا يَقَعُ فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَسَمُّوا أُقْنُومَ
الذَّاتِ بِالْأَبِ، وَأُقْنُومَ الْعِلْمِ بِالِابْنِ، وَأُقْنُومَ الْحَيَاةِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، لِأَنَّ الْإِنْجِيلَ أَطْلَقَ اسْمَ الْأَبِ عَلَى اللَّهِ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الِابْنِ عَلَى الْمَسِيحِ رَسُولِهِ، وَأَطْلَقَ الرُّوحَ الْقُدُسَ عَلَى مَا بِهِ كُوِّنَ الْمَسِيحُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُنَبِّهُوا عَلَى أَنَّ أُقْنُومَ الْوُجُودِ هُوَ مُفِيضُ الْأُقْنُومَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَرَامُوا أَنْ يَدُلُّوا عَلَى عَدَمِ تَأَخُّرِ بَعْضِ الصِّفَاتِ عَنْ بَعْضٍ فَعَبَّرُوا بِالْأَبِ وَالِابْنِ، (كَمَا عَبَّرَ الْفَلَاسِفَةُ الْيُونَانُ بِالتَّوَلُّدِ). وَسَمُّوا أُقْنُومَ الْعِلْمِ بِالْكَلِمَةِ لِأَنَّ مِنْ عِبَارَاتِ الْإِنْجِيلِ إِطْلَاقَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، فَأَرَادُوا أَنَّ الْمَسِيحَ مَظْهَرُ عِلْمِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَيُبَلِّغُهُ، وَهُوَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ إِذْ كَانَ الْعِلْمُ يَوْمَ تَدْوِينِ الْأَنَاجِيلِ مُكَلَّلًا بِالْأَلْفَاظِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ لِلْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ الرُّومِيَّةِ، فَلَمَّا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْمَعَانِي أَخَذُوا بِالظَّوَاهِرِ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَرْبَابَ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَقَارَبُوا عَقِيدَةَ الشِّرْكِ.
55
ثُمَّ جَرَّهُمُ الْغُلُوُّ فِي تَقْدِيسِ الْمَسِيحِ فَتَوَهَّمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَسِيحَ صَارَ نَاسُوتُهُ لَاهُوتًا، بِاتِّحَادِ أُقْنُومِ الْعِلْمِ بِهِ، فَالْمَسِيحُ جَوْهَرَانِ وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ نَشَأَتْ فِيهِمْ عَقِيدَةُ الْحُلُولِ، أَيْ حُلُولِ اللَّهِ فِي الْمَسِيحِ بِعِبَارَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، ثُمَّ اعْتَقَدُوا اتِّحَادَ اللَّهِ بِالْمَسِيحِ، فَقَالُوا: اللَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ. هَذَا أَصْلُ التَّثْلِيثِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَعَنْهُ تَفَرَّعَتْ مَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ أَشَارَ إِلَى جَمِيعِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ- وَقَوْلُهُ- لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [الْمَائِدَة: ٧٢] وَقَوْلُهُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ١١٦] وَكَانُوا يَقُولُونَ: فِي عِيسَى لَاهُوتِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَنَاسُوتِيَّةٌ- أَيْ إِنْسَانِيَّةٌ- مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ.
وَظَهَرَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ رَاهِبٌ اسْمه (آريوس) قَالُوا بِالتَّوْحِيدِ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَكَانَ فِي زَمَنِ (قسطنطينوس سُلْطَان الرّون بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ). فَلَمَّا تَدَيَّنَ قُسْطَنْطِينُوسُ الْمَذْكُورُ بِالنَّصْرَانِيَّةِ سَنَةَ ٣٢٧ تَبِعَ مَقَالَةَ (آرِيُوسَ)، ثُمَّ رَأَى مُخَالَفَةَ مُعْظَمِ الرُّهْبَانِ لَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُوَحِّدَ كَلِمَتَهُمْ، فَجَمَعَ مَجْمَعًا مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ مِنَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ، وَكَانَ فِي هَذَا الْمَجْمَعِ نَحْوُ أَلْفَيْ عَالٍمٍ مِنَ النَّصَارَى فَوَجَدَهُمْ مُخْتَلِفِينَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَوَجَدَ أَكْثَرَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَالِمًا فَأَخَذَ قَوْلَهُمْ وَجَعَلَهُ أَصْلَ الْمَسِيحِيَّةِ وَنَصَرَهُ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ تُلَقَّبُ (الْمَلْكَانِيَّةُ) نِسْبَةً لِلْمَلِكِ.
وَاتَّفَقَ قَوْلُهُمْ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ اتَّحَدَتْ بِجَسَدِ عِيسَى، وَتَقَمَّصَتْ فِي نَاسُوتِهِ، أَيْ إِنْسَانِيَّتِهِ، وَمَازَجَتْهُ امْتِزَاجَ الْخَمْرِ بِالْمَاءِ، فَصَارَتِ الْكَلِمَةُ ذَاتًا فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، وَصَارَتْ تِلْكَ الذَّاتُ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْإِلَهُ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ الْأَبُ ذُو الْوُجُودِ، وَالثَّانِي الِابْنُ ذُو الْكَلِمَةِ، أَيِ الْعِلْمِ، وَالثَّالِثُ رُوحُ الْقُدُسِ.
56
ثُمَّ حَدَثَتْ فِيهِمْ فِرْقَةُ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَفِرْقَةُ النَّسْطُورِيَّةِ (١) فِي مَجَامِعٍ أُخْرَى انْعَقَدَتْ بَيْنَ الرُّهْبَانِ. فَالْيَعْقُوبِيَّةُ، وَيُسَمَّوْنَ الْآنَ (أَرْثُودُكْسَ)، ظَهَرُوا فِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ السَّادِسِ الْمَسِيحِيِّ، وَهُمْ أَسْبَقُ مِنَ النَّسْطُورِيَّةِ قَالُوا: انْقَلَبَتِ الْإِلَهِيَّةُ لَحْمًا وَدَمًا فَصَارَ الْإِلَهُ هُوَ الْمَسِيحُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَدَرَتْ عَنِ الْمَسِيحِ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكَمَهِ وَالْأَبْرَصِ فَأَشْبَهَ صُنْعُهُ صُنْعَ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ نَصَارَى الْحَبَشَةِ يَعَاقِبَةً، وَسَنَتَعَرَّضُ لِذِكْرِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٧٢]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مَرْيَم:
٣٧].
وَالنَّسْطُورِيَّةُ قَالَتْ: اتَّحَدَتِ الْكَلِمَةُ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ بِطَرِيقِ الْإِشْرَاقِ كَمَا تُشْرِقُ الشَّمْسُ مِنْ كُوَّةٍ من بلّور، فالمسح إِنْسَانٌ، وَهُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ هُوَ إِنْسَانٌ إِلَهٌ، أَوْ هُوَ لَهُ ذَاتِيَّتَانِ ذَاتٌ إِنْسَانِيَّةٌ وَأُخْرَى إِلَهِيَّةٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الرَّئِيسِ الدِّينِيِّ لِهَذِهِ النِّحْلَةِ لَقَبُ (جَاثِلِيقَ).
وَكَانَتِ النِّحْلَةُ النَّسْطُورِيَّةُ غَالِبَةً عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ. وَكَانَ رُهْبَانُ الْيَعَاقِبَةِ وَرُهْبَانُ النَّسْطُورِيِّينَ يَتَسَابَقُونَ لِبَثِّ كُلِّ فَرِيقٍ نِحْلَتَهُ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَكَانَ الْأَكَاسِرَةُ حُمَاةً لِلنَّسْطُورِيَّةِ. وَقَيَاصِرَةُ الرُّومِ حُمَاةً لِلْيَعْقُوبِيَّةِ. وَقَدْ شَاعَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بِنِحْلَتَيْهَا فِي بَكْرٍ، وَتَغْلِبَ، وَرَبِيعَةَ، وَلَخْمٍ، وَجُذَامَ، وَتَنُوخَ، وَكَلْبٍ، وَنَجْرَانَ، وَالْيَمَنِ، وَالْبَحْرِينِ. وَقَدْ بَسَطْتُ هَذَا لِيُعْلَمَ حُسْنُ الْإِيجَازِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ وَإِتْيَانِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا. فَلِلَّهِ هَذَا الْإِعْجَازُ الْعِلْمِيُّ.
_________
(١) اليعقوبية منسوبة إِلَى رَاهِب اسْمه يَعْقُوب البرذعاني، كَانَ رَاهِبًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. والنسطورية نِسْبَة إِلَى نسطور الْحَكِيم، رَاهِب ظهر فِي زمن الْخَلِيفَة الْمَأْمُون وَشرح الأناجيل، كَذَا قَالَ الشهرستاني فِي كتاب «الْملَل والنحل»، وَالظَّاهِر أنّه من اشْتِبَاه الْأَسْمَاء فِي أَخْبَار هَذِه النحلة. وَالَّذِي يَقُوله مؤرخو الْكَنِيسَة أنّ نحلة النسطورية مَوْجُودَة من أَوَائِل الْقرن الْخَامِس من التَّارِيخ المسيحي وأنّ مؤسسها هُوَ البطريق نسطوريوس، بطرِيق الْقُسْطَنْطِينِيَّة السوري، الْمَوْلُود فِي حُدُود سنة ٣٨٠ مسيحية والمتوفّى فِي برقة فِي حُدُود سنة ٤٤٠. وَهَاتَانِ النحلتان تعتبران عِنْد الملكانية مبتدعين.
57
وَالْقَوْلُ فِي نَصْبِ (خَيْرًا) مِنْ قَوْلِهِ: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ [النِّسَاء: ١٧٠]. وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ قَصْرُ مَوْصُوفٍ
عَلَى صِفَةٍ، لِأَنَّ (إِنَّمَا) يَلِيهَا الْمَقْصُورُ، وَهُوَ هُنَا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَيْسَ اللَّهُ بِثَلَاثَةٍ.
وَقَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ إِظْهَارٌ لِغَلَطِهِمْ فِي أَفْهَامِهِمْ، وَفِي إِطْلَاقَاتِهِمْ لَفْظَ الْأَبِ وَالِابْنِ كَيْفَمَا كَانَ مَحْمَلُهُمَا لِأَنَّهُمَا إِمَّا ضَلَالَةٌ وَإِمَّا إِيهَامُهَا، فَكَلِمَةُ (سُبْحَانَهُ) تُفِيدُ قُوَّةَ التَّنْزِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى غَلَطِ مُثْبِتِيهِ، فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تُنَافِي الْكَوْنَ أَبًا وَاتِّخَاذَ ابْنٍ، لِاسْتِحَالَةِ الْفَنَاءِ، وَالِاحْتِيَاجِ، وَالِانْفِصَالِ، وَالْمُمَاثَلَةِ لِلْمَخْلُوقَاتِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْبُنُوَّةُ تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ هَذِهِ الْمُسْتَحِيلَاتِ لِأَنَّ النَّسْلَ قَانُونٌ كَوْنِيٌّ لِلْمَوْجُودَاتِ لِحِكْمَةِ اسْتِبْقَاءِ النَّوْعِ، وَالنَّاسُ يَتَطَلَّبُونَهَا لِذَلِكَ، وَلِلْإِعَانَةِ عَلَى لَوَازِمِ الْحَيَاةِ، وَفِيهَا انْفِصَالُ الْمَوْلُودِ عَنْ أَبِيهِ، وَفِيهَا أنّ الابْن مماثلة لِأَبِيهِ فَأَبُوهُ مُمَاثِلٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ.
وَ (سُبْحَانَ) اسْمُ مَصْدَرِ سَبَّحَ، وَلَيْسَ مَصْدَرًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ سَالِمٌ. وَجَزَمَ ابْنُ جِنِّي بِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى التَّسْبِيحِ، فَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ الْأَجْنَاسِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالزِّيَادَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٢].
وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (سُبْحَانَ) حرف الْجَرِّ، وَهُوَ حَرْفُ (عَنْ) مَحْذُوفًا.
وَجُمْلَةُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِأَنَّ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ قَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الْوَلَدِ، وَلِأَنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ وَلَدٌ لَهُ هُوَ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَالْمَلَائِكَةِ أَوِ الْمَسِيحِ، فَالْكُلُّ عَبِيدُهُ وَلَيْسَ الِابْنُ بِعَبْدٍ.
58
وَقَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تَذْيِيلٌ، وَالْوَكِيلُ الْحَافِظُ، وَالْمُرَادُ هُنَا حَافِظُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ (كَفَى) لِلْعُمُومِ، أَيْ كَفَى كُلَّ أَحَدٍ، أَيْ فَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَتَوَكَّلُوا عَلَى مَنْ تَزْعُمُونَهُ ابْنًا لَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فِي هَذِه السُّورَة.
[١٧٢، ١٧٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٧٢ إِلَى ١٧٣]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)
اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ تَحْقِيقِ جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النِّسَاء: ١٧١] أَوْ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: ١٧١].
وَالِاسْتِنْكَافُ: التَّكَبُّرُ وَالِامْتِنَاعُ بِأَنَفَةٍ، فَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الِاسْتِكْبَارِ، وَنَفْيُ اسْتِنْكَافِ الْمَسِيحِ: إِمَّا إِخْبَارٌ عَنِ اعْتِرَافِ عِيسَى بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَإِمَّا احْتِجَاجٌ عَلَى النَّصَارَى بِمَا يُوجَدُ فِي أَنَاجِيلِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَم: ٣٠] إِلَخْ.
وَفِي نُصُوصِ الْإِنْجِيلِ كَثِيرٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ إِلَهُهُ وَرَبُّهُ، كَمَا فِي مُجَادَلَتِهِ مَعَ إِبْلِيسَ، فَقَدْ قَالَ لَهُ الْمَسِيحُ «لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ».
وَعُدِلَ عَنْ طَرِيقِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْله: بْداً لِلَّهِ
فَأُظْهِرَ الْحَرْفُ الَّذِي تُقَدَّرُ الْإِضَافَةُ عَلَيْهِ: لِأَنَّ التَّنْكِيرَ هُنَا أَظْهَرُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، أَيْ عَبْدًا مِنْ جُمْلَةِ الْعَبِيدِ، وَلَوْ قَالَ: عَبْدَ اللَّهِ لَأَوْهَمَتِ الْإِضَافَةُ أَنَّهُ الْعَبْدُ الْخِصِّيصُ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَمٌ لَهُ.
59
وَأَمَّا مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَم: ٣٠] فَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِ خِطَابِ مَنِ ادَّعَوْا لَهُ الْإِلَهِيَّةَ.
وَعَطْفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِمَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ لِرَدِّ ذَلِكَ، إِدْمَاجٌ لِقَصْدِ اسْتِقْصَاءِ كُلِّ مَنِ ادُّعِيَتْ لَهُ بُنُوَّةُ اللَّهِ، لِيَشْمَلَهُ الْخَبَرُ بِنَفْيِ اسْتِنْكَافِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: ١٧١]، وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ نِسَاءِ الْجِنِّ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النِّسَاء: ١٧١]، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ الْمَلَائِكَةُ، فَذُكِرُوا هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَإِنْ جعلت قَوْله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: ١٧١] كَانَ عَطْفُ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
مُحْتَمِلًا لِلتَّتْمِيمِ كَقَوْلِهِ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَة: ٣] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، وَلَا عَلَى الْعَكْسِ وَمُحْتَمِلًا لِلتَّرَقِّي إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى بِعَكْسِ الْحُكْمِ فِي أَوْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٠] وَجَعَلَ، الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَزَعَمَ أَنَّ عِلْمَ الْمَعَانِي لَا يَقْتَضِي غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَضْيِيقٌ لِوَاسِعٍ، فَإِنَّ الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ لِوُجُوهٍ، كَمَا عَلِمْتَ، فَلَا يَنْهَضُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مُطْلَقًا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَفْضِيلَ
الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْبَاقِلَّانِيِّ وَالْحَلِيمِيِّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَ قَوْمٌ بِالتَّفْصِيلِ فِي التَّفْضِيلِ، وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِ الْمَاتِرِيدِيَّةِ، وَلَمْ يُضْبَطْ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا طَائِلَ وَرَاءَ الْخَوْضِ فِيهَا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَوْضِ فِي تُفَاضُلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْخَوْضِ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيْنَ مَخْلُوقَاتِ عَالَمٍ آخَرَ لَا صِلَةَ لَنَا بِهِ.
60
وَ (الْمُقَرَّبُونَ)، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا كَاشِفًا، وَأَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا، فَيُرَادُ بِهِمُ الْمُلَقَّبُونَ (بِالْكَرُوبِيِّينَ) وَهُمْ سَادَةُ الْمَلَائِكَةِ: جِبْرِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَعِزْرَائِيلُ. وَوَصْفُهُمْ بِالْكَرُوبِيِّينَ وَصْفٌ قَدِيمٌ وَقَعَ فِي بَيْتِ نَسَبٍ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنْ كَرَبَ مُرَادِفِ قَرُبَ، وَزِيدَ فِيهِ صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ، وَهِيَ زِنَةُ فَعُولٍ وَيَاءُ النَّسَبِ. وَالَّذِي أَظُنُّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ نُقِلَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ: لِوُقُوعِ هَذَا اللَّفْظِ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَأَنَّهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْهُ الْقُرْآنُ وَجَاءَ بِمُرَادِفِهِ الفصيح فَقَالَ: ْمُقَرَّبُونَ
، وَعَلَيْهِ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَثْبُتُ لَهُمْ عَدَمُ الِاسْتِنْكَافِ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِدَلَالَةِ الْأَحْرَى.
وَقَوْلُهُ: مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ
الْآيَةَ تَخَلُّصٌ إِلَى تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْله: سَيَحْشُرُهُمْ
عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، بَلْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ فَسَيَحْشُرُ النَّاسَ إِلَيْهِ جَمِيعًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ الْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْخَ. وَضَمِيرُ وَلا يَجِدُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا، أَيْ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا حِينَ يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ جَمِيعًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا وَيكون مِيعاً
بِمَعْنَى مَجْمُوعِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ، مَنْصُوبًا، فَإِنَّ لَفْظَ جَمِيعٍ لَهُ اسْتِعْمَالَاتٌ جَمَّةٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا بِمَعْنَى الْمُجْتَمَعِ، وَفِي كَلَامِ عُمَرَ لِلْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ: «ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ» أَيْ مُتَّفِقٌ مَجْمُوعٌ، فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ تَأْكِيدًا. وَذِكْرُ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّفْصِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ.
وَالتَّوْفِيَةُ أَصْلُهَا إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ زَائِدًا عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَطْلُوبِ، وَلَمَّا كَانَ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ يَخْفَى لِقِلَّةِ الْمَوَازِينِ عِنْدَهُمْ، وَلِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى الْكَيْلِ، جَعَلُوا تَحَقُّقَ الْمُسَاوَاةِ بِمِقْدَارٍ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُسَاوِي، أُطْلِقَتِ التَّوْفِيَةُ عَلَى إِعْطَاءِ المعادل
وتقابل بالخسان وَبِالْغَبْنِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ
61
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ [الشُّعَرَاء: ١٨١] وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَهَذِهِ التَّوْفِيَةُ وَالزِّيَادَةُ يَرْجِعَانِ إِلَى تَقْدِيرٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً تأييس لَهُمْ إِذْ قَدْ عُرِفَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْ أُمَمِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، الِاعْتِمَادُ عِنْدَ الضِّيقِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالنُّصَرَاءِ لِيَكُفُّوا عَنْهُمُ الْمَصَائِبَ بِالْقِتَالِ أَوِ الْفِدَاءِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
يَأْمُلْنَ رِحْلَةَ نَصْرٍ وَابْنِ سَيَّارٍ وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ نَفْيُ الْوَلِيِّ، وَالنَّصِيرِ، وَالْفِدَاءِ- فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ [آل عمرَان: ٩١].
[١٧٤، ١٧٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٧٤ إِلَى ١٧٥]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)
فَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ بِمَا هُوَ جَامِعٌ لِلْأَخْذِ بِالْهُدَى وَنَبْذُ الضَّلَالِ، بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ دَلَائِلِ الْحَقِّ وَكَبْحِ الْبَاطِلِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ وَإِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ النَّاسِ كُلِّهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً. وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ، وَقَدْ يُخَصَّصُ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ الْفَاصِلَةِ، وَهُوَ غَالِبُ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلِهَذَا سَمَّى حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ أَجَلَّ أَنْوَاعِ الدَّلِيلِ، بُرْهَانًا.
وَالْمُرَادُ هُنَا دَلَائِلُ النُّبُوءَةِ. وَأَمَّا النُّورُ الْمُبِينُ فَهُوَ الْقُرْآنُ لِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا وَالْقَوْلُ فِي جاءَكُمْ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ [النِّسَاء: ١٧٠] وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ.
وَ (أَمَّا) فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّفْصِيلِ: تَفْصِيلًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مِنِ اخْتِلَافِ الْفِرَقِ وَالنَّزَعَاتِ: بَيْنَ قَابِلٍِِ
لِلْبُرْهَانِ وَالنُّورِ، وَمُكَابِرٍ جَاحِدٍ، وَيَكُونُ مُعَادِلُ هَذَا الشَّقِّ مَحْذُوفًا لِلتَّهْوِيلِ، أَيْ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا تَسَلْ عَنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَمَّا) لِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ دُونَ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ شَرْطٌ لِعُمُومِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ (أَمَّا) فِي الشَّرْطِ بِمَعْنَى (مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ) وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تُفِيدُ التَّفْصِيلَ وَلَا تَطْلُبُ
مُعَادِلًا.
وَالِاعْتِصَامُ: اللَّوْذُ، وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ اسْتِعَارَةٌ لِلَّوْذِ بِدِينِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٠٣]. وَالْإِدْخَالُ فِي الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّضَى.
وَقَوْلُهُ: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً: تَعَلُّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بِ (يَهْدِي) فَهُوَ ظَرْفُ لَغْوٍ، وصِراطاً مَفْعُولُ (يَهْدِي)، وَالْمَعْنَى يَهْدِيهِمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا لِيَصِلُوا إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ هُوَ مُتَمَنَّاهُمْ، إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ وعدهم عِنْده.
[١٧٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٧٦]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ اللَّاتِي قَبْلَهَا، فَوُقُوعُهَا عَقِبَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِأَجْلِ نُزُولِهَا عَقِبَ نُزُولِ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ مُنَاسَبَتِهَا لِآيَةِ الْكَلَالَةِ السَّابِقَةِ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانًا لِحَقِيقَةِ الْكَلَالَةِ أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّهُ أَلْحَقَ بِالْكَلَالَةِ الْمَالِكَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
فَحُكْمُ الْكَلَالَةِ قَدْ بُيِّنَ بَعْضُهُ فِي آيَةٍ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ سَأَلُوا
63
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صُورَةٍ أُخْرَى مِنْ صُوَرِ الْكَلَالَةِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ هُوَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ مَاشِيَيْنِ فِي بَنِي سَلَمَةَ فَوَجَدَانِي مُغْمًى عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَبَّ عَلَيَّ وَضُوءَهُ فَأَفَقْتُ وَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي فَإِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ.
فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَجَهِّزٌ لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ فِي قَضِيَّةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
فَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَفْتُونَكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ جَمْعٌ، بَلْ أُرِيدَ بِهِ جِنْسُ السَّائِلِينَ، عَلَى نَحْوِ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا» وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ قَدْ تَكَرَّرَ وَكَانَ آخِرُ السَّائِلَيْنِ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَتَأَخَّرَ الْجَوَابُ لِمَنْ سَأَلَ قَبْلَهُ، وَعُجِّلَ الْبَيَانُ لَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ نَفْسَهُ مَيِّتًا مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَأَرَادَ أَنْ
يُوصِيَ بِمَالِهِ، فَيَكُونُ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي مَادَّةِ السُّؤَالِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَة، نَحْو: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [الْبَقَرَة: ١٨٩]، وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٩]. لِأَنَّ شَأْنَ السُّؤَالِ يَتَكَرَّرُ، فَشَاعَ إِيرَادُهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَقَدْ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ صِيَغِ الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِعِ، وَمِنْهُ غَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ الْمُضَارِعِ فِي الدُّعَاءِ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ: كَقَوْلِ عَائِشَةَ «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ» (تَعْنِي ابْنَ عُمَرَ). وَقَوْلِهِمْ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ». وَمِنْهُ غَلَبَةُ الْمَاضِي مَعَ لَا النافية فِي الدُّعَاءِ إِذَا لَمْ تُكَرَّرْ لَا نَحْوُ «فَلَا رَجَعَ». عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ قَدْ تَكَرَّرَ فِيهَا السُّؤَالُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَبَعْدَهَا. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ مُرَاجِعَتِي إِيَّاهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا حَتَّى طَعَنَ فِي نَحْرِي، وَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ»، وَقَوْلُهُ: فِي الْكَلالَةِ يَتَنَازَعُهُ فِي التَّعَلُّقِ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ (يَسْتَفْتُونَكَ) وَفِعْلِ (يُفْتِيكُمْ).
64
وَقَدْ سَمَّى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِآيَةِ الصَّيْفِ، وَعُرِفَتْ بِذَلِكَ، كَمَا عُرِفَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِآيَةِ الشِّتَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ فِي مُدَّةٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الشِّتَاءِ إِلَى الصَّيْفِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي افْتِتَاحِ السُّورَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي طَرِيقِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَتْ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ وَقَعَتْ فِي وَقْتِ الْحَرِّ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ، وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمَقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي نَحْوِ شَهْرِ أُغُسْطُسَ أَوِ اشْتَنْبِرَ وَهُوَ وَقْتٌ طَيِّبُ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، وَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَكَانَتْ فِي رَجَبٍ وَنَزَلَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [التَّوْبَة: ٨١]. ثُمَّ كَانَتْ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، سَنَةِ تِسْعٍ، وَذَلِكَ يُوَافِقُ دِجَنْبِرَ. وَكَانَ حَجُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ فَيُوَافِقُ نَحْوَ شَهْرِ دِجَنْبِرَ أَيْضًا.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: «ثَلَاثٌ لَوْ بَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْجَدُّ. وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابُ الرِّبَا». وَفِي رِوَايَةٍ وَالْخِلَافَةُ. وَخَطَبَ أَيْضًا فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي مَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا هُوَ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِ الْكَلَالَةِ. وَقَالَ فِي مَجْمَعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَأَقْضِيَنَّ فِي الْكَلَالَةِ قَضَاءً تَتَحَدَّثُ بِهِ النِّسَاءُ فِي خُدُورِهَا. وَأَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا فِي ذَلِكَ فَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ، فَلَمَّا طُعِنَ دَعَا بِالْكِتَابِ فَمَحَاهُ. وَلَيْسَ تَحَيُّرُ عُمَرَ فِي أَمْرِ الْكَلَالَةِ بِتَحَيُّرٍ فِي فَهْمِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَلَكِنَّهُ فِي انْدِرَاجِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْقُرْآنُ
تَحْتَ مَا ذَكَرَهُ بِالْقِيَاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْكَلَالَةَ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ: آيَتَيْ هَذِهِ السُّورَةِ الْمَذْكُورِ فِيهَا لَفْظُ الْكَلَالَةِ، وَآيَةٍ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النِّسَاء: ١١]. وَآيَةِ آخِرِ الْأَنْفَالِ [٧٥] وَهِي قَوْله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ عِنْدَ مَنْ رَأَى تَوَارُثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ فَرِيضَةٍ لَيْسَ فِيهَا وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ فَهِيَ كَلَالَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَأَمَّا الْفَرِيضَةُ الَّتِي
65
لَيْسَ فِيهَا وَلَدٌ وَفِيهَا وَالِدٌ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكَلَالَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: هِيَ كَلَالَةٌ.
وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُجِيبَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْفَرِيضَةِ، فَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ لَا لِلْقَصْرِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ الْمُسْتَفْتُونَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَنْطِقُ إِلَّا عَن وَحي، فَهِيَ لَمَّا اسْتَفْتَوْهُ فَإِنَّمَا طَلَبُوا حُكْمَ اللَّهِ، فَإِسْنَادُ الْإِفْتَاءِ إِلَى اللَّهِ تَنْوِيهٌ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْأُخْتِ هُنَا الْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوِ الَّتِي لِلْأَبِ فِي عَدَمِ الشَّقِيقَةِ بِقَرِينَةٍ مُخَالِفَةٍ نَصِيبُهَا لِنَصِيبِ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ الْمَقْصُودَةِ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ الْأُولَى، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَهُوَ يَرِثُها لِأَنَّ الْأَخَّ لِلْأُمِّ لَا يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأُخْتِهِ لِلْأُمِّ وَلَدٌ إِذْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا السُّدُسُ.
وَقَوْلُهُ: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ تَقْدِيرُهُ: إِنْ هَلَكَ امْرُؤٌ، فَامْرُؤٌ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِ (هَلَكَ) فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ (هَلَكَ) بِوَصْفٍ لِ (امْرُؤٌ) فَلِذَلِكَ كَانَ الِامْرُؤُ الْمَفْرُوضُ هُنَا جِنْسًا عَامًّا.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَرِثُها يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى لَفْظِ (امْرُؤٌ) الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، الْمُفِيدِ لِلْعُمُومِ: ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لَفْظُ (امْرُؤٌ) وَلَفْظُ (أَخٍ) أَوْ (أُخْتٍ)، وَكُلُّهَا نَكِرَاتٌ وَاقِعَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فَهِيَ عَامَّةٌ مَقْصُودٌ مِنْهَا أَجْنَاسُ مَدْلُولَاتِهَا، وَلَيْسَ مَقْصُودًا بِهَا شَخْصٌ مُعَيَّنٌ قَدْ هَلَكَ، وَلَا أُخْتٌ مُعَيَّنَةٌ قَدْ وَرِثَتْ، فَلَمَّا قَالَ وَهُوَ يَرِثُها كَانَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ رَاجِعًا إِلَى (امْرُؤٌ) لَا إِلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ قَدْ هَلَكَ، إِذْ لَيْسَ لِمَفْهُومِ اللَّفْظِ هُنَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ فَلَا يُشْكِلُ عَلَيْكَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: امْرُؤٌ هَلَكَ يَتَأَكَّدُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ يَرِثُها إِذْ كَيْفَ يَصِيرُ الْهَالِكُ وَارِثًا. وَأَيْضًا كَانَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي «يَرِثُهَا» عَائِدًا إِلَى مَفْهُومِ لَفْظِ أُخْتٍ لَا إِلَى أُخْتٍ مُعَيَّنَةٍ، إِذْ لَيْسَ لِمَفْهُومِ اللَّفْظِ هُنَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَرِثُها أَنَّ الْأُخْتَ إِنْ تُوُفِّيَتْ وَلَا وَلَدَ لَهَا يَرِثُهَا أَخُوهَا، وَالْأَخُ هُوَ الْوَارِثُ فِي هَذِهِ
66
الصُّورَةِ، وَهِيَ عَكْسُ الَّتِي قَبْلَهَا. فَالتَّقْدِيرُ: وَيَرِثُ الْأُخْتَ امْرُؤٌ إِنْ هَلَكَتْ أُخْتُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ. وَعُلِمَ مَعْنَى الْإِخْوَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ أُخْتٌ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَمَعَ غَايَةِ إِيجَازِهِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، فَلَا يُشْكِلُ بِأَنَّ الْأُخْتَ كَانَتْ وَارِثَةً لِأَخِيهَا فَكَيْفَ عَادَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ بِأَنْ يَرِثَهَا أَخُوهَا الْمَوْرُوثُ، وَتَصِيرُ هِيَ مَوْرُوثَةً، لِأَنَّ هَذَا لَا يَفْرِضُهُ عَالِمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ
لَوْ وَقَعَ الهلك وَصفا لامرىء بِأَنْ قِيلَ: الْمَرْءُ الْهَالِكُ يَرِثُهُ وَارِثُهُ وَهُوَ يَرِثُ وَارِثَهُ إِنْ مَاتَ وَارِثُهُ قَبْلَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ رَشِيقٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا امْتِنَانٌ، وأَنْ تَضِلُّوا تَعْلِيلٌ لِ (يُبَيِّنُ) حُذِفَتْ مِنْهُ اللَّامُ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مَعَ (أَنْ) شَائِعٌ. وَالْمَقْصُودُ التَّعْلِيلُ بِنَفْيِ الضَّلَالِ لَا لِوُقُوعِهِ لِأَنَّ الْبَيَانَ يُنَافِي التَّضْلِيلَ، فَحُذِفَتْ لَا النَّافِيَةُ، وَحَذْفُهَا مَوْجُودٌ فِي مَوَاقِعَ مِنْ كَلَامِهِمْ إِذَا اتَّضَحَ الْمَعْنَى، كَمَا وَرَدَ مَعَ فِعْلِ الْقَسَمِ فِي نَحْوِ:
فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أَنْ تُبَاعَا أَيْ أَنْ لَا تُبَاعَ، وَقَوْلِهِ:
آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ وَهَذَا كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا
أَيْ أَنْ لَا تَشْتُمُونَا بِالْبُخْلِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْكُوفِيِّينَ، وَتَأَوَّلَ الْبَصْرِيُّونَ الْآيَةَ وَالْبَيْتَ وَنَظَائِرَهُمَا عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ هُوَ الْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ، أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، وَبِذَلِكَ قَدَّرَهَا فِي «الْكَشَّافِ».
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ تَضِلُّوا مَفْعُولًا بِهِ لِ (يُبَيِّنُ) وَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فِيمَا بَيَّنَهُ مِنَ الْفَرَائِضِ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ ضَلَالَكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ مَا فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ضَلَالًا قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ قِسْمَةَِِ
67
الْمَالِ لَيْسَتْ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى صِفَةِ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ بَيِّنَةٍ إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهَا حِرْمَانٌ لِمَنْ هُوَ حَقِيقٌ بِالْمُؤَاسَاةِ وَالْمَبَرَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ مَعَ (أَنْ) يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِ أَنْ تَضِلُّوا ضَلَالًا قَدْ مَضَى، وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥٦].
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ مَنْ بُيِّنَتْ لَهُ الْكَلَالَةُ فَلَمْ تُبَيَّنْ لِي».
رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ، وَقَدْ ضَعَّفُوهُ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيذَانٌ بِخَتْمِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ:
هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إِبْرَاهِيم: ٥٢] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ كَلَامِ صَاحِبِ
مُوسَى ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: ٨٢]. فَتُؤْذِنُ بِخِتَامِ السُّورَةِ.
وَتُؤْذِنُ بِخِتَامِ التَّنْزِيلِ إِنْ صَحَّ أَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ كَمَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَلَا أَرَى اصْطِلَاحَ عُلَمَاءِ بَلَدِنَا عَلَى أَنْ يَخْتِمُوا تَقْرِيرَ دُرُوسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ» إِلَّا تَيَمُّنًا بِمُحَاكَاةِ خَتْمِ التَّنْزِيلِ.
68

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٥- سُورَةُ الْمَائِدَةِ
هَذِهِ السُّورَةُ سُمِّيَتْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَكُتُبِ السُّنَّةِ، بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ: لِأَنَّ فِيهَا قِصَّةُ الْمَائِدَة الَّتِي سَأَلَهَا الْحَوَارِيُّونَ مِنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَدِ اخْتُصَّتْ بِذِكْرِهَا. وَفِي «مُسْنَدِ» أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَقَعَتْ تَسْمِيَتُهَا سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِمْ. فَهَذَا أَشْهَرُ أَسْمَائِهَا.
وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ الْعُقُودِ: إِذْ وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ فِي أَوَّلِهَا. وَتُسَمَّى أَيْضًا الْمُنْقِذَةَ.
فَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ» : رُوِيَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سُورَةُ الْمَائِدَةِ تُدْعَى فِي ملكوت السَّمَوَات الْمُنْقِذَةَ»
. قَالَ: أَيْ أَنَّهَا تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ أَيْدِي مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ.
وَفِي كِتَابِ كِنَايَاتِ الْأُدَبَاءِ لِأَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ (١) «يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْأَخْيَارِ، أَيْ لَا يَفِي بِالْعَهْدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يُسَمُّونَ سُورَةَ الْمَائِدَة سُورَة الْأَخْبَار. قَالَ جَرِيرٌ:
إِنَّ الْبَعِيثَ وَعَبْدَ آلِ مُتَاعِسٍ لَا يَقْرَآنِ بِسُورَةِ الْأَخْيَارِ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنْصَرَفُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، بَعْدَ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، فَيَكُونُ نُزُولُهَا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِمُدَّةٍ لِأَنَّ سُورَةَ الْمُمْتَحِنَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ رُجُوعِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ جَاءَتْهُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٌ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ إِرْجَاعَهُنَّ إِلَيْهِمْ عَمَلًا بِشُرُوطِ الصُّلْحِ، فَأَذِنَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِعَدَمِ إِرْجَاعِهِنَّ بَعْدَ امْتِحَانِهِنَّ.
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ آيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ
- إِلَى- عَذابٌ أَلِيمٌ [الْمَائِدَة: ٩٤] نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَِِ
_________
(١) صفحة (١٢١) من «الْمُنْتَخب من كنايات الأدباء»
طبع السَّعَادَة بِمصْر سنة ١٣٢٦.
69
الْبَاعِثُ لِلَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ سُورَةَ الْعُقُودِ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَلَيْسَ وُجُودُ تِلْكَ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِمُقْتَضٍ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ نُزُولِ السُّورَةِ سَابِقًا عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ إِذْ قَدْ تَلْحَقُ الْآيَةُ بِسُورَةٍ نَزَلَتْ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهَا.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» : إِنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَلَكِنْ صَحَّ أَنَّ آيَةَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: ٣] نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، وَلَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَائِشَةَ أَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ النِّسَاءِ، وَمَا نَزَلَ بَعْدَهَا إِلَّا سُورَةُ بَرَاءَةٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَرَاءَةٌ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ». وَفِي «مُسْنَدِ أَحْمَدَ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ فِي سَفَرٍ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ كُلَّهَا. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِي مَسِيرِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَفِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ»، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمِنًى. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَزَلَتْ مَرْجِعَ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْحَدِيثُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْمَائِدَة:
٢] أُنْزِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي يَوْمِ اثْنَيْنِ. وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ- إِلَى-
70
غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْمَائِدَة: ٣] نَزَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَمِثْلُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، فَيَقْتَضِي قَوْلُهُمَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَمَا بَعْدَهُ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ- إِلَى قَوْلِهِ- صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْمَائِدَة: ١٥، ١٦] ثُمَّ نَزَلَتْ بَقِيَّةُ السُّورَةِ فِي عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَيَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ أَمْرُ الْعَرَبِ وَأَمْرُ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يَبْقَ فِي عِنَادِ الْإِسْلَامِ
إِلَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ مُخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّ فُتُوحَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَلَغَتْ تُخُومَ مُلْكِهِمْ فِي حُدُودِ الشَّامِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : وَكَانَ مَنْ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُلْكُ غَسَّانَ بِالشَّامِ كُنَّا نَخَافُ أَنْ يَأْتِيَنَا.
وَقَدِ امْتَازَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِاتِّسَاعِ نِطَاقِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ النَّصَارَى، وَاخْتِصَارِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ الْيَهُودِ، عَمَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْيَهُودِ أَخَذَ فِي تَرَاجُعٍ وَوَهْنٍ، وَأَنَّ الِاخْتِلَاطَ مَعَ النَّصَارَى أَصْبَحَ أَشَدَّ مِنْهُ مِنْ ذِي قَبْلُ.
وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ تَحْرِيمُ السُّكْرِ عِنْدَ الصَّلَوَاتِ خَاصَّةً، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ تَحْرِيمُهُ بَتَاتًا، فَهَذَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ بَعْضِ سُورَةِ النِّسَاءِ لَا مَحَالَةَ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَنْزِلَ سُورَةٌ حَتَّى يَنْتَهِيَ نُزُولُ أُخْرَى بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَنْزِلَ سُورَتَانِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَهِيَ، أَيْضًا، مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ: لِأَنَّ بَرَاءَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ لَا تَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا مَرَّةً، وَذَلِكَ
71
يُؤْذِنُ بِأَنَّ النِّفَاقَ حِينَ نُزُولِهَا قَدِ انْقَطَعَ، أَوْ خُضِّدَتْ شَوْكَةُ أَصْحَابِهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ فِي عَامِ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ، أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
فَلَا جَرَمَ أَنَّ بَعْضَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَحَسْبُكَ دَلِيلًا اشْتِمَالُهَا عَلَى آيَةِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: ٣] الَّتِي اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَثَرِ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا فِي خَبَرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٣] قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ.
وَفِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ»
. وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ الْحَادِيَةَ وَالتِسْعِينَ فِي عَدَدِ السُّوَرِ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ. عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ. وَعَدَدُ آيِهَا: مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ فِي عَدَدِ الْجُمْهُورِ، وَمِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فِي عَدِّ الْبَصْرِيِّينَ، وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ.
وَجُعِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمُصْحَفِ قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ مَعَ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ أَكْثَرُ مِنْهَا عَدَدَ آيَاتٍ: لَعَلَّ ذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ اشْتِمَالِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَغْرَاضٍ تُشْبِهُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ النِّسَاءِ عَوْنًا عَلَى تَبْيِينِ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى فِي تِلْكَ الْأَغْرَاضِ.
وَقَدِ احْتَوَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى تشريعات كَثِيرَة تنبيء بِأَنَّهَا أُنْزِلَتْ لِاسْتِكْمَالِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِالْوِصَايَةِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، أَيْ بِمَا عَاقَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ حِينَ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْتِزَامِ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، فَقَدْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الصَّحِيحِ. وَأَخَذَ
72
الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ بِمَا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، كَمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ. وَوَقَعَ فِي أَوَّلِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [الْمَائِدَة: ١]. فَكَانَتْ طَالِعَتُهَا بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ سَبْعٌ فِي قَوْلِهِ:
وَالْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ. وَما أَكَلَ السَّبُعُ... وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ [الْمَائِدَة: ٣]، وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ [الْمَائِدَة: ٤]، وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ... وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَة: ٥]، وَتَمَامُ الطُّهُورِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: ٦]، (أَيْ إِتْمَامُ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
[الْمَائِدَة: ٣٨]. وَلَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ- إِلَى قَوْلِهِ- عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ [الْمَائِدَة: ٩٥]، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [الْمَائِدَة:
١٠٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [الْمَائِدَة: ١٠٦] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ:
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: ٥٨] لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لِلْأَذَانِ لِلصَّلَوَاتِ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. اه.
وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى تَمْيِيزِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ فِي الْمَأْكُولَاتِ، وَعَلَى حِفْظِ شَعَائِرِ اللَّهِ فِي الْحَجِّ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالنَّهْيِ عَنْ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ مِثْلِ الْأَزْلَامِ، وَفِيهَا شَرَائِعُ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ، وَالتَّيَمُّمِ، وَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ، وَالْأَمْرُ بِالصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، وَأَحْكَامُ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَعْضَاءِ، وَأَحْكَامُ الْحِرَابَةِ، وتسلية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالْأَيْمَانُ وَكَفَّارَتُهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأُصُولُ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْخَشْيَةُ مِنْ وِلَايَتِهِمْ أَنْ تُفْضِيَ إِلَى ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ، وَإِبْطَالُ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَذِكْرُ مَسَاوٍ مِنْ أَعْمَالِ الْيَهُودِ، وَإِنْصَافُ النَّصَارَى فِيمَا لَهُمْ مَنْ حُسْنِ الْأَدَبِ وَأَنَّهُمْ أَرْجَى لِلْإِسْلَامِ وَذِكْرُ قَضِيَّةِ التِّيهِ، وَأَحْوَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَمْرُ بِتَخَلُّقِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يُنَاقِضُ أَخْلَاقَ الضَّالِّينَ فِي تَحْرِيمِ مَا أُحِلَّ لَهُمْ، وَالتَّنْوِيهُ بِالْكَعْبَةِ وَفَضَائِلِهَا وَبَرَكَاتِهَا عَلَى النَّاسِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ أَوْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِبَرِ، وَالتَّذْكِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعْرِيضُ
بِمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ نَبْذِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَالتَّهَاوُنِ فِيهِ. وَاسْتِدْعَاؤُهُمْ لِلْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ.
73
Icon