تفسير سورة النساء

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة النساء من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النساء
روى العوفي عن ابن عباس :" نزلت سورة النساء بالمدينة ". وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت. وقد زعم النحاس أنها مكية. مستندا إلى أن قوله تعالى :( إن الله يأمركم ) الآية١ نزلت بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة. وذلك مستند واه. لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سور طويلة، نزل معظمها بالمدينة، أن تكون مكية. خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني. ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه. ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت :" ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده ". ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقا. وقيل : نزلت عند الهجرة. وآياتها مائة وسبعون وخمس وقيل ست وقيل سبع. كذا في ( الإتقان ). وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال :" إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها :( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ). الآية٢، و ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ). الآية٣، / و ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ٤، ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك ). الآية٥ ". وروى عبد الرزاق عنه أيضا قال :" خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعا :( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ). وقوله :( وان تك حسنة يضاعفها ). وقوله :( ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ٦. وقوله :( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) ٧ ". وروى ابن جرير عن ابن عباس قال :" ثماني آيات نزلت في سورة النساء، خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. أولهن :( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم، والله عليم حكيم ) ٨، والثانية :( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) ٩، والثالثة :( يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفا ) ١٠ " ثم ذكر قول ابن مسعود سواء. يعني في الخمسة الباقية.
لطيفة : إنما سميت سورة النساء، لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر مما نزل في غيرها.
١ |٤/ النساء/ ٥٨| ونصها: ( *ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعا بصيرا٥٨)..
٢ |٤/ النساء/ ٤٠| ونصها: (ان الله لا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما٤٠)..
٣ |٤/ النساء/ ٣١| ونصها: (ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما٣١)..
٤ |٤/ النساء/ ٤٨| ونصها: (ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما٤٨)..
٥ |٤/ النساء/ ٤٨| ونصها: (ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما٤٨)..
٦ |٤/ النساء/ ٦٤| ونصها: (وما أرسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما٦٤)..
٧ |٤/ النساء/ ١١٠|..
٨ |٤/ النساء/ ٢٦|..
٩ |٤/ النساء/ ٢٧|..
١٠ |٤/ النساء/ ٢٨|..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه. ثم نبههم على اتصافه بكمال القدرة الباهرة، لتأييد الأمر بالتقوى وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريق الترغيب والترهيب، بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي فرّعكم من أصل واحد وهو نفس أبيكم آدم. وخلقه تعالى إياهم على هذا النمط البديع مما يدل على القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شيء. ومنه عقابهم على معاصيهم. فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته. وكذا جعله تعالى إياهم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة. كما ينبئ عنه ما يأتي من الإرشاد إلى صلة الأرحام، ورعاية حال الأيتام، والعدل في النكاح وغير ذلك.
وقد ثبت في صحيح مسلم «١» من حديث جرير بن عبد الله البجليّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
(١)
أخرجه مسلم في: الزكاة، حديث ٦٩ ونصه: عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء (أي لابسيها خارقين أوساطها مقوّرين. والنمار جمع نمرة وهي ثياب صوف فيها تنمير) متقلدي السيوف. عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر. فتمعّر (أي تغيّر) وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لما رأى بهم من الفاقة. فدخل ثم خرج. فأمر بلالا فأذّن وأقام. فصلى ثم خطب فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النساء: ١] إلى آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. والآية التي في الحشر:
اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر: ١٨] تصدق رجل من ديناره. من درهمه. من ثوبه. من صاع بره. من صاع تمره. (حتى قال) ولو بشق تمرة». قال: فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها. بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب. حتى رأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم تهلل كأنه مذهبة (أي فضة مذهبة، فهو أبلغ في
5
حين قدم عليه أولئك النفر من مضر، وهم مجتابو النمار (أي من عريهم وفقرهم) قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ حتى ختم الآية. ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: ١٨]. ثم حضهم على الصدقة فقال: تصدق رجل من ديناره. من درهمه. من صاع بره. من صاع تمره.
وذكر تمام الحديث. وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة. وفيها: ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الآية. وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها أي من نفسها. يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التآلف والتضامّ. فإن الجنسية علة الضم. وقد أوضح هذا بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: ٢١]، وَبَثَّ مِنْهُما أي نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها، بطريق التوالد والتناسل. رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً أي كثيرة. وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به. فإن سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا: أسألك بالله وأنشدك الله، على سبيل الاستعطاف، يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه. وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة. ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته. وتَسائَلُونَ أصله تتساءلون. فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس. وقرئ تسألون (من الثلاثيّ) أي تسألون به غيركم. وقد فسر به القراءة الأولى والثانية. وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع. كما في قولك رأيت الهلال وتراءيناه- أفاده أبو السعود- وقوله تعالى وَالْأَرْحامَ قرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور. والباقون بالنصب عطفا على الاسم الجليل. أي اتقوا الله والأرحام أن تقطعوها. فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى. أو عطفا على محل الجار والمجرور. كقولك مررت بزيد وعمرا. وينصره قراءة تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ فإنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عز وجل.
حسن الوجه وإشراقه). فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
6
ويقولون: أسألك بالله وبالرحم. ولقد نبه سبحانه وتعالى، حيث قرنها باسمه الجليل، على أن صلتها بمكان منه. كما في قوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء: ٢٣]. وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ [النساء: ٣٦].
وقد روى الشيخان «١» عن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «الرحم معلقة بالعرش.
تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله»
.
ورويا «٢» أيضا عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة قاطع»
. قال سفيان في روايته: يعني قاطع رحم.
وروى البخاري «٣» عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها».
ورويا «٤» عن أبي هريرة رضي الله عنه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه
. والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم وترهيب من قطيعتها كثيرة.
تنبيه:
دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى. كذا قاله الرازيّ. ووجهه أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل. لكونهم يعتقدون عظمته. ولم ينكره عليهم. نعم من أداه التساؤل باسمه تعالى إلى التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله ووسيلة للأبواب الساسانية، فهذا محظور قطعا. وعليه يحمل ما ورد من لعن من سأل بوجه الله، كما سنذكره. وقد ورد في هذا الباب أحاديث وافرة. منها
عن ابن عمر قال «٥» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن أتى عليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى
(١) أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث ١٧.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الأدب، ١١- باب إثم القاطع، حديث ٢٣١١ ومسلم في: البر والصلة والآداب، حديث ١٨ و ١٩.
(٣) أخرجه البخاريّ في: الأدب، ١٥- باب ليس الواصل بالمكافئ، حديث ٢٣١٦. [.....]
(٤)
أخرجه البخاريّ في: الأدب، ١٢- باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم، حديث ٢٣١٢، هذا نصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه»

. (٥) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٦٨.
وأبو داود في: الأدب، ١٠٨- باب في الرجل يستعيذ من الرجل، حديث ٥١٠٩.
7
تعلموا أن قد كافأتموه»، رواه الإمام أحمد وأبو داود «١» والنسائي وابن حبان والحاكم.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عباس مرفوعا: «من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بوجه الله فأعطوه».
وعن ابن عمر مرفوعا: «من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة». رواه البيهقيّ بإسناد ضعيف.
وفي البخاري «٢» عن البراء بن عازب: «أمرنا رسول الله ﷺ بسبع». وذكر منها: وإبرار القسم.
وروى أبو داود «٣» والضياء في (المختارة) بإسناد صحيح عن جابر مرفوعا: لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة.
وروى الطبرانيّ عن أبي موسى الأشعريّ مرفوعا: ملعون من سأل بوجه الله. وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا.
قال السيوطيّ: إسناده حسن. وقال الحافظ المنذريّ: رجاله رجال الصحيح إلا شيخه (يعني الطبرانيّ) يحيى بن عثمان بن صالح. وهو ثقة وفيه كلام. وهجرا (بضم الهاء وسكون الجيم) أي ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق. ويحتمل أنه أراد ما لم يسأل سؤالا قبيحا بكلام قبيح. انتهى.
وعن أبي عبيدة، مولى رفاعة، عن رافع أن رسول الله ﷺ قال: «ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله».
رواه الطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما «٤» أن رسول الله ﷺ قال: ألا أخبركم بشر الناس؟ رجل يسأل بوجه الله ولا يعطي. رواه الترمذيّ.
وقال: حسن غريب.
والنسائيّ وابن حبان في صحيحه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ قال: «ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الذي يسأل بالله ولا يعطي
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً أي مراقبا لجميع أحوالكم وأعمالكم. يراها ويعلمها فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. كما قال: والله على كل شيء شهيد.
وفي الحديث «٥»
: اعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
(١) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٠٨- باب في الرجل يستعيذ من الرجل، حديث ٥١٠٨.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: الجنائز، ٢- باب الأمر باتباع الجنائز، حديث ٦٦٢. وهذا نصه: عن البراء رضي الله عنه قال: أمرنا النبيّ ﷺ بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا باتباع الجنائز وعيادة المريض وإجابة الداعي ونصر المظلوم وإبرار القسم ورد السلام وتشميت العاطس. ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير والديباج والقسّي والإستبرق
. (٣) أخرجه أبو داود في: الزكاة، ٣٧- باب كراهية المسألة بوجه الله، حديث ١٦٧١.
(٤) أخرجه الترمذيّ في: فضائل الجهاد، ١٨- باب ما جاء أي الناس خير.
(٥)
أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ٣٧- باب سؤال جبريل النبيّ ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، حديث ٤٦ ونصه: عن أبي هريرة قال: كان النبيّ ﷺ بارزا يوما للناس. فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟ قال: «الإيمان، أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث» قال:
8
وهذا إرشاد وأمر بمراقبته تعالى. فعلى المرء أن يراقب أحوال نفسه ويأخذ حذره من أن ينتهز الشيطان منه فرصة فيهلك على غفلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمرا ونهيا. وتقديم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام. إذ الخطاب للأولياء والأوصياء وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب. واليتيم من مات أبوه. من اليتم، وهو الانفراد. ومنه الدرة اليتيمة. والقياس الاشتقاقيّ يقتضي وقوعه على الصغار والكبار. وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم.
كما
روى أبو داود «١» بإسناد حسن عن عليّ عليه السّلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتم بعد احتلام.
وفي الآية وجوه: الأول- أن يراد باليتامى الكبار الذين أونس منهم الرشد مجازا. باعتبار ما كان، أوثر لقرب العهد بالصغر. والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حينئذ. حتى كأنّ اسم اليتيم باق بعد، غير زائل.
الثاني- أن يراد بهم الكبار حقيقة، واردة على أصل اللغة. الثالث- أن يراد بهم الصغار. وب (الإيتاء) ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة. لا دفعها إليهم. وفيه بعد. الرابع- أن يراد بهم ما ذكر. وب (إيتائهم) الأموال، أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء ولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تؤتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة. فالتجوّز في الإيتاء حينئذ باستعماله في لازم معناه وهو تركها سالمة لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك. قال الناصر في (الانتصاف) : هذا الوجه قويّ بقوله بعد آيات: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا
ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان» قال: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال: متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها أعلم من السائل. وسأخبرك عن أشراطها: إذ ولدت الأمة ربّتها. وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان. في خمس لا يعلمهن إلا الله». ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.. الآية [لقمان: ٣٤]. ثم أدبر. فقال: «ردوه» فلم يروا شيئا.
فقال: «هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم»
. (١) أخرجه أبو داود في: الوصايا، ٩- باب متى ينقطع اليتيم، حديث ٢٨٧٣.
9
النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء: ٦]، دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم. والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقيّ عند حصول البلوغ والرشد. ويقويه أيضا قوله عقيب الأولى:
وَلا تَتَبَدَّلُوا إلخ.. فهذا كله تأديب للوصيّ ما دام المال بيده واليتيم في حجره.
وأما على الوجه الأول فيكون مؤدى الآيتين واحدا وهو الأمر بالإيتاء حقيقة. ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالمجملة، والثانية كالمبيّنة لشرط الإيتاء: من البلوغ وإيناس الرشد. والله أعلم. وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو ما لكم، وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه. أي لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم مخلوطة بها للتوسعة إِنَّهُ أي الأكل كانَ حُوباً أي ذنبا عظيما. وقرئ بفتح الحاء. وقوله تعالى: كَبِيراً مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور. كأنه قيل من كبار الذنوب.
تنبيه:
خص من ذلك مقدار أجر الملل عند كون الوليّ فقيرا لقوله تعالى: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ كذا قاله البيضاويّ وتابعه أبو السعود. وعندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية لأنها في الغنيّ، لقوله: إِلى أَمْوالِكُمْ. فلا يشمل مساقها الفقير. وسنوضح ذلك.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: فإن قلت قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم.
فلم ورد النهي عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال وهم على ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم أحق.
ولأنهم كانوا يفعلون كذلك. فنعى عليهم فعلهم وسمّع بهم ليكون أزجر لهم.
انتهى.
قال الناصر في (الانتصاف) أهل البيان يقولون: المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيها على الأعلى. كقوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: ٢٣]. وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفا لها إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غنيّ عنه. وأدناها أن يأكله وهو
10
فقير إليه. فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغنيّ عنه من طريق الأولى. وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية. فنقول: أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته. ولا شك أن النهي عن الأدنى، وإن أفاد النهي عن الأعلى، إلا أن للنهي عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة، لا تؤخذ من النهي عن الأدنى. وذلك أن المنهيّ كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد. ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل. فخصص بالنهي تشنيعا على من يقع فيه. حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الإحجام عن أكل ماله مطلقا. ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم. ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر، إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب، كإعانتها عليه في الصورة الأولى.
ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل. مع أن تناول مال اليتيم، على أي وجه كان، منهيّ عنه. كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلا، أو غير ذلك. إلا أن حكمة تخصيص النهي بالأكل أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل. وتعدّ البطنة من البهيمية. وتعيب على من اتخذها ديدنه، ولا كذلك سائر الملاذ. فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا. فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به. حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلا أو غيره. ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: ١٣٠]. فخص هذه الصورة لأن الطبع عن الانتهاء عنها أعون. ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الأمر. وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيها على الأعلى. وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ الآية [النساء: ٨]، كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم. وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال. فلو أمر بإسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم. بخلاف ما إذا حضروا. فإن النفس يرقّ طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم، ولا يسعف ولا يساعد. فإذا أمرت في هذه الحالة
11
بالإسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع. ثم تدربت بذلك على إسعاف ذي الرحم مطلقا حضر أو غاب. فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلقى إلا في الكتاب العزيز. ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق. نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط. فخذ هذا القانون عمدة. وهو: أن النهي، إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى. وإن خص الأعلى، فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح. ومثل هذا، النظر في جانب الأمر. والله الموفق. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أي أن لا تعدلوا فِي الْيَتامى أي يتامى النساء. قال الزمخشريّ: ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة، على القلب.
كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ أي من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن أو العقل أو الصلاح منهن مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ومعنى الآية: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن، بإساءة العشرة أو بنقص الصداق، فانكحوا غيرهن من الغريبات فإنهن كثير ولم يضيق الله عليكم. فالآية للتحذير من التورط في الجور والأمر بالاحتياط. وإنّ في غيرهن متسعا إلى الأربع. وروى البخاري «١» عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق (أي نخلة) وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء. فنزلت فيه: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى. أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. ورواه مسلم وأبو داود والنسائيّ. وفي رواية لهم عن عائشة «٢» هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١- باب قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى، حديث ١٢٣٤.
(٢) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١- باب قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى، حديث ١٢٣٤.
12
مالها وجمالها. فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنّتهن في الصداق. فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فأنزل الله: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ [النساء: ١٢٧]
. قالت عائشة: وقول الله تعالى في آية أخرى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النساء: ١٢٧]، رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. قالت: فنهوا أن ينكحوا عن من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، إذا كن قليلات المال والجمال.
وفي رواية «١» في قوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ... إلى آخر الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها.
فنهاهم الله عن ذلك. زاد أبو داود «٢» رحمه الله تعالى: وقال ربيعة في قوله تعالى:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى. قال يقول: اتركوهنّ إن خفتم فقد أحللت لكم أربعا.
لطائف:
الأول: (ما) في قوله تعالى: ما طاب لكم، موصولة. وجاء ب (ما) مكان (من) لأنهما قد يتعاقبان. فيقع كل واحد منهما مكان الآخر. كما في قوله تعالى:
وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: ٥]، وقوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون: ٥].
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النور: ٤٥]. قال بعضهم: وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء، وهن ناقصات العقول.
الثانية: في إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى، مع أنه المقصود بالذات، مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك. فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه. كما أن وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير إليه، فيه مبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن. وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى- أفاده أبو السعود-.
(١) أخرجه البخاريّ في: النكاح، ٣٧- باب إذا كان الوليّ هو الخاطب، حديث ١٢٣٤.
(٢) أخرجه أبو داود في: النكاح، ١٢- باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، حديث ٢٠٦٥.
13
الثالثة: اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له. وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة.
الرابعة: مثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة. ومحلهن النصب على أنها حال من فاعل (طاب) مؤكدة لما أفاده وصف الطيب من الترغيب فيهن، والاستمالة إليهن، بتوسيع دائرة الإذن. أي فانكحوا الطيبات لكم، معدودات هذا العدد. ثنتين ثنتين. وثلاثا ثلاثا. وأربعا أربعا. حسبما تريدون. فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ قلت: الخطاب للجميع. فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له. كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون (أو). قلت: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة. وليس لهم أن يجمعوا بينها. فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع. وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. وتحريره أن الواو. دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين فيها، محظورا عليهم ما وراء ذلك. أفاده الزمخشري.
بحث جليل:
قال الرازيّ: ذهب قوم سدّى (كحتى. موضع قرب زبيد باليمن اه قاموس) إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد. واحتجوا بالقرآن والخبر. أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه: الأول- أن قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ، إطلاق في جميع الأعداد. بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه. وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا. والثاني- أن قوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، لا يصلح تخصيصا لذلك العموم، لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي. بل نقول: إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا. فإن الإنسان إذا قال لولده: افعل ما شئت. اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقا. ورفع الحجر والحرج
14
عنه مطلقا. ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة. بل كان ذلك إذنا في المذكور وغيره. فكذا هنا. وأيضا، فذكر جميع الأعداد متعذر. فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ، كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد. الثالث- أن الواو للجمع المطلق. فقوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، يفيد حل هذا المجموع. وهو يفيد تسعة. بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر. لأن قوله: مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط، بل عن اثنين اثنين. وكذلك القول في البقية.
وأما الخبر فمن وجهين: الأول- أنه ثبت بالتواتر أنه ﷺ مات عن تسع. ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال: فاتّبعوه، وأقل مراتب الأمر الإباحة. الثاني- أن سنة الرجل طريقته. وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فكان ذلك سنة له. ثم إنه
عليه السلام قال «١» : فمن رغب عن سنتي فليس مني.
فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة. فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.
واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين: الأول- الخبر. وهو ما
روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أمسك أربعا وفارق باقيهن.
وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة، فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك أربعا وفارق واحدة.
واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين: الأول- أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وأنه غير جائز. والثاني- وهو أن الخبر واقعة حال. فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز، إما بسبب النسب أو بسبب
(١)
أخرجه البخاري في: النكاح، ١- باب الترغيب في النكاح، حديث ٢٠٩٩ ونصه: عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبيّ ﷺ يسألون عن عبادة النبيّ صلى الله عليه وسلم. فلما أخبروا، كأنهم تقالّوها. فقالوا: وأين نحن من النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله ﷺ فقال «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
[.....]
15
الرضاع وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله (الطريق الثاني) وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع. وهذا هو المعتمد، وفيه سؤالان: الأول- أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ. فكيف يقال:
الإجماع نسخ هذه الآية؟ الثاني- أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع. والإجماع، مع مخالفة الواحد والاثنين، لا ينعقد.
(والجواب عن الأول) أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. (وعن الثاني) أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة. فلا عبرة بمخالفته، انتهى كلام الرازيّ، وقوله (من أهل البدعة) لا يجوز أخذه على عمومه لما ستراه.
قال الإمام الشوكانيّ رحمه الله تعالى في (وبل الغمام) : الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب وصار كالمجمع عليه عندهم، أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثرا يحتاج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة كانت صيغة العدل المفرد في قوة تلك الأعداد. فإن كان مجيء القوم مثلا اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة، وكانوا ألوفا مؤلفة، فقلت: جاءني القوم مثنى، أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين، حتى تكاملوا. فإن قلت: مثنى وثلاث ورباع، أفاد ذلك أن القوم جاءوك تارة اثنين اثنين، وتارة ثلاثة ثلاثة، وتارة أربعة أربعة. فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء لا مقدار عدد جميع القوم، فإنه لا يستفاد منها أصلا. بل غاية ما يستفاد منها أن عددهم متكثر تكثرا تشق الإحاطة به. ومثل هذا إذا قلت: نكحت النساء مثنى. فإن معناه نكحتهن اثنتين اثنتين. وليس فيه دليل على أن كل دفعة من هذه الدفعات لم يدخل في نكاحه إلا بعد خروج الأولى. كما أنه لا دليل في قولك:
جاءني القوم مثنى، أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك إلا وقد فارقك الاثنان الأولان.
إذا تقرر هذا فقوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا. والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات. وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن. بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين. كما قدمنا في مجيء القوم. وليس فيه أيضا دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى. ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا، فهذا مقام الاستفادة منه، فليتفضل بها علينا. وابن عباس، إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع فهو فرد من أفراد الأمة. وأما القعقعة بدعوى الإجماع فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة وكيف
16
يصح إجماع خالفته الظاهرية وابن الصباغ، والعمرانيّ، والقاسم بن إبراهيم، نجم آل الرسول، وجماعة من الشيعة، وثلة من محققي المتأخرين، وخالفه أيضا القرآن الكريم، كما بيناه. وخالفه أيضا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما صح ذلك تواترا، من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: ٧]، لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: ٢١]. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: ٣١] ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل. والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنده المعاذير.
وأما حديث «١» أمره ﷺ لغيلان، لما أسلم وتحته عشر نسوة، بأن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن، كما أخرجه الترمذيّ وابن ماجة وابن حبان، فهو وإن كان له طرق، فقد قال ابن عبد البر: كلها معلولة. وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى. ومثل هذا لا ينتهض للنقل عن الدليل القرآني والفعل المصطفويّ الذي مات ﷺ عليه والبراءة الأصلية. ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة، أو جاءنا بدليل في معناه، فجزاه الله خيرا. فليس بين أحد وبين الحق عداوة. وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لا سيما في مقامات التحرير والتقرير. كما نفعله في كثير من الأبحاث. وإذا حاك في صدره شيء فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب.
فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك، لقيل وقال. ولا سيما في مثل مواطن يجبن عنها كثير من الرجال. فإنك لا تسئل يوم القيامة عن الذي ترتضيه منك العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. ومن ورد البحر استقل السواقيا. انتهى.
وقال الشوكانيّ قدس سره أيضا في (نيل الأوطار) : حديث قيس بن الحارث (وفي رواية الحارث بن قيس) في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وقد ضعفه غير واحد من الأئمة. قال أبو القاسم البغويّ: ولا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا. وقال أبو عمرو النمري: ليس له إلا حديث واحد ولم يأت به من وجه صحيح. وفي معنى هذا الحديث غيلان الثقفيّ وهو عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: أسلم غيلان الثقفيّ وتحته عشر نسوة، في الجاهلية. فأسلمن معه. فأمره
(١) أخرجه الترمذيّ في: النكاح، ٣٣- باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة.
وابن ماجة في: النكاح، ٤٠- باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، حديث ١٩٥٣.
17
النبيّ ﷺ أن يختار منهن أربعا. رواه أحمد وابن ماجة والترمذيّ. وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح. وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة. قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة. وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقيّ بظاهر الحكم، وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خرسان وأهل اليمامة عنه. قال الحافظ: ولا يفيد ذلك شيئا. فإن هؤلاء كلهم، إنما سمعوا منه بالبصرة. وعلى تقدير أنهم سمعوا منه بغيرها، فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب. لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة.
وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها. اتفق على ذلك أهل العلم. كابن المدينيّ والبخاريّ وابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم. وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح. والعمل عليه. وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده. وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة. وقد أطال الدارقطني في (العلل) تخريج طرقه. ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهريّ مرسلا. ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك. وقد وافق معمرا على وصله بحر بن كنيز السقاء عن الزهريّ.
ولكنه ضعيف. وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك. ويحيى ضعيف. وفي الباب عن نوفل بن معاوية، عند الشافعي، أنه أسلم وتحته خمس نسوة.
فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: أمسك أربعا وفارق الأخرى
. وفي إسناده رجل مجهول. لأن الشافعيّ قال:
حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية قال: أسلمت، فذكره. وفي الباب أيضا عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقيّ. وقوله: اختر منهن أربعا، استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع. وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعا. ولعل وجهه قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل، تسع. وحكي ذلك عن ابن الصباغ والعمرانيّ وبعض الشيعة. وحكي أيضا عن القاسم بن إبراهيم. وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه. وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية، وقوم مجاهيل. وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم. وأجابوا عن حديث غيلان الثقفيّ بما تقدم فيه من المقال. وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول. قالوا:
ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفي فيه بمثل ذلك. ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله ﷺ قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة، وقد قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
18
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
[الأحزاب: ٢١]. وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع. ولم يقم عليه دليل. وأما قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، فالواو فيه للجمع لا للتخيير. وأيضا لفظ مثنى معدول به عن اثنين اثنين. وهو يدل على تناول ما كان متصفا من الأعداد بصفته الاثنينية. وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف. فإنك تقول جاءني القوم مثنى أي اثنين اثنين. وهكذا ثلاث ورباع.
وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد. فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا.
وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها. فإنه لا شك أنه يصح، لغة وعرفا، أن يقول الرجل، لألف رجل عنده: جاءني هؤلاء اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة. فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير. سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير. لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم. فكأن الله سبحانه وتعالى قال، لكل فرد من الناس: انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع. ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة. وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها. وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج. وإن كان كل واحد لا يخلو عن مقال. ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة. كما صرح به الخطابيّ. فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل. وأيضا هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع. كما صرح بذلك في (البحر).
وقال في (الفتح) اتفق العلماء على أن من خصائصه ﷺ الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن. وقد ذكر الحافظ في (الفتح) و (التلخيص) الحكمة في تكثير نسائه ﷺ فليراجع ذلك. انتهى.
وقال قدس سره في تفسيره (فتح القدير) : وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة. وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد. كما يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال. وهو ألف درهم (أو هذا المال الذي في البدرة) درهمين درهمين. وثلاثة ثلاثة. وأربعة أربعة. وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته، أو عيّن مكانه. أما لو كان مطلقا، كما يقال:
اقتسموا الدراهم، ويراد بها ما كسبوه، فليس المعنى هكذا. والآية من الباب الآخر لا
19
من الباب الأول. على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كبيرا: اقتسموه مثنى وثلاث ورباع، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين. وبعضه ثلاثة ثلاثة. وبعضه أربعة أربعة. كان هذا هو المعنى العربي. ومعلوم أنه إذا قال القائل: جاءني القوم مثنى، وهم مائة ألف، كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين. هكذا: جاءني القوم ثلاث ورباع. والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد. كما في قوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، ونحوها. ومعنى قوله:
فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا وثلاثا وأربعا أربعا. هذا ما تقتضي لغة العرب. فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه. ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً. فإنه وإن كان خطابا للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد.
فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن. وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال: انكحوا مجموع هذا العدد المذكور، فهذا جهل بالمعنى العربيّ. ولو قال: انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا كان هذا القول له وجه. وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا. وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون (أو) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره. وذلك ليس بمراد من النظم القرآنيّ.
أخرج الشافعيّ وابن أبي شيبة وأحمد والترمذيّ وابن ماجة والدّارقطنيّ والبيهقيّ، عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفيّ أسلم وتحته عشر نسوة. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: اختر منهن (وفي لفظ أمسك منهن) أربعا وفارق سائرهن
. وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق. وعن نوفل بن معاوية الديليّ قال: أسلمت وعندي خمس نسوة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك أربعا وفارق الأخرى. أخرجه الشافعيّ في مسنده.
وأخرج ابن ماجة والنحاس في (تاريخه) عن قيس بن الحارث الأسديّ قال: أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة. فأتيت النبيّ ﷺ فأخبرته. فقال: اختر منهن أربعا وخل سائرهن. ففعلت
. وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقيّ.
وقال قدس سره أيضا في كتابه (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار) :
أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عز وجل:
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، فغير صحيح. كما أوضحته في (شرحي للمنتقى) وقد
20
قدمناه. ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث وحديث غيلان الثقفيّ وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه. وإن كان في كل واحد منها مقال. لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه.
وقد حكى الإجماع صاحب (فتح الباري) والمهديّ في (البحر) والنقل عن الظاهرية لم يصح. فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبهم. انتهى.
تتمة:
روى الدارقطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ينكح العبد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين.
قال الشوكانيّ في (نيل الأوطار) قد تمسك بهذا من قال: إنه
لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين. وهو مرويّ عن عليّ
وزيد بن عليّ والناصر والحنفية والشافعية. ولا يخفى أن قول الصحابيّ لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته.
نعم، لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلا عند القائلين بحجية الإجماع.
ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ومجاهد وربيعة وأبي ثور والقاسم بن محمد وسالم أنه يجوز له أن ينكح أربعا كالحر. حكى ذلك عنهم صاحب (البحر) فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ. والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم. إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة. كما في المواضع المعروفة.
بالتخالف بين حكميهما انتهى.
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا أي بين هذه الأعداد فَواحِدَةً أي فاختاروها. وقرئ بالرفع أي فحسبكم واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من الإماء، بالغة ما بلغت من مراتب العدد. لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر. ولا قسم لهن.
و (أو) للتسوية. أي التخيير. والعدد يؤخذ من السياق، ومقابلة الواحدة. قال الزمخشريّ: سوّى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد. ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغبا وأخف مؤنة من المهائر. لا عليك، أكثرت منهن أم أقللت. عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل. انتهى.
ذلِكَ أي الاقتصار على واحدة أو على التسري أَدْنى أي أقرب أَلَّا تَعُولُوا أي من أن لا تميلوا ولا تجوروا. لانتفائه رأسا بانتفاء محله في الأول. وانتفاء
21
خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر. فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر. هذا إن قدر (تعولوا) مضارع عال، بمعنى جار ومال عن الحق. وهو اختيار أكثر المفسرين. ومن الوجوه المحتملة فيه كونه مضارع عال بمعنى كثر عياله. قال في القاموس: وعال فلان عولا وعيالة: كثر عياله، كأعول وأعيل. انتهى. وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام المهايميّ، قدس سره، في تفسيره حيث قال: أي أقرب من أن لا تكثر عيالكم. فيمكن معه القناعة بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى. انتهى. وروي هذا التأويل عن زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعيّ. وأما قول ابن كثير في هذا التفسير: هاهنا نظر، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري- فجوابه (كما قال الرازي) من وجهين: الأول- ما ذكره القفّال رضي الله عنه. وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب. وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا. وحينئذ تقل العيال. أما إذا كانت المرأة حرة، لم يكن الأمر كذلك. فظهر الفرق. الثاني- أن المرأة إذا كانت مملوكة، فإذا عجز المولي عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها. أما إذا كانت حرة فلا بدّ له من الإنفاق عليها. والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر. فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة. انتهى.
تنبيهان:
الأول- قال بعض المفسرين: دلت الآية على أنه يجب بالنكاح حقوق. وتدل على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز، قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح. فلا يجوز لمن عرف أنه يخون مال اليتيم إذا تزوج أكثر من واحدة، أن يتزوج أكثر. وكذا إذا عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها، فإنه لا يجوز له قبول الوديعة. وتدل على أن العدل واجب بين الزوجات. وأن من عرف أنه لا يعدل فإنه لا تحل له الزيادة على واحدة. وتدل على أن زواجه الصغيرة من غير أبيها وجدّها جائز. وللفقهاء مذاهب في ذلك معروفة.
الثاني- في سرّ ما تشير إليه الآية من إصلاح النسل. قال بعض علماء الاجتماع من فلاسفة المسلمين في مقالة عنوانها (الإسلام وإصلاح النسل) ما مثاله: ما زال البشر يسعى منذ ألوف من السنين وراء إصلاح ما يقتنيه من خيل وبقر وغنم ليكثر
22
انتفاعه به. فيختار لإناث هذه الحيوانات أفحلا كريمة، هي على ما يرومه من الصفات، ليحصل منها على نسل أنفع له من أمهاته. وقد زادت رغبة الناس بهذا العصر في إصلاح النوع النافع من الحيوان. فضرّبوه ورقوه باختيار الأفحل المناسبة، حتى حصلوا على صنف من الخيل الجياد تسابق الرياح فتجري (١٦) مترا في الثانية من الزمن. وعلى صنف من البقر تحلب في اليوم الواحد خمسين أقة. وعلى صنف من المعزى والغنم شعره أو صوفه مثل الحرير نعومة. ولم يقصر إصلاحهم على الحيوان، بل تجاوز إلى النبات. فحصلوا بفضله على أشجار كثيرة الثمر لذيذته. وانتفعوا انتفاعا كبيرا، ما تيسر لأسلافهم. نعم إن البشر افتكروا في إصلاح الحيوان الصامت والنبات، وعلموا ما فيه من الفوائد، فسعوا إليه السعي الذي يرضاه العلم، وجنوا ثمار ذلك السعي. ولكنهم ما افتكروا في إصلاح ما هو أهمّ من كل ذلك: في إصلاح الحيوان الذكيّ، والشرير أكثر من الصالح، والجبان أكثر من الشجاع، والكاذب أكثر من الصادق، والكسلان أكثر من أخي الجد النشيط. ولو أنهم أصلحوا نسلهم لما وجد في الناس من يولد مريضا ويعيش مريضا. فلا ينتفع بوجوده المجتمع، وهو كثير. قام من بين هذا الجيل فيلسوفان: ألمانيّ وانكليزيّ. وأخذا يعلمان بكتاباتهما المبنيّة على البراهين وجوب إصلاح الإنسان لنسل الإنسان. ويعددان فوائد الإصلاح لنوعه. ويبيّنان للملأ أن الرقي المطلوب لا يتم إلا به. وطفقا يلومان الناس على اعتنائهم بإصلاح المواشي وإهمالهم إصلاح أنفسهم. الأمر الذي هو أهم من ذلك كثيرا. وذكرا لذلك طرقا: (منها) منع أصحاب العاهات والأمراض المزمنة وأولي الجرائم الكبيرة من الزواج لينقطع نسلهم الذي يجيء غالبا على شاكلتهم. (ومنها) إباحة تعدد الزوجات للنابغين من الرجال ليكثر نسلهم. وقالا: إذا جرى المجتمع على هذا الانتخاب الصناعي قرونا عديدة كان نسل الإنسان الأخير، بحكم ناموس الوراثة، سالما من الأمراض. حسن الطوية. ليس فيه ميل إلى الشر. قويّا. ذكي الفؤاد. نابغا في العلوم. التي يتعلمها. كأنه نوع أرقى من الإنسان الحاضر. وكانت أهم طريقة أبدياها للارتقاء المنتظر للبشر في المستقبل، هي طريقة تعدد الزوجات في الحاضر للنابغين من الناس. فإن منع أصحاب الأمراض المزمنة والجناة من الزواج إنما يفيد في تقوية النسل وجعله ميالا بالفطرة إلى الخير ليس إلا، لا في جعله أذكى من آبائه وأسمى مدارك. وتعدد الزوجات للنابغين من المسلمين، قد جاء به الإسلام قبل هذين الفيلسوفين بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة. فقد أباح لهم تعددهن إلى
23
أربع. ليكثر نسلهم، فيكثر عدد النابغين، الذين بهم وحدهم تتم الأعمال الكبيرة في هذه الدنيا. فهو من مكتشفات هذا الدين الاجتماعية. وقد جعل رضاهن بذلك شرطا له لئلا يكون فيه إجحاف بحقوقهن. والعاقلة من النساء تفضل أن تكون زوجة لنابغة من الرجال- وإن كان ذا زوجات أخر- على أن تكون زوجة لرجل أحمق، وإن اقتصر عليها. لأنها تعلم أن أولادها من الأول ينجبون أكثر منهم من الثاني. وأما غير النابغين منهم فإن الدين يمنعهم من نكاح أكثر من واحدة، لئلا يكثر نسلهم. قال الله تعالى في كتابه المبين يخاطب المؤمنين: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً الخطاب في هذه الآية لعموم الأمة. فهي تأذن لكل أحد من المسلمين أن يتزوج بأكثر من واحدة من النساء إلى أربع. إذا آنس من نفسه القدرة على العدل بينهن. وإلا وجب عليه الاقتصار على واحدة لئلا يجور عليهن. والقدرة على العدل بين أربع من النساء، متوقف على عقل كبير وسياسة في الإدارة وحكمة بالغة في المعاملة، لا تتأتى إلا لمن كان نابغة بين الرجال، ذا مكانة من العقل ترفعه على أقرانه. والرجل النابغة، إذا تزوج بأكثر من واحدة، كثر نسله فكثر النوابغ. والشعب الذي يكثر نوابغه أقدر على الغلبة في تنازع البقاء من سائر الشعوب. كما يدلنا عليه التاريخ. ثم خاطب الله، في مكان آخر، الخائفين أن لا يعدلوا بين النساء وهم غير النوابغ من المسلمين، بقوله: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ. فأمرهم في هذه الآية، التي هي في المعنى تتمة للأولى، أن لا يقترنوا بأكثر
من واحدة لأنهم في درجة من العقل هي دون درجة النابغين، لن يستطيعوا معها إتيان العدل بين النساء، المتوقف على عقل كبير يسهل لصاحبه أن يرضيهن جمعاء. كما يأتيه النابغون والدهاة من الناس. وحرم على هؤلاء، الذين لم يجوزوا المقدرة على العدل، التزوج بأكثر من واحدة. لئلا يقع الظلم من الرجال على النساء. وهو كثير الصدور من الأوساط ومن كان دونهم في سلم الارتقاء. ولئلا يكثر نسل غير النابغين. وهو الأهم. فتبقى الأمة في مكانها من الانحطاط. وقد تقدم أن الخطاب في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ في الآية الأولى لعموم الأمة. غير أن الشرط بالعدل جعله خاصّا بالعادلين منهم. وهم النابغون الذين يقتدرون على إتيان العدل بين النساء لوفور عقلهم. والغاية من أمر هذا الصنف من المسلمين أن يتزوجوا بأكثر من واحدة إلى أربع، هو تكثير نسلهم ليستفيد من كثرة أمثالهم المجتمع، كما أسلفنا. ولكن النابغة لا يأتي نسله في الغالب نوابغ، بمجرد تعدد الزوجات. فإن الزوجة المتوسطة أو المنحطة يكون
24
أولادها في الغالب أوساطا أو منحطين. وإن كان أبوهم راقيا. فلا تحصل الفائدة المطلوبة من تعدد الزوجات وهي إصلاح النسل. بل يجب للحصول على هذا المطلب الأسنى أن يقترن النابغون بالنابغات. ليكون أولادهم مثلهم نبوغا أو أنبغ منهم. بحكم سنة الوراثة. وذلك إنما يتم إذا أحسن النابغون اختيار الأزواج.
فنكحوا ما طاب لهم. والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغا مثل نبوغه، إلى حسن رائع. فإن معاشرة الحمقاء ليس مما يطيب للعاقل الراقي. وإن الخير يطلب عند حسان الوجوه. ولذلك قال تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ولم يقل وانكحوا من النساء. وفي قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل، الثلاث. فكأنه أراد أن لا يتجاوز، الذي قلّ نبوغه، الاقتران باثنتين. وأن لا يتجاوز، الذي نبوغه متوسط، الاقتران بثلاث. وأن يحل، للذي نبوغه أعلى من الأولين، الاقتران بأربع.
وأما الخائفون أن لا يعدلوا فيجب أن لا يتجاوزوا الاقتران بواحدة. لأنهم أناس لن يستطيعوا، مع كل حرصهم، أن يعدلوا بين النساء. لقصور عقلهم في سياسة المنزل وعدم نبوغهم. وهناك إنسان نبوغه أكبر من كل نبوغ. هو محمد صلى الله عليه وسلم. الذي اختاره الله لوفور حكمته رسولا منه إلى البشر. قد أحل له أن يقترن بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن.
وأظنك، بعد قراءة ما أوردت، تعترف، إن كنت من المنصفين، أن الإسلام جاء، قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام، بسنّة للزواج، عليها وحدها يتوقف إصلاح نسل البشر، الذي أخذ في هذا القرن أفراد من فلاسفة الغرب يحضّون عليه. تلك السنة هي تعدد الزوجات بعد أن كان الرأي العام في الغرب يعيبه عليها. هذا هو الإسلام يقرر أكبر قاعدة للترقي. وهو إباحة تعدد الزوجات، اللاتي يطبن لوفور جمالهن وعقلهن، لأفراد نابغين من المسلمين. لا يخافون لوفور عقلهم أن لا يعدلوا بينهن. ولكن المسلمين لم يأتمروا بأمر الله. فأباحوا هذا التعدد لكل أحد من المسلمين. للخائفين أن لا يعدلوا. ولغير الخائفين. ففسد النسل. والذي أعان على فساده هو كون القدرة عليه أصبحت، بحكم الجهل، منحصرة في المال الذي يجمعه الغاصب والسارق والكاسب. فكثر نسل الظالمين وقلّ نسل العادلين من أهل العقل الراجح. انتهى كلامه. وهو استنباط بديع.
25
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
وَآتُوا أي أعطوا النِّساءَ أي اللاتي أمر بنكاحهن صَدُقاتِهِنَّ أي مهورهن (جمع صدقة كسمرة) وهي المهر نِحْلَةً أي عطاء غير مستردّ بحيلة تلجئهن إلى الرد. والنحلة (بكسر النون وضمها، على ما رواه ابن دريد) اسم مصدر ل (نحل). والمصدر النحل (بالضم) وهو العطاء بلا عوض. والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة، مع كونها واجبة على الأزواج، لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر.
فائدتان:
الأولى- هذا الخطاب إما للأزواج، كما روي عن علقمة والنخعيّ وقتادة، واختاره الزجاج. فإن ما قبله خطاب للناكحين وهم الأزواج. وإما لأولياء النساء.
وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا. ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة. ومعناه إنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه. وقال ابن الأعرابيّ: النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته. فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله. وهذا قول الكلبيّ وأبي صالح. واختيار الفراء وابن قتيبة.
الثانية- قال القفال رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة. ويحتمل أن يكون المراد الالتزام. قال تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التوبة: ٢٩]. والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها. فعلى هذا الوجه الأول، كان المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن. وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم. سواء سمي ذلك أو لم يسم. إلا ما خص به الرسول ﷺ في الموهوبة. ثم قال رحمه الله: ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا. والله أعلم.
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً الضمير للصدقات. وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك. أي فإن أحللن لكم من المهر شيئا بطيبة النفس، جلبا لمودتكم، لا لحياء
عرض لهن منكم أو من غيركم. ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم. فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً أي فخذوه وتصرفوا فيه تملكا. وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية. وهنيئا مريئا: صفتان من (هنؤ الطعام ومرؤ) إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة.
والمريء حميد المغبة. وهما عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة.
لأنهن كالرجال في التصرفات والتبرعات.
تنبيه:
قال بعض المفسرين: للآية ثمرات: منها أنه لا بد في النكاح من صداق.
ومنها أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون. ومنها أن لها أن تتصرف فيه بما شاءت.
ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أم لا. ولذا قال بعض الفقهاء: لها بيع مهرها قبل قبضه. ولبعضهم: لا تبيعه حتى تقبضه، كالملك بالشراء. ومنها أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها مع طيب نفسها. وقد رأى شريح إقالتها إذا رجعت، واحتج بالآية.
روى الشعبيّ أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه. وهي تطلب الرجوع. فقال شريح: رد عليها. فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ؟ فقال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وروي عنه أيضا أقيلها فيما وهبت ولا أقيله. لأنهن يخدعن. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى قضاته: أن النساء يعطين رغبة ورهبة. فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها. نقله الرازيّ.
أقول: ما رآه شريح وروي عن عمر، هو الفقه الصحيح والاستنباط البديع. إذ الآية دلت على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط. حيث بني الشرط على طيب النفس. ولم يقل: فإن وهبن لكم، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيّبة. وبرجوعها يظهر عدم طيب نفسها. وذلك بيّن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ
27
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً
اعلم أن في الآية وجوها يحتملها النظم الكريم.
الأول: أن يراد بالسفهاء اليتامى. كما روي عن سعيد بن جبير. والخطاب حينئذ للأولياء. نهوا أن يؤتوا اليتامى أموالهم مخافة أن يضيعوها لقلة عقولهم. لأن السفيه هو الخفيف الحلم. وإنما أضيفت للأولياء، وهي لليتامى، تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بالأولياء. فكأن أموالهم عين أموالهم. لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسيّ والنسبيّ. مبالغة في حملهم على المحافظة عليها. كما قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩]. أي لا يقتل بعضكم بعضا. حيث عبر عن بني نوعهم بأنفسهم، مبالغة في زجرهم عن قتلهم. فكأن قتلهم قتل أنفسهم. وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، بقوله تعالى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً. أي جعلها الله شيئا تقومون وتنتعشون. فلو ضيعتموها لضعتم. وقوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ أي اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم. بأن تتجروا وتتربحوا. حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال. وقوله سبحانه: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي كلاما لينا تطيب به نفوسهم. ومنه أن يعدهم عدة جميلة، بأن يقول وليهم: إذا صلحتم ورشدتم، سلمنا إليكم أموالكم.
(الوجه الثاني) أن يراد بالسفهاء الناس والصبيان. روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. فالخطاب عام والنهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوّله الله تعالى من المال فيعطيه امرأته وأولاده. ثم ينظر إلى أيديهم. وإنما سماهم سفهاء استخفافا بعقلهم واستهجانا لجعلهم قواما على أنفسهم. قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: لا تعمد إلى مالك ما خوّلك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنتك ثم تنظر إلى ما في أيديهم. ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم.
(الوجه الثالث) أن يراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال.
فيدخل فيه النساء والصبيان والأيتام وكل من كان موصوفا بهذه الصفة. قال الرازيّ:
وهذا القول أولى. لأن التخصيص بغير دليل لا يجوز. قال السيوطيّ في (الإكليل) :
في هذه الآية الحجر على السفيه. وأنه لا يمكّن من ماله. وأنه ينفق عليه منه ويكسي، ولا ينفق في التبرعات. وأنه يقال له معروف. ك (إن رشدت دفعنا إليك مالك. وإنما يحتاط لنفعك).
28
واستدل بعموم الآية من قال بالحجر على السفيه البالغ. سواء طرأ عليه أم كان من حين البلوغ. ومن قال بالحجر على من يخدع في البيوع. ومن قال بأن من يتصدق على محجور، وشرط أن يترك في يده، لا يسمع منه في ذلك.
لطيفة:
في قوله تعالى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً حث على حفظ الأموال وعدم تضييعها.
قال الزمخشريّ: كان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن. ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه، خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان، وكانت له بضاعة يقلبها: لولاها لتمندل بي بنو العباس. وعن غيره (وقيل له: إنها تدنيك من الدنيا) :
لأن أدنتني من الدنيا لقد صانتني عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا. فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في جنازة، فقالوا له:
اذهب إلى دكانك. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
وَابْتَلُوا الْيَتامى أي اختبروا عقولهم ومعرفتهم بالتصرف حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي بأن يحتلموا أو يبلغوا خمس عشرة سنة. لما
في الصحيحين «١» عن ابن عمر قال: إن رسول الله ﷺ عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني
. قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته هذا الحديث فقال: إن هذا لحدّ بين الصغير والكبير.
وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة. وكذا نبات الشعر الخشن حول العورة، لما
رواه الإمام أحمد «٢» وأهل السنن عن عطية القرظيّ قال: عرضنا على النبيّ
(١) أخرجه البخاري في: الشهادات، ١٨- باب بلوغ الصبيان وشهادتهم.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٣١٠.
29
صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل. ومن لم ينبت خلّى سبيله. فكنت فيمن لم ينبت. فخلّى سبيلي.
قال الترمذي: حسن صحيح. فَإِنْ آنَسْتُمْ أي شاهدتم وتبينتم مِنْهُمْ رُشْداً أي صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم. قاله سعيد بن جبير، وروي عن ابن عباس والحسن وغير واحد من الأئمة فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ أي من غير تأخير.
وظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز أو بالفسق، لا يسلم إليه ماله لأنها مفسدة للمال وَلا تَأْكُلُوها أيها الأولياء إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أي مسرفين ومبادرين كبرهم. أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم. تفرّطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا وَمَنْ كانَ من الأولياء غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ أي يتنزه عن أكل مال اليتيم. فإنه عليه كالميتة والدم. وليقنع بما آتاه الله تعالى من الرزق وَمَنْ كانَ فَقِيراً يمنعه اشتغاله بمال اليتيم عن الكسب. وإهماله يفضي إلى تلفه عليه فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته. كما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة حيث قالت:
فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه. ورواه البخاري «١» أيضا. قال ابن كثير: قال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين أجرة مثله. وقد حاجته. وهل يردّ إذا أيسر؟ وجهان:
أحدهما لا يرد لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا. وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعيّ. لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل.
وروى الإمام أحمد «٢» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل النبيّ ﷺ فقال: ليس لي مال ولي يتيم.
فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا. ومن غير أن تقي مالك، (أو قال تفدي مالك بماله) ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: كل بالمعروف غير مسرف. ورواه أبو داود والنسائيّ وابن ماجة.
وروى ابن حبان في (صحيحه) وابن مردويه في (تفسيره) عن جابر: أن رجلا قال: يا رسول الله! مما أضرب يتيمي؟
قال: مما كنت ضاربا منه ولدك. غير واق مالك بماله. ولا متأثل منه مالا.
وروى عبد الرزاق عن الثوريّ عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: جاء أعرابيّ إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاما. وإن لهم إبلا. ولي إبل وأنا أمنح من إبلي فقراء.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٢- باب: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ، حديث ١١٠٩. ونصه: عن عائشة رضي الله عنها، في قوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ، إنها نزلت في والي مال اليتيم إذا كان فقيرا أنه يأكل منه، مكان قيامه عليه، بمعروف.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٢/ ٢١٦.
30
فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسعى عليها، فاشرب غير مضرّ بنسل، ولا ناهك في الحلب. ورواه مالك في موطئه «١». وبهذا القول، وهو عدم أداء البدل، بقول عطاء بن أبي رباح وعكرمة وإبراهيم النخعيّ وعطية العوفيّ والحسن البصريّ.
والوجه الثاني- يردّ. لأن مال اليتيم على الحظر. وإنما أبيح للحاجة. فيردّ بدله. كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة. وقد روى ابن أبي الدنيا عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة وإلى اليتيم. إن استغنيت استعففت. وإن احتجت استقرضت. فإذا أيسرت قضيت.
وروى سعيد بن منصور في (سننه) : حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء قال قال لي عمر رضي الله عنه: إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم إن احتجت أخذت منه. فإذا أيسرت رددته. وإن استغنيت استعففت. قال ابن كثير:
إسناد صحيح.
وروى البيهقيّ عن ابن عباس نحو ذلك. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ يعني القرض. قال وروي عن عبيدة وأبي العالية وأبي وائل، وسعيد بن جبير (في إحدى الروايات) ومجاهد والضحاك والشعبيّ والسدّيّ نحو ذلك. قال الفخر الرازيّ: وبعض أهل العلم خص هذا الإقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها. وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال. وهذا قول أبي العالية وغيره. واحتجوا بأن الله تعالى قال: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ، فحكم في الأموال بدفعها إليهم. انتهى.
أقول: الكل محتمل. إذ لا نص من الأصلين على واحد منها. ولا يخفى الورع. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ أي بعد البلوغ والرشد فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أي عند الدفع بأنهم قبضوها. فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة. قال السيوطيّ: فيه الأمر بالإشهاد ندبا. وقيل: وجوبا. ويستفاد منه أن القول في الدفع قول الصبيّ، لا الوليّ.
(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث ٣٣ ونصه: عن القاسم بن محمد قال:
جاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال له: إن لي يتيما وله إبل، أفأشرب من لبن إبله؟ فقال ابن عباس: إن كنت تبغي ضالة إبله، وتهنأ جرباها، وتلطّ حوضها، وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضرّ بنسل، ولا ناهك في الحلب.
31
فلا يقبل قوله إلا ببينة. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض. أو محاسبا. فلا تخالفوا ما أمركم به. ولا يخفى موقع هذا التذييل هنا. فإن الوصيّ يحاسب على ما في يده. وفيه وعيد لوليّ اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره. لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال: يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم. «١»
ثم ذكر تعالى أحكام المواريث بقول سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
لِلرِّجالِ أي الأولاد والأقرباء نَصِيبٌ أي حظ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي المتوفون وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أي المال أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أي مقطوعا واجبا لهم. وإيراد حكم النساء على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام الرجال، بأن يقال للرجال والنساء إلخ للاعتناء بأمرهن، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية. فإنهم كانوا لا يورّثون النساء والأطفال. ويقولون، لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة. وقد استدل بالآية على توريث ذوي الأرحام لأنهم من الأقربين. وهو استدلال وجيه. ولا حجة لمن حاول دفعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى ذوو القرابة ممن لا
(١) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ١٧.
32
يرث، قدّمهم لأن إعطاءهم صدقة وصلة وَالْيَتامى الضعفاء بفقد الآباء وَالْمَساكِينُ الضعفاء بفقد ما يكفيهم من المال فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم من الميراث شيئا وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً بتلطيف القول لهم والدعاء لهم بمثل: بارك الله عليكم.
قال ابن كثير في هذه الآية: المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون، واليتامى والمساكين، قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتشوق إلى شيء منه، إذا رأوا هذا يأخذ، وهذا يأخذ، وهم يائسون لا يعطون شيئا. فأمر الله تعالى، وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط، يكون برّا بهم وصدقة عليهم وإحسانا إليهم وجبرا لكسرهم كما قال الله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام: ١٤١]. وذم الذين ينقلون المال خفية، خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة، كما أخبر به عن أصحاب الجنة: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ [القلم: ١٧]. فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [القلم: ٢٣- ٢٤]. دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [محمد صلى الله عليه وسلم: ١٠]. فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه. ولهذا جاء في الحديث: ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته. أي منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية. انتهى.
وقد روى البخاري «١» عن ابن عباس، في الآية قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي لفظ عنه: هي قائمة يعمل بها. وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، في هذه الآية: أنها واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم. وروى عبد الرزاق في (مصنفه) أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن، وعائشة حية. فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه. وتلا: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى الآية. وأخرج سعيد بن منصور عن يحيى بن يعمر قال: ثلاث آيات مدنيات محكمات ضيّعهن كثير من الناس:
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ، وآية الاستئذان: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ، وقوله:
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، الآية. وقد ذكر هاهنا كثير من المفسرين آثارا عن بعض السلف بأن هذه الآية منسوخة بآية. الميراث. وهي من الضعف بمكان. ولقد
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٣- باب: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ الآية، حديث ١٣٢٣.
33
أبعد القائل بالنسخ عن فهم سر الآية فيما ندبت إليه من هذه المكرمة الجليلة. وهي إسعاف من ذكر من المال الموروث، والنفس الأبية تنفر من أن تأخذ المال الجزل، وذو الرحم حاضر محروم، ولا يسعف ولا يساعد. فالآية بينة بنفسها، واضحة في معناها وضوح الشمس في الظهيرة، لا تنسخ أو تقوم الساعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً في الآية وجوه:
الأول- أنها أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريّهم الضعاف بعد وفاتهم.
الثاني: أنها أمر لمن حضر المريض من العوّاد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم. فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم:
الثالث: أنها أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين، متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم.
هل يجوّزون حرمانهم؟
الرابع: أنها أمر للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية. كما
ثبت في الصحيحين «١»
أن رسول الله ﷺ لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة. أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قال:
فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث. قال: الثلث. والثلث كثير. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(١)
أخرجه البخاريّ في: الجنائز، ٣٧- باب رثي النبيّ ﷺ سعد بن خولة، حديث ٥٠ ونصه: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يعودني في عام حجة الوداع من وجع اشتد بي. فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال. ولا يرثني إلا ابنة.
أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال «لا» فقلت: بالشطر؟ فقال «لا» ثم قال «الثلث. والثلث كبير (أو كثير) إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها. حتى ما تجعل في في امرأتك»
.
34
إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.
وفي الصحيح «١» عن ابن عباس قال: لو غض الناس إلى الربع؟ لأن رسول الله ﷺ قال الثلث: والثلث كثير (أو كبير).
والوجه الأول حكاه ابن جرير من طريق العوفيّ عن ابن عباس. قال ابن كثير:
وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلما.
ونقل الرازيّ عن القاضي: إن هذا الوجه أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام. فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها. ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود.
قال الزمخشريّ: والقول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى. ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب. ويدعوهم ب (يا بنيّ) ويا ولدي.
ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له، إذا أراد الوصية: لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك. مثل
قول رسول الله ﷺ لسعد: إنك أن تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
ومن المتقاسمين ميراثهم أن يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين.
لطيفة:
لا بد من حمل قوله تعالى: (تركوا) على المشارفة: ليصح وقوع (خافوا) خيرا له. ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة. ونظيره: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: ٢٣١]. أي شارفن بلوغ الأجل. ولهذا المجاز، في التعبير عن المشارفة على الترك، بالترك، سرّ بديع.
وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة، ولا في الذبّ عن الذرية الضعاف. وهي الحالة التي، وإن كانت من الدنيا، إلا أنها لقربها من الآخرة، ولصوقها بالمفارقة، صارت من حيّزها، ومعبرا عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك. كذا في الانتصاف.
تنبيه:
قال بعض المفسرين: إنه يجب أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه.
(١) أخرجه البخاريّ في: الوصايا، ٣- باب الوصية بالثلث، حديث ١٣١٨.
35
ويحب لذرية غيره من المؤمنين ما يحب لذريته. وأن على وليّ اليتيم أن لا يؤذي اليتيم. بل يكلمه كما يكلم أولاده بالأدب الحسن والترحيب. ويدعوا اليتيم: يا بنيّ، يا ولدي. وقد جاء في الرقة على الأيتام آثار كثيرة.
وفي الآية إشارة إلى إرشاد الآباء، الذي يخشون ترك ذرية ضعاف، بالتقوى في سائر شؤونهم حتى تحفظ أبناؤهم وتغاث بالعناية منه تعالى. ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله تعالى. وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع. وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف. كما في آية:
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً [الكهف: ٨٢]، إلى آخرها. فإن الغلامين حفظا، ببركة صلاح أبيهما، في أنفسهما ومالهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً أي على وجه الظلم من الورثة، أو أولياء السوء وقضاته، بخلاف أكل الفقير الناظر في أموالهم بقدر أجرته، كما تقدم إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً أي ما يجرّ إلى النار ويؤدّي إليها وَسَيَصْلَوْنَ أي في القيامة سَعِيراً أي نارا مستعرة.
روى ابن حبان في (صحيحه) وابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي برزة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا. قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: ألم تر أن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً، الآية.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: في بطونهم، أي ملء بطونهم. يقال: أكل فلان في بطنه وفي بعض بطنه. قال الشاعر:
كلوا في بعض بطنكمو تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
قال الناصر: ومثله: قد بدت البغضاء من أفواههم أي شرقوا بها وقالوها بملء أفواههم. ويكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع حتى يتأكد عنده بشاعة
هذا الجرم بمزيد تصوير. ولأجل تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله، خص الأكل. لأنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها. والله أعلم.
تنبيه:
روى أبو داود «١» والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى أكله أو يفسد. فاشتد عليهم ذلك. فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة: ٢٢٠].
الآية. فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه. وقد مضى ذلك في سورة البقرة.
قال الرازيّ رحمه الله: ومن الجهال من قال: صارت هذه الآية منسوخة بتلك.
وهو بعيد. لأن هذه الآية في المنع من الظلم. وهذا لا يصير منسوخا. بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى، إن كان على سبيل الظلم، فهو من أعظم أبواب الإثم. كما في هذه الآية. وإن كان على سبيل التربية والإحسان، فهو من أعظم أبواب البر، كما في قوله: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ.
وقال رحمه الله قبل ذلك: ما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله. لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى، بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ شروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة في
(١) أخرجه أبو داود في: الوصايا، ٧- باب مخالطة اليتيم في الطعام، حديث ٢٨٧١.
37
قوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ إلخ. قال الحافظ ابن كثير: هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة، هن آيات علم الفرائض. وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك. انتهى.
والمعنى: يأمركم الله ويعهد إليكم في شأن ميراث أولادكم بعد موتكم لِلذَّكَرِ أي منهم مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي نصيبهما اجتماعا وانفرادا. أما الأول فإنه يعدّ كل ذكر بأنثيين. في مثل ابن مع بنتين. وابن ابن مع بنتي ابن. وهكذا في السافلين.
فيضعف نصيبه ويأخذ سهمين. كما أن لهما سهمين. وأما الثاني فإن له الكل وهو ضعف نصيب البنت الواحدة. لأنه جعل لها في حال انفرادها النصف. فاقتضى ذلك أن للذكر، عند انفراده، مثلي نصيبها عند انفرادها، وذلك الكامل. فالمذكور هنا ميراث الذكر مطلقا. مجتمعا مع الإناث ومنفردا. كما حققه صاحب (الانتصاف).
تنبيه:
قال السيوطيّ: استدل بالآية من قال بدخول أولاد الابن في لفظ (الأولاد) للإجماع على إرثهم، دون أولاد البنت.
لطائف:
الأولى: وجه الحكمة في تضعيف نصيب الذكر هو احتياجه إلى مؤنة النفقة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق. فهو إلى المال أحوج. ولأنه لو كمل نصيبها، مع أنها قليلة العقل، كثيرة الشهوة لأتلفته في الشهوات إسرافا. ولأنها قد تنفق على نفسها فقط، وهو على نفسه وزوجته.
الثانية: لم يقل: للذكر ضعف نصيب الأنثى، لأن الضعف يصدق على المثلين فصاعدا. فلا يكون نصّا. ولم يقل: للأنثيين مثل حظ الذكر، ولا للأنثى نصف حظ الذكر، تقديما للذكر بإظهار مزيته على الأنثى، ولم يقل: للذكر مثلا نصيب الأنثى، لأنه المثل في المقدار لا يتعدد إلا بتعدد الأشخاص. ولم يعتبر هاهنا.
الثالثة: إيثار اسمي (الذكر والأنثى) على ما ذكر أولا من الرجال والنساء، للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق، من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا. كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورّثون الأطفال، كالنساء.
الرابعة: استنبط بعضهم من هذه الآية أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة
38
بولدها. حيث أوصى الوالدين بأولادهم. فعلم أنه أرحم بهم منهم. كما جاء
في الحديث الصحيح «١»
وقد رأى امرأة من السبي، فرق بينها وبين ولدها فجعلت تدور على ولدها. فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته. فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟ قالوا: لا.
يا رسول الله. قال: فو الله! لله أرحم بعباده من هذه بولدها
. فَإِنْ كُنَّ أي الأولاد.
والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى: نِساءً يعني بنات خلصا ليس معهن ذكر فَوْقَ اثْنَتَيْنِ خبر ثان أو صفة لنساء. أي نساء زائدات على اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ أي المتوفى المدلول عليه بقرينة المقام.
تنبيه:
ظاهر النظم القرآنيّ أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعدا حيث لا ذكر معهن ولم يسم للبنتين فريضة. وقد اختلف أهل العلم في فريضتهما. فذهب الجمهور إلى أن لهما، إذا انفردتا عن البنين، الثلثين. وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف. احتج الجمهور بالقياس على الأختين. فإن الله سبحانه قال في شأنهما: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ. فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين. كما ألحقوا الأخوات، إذا زدن على اثنتين، بالبنات، في الاشتراك في الثلثين. وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين. وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث، كان للابنتين، إذا انفردتا، الثلثان. هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرّد. قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط. لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين. وأيضا للمخالف أن يقول: إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف. فهذا دليل على أن هذا فرضهما. ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت، بقوله: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، كان فرض البنتين، إذا انفردتا، فوق فرض الواحدة. وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين. وقيل إن (فوق) زائدة. والمعنى: إن كن نساء اثنتين. كقوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال: ١٢]، أي الأعناق. ورد هذا النحاس وابن عطية. فقالا: هو خطأ.
لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى. قال ابن عطية: ولأن قوله (فوق الأعناق) هو الفصيح وليست (فوق) زائدة بل هي محكمة
(١) أخرجه مسلم في: التوبة، حديث ٢٢.
39
المعنى، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ.
كما قال دريد بن الصمة: اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم. فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال. انتهى. وأيضا لو كان لفظ (فوق) زائدا كما قالوا، لقال: فلهما ثلثا ما ترك، ولم يقل: فلهن ثلثا ما ترك. وأوضح ما يحتج به للجمهور ما
أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي «١» وابن ماجة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقيّ في (سننه) عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع. قتل أبوهما معك يوم (أحد) شهيدا. وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا. ولا تنكحان إلّا ولهما مال. فقال: يقضي الله في ذلك. فنزلت آية الميراث. فبعث رسول الله ﷺ إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك.
أخرجوه من طرق، عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر
. قال الترمذيّ: هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل. وقد رواه شريك أيضا عن عبد الله بن محمد بن عقيل من حديثه.
كذا في (فتح البيان) وَإِنْ كانَتْ أي المولودة واحِدَةً أي امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت فَلَهَا النِّصْفُ أي نصف ما ترك. ولم يكمل لها لأنها ناقصة. ولذلك لم يجعل لها الثلثان اللذان هما نصيب الابن معها. ثم ذكر، بعد ميراث الأولاد، ميراث الوالدين فقال: وَلِأَبَوَيْهِ أي الميت. وهو كناية عن غير مذكور. وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه. والمراد بالأبوين الأب والأم. والتثنية على لفظ الأب للتغليب لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ من المال إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكر أو أنثى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ للميت وَلَدٌ ذكر أو أنثى وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ
(١) أخرجه الترمذيّ في: الفرائض، ٣- باب ما جاء في ميراث البنات.
أخرجه أبو داود في: الفرائض، ٤- باب ما جاء في الصلب، حديث ٢٨٩١. ونصه: عن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق. فجاءت المرأة بابنتين فقالت: يا رسول الله! هاتان بنتا ثابت بن قيس، قتل معك يوم أحد. وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله. فلم يدع لهما مالا إلا أخذه. فما ترى يا رسول الله! فو الله! لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقضي الله في ذلك» قال ونزلت سورة النساء:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.. الآية. فقال رسول الله ﷺ «ادعوا لي المرأة وصاحبها» فقال لعمهما «أعطهما الثلثين. وأعط أمهما الثمن. وما بقي فلك».
قال أبو داود: أخطأ فيه. هما ابنتا سعد بن الربيع. وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة.
40
أي ثلث المال مما ترك. والباقي للأب. للذكر مثل حظ الأنثيين. لكن قرر لها الثلث تنزيلا لها منزلة البنت مع الابن، لا منفردة، حطّا لها عن درجتها، لقيام البنت مقام الميت في الجملة. قاله المهايميّ فَإِنْ كانَ لَهُ أي للميت إِخْوَةٌ من الأب والأم. أو من الأب أو من الأم، ذكورا أو إناثا فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ يعني لأم الميت سدس التركة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ خبر مبتدأ محذوف. أي هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصي بها الميت إلى الثلث. ومن بعد قضاء دين على الميت. وقرئ في (السبع) : يوصي مبنيا للمفعول وللفاعل.
قال الحافظ ابن كثير: أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدّين مقدم على الوصية.
وروى أحمد والترمذي «١» وابن ماجة وأصحاب التفاسير من حديث ابن إسحاق عن الحارث بن عبد الله الأعور عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إنكم تقرؤون هذه الآية: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ. وإن رسول الله ﷺ قضى بالدين قبل الوصية. وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات. الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه.
ثم قال الترمذيّ: لا نعرفه إلا من حديث الحارث. وقد تكلم فيه بعض أهل العلم. لكن كان حافظا للفرائض، معتنيا بها وبالحساب. فالله أعلم.
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية أن الميراث إنما يقسم بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا. وفيها مشروعية الوصية. واستدل بتقديمها في الذّكر من قال بتقديمها على الدين في التركة. وأجاب من أخرها بأنها قدمت لئلا يتهاون بها.
واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر، ولو استغرق المال. ومن أجازها للوارث والكافر، حربيّا أو ذميّا. واستدل بها من قال: إن الدّين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث. ومن قال إن دين الحج والزكاة مقدم على الميراث، لعموم قوله: أَوْ دَيْنٍ. انتهى.
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة «٢» بسند صحيح عن سعد بن الأطول إن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم. وترك عيالا فأردت أن أنفقها على عياله. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه. فقال: يا رسول الله! قد أديت عنه. إلّا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة. قال: فأعطها فإنها محقة.
(١) أخرجه الترمذيّ في: الفرائض، ٥- باب ما جاء في ميراث الإخوة من الأب والأم. [.....]
(٢) أخرجه ابن ماجة في: الصدقات، ٢٠- باب أداء الدين عن الميت، حديث ٢٤٣٣.
41
لطيفة:
(فائدة) وصف الوصية بقوله: يُوصِي بِها، هو الترغيب في الوصية والندب إليها. وإيثار (أو) المفيدة للإباحة في قوله: أو دين، على (الواو) للدلالة على تساويهما في الوجوب. وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين. وتقديم الوصية على الدّين، ذكرا مع تأخرها عنه حكما، ما قدمنا من إظهار كمال العناية بتنفيذها، لكونها مظنة التفريط في أدائها، ولاطرّادها. بخلاف الدين- أفاده أبو السعود آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم. والمعنى: فرض الله الفرائض، على ما هو، على حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم.
فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع. وأنتم لا تدرون تفاوتها. فتولى الله ذلك فضلا منه. ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير. وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لأمر القسمة، وردّ لما كان في الجاهلية.
قال السمرقنديّ: ويقال: معنى الآية أن الله تعالى علمكم قسمة المواريث.
وأنكم لا تدرون أيهم أقرب موتا فيرث منه الآخر. انتهى. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف. أي فرض الله ذلك فرضا. أو لقوله تعالى:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ. فإنه في معنى: يأمركم ويفرض عليكم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بالمصالح والرتب حَكِيماً أي في كل ما قضى وقدر. فيدخل فيه بيان أنصباء الذكر والأنثى، دخولا أوليّا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ من المال إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ذكر أو أنثى،
42
منكم أو من غيركم فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ على نحو ما فصّل فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ من المال. والباقي لباقي الورثة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ أي من بعد استخراج وصيتهن وقضاء دينهن وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من المال إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ذكر أو أنثى، منهن أو من غيرهن فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ على النحو الذي فصل فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ الكلام فيه كما تقدم. وفي تكرير ذكر الوصية والدين، من الاعتناء بشأنهما، ما لا يخفى.
لطيفة:
في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء، لأنه تعالى حيث ذكر الرجال، في هذه الآية، ذكرهم على سبيل المخاطبة. وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة. وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات. وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك. وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء، كما فضلوا عليهن في النصيب. كذا يستفاد من الرازيّ. وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ أي تورث كذلك وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أي الإخوة والأخوات من الأم أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ أي من واحد فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم. قال المجد في (القاموس) : الكلالة: من لا ولد له ولا والد. أو ما لم يكن من النسب لحّا. أو من تكلل نسبه بنسبك. كابن العم، وشبهه أو هي الإخوة للأم. أو بنو العلم الأباعد. أو ما خلا الوالد والوالد. أو هي، من العصبة، من ورث منه الإخوة للأم. فهذه سبعة أقوال محكية عن أئمة اللغة. وقال ابن برّي: اعلم أن الكلالة في الأصل هي مصدر (كلّ الميت يكلّ كلّا، وكلالة) فهو كلّ إذا لم يخلف ولدا ولا والدا يرثانه. هذا أصلها. قال: ثم قد تقع الكلالة على العين دون الحدث. فتكون اسما للميت الموروث وإن كانت في الأصل اسما للحدث. على حد قولهم: هذا خلق الله. أي مخلوق الله قال: وجاز أن تكون اسما للوارث على حد قولهم: رجل عدل أي عادل. وماء غور أي غائر. قال: والأول هو اختيار البصريين من أن الكلالة اسم للموروث. قال: وعليه جاء التفسير في الآية، أن الكلالة الذي لم يخلف ولدا ولا والدا. فإذا جعلتها للميت، كان انتصابها في الآية على وجهين:
أحدهما- أن تكون خبر (كان) تقديره: وإن كان الموروث كلالة، أي كلّا ليس له ولد ولا والد.
43
والوجه الثاني- أن يكون انتصابها على الحال من الضمير في (يورث) أي يورث وهو كلالة. وتكون (كان) هي التامة التي ليست مفتقرة إلى خبر. قال: ولا يصح أن تكون الناقصة، كما ذكره الحوفيّ، لأن خبرها لا يكون إلا الكلالة. ولا فائدة في قوله (يورث). والتقدير: إن وقع أو حضر رجل يموت كلالة، أي يورث وهو كلالة، أي كلّ. وإن جعلتها للحدث دون العين، جاز انتصابها. على ثلاثة أوجه:
أحدها- أن يكون انتصابها على المصدر، على تقدير حذف مضاف، تقديره: يورث وراثة كلالة. كما قال الفرزدق: ورثتم قناة الملك لا عن كلالة. أي ورثتموها وراثة قرب، لا وراثة بعد، وقال عامر بن الطفيل:
وما سوّدتني عامر عن كلالة أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
ومنه قولهم: هو ابن عمّ كلالة، أي بعيد النسب. فإذا أرادوا القرب قالوا هو ابن عم دنية.
والوجه الثاني- أن تكون الكلالة مصدرا واقعا موقع الحال. على حد قولهم:
جاء زيد ركضا، أي راكضا. وهو ابن عمي دنية، أي دانيا. وابن عمي كلالة أي بعيدا في النسب.
والوجه الثالث- أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف. تقديره:
وإن كان الموروث ذا كلالة. قال: فهذه خمسة أوجه في نصب الكلالة. أحدها- أن تكون خبر (كان) والثاني- أن تكون حالا. الثالث- أن تكون مصدرا، على تقدير حذف مضاف. الرابع- أن تكون مصدرا في موضع الحال. الخامس- أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف. فهذا هو الوجه الذي عليه أهل البصرة والعلماء باللغة. أعني أن الكلالة اسم للموروث دون الوارث. قال: وقد أجاز قوم من أهل اللغة، وهم أهل الكوفة، أن تكون الكلالة اسما للوارث. واحتجوا في ذلك بأشياء:
منها قراءة الحسن: وإن كان رجل يورث كلالة. (بكسر الراء). فالكلالة، على ظاهر هذه القراءة، هي ورثة الميت. وهم الإخوة للأم. واحتجوا أيضا بقول جابر أنه قال: يا رسول الله! إنما يرثني كلالة. فإذا ثبت حجة هذا الوجه، كان انتصاب كلالة أيضا على مثل ما انتصبت في الوجه الخامس من الوجه الأول، وهو أن تكون خبر (كان) ويقدر حذف مضاف، ليكون الثاني هو الأول، تقديره: وإن كان رجل يورث ذا كلالة، كما تقول ذا قرابة، ليس فيهم ولد ولا والد. قال: وكذلك إذا جعلته حالا من
44
الضمير في (يورث) تقديره: ذا كلالة. قال: وذهب ابن جنيّ، في قراءة من قرأ يورث كلالة ويورّث كلالة، أن مفعولي (يورث ويورّث) محذوفان أي يورث وارثه ماله. قال: فعلى هذا يبقى (كلالة) على حاله الأولى التي ذكرتها. فيكون نصبه على خبر (كان) أو على المصدر. وتكون (الكلالة) للموروث لا للوارث. قال: والظاهر أن الكلالة مصدر يقع على الوارث وعلى الموروث. والمصدر قد يقع للفاعل تارة وللمفعول أخرى. والله أعلم.
وقال ابن الأثير: الأب والابن طرفان للرجل. فإذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه. فسمى ذهاب الطرفين كلالة.
وفي الأساس: ومن المجاز كلّ فلان كلالة، إذا لم يكن ولدا ولا والدا. أي كلّ عن بلوغ القرابة المماسة.
وقال الأزهريّ: ذكر الله الكلالة في سورة النساء في موضعين: أحدهما- قوله: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ.
والموضع الثاني قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ [النساء: ١٧٦]. فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم، والإخوة للأب والأم. فجعل للأخت الواحدة نصف ما ترك الميت وللأختين الثلثين. وللإخوة والأخوات جميع المال بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وجعل للأخ والأخت من الأم، وفي الآية الأولى، الثلث. لكل واحد منهما السدس.
فبين بسياق الآيتين أن الكلالة تشتمل على الإخوة للأم مرة، ومرة على الإخوة والأخوات للأم والأب. ودل قول الشاعر. أن الأب ليس بكلالة، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة، وهو قوله:
فإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب
أراد أن أبا المرء أغضب له إذا ظلم. وموالي الكلالة، وهم الإخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات لا يغضبون للمرء غضب الأب. انتهى.
وروى ابن جرير وغيره عن الشعبيّ قال: قال أبو بكر رحمة الله عليه: إني قد رأيت في الكلالة رأيا. فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له. وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان. والله بريء منه. أنت الكلالة ما خلا الولد والوالد.
تنبيه:
اتفق العلماء على المراد من قوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ- الأخ والأخت
45
من الأم. وقرأ سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف: وله أخ أو أخت من أم. وكذا فسرها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيما رواه قتادة عنه. قال الكرخيّ: القراءة الشاذة كخبر الآحاد. لأنها ليست من قبل الرأي. وأطلق الشافعيّ الاحتجاج بها، فيما حكاه البويطيّ عنه، في باب (الرضاع) وباب (تحريم الجمع) وعليه جمهور أصحابه. لأنها منقولة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيتها، انتفاء خصوص خبريتها. وقال القرطبيّ: أجمع العلماء على أن الإخوة هاهنا هم الإخوة لأم.
قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم، أو للأب، ليس ميراثهم هكذا.
فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ- هم الإخوة لأبوين، أو لأب.
لطيفة:
إفراد الضمير في قوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ. إما لعوده على الميت المفهوم من المقام، أم على واحد منهما، والتذكير للتغليب. أو على الرجل، واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ حال من ضمير يُوصى (على قراءته مبنيا للفاعل) أي غير مدخل الضرر على الورثة. كأن يوصي بأكثر من الثلث. ومن فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور (على قراءته مبنيا للمجهول) وتخصيص هذا القيد بهذا المقام، لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم. وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: الضرار في الوصية من الكبائر. ورواه النسائيّ في (سننه) عن ابن عباس موقوفا. وهو الصحيح كما قال ابن جرير وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لفعل محذوف. وتنوينه للتفخيم. كقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ. أو منصوب ب (غير مضار) على أنه مفعول به. فإنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال. أو منفي معنى.
فيعمل في المفعول الصريح. ويعضده القراءة بالإضافة. أي غير مضار لوصية الله وعهده في شأن الورثة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمضار وغيره حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة، فلا يغتر بالإمهال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣)
تِلْكَ الأحكام حُدُودُ اللَّهِ أحكامه وفرائضه المحدودة التي لا تجوز
مجاوزتها. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في قسمة المواريث وغيرها يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت شجرها ومساكنها خالِدِينَ فِيها لا يموتون ولا يخرجون وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ النجاة الوافرة بالجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤]
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في قسمة المواريث وغيرها وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ بتجاوز أحكامه وفرائضه بالميل والجور يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ أي لكونه غيّر ما حكم الله به، وضادّ الله في حكمه. وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به. ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.
وقد روى أبو داود «١» في باب (الإضرار في الوصية) من (سننه) عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إن الرجل ليعمل، أو المرأة، بطاعة الله ستين سنة. ثم يحضرهما الموت فيضارّان في الوصية. فتجب لهما النار
. وقرأ أبو هريرة: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ... حتى بلغ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. ورواه الترمذيّ وابن ماجة. ورواه الإمام أحمد «٢» بسياق أتم ولفظه: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة. فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله، فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة.
فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله. فيدخل الجنة. قال ثم يقول أبو هريرة:
واقرءوا إن شتم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ. إلى قوله: عَذابٌ مُهِينٌ.
ثم بين تعالى بعضا من الأحكام المتعلقة بالنساء، إثر بيان أحكام المواريث بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥)
(١) أخرجه أبو داود في: الوصايا، ٣- باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية، حديث ٢٨٦٧.
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٢٧٨.
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي الخصلة البليغة في القبح، وهي الزنى، حال كونهن مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أي فاطلبوا من القاذفين لهن أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي من المسلمين فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بها فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أي احبسوهن فيها. ولا تمكنوهن من الخروج، صونا لهن عن التعرض بسببه للفاحشة حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي يستوفي أرواحهن. وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيها. أو يتوفاهن ملائكة الموت أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أي يشرع لهن حكما خاصّا بهن. ولعل التعبير عنه ب (السبيل) للإيذان بكونه طريقا مسكوكا. قاله أبو السعود.
وقد بينت السنة أن الله تعالى أنجز وعده، وجعل لهن سبيلا. وذلك فيما
رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت قال: إن النبيّ ﷺ كان إذا أنزل الوحي كرب له وتربّد وجهه. وإذا سرّي عنه قال: خذوا عني خذوا عني (ثلاث مرار) قد جعل الله لهن سبيلا. الثيب بالثيب، والبكر بالبكر. الثيب جلد مائة والرجم. والبكر جلد مائة ونفي سنة
. هذا لفظ الإمام أحمد «١» وكذا
رواه أبو داود الطيالسي «٢» ولفظه عن عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا نزل عليه الوحي، عرف ذلك فيه. فلما نزلت أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وارتفع الوحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا حذركم قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة.
والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة
. القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦]
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
وَالَّذانِ: بتخفيف النون وتشديدها يَأْتِيانِها أي الفاحشة مِنْكُمْ أي الرجال فَآذُوهُما بالسب والتعيير، ليندما على ما فعلا فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا أي أعمالهما فَأَعْرِضُوا عَنْهُما بقطع الأذية والتوبيخ، وبالإغماض والستر. فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً أي على من تاب رَحِيماً واسع الرحمة. وهو تعليل للأمر بالإعراض.
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٣١٧.
(٢) أخرجه في مسنده. الحديث رقم ٥٨٤.
تنبيه:
هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة. قال الإمام الشافعيّ في الرسالة في (أبواب الناسخ والمنسوخ) بعد ذكره هاتين الآيتين [٣٧٦] : ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.
[٣٧٧] فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرين (لحديث عبادة بن الصامت المتقدم).
ثم قال: [٣٨٠] فدلت سنة رسول الله ﷺ أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرّين، ومنسوخ عن الثيبين. وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين. ثم قال:
[٣٨١] لأن
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم- أوّل ما نزل.
فنسخ به الحبس والأذى عن الزانيين.
[٣٨٢] فلما رجم رسول الله ﷺ ما عزا ولم يجلده، وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة الأسلميّ، فإن اعترفت رجمها- دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين. وثبت الرجم عليهما. لأن كل شيء أبدا بعد أول فهو آخر. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٧]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه توابا رحيما. بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم. قوله تعالى التَّوْبَةُ مبتدأ وقوله تعالى: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ خبره. وقوله تعالى: عَلَى اللَّهِ متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار. ومعنى كون التوبة عليه سبحانه، صدور القبول عنه تعالى. وكلمة عَلَى للدلالة على التحقق البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه. والمراد بالسوء المعصية، صغيرة أو كبيرة- كذا في أبي السعود. بِجَهالَةٍ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يَعْمَلُونَ أي متلبسين بها. أي جاهلين سفهاء. أو ب يَعْمَلُونَ
49
على أن الباء سببية. أي يعملونه بسبب الجهالة. والمراد بالجهل السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل. لا عدم العلم. فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة: والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب. كقوله: فنجهل فوق جهل الجاهلينا. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أي من زمان قريب. وظاهر الآية اشتراط وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ. وإنها بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلا. إذ بتأخيرها وتسويفها يدخل في زمرة المصرّين. فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب. والإنابة إلى المولى بعده فورا. ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه.
إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان. وهو واجب على الفور. وتتمته في (الإحياء).
إذا عرفت هذا، فما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى مِنْ قَرِيبٍ ما قبل حضور الموت- بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه. أعني البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان، عياذا بالله تعالى. (فإن قيل) : من أين يستفاد قبول التوبة قبل حضور الموت؟ (قلنا) يستفاد من الآية التي بعدها، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك. لا من قوله تعالى مِنْ قَرِيبٍ بما أولوه.
وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ- صريحة في أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة. فبقي ما وراءه في حيّز القبول.
وقد روى الإمام أحمد «١» عن ابن عمر عن النبيّ ﷺ قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. ورواه ابن ماجة والترمذيّ
وقال: حسن غريب.
وروى أبو داود «٢» الطيالسيّ عن عبد الله بن عمرو قال: من تاب قبل موته بعام تيب عليه. ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه. ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه. (قال أيوب). فقلت له إنما قال الله عز وجل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. فقال: إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى نحوه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وابن مردويه.
وروى مسلم «٣» عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب
(١) أخرجه في مسنده المسند ٢/ ١٢٣.
(٢) أخرجه في مسنده، الحديث ٢٢٨٤.
(٣) أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث ٤٣.
50
الله عليه.
وروى الحاكم مرفوعا: من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه.
وروى ابن ماجة عن ابن مسعود بإسناد حسن «١» : التائب من الذنب كمن لا ذنب له: وقوله تعالى: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي يقبل توبتهم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٨]
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ عند النزاع قالَ عند مشاهدة ما هو فيه إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فلا ينفعهم ندمهم ولا توبتهم لأنهم بمجرد الموت يعاينون العذاب.
روى الإمام أحمد «٢» عن أبي ذر أن رسول الله ﷺ قال: إن الله يقبل توبة عبده ويغفر لعبده ما لم يقع الحجاب. قيل: يا رسول الله! وما الحجاب؟ قال: أن تموت النفس وهي مشركة
. ولهذا قال تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا أي أعددنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً نهي عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم. روى البخاريّ عن ابن عباس رضي الله عنهما «٣» قال: كانوا، إذا مات الرجل، كان أولياؤه أحق بامرأته. إن شاء
(١) أخرجه في: الزهد، ٣٠- باب ذكر التوبة، حديث ٤٢٥٠.
(٢) أخرجه في المسند ٥/ ١٧٤.
(٣) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٦- باب لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.
51
بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها.
فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ. الآية. ورواه أبو داود والنسائيّ وغيرهم، ولفظ أبي داود عن ابن عباس: أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته. فيعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها: فأحكم الله عن ذلك. أي نهى عنه.
قال السيوطيّ: ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد. ولا يجري مجرى الأموال بوجه. وكَرْهاً (بفتح الكاف وضمها) قراءتان. أي حال كونهن كارهات لذلك! أو مكرهات عليه. والتقييد (بالكره) لا يدل على الجواز عند عدمه. لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه. كما في قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: ٣١]. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ الخطاب للأزواج. كما عليه أكثر المفسرين. روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أن الآية في الرجل تكون له المرأة. وهو كاره لصحبتها. ولها عليه مهر. فيضرها لتفتدي به. والعضل الحبس والتضييق. أي: ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. أي من الصداق. بأن يدفعن إليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي زنى. كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين. يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك، وتخالعها. كما قال تعالى في سورة البقرة: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: ٢٢٩]. الآية.
وروي عن ابن عباس أيضا وغيره: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان. واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله: الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه، ويفارقها. قال ابن كثير:
وهذا جيد، والله أعلم. قال أبو السعود: (مبينة) على صيغة الفاعل من (بيّن) بمعنى تبين وقرئ على صيغة المفعول. وعلى صيغة الفاعل من (أبان) بمعنى تبين أي بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة.
ويعضده قراءة أبيّ: إلا أن يفحشن عليكم. انتهى. وفي (الإكليل) استدل قوم بقوله: بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ- على منع الخلق بأكثر مما أعطاها انتهى.
ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله: وَعاشِرُوهُنَّ أي صاحبوهن بِالْمَعْرُوفِ أي بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنى بتركهن. أو سبب النشوز أو سوء الخلق. فلا يحل لكم حينئذ.
52
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقسم واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب. واستدل بعمومها من أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ يعني كرهتم الصحبة معهن فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً أي ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا يكون فيه خير كثير. وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن، على خلاف الطبع. وفي (الإكليل) قال الكيا الهراسيّ: في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس. وفيها دليل على أن الطلاق مكروه.
وقد روى مسلم «١» في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يفرك مؤمن مؤمنة. إن كره منها خلقا رضي منها آخر.
(يفرك) بفتح الياء والراء، معناه بغض.
لطيفة:
قال أبو السعود: ذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه، وانحصار العلّية في الثاني، للتوسل إلى تعميم مفعوله- ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصا بمكروه دون مكروه. بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق، حسب اقتضاء الحكمة. وإن ما نحن فيه مادة من موادها. وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد، ما لا يخفى.
تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن:
كفى في هذا الباب هذه الآية الجليلة الجامعة. وهي قوله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. قال ابن كثير: أي طيبوا أقوالكم لهن. وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم. كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله. كما قال تعالى:
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ [البقرة: ٢٢٨].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي. رواه الترمذيّ عن عائشة، وابن ماجة «٢» عن ابن عباس، والطبرانيّ عن معاوية.
وقال صلى الله عليه وسلم: خيركم خيركم للنساء. رواه الحاكم عن ابن عباس.
وقال صلى الله عليه وسلم: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي. ما أكرم النساء إلا
(١) أخرجه في: الرضاع، حديث ٦١.
(٢) أخرجه ابن ماجة في: النكاح، ١١- باب حسن معاشرة النساء، حديث ١٩٧٧.
53
كريم، ولا أهانهن إلا لئيم. رواه ابن عساكر عن عليّ عليه السّلام.
وعن عمر بن الأحوص رضي الله عنه أنه سمع النبيّ ﷺ في حجة الوداع يقول، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكر ووعظ، ثم قال: «ألا واستوصوا بالنساء خيرا. فإنما هنّ عوان عندكم. ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. ألا إن لكم على نسائكم حقّا. ولنسائكم عليكم حقا. فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون. ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن». رواه الترمذي «١»
وقال:
حديث حسن صحيح.
وقوله (عوان) أي أسيرات. جمع عانية.
وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبّح ولا تهجر إلا في البيت. رواه أبو داود «٢».
وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ «٣» :«ليس من اللهو إلا ثلاث:
تأديب الرجل فرسه، ورميه بقوسه ونبله، ومداعبة أهله»
. رواه أبو داود.
وفي رواية له: كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا تأديبه فرسه ورميه عن قوسه ومداعبته أهله.
قال ابن كثير: وكان من أخلاق النبيّ ﷺ أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه. حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، يتودد إليها بذلك. قالت: سابقني رسول الله ﷺ فسبقته. وذلك قبل أن أحمل اللحم. ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني.
(١) أخرجه الترمذيّ في: النكاح، ١١- باب ما جاء في حق المرأة على زوجها. [.....]
(٢) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٤١- باب في حق المرأة على زوجها، حديث ٢١٤٢.
(٣)
أخرجه الترمذيّ في: فضائل الجهاد، ١١- باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله. ونصه: عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسن أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله ليدخل بالسهم الواحد، ثلاثة، الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممدّ به» وقال «ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا. كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل. إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهنّ من الحق».
ثم قال: عن عقبة بن عامر الجهنيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثله
.
54
فقال: هذه بتلك. وكان ﷺ يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد. يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار. وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام. يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. انتهى.
وقال الغزاليّ في (الإحياء) في (آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح) :
الأدب الثاني- حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن، ترحما عليهن، لقصور عقلهن. قال الله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ: وقال في تعظيم حقهن:
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النساء: ٢١]. وقال تعالى: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء: ٣٦]. قيل: هي المرأة.
ثم قال: واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل. وراجعت امرأة عمر عمر رضي الله عنه فقال: أتراجعيني؟ فقالت: إن أزواج رسول الله ﷺ يراجعنه، وهو خير منك.
وكان رسول الله ﷺ يقول لعائشة «١» :«إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى. قالت. فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا. ورب محمد! وإذا كنت غضبى قلت: لا. ورب إبراهيم! قالت. قلت: أجل. والله! يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك».
ثم قال الغزالي: الثالث- أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة. فهي التي تطيب قلوب النساء. وقد كان رسول الله ﷺ يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال. حتى
روي أنه ﷺ كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوما وسبقها في بعض الأيام. فقال صلى الله عليه وسلم: هذه بتلك.
قال العراقيّ: رواه أبو داود «٢»، والنسائي في (الكبرى) وابن ماجة في حديث عائشة بسند صحيح.
وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم
(١) أخرجه البخاريّ في: النكاح، ١٠٨- باب غيرة النساء ووجدهن.
(٢) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٦١- باب في السبق على الرجل، حديث ٢٥٧٨.
55
يلعبون في يوم عيد. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتحبين أن تري لعبهم؟ قالت.
قلت: نعم. فأرسل إليهم فجاؤوا. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم: بين البابين. فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه. وجعلوا يلعبون وأنظر. وجعل رسول الله ﷺ يقول: حسبك! وأقول: لا تعجل. (مرتين أو ثلاثا) ثم قال: يا عائشة! حسبك.
فقلت نعم»
.
وفي رواية للبخاري «١» قالت: رأيت النبيّ ﷺ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد. حتى أكون أنا الذي أسأم. فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو
. وقال عمر رضي الله عنه: ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبيّ. فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلا.
وقال لقمان رحمه الله تعالى: ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبيّ. وإذا كان في القوم وجد رجلا.
وقال ﷺ «٢» لجابر: «هلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟» رواه الشيخان
. ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: والله! لقد كان ضحوكا إذا ولج، سكوتا إذا خرج، آكلا ما وجد، غير سائل عما فقد. انتهى بتصرف.
ثم نهى تعالى عن أخذ شيء من صداق النساء من أراد فراقهن، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢٠]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ أي تزوج امرأة ترغبون فيها مَكانَ زَوْجٍ ترغبون
(١) أخرجه البخاريّ في: النكاح، ١١٤- باب نظر المرأة إلى الحبش وغيرهم من غير ريبة.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: النكاح، ١٢٢- باب تستحد المغيبة وتمتشط. ونصه: عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبيّ ﷺ في غزوة فلما قفلنا كنا قريبا من المدينة تعجلت على بعير لي قطوف.
فلحقني راكب من خلفي فنخس بعيري بعنزة كانت معه. فسار بعيري ما أنت راء من الإبل.
فالتفت فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بعرس. قال: «أتزوجت؟» قلت: نعم. قال «بكرا أم ثيبا» قال قلت: بل ثيبا. قال «فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟» قال فلما قدمنا ذهبنا لندخل فقال «أمهلوا حتى تدخلوا ليلا (أي عشاء) كي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة».
عنها بأن تطلقوها وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ أي إحدى الزوجات. فإن المراد بالزوج الجنس. قِنْطاراً أي مالا كثيرا مهرا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي يسيرا، فضلا عن الكثير أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً أي باطلا وَإِثْماً مُبِيناً بينا. والاستفهام للإنكار والتوبيخ. أي أتأخذونه باهتين وآثمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢١]
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ إنكار لأخذه إثر إنكار، وتنفير عنه غب تنفير، على سبيل التعجب. أي بأي وجه تستحلون المهر وَقَدْ أَفْضى أي وصل بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ فأخذ عوضه وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا وثيقا مؤكدا مزيد تأكيد، يعسر معه نقضه. كالثوب الغليظ يعسر شقه.
قال الزمخشريّ: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة. ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه. فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة. فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ انتهى.
قال الشهاب الخفاجيّ: قلت بل قالوا:
صحبة يوم نسب قريب... وذمة يعرفها اللبيب
أو الميثاق الغليظ ما أوثق الله تعالى عليهم في شأنهم بقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. أو قول الوليّ عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب الله: من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
تنبيه في فوائد:
الأولى- في قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن كثرته ثم رجع عن ذلك: كما روى الإمام أحمد «١» عن أبي العجفاء السلميّ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغلوا صدق النساء. ألا لا تغلوا صدق النساء. فإنها لو كانت
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ٤٠.
57
مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبيّ صلى الله عليه وسلم. ما أصدق رسول الله ﷺ امرأة من نسائه، ولا أصدق امرأة من بناته، أكثر من اثنتي عشرة أوقية. وإن الرجل ليبتلى بصدقة امرأته (وقال مرة: وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته) حتى تكون لها عداوة في نفسه. وحتى يقول: كلفت إليك عرق القربة. ورواه أهل السنن. وقال الترمذيّ: هذا حديث صحيح.
وروى أبو يعلى عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ﷺ ثم قال: أيها الناس! ما إكثاركم في صدق النساء! وقد كان رسول الله ﷺ وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال ثم نزل. فاعترضته امرأة من قريش. فقالت: يا أمير المؤمنين! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم. قال: نعم. فقالت أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأيّ ذلك؟ قالت: أما سمعت الله يقول:
وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً. الآية. قال فقال: اللهم! غفرا. كل الناس أفقه من عمر.
ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس! إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم. فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب.
قال أبو يعلي: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيّد قويّ. قاله ابن كثير.
وفي (الحجة البالغة) ما نصه: لم يضبط النبيّ ﷺ المهر بحدّ لا يزيد ولا ينقص. إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة. والرغبات لها مراتب شتى. ولهم في المشاحّة طبقات. فلا يمكن تحديده عليهم. كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص. ولذلك قال: التمس ولو خاتما من حديد «١». غير أنه سن في صداق أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشّا. أي نصفا، انتهى.
(١)
أخرجه البخاريّ في: النكاح، ٤- باب السلطان وليّ، لقول النبيّ ﷺ «زوجناكها بما معك من القرآن». ونصه: عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ فقالت: إني وهبت من نفسي. فقامت طويلا. فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة. قال: «هل عندك من شيء تصدقها؟» قال: ما عندي إلا إزاري. فقال: «إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك. فالتمس شيئا» فقال: ما أجد شيئا. قال: «التمس ولو خاتما من حديد» فلم يجد. فقال: «أمعك من القرآن شيء؟» قال: نعم. سورة كذا وسورة كذا. لسور سماها. فقال: «زوجناكها بما معك من القرآن»
.
58
وقد ورد ما يفيد الندب إلى تخفيفه وكراهة المغالاة فيه.
أخرج أبو داود والحاكم، وصححه، من حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله ﷺ «١» :«خير الصداق أيسره».
وفي صحيح مسلم «٢» عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال له: إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا. قال: قد نظرت إليها. قال: على كم تزوجتها؟ قال على أربع أواق. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: على أربع أواق! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل. ما عندنا ما نعطيك. ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه. قال فبعث بعثا إلى بني عبس، بعث ذلك الرجل فيهم
. الثانية: خص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهي، تنبيها بالأعلى على الأدنى. لأنه إذا كان هذا، على كثير ما بذل لامرأته من الأموال، منهيّا عن استعادة شيء يسير حقير منها، على هذا الوجه، كان من لم يبذل إلا الحقير منهيّا عن استعادته بطريق الأولى. ومعنى قوله وَآتَيْتُمْ والله أعلم: وكنتم آتيتم. إذ إرادة الاستبدال، في ظاهر الأحمر، واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية- كذا في الانتصاف.
الثالثة: اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء. واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة. ومنشأ ذلك: أن (أفضى) في قوله تعالى: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ.
يجوز حملها على الجماع كناية، جريا على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحيي من ذكره. والخلوة لا يستحيي من ذكرها فلا تحتاج إلى كناية: ويجوز إبقاؤها على ظاهرها.
قال ابن الأعرابيّ: الإفضاء في الحقيقة الانتهاء. ومنه: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ. أي انتهى وآوى. هذا، والكناية أبلغ وأقرب في هذا المقام. ومما يرجحها أنه تعالى ذكر ذلك في معرض التعجب فقال: وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض. والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع، لا مجرد الخلوة. فوجب حمل الإفضاء إليه- ذكره الرازيّ من
(١) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٣١- باب فيمن تزوج ولم يسمّ صداقا حتى مات، حديث ٢١١٧.
(٢) أخرجه في: النكاح، ١٢- باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها، حديث ٧٥.
59
وجوه. ثم قال: وقوله تعالى وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ كلمة تعجب. أي لأيّ وجه ولأيّ معنى تفعلون هذا؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذّتك وتمتعك، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئا بذله لها بطيبة نفسه؟ إن هذا لا يليق بمن له طبع سليم وذوق مستقيم.
الرابعة: في (الإكليل) استدل بهذه الآية من منع الخلع مطلقا. وقال: إنها ناسخة لآية البقرة. وقال غيره: إن هذه الآية منسوخة بها. وقال آخرون: لا ناسخ ولا منسوخ بل هي في الأخذ بغير طيب نفسها انتهى.
أقول: إن القول الثالث متعين. لأن كلّا من آيتي البقرة وهذه في مورد خاص يعلم من مساق النظم الكريم. وذلك لأن قوله في البقرة: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: ٢٢٩]- صريح في أن الزوجة إذا كرهت خلق زوجها أو خلقه أو نقص دينه أو خافت إثما بترك حقه، أبيح لها أن تفتدي منه وحلّ له أخذ الفداء مما آتاها، لقوله تعالى ثمّ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ [البقرة: ٢٢٩] إلخ. والحكمة في حل الأخذ ظاهرة. وهي جبر الزوج مما لحقه من ضعة اختلاعها له وهيمنتها حينئذ عليه، واسترداد ما لو أخذ منه، لكان في صورة المظلوم. لأنه لم يجنح للفراق ولا رغب فيه. فكان من العدل الإلهيّ أن لا يجمع عليه بين خسارتي التمتع والمال. وأما هذه الآية فهي في حكم آخر. وهو ما إذا أراد استبدال زوجته لطموح بصره إلى غيرها من غير أن تفتدي منه، أو ترغب في خلع نفسها منه، فيضن بما آتاها ويأسف لأن تحوزه وهو لا يريدها وليس لها في نفسه وقع، فعزم عليه أن لا يأخذ مما أصدقها شيئا قط بعد الإفضاء. لأنه لو أبيح له الأخذ حينئذ لكان ظلما واضحا. لأنه أخذ بلا جريرة منها. فكان في إبقاء ما في يدها مما آتاها جبر لما نابها من ألم الإعراض عنها واطراحها، رحمة منه تعالى، وعدلا في القضيتين. فالقائل بالنسخ فاته سر الحكمين. وليت شعري ماذا يقول
في الحديث المرويّ في البخاري «١» وغيره، وهو قوله ﷺ لامرأة ثابت: «أتردّين عليه حديقته!
(١)
أخرجه البخاريّ في: الطلاق، ١٢- باب الخلع وكيفية الطلاق منه، حديث ٢١٥٣ ونصه: عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته؟»
قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقبل الحديقة وطلقها تطليقة»
.
60
فقالت: نعم. فقال ﷺ لزوجها: اقبل الحديقة وطلقها».
ولا يقال: لعل القائل بنسخ الخلع اعتمد فيه قوله تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ. إلخ. وفيه ما فيه من تهويل الأخذ والتنفير عنه كما أسلفنا. لأنا نقول إن دلائل الأحكام الناسخة أو المنسوخة إنما تؤخذ من الجمل التامة في الأصلين. فلا تؤخذ من شرط بلا جوابه مثلا. وبالعكس.
ولا من مبتدأ بدون خبره وبالعكس. ولا من مؤكد بدون مؤكدة. وهكذا. وما نحن فيه لو أخذ عموم تحريم الأخذ من قوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ- لكان كالاستدلال من المؤكد بدون ملاحظة مؤكدة. وهذا ساقط. لأنّ قوله: وَكَيْفَ- تنفير عما تقدم، متعلق به. وما قبله خاص. ولو زعم القائل بالنسخ أن قوله: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ، عام في المخلوعة ومن أريد طلاقها- نقول هذا باطل وفاسد. لأن مورد الآية في إرادته، هو فراقها مبتدئا. فلا يصدق على المختلعة. لأنه لا يراد الاستبدال بغيرها ابتداء من جانب الزوج. وبالجملة فكل من قرأ صدر الآيتين على أن كلا في حكم على حدة. لا تعلق فيها له بالآخر. والنسخ لا يصار إليه بالرأي. وقد كثر في المتأخرين دعوى النسخ في الآيات هكذا بلا استناد قويّ. بل لما يتراءى ظاهرا بلا إمعان. فتثبت هذا.
وفي الصحيحين «١» أن رسول الله ﷺ قال للمتلاعنين، بعد فراغهما من تلاعنهما: «الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب؟ قالها ثلاثا. فقال الرجل: يا رسول الله: مالي؟ يعني ما أصدقها. قال: لا مال لك. إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها. وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها».
وفي سنن أبي داود» وغيره، عن بصرة بن أكثم أنه تزوج امرأة بكرا في خدرها. فإذا هي
(١)
أخرجه البخاريّ في: الطلاق، ٣٢- باب صداق الملاعنة، حديث ٢١٦٤ ونصه: عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عمر: رجل قذف امرأة؟ فقال: فرّق النبيّ ﷺ بين أخوي بني عجلان. وقال:
«الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟» فأبيا. وقال: «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟» فأبيا. فقال «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ فأبيا ففرّق بينهما... وفي: ٣٣- باب قول الإمام للمتلاعنين: أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ زاد: قال (الرجل) : ما لي؟ قال «لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها. وإن كنت كذبت عليها، فذاك أبعد ذلك
. (٢)
أخرجه أبو داود في: النكاح، ٣٧- باب في الرجل يتزوج المرأة فيجدها حبلى، حديث ٢١٣١ ونصه: عن سعيد بن المسيّب عن رجل من الأنصار يقال له بصرة (بن أكثم) قال: تزوجت امرأة بكرا في سترها. فدخلت عليها فإذا هي حبلى. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لها الصداق بما استحللت من فرجها. والولد عبد لك. فإذا ولدت فاجلدها»
. وفي رواية: (فاجلدوها) وفي أخرى: (فحدّوها).
61
حامل من الزنى. فأتى رسول الله ﷺ فذكر ذلك له. فقضى لها بالصداق وفرق بينهما. وأمر بجلدها. وقال: الولد عبد لك، والصداق في مقابلة البضع.
ثم بين تعالى من يحرم نكاحهن من النساء، ومن لا يحرم. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ بنكاح أو ملك يمين. وإن لم يكنّ أمهاتكم إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي سوى ما قد مضى في الجاهلية فإنه معفوّ لكم ولا تؤاخذون به إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي خصلة قبيحة جدّا، لأنه يشبه نكاح الأمهات وَمَقْتاً أي بغضا عند الله وعند ذوي المروآت. ولذا كانت العرب تسمي هذا النكاح: نكاح المقت. وتسمي ذلك المتزوج، مقتيّا. قاله ابن سيده. وقال الزجاج:
المقت أشد البغض. ولما علموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال له المقت، أعلموا أنه لم يزل منكرا ممقوتا. وَساءَ سَبِيلًا أي بئس مسلكا. إذ فيه هتك حرمة الأب.
وقد روى ابن أبي حاتم أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت، وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه، قيس، امرأته، فقالت: إنما أعدّك ولدا، وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: إن أبا قيس توفي. فقال: خيرا. ثم قالت: إن ابنه قيسا خطبني وهو من صالحي قومه، وإنما كنت أعدّه ولدا. فما ترى؟
فقال لها: ارجعي إلى بيتك. فنزلت: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
. الآية. وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين. فأنزل الله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء: ٢٣].
لطيفة:
قال الرازيّ: مراتب القبح ثلاثة: القبح في العقول وفي الشرائع وفي العادات.
فقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً، إشارة إلى القبح العقليّ. وقوله: وَمَقْتاً، إشارة إلى القبح الشرعيّ. وقوله. وَساءَ سَبِيلًا، إشارة إلى القبح في العرف والعادة. ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه، فقد بلغ الغاية في القبح. والله أعلم.
قال ابن كثير: فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا
لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد «١» وأهل السنن، من طرق، عن البراء بن عازب.
وفي رواية عن عمه أنه بعثه رسول الله ﷺ إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، أن يقتله ويأخذ ماله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ من النسب أن تنكحوهن. وشملت الجدات من قبل الأب أو الأم وَبَناتُكُمْ من النسب. وشملت بنات الأولاد وإن سفلن وَأَخَواتُكُمْ من أم أو أب أو منهما وَعَمَّاتُكُمْ أي أخوات آبائكم وأجدادكم وَخالاتُكُمْ أي أخوات أمهاتكم وجداتكم وَبَناتُ الْأَخِ من النسب، من أي وجه يكنّ وَبَناتُ الْأُخْتِ من النسب من أي وجه يكنّ. ويدخل في البنات أولادهن وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ قال المهايميّ: لأن الرضاع جزء منها وقد صار جزءا من الرضيع، فصار كأنه جزؤها فأشبهت أصله. انتهى.
ويعتبر في الإرضاع أمران: أحدهما القدر الذي يتحقق به هذا المعنى. وقد ورد تقييد مطلقه وبيان مجمله في السنّة بخمس رضعات. لحديث عائشة «٢» عند
(١)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٢٩٢. ونصه: عن البراء بن عازب قال: مرّ بنا ناس منطلقون.
فقلنا: أين تذهبون؟ فقالوا: بعثنا رسول الله ﷺ إلى رجل أتى امرأة أبيه، أن نقتله. وفي الرواية الأخرى، عن البراء بن عازب قال، مرّ بي عمّي الحارث بن عمرو، ومعه لواء قد عقده له النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فقلت: أي عمّ! أين بعثك النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه.
[.....] (٢) أخرجه مسلم في: الرضاع، ٦- باب التحريم بخمس رضعات، حديث ٢٤.
63
مسلم وغيره: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن. ثم نسخن بخمس معلومات. فتوفي رسول الله ﷺ وهنّ فيما يقرأ من القرآن. والثاني أن يكون الرضاع في أول قيام الهيكل وتشبح صورة الولد. وذلك قبل الفطام. وإلا فهو غذاء بمنزلة سائر الأغذية الكائنة بعد التشبح وقيام الهيكل. كالشاب يأكل الخبز.
عن أم سلمة «١» قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام». رواه الترمذي وصححه. والحاكم أيضا.
وأخرج سعيد بن منصور والدّارقطنيّ والبيهقيّ عن ابن عباس مرفوعا: لا رضاع إلا ما كان في الحولين.
وصحح البيهقيّ وقفه. قال السيوطيّ في (الإكليل) : واستدل بعموم الآية من حرم برضاع الكبير. انتهى. وقد ورد الرخصة فيه لحاجة تعرض.
روى مسلم «٢» وغيره عن زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل عليّ. فقالت عائشة: أما لك في رسول الله ﷺ أسوة؟
وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله! إن سالما يدخل عليّ وهو رجل.
وفي نفس أبي حذيفة منه شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضعيه حتى يدخل عليك.
وأخرج نحوه البخاريّ من حديث عائشة أيضا.
وقد روى هذا الحديث، من الصحابة: أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وزينب بنت أم سلمة. ورواه من التابعين جماعة كثيرة. ثم رواه عنهم الجمع الجم.
وقد ذهب إلى ذلك عليّ وعائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن علية وداود الظاهريّ وابن حزم. وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك.
قال ابن القيّم: أخذ طائفة من السلف بهذه الفتوى. منهم عائشة. ولم يأخذ به أكثر أهل العلم. وقدموا عليها أحاديث توقيت الرضاع المحرم، بما قبل الفطام، وبالصغر، وبالحولين. لوجوه: أحدها- كثرتها وانفراد حديث سالم. الثاني- أن جميع أزواج النبيّ ﷺ سوى عائشة في شق المنع. الثالث- أنه أحوط. الرابع- أن رضاع الكبير لا ينبت لحما ولا ينشر عظما. فلا يحصل به البعضية التي هي سبب التحريم. الخامس- أنه يحتمل أن هذا كان مختصّا بسالم وحده. ولهذا لم يجئ
(١) أخرجه الترمذيّ في: الرضاع، ٥- باب ما جاء في ما ذكر أن الرضاعة لا تحرّم إلا في الصغر دون الحولين.
(٢) أخرجه مسلم في: الرضاع، ٧- باب رضاعة الكبير، حديث ٢٩.
64
ذلك إلا في قصته. السادس-
أن رسول الله ﷺ «١» دخل على عائشة وعندها رجل قاعد. فاشتد ذلك عليه وغضب. فقالت: إنه أخي من الرضاعة. فقال: انظرن إخوتكن من الرضاعة. فإنما الرضاعة من المجاعة. متفق عليه. واللفظ لمسلم.
وفي قصة سالم مسلك. وهو أن هذا كان موضع حاجة. فإن سالما كان قد تبناه أبو حذيفة ورباه. ولم يكن له منه ومن الدخول على أهله بدّ. فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد، ولعل هذا المسلك أقوى المسالك.
وإليه كان شيخنا يجنح. انتهى. يعني تقيّ الدين بن تيمية رضي الله عنهما.
وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ. قال الرازيّ: إنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة. إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن.
لأنه ﷺ قال «٢» :«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»
. وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات. وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أما، والمرضعة أختا، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب. وذلك لأنه تعالى حرم بسبب النسب سبعا: اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة، وهما الأمهات والبنات. وخمس منها بطريق الأخوة، وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. ثم إنه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع، ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي. فذكر من قسم قرابة الولادة، الأمهات. ومن قسم قرابة الأخوة، الأخوات. ونبه بذكر هذين المثالين، من هذين القسمين، على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب. ثم إنه ﷺ أكد هذا البيان بصريح
قوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية. وهذا بيان لطيف.
انتهى.
لطيفة:
تعرض بعض المفسرين في هذا المقام لفروع فقهية مسندها مجرد الأقيسة.
(١)
أخرجه مسلم في: الرضاع، ٨- باب إنما الرضاعة من المجاعة، حديث ٣٢. وهذا نصه: عن مسروق قال: قالت عائشة: دخل عليّ رسول الله ﷺ وعندي رجل قاعد. فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه. قالت: فقلت: يا رسول الله! إنه أخي من الرضاعة. قالت: فقال: «انظرن إخوتكن من الرضاعة. فإنما الرضاعة من المجاعة»
. (٢)
أخرجه البخاري في: الشهادات، ٧- باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، حديث ١٢٨٤ ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بنت حمزة «لا تحلّ لي. يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. هي ابنة أخي من الرضاعة»
.
65
قال الرازي: من تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يستنبطه من الآية.
فأما ما سوى ذلك فإنما يليق بكتب الفقه وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أي أصول أزواجكم وَرَبائِبُكُمُ جمع ربيبة، بمعنى مربوبة. قال الأزهريّ: ربيبة الرجل بنت امرأته من غيره. انتهى. سميت بذلك لأنه يربّها غالبا، كما يربّ ولده اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ جمع حجر (بفتح أوله وكسره) أي في تربيتكم. يقال فلان في حجر فلان، إذا كان في تربيته. والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربي طفلا أجلسه في حجره، فصار الحجر عبارة عن التربية. وسر تحريمهن كونهن حينئذ يشبهن البنات إلا أنه إنما يتحقق الشبه إذا كن مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ لأنهن حينئذ بنات موطوءاتكم، كبنات الصلب. والدخول بهن كناية عن الجماع. كقولهم: بنى عليها، وضرب عليها الحجاب. أي أدخلتموهن الستر. والباء للتعدية فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن.
تنبيهات:
(الأول) ذهب بعض السلف إلى أن قيد الدخول في قوله تعالى: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ- راجع إلى الأمهات والربائب. فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها. لقوله: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.
وروى ابن جرير عن علي رضي الله في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها: أيتزوج بأمها؟ قال: هي بمنزلة الربيبة
. وروي أيضا عن زيد بن ثابت وعبد الله ابن الزبير ومجاهد وابن جبير وابن عباس. وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد ابن محمد بن الصابونيّ، فيما نقله الرافعيّ عن العباديّ. وقد روي عن ابن مسعود مثله، ثم رجع عنه. وتوقف فيه معاوية. وذلك فيما رواه ابن المنذر عن بكر بن كنانة أن أباه أنكحه امرأة بالطائف. قال: فلم أجامعها حتى توفي عمي عن أمها. وأمها ذات مال كثير. فقال أبي: هل لك في أمها؟ قال فسألت ابن عباس وأخبرته. فقال:
انكح أمها. قال وسألت ابن عمر فقال: لا تنكحها. فأخبرت أبي بما قالا، فكتب إلى معاوية. فأخبره بما قالا. فكتب معاوية: إني لا أحل ما حرم الله. ولا أحرم ما أحل الله. وأنت وذاك. والنساء سواها كثير. فلم ينه ولم يأذن لي، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحنيها.
66
وذهب الجمهور إلى أن الأم تحرم بالعقد على البنت ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم، قالوا: الاشتراط إنما هو في أمهات الربائب.
وروي في ذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال: أيما رجل نكح امرأة فلا يحل له نكاح ابنتها. وإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها. وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح أمها. دخل بها أو لم يدخل. أخرجه الترمذي «١».
قال الحافظ ابن كثير: هذا الخبر غريب، وفي إسناده نظر. وقال الزجاج: قد جعل بعض العلماء اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وصفا للنساء المتقدمة والمتأخرة. وليس كذلك. لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل. وهذا، لأنّ النساء الأولى مجرورة بالإضافة. والثانية ب (من) ولا يجوز أن تقول: مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون الظريفات نعتا لهؤلاء النساء ولهؤلاء النساء.
قال الناصر في (الانتصاف) : والقول المشهور عن الجمهور، إبهام تحريم أم المرأة، وتقييد تحريم الربيبة بدخول الأم. كما هو ظاهر الآية. ولهذا الفرق سر وحكمة. وذلك لأن المتزوج بابنة المرأة لا يخلو بعد العقد وقبل الدخول من محاورة بينه وبين أمها، ومخاطبات ومسارّات. فكانت الحاجة داعية إلى تنجيز التحريم ليقطع شوقه من الأم فيعاملها معاملة ذوات المحارم. ولا كذلك العاقد على الأم فإنه بعيد عن مخاطبة بنتها قبل الدخول بالأم. فلم تدع الحاجة إلى تعجيل نشر الحرمة.
وأما إذا وقع الدخول بالأم فقد وجدت مظنة خلطة الربيبة. فحينئذ تدعو الحاجة إلى نشر الحرمة بينهما. والله أعلم.
الثاني- استدل بقوله تعالى: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ من لم يحرم نكاح الربيبة الكبيرة والتي لم يربّها.
روى ابن أبي حاتم عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي. فوجدت عليها. فلقيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: مالك: ؟ فقلت: توفيت المرأة. فقال: لها ابنة؟ قلت: نعم.
(١) أخرجه الترمذي في: النكاح، ٢٦- باب ما جاء فيمن يتزوج المرأة ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، هل يتزوج ابنتها، أم لا؟
(قال أبو عيسى) : هذا حديث لا يصح من قبل إسناده. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، قالوا: إذا تزوج الرجل امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها، حل له أن ينكح ابنتها. وإذا تزوج الرجل الابنة فطلقها قبل أن يدخل بها، لم يحل له نكاح أمها، لقول الله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وهو قول الشافعيّ وأحمد وإسحاق.
67
وهي بالطائف. قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا. هي بالطائف. قال: فانكحها.
قلت: فأين قول الله وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ قال: إنها لم تكن في حجرك.
إنما ذلك إذا كانت في حجرك؟.
قال الحافظ ابن كثير: إسناده قويّ ثابت إلى عليّ بن أبي طالب، على شرط مسلم. وإلى هذا ذهب الأمام داود بن عليّ الظاهريّ وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرافعيّ عن مالك رحمه الله تعالى. واختاره ابن حزم. والجمهور على تحريم الربيبة مطلقا. سواء كانت في حجر الرجل أم لم تكن. قالوا: والخطاب في قوله اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ خرج مخرج الغالب. فإن شأنهن الغالب المعتاد أن يكنّ في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن. ولم يرد كونهن كذلك بالفعل. وفائدة وصفهن بذلك تقوية علة الحرمة وتكميلها. كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء. فإن كونهن بصدد احتضانهم لهن، وفي شرف التقلب في حجورهم، وتحت حمايتهم وتربيتهم، مما يقوي الملابسة والشبه بينهن وبين أولادهم.
ويستدعي إجراءهن مجرى بناتهم. لا تقييد الحرمة بكونهن في حجورهم بالفعل- كذا قرره أبو السعود-.
وفي (الانتصاف) : إن فائدة وصفهن بذلك، هو تخصيص أعلى صور المنهيّ عنه، بالنهي. فإن النهي عن نكاح الربيبة المدخول بأمها عام. في جميع الصور.
سواء كانت في حجر الزوج أو بائنة عنه في البلاد القاصية. ولكن نكاحه لها وهي في حجره أقبح الصور. والطبع عنها أنفر. فخصت بالنهي لتساعد الجبلة على الانقياد لأحكام الملة. ثم يكون ذلك تدريبا وتدريجا إلى استقباح المحرم في جميع صوره.
والله أعلم.
وفي الصحيحين «١» أن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان (وفي لفظ لمسلم: عزة بنت أبي سفيان) فقال: أو تحبين ذلك؟ قالت: نعم. لست لك بمخلية. وأحبّ من شاركني في خير أختي. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قلت: فإنا نحدّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم. فقال: لو أنها لو لم تكن ربيبتي في حجري، ما حلت لي. إنها لابنة أخي من الرضاعة. أرضعتني وأبا سلمة ثويبة. فلا تعرضن
(١) أخرجه البخاري في: النكاح، ٢٠- باب وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ، حديث ٢١١٠.
ومسلم في: الرضاع، ٤- باب تحريم الربيبة وأخت المرأة، حديث ١٥.
68
عليّ بناتكن ولا أخواتكن. (وفي رواية للبخاري: لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي).
قال ابن كثير: فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة. وحكم بالتحريم بذلك.
الثالث- اشتهر أن المراد من الدخول في قوله تعالى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ معناه الكنائيّ. وهو الجماع، لأنه أسلوب الكتاب العزيز في نظائره بلاغة وأدبا. ولذا فسره به ابن عباس وغير واحد. فمدلول الآية صريح حينئذ في كون الحرمة مشروطة بالجماع. فلا تتناول غيره من اللمس والتقبيل والنظر لمتاعها. ومن أثبت تحريم الربيبة بذلك لحظ أن معنى الدخول أوسع من الجماع. لأنه يقال: دخل بها، إذا أمسكها وأدخلها البيت. وفي (فتح البيان) : الذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف، هو النظر في معنى الدخول شرعا أو لغة. فإن كان خاصا بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به، من لمس أو نظر أو غيرهما. وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كل مناط التحريم هو ذلك. انتهى.
و (في شرح القاموس للزبيديّ) : ودخل بامرأته كناية عن الجماع. وغلب استعماله في الوطء الحلال. والمرأة مدخول بها. قلت: ومنه الدخلة، لليلة الزفاف.
انتهى.
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ أي موطوآت فروعكم بنكاح أو ملك يمين. جمع حليلة.
سميت بذلك لحلها للزوج. وقوله تعالى: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ لإخراج الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية. كما قال تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب: ٣٧].
وقال تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الأحزاب: ٤]. فالسر في التقييد هو إحلال حليلة المتبنّى، ردّا لمزاعم الجاهلية، لا إحلال حليلة الابن من الرضاع وأبناء الأبناء. كأنه قيل: بخلاف من تبنيتموهم، فلكم نكاح حلائلهم. وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في حيّز الرفع، عطفا على ما قبله من المحرمات. أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين في الوطء بنكاح أو ملك يمين من نسب أو رضاع، لما فيه من قطيعة الرحم إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ في الجاهلية فإنه معفوّ عنه إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً تعليل لما أفاده الاستثناء.
69
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢٤]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)
وَالْمُحْصَناتُ أي وحرمت عليكم المزوجات مِنَ النِّساءِ حرائم وإماء، مسلمات، أو لا. لئلا تختلط المياه فيضيع النسب إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من اللائي سبين ولهن أزواج في دار الكفر. فهن حلال لغزاة المسلمين، وإن كن محصنات. لأن السبي لهن يرفع نكاحهن ويفيد الحل بعد الاستبراء.
روى الإمام أحمد ومسلم «١» وأبو داود والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجة عن أبي سعيد الخدريّ قال: أصبنا سبايا من سبي أوطاس. ولهن أزواج. فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج.
فسألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فاستحللنا فروجهن.
تنبيه:
استدل بعموم الآية من قال: إن انتقال الملك ببيع أو إرث أو غير ذلك يقطع النكاح. عن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها. وعنه:
بيع الأمة طلاقها. وروي ذلك أيضا عن أبيّ بن كعب وجابر وابن عباس رضي الله عنهم قالوا: بيعها طلاقها. وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: طلاق الأمة ست:
بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها.
كذا قرأته في تفسير ابن كثير. ولا يخفى أن المعدود خمسة. ولعل السادس
(١)
أخرجه مسلم في: الرضاع، ٩- باب جواز وطء المسبيّة بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج انفسخ نكاحها بالسبي، حديث ٣٣ ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم حنين، بعث جيشا إلى أوطاس. فلقوا عدوا. فقاتلوهم. فظهروا عليهم. وأصابوا لهم سبايا. فكأن ناسا من أصحاب رسول الله ﷺ تحرّجوا من غشيانهن، من أجل أزواجهن من المشركين. فأنزل الله عز وجل في ذلك: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. أي فهنّ لكم حلال إذا انقضت عدتهن
.
70
بيع زوجها. حيث قال بعد ذلك: وروى عوف عن الحسن بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها. فهذا قول هؤلاء من السلف. وحجتهم عموم الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ والجمهور على أن بيع الأمة ليس طلاقها لها. واحتجوا بحديث بريرة المخرّج في الصحيحين «١» وغيرهما. فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث. بل خيرها رسول الله ﷺ بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، وقصتها مشهورة. فلو كان بيع الأمة طلاقها لما خيرت. وتخييرها دال على أن المراد من الآية المسبيات فقط. وبالجملة، فالجمهور قصروا الآية على السبب الذي نزلت فيه.
قال الرازيّ: وهو يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. أي وهو مقبول ومعمول به في غير ما موضع. كنصاب السرقة. وفي التنبيه الآتي زيادة لهذا فتأثره.
فائدة:
اتفق القراء على فتح الصاد في الْمُحْصَناتُ هنا. ويقرأ بالفتح والكسر في غير هذا الموضع. وكلاهما مشهور. فالفتح على أنهن أحصنّ بالأزواج أو بالإسلام.
والكسر على أنهن أحصن فروجهن أو أزواجهن. واشتقاق الكلمة من الإحصان وهو المنع كِتابَ اللَّهِ مصدر مؤكد. أي كتب الله عَلَيْكُمْ تحريم هؤلاء كتابا وفرضه فرضا، فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه وَأُحِلَّ لَكُمْ عطف على حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من المحرمات المعدودة. أي أحل لكم نكاح ما سواهن أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له. أي أحل لكم إرادة أن تبتغوا.
أو بدل من (ما) أي ابتغاء النساء بِأَمْوالِكُمْ أي يصرفها إلى مهورهن مُحْصِنِينَ حال من فاعل (تبتغوا) والإحصان: العفة، وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم غَيْرَ مُسافِحِينَ غير زانين، والسفاح الزنى والفجور. من السفح وهو الصبّ.
لأنه لا غرض للزاني إلّا سفح النطفة. وكان أهل الجاهلية، إذا خطب الرجل المرأة، قال: انكحيني. فإذا أراد الزنى قال: سافحيني. قال الزجاج: المسافحة أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح.
(١)
أخرجه البخاريّ في: الفرائض، ٢٢- باب إذا أسلم على يديه الرجل، حديث ٣٠٢ ونصه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشتريت بريرة. فاشترط أهلها ولاءها. فذكرت ذلك للنبيّ ﷺ فقال «أعتقيها فإن الولاء لمن أعطى الورق». قالت: فأعتقتها. قالت فدعاها رسول الله ﷺ فخيّرها في زوجها، فقالت: لو أعطاني كذا وكذا ما بت عنده. فاختارت نفسها.
71
تنبيه:
قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ- عام مخصوص بمحرمات أخر دلت عليها دلائل أخر. فمن ذلك، ما صح عن النبيّ ﷺ من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها. وقد حكى الترمذيّ المنع من ذلك عن كافة أهل العلم. وقال: لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك. ومن ذلك، نكاح المعتدة. ومن ذلك، أن من كان في نكاحه حرة، لا يجوز له نكاح الأمة. ومن ذلك، القادر على الحرة لا يجوز له نكاح الأمة. ومن ذلك، من عنده أربع زوجات لا يجوز له نكاح خامسة. ومن ذلك، الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن أبدا. فالآية مما نزل عامّا ودلت السنة ومواضع من التنزيل على أنها مخصصة بغيرها.
قال الإمام الشافعيّ في الرسالة:
[٢٤٤] فرض الله عز وجل على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم.
[٢٤٥] فقال في كتابه: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[٢٥٠] وقال: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً.
في آيات نظائرها.
قال الشافعيّ:
[٢٥٢] فذكر الله عز وجل الكتاب وهو القرآن: وذكر الحكمة. فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[٢٥٣] وهذا يشبه ما قال. والله أعلم.
[٢٥٤] لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة، وذكر الله جل ثناؤه منّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز، والله أعلم، أن يقال: الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[٢٥٥] وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحتّم على الناس اتباع أمره- فلا يجوز أن يقال لقول: فرض، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
[٢٥٦] لما وصفنا من أن الله تعالى جل ثناؤه جعل الإيمان برسوله ﷺ مقرونا بالإيمان به.
72
[٢٥٧] وسنة رسول الله ﷺ مبينة عن الله عز وجل معنى ما أراد- دليلا على خاصه وعامه. ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فأتبعها إياه. ولم يجعل هذا لأحد من خلقه، غير رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وإنما أوردنا هذا تزييفا لزعم الخوارج أن
حديث (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) «١»
المرويّ في الصحيحين وغيرهما، خبر واحد. وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز. كما نقله عنهم الرازيّ. وأورد من حججهم أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة. وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة. فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن. فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى. وأنه لا يجوز. انتهى.
وقد توسع الرازيّ هنا في الجواب عن شبهتهم. ومما قيل فيه: إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها مأخوذ من قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
قال العلامة أبو السعود: ويشترك في هذا الحكم الجمع بين المرأة وعمتها ونظائرها. فإن مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله بوصله.
وذلك متحقق في الجمع بين هؤلاء. بل أولى. فإن العمة والخالة بمنزلة الأم.
فقوله صلى الله عليه وسلم: لا تنكح المرأة.
إلخ، من قبيل بيان التفسير. لا بيان التغيير. وقيل: هو مشهور يجوز به الزيادة على الكتاب. وقال أيضا: ولعل إيثار اسم الإشارة (يعني في قوله:
ما وَراءَ ذلِكُمْ) المتعرض لوصف المشار إليه وعنوانه، على الضمير المتعرض للذات فقط- لتذكير ما في كل واحدة منهن من العنوان الذي عليه يدور حكم الحرمة. فيفهم مشاركة من في معناهن لهن فيها بطريق الدلالة. فإن حرمة الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، ليست بطريق العبارة، بل بطريق الدلالة، كما سلف. انتهى.
وفي (تنوير الاقتباس) : ويقال في قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ أن تطلبوا بأموالكم تزوجهن وهي المتعة. وقد نسخت الآن. انتهى. وسيأتي الكلام على ذلك.
(١)
أخرجه البخاريّ في: النكاح، ٢٧- باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث ٢١١٢ ونصه: عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها
.
73
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أي من تمتعتم به من المنكوحات بالجماع فَآتُوهُنَّ فأعطوهن أُجُورَهُنَّ مهورهن كاملة فَرِيضَةً أي من الله عليكم أن تعطوا المهر تامّا. وفَرِيضَةً حال من الأجور. بمعنى مفروضة. أو نعت لمصدر محذوف. أي إيتاء مفروضا. أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا حرج عليكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ أنتم وهن مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي من حطها أو بعضها أو زيادة عليها بالتراضي إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فيما شرع من الأحكام.
تنبيه:
حمل قوم الآية على نكاح المتعة. قالوا: معنى وقوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أي فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة، فآتوهن أجورهن.
قال الحافظ ابن كثير: وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة. ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك. وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة. وهو رواية عن الإمام أحمد. وكان ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير والسدّيّ يقرءون: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، فآتوهن أجورهن فريضة. وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة. ولكن الجمهور على خلاف ذلك. والعمدة ما
ثبت في الصحيحين «١» عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب قال: نهى رسول الله ﷺ عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.
وفي صحيح مسلم «٢» عن الربيع بن سبرة الجهنيّ عن أبيه أنه كان مع رسول الله ﷺ فقال: «يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء. وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء فليخلّ سبيله. ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا»
. انتهى.
وفي (الكشاف) : قيل نزلت هذه الآية في المتعة. كان الرجل نكح المرأة وقتا معلوما. ليلة أو ليلتين أو أسبوعا. بثبوت أو غير ذلك. ويقضي منها وطره ثم يسرحها. وسميت متعة لاستمتاعه بها، أو لتمتيعه لها بما يعطيها.
وقال الخفاجي: روي أن سعيد بن جبير قال لابن عباس رضي الله عنهما:
أتدري ما صنعت بفتواك؟ قال سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر. كقوله:
(١)
أخرجه البخاريّ في: الذبائح والصيد، ٢٨- باب لحوم الحمر الإنسية، حديث ١٩٠٨ ونصه: عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن المتعة، عام خيبر، ولحوم حمر الإنسيّة
. (٢) أخرجه في: النكاح، ٣- باب نكاح المتعة، حديث ٢١.
74
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس؟
هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس؟
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. والله! ما بهذا أفتيت ولا أحللت، إلا مثل ما أحل الله الميتة والدم.
وقال الإمام شمس الدين بن القيّم رضوان الله عليه في (زاد المعاد) في الكلام على ما في غزوة الفتح من الفقه، ما نصه: ومما وقع في هذه الغزوة إباحة متعة النساء. ثم حرمها ﷺ قبل خروجه من مكة. واختلف في الوقت الذي حرمت فيه المتعة على أربعة أقوال: أحدها- إنه يوم خيبر. وهذا قول طائفة من العلماء. منهم الشافعيّ وغيره. والثاني- إنه عام فتح مكة. وهذا قول ابن عيينة وطائفة. والثالث- إنه عام حنين. وهذا في الحقيقة هو القول الثاني- لاتصال غزاة حنين بالفتح. والرابع- إنه عام حجة الوداع. وهو وهم من بعض الرواة. سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع. وسفر الوهم من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة، كثيرا ما يعرض للحفاظ فمن دونهم. والصحيح أن المتعة إنما حرمت عام الفتح. لأنه قد ثبت في صحيح مسلم «١» أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبيّ ﷺ بإذنه. ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرتين. وهذا لا عهدة بمثله في الشريعة البتة. ولا يقع مثله فيها. وأيضا، فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات. وإنما كن يهوديات. وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد. إنما أبحن بعد ذلك في سورة المائدة بقوله: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: ٥]. وهذا متصل بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
[المائدة: ٣]. وبقوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ. وهذا كان في آخر الأمر بعد حجة الوداع، أو فيها. فلم تكن إباحة نساء أهل الكتاب ثابتة من خيبر. ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع. ونساء عدوهم قبل الفتح وبعد الفتح، استرق من استرق منهم وصرن إماء المسلمين. فإن قيل: فما تصنعون بما ثبت في الصحيحين من حديث عليّ بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ نهى عن متعة النساء.
(١)
أخرجه في صحيحه في: النكاح، ٣- باب نكاح المتعة، حديث ١٣ ونصه: عن جابر وسلمة بن الأكوع قالا: خرج علينا منادي رسول الله ﷺ فقال: إن رسول الله ﷺ قد أذن لكم أن تستمتعوا.
يعني متعة النساء
.
75
يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية؟ وهذا صحيح صريح. قيل: هذا الحديث قد صحت روايته بلفظين: هذا أحدهما. والثاني الاقتصار على نهي النبيّ ﷺ عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، هذه
رواية ابن عيينة عن الزهريّ. قال: قال قاسم بن أصبغ: قال سفيان بن عيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر لا عن نكاح المتعة. ذكره أبو عمر في (التمهيد)
ثم قال: على هذا أكثر الناس. انتهى، فتوهم بعض الرواة أن (يوم خيبر) ظرف لتحريمهن فرواه: حرّم رسول الله ﷺ المتعة زمن خيبر والحمر الأهلية. واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث فقال: حرم رسول الله ﷺ المتعة زمن خيبر. فجاء بالغلط البيّن. فإن قيل: فأي فائدة في الجمع بين التحريمين إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد؟ وأين المتعة من تحريم الخمر؟ قيل: هذا الحديث رواه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه محتجا به على ابن عمه، عبد الله بن عباس في المسألتين. فإنه كان يبيح المتعة ولحوم الحمر.
فناظره عليّ بن أبي طالب في المسألتين وروى له التحريمين. وقيد تحريم الحمر زمن خيبر. وأطلق تحريم المتعة وقال: إنك امرؤ تائه. إن رسول الله ﷺ حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. كما قاله سفيان بن عيينة. وعليه أكثر الناس.
فروى الأمرين محتجا عليه بهما، لا مقيدا لهما بيوم خيبر. والله الموفق.
ولكن هاهنا نظر آخر. وهو إنه هل حرمها تحريم الفواحش التي لا تباح بحال، أو حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها للمضطر؟ هذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال: أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم. فلما توسع فيها من توسع ولم يقف عند الضرورة، أمسك ابن عباس عن الإفتاء بحلّها ورجع عنه: وقد كان ابن مسعود يرى إباحتها ويقرأ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة: ٨٧].
ففي الصحيحين «١» عنه: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم. وليس لنا نساء فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ثم قرأ عبد الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة: ٨٧]
. وقراءة عبد الله الآية عقيب هذا الحديث تحتمل أمرين: أحدهما- الرد على من يحرمها وأنها لو لم
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٩- باب قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، حديث ١٩٨٨.
ومسلم في: النكاح، ٣- باب نكاح المتعة، حديث ١١. [.....]
76
تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني- أن يكون أراد آخر هذه الآية وهو الرد على من أباحها مطلقا، وأنه معتد. فإن رسول الله ﷺ إنما رخص فيها للضرورة عند الحاجة في الغزو، وعند عدم النساء وشدة الحاجة إلى المرأة. فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء وإمكان النكاح المعتاد فقد اعتدى والله لا يحب المعتدين. فإن قيل: فما تصنعون بما
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر وسلمة بن الأكوع قالا: خرج علينا منادي رسول الله ﷺ فقال: إن رسول الله ﷺ قد أذن لكم أن تستمتعوا (يعني متعة النساء)
قيل: هذا كان زمن الفتح قبل التحريم ثم حرمها بعد ذلك بدليل ما
رواه مسلم «١» في صحيحه عن سلمة بن الأكوع قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام أوطاس، في المتعة ثلاثا. ثم نهى عنها
. وعام أوطاس هو وعام الفتح واحد. لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة. فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه «٢» عن جابر بن عبد الله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق، الأيام، على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر. حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. وفيما ثبت عن عمر أنه قال «٣» : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أنهي عنهما: متعة النساء ومتعة الحج؟ قيل: الناس في هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها. وقد أمر رسول الله ﷺ باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون. ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح. فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده. وقد تكلم فيه ابن معين. ولم ير البخاريّ إخراج حديثه في صحيحه مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلا من أصول الإسلام. ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه أو الاحتجاج به. قالوا: ولو صح حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتى يروي أنهم فعلوها ويحتج بالآية. قالوا أيضا: ولو صح لم يقل عمر: إنها كانت على عهد رسول الله ﷺ وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها. بل كان يقول: إنه ﷺ حرمها ونهى عنها.
(١) أخرجه في: النكاح، ٣- باب نكاح المتعة، حديث ١٨.
(٢) أخرجه في: النكاح، ٣- باب نكاح المتعة، حديث ١٦.
(٣) في المسند، حديث رقم ٣٦٩ ونصه: عن أبي نضرة قال: قلت لجابر بن عبد الله: إن ابن الزبير ينهى عن المتعة، وإن ابن عباس يأمر بها؟ قال فقال لي: على يدي جرى الحديث: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر، فلما وليّ عمر خطب الناس فقال: إن القرآن هو القرآن. وإن رسول الله ﷺ هو الرسول. وإنهما كانتا، متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إحداهما متعة الحج، والأخرى متعة النساء.
77
قالوا: ولو صح لم يفعل على عهد الصديق، وهو عهد خلافة النبوة حقّا. والطائفة الثانية رأت صحة حديث سبرة. ولو لم يصح فقد صح حديث عليّ رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ حرم متعة النساء. فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنه بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر رضي الله عنه.
فلما وقع فيها ظهر واشتهر. وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها، وبالله التوفيق.
انتهى.
هذا، والذين حملوا الآية على بيان حكم النكاح قالوا: المراد من قوله تعالى وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ إلخ أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر، أو تبرئه عنه بالكلية، بالتراضي، كما تقدم. وهو كقوله تعالى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً وقوله إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ.
وقد روى ابن جرير عن حضرميّ أن رجلا كانوا يقرضون المهر. ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة. فقال الله وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إلخ. يعني إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ. وأما الذين حملوا الآية على بيان المتعة، قالوا: المراد من نفي الجناح أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل البتة. فإن قال لها: زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة- كانت المرأة بالخيار. إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل. فهذا هو المراد من قوله: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. أي من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل. أفاده الرازيّ.
قال السدّيّ: إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى. يعني الأحر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما. فقال: أتمتع منك أيضا بكذا وكذا. فإن شاء زاد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة. وهو قوله تعالى وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ قال السّديّ: إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل. وهي منه بريئة. وعليها أن تستبرئ ما في رحمها. وليس بينهما ميراث. فلا يرث واحد منهما صاحبه.
قال ابن جرير الطبري: أولى التأويلين في ذلك بالصواب، التأويل الأول. لقيام الحجة بتحريم الله تعالى متعة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
قال المهايميّ: ثم أشار تعالى إلى نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة.
78
لكنها ضرورة مستمرة لا تنقطع بكثرة الإسلام فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢٥]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي لم يقدر مِنْكُمْ أيها الأحرار، بخلاف العبيد، أن يحصل طَوْلًا أي غنى يمكنه به أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ أي الحرائر المتعففات، بخلاف الزواني إذ لا عبرة بهن الْمُؤْمِناتِ إذ لا عبرة بالكوافر فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي فله أن ينكح بعض ما يملكه أيمان إخوانكم مِنْ فَتَياتِكُمُ أي إمائكم حال الرق الْمُؤْمِناتِ لا الكتابية. لأنه لا يحتمل مع عار الرق عار الكفر.
وقد استفيد من سياق هذه الآية أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة:
اثنان منها في الناكح والثالث في المنكوحة. أما اللذان في الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق. وهو معنى قوله وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة. فإن قيل: الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة، يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة، فمن أين هذا التفاوت؟ قلنا: كانت العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات. وعلى هذا التقدير يظهر التفاوت. وأما الشرط الثاني فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ أي الزنى بأن بلغ الشدة في العزوبة. وأما الشرط الثالث المعتبر في المنكوحة، فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة. فإن الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين: الرق والكفر. ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق. وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر.
فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر. وما ذكرناه هو المطابق لمعنى الآية. ولا يخلو ما عداه عن تكلف لا يساعده نظم الآية.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة؟ قلت:
79
لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها. ولأنها ممتهنة مبتذلة خرّاجة ولّاجة. وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح، ومهانة. والعزة من صفات المؤمنين. وسيأتي مزيد لهذا عند قوله تعالى وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وقوله تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ إشارة إلى أنه لا يشترط الاطلاع على بواطنهن. بل يكتفي بظاهر إيمانهن. أي فاكتفوا بظاهر الإيمان. فإنه تعالى العالم بالسرائر وبتفاضل ما بينكم في الإيمان. فرب أمة تفضل الحرة فيه. وقوله تعالى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ اعتراض آخر جيء به لتأنيسهم بنكاح الإماء حالتئذ. أي أنتم وأرقاؤكم متناسبون، نسبكم من آدم ودينكم الإسلام فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي مواليهن لا استقلالا. وذلك لآن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له وَآتُوهُنَّ أعطوهن أُجُورَهُنَّ أي مهورهن بِالْمَعْرُوفِ أي بلا مطل وضرار وإلجاء إلى الاقتضاء. واستدل الإمام مالك بهذا على أنهن أحق بمهورهن. وأنه لا حق فيه للسيد. وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد. وإنما أضافها إليهن لأن التأدية إليهن، تأدية إلى سيدهن لكونهن ماله مُحْصَناتٍ حال من مفعول فَانْكِحُوهُنَّ أي حال كونهن عفائف عن الزنى غَيْرَ مُسافِحاتٍ حال مؤكدة. أي غير زانيات بكل من دعاهن وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أي أخلة يتخصصن بهم في الزنى. قال أبو زيد: الأخدان الأصدقاء على الفاحشة. والواحد خدن وخدين. وقال الراغب: أكثر ذلك يستعمل فيمن يصاحب بشهوة نفسانية. ومن لطائف وقوع قوله تعالى مُحْصَناتٍ إلخ إثر قوله: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ- الإشعار بأنهن لو كن إحدى هاتين، فلكم المناقشة في أداء مهورهن ليفتدين نفوسهن فَإِذا أُحْصِنَّ أي بالتزويج. وقرئ على البناء للفاعل أي أحصن فروجهن أو أزواجهن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ أي فعلن فاحشة وهي الزنى فَعَلَيْهِنَّ أي فثابت عليهن شرعا نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ أي الحرائر مِنَ الْعَذابِ أي من الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون جلدة. لا الرجم. قال المهايميّ: لأنهن من أهل المهانة. فلا يفيد فيهن المبالغة في الزجر.
تنبيه:
قال ابن كثير: مذهب الجمهور أن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة. سواء كانت مسلمة أو كافرة. مزوجة أو بكرا. مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنى من الإماء. وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك. فأما الجمهور فقالوا: لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم. وقد وردت أحاديث عامة في إقامة
80
الحد على الإماء. فقدمناها على مفهوم الآية. فمن ذلك ما
رواه مسلم «١» في صحيحه عن عليّ رضي الله عنه أنه خطب فقال: يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدّ من أحصن منهن ومن لم يحصن: فإن أمة لرسول الله ﷺ زنت. فأمرني أن أجلدها. فإذا هي حديث عهد بنفاس. فخشيت، إن أنا جلدتها، أن أقتلها. فذكرت ذلك للنبيّ ﷺ فقال: أحسنت: اتركها حتى تماثل.
وعند عبد الله بن أحمد عن غير أبيه (فإذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين).
وعن أبي هريرة «٢» قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها. ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها. ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر.
ولمسلم «٣» : إذا زنت ثلاثا. ثم ليبعها في الرابعة.
وروى مالك «٤» عن عبد الله بن عياش المخزوميّ قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين، في الزنى.
الجواب الثاني- جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها. وإنما تضرب تأديبا. وهو المحكيّ عن ابن عباس رضي الله عنه. وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن عليّ الظاهريّ (في رواية عنه) وعمدتهم مفهوم الآية. وهو من مفاهيم الشرط. وهو حجة عند أكثرهم. فقدم على العموم عندهم.
وحديث «٥» أبي هريرة وزيد بن خالد: أن رسول الله ﷺ سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: «إن زنت فاجلدوها. ثم إن زنت فاجلدوها. ثم إن زنت فاجلدوها. ثم بيعوها ولو بضفير».
قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة، أخرجاه في الصحيحين.
وعند مسلم، قال ابن شهاب: الضفير الحبل. قالوا فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة، وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات. فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك. والله أعلم.
(١) أخرجه في: الحدود، حديث ٣٤.
(٢) أخرجه البخاري في: البيوع، ١١٠- باب بيع المدبّر، حديث ١٠٨٨.
ومسلم في: الحدود، حديث ٣٠.
(٣) مسلم في: الحدود، حديث ٣١.
(٤) أخرجه مالك في الموطأ في: الحدود، حديث ١٦.
(٥) أخرجه البخاريّ في: الحدود، ٣٥- باب إذا زنت الأمة حديث ١٠٨٨ و ١٠٨٩.
81
وأصرح من ذلك ما
رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس مرفوعا: ليس على أمة حدّ حتى تحصن. يعني تزوج. فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات.
ورواه ابن خزيمة مرفوعا أيضا. وقال: رفعه خطأ. إنما هو من قول ابن عباس.
وكذا رواه البيهقيّ، وقال مثل قول ابن خزيمة.
قالوا: وحديث علي وعمر قضايا أعيان. وحديث أبي هريرة عنه أجوبة: أحدها- إن ذلك محمول على الأمة المزوّجة، جمعا بينه وبين هذا الحديث. الثاني- أن لفظة الحد في قوله: فليقم عليها الحد، مقحمة من بعض الرواة. بدليل.
الجواب الثالث- وهو أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط. وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقديم من رواية واحد. وأيضا
فقد رواه النسائيّ بإسناد على شرط مسلم من حديث عباد بن تميم عن عمه، وكان قد شهد بدرا: إن رسول الله ﷺ قال: إذا زنت الأمة فاجلدوها. ثم إذا زنت فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها. ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير.
الرابع- أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ (الحد) في الحديث على (الجلد). لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد. أو أنه أطلق لفظ (الحد) على التأديب. كما أطلق (الحد) على ضرب من زنى من المرضى بعثكال نخل فيه مائة شمراخ. وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها، مائة. وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه. كأحمد وغيره من السلف. وإنما الحد الحقيقيّ هو جلد البكر مائة ورجم الثيّب، انتهى. وله تتمة سابغة.
وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) : وحكم في الأمة إذا زنت ولم تحصن بالحد. وأما قوله تعالى في الإماء: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ
، فهو نص في أن حدها بعد التزويج نصف حد الحرة من الجلد. وأما قبل التزويج فأمر بجلدها. وفي هذا الحد قولان:
أحدهما- أنه الحد. ولكن يختلف الحال قبل التزويج وبعده. فإن للسيد إقامته قبله. وأما بعده فلا يقيمه إلا الإمام.
والقول الثاني- إنّ جلدها قبل الإحصان تعزير لا حدّ. ولا يبطل هذا ما
رواه مسلم «١» في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يرفعه: إذا زنت أمة
(١)
أخرج مسلم: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال «إن زنت فاجلدوها. ثم إن زنت فاجلدوها. ثم إن زنت فاجلدوها. ثم بيعوها ولو بضفير». أخرجه في:
الحدود، حديث ٣٢.
82
أحدكم فليجلدها ولا يعيرها، ثلاث مرات. فإن عادت في الرابعة فليجلدها وليبعها ولو بضفير (وفي لفظ فليضربها بكتاب الله)
وفي صحيحه أيضا من حديث علي كرم الله وجهه إنه قال: أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحد. من أحصن منهن ومن لم يحصن. فإن أمة رسول الله ﷺ زنت فأمرني أن أجلدها. الحديث.
فإن التعزير يدخل فيه لفظ (الحد) في لسان الشارع. كما في
قوله صلى الله عليه وسلم: لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود الله تعالى
. وقد ثبت التعزير بالزيادة على العشرة جنسا وقدرا، في مواضع عديدة لم يثبت نسخها ولم تجتمع الأمة على خلافها. وعلى كل حال، فلا بد أن يخالف حالها بعد الإحصان حالها قبله. وإلا لم يكن للتقييد فائدة. فإما أن يقال قبل الإحصان: لا حد عليها، والسنة الصحيحة تبطل ذلك. وإما أن يقال: حدها قبل الإحصان حد الحرة، وبعده نصفه، وهذا باطل قطعا، مخالف لقواعد الشرع وأصوله. وإما أن يقال: حدها قبل الإحصان تعزير، وبعده حدّ، وهذا أقوى. وإما أن يقال: الافتراق بين الحالين في إقامة الحد لا في قدره وإنه في إحدى الحالتين للسيّد وفي الأخرى للإمام. وهذا أقرب ما يقال.
وقد يقال: إن تنصيصه على التنصيف بعد الإحصان لئلا يتوهم متوهم أن بالإحصان يزول التنصيف ويصير حدها حد الحرة. كما أن الجلد عن البكر يزال بالإحصان وانتقل إلى الرجم، فبقي على التنصيف في أكمل حالتيها وهي الإحصان، تنبيها على أنه إذا اكتفى به فيها ففي ما قبل الإحصان أولى وأحرى. والله أعلم ذلِكَ أي إباحة نكاح الإماء لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ أي المشقة في التحفظ من الزنى مِنْكُمْ أيها الأحرار وَأَنْ تَصْبِرُوا على تحمل تلك المشقة متعففين عن نكاحهن خَيْرٌ لَكُمْ من نكاحهن، وإن سبقت كلمة الرخصة، لما فيه من تعريض الولد للرق. قال عمر رضي الله عنه: أيما حرّ تزوج بأمة فقد أرقّ نصفه. ولأن حق المولى فيها أقوى فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر، ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر، وعلى بيعها للحاضر والبادي. وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا مزيد عليه. ولأنها ممتهنة مبتذلة خرّاجة ولّاجة.
وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح. والعزة هي اللائقة بالمؤمنين. ولأن مهرها لمولاها. فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج. فلا ينتظم أمر المنزل. كذا حرره أبو السعود. وقد قيل:
83
قال في (الإكليل) : في الآية كراهة نكاح الأمة عند اجتماع الشروط. بقوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢٦]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦)
يُرِيدُ اللَّهُ أي في تحريم ما حرم من النساء وتحليل ما أحل بالشرائط لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أي شرائعه وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي يرشدكم إلى طرائق من تقدم من أهل الكتاب في تحريم ما حرمه، لتتأسوا بهم في اتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها. وفي الآية دليل على أن كل ما بيّن تحريمه لنا من النساء، في الآيات المتقدمة، فقد كان الحكم كذلك في الملة السابقة.
وقد قرأت في سفر الأحبار اللاويين، من التوراة، في (الفصل الثامن عشر) ما يؤيد ذلك. عدا ما رفعه تعالى عنا من ذلك مما فيه حرج وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي يتجاوز عنكم ما كان منكم في الجاهلية، أو يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي فيما شرع لكم من الأحكام حَكِيمٌ مراع في جميع قضائه الحكمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢٧]
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي من المآثم والمحارم. أي يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى. وفيه بيان كمال منفعة ما أراده الله تعالى، وكمال مضرة ما يريده الفجرة. كما قال سبحانه وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أي ما حرمه الشرع، وهم الزناة أَنْ تَمِيلُوا عن الحق بالمعصية مَيْلًا عَظِيماً يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢٨]
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ أي في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم.
ولهذا أباح نكاح الإماء بشروطه. ونظير هذا قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: ١٨٥]. وقوله: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: ٧٨]. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أي عاجزا عن دفع دواعي شهواته. فناسبه التخفيف لضعف عزمه وهمته وضعفه في نفسه. فالجملة اعتراض تذييليّ مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف في أحكام الشرع.
وفي (الإكليل) : قال طاوس: ضعيفا أي في أمر الناس لا يصبر عنهن. وقال وكيع: يذهب عقله عندهن. أخرجهما ابن أبي حاتم. ففيه أصل لما يذكره الأطباء من منافع الجماع ومن مضارّ تركه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بِالْباطِلِ أي ما لم تبحه الشريعة كالربا والقمار والرشوة، والغصب والسرقة والخيانة، وما جرى مجرى ذلك من صنوف الحيل إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً أي معاوضة محضة كالبيع عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ في المحاباة من جانب الآخذ والمأخوذ منه. وقرئ (تجارة) بالرفع على أن (كان) تامة، وبالنصب على أنها ناقصة. والتقدير: إلا أن تكون المعاملة أو التجارة أو الأموال، تجارة.
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعيّ. وإباحة التجارة والربح فيها. وأن شرطها التراضي. ومن هاهنا أخذ الشافعيّ رحمه الله اعتبار الإيجاب والقبول لفظا. لأن التراضي أمر قلبيّ فلا بد من دليل عليه.
وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا. انتهى.
أي لأن الأقوال، كما تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا. فصح بيع المعاطاة مطلقا.
وفي (الروضة الندية) : حقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى: والمراد هاهنا أمارته. كالإيجاب والقبول، وكالتعاطي عند القائل به، وعلى هذا أهل العلم. لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعضهم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها. ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: (بعت منك وبعتك) فإنا لا ننكر
85
أن البيع يصح بذلك. وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها. ولم يرد في ذلك شيء.
وقد قال الله تعالى: تِجارَةً عَنْ تَراضٍ. فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط. ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة، بأي لفظ وقع، وعلى أي صفة كان وبأي إشارة مفيدة، حصل. انتهى.
وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فيه وجهان: الأول- أن المعنى لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين. فإن كلهم كنفس واحدة.
والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل. والثاني- النهي عن قتل الإنسان نفسه. وقد احتج بهذه الآية عمرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد. وأقره النبيّ ﷺ على احتجاجه. كما رواه الإمام أحمد وأبو داود.
ولفظ أحمد» عن عمرو بن العاص أنه قال: «لما بعثه رسول الله ﷺ عام ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد. فأشفقت، إن اغتسلت، أن أهلك. فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح. قال فلما قدمنا على رسول الله ﷺ ذكرت ذلك له. فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟
قال قلت: نعم يا رسول الله! إني احتلمت في ليلة باردة، شديدة البرد. فأشفقت، إن اغتسلت، أن أهلك. وذكرت قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئا»
.
وهكذا أورده أبو داود «٢». قال ابن كثير وهذا، أي المعنى الثاني، والله أعلم، أشبه بالصواب. وقد توافرت الأخبار في النهي عن قتل الإنسان نفسه والوعيد عليه.
روى الشيخان «٣» وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسّى سمّا فقتل نفسه فسمّه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا».
(١) أخرجه في المسند ٤/ ٢٠٣.
(٢) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٤- باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ حديث ٣٣٤.
(٣) أخرجه البخاريّ في: الطب، ٥٦- باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه، حديث ٧٢١.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٧٥.
ورد في البخاريّ: يجأ، وفي مسلم: يتوجأ (ومعناه يطعن).
86
وأخرج الشيخان «١» عنه رضي الله عنه قال: شهدنا خيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجل ممن معه يدّعي الإسلام: «هذا من أهل النار».
فلما حضر القتال قاتل الرجل أشدّ القتال حتى كثرت به الجراحة. فكاد بعض الناس يرتاب. فوجد الرجل ألم الجراحة. فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه.
فاشتد رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول الله! صدّق الله حديثك. انتحر فلان فقتل نفسه. فقال: قم، يا فلان، فأذّن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن. إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر. وهذا لفظ البخاريّ.
وروى أبو داود «٢» عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: أخبر النبيّ ﷺ برجل قتل نفسه فقال: لا أصلي عليه.
وفي الصحيحين «٣» من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح. فجزع فأخذ سكينا فحزّ بها يده. فما رقأ الدم حتى مات. قال الله عز وجل: «بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة».
ولهذا قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣٠]
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي القتل عُدْواناً وَظُلْماً أي متعديا فيه، ظالما في تعاطيه، أي عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه فَسَوْفَ نُصْلِيهِ أي ندخله
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ٣٨- باب غزوة خيبر، حديث ١٤٥١.
ومسلم في: الإيمان، حديث ١٧٨، وفيه: شهدنا مع رسول الله ﷺ حنينا. وقال القاضي عياض:
صوابه خيبر.
(٢)
الحديث لم أجده في سنن أبي داود. ووجدته في صحيح مسلم في: الجنائز، حديث ١٠٧ ونصه:
عن جابر بن سمرة قال: أتي النبيّ ﷺ برجل قتل نفسه بمشاقص (والمشاقص سهام عراض، واحدها مشقص) فلم يصلّ عليه
. [.....] (٣) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ٥٠- باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث ٧٢٠.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٨٠.
ناراً أي هائلة شديدة العذاب وَكانَ ذلِكَ أي إصلاؤه النار عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هينا عليه، لا عسر فيه ولا صارف عنه. لأنه تعالى: لا يعجزه شيء.
قال النسفيّ: وهذا الوعيد في حق المستحل للتخليد. وفي حق غيره، لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣١]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
إِنْ تَجْتَنِبُوا أي تتركوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ أي كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها، مما ذكر هاهنا ومما لم يذكر نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي صغائر ذنوبكم، ونمحها عنكم، وندخلكم الجنة. كما قال تعالى وَنُدْخِلْكُمْ في الآخرة مُدْخَلًا كَرِيماً أي حسنا وهي الجنة. و (مدخلا) قرئ بضم الميم، اسم مكان أو مصدر ميميّ. أي إدخالا مع كرامة. وبفتح الميم، وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر. وفي الآية دليل على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر. وردّ على من قال:
إن المعاصي كلها كبائر، وإنه لا صغيرة.
قال الإمام ابن القيّم في (الجواب الكافي) : قد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة، والتابعين بعدهم، والأئمة، على أن من الذنوب كبائر وصغائر. قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
. وقال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم: ٣٢].
وفي الصحيح «١» عنه ﷺ أنه قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر
. وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات: إحداها أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها والقيام بحقوقها. بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية. الثانية- أن تقاوم الصغائر ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر. الثالثة- أن تقوى على تكفير الصغائر وتبقي فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر. فتأمل هذا فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.
(١) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ١٨.
88
وفي الصحيح «١» عنه ﷺ أنه قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين. وجلس وكان متكئا فقال: ألا وقول الزور (ثلاثا).
وروي في الصحيح «٢» عنه صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: وما هن؟ يا رسول الله! قال: الإشراك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وفي الصحيح «٣» عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو خلقك قلت: ثم أي؟
قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك»

. قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان: ٦٨] الآية.
ثم ساق الخلاف في تعدادها.
وعندي أن الصواب هو الوقوف في تعدادها على ما صحت به الأحاديث. فإن رسول الله ﷺ مبيّن لكتاب الله عز وجل، أمين على تأويله. والمرجع في بيان كتاب الله تعالى إلى السنة الصحيحة. كما أن المرجع في تعريف الكبيرة إلى العدّ دون ضبطها بحد. كما تكلفه جماعة من الفقهاء، وطالت المناقشة بينهم في تلك الحدود. وإن منها ما ليس جامعا. ومنها ما ليس مانعا. فكله مما لا حاجة إليه بعد ورود صحاح الأخبار في بيان ذلك.
وقد ساق الحافظ ابن كثير هاهنا جملة وافرة منها وجوّد النقل عن الصحابة
(١) أخرجه البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، في: الشهادات، ١٠- باب ما قيل في شهادة الزور، حديث ١٢٩١.
ومسلم في: الإيمان، حديث ١٤٣.
(٢) أخرجه البخاري في: الوصايا، ٢٣- باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً، حديث ١٣٢٥.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٤٥.
(٣) أخرجه البخاري في: التفسير، ٢٥- سورة الفرقان، ٢- باب وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، حديث ١٩٦٢.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٤١ و ١٤٢.
89
والسلف والتابعين. فانظره فإنه نفيس.
ثم نهى تعالى عن الحاسد وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه، مما يجري فيه التنافس بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣٢]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا أي أصابوا وأحرزوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ أي أصبن وأحرزن. أي لكل فريق نصيب مما اكتسب في نعيم الدنيا قبضا أو بسطا، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له.
وقد روى الإمام أحمد عن مجاهد أن أم سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا الآية. ورواه الترمذي «١» وقال: غريب. ورواه الحاكم في مستدركه وزاد: ثم أنزل الله: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آل عمران: ١٩٥]. الآية فإن صح هذا فالمعنى: لكل أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه. فلا تتمنوا خلاف ذلك. ولا مانع من شمول الآية لما يتعلق بأحوال الدنيا والآخرة. فإن اللفظ محتمل.
ولا منافاة. والله أعلم وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أي من خزائن نعمه التي لا نفاد لها.
وقد روي الترمذي «٢» وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله. فإن الله عز وجل يحب يسأل». وأفضل العبادة انتظار الفرج.
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ولذلك جعل الناس على طبقات رفع بعضهم على بعض درجات حسب مراتب استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة المبنية على الحكم الأبية. قاله أبو السعود.
(١) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٨- حدثنا ابن أبي عمر.
(٢) أخرجه الترمذيّ في: الدعوات، ١١٥- باب في انتظار الفرج وغير ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣٣]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا ورثة وعصبة يلونه ويحرزونه. وهم يرثونه. دون سائر الناس. كما
ثبت في الصحيحين «١» عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها. فما بقي فهو لأولى رجل ذكر».
أي اقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض. فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة. ف (فما) تبيين (كل).
قال ابن جرير: والعرب تسمي ابن العم مولى. كما قال الفضل بن العباس:
إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره
مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا
وفي (القاموس) و (شرحه تاج العروس) : والمولى: القريب كابن العم ونحوه.
قال ابن الأعرابي: ابن العم مولى. وابن الأخت مولى. وقول الشاعر:
هم المولى وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور
قال أبو عبيدة: يعني الموالي، أي بني العلم. وقال اللهبيّ يخاطب بني أمية:
مهلا بني عمنا، مهلا موالينا امشوا رويدا كما كنتم تكونونا
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء وهو قوله فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ويقرأ (عاقدت) بالألف. والمفعول محذوف أي عاقدتهم. ويقرأ بغير ألف والمفعول محذوف أيضا هو والعائد. تقديره عقدت حلفهم أيمانكم. والعقد الشدّ والربط والتوكيد والتغليظ. ومنه: عقد العهد يعقده:
شده. والأيمان جمع يمين إما بمعنى اليد اليمنى لوضعهم الأيدي في العهود، أو بمعنى القسم وهو الأظهر، لأن العقد خلاف النقض. وقد جاء مقرونا بالحلف في قوله تعالى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [النحل: ٩١] وفي قوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: ٨٩]. وفي
(١) أخرجه البخاريّ في: الفرائض، ٥- باب ميراث الولد من أبيه وأمه.
وأخرجه مسلم في: الفرائض، حديث ٢.
91
هذه الآية محامل كثيرة ووجوه للسلف والخلف. أظهرها السلف المفسرين رضوان الله عليهم. وهو أن المعنيّ بالموصول، الحلفاء. وهو المرويّ عن ابن عباس في البخاريّ كما سيأتي: قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والحسن وابن المسيب وأبي صالح وسليمان بن يسار والشعبيّ وعكرمة والسدّي والضحّاك وقتادة ومقاتل بن حيان، أنهم قالوا: هم الحلفاء. انتهى.
ويزاد أيضا: علي بن أبي طلحة.
وكان الحلفاء يرثون السدس من محالفيهم. وروى الطبري من طريق قتادة:
كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمي دمك. وترثني وأرثك. وتطلب بي وأطلب بك. فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس. فأمروا بأن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس. ثم نسخ ذلك بالميراث، فقال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.
ولذا قال سعيد بن جبير: فآتوهم نصيبهم من الميراث. قال: وعاقد أبو بكر مولى فورثه.
قال الزمخشريّ: والمراد. ب (الذين عاقدت أيمانكم) موالي الموالاة. كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك. وهدمي هدمك. وثأري ثأرك. وحربي حربك. وسلمي سلمك. وترثني وأرثك. وتطلب بي وأطلب بك. وتعقل عني وأعقل عنك. فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف. انتهى.
وعلى هذا، فمعنى الآية: والذين عاقدتموهم على المؤاخاة والموالاة، وتحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم على النصر والإرث، قبل نزول هذه الآية، فآتوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود. إذ وعدتموهم ذلك في الأيمان المغلظة.
وروى ابن أبي حاتم: كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول. وترثني وأرثك. وكان الأحياء يتحالفون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل حلف في الجاهلية، أو عقد أدركه الإسلام، فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا عقد ولا حلف في الإسلام».
وروى الإمام أحمد ومسلم «١» والنسائي عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال
(١)
أخرجه في المسند ١/ ١٩٠. وحديث ١٦٥٥ ونصه: عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف عن النبيّ ﷺ قال: شهدت حلف المطيّبين مع عمومتي وأنا غلام. فما أحبّ أن لي حمر النعم وأني أنكثه.
92
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حلف في الإسلام وأيّما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة.
وروى الإمام أحمد «١» عن قيس بن عاصم أنه سأل النبيّ ﷺ عن الحلف؟ قال فقال: ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به. ولا حلف في الإسلام. ورواه أيضا «٢» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لما دخل رسول الله ﷺ مكة عام الفتح، قام خطيبا في الناس، فقال: يا أيها الناس! ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة. ولا حلف في الإسلام.
قال ابن الأثير: الحلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق. فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام
بقوله صلى الله عليه وسلم: لا حلف في الإسلام.
وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيّبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة. يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق. وبذلك يجتمع الحديثان. وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام. والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام. انتهى.
قال الحافظ ابن كثير: كان هذا، أي التوارث بالحلف، في ابتداء الإسلام. ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشئوا بعد هذه الآية معاقدة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول: وترثني وأرثك. كان الأحياء يتحالفون
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل حلف في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام، فلا يزيده إلا شدة
. ولا عقد ولا حلف في الإسلام. فنسختها هذه الآية:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: ٧٥].
وروى أبو داود «٣» عن ابن عباس في هذه الآية: كان الرجل يحالف الرجل وليس
قال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يصب الإسلام حلفا إلا زاده شدة، ولا حلف في الإسلام» وقد ألّف رسول الله ﷺ بين قريش والأنصار.
وأخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث ٢٠٦.
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٦١.
(٢)
حديث رقم ٦٩١٧ ونصه: «كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام».
(٣) أخرجه في: الفرائض، ١٦- باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم، حديث ٢٩٢١.
93
بينهما نسب. فيرث أحدهما الآخر. فنسخ ذلك في الأنفال فقال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ الآية.
وروى ابن جرير عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر. فأنزل الله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً
. يقول:
إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوا، وصية. فهو لهم جائز من ثلث مال الميت.
ذلك هو المعروف.
وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقول: وَأُولُوا الْأَرْحامِ، الآية.
أقول: على ما ذكر، تكون الآية محكمة في صدر الإسلام، منسوخة بعده:
وثمة وجه آخر فيها. وهو أنها ناسخة لميراث الحليف بتأويل آخر. وهو ما رواه البخاريّ «١» عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ورثة وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ. كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجريّ الأنصاريّ دون ذوي رحمه، للأخوّة التي آخى النبيّ ﷺ بينهم. فلما نزلت وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ نسخت: ثم قال: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ. من النصر والرفادة والنصيحة. وقد ذهب الميراث ويوصى له.
وقد فهم بعضهم من هذا الأثر أن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الحلف الماضي أيضا. وأنه لا توارث به. والصحيح ما أسلفناه من ثبوت التوارث بالحلف السابق على نزول الآية في ابتداء الإسلام، كما حكاه غير واحد من السلف. وكما قال ابن عباس: كان المهاجريّ يرث الأنصاريّ دون ذوي رحمه حتى نسخ ذلك.
وقد حاول الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) الجمع بين الروايات المتقدمة ورواية البخاريّ باحتمال أن يكون النسخ وقع مرتين: الأولى- حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة، فنزلت: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا. فصاروا جميعا يرثون. ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوهما.
والله أعلم.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٧- باب وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ... الآية. [.....]
94
هذا وثمة روايات أخر في سبب نزولها. منها ما روى أبو داود «١» وابن أبي حاتم عن داود بن الحصين. قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع. وكانت يتيمة في حجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقرأت: (والذين عاقدت أيمانكم).
فقالت: لا تقرأ هكذا ولكن: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ إنما أنزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن رضي الله عنهما حين أبى الإسلام. فحلف أبو بكر لا يورثه. فلما أسلم أمره الله تعالى أن يورثه نصيبه.
ومنها ما روى ابن جرير عن الزهريّ عن ابن المسيب قال: نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم يورثونهم. فأنزل الله فيهم. فجعل لهم نصيبا في الوصية وردّ الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة. وأبى الله أن يكون للمدّعين ميراثا ممن ادعاهم وتبناهم. ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية.
واعلم أن هذه الوجوه السلفية المروية في نزول الآية، كلها مما تصدق عليها الآية وتشملها وينطبق حكمها عليها: ولا تنافي بينها. لما أسلفناه في مقدمة التفسير. فراجعها ولا تغفل عنها.
هذا ولأبي عليّ الجبائيّ تأويل آخر في الآية. قال: تقدير الآية: ولكن شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي، ورثة، فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. أي فآتوا الموالي والورثة نصيبهم. فقوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ. معطوف على قوله: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. والمعنى: إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به. وسمى الله تعالى الوارث مولى. والمعنى: لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث.
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: المراد ب الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ الزوج والزوجة.
والنكاح يسمى عقدا. قال تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة: ٢٣٥].
فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة. ونظيره آية المواريث، في أنه لما بيّن ميراث الولد والوالدين، ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة.
أقول: هذا التأويل المذكور وما قبله طريقة من لا يقف مع الآثار السلفية في التفسير. ويرى مزاحمتهم في الاجتهاد في ذلك. ذهابا إلى أن ما لم يتواتر في معنى الآية، من خبر أو إجماع، فلا حجة في المرويّ منه آحادا، مرفوعا أو موقوفا، وإن
(١) أخرجه أبو داود في: الفرائض، ١٦- باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم، حديث ٢٩٢٣.
95
صح. وهذه الطريقة سبيل طائفة قصّرت في علم السمع وأقلت البحث عنه. فنشأ من ذلك النقص من الدين والزيادة فيه بالرأي المحض.
ومذهبنا أن لا غنى عن الرجوع إلى تفسير الصحابة رضي الله عنهم. لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة. ولأن القرآن أنزل على لغتهم. فالغلط أبعد عنهم من غيرهم. لا سيما تفسير حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
فمتى صح الإسناد إليه كان تفسيره من أصح التفاسير، مقدما على كثير من الأئمة الجماهير. لوجوه متعددة: منها أنه رضي الله عنه ثبت عنه أنه كان لا يستحل التأويل بالرأي.
روي عنه أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وفي رواية (بغير علم) رواه أبو داود في العلم، والنسائيّ والترمذي «١»
. فإذا جزم رضي الله عنه بأمر كان دليلا على رفعه. كما أسلفنا في المقدمة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها الإيتاء والمنع شَهِيداً أي عالما. ففيه وعد ووعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣٤]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ جمع قوام، وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب. أي مسلطون على أدب النساء يقومون عليهن، آمرين ناهين، قيام الولاة على الرعية. وذلك لأمرين: وهبيّ وكسبيّ. أشار للأول بقوله تعالى: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ والضمير للرجال والنساء جميعا. يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم، وهم الرجال، على بعض، وهم النساء. وقد ذكروا، في فضل الرجال، العقل والحزم والعزم والقوة والفروسية والرمي. وإن منهم الأنبياء وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والشهادة في مجامع القضايا والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وزيادة السهم والتعصيب. وهم أصحاب اللحى والعمائم. والكامل بنفسه له حق الولاية على
(١) رواه الترمذي في: التفسير، ١- باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه. عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
96
الناقص. وأشار الثاني بقوله سبحانه وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ في مهورهن ونفقاتهن فصرن كالأرقاء. ولكون القوامين في معنى السادات وجبت عليهن طاعتهم. كما يجب على العبيد طاعة السادات،
وروى ابن مردويه عن عليّ رضي الله عنه قال. أتى رسول الله ﷺ رجل من الأنصار بامرأة. فقالت: يا رسول الله! إن زوجها فلان بن فلان الأنصاريّ. وإنه ضربها فأثر في وجهها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس له ذلك.
فأنزل الله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ في الأدب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أردت أمرا وأراد الله غيره». ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم مرسلا من طرق.
قال السيوطيّ: وشواهده يقوي بعضها بعضا. وقال عليّ بن أبي طلحة في هذه الآية عن ابن عباس: يعني أمراء عليهن. أي تطيعه فيما أمرها الله به من طاعة.
وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله.
وروى الترمذي «١» عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»
. فَالصَّالِحاتُ أي من النساء قانِتاتٌ أي مطيعات لله في أزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ قال الزمخشريّ: الغيب خلاف الشهادة. أي حافظات لمواجب الغيب. إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة، من الفروج والأموال والبيوت بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بحفظ الله إياهن وعصمتهن بالتوفيق لحفظ الغيب. فالمحفوظ من حفظه الله. أي لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله. أو المعنى: بما حفظ الله لهن من إيجاب حقوقهن على الرجال. أي عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن. حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن. فقوله: بما حفظ الله، يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك. أي في مقابلته. وجعل المهايميّ الباء للاستعانة حيث قال: مستعينات بحفظه مخافة أن يغلب عليهن نفوسهن وإن بلغن من الصلاح ما بلغن. انتهى.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا: خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت حفظتك في نفسها ومالك. قال: ثم قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ، إلى آخرها.
وروى الإمام أحمد «٢» عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(١) أخرجه الترمذي في: النكاح، ١٠- باب ما جاء في حق الزوج على المرأة.
(٢) أخرجه في المسند ١/ ١٩١. وحديث رقم ١٦٦١.
97
«إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها:
ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت»
.
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) في قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ: إن الزوج يقوم بتربية زوجته وتأديبها ومنعها من الخروج وإن عليها طاعته إلا في معصية.
وإن ذلك لأجل ما يجب لها عليه من النفقة. ففهم العلماء من هذا أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها، وسقط ما له من منعها من الخروج. واستدل بذلك من أجاز لها الفسخ حينئذ. ولأنه إذا خرج من كونه قواما عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح. واستدل بالآية من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها. فلا تتصرف فيه إلا بإذنه. لأنه جعله (قواما) بصيغة المبالغة. وهو الناظر في الشيء الحافظ له. واستدل بها على أن المرأة لا تجوز أن تلي القضاء كالإمامة العظمى. لأنه جعل الرجال قوامين عليهن، فلم يجز أن يقمن على الرجال. انتهى.
وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أي عصيانهن وسوء عشرتهن وترفعهن عن مطاوعتكم، من (النشز) وهو ما ارتفع من الأرض يقال: نشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها: استعصت عليه، وارتفعت عليه وأبغضته، وخرجت عن طاعته فَعِظُوهُنَّ أي خوفوهن بالقول. كاتقي الله، واعلمي أن طاعتك لي فرض عليك، واحذري عقاب الله في عصياني. وذلك لأن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته. وحرم عليها معصيته، لما له عليها من الفضل والإفضال.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». رواه الترمذي «١» عن أبي هريرة والإمام أحمد عن معاذ، والحاكم عن بريدة.
وروى البخاري «٢» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح».
ورواه مسلم، ولفظه: إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح وَاهْجُرُوهُنَّ بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة فِي الْمَضاجِعِ أي المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف.
(١) أخرجه الترمذي في: النكاح، ١٠- باب ما جاء في حق الزوج على المرأة.
(٢) أخرجه البخاريّ في: بدء الخلق، ٧- باب إذا قال أحدكم آمين. والملائكة في السماء، حديث ١٥٢٩.
ومسلم في: النكاح، حديث ١٢٠- ١٢٢.
98
ولا تباشروهن. فيكون كناية عن الجماع. قال حماد بن سلمة البصريّ: يعني النكاح. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: الهجر هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها، ويوليها ظهره. وكذا قال غير واحد. وزاد آخرون منهم السدّي والضحاك وعكرمة وابن عباس (في رواية) : ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها. وقيل: المضاجع المبايت. أي لا تبايتوهن. وفي السنن والمسند «١» عن معاوية بن حيدة القشيريّ أنه قال: يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال. أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت. ولا تضرب الوجه، ولا تقبح. ولا تهجر إلا في البيت وَاضْرِبُوهُنَّ إن لم ينجع ما فعلتم من العظمة والهجران، ضربا غير مبرح، أي شديد ولا شاق. كما
ثبت في صحيح مسلم «٢» عن جابر عن النبيّ ﷺ أنه قال في حجة الوداع: «واتقوا الله في النساء. فإنهن عوان عندكم. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرّح».
قال الفقهاء: هو أن لا يجرحها ولا يكسر لها عظما ولا يؤثر شينا ويجتنب الوجه لأنه مجمع المحاسن. ويكون مفرّقا على بدنها. ولا يوالي به في موضع واحد لئلا يعظم ضرره. ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف. أو بيده! لا بسوط ولا عصا. قال عطاء: ضرب بالسواك.
قال الرازيّ: وبالجملة، فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه.
والذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ. ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع. ثم ترقى منه إلى الضرب. وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف، وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق. وهذه طريقة من قال: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب. فإن ظاهر اللفظ، وإن دل على الجمع، إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب.
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: يهجرها في المضجع. فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح. ولا تكسر لها عظما. فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية. وقال آخرون: هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز.
أما عند تحققه فلا بأس بالجمع بين الكل.
(١) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٤١- باب حق المرأة على زوجها، حديث ٢١٤٢.
والمسند في ٥/ ٥.
(٢) أخرجه مسلم في: الحج، ١٩- باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث ١٤٧.
99
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه آدب لهم. رواه عبد ابن حميد والطبرانيّ عن ابن عباس، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي إذا رجعن عن النشوز عند هذا التأديب إلى الطاعة في جميع ما يراد منهن مما أباحه الله منهن، فلا سبيل للرجال عليهن بعد ذلك بالتوبيخ والأذية بالضرب والهجران إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه. تهديد للأزواج على ظلم النسوان من غير سبب. فإنهن، وإن ضعفن عن دفع ظلمكم، وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله سبحانه عليّ قاهر كبير قادر، ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن، فلا تغتروا بكونكم أعلى يدا منهن وأكبر درجة منهن. فإن الله أعلى منكم وأقدر منكم عليهن. فختم الآية بهذين الاسمين، فيه تمام المناسبة. ولما ذكر تعالى حكم النفور والنشوز من الزوجة، ذكر ما إذا كان النفور من الزوجين بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣٥]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما أصله شقاقا بينهما فأضيف الشقاق إلى الظرف.
إما على إجرائه مجرى المفعول به اتساعا. كقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣]. أصله بل مكر في الليل والنهار. أو مجرى الفاعل بجعل البين مشاقا والليل والنهار ماكرين. كما في قولك: نهارك صائم. والضمير للزوجين. ولم يجر ذكرهما لجري ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء. أي إن علمتم مخالفة مفرقة بينهما، واشتبه عليكم أنه من جهته أو من جهتها، ولا يفعل الزوج الصالح ولا الصفح ولا الفرقة، ولا تؤدي المرأة الحق ولا الفدية فَابْعَثُوا أي إلى الزوجين لإصلاح ذات البين وتبيّن الأمر حَكَماً رجلا صالحا للحكومة، والإصلاح ومنع الظالم من الظلم مِنْ أَهْلِهِ أي أقارب الزوج وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها على صفة الأول.
فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال. وأطلب للإصلاح. فيلزمها أن يخلوا ويستكشفا حقيقة الحال فيعرفا أن رغبتهما في الإقامة أو الفرقة إِنْ يُرِيدا أي الحكمان إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما أي يوقع بينهما الموافقة فيتفقان على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض ويتم المراد. أو الضمير الأول للحكمين، والثاني للزوجين. أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله، بورك في وساطتهما، وأوقع الله بحسن سعيهما بين
100
الزوجين الوفاق والألفة، وألقى في نفوسهما المودة والرحمة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً بظواهر الحكمين وبواطنهما. إن قصدا إفسادا يجازيهما عليه. وإلا يجازيهما على الإصلاح. روى ابن أبي حاتم وابن جرير «١» عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: أمر الله عز وجل أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ومثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء. فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة. وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز. فإن رأيا أن يجمعا، فرضي أحد الزوجين وكره الآخر، ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض. ولا يرث الكاره الراضي.
وروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين.
قال معمر: بلغني أن عثمان بعثهما وقال لهما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما. وإن رأيتهما أن تفرقا ففرقا. (وأسند) عن ابن أبي مليكة «٢» أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: تصير إليّ وأنفق عليك. فكان إذا دخل عليها قالت: أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت.
فشدت عليها ثيابها. فجاءت عثمان فذكرت له ذلك. فضحك. فأرسل ابن عباس ومعاوية. فقال ابن عباس: لأفرقنّ بينهما. فقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شخصين من بني عبد مناف. فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما. فرجعا.
وأسند عن عبيدة قال: شهدت عليّا وجاءته امرأة وزوجها. مع كل واحد منهما فئام من الناس. فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما. فقال عليّ للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما. فقالت المرأة. رضيت الله لي وعليّ. وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال عليّ: كذبت. والله! لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
قال الحافظ ابن كثير: وقد أجمع العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة. حتى قال إبراهيم النخعيّ: إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو
(١) الأثر رقم ٩٤١٨ من التفسير.
(٢) الأثر رقم ٩٤٢٧ من تفسير الطبريّ ونصه: أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة ابنة عتبة. فكان بينهما كلام. فجاءت عثمان فذكرت ذلك له، فأرسل ابن عباس ومعاوية. فقال ابن عباس: لأفرّقن بينهما. وقال معاوية: ما كنت لأفرّق بين شيخين من بني عبد مناف. فأتياهما وقد اصطلحا.
101
بطلقتين أو ثلاثا، فعلا. وهو رواية عن مالك. وقال الحسن البصري: الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة. وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم. وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود. ومأخذهم قوله تعالى إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما ولم يذكر التفريق. وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف. انتهى. وفي (الإكليل) : أخرج ابن منصور أن المأمور بالبعث الحكام. وعن السدّيّ: إنه الزوجان. فعلى الأول استدل به من قال: إنهما مولّيان من الحاكم. فلا يشترط رضا الزوجين عما يفعلانه من طلاق وغيره. وعلى الثاني استدل من قال: إنّهما وكيلان من الزوجين. فيشترط.
وقال ابن كثير: الجمهور على الأول. أعني أنهما منصوبان من جهة الحاكم.
لقوله تعالى. فَابْعَثُوا حَكَماً إلخ، فسماهما حكمين: ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه. وهذا ظاهر الآية.
وذهب الشافعيّ وأبو حنيفة إلى الثاني.
لقول عليّ رضي الله عنه للزوج، (حين قال: أما الفرقة فلا) - فقال: كذبت. حتى تقر بما أقرّت به.
قالوا: فلو كانا حكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج. والله أعلم.
وفي الآية تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتوخاه، وفقه الله تعالى لمبتغاه.
تنبيه:
قال الحاكم: في الآية دلالة على أن كل من خاف فرقة وفتنة جاز له بعث الحكمين. وقد استدل بها أمير المؤمنين على الخوارج فيما فعل من التحكيم. قال مشايخ المعتزلة: لأن المصاحف لما رفعت، فظهرت الفرقة في عسكره، وخاف على نفسه، جازت المحاكمة، بل وجبت. ولهذا صالح ﷺ يوم الحديبية. وعلى هذا يحمل صلح الحسن عليه السّلام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣٦]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦)
102
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً يأمر تعالى بعبادته وحده وبالإخلاص فيها بقوله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً كما قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: ٥]. لأنه تعالى هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الأوقات والحالات. فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من الشرك. الجليّ والخفيّ. للنفس وشهواتها. وما يتوصل به إليها من المال والجاه.
وهذه العبادة حق الله علينا. كما
في الصحيحين «١» عن معاذ بن جبل أن رسول الله ﷺ قال له: «يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت:
الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا»
.
ثم أوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين، إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكد الحقوق وأعظمها، تنبيها على جلالة شأن الوالدين بنظمها في سلكها بقول وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وقد كثرت مواقع هذا النظم في التنزيل العزيز كقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ [لقمان: ١٤]. وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء: ٢٣]. أي أحسنوا بهما إحسانا يفي بحق تربيتهما.
فإن شكرهما يدعو إلى شكر الله المقرب إليه. مع ما فيه من صلة أقرب الأقارب الموجب لوصلة الله، وقطعها لقطعه. ثم عطف، على الإحسان إليهما، الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، بقوله وَبِذِي الْقُرْبى أي الأقارب.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصدقة على المسكين صدقة. وهي على ذي الرحم اثنتان: صلة وصدقة. رواه الإمام أحمد «٢» والترمذي والنسائيّ والحاكم وابن ماجة.
ثم قال تعالى وَالْيَتامى وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم والحنوّ عليهم، تنزلا لرحمته عز وجل وَالْمَساكِينِ وهم المحاويج الذين لا يجدون ما يقوم
(١)
أخرجه البخاري في: الجهاد، ٤٦- باب اسم الفرس والحمار، حديث ١٣٧١ ونصه: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف النبيّ ﷺ على حمار، يقال له عفير، فقال «يا معاذ! هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا».
فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ قال «لا تبشرهم فيتكلوا».
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٤٨- ٥١.
(٢) أخرجه في المسند ٤/ ٢١٤.
103
بكفايتهم. فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم، وتزول به ضرورتهم وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى أي الذي قرب جواره. أو الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين وَالْجارِ الْجُنُبِ أي الذي جواره بعيد. أو الأجنبيّ. وقال نوف البكاليّ: الجار ذي القربى. يعني الجار المسلم. والجار الجنب يعني اليهوديّ والنصرانيّ.
وقد ورد في الوصية بالجار أحاديث كثيرة. منها
قوله صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». أخرجاه في الصحيحين «١» عن ابن عمر.
ومنها ما
رواه الإمام أحمد «٢» والترمذيّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ ﷺ قال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه. وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره».
وروى الإمام أحمد «٣» عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشبع الرجل دون جاره».
قال ابن كثير: تفرد به أحمد.
وعن المقدار بن الأسود قال: قال رسول الله ﷺ لأصحابه: «ما تقولون في الزنى؟ قالوا: حرمه الله ورسوله. فهو حرام إلى يوم القيامة. قال فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره. قال فقال:
ما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله ورسوله. فهي حرام. قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من جاره»
.
قال ابن كثير: تفرد به أحمد «٤». وله شاهد
في الصحيحين «٥» من حديث ابن مسعود. قال: سألت (أو سئل) رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: أن
(١) أخرجه البخاري في: الأدب، ٢٨- باب الوصاة الجار، حديث ٢٣٢٥.
ومسلم في: البر والصلة والآداب، حديث ١٤١.
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ١٦٨، وحديث رقم ٦٥٦٦. [.....]
(٣) أخرجه في المسند ص ٥٥ ج ١ وحديث رقم ٣٩٠.
(٤) أخرجه في المسند ٦/ ٨.
(٥) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٢٥- سورة الفرقان، ٢- باب وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، حديث ١٩٦٢.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٤٢.
104
تجعل لله ندّا وهو خلقك. قلت: ثم أيّ؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك.
وروى الإمام أحمد «١» عن أبي العالية عن رجل من الأنصار قال: «خرجت من أهلي أريد النبيّ صلى الله عليه وسلم. فإذا أنا به قائم ورجل معه مقبل عليه. فظننت أن لهما حاجة.
قال فقال الأنصاريّ: والله! لقد قام رسول الله ﷺ حتى جعلت أرثي لرسول الله ﷺ من طول القيام. فلما انصرف قلت: يا رسول الله! لقد قام بك الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام. قال: ولقد رأيته؟ قلت: نعم. قال: أتدري من هو؟
قلت: لا. قال: ذاك جبريل. ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. ثم قال:
أما إنك لو سلمت عليه ردّ عليك السلام»
.
ورواه عبد بن حميد عن جابر عن عبد الله قال: جاء رجل من العوالي ورسول الله ﷺ وجبريل عليه السّلام يصليان حيث يصلي على الجنائز. فلما انصرف قال الرجل: يا رسول الله! من هذا الرجل الذي رأيت يصلي معك؟ قال: وقد رأيته؟ قال:
نعم. قال: لقد رأيت خيرا كثيرا. هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت إنه سيورثه.
قال ابن كثير: تفرد به من هذا الوجه. وهو شاهد للذي قبله.
وروى البزار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجيران ثلاثة:
جار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقّا. وجار له حقان. وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقّا. فأما الجار الذي له حق واحد فجار مشرك، لا رحم له، له حق.
وأما الجار الذي له حقان، فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار. وأما الذي له ثلاثة حقوق. فجار مسلم ذو رحم، له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم»
.
وروى الإمام أحمد والبخاريّ «٢» عن عائشة أنها سألت رسول الله ﷺ فقالت:
إن لي جارين. فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا.
وروى الإمام مسلم «٣» عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك.
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٣٢.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الأدب، ٣٢- باب حق الجوار في قرب الأبواب، حديث ١١٢٨.
(٣) أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث ١٤٢ و ١٤٣.
105
وفي رواية قال: إذا طبخت مرقا فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف.
وروى الشيخان «١» عن أبي هريرة أن النبيّ ﷺ قال: «والله! لا يؤمن. والله! لا يؤمن. والله! لا يؤمن. قيل: ومن؟ يا رسول الله! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه».
ولمسلم «٢» : لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه.
والبوائق: الغوائل والشرور.
ورويا عنه «٣» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة»
. معناه: ولو أن تهدي لها فرسن شاة. وهو الظلف المحرق. وأراد به الشيء الحقير.
ورويا عنه «٤» أن رسول الله ﷺ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره
. وقوله تعالى وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح.
وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر. أي فإنه كالجار.
وأوضحه الزمخشري بقوله: هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك. إما رفيقا في سفر.
وإما جارا ملاصقا. وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة. وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه. فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان.
وروي عن عليّ وابن مسعود قالا:
هي المرأة
. أي لأنها تكون معك وتضجع إلى جنبك وَابْنِ السَّبِيلِ أي ابن الطريق.
أي المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به. نسب إلى السبيل الذي هو الطريق لمروره عليه وملابسته له. أو الذي
(١) أخرجه البخاري في: الأدب، ٢٩- باب إثم من لم يأمن جاره بوائقه، حديث ٢٣٢٦.
(٢) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٧٣ عن أبي هريرة.
(٣) أخرجه البخاريّ في: الأدب، ٣٠- باب لا تحقرن جارة لجارتها، حديث ١٢٥٤.
ومسلم في: الزكاة، حديث ٩٠.
(٤)
أخرجه البخاريّ في: الرقاق، ٢٣- باب حفظ اللسان، حديث ٢١٣٢ ونصه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»
.
ومسلم في: الإيمان، حديث ٧٥.
106
يريد البلد غير بلده، لأمر يلزمه. وقال ابن عرفة: هو الضيف المنقطع به، يعطى قدر ما يتبلغ به إلى وطنه. وقال ابن برّي: هو الذي أتى به الطريق. كذا في (تاج العروس). ولم يذكر السلف من المفسرين وأهل اللغة (السائل) في معنى ابن السبيل. لأنه جاء تابعا لابن السبيل في البقرة، في قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ- إلى قوله- وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ.
قال بعضهم في (ابن السبيل) :
ومنسوب إلى ما لم يلده كذاك الله نزّل في الكتاب
وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني المماليك. فإنهم ضعفاء الحيلة. أسرى في أيدي الناس كالمساكين. لا يملكون شيئا.
وقد ثبت عن عليّ عليه السلام أن رسول الله ﷺ جعل يوصي أمته في مرض الموت، يقول: الصلاة. الصلاة. اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم. رواه أبو داود وابن ماجة «١» وهذا لفظ أبي داود.
وروى الإمام «٢» أحمد عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة. وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة. ما أطعمت زوجك فهو لك صدقة. وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة. ورواه النسائيّ.
قال الحافظ ابن كثير. وإسناده صحيح ولله الحمد.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال:
لا. قال: فانطلق فأعطهم. فإن رسول الله ﷺ قال: «كفى بالمرء إثما أن يحبس، عمن يملك قوته». رواه مسلم «٣».
وعن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ قال: «للمملوك طعامه وكسوته. ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق». رواه مسلم «٤» أيضا.
وعنه أيضا عن النبيّ ﷺ قال: إذا أتى أحدكم بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله أكلة أو لقمة أو لقمتين. فإنه ولي حرّه وعلاجه. أخرجاه «٥». ولفظه للبخاريّ.
(١) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٢٤- باب في حق المملوك، حديث ٥١٥٦.
وابن ماجة في: الوصايا، ١- باب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حديث ٢٦٩٨.
(٢) أخرجه في المسند ٤/ ١٣١.
(٣) أخرجه في: الزكاة، حديث ٤٠.
(٤) أخرجه في: الإيمان، حديث ٤١. [.....]
(٥) أخرجه البخاريّ في: الأطعمة، ٥٥- باب الأكل مع الخادم، حديث ١٢٥٢.
107
وعن أبي ذرّ رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ قال: هم إخوانكم خولكم. جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم. فإن كلفتموهم فأعينوهم. أخرجاه «١»
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا أي متكبرا عن الإحسان إلى من أمر ببرّه فَخُوراً يعدّد مناقبه كبرا. وإنما خص تعالى هذين الوصفين بالذم، في هذا الموضع، لأن المختال هو المتكبر. وكل من كان متكبرا فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق. ثم أضاف إليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة. بل لمحض أمر الله تعالى.
روى أبو داود «٢» والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: «الكبر من بطر الحق وغمط الناس».
وروى ابن جرير عن أبي رجاء الهرويّ قال. لا تجد سيّئ الملكة (الملكة) إلا وجدته مختالا فخورا. وتلا وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ... الآية ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيّا. وتلا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا [مريم: ٣٢] وقد ورد في ذم الخيلاء والفخر ما هو معروف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣٧]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أي بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به فيما تقدم
(١)
أخرجه البخاري في: الإيمان، ٢٢- باب المعاصي من أمر الجاهلية، حديث ٢٨ ونصه: عن المعرور قال: لقيت أبا ذر في الربذة، وعليه حلة وعلى غلامه حلة. فسألته عن ذلك؟ فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه. فقال لي النبيّ ﷺ «يا أبا ذر! أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية.
إخوانكم خولكم. جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم. فإن كلفتموهم فأعينوهم»
.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٣٨
. (٢)
أخرجه أبو داود في: اللباس، ٢٦- باب ما جاء في الكبر، حديث ٤٠٩٢ ونصه: عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان رجلا جميلا، فقال: يا رسول الله! إني رجل حبّب إليّ الجمال.
أعطيت منه ما ترى. حتى ما أحب أن يفوقني أحد بشراك نعلي (بشسع نعلي) أفمن بالكبر ذلك؟ قال «لا. ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس»
.
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي ولا يكونون سبب الإحسان. بل يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم.
فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ممن وجد. وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره. قال:
وإن امرءا ضنّت يداه على امرئ بنيل يد من غيره، لبخيل
قال الزمخشريّ بعد حكاية ما تقدم: ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل، من إذا طرق سمعه أن أحدا جاد على أحد، شخص به، وحل حبوته واضطرب، ودارت عيناه في رأسه. كأنما نهب رحله، وكسرت خزانته، ضجرا من ذلك وحسرة على وجوده.
انتهى وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي من المال والغنى. فيوهمون الفقر مع الغنى والإعسار مع اليسار والعجز مع الإمكان وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى. ومن كان كافرا بنعمة الله تعالى فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.
فائدة:
قال أبو البقاء: في قوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وجهان: أحدهما- هو منصوب بدل من مَنْ في قوله مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً وجمع على معنى مَنْ ويجوز أن يكون محمولا على قوله مُخْتالًا فَخُوراً وهو خبر كانَ وجمع على المعنى أيضا، أو على إضمار: أذم. والثاني- أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره: مبغضون. ودل عليه ما تقدم من قوله لا يُحِبُّ ويجوز أن يكون الخبر: معذبون. لقوله وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ويجوز أن يكون التقدير: هم الذين. ويجوز أن يكون مبتدأ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ معطوف عليه، والخبر إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ أي يظلمهم.
ثم قال: والبخل والبخل لغتان. وقد قرئ بهما. وفيه لغتان أخريان البخل بضم الخاء والباء، والبخل بفتح وسكون الخاء. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣٨]
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ أي قصد رؤية الخلق إياه، غفلة عن الخالق
109
تقدس، وعماية عنه، ليقال: ما أسخاهم وما أجودهم وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي الذي يتقرب إليه وحده ويتحرى بالاتفاق رضاه وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الذي هو يوم الجزاء وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً معينا في الدنيا فَساءَ قَرِيناً فبئس القرين والصاحب الشيطان. لأنه يضله عن الهدى ويحجبه عن الحق. وإنما اتصل الكلام هنا بذكر الشيطان، تقريعا لهم على طاعته. والمعنى: من يكن عمله بما سول له الشيطان فبئس العمل عمله. ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار.
لطيفة:
قوله تعالى وَالَّذِينَ عطف على الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أو على لِلْكافِرِينَ وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل كالإنفاق رياء، سواء في القبح واستتباع اللائمة والذم. ويجوز أن يكون العطف بناء على إجراء التغاير الوصفيّ مجرى التغاير الذاتيّ. كما في قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أو مبتدأ خبره محذوف. يدل عليه قوله تعالى وَمَنْ يَكُنِ إلخ أي: فقرينهم الشيطان. وإنما حذف للإيذان بظهوره واستغنائه عن التصريح به. أو التقدير: فلا يقبل إحسانهم لأن رياءهم يدل على تفضيلهم الخلق على الله، ورؤيتهم على ثوابه.
وقد روى مسلم «١» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه.
وروى ابن أبي حاتم، في سبب نزول الآية، عن سعيد بن جبير قال: كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم. فأنزل الله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الآية.
وأخرج ابن جرير «٢» من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس، أن رجالا من اليهود
(١) أخرجه مسلم في: الزهد، حديث ٤٦.
(٢) الأثر ٩٥٠١ من التفسير وهذا نصه: عن ابن عباس قال: كان كردم بن زيد، حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحييّ بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالا من الأنصار- وكانوا يخالطونهم وينتصحون لهم- من أصحاب رسول الله ﷺ فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم. فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها. ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون. فأنزل الله فيهم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ
110
كانوا يأتون رجالا من الأنصار ينتصحون لهم. فيقولون: لا تنفقوا أموالكم. فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها. ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون.
فأنزل الله فيهم: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ. الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٣٩]
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ أي فلم يرجحوا الخلق عليه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بالبعث والجزاء فلم يرجحوا تعظيمهم وحطامهم على ثوابه وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أعطاهم الله من المال، أي طلبا لرضاه وأجر آخرته.
قال العلامة أبو السعود: وإنما لم يصرح به تعويلا على التفصيل السابق، واكتفاء بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر. فإنه يقتضي أن يكون الإنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة. أي: وما الذي عليهم. أو: وأيّ تبعة ووبال عليهم في الإيمان بالله والإنفاق في سبيله؟ وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة، والاعتقاد في الشيء بخلاف ما هو عليه، وتحريض على التفكر لطلب الجواب. لعله يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة. وتنبيه على أن المدعوّ إلى أمر لا ضرر فيه يجيب إليه احتياطا. فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى.
وتقديم الإيمان بهما، لأهمّيّته في نفسه، ولعدم الاعتداد بالإنفاق بدونه. وأما تقديم (إنفاقهم رئاء الناس) على عدم إيمانهم بهما، مع كون المؤخر أقبح من المقدم، فلرعاية المناسبة بين إنفاقهم ذلك وبين ما قبله من بخلهم وأمرهم للناس به. انتهى وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً وعيد لهم بالعقاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي لا يبخس أحدا من ثواب عمله ولا يزيد في
وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي من النبوة (من التوراة، كما في ابن هشام) التي فيها تصديق ما جاء به محمد ﷺ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً إلى قوله وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً.
111
عقابه شيئا مقدار ذرة، وهي النملة الصغيرة، في قول أهل اللغة. قال ثعلب: مائة من الذر زنة حبة شعير. وهذا مثل ضربه الله تعالى لأقل الأشياء. والمعنى: إن الله تعالى لا يظلم أحدا شيئا، قليلا ولا كثيرا. فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها أي وإن تك مثقال ذرة حسنة يضاعف ثوابها. وإنما أنث ضمير المثقال لتأنيث الخبر. أو لإضافته إلى الذرة وَيُؤْتِ أي زيادة على الأضعاف مِنْ لَدُنْهُ مما يناسب عظمته على نهج التفضل أَجْراً عَظِيماً أي عطاء جزيلا. وقد ورد في معنى هذه الآية أحاديث كثيرة. منها ما
في الصحيحين «١» عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله ﷺ في حديث الشفاعة الطويل: وفيه: فيقول الله عز وجل:
ارجعوا. فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار.
وفي لفظ: أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار. فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقول أبو سعيد: اقرؤا إن شئتم إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ.
وقد روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة. أي بحسنته. ولا يخرج من النار أبدا.
قال الحافظ ابن كثير: وقد يستدل له
بالحديث الصحيح «٢»
إن العباس قال: يا رسول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم.
هو في ضحضاح من نار. ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.
وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار. بدليل ما
رواه أبو داود «٣» الطيالسيّ في مسنده عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة. يثاب عليها الرزق في الدنيا. ويجزي بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا. فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة.
انتهى.
ورواه مسلم «٤» أيضا عن أنس أيضا مرفوعا. ولفظه: إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسنات ما
(١) هذا حديث الشفاعة الطويل أخرجه البخاريّ في: التوحيد، ٢٤- باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، حديث ٢١.
ومسلم في: الإيمان، حديث ٣٠٢.
(٢) أخرجه البخاري في: الأدب، ١١٥- باب كنية المشرك، حديث ١٨١٤.
ومسلم في: الإيمان، حديث ٣٥٧.
(٣) الحديث رقم ٢٠١١.
(٤) أخرجه في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٥٦.
112
عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يجزى بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤١]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١)
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً قال الرازيّ:
وجه النظم هو أنه تعالى بيّن أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه. فبيّن تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسيء أبلغ. والتبكيت له أعظم. وحسرته أشد. ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم. ويكون هذا وعيدا للكفار الذين قال الله فيهم إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ووعدا للمطيعين الذين قال الله فيهم وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها.
ثمن قال: من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه: كيف بك إذا كان كذا وكذا، وإذا فعل فلان كذا، أو إذا جاء وقت كذا؟ فمعنى هذا الكلام:
كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها. واستشهدك على هؤلاء. يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم. ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم. وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السّلام: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة: ١١٧] ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [النحل: ٨٩]. إلخ.
وروى الشيخان «١» وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ. فقلت: يا رسول الله؟ أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم. إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء. حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. فقال: حسبك الآن. فإذا عيناه تذرفان.
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٩- باب فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، حديث ١٩٩٠.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٢٤٧- ٢٤٩.
زاد مسلم: شهيدا ما دمت فيهم. أو قال ما كنت فيهم
. شك أحد رواته.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود في هذه الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شهيد عليهم ما دمت فيهم. فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٢]
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة يَوَدُّ أي يتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وَعَصَوُا الرَّسُولَ بالإجابة لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يهلكون فيها. أي يدفنون. فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. إذ هو أعزّ لهم من الهوان الذي يلحقهم من فضائحهم. كقوله: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ...
الآية. ف (تسوّى) بمعنى: تجعل مستوية. والباء للملابسة. أي تسوى الأرض متلبسة بهم. وقيل: الباء بمعنى (على) وفي (الدر المصون) : وتسوية الأرض بهم أو عليهم: دفنهم. أو أن تنشق وتبلعهم. أو أنهم يبقون ترابا على أصلهم من غير خلق. وقوله تعالى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً عطف على (يود) أي ويعترفون بجميع ما فعلوه لا يقدرون على كتمانه. لأن جوارحهم تشهد عليهم. أو (الواو) للحال. أي يودون أن يدفنوا في الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثا. ولا يكذبونه بقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. كما روى ابن جرير «١» عن الضحاك أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس! قول الله تعالى. وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. وقوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت:
ألقي على ابن عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد. فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده. فيقولون (تعالوا نقل). فيسألهم فيقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. قال فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم- جوارحهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك تمنّوا لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثا.
وروى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير نحو ما تقدم. واعتمده الإمام أحمد في
(١) الأثر ٩٥٢٢ من التفسير.
كتاب (الرد على الجهمية) في باب (بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن) وساق مثل ما تقدم عن ابن عباس. ثم قال: فهذا تفسير ما شكّت فيه الزنادقة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر في جماعة كانوا يشربونها ثم يصلّون. أي من مقتضى إيمانكم الحياء من الله. ومن الحياء منه أن لا تقوموا إلى الصلاة وأنتم سكارى لا تعلمون ما تخاطبونه. فالحياء من الله يوجب ذلك. وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه، للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي. وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة، مع أن المراد هو النهي عن إقامتها، للمبالغة في ذلك.
قال الحافظ ابن كثير: كان هذا النهي قبل تحريم الخمر. كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: ٢١٩]. الآية. فإن رسول الله ﷺ تلاها على عمر. فقال: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه. فقال: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات. حتى نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:
٩٠- ٩١]. فقال عمر: انتهينا. انتهينا.
ولفظ أبي داود «١» عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث.
وفيه: نزلت الآية التي في النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. فكان منادي رسول الله ﷺ إذا قامت الصلاة، ينادي: لا يقربن الصلاة سكران.
(١) أخرجه في: الأشربة، ١- باب في تحريم الخمر، حديث ٣٦٧٠.
115
وروى ابن أبي شيبة وابن حاتم عن سعد رضي الله عنه قال: نزلت فيّ أربع آيات:
صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار. فأكلنا وشربنا حتى سكرنا. ثم افتخرنا. فرفع رجل لحى بعير فغرز بها أنف سعد فكان سعد مغروز الأنف وذلك قبل تحريم الخمر. فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. الآية. والحديث بطوله عند مسلم «١» ورواه أهل السنن إلا ابن ماجة.
وروى أبو داود «٢» والنسائيّ عن عليّ رضي الله عنه، أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر. فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ.
فخلط فيها. فنزلت: لا تَقْرَبُوا. الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن عليّ رضي الله عنه: قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر. فأخذت الخمر منا. وحضرت الصلاة. فقدموا فلانا. قال: فقرأ قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون. فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا. الآية. وكذا رواه الترمذي «٣» وقال: حسن صحيح وَلا جُنُباً عطف على قوله وَأَنْتُمْ سُكارى إذ الجملة في موضع النصب على الحال. والجنب الذي أصابته الجنابة. يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع. لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي مارّين بلا لبث حَتَّى تَغْتَسِلُوا من الجنابة: أي لا تقربوا موضع الصلاة، وهو المسجد، وأنتم جنب، إلا مجتازين فيه. إما للخروج منه أو للدخول فيه.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في معنى الآية قال: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل. قال: تمر به مرّا، ولا تجلس. ثم رواه عن كثير من الصحابة.
منهم ابن مسعود وثلة من التابعين.
وروى ابن جرير «٤» عن الليث قال حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن قول الله عز وجل: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ. أن رجالا من المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عنهم فيريدون الماء. ولا يجدون ممرا إلا في المسجد. فأنزل الله تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ.
(١) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث ٤٣. [.....]
(٢) أخرجه في: الأشربة، ١- باب تحريم الخمر، حديث ٣٦٧١.
(٣) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٢- حدثنا سويد.
(٤) الأثر رقم ٩٥٦٧ من التفسير.
116
قال الحافظ ابن كثير: ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله، ما
ثبت في صحيح البخاري «١» أن رسول الله ﷺ قال: سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر
. وهذا قاله ﷺ في آخر حياته. علما منه أن أبا بكر. رضي الله عنه سيلبي الأمر بعده ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين. فأمر بسد الأبواب الشارعة. إلى المسجد إلا بابه رضي الله عنه ومن روى: إلا باب عليّ، كما وقع في بعض السنن، فهو خطأ والصواب ما ثبت في الصحيح.
ومن هذا التأويل احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد. ويجوز له المرور. وثمة تأويل آخر في قوله تعالى إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وهو أن المراد منه المسافرون. أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين. فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء.
وقد روى ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش عن عليّ في هذه الآية، قال: لا يقرب الصلاة لا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء، فيصلي حتى يجد الماء.
ثم
رواه من وجه آخر عن عليّ: ورواه عن جماعة من السلف أيضا: أنه في السفر.
قال ابن كثير: ويستشهد لهذا القول
بالحديث الذي رواه الإمام أحمد «٢» وأهل
(١)
أخرجه البخاريّ في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ٣- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر»، حديث ٣١١ ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: خطب رسول الله ﷺ الناس، وقال: «إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله» قال فبكى أبو بكر. فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله ﷺ عن عبد خير، فكان رسول الله ﷺ هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر. ولكن أخوّة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد بابا إلا سدّ. إلا باب أبي بكر»
. (٢)
أخرجه في المسند ٥/ ١٤٦. وهاكموه بنصه لنفاسته: عن رجل من بني عامر قال: كنت كافرا فهداني الله للإسلام. وكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة. فوقع ذلك في نفسي.
وقد نعت لي أبو ذر. فحججت فدخلت مسجد منى، فعرفته بالنعت. فإذا شيخ معروق آدم عليه حلة قطري. فذهبت حتى قمت إلى جنبه وهو يصلي. فسلمت عليه فلم يرد علي. ثم صلى صلاة أتمها وأحسنها وأطالها. فلما فرغ ردّ عليّ. قلت: أنت أبو ذر؟ قال: إن أهلي ليزعمون ذلك. قال: كنت كافرا فهداني الله للإسلام وأهمني ديني، وكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة. فوقع ذلك في نفسي. قال: أتعرف أبا ذر؟ قلت: نعم. قال: فإني اجتويت المدينة، فأمر لي رسول الله ﷺ بذود من إبل وغنم. فكنت أكون فيها. فكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة. فوقع
117
السنن عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصعيد الطيب طهور المسلم. وإن لم تجد الماء عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسّه بشرتك فإن ذلك خير لك.
وفي هذا التأويل بقاء لفظ الصلاة على معناه الحقيقيّ في الجملتين المتعاطفتين. وفي التأويل السابق تكون الصلاة، في الجملة الثانية محمولة على مواضعها.
قال في (فتح البيان) : وبالجملة، فالحال الأولى أعني قوله وَأَنْتُمْ سُكارى تقوّي بقاء الصلاة على معناه الحقيقي، من دون تقدير مضاف. وسبب نزول الآية السابق يقوّي ذلك. وقوله إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يقوّي تقدير المضاف. أي لا تقربوا مواضع الصلاة. ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي (أعني لا تقربوا وهو قوله:
وَأَنْتُمْ سُكارى) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقيّ. وبعض قيود النهي (وهو قوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) يدل على أن المراد مواضع الصلاة. ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه. ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد. وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى. ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب. وغاية ما يقال في هذا إنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز. وهو جائز بتأويل مشهور.
وقال ابن جرير «١» (بعد حكايته للتأويلين) : وأولى القولين بالتأويل لذلك، تأويل من تأوله وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ، إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدم الماء. وهو جنب، في قوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ إلى آخره. فكان معلوما بذلك أن قوله وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا لو كان معنيّا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ معنى مفهوم. وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد
في نفسي أني قد هلكت. فقعدت على بعير منها. فانتهيت إلى رسول الله ﷺ نصف النهار وهو جالس في ظل المجلس في نفر من أصحابه فنزلت عن البعير وقلت: يا رسول الله! هلكت. قال «وما أهلكك» ؟ فحدثته فضحك. فدعا إنسانا من أهله. فجاءت جارية سوداء بعسّ فيه ماء، ما هو بملآن، إنه ليتخضخض. فاستترت بالبعير. فأمر رسول الله ﷺ رجلا من القوم فسترني. فاغتسلت ثم أتيته.
فقال «إن الصعيد الطيّب طهور، ما لم تجد الماء، ولو إلى عشر حجج. فإذا وجدت الماء فأمسّ بشرتك».
(١) تفسير ابن جرير، ٨/ ٣٨٤.
118
للصلاة، مصلين فيها، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل.
قال: و (العابر السبيل) المجتازه مرّا وقطعا. يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا. ومه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه. ومنه قيل، للناقة القوية على الأسفار: هي عبر أسفار. وعبر أسفار، لقوتها على الأسفار.
قال ابن كثير: وهذا الذي نصره (يعني ابن جرير) هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية. وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها. وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا، والله أعلم.
وقوله تعالى حَتَّى تَغْتَسِلُوا غاية للنهي عن قربان الصلاة ومواضعها، حال الجنابة. والمعنى: لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا. إلا حال عبوركم السبيل.
تنبيهات:
الأول- في الآية تحريم الصلاة على السكران حال سكره حتى يصحو.
وبطلانها وبطلان الاقتداء به. وعلى الجنب حتى يغتسل إلا أن يكون مسافرا. فيباح له التيمم.
الثاني- تمسك بالآية من قال: إن طلاق السكران لا يقع لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد. وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور والمزنيّ واختاره الطحاويّ. والمسألة مبسوطة في (زاد المعاد) للإمام ابن القيّم.
الثالث- في الآية دليل على أن ردة السكران ليست بردة: لأن قراءة سورة الكافرين، بطرح اللاءات، كفر. ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان. وما أمر النبيّ ﷺ بالتفريق بينه وبين امرأته. ولا بتجديد الإيمان. ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئا، لا يحكم بكفره. قاله النسفيّ.
الرابع- استدل بأحد التأويلين السابقين على تحريم دخول المسجد على السكران. لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول. فيقاس به كل ذي نجاسة يخشى منها التلويث والسباب ونحوه. كذا في (الإكليل).
الخامس- استدل ابن الفرس بتوجيه الخطاب لهم في الآية على تكليف
119
السكران ودخوله تحت الخطاب. وفيه نظر. لأن الخطاب عام لكل مؤمن. وعلى تقدير أنه قصد به الذين صلوا في حال السكر، فإنما نزل بعد صحوهم. كذا في (الإكليل).
السادس- في قوله تعالى حَتَّى تَغْتَسِلُوا رد على من أباح جلوس الجنب مطلقا إذا توضأ. لأن الله تعالى جعل غاية التحريم الغسل. فلا يقوم مقامه الوضوء.
كذا في (الإكليل).
أقول: إنما يكون هذا حجة لو كانت الآية نصّا في تأويل واحد. وحيث تطرق الاحتمال لها، على ما رأيت، فلا.
وقد تمسك المبيح، وهو الإمام أحمد، بما روى هو وسعيد بن منصور في (سننه) بسند صحيح، أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك.
قال سعيد بن منصور في (سننه) : حدثنا عبد العزيز بن محمد، هو الدراورديّ، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضؤوا وضوء الصلاة.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
السابع- قال العلامة أبو السعود: لعل تقديم الاستثناء على قوله حَتَّى تَغْتَسِلُوا للإيذان، من أول الأمر، بأن حكم النهي في هذه الصورة ليس على الإطلاق، كما في صورة السكر، تشويقا إلى البيان، وروما لزيادة تقرره في الأذهان.
الثامن- قال أيضا: في الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يليه ويشغل قلبه، وأن يزكي نفسه عما يدنسها، ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية، عند إمكان أعاليها.
التاسع- أشعر قوله تعالى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ بالنهي عن الصلاة حال النعاس. كما
روى الإمام أحمد والبخاريّ «١» والنسائيّ عن أنس قال: قال رسول الله
(١)
أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٥٣- باب الوضوء من النوم، حديث ١٦٤ ونصه: عن النبيّ ﷺ قال «إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ».
وهذا نص
حديث عائشة الذي أخرجه البخاريّ في الباب نفسه، حديث ١٦١. «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه».
وقريب منه في المسند ٦/ ٥٦.
120
صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول».
وفي رواية: فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه.
وقد روى ابن جرير عن الضحاك في الآية قال: لم يعن بها سكر الخمر. وإنما عنى بها سكر النوم.
قال ابن جرير: والصواب أن المراد سكر الشراب.
قال الرازيّ: ويدل عليه وجهان:
الأول- أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر. والأصل في الكلام الحقيقة.
والثاني- أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر. وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة، ولأجل سبب معين، امتنع أن لا يكون ذلك السبب مرادا بتلك الآية.
العاشر- قال الحافظ ابن كثير: قد يحتمل أن يكون المراد من الآية التعريض بالنهي عن السكر بالكلية. لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات، من الليل والنهار. فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما. والله أعلم.
وعلى هذا فيكون كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢]. وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام، والمداومة على الطاعة لأجل ذلك. انتهى.
الحادي عشر- قال الرازيّ: قال بعضهم: هذه الآية، أي لا تَقْرَبُوا إلخ منسوخة بآية المائدة. وأقول: الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أن يقال: نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول. والحكم الممدود إلى غاية، يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية. فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول. ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة، فقد رفع هذا الجواز. فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية. هذا ما حضر ببالي في تقرير هذا النسخ.
والجواب عنه: أنا بيّنا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة. وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إلا على سبيل الظن الضعيف. ومثل هذا لا يكون نسخا. انتهى.
121
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أي ولم تجدوا بقربكم ماء تستعملونه. ومنه فقد من يناوله إياه، أو خشيته الضرر به أَوْ عَلى سَفَرٍ لا تجدونه فيه أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي أو كنتم محدثين. والغائط هو المكان المنخفض. فالمجيء منه كناية عن الحدث.
لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.
قال الخازن: كانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث. فكنوا به عن الحدث.
وذلك أن الرجل منهم، كان إذا أراد قضاء الحاجة، طلب غائطا من الأرض، يعني مكانا منخفضا منها يحجبه عن أعين الناس. فسمي الحدث بهذا الاسم. فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه. انتهى. وإسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين دونهم، للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به. كذا قاله أبو السعود. ثم قال: وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز وجل أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ على التصريح بالجماع. قال الشهاب: وفي ذكر (أحد) دون غيره إشارة إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه فَلَمْ تَجِدُوا ماءً قال المهايميّ: أي فلا تستحيوا من الله، بل اعتذروا إليه فَتَيَمَّمُوا أي اقصدوا صَعِيداً أي ترابا أو وجه الأرض طَيِّباً أي طاهرا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تعليل للترخيص والتيسير، وتقرير لهما. فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين، لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا. وفي هذه الآية مسائل:
الأول- الظاهر أن قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا راجع إلى جميع ما قبلها وحينئذ لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء. وأما ما قيل أنه راجع إلى قوله تعالى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ لأنه قد وجد المانع هاهنا من تقييد السفر والمرض، بعدم الوجود للماء، وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الموضع كالصوم- فلا يفيد. لأن عدم الوجود معتبر فيهما لإباحة التيمم قطعا. إذ ليس السفر بمجرده مبيحا. وكذلك المرض. وأما ما يقال من أنه قد يباح للمريض التيمم مع وجود الماء إذا خشي الضرر به، فعدم الوجود في حقه إذن غير قيد.
فالجواب: أن هذا داخل تحت عدم الماء لأن من تعذر عليه استعماله هو، عادم له، إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع. فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر، يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه، فهو عادم له. وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء. وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له. ولئن سلمنا، تنزلا، أن المراد مطلق الوجود فنقول: المدعي أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء.
122
وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده لعارض يمنعه من الماء. فإن قيل:
من أين تستدلون حينئذ على إباحة تيممه؟ قلنا: من التحقيق الذي ذكرناه وهو أن المتعذر استعماله معدوم شرعا وكذا من قوله تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] وقوله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] وقوله وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: ٧٨]، ومما
أخرجه أبو داود «١» وابن ماجة والدّارقطنيّ من حديث جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر. فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبيّ ﷺ أخبر بذلك. فقال: قتلوه، قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟
فإنما شفاء العيّ السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر (ويعصب) على جرحه، ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده.
ومما
رواه أحمد وأبو داود «٢» وابن حبان والحاكم والدّارقطنيّ عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت، أن أهلك. فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح.
فذكروا ذلك للنبيّ ﷺ فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئا
. فهذا وما قبله يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر.
قال مجد الدين ابن تيمية: في حديث عمرو، من العلم، أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة. انتهى.
وقد روى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى قال:
نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ. ولم يكن له خادم فيناوله. فأتى النبيّ ﷺ فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.
قال ابن كثير: هذا مرسل.
الثانية- ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة، هو المعتبر في تسويغ التيمم. كما هو الظاهر من الآية. لا عدم الوجود مع طلب
(١) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٥- باب في المجروح يتيمم، حديث ٣٣٦.
(٢) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٢٤- باب إذا خاف الجنب البرد، أيتيمم؟ حديث ٣٣٤.
123
مخصوص، كما قيل: إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم. إذ لا دليل على ذلك. فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة، وأراد المصلي القيام إليها فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به، أو يغتسل في منزله أو مسجده، أو ما يقرب منهما، كان ذلك عذرا مسوّغا للتيمم.
فليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإحفاء السؤال.
بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه. فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة. والواجب حمل كلام الله تعالى على ذلك، مع عدم وجود عرف شرعيّ. وقد وقع منه ﷺ ما يشعر بما ذكرناه. فإنه تيمم في المدينة من جدار. كما ثبت ذلك في الصحيحين «١» من دون أن يسأل ويطلب. ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة. فهذا، كما يدل على وجوب الطلب، يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت، ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر ثم وجدا الماء. فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر:
فقال ﷺ للذي لم يعد: أصبت السنة. أخرجه أبو داود «٢» والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد.
فإنه يردّ قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم. سواء كان مسافرا أو مقيما. كذا في (الروضة الندية).
الثالثة- دلت الآية على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم. طال سفره أو قصر.
الرابعة- قرئ في السبع (لامستم ولمستم) والملامسة واللمس يردان، لغة، بمعنى الجس باليد، وبمعنى الجماع. قال المجد في (القاموس) لمسه يلمسه
(١) أخرجه البخاريّ في: التيمم، ٣- باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء، حديث ٢٣٢ ونصه:
عن حميد الأعرج، قال: سمعت عميرا مولى ابن عباس، قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار، مولى ميمونة، زوج النبيّ ﷺ حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاريّ. فقال أبو الجهيم: أقبل النبيّ ﷺ من نحو بئر جمل. فلقيه رجل فسلّم عليه. فلم يردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم. حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السّلام.
وأخرجه مسلم في: الحيض، حديث ١١٤.
(٢)
أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٦- باب المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي في الوقت، حدث ٣٣٨ ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء.
فتيمما صعيدا طيبا. فصليا. ثم وجدا الماء في الوقت. فأعاد أحدهم الصلاة والوضوء. ولم يعد الآخر. ثم أتيا رسول الله ﷺ فذكرا ذلك له. فقال للذي لم يعد «أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك» وقال للذي توضأ وأعاد «لك الأجر مرتين».
124
ويلمسه: مسّه بيده. والجارية جامعها. ثم قال: والملامسة المماسة والمجامعة.
ومن ثمة اختلف المفسرون والأئمة في المعنيّ بذلك هنا. فمن قائل بأن اللمس حقيقة في الجس باليد، مجاز في غيره. والأصل حمل الكلام على حقيقته لأنه الراجح، لا سيما على قراءة (لمستم) إذ لم يشتهر في الوقاع كالملامسة. وروي عن ابن مسعود من طرق متعددة أنه قال «١» : الملامسة ما دون الجماع. وعنه «٢» : القبلة من المس وفيها الوضوء. رواهما ابن جرير.
وروى الطبرانيّ بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال: يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة. وكان يقول في هذه الآية أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ: هو الغمز.
وروى ابن جرير «٣» عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة. ويرى فيها الوضوء. ويقول: هي من اللّماس. وذكر ابن أبي حاتم أنه روي عن كثير من التابعين نحو ذلك. قالوا: ومما يؤيد بقاء اللمس على معناه الحقيقيّ قوله تعالى وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام: ٧] أي جسّوه.
وقال ﷺ «٤»
لماعز، حين أقر بالزنى، يعرّض له بالرجوع عن الإقرار: «لعلك قبلت أو لمست» ؟
وفي الحديث الصحيح «٥» : واليد زناها اللمس.
وقالت عائشة «٦» : قلّ يوم إلا ورسول
(١) الأثر رقم ٩٦٠٦.
(٢) الأثر رقم ٩٦٠٧. [.....]
(٣) الأثر رقم ٩٦١٧.
(٤)
أخرجه البخاريّ في: الحدود، ٢٨- باب قول الإمام للمقرّ: لعلك لمست أو غمزت؟ حديث ٢٥١٦ ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما أتى ماعز بن مالك النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال له «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟» قال: لا، يا رسول الله! قال «أنكتها» ؟ لا يكنى. قال فعند ذلك أمر برجمه.
(٥)
أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٣٤٩، ونصه: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «كل ابن آدم أصاب من الزنى لا محالة. فالعين زناها النظر، واليد زناها اللمس. والنفس تهوى وتحدث. ويصدق ذلك ويكذبه الفرج»
. (٦)
أخرجه الإمام أحمد في المسند ٦/ ١٠٨. ونصه: عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما من يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا، امرأة امرأة. فيدنو ويلمس من غير مسيس. حتى يفضي إلى التي هو يومها، فيبيت عندها
.
125
الله ﷺ يطوف علينا. فيقبل ويلمس.
ومنه ما
ثبت في الصحيحين «١» : أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الملامسة.
وهو يرجع إلى الجس باليد. واستأنسوا أيضا
بالحديث الذي رواه أحمد «٢» عن معاذ أن رسول الله ﷺ أتاه رجل فقال: يا رسول الله! ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها. قال فأنزل الله عز وجل هذه الآية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود: ١١٤] الآية. قال فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: توضأ ثم صلّ. قال معاذ: فقلت: يا رسول الله! أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال: بل للمؤمنين عامة.
ورواه الترمذيّ «٣»
وقال: ليس بمتصل. والنسائيّ مرسلا. قالوا: فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها.

فصل


ومن قائل: إن المعنيّ باللمس هنا الجماع. وذلك لوروده في غير هذه الآية بمعناه. فدل على أنه من كنايات التنزيل. قال تعالى وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: ٢٣٧]. وقال تعالى إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب: ٤٩]. وقال في آية الظهار فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة: ٣]. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قال: الجماع. وروى ابن جرير»
عنه. قال: إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع. ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء. وقد صح من غير وجه عن ابن عباس أنه قال ذلك. وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره، لاستجابة دعوة الرسول ﷺ فيه بتعليمه تأويل الكتاب «٥». كما أسلفنا بيان ذلك في مقدمة التفسير. ويؤيد عدم النقض بالمس ما
رواه مسلم «٦» والترمذيّ وصححه عن عائشة
(١)
أخرجه البخاريّ في: البيوع، ٦٢- باب بيع الملامسة، حديث ٢٤٣ ونصه: عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ نهى عن المنابذة
، وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلّبه أو ينظر إليه. ونهى عن الملامسة. والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه.
(٢) أخرجه في المسند ٥/ ٢٤٤.
(٣) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ١١- سورة هود، ٥- حدثنا عبد بن حميد.
(٤) الأثر رقم ٩٥٨١.
(٥)
أخرجه البخاريّ في: العلم، ١٧- باب قول النبيّ ﷺ «اللهم علمه الكتاب». حديث ٦٥ ونصه:
عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله ﷺ وقال: «اللهم علمه الكتاب»
. (٦) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ٢٢٢.
126
قالت: فقدت رسول الله ﷺ ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد. وهما منصوبتان. وهو يقول: «اللهم! إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
وروى «١» النسائيّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله ﷺ ليصلي وإني لمعترضته بين يديه اعتراض الجنازة. حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله.
قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص) : إسناده صحيح. وقوله في (الفتح) :
يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به صلى الله عليه وسلم، تكلف، ومخالفة للظاهر.
وعن إبراهيم التيميّ عن عائشة رضي الله عنها. أن النبيّ ﷺ كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ. رواه أبو داود «٢» والنسائيّ
: قال أبو داود: هو مرسل.
إبراهيم التيميّ لم يسمع من عائشة. وقال النسائيّ: ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلا. وصححه ابن عبد البر وجماعة. وشهد له ما تقدم وما
رواه الطبرانيّ في المعجم الصغير من حديث عمرة عن عائشة قالت: فقدت رسول الله ﷺ ذات ليلة. فقلت: إنه قام إلى جاريته مارية. فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائما يصلي. فأدخلت يدي في شعره لأنظر: أغتسل أم لا؟ فلما انصرف قال: أخذك شيطانك يا عائشة
. وفيه محمد بن إبراهيم عن عائشة. قال ابن أبي حاتم: ولم يسمع منها.
قال ابن جرير «٣» : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ الجماع دون غيره من معاني اللمس. لصحة الخبر عن رسول الله ﷺ أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ. ثم أسنده من طرق. وبه يعلم أن حديث عائشة قرينة صرفت إرادة المعنى الحقيقيّ من اللمس، وأوجبت المصير إلى معناه المجازيّ. وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود، فنحن لا ننكر صحة إطلاق
(١) أخرجه النسائيّ في: الطهارة، ١١٩- باب ترك الوضوء من مسّ الرجل امرأته من غير شهوة.
(٢) رواه أبو داود في: الطهارة، ٦٨- باب الوضوء من القبلة، حديث ١٧٨ ونصه: عن عائشة أن النبيّ ﷺ قبلها ولم يتوضأ.
والنسائي في: الطهارة، ١٢١- باب ترك الوضوء من القبلة. ونصه نص المتن.
(٣) التفسير ٨/ ٣٩٦.
127
اللمس على الجسّ باليد. بل هو المعنى الحقيقيّ. ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز. وأما قولهم: بأن القبلة فيها الوضوء، فلا حجة في قول الصحابيّ. لا سيما إذا وقع معارضا لما ورد عن الشارع. ويؤيد ذلك قول اللغويين. أن المراد بقول بعض الأعراب للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن امرأته لا تردّ يد لامس، الكناية عن كونها زانية. ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم: طلقها.
وأما حديث معاذ الذي استأنسوا به فلا دلالة فيه على النقض. لأنه لم يثبت أنه كان متوضئا قبل أن يأمره النبيّ ﷺ بالوضوء. ولا ثبت أنه كان متوضئا عند اللمس، فأخبره النبيّ ﷺ أنه قد انتقض وضوؤه كذا في (نيل الأوطار).
وقال ابن كثير: هو منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ. فإنه لم يلقه. ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة المكتوبة، كما تقدم في حديث الصديق «١» : ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له. وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران: ١٣٥] الآية.
الخامسة- التيمم، لغة، القصد. يقال: تيممته وتأممته ويممته وآممته أي قصدته. وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد. قال الزجاج: الصعيد وجه الأرض، ترابا كان أو غيره. لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك. وفي (المصباح) الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي على وجه الأرض وعلى وجه الأرض. وعلى الطريق وفي (القاموس) : الصعيد التراب أو وجه الأرض.
قال الأزهريّ: ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد من قوله تعالى صَعِيداً طَيِّباً هو التراب. انتهى.
واحتجوا بما
في صحيح مسلم «٢» عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله ﷺ فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا. وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء.
وفي لفظ: وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء
. قالوا: فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان.
فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه. قالوا: وحديث جابر «٣» المتفق عليه: جعلت
(١) أخرجه أبو داود في: الصلاة، ٢٦- باب في الاستغفار، حديث ١٥٢١. [.....]
(٢) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٤.
(٣)
أخرجه البخاريّ في: التيمم، ١- باب قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، حديث ٢٣١، ونصه: عن جابر أن النبيّ ﷺ قال: «أعطيت
128
لي الأرض مسجدا وطهورا، خصصه ما قبله لأن الخاص يحمل عليه العام. واحتجوا أيضا بأن الطيّب لا يكون إلا ترابا. قال الواحديّ: إنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيّبا. والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله تعالى وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: ٥٨] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة.
فكان قوله فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أمرا بالتيمم بالتراب فقط. وظاهر الأمر للوجوب.
واحتجوا أيضا بآية المائدة. قالوا: الآية هاهنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيّدة وهي قوله سبحانه وتعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: ٦] وكلمة (من) للتبعيض وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.
قال الزمخشريّ: وقولهم إن (من) لابتداء الغاية، قول متعسف. ولا يفهم أحد من العرب، من قول القائل: (مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب) إلا معنى التبعيض. ثم قال: والإذعان للحق أحق من المراء. انتهى.
وأجاب القائلون، بجواز التيمم بالأرض وما عليها، عن هذه الحجج- بأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض لأنه ما صعد أي علا وارتفع على وجه الأرض.
وهذه الصفة لا تختص بالتراب. ويؤيد ذلك
حديث: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا.
وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره. وما
ثبت في رواية بلفظ (وتربتها طهورا) كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة
- فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء. لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية. وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة. ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول. فيكون ذكر التراب، في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام. وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث. ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة. ويؤيد هذا ما ثبت من تيممه ﷺ من جدار. وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا ترابا طاهرا منبتا لقوله تعالى
خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ. وأحل لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٣
.
129
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: ٥٨]- فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيّب بما ذكر. والضرورة تدفعه. فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجا للنبات. كذا في (الروضة الندية).
وأما الاستدلال بآية المائدة وظهور التبعيض في (من) فذاك إذا كان الضمير عائدا إلى الصعيد.
قال الناصر في (الانتصاف) : وثمة وجه آخر وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى آخرها فإن المفهوم منه: وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال: سفر أو مرض، أو مجيء من الغائط، أو ملامسة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث، فتيمموا منه. يقال: تيممت من الجنابة. قال: وموقع (من) على هذا مستعمل متداول. وهي على هذا الإعراب إما للتعليل أو الغاية. وكلاهما فيها متمكن. والله أعلم.
السادسة- أفاد قوله تعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أن الواجب في التيمم عن وضوء أو غسل هو مسح الوجه واليدين فقط. وهذا إجماع. إلا أن في اليدين مذاهب للأئمة. فمن قائل بأنهما يمسحان إلى المرفقين، لأن لفظ اليدين يصدق في إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين. كما في آية الوضوء. وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما. وقالوا:
وحمل ما أطلق هاهنا، على ما قيد في آية الوضوء، أولى لجامع الطهورية.
وروى الشافعيّ عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن ابن الصمة قال: مررت على النبي ﷺ وهو يبول. فسلمت عليه فلم يرد عليّ. حتى قام إلى الجدار فحتّه بعصا كانت معه. ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه.
ثم رد عليّ.
وهذا الحديث منقطع. لأن الأعرج، وهو عبد الرحمن بن هرمز، لم يسمع هذا من ابن الصمة. وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة. وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال: دخلنا على أبي جهيم بن الحارث. فقال أبو جهيم: أقبل رسول الله ﷺ من نحو بئر جمل. فلقيه رجل فسلم عليه. فلم يردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل على الجدار. فوضع يده على الحائط. فمسح بوجهه ويديه. ثم ردّ عليه السلام.
130
ولأبي داود «١» عن نافع قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس.
فقضى ابن عمر حاجته. فكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل على رسول الله ﷺ في سكة من السكك. وقد خرج من غائط أو بول. فسلم عليه فلم يرد عليه. حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه. ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه. ثم رد على الرجل السلام. وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام، إلا أني لم أكن على طهر. وفي رواية: فمسح ذراعيه إلى المرفقين
. فهذا أجود ما في الباب. فإن البيهقيّ أشار إلى صحته. كذا في (لباب التأويل).
قال ابن كثير في حديث أبي داود ما نصه: ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبديّ. وقد ضعفه بعض الحفاظ. ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر.
قال البخاريّ، وأبو زرعة وابن عديّ: هو الصحيح.
وقال البيهقيّ: رفع هذا الحديث منكر.
قال ابن كثير: وذكر بعضهم ما رواه الدّارقطنيّ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين.
ولكن لا يصح. لأن في إسناده ضعفا لا يثبت الحديث به. انتهى.
وذلك لأن فيه عليّ بن ظبيان. قال الحافظ ابن حجر: هو ضعيف، ضعفه القطان وابن معين وغير واحد. وبه يعلم أن ما استدل به على إيجاب الضربتين، مما ذكر، ففيه نظر. لأن طرقها جميعها لا تخلو من مقال. ولو صحت لكان الأخذ بها متعينا لما فيها من الزيادة.

فصل


ذهب الزهريّ إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين. ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال: تمسّحوا وهم مع رسول الله ﷺ بالصعيد لصلاة الفجر.
فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة. ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى. فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم.
أخرجه أبو داود «٢».
(١) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٢- باب التيمم في الحضر، حديث ٣٣٠.
(٢) أخرجه أبو داود: الطهارة، ١٢١- باب التيمم، حديث ٣١٨.
131
قال الحافظ في (الفتح) : وأما رواية الآباط فقال الشافعيّ وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبيّ ﷺ فكل تيمم صح للنبيّ ﷺ بعده فهو ناسخ له. وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به.

فصل


والحق الوقوف في صفة التيمم على ما ثبت في الصحيحين «١» من حديث عمار، من الاقتصار على ضربة واحدة للوجه والكفين.
قال عمار: أجنبت فلم أصب الماء. فتمعكت في الصعيد وصليت. فذكرت ذلك للنبيّ ﷺ فقال: إنما كان يكفيك هكذا. وضرب النبيّ ﷺ بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه
. متفق عليه.
وفي لفظ: إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين. رواه الدّارقطنيّ.
وروى الإمام أحمد وأبو داود «٢» عن عمار بن ياسر أن النبيّ ﷺ قال في التيمم ضربة للوجه واليدين.
وفي لفظ: إن النبيّ ﷺ أمره بالتيمم للوجه والكفين. رواه الترمذيّ «٣»
وصححه.
قال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة. وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة. وأما الجواب عن المتفق عليه من حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب، وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم- فتكلف واضح، ومخالفة للظاهر.
وقد سرى هذا إلى العلامة السنديّ في (حواشي البخاريّ) حيث كتب على
(١)
أخرجه البخاريّ في: التيمم، ٤- باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟ حديث ٢٣٣ ونصه: عن عبد الرحمن بن أبزى قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء. فقال عمّار ابن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر، أنا وأنت. فأما أنت فلم تصلّ. وأما أنا فتمعكت فصليت. فذكرت للنبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال النبيّ ﷺ «إنما كان يكفيك هكذا» فضرب النبيّ ﷺ وأخرجه مسلم في: الحيض، حديث ١١٢.
(٢) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢١- باب التيمم، حديث ٣٢٧.
(٣) أخرجه الترمذيّ في: الطهارة، ١١٠- باب ما جاء في التيمم.
132
حديث عمار ما نصه: قد استدل المصنف (يعني البخاريّ) بهذا الحديث على عدم لزوم الذراعين في التيمم في موضع. وعلى عدم وجوب الضربة الثانية في موضع آخر، وكذا سيجيء في الروايات هذا الحديث أنه ﷺ قدم في هذه الواقعة الكفين على الوجه. فاستدل به القائل لعدم لزوم الترتيب. فلعل القائل بخلاف ذلك يقول: إن هذا الحديث ليس مسوقا لبيان عدد الضربات ولا لبيان تحديد اليد في التيمم ولا لبيان عدم لزوم الترتيب. بل ذلك أمر مفوض إلى أدلة خارجة، وإنما هو مسوق لرد ما زعمه عمار من أن الجنب يستوعب البدن كله، والقصر في قوله: (إنما كان يكفيك) معتبر بالنسبة إليه. كما هو القاعدة أن القصر يعتبر بالنظر إلى زعم المخاطب.
فالمعنى: إنما يكفيك استعمال الصعيد في عضوين: وهما الوجه واليد. وأشار إلى اليد ب (الكف). ولا حاجة إلى استعماله في تمام البدن. وعلى هذا يستدل على عدد الضربات وتحديد اليد ولزوم الترتيب أو عدمه بأدلة أخر. كحديث: التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين. وغير ذلك. فإنه صحيح كما نص عليه بعض الحفاظ. وهو مسوق لمعرفة عدد الضربات وتحديد اليد، فيقدم على غير المسوق لذلك. والله تعالى أعلم. انتهى كلامه.
وقوله: فإنه حديث صحيح، فيه ما تقدم.
وقد قال الإمام ابن القيم في (زاد العماد) في (فصل هديه ﷺ بالتيمم) ما نصه: كان ﷺ يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين. ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين ولا إلى المرفقين. قال الإمام أحمد: من قال: إن التيمم إلى المرفقين فإنما هو شيء زاده من عنده. وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها. ترابا كانت أو سبخة أو رملا. وصح عنه أنه
قال: حيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره
. وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طهور. ولما سافر ﷺ هو وأصحابه في غزوة تبوك، قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماؤهم في غاية القلة. ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب، ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه. مع القطع بأن في المفاوز، الرمال أكثر من التراب. وكذلك أرض الحجاز وغيره. ومن تدبر هذا قطع بأنه كان يتيمم بالرمل. والله أعلم. وهذا قول الجمهور.
وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى، ثم إمرارها إلى المرفق، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى، فيطبقها عليها- فهذا مما يعلم
133
قطعا أن النبيّ ﷺ لم يفعله. ولا علّمه أحدا من أصحابه. ولا أمر به ولا استحسنه.
وهذا هديه. إليه التحاكم. وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة. ولا أمر به. بل أطلق وجعله قائما مقام الوضوء. وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه. انتهى.
السابعة- ذكر هنا الحافظ ابن كثير سبب مشروعية التيمم قال: وإنما ذكرنا ذلك هاهنا، لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة. وبيانه: أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر. والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير. في محاصرة النبيّ ﷺ لبني النضير. وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل. ولا سيما صدرها. فناسب أن يذكر السبب هنا. وبالله الثقة.
قال الإمام أحمد «١» حدثنا ابن نمير حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة. أنها استعارت من أسماء قلادة. فهلكت. فبعث رسول الله ﷺ رجالا في طلبها.
فوجدوها. فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء. فصلوا بغير وضوء. فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عز وجل التيمم. فقال أسيد بن الحضير، لعائشة: جزاك الله خيرا. فو الله! ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا.
(طريق أخرى)
قال البخاريّ «٢» : حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة زوج النبيّ ﷺ قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره: حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله ﷺ على التماسه. وأقام الناس معه. وليسوا على ماء.
وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟
أقامت برسول الله ﷺ وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر، ورسول الله ﷺ واضع رأسه على فخذي، قد نام. فقال: حبست رسول الله ﷺ والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. فجعل يطعنني بيده في خاصرتي. فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله ﷺ على فخذي. فقام رسول الله ﷺ حتى أصبح على غير ماء.
فأنزل الله آية التيمم. فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
(١) أخرجه في المسند ٦/ ٥٧.
(٢) أخرجه البخاريّ في: التيمم، ١- باب قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، حديث ٢٣٠.
134
قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.
وقد رواه البخاريّ «١» أيضا عن قتيبة بن سعيد عن مالك.
ورواه مسلم «٢» عن يحيى بن يحيى عن مالك.
انتهى كلام ابن كثير.
وأورد الواحديّ في (أسباب النزول) هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا.
وقال ابن العربيّ: لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة. قال ابن بطال: هي آية النساء أو آية المائدة. وقال القرطبيّ: هي آية النساء. ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء، فيتجه تخصيصها بآية التيمم.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وخفي على الجميع ما ظهر للبخاريّ «٣» من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد. لرواية عمرو بن الحارث. إذ صرح فيها بقوله:
فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية.
وقال الحافظ قبل: استدل به (أي بحديث عائشة) على أن الوضوء كان واجبا عليهم قبل نزول آية الوضوء. ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء. ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع. وقال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه ﷺ لم يصلّ منذ افترضت الصلاة عليه إلا بوضوء. ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند، قال:
وفي قوله في هذا الحديث (آية التيمم) إشارة إلى أن الذي طرأ عليهم من العلم حينئذ حكم التيمم لا حكم الوضوء، قال: والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به، ليكون فرضه متلوّا بالتنزيل.
قال السيوطيّ في (لباب النقول) بعد تصويب هذا الكلام: فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة. والآية مدنية. انتهى.
(١) أخرجه في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ٥- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا».
(٢) أخرجه مسلم في: الحيض، حديث ١٠٨.
(٣)
أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٣- باب قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، حديث ٢٣٠، حدثنا يحيى بن سليمان ونصه: عن عائشة رضي الله عنها: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة. فأناخ النبيّ ﷺ ونزل. فثنى رأسه في حجري راقدا. أقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست الناس في قلادة. فبي الموت لمكان رسول الله ﷺ وقد أوجعني. ثم إن النبيّ ﷺ استيقظ وحضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد. فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ... الآية. فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل بكر، ما أنتم إلا بركة لهم.
135
وقال الحافظ ابن حجر أيضا في قول أسيد (ما هي بأول بركتكم) : يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك. فيقوّي قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد.
وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباريّ فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق.
وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع... الحديث. فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق. لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف قال: وسيأتي في المغازي أن البخاريّ يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان في وقت إسلام أبي هريرة. ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الإفك، ما رواه الطبرانيّ من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله ﷺ في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه. فقال لي أبو بكر: يا بنية! في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس؟ فأنزل الله عز وجل الرخصة في التيمم. فقال أبو بكر: إنك لمباركة (ثلاثا). وفي إسناده محمد بن حميد الرازيّ وفيه مقال. وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أبهم في حديث الباب، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ.
وقال الإمام شمس الدين ابن القيّم في (زاد المعاد) في (غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق) : إنها كانت في شعبان سنة خمس. وبعد ذكرها قال: قال ابن سعد: وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه، فنزلت آية التيمم. ثم ساق حديث الطبرانيّ المتقدم وقال: هذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة. وهو الظاهر. ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه. فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى. انتهى.
وقد روي سبب نزول الآية المذكورة أيضا عن عمار بن ياسر رضي الله عنه «١» قال: إن رسول الله ﷺ عرّس بأولات الجيش ومعه عائشة فانقطع عقد لها من جزع ظفار فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء. فتغيظ عليها أبو بكر. وقال: حبست الناس وليس معهم ماء! فأنزل الله تعالى على رسوله ﷺ رخصة التطهّر بالصعيد الطيب. فقام المسلمون مع رسول الله ﷺ فضربوا
(١) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢١- باب التيمم، حديث ٣٢٠. [.....]
136
بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا. فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط.
ورواه أيضا ابن جرير عن أبي اليقظان رضي الله عنه «١» قال: كنا مع رسول الله ﷺ فهلك عقد لعائشة فأقام رسول الله ﷺ حتى أضاء الصبح. فتغيظ أبو بكر على عائشة. فنزلت عليه الرخصة، المسح بالصعيد. فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة. نزل فيك رخصة.
فضربنا بأيدينا: ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط.
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في سبب نزولها وجها آخر عن الأسلع بن شريك رضي الله عنه قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأصابتني جنابة في ليلة باردة. وأراد رسول الله ﷺ الرحلة فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله ﷺ وأنا جنب.
وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض. فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء واغتسلت. ثم لحقت رسول الله ﷺ وأصحابه فقال: يا أسلع! مالي أرى رحلتك قد تغيرت؟ قلت: يا رسول الله! لم أرحلها رحلها رجل من الأنصار. قال: ولم؟ قلت: إني أصابتني جنابة فخشيت القرّ على نفسي، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به. فأنزل الله عز وجل لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى إلى قوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً.
قال ابن كثير: وقد روي من وجه آخر، عنه.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٤]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤)
أَلَمْ تَرَ من رؤية القلب. وضمن معنى الانتهاء. أي: ألم ينته علمك إليهم.
أو من رؤية البصر. أو: ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي حظّا من علم التوراة. وهم أحبار اليهود. قال العلامة أبو السعود: المراد بالذي أوتوه، ما بيّن لهم فيها من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعوت النبيّ ﷺ وحقية الإسلام. والتعبير عنه بالنصيب، المنبئ عن كونه حقّا من حقوقهم، التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بكمال ركاكة آرائهم حيث ضيعوه تضييعا.
(١) الأثر ٩٦٧٠ من التفسير.
وتنوينه تفخيميّ مؤيد للتشنيع عليهم، والتعجيب من حالهم. فالتعبير عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلة على كمال شناعتهم، والإشعار بمكان ما طوي ذكره في المعاملة المحكية عنهم من الهدى الذي هو أحد العوضين يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وهو البقاء على اليهودية، بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه هو النبيّ المبشّر به في التوراة والإنجيل. أي يأخذون الضلالة ويتركون ما أوتوه من الهدى ليشتروا ثمنا قليلا من حطام الدنيا.
وإنما طوى ذكر المتروك لغاية ظهور الأمر. لا سيما بعد الإشعار المذكور.
والتعبير عن ذلك بالاشتراء، الذي هو عبارة عن استبدال السلعة بالثمن، أي أخذها بدلا منه، أخذا ناشئا عن الرغبة فيها والإعراض عنه- للإيذان بكمال رغبتهم في الضلالة، التي حقها أن يعرض عنها كلّ الإعراض. وإعراضهم عن الهداية التي يتنافس فيها المتنافسون. وفيه من التسجيل على نهاية سخافة عقولهم، وغاية ركاكة آرائهم- ما لا يخفى. حيث صورت حالهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحد ممن له أدنى تمييز. قاله أبو السعود وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أي لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا، من كتمان نعوته صلى الله عليه وسلم، أن تضلوا أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوا، ويودون لو تكفرون بما أنزل عليكم من الهدى والعلم النافع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٥]
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ أي منكم بِأَعْدائِكُمْ أي وقد أخبركم بعداوتهم لكم، وما يريدون بكم، فاحذروهم. ولا تستنصحوهم في أموركم، ولا تستشيروهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يلي أموركم وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً ينصركم. أي: فثقوا بولايته ونصرته دونهم. ولا تتولوا غيره. أو: ولا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء. فإنه تعالى يكفيكم مكرهم وشرهم. ففيه وعد ووعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٦]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)
138
مِنَ الَّذِينَ هادُوا بيان للموصول وهو الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فإن متناول لأهل الكتابين. وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم، وتحذيرهم عن مخالطتهم، والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عز وجل، والاكتفاء بولايته ونصرته. وقوله تعالى يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ هو وما عطف عليه بيان لاشترائهم المذكور، وتفصيل لفنون ضلالهم. فقد روعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام، والتفصيل إثر الإجمال. روما لزيادة تقرير يقتضيه الحال. أفاده أبو السعود.
قال الإمام ابن كثير: قوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أي يتناولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل، قصدا منهم وافتراء.
وقال العلامة الرازيّ: في كيفية التحريف وجوه: أحدها- إنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر. ثم قال: والثاني- أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية. كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا، بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح. والثالث- أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به. فإذا خرجوا من عنده حرّفوا كلامه. انتهى.
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في (إغاثة اللهفان) : قد اختلف في التوراة التي بأيديهم. هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال: قالت طائفة: كلها أو أكثرها مبدل. وغلا بعضهم حتى قال: يجوز الاستجمار بها. وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه الكلام: إنما وقع التبديل في التأويل. قال البخاريّ «١» في (صحيحه) : يحرفون يزيلون. وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله. ولكنهم يتأولونه على غير تأويله. وهو اختيار الرازيّ أيضا.
وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع بين الفضلاء. فأجاز هذا المذهب ووهّى غيره. فأنكر عليه. فأظهر خمسة عشر نقلا به. ومن حجة هؤلاء، أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها. وانتشرت جنوبا وشمالا. ولا يعلم عدد نسخها إلا الله.
فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ، حتى لا تبقى في الأرض
(١) أخرجه البخاريّ في: التوحيد، ٥٥- باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.
139
نسخة إلا مبدلة. وهذا مما يحيله العقل. قالوا: وقد قال الله لنبيه قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم. ولم يمكنهم تغييرها من التوراة. ولذا لما قرءوها على النبيّ ﷺ وضع القارئ يده على آية الرجم.
فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها. وتوسطت طائفة فقالوا: قد زيد فيها وغيّر أشياء يسيرة جدا. واختاره شيخنا في (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) قال: وهذا كما في التوراة عندهم: إن الله سبحانه قال لإبراهيم: اذبح ابنك بكرك أو وحيدك، إسحاق. ثم قال: قلت والزيادة باطلة من وجوه عشرة. ثم ساقها فارجع إليه. وقد نقلها عنه هنا الإمام صدّيق خان. فانظره في تفسيره (فتح الرحمن).
لطيفة:
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف قيل هاهنا عَنْ مَواضِعِهِ وفي المائدة مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ؟ قلت: أما عَنْ مَواضِعِهِ فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأما مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ فالمعنى أنه كانت له مواضع، هو قمن بأن يكون فيها. فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه. والمعنيان متقاربان.
وقال الرازي: ذكر الله تعالى هاهنا عَنْ مَواضِعِهِ وفي المائدة مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ والفرق: أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة، فههنا قوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص. وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب. وأما الآية المذكورة في سورة المائدة، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين. فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب. فقوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ إشارة إلى التأويل الباطل.
وقوله مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ إشارة إلى إخراجه عن الكتاب.
وقال الناصر في (الانتصاف) : الظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به، في هذه الصورة مثل غَيْرَ مُسْمَعٍ وراعِنا ولم يقصد هاهنا تبديل الأحكام. وتوسطها بين الكلمتين، بين قوله يُحَرِّفُونَ وبين قوله لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ والمراد أيضا تحريف مشاهد بيّن على أن المحرف هما وأمثالهما. وأما في سورة المائدة فالظاهر، والله أعلم، أن المراد فيها ب الْكَلِمَ الأحكام. وتحريفها تبديلها. كتبديلهم الرجم بالجلد. ألا تراه عقبه بقوله يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا؟
140
ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين. قيل في سورة المائدة: يحرفون الكلم من بعد مواضعه. أي ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه، فصار وطنه ومستقره، إلى غير الموضع. فبقي كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه هذا غريب من بعد مواضعه ومقارّه. ولا يوجد هذا المعنى في مثل راعِنا وغَيْرَ مُسْمَعٍ وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغويّ مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعيّ. ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره. فلذلك جاء هنا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف. والله أعلم.
انتهى.
وقال العلامة أبو السعود: والمراد بالتحريف هاهنا، إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المحاورة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وما بعده، على ما قبله عطفا تفسيريا. لأنه يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهنّ من غير تعرض لتحريفهم التوراة. مع أنه معظم جناياتهم المعدودة فقولهم سَمِعْنا وَعَصَيْنا ينبغي أن يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة. بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقيّ ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم. أي يقول في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبيّ ﷺ أو لا، بلسان المقال أو الحال: سَمِعْنا وَعَصَيْنا عنادا أو تحقيقا للمخالفة. انتهى.
قال ابن كثير: ويقولون سمعنا أي: سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه.
هكذا فسره مجاهد وابن زيد، وهو المراد. وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة. وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ عطف على سَمِعْنا وَعَصَيْنا داخل تحت القول أي: ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته عليه الصلاة والسلام خاصة. وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر. بأن يحمل على معنى اسْمَعْ، حال كونك غير مسمع كلاما أصلا. بصمم أو موت. أي مدعوّا عليك بلا سمعت. أو غير مسمع كلاما ترضاه. وللخير بأن يحمل على: اسمع منا غير مسمع مكروها. كانوا يخاطبون به النبيّ ﷺ استهزاء به (عليهم اللعنة) مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون المعنى الأول مطمئنون به وَراعِنا عطف على ما قبله. أي ويقولون في أثناء خطابهم له ﷺ هذا أيضا. وهي كلمة ذات وجهين أيضا محتملة للخير بحملها
141
على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك. وللشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابّون بها. أو على السب بالرعونة أي الحمق. وبالجملة فكانوا، سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ أي فتلا بها وصرفا للكلام من وجه إلى وجه وتحريفا. أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون راعِنا موضع انْظُرْنا وغَيْرَ مُسْمَعٍ موضع (لا أسمعت مكروها) أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. فإن قلت: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به. كذا في الكشاف.
وأصل لَيًّا لويا لأنه من لويت أدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون.
ومثله (الطيّ) وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية وانتصابهما على العلّية ل يَقُولُونَ باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين. أي يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين. أو على الحالية. أي: لاوين وطاعنين في الدين. أفاده أبو السعود.
وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا أي عند ما سمعوا ما يتلى عليهم من أوامره تعالى: سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي بدل قولهم سَمِعْنا وَعَصَيْنا والقول هنا كسابقه أعم من أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال وَاسْمَعْ أي لو قالوا عند مخاطبة النبيّ ﷺ بدل قولهم اسْمَعْ فقط بلا زيادة غَيْرَ مُسْمَعٍ المحتمل للشرّ وَانْظُرْنا يعني بدل قولهم راعِنا المحتمل للمعنى الفاسد كما سلف لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ في الدنيا بحقن دمائهم وأموالهم وعلوّ رتبتهم بإحاطة الكتب السماوية. وفي الآخرة بضعف الثواب. أفاده المهايميّ.
قال أبو السعود: وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم. أو بطريق التهكم. وإما بمعنى اسم الفاعل وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي: ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فطردهم الله عن رحمته وأبعدهم عن الهدى، بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منصوب على الاستثناء من لَعَنَهُمُ أي ولكن لعنهم الله إلا فريقا قليلا منهم. آمنوا
142
فلم يلعنوا. أو على الوصفية لمصدر محذوف. أي: إلا إيمانا قليلا أي ضعيفا ركيكا لا يعبأ به. فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى، ويكفرونه ببقية المرسلين وكتبهم المنزلة. ورجّح أبو علي الفارسيّ هذا. قال: لأن قَلِيلًا لفظ مفرد: ولو أريد به (ناس) لجمع نحو قوله: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء: ٥٤].
ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا. والمراد به الجمع قال تعالى:
وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: ٦٩]. وقال: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: ١٠] يبصرونهم. أفاده الرازيّ. وقد جوز على هذا أن يراد بالقلة العدم بالكلية. كقوله:
قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك
أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة. صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها. فاستعمل لفظ (قليل) وأراد به نفي الكل. أو منصوب على الاستثناء من فاعل (لا يؤمنون) أي:
فلا يؤمن منهم إلا نفر قليل. وأما قول الخفاجيّ: كان الوجه فيه الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب. وأبي السعود: بأنه فيه نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار- فمردود بأن النصب عربيّ جيد. وقد قرئ به في السبع في (قليل) من قوله تعالى: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: ٦٦] وفي (امرأتك) من قوله تعالى:
وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ [هود: ٨١] كما قاله ابن هشام في التوضيح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي موافقا للتوراة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم. وقال العوفيّ عن ابن عباس: طمسها أن تعمى فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر.
فالفاء للتسبيب. أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها. وقد اكتفى بذكر أشدهما. فالفاء للتعقيب.
143
قال الرازيّ: وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة. لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أي: أو نفعل بهم أبلغ من ذلك. وهو أن نطردهم عن الإنسانية بالمسخ الكليّ جزاء على اعتدائهم بترك الإيمان. كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد. فمسخناهم قردة وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ أي ما أمر به مَفْعُولًا أي نافذا كائنا لا محالة. هذا وفي الآية تأويل آخر.
وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه. وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة. يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم.
قال ابن كثير: وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: ٨- ٩] : أي هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى. قال مجاهد: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً، يقول: عن صراط الحق. فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي في الضلال. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا. قال السديّ: فنردّها على أدبارها: فنمنعها عن الحق، نرجعها كفارا.
قال الرازيّ: والمقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات. ونظيره قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: ٢٤]. تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس. ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات. فقدامه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات. فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه. كما قال تعالى في صفتهم: ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السجدة: ١٢].
ثم قال الرازيّ: قال عبد الرحمن بن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى.
وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام. فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء، من أرض الشام. كما جاءوا منها و (طمس الوجوه) على هذا التأويل يحتمل معنيين: أحدهما- تقبيح صورتهم. يقال: طمس الله صورته،
144
كقوله: قبح الله وجهه. والثاني- إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها.
وثمة تأويل آخر. وهو: أن المراد بالوجوه الوجهاء. على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير. أي من قبل أن نغيّر أحوال وجهائهم، فنسلب إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارا وإدبارا.
وقال بعضهم: الأظهر حمل قوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ إلخ على اللعن المتعارف. قال:
ألا ترى إلى قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة: ٦٠]. ففصل تعالى بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير.
وأقول: لا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات، غير الأول، لا يساعده مقام تشديد الوعيد، وتعميم التهديد. فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة. ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها. ولا تعذر هنا. كما أن المتبادر من اللعن، المشبه بلعن أصحاب السبت، هو المسخ. وهو الذي تقتضيه بلاغة التنزيل. إذ فيه الترقي إلى الوعيد الأفظع. ولا ننكر أن تكون هذه التأويلات مما يشمله لفظ الآية. وإنما البحث في دعوى إرادتها دون سابقها. فالحق أن المتبادر من النظم الكريم هو الأول لأنه أدخل في الزجر. ويؤيده ما روي، أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية.
رواه ابن جرير «١» وابن أبي حاتم ولفظه بعد إسناده: عن أبي إدريس عائذ الله الخولانيّ قال: كان أبو مسلم الجليليّ معلم كعب. وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال فبعثه إليه ينظر أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة. فإذا تال يقرأ القرآن، يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها. فاغتسلت، وإني لأمسّ وجهي مخافة أن أطمس.
ثم أسلمت.
وروى، من غير طريق، نحوه أيضا.
فإن قيل: قرينة المجاز عدم وقوع المتوعد به. فالجواب: أن عدم وقوعه لا يعين إرادة المجاز. إذ ليس في الآية دلالة على تحتم وقوعه إن لم يؤمنوا. ولو فهم منها هذا فهما أوليّا لكان إيمانهم بعدها إيمان إلجاء واضطرار. وهو ينافي التكليف الشرعيّ. إذ لم تجر سنته تعالى بهذا. بل النظم الكريم في هذا المقام محتمل ابتداء
(١) الأثر رقم ٩٧٢٥.
145
للقطع بوقوع المتوعد به. ولوقوعه معلقا بأمره تعالى ومشيئته بذلك، وهو المراد.
كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب: ٣٧] : أي ما يأمر به، ويريد وقوعه. وإذا كان الوعيد منوطا بأمره سبحانه، فله أن يمضيه على حقيقته وله أن يصرفه لما هو أعلم به. إلا أن ورود نظم الآية بهذا الخطاب المتبادر في الوقوع غير المعلق، ليكون أدخل في الترهيب، ومزجرة عن مخالفة الأمر. هكذا ظهر لنا الآن.
وهو أقرب مما نحاه المفسرون هنا من أن العقاب منتظر، أو، أنه مشروط بعدم الإيمان. إلى غير ذلك. فقد زيفها جميعها العلامة أبو السعود. ثم اختار أن المراد من الوعيد الأخرويّ. قال: لأنه لم يتضح وقوعه. وهذا فيه بعد أيضا، لنبوّ مثل هذا الخطاب عن إرادة الوعيد الأخرويّ. لا سيما والجملة الثانية التي هددوا بها، أعني لعنهم كأصحاب السبت، كان عقابها دنيويّا. فالوجه ما قررناه. وما أشبه هذه الآية، في وعيديها، بآية يس. أعني قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ [يس: ٦٦- ٦٧]. بل هذه عندي تفسير لتلك. والقرآن يفسر بعضه بعضا. فبرح الخفاء والحمد لله.
لطيفة:
الضمير في (نلعنهم) لأصحاب الوجوه. أو (للذين) على طريقة الالتفات أو (للوجوه) إن أريد بها الوجهاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٨]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قال أبو السعود: كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد، وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر بالإيمان، ببيان استحالة المغفرة بدونه. فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون في المغفرة. كما في قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ [الأعراف: ١٦٩].
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى (أي على التحريف) وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا. والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاما أوليّا. فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة. وقضى بخلود أصناف الكفرة في النار. ونزوله في حق اليهود،
146
كما قال مقاتل، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم، وسياقه لا يقتضي اختصاصه بكفرهم، بل يكفي اندراجه فيه قطعا. بل لا وجه له أصلا. لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم في الشدة من أنواع الكفر. أي لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان. لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر. وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه. ولأن ظلمات الكفر والمعاصي إنما يسترها نور الإيمان. فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شيء من الكفر والمعاصي. انتهى.
قال الشهاب: الشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله شريكا، وبمعنى الكفر مطلقا، وهو المراد هنا. وقد صرح به في قوله تعالى في سورة (البينة) بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [البينة: ٦].
فلا يبقى شبهة في عمومه. انتهى.
وقال الرازيّ: هذه الآية دالة على أن اليهوديّ يسمى مشركا، في عرف الشرع.
ويدل عليه وجهان: الأول- أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور. فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية. وبالإجماع هي غير مغفورة. فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك. الثاني- إن اتصال هذه الآية بما قبلها، إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود. فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك، وإلا لم يكن الأمر كذلك. فإن قيل: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا... إلى قوله: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الحج: ١٧]. فعطف المشرك على اليهوديّ، وذلك يقتضي المغايرة- قلنا المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغويّ.
والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعيّ. ولا بد من المصير إلا ما ذكرناه، دفعا للتناقض. انتهى.
لطيفة:
قال أبو البقاء: الشرك أنواع: شرك الاستقلال وهو إثبات إلهين مستقلين.
كشرك المجوس. وشرك التبعيض، وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى. وشرك التقريب، وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية. وشرك التقليد، وهو عبادة غير الله تبعا للغير. كشرك متأخري الجاهلية. وشرك الأسباب.
وهو إسناد التأثير للأسباب العادية، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك. وشرك الأغراض، وهو العمل لغير الله. فحكم الأربعة الأولى الكفر بإجماع.
وحكم السادس المعصية من غير كفر بإجماع. وحكم الخامس التفصيل. فمن قال في الأسباب العادية إنها تؤثر بطبعها فقد حكى الإجماع على كفره. ومن قال إنها
147
تؤثر بقوة أودعها الله فيها فهو فاسق. انتهى. وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي ما دون الشرك من المعاصي، صغيرة كانت أو كبيرة لِمَنْ يَشاءُ تفضلا منه وإحسانا. قال ابن جرير: وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل. إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه عليه. ما لم تكن كبيرته شركا بالله عز وجل. وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة. وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة. وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة. وقد تقدم قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: ٣١]. وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر. فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته. ولذا قال الرازيّ: هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر. ثم جوّد وجوه الاستدلال. ومنها: أن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة. ومنها أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به وغير معلق على المشيئة. فوجب أن يكون الغفران المذكور، في هذه الآية، هو غفران الكبيرة قبل التوبة. وهو المطلوب.
وأول الزمخشريّ هذه الآية على مذهبه: بأن الفعل المنفيّ والمثبت جميعا، موجّهان إلى قوله تعالى لِمَنْ يَشاءُ على قاعدة التنازع. كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك. على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب. قال: ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء. تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله. انتهى.
قال ناصر الدين في (الانتصاف) : عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة. وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفره له. هذا مع عدم التوبة. وأما مع التوبة فكلاهما مغفور. والآية إنما وردت فيمن لم يتب ولم يذكر فيها توبة كما ترى. فلذلك أطلق الله تعالى نفي مغفرة الشرك وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة، كما ترى. فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة. وأما القدرية فإنهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر. في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة، ولا شاء الله أن يغفرهما إلا للتائبين. فإذا عرض الزمخشريّ هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه. إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب، فلا وجه للتفصيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة وتعليقها بالآخر مطلقا.
إذ هما سيّان في استحالة المغفرة. وأما أن يكون المراد فيهما التائب فقد قال في
148
الشرك إنّه لا يَغْفِرُ والتائب من الشرك مغفور له. وعند ذلك أخذ الزمخشريّ يقطع أحدهما عن الآخر. فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة ومع الكبائر التوبة. حتى تنزل الآية على وفق معتقده فيحملها أمرين لا تحمل واحد منهما: أحدهما- إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة ولا دليل عليها فيما ذكر. وأيضا لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا. ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل. فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب، وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء؟ الثاني- أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر. وما هذا إلا من جعل القرآن تبعا للرأي. نعوذ بالله من ذلك.
وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليه بهم المثل السائر (السيد يعطي والعبد يمنع). لأن الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصرّ على الكبائر، إن شاء.
وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح، التي هي بالفساد أجدر وأحق. انتهى.
فائدة:
وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة:
الأول-
عن عائشة «١» قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا. وديوان لا يترك الله منه شيئا. وديوان لا يغفره الله.
فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله. قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية. وقال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة: ٧٢]. وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها. فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز، إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا، فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص لا محالة»
. رواه الإمام أحمد. وقد تفرد به.
الثاني-
عن أنس بن مالك عن النبيّ ﷺ قال: «الظلم ثلاثة فظلم لا يغفره الله. وظلم يغفره الله. وظلم لا يترك الله منه شيئا. فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك. وقال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣]. وأما الظلم الذي يغفره
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٦/ ٢٤٠.
149
الله، فظلم العباد لأنفسهم، فيما بينهم وبين ربهم. وأما الظلم الذي لا يتركه، فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض». رواه أبو بكر البزار في مسنده.
الثالث-
عن معاوية قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره. إلا الرجل يموت كافرا. أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا». رواه الإمام أحمد «١» والنسائيّ.
الرابع-
عن أبي ذر «٢» : أن رسول الله ﷺ قال: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق (ثلاثا) ثم قال في الرابعة:
على رغم أنف أبي ذر.
قال فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر.
وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر. أخرجه الإمام أحمد والشيخان.
وفي رواية لهما عن أبي ذر: قال صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبريل: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: يا جبريل! وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم.
قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. وإن شرب الخمر»
.
الخامس-
عن جابر قال: «جاء أعرابيّ إلى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. ومن مات يشرك به دخل النار». أخرجه مسلم «٣» وعبد بن حميد في مسنده.
السادس-
عن أبي سعيد الخدريّ «٤» قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة». رواه الإمام أحمد.
(١) أخرجه في المسند ٩٩/ ٤.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥/ ١٦٦.
وأخرجه البخاريّ في: اللباس، ٢٤- باب الثياب البيض، حديث ٦٦٠.
ومسلم في: الإيمان، حديث ر ١٥٤.
(٣) أخرجه مسلم في: الإيمان حديث ١٥١.
(٤) أخرجه في المسند ٣/ ٧٩.
150
السابع-
عن ابن عباس عن النبيّ ﷺ قال: «قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي». رواه الطبرانيّ.
الثامن-
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له. ومن توعده على عمل عقابا، فهو فيه بالخيار. رواه البزار وأبو يعلى.
التاسع- عن ابن عمر، قال: كنا، معشر أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، فأمسكنا عن الشهادة. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير «١».
وفي رواية لابن أبي حاتم: فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز وجل.
العاشر-
عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: ما في القرآن أحبّ إليّ من هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. رواه الترمذيّ «٢»
وقال: حديث حسن غريب.
الحادي عشر-
عن أنس «٣» رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة». رواه الترمذيّ
وقال: حديث حسن غريب. لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وروى نحوه الإمام أحمد عن أبي ذرّ «٤» ولفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، «قال: إن الله عز وجل يقول: يا عبدي! ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك.
ويا عبدي! إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة»
.
(١) الأثر رقم ٩٧٣٢.
(٢) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٢٣- حدثنا خلاد بن أسلم.
(٣) أخرجه الترمذيّ في: الدعوات، ٩٨- باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده.
(٤) أخرجه في المسند ٥/ ١٥٤.
151
والأحاديث في ذلك متوافرة. ويكفي هذا المقدار.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً أي افترى واختلق، مرتكبا إثما لا يقادر قدره. ويستحقر دونه جميع الآثام. فلا تتعلق به المغفرة قطعا.
قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في كتابه (الجواب الكافي) : الشرك بالرب تعالى نوعان: شرك به في أسمائه وصفاته، وجعل آلهة أخرى معه. وشرك به في معاملته. وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار، وإن أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره. وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب، ويدخل فيه القول على الله بلا علم، في خلقه وأمره. فمن كان من أهل هذه الذنوب، فقد نازع الله، سبحانه وتعالى، ربوبيته وملكه. وجعل له ندّا. وهذا أعظم الذنوب عند الله. ولا ينفع معه عمل.
وقال بعد ذلك: وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال: إن الله عز وجل أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السموات والأرض، ليعرف ويعبد ويوحد ويكون الدين كله له، والطاعة كلها له، والدعوة له. كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]. وقال تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر: ٨٥]. وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق: ١٢]. وقال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة: ٩٧]. فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته، ويعبد وحده لا يشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط. وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض. كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: ٢٥]. فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل. ومن أعظم القسط التوحيد. بل هو رأس العدل وقوامه. وإن الشرك ظلم عظيم. كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣]. فالشرك أظلم الظلم. والتوحيد أعدل العدل. فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر.
وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له. وما كان أشد موافقة لهذا المقصود، فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات. فتأمل هذا الأصل حق التأمل واعتبر به تفاصيله، تعرف به أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، فيما فرض على عباده وحرمه عليهم.
152
وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي. فلما كان الشرك بالله منافيا بالذات لهذا المقصود، وكان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك، وأباح دمه وماله لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا، أو يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقيل له فيها عثرة- فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله حيث جعل له من خلقه ندّا، وذلك غاية الجهل به. كما أنه غاية الظلم منه. وإن كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه. ووقعت مسألة: وهي أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى. وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء. كحال الملوك. فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية. وإنما قصد تعظيمه.
وقال: إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني وتدخلني عليه. فهو المقصود. وهذه وسائل وشفعاء. فلم كان هذا القدر موجبا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى ومخلدا في النار وموجبا لسفك دماء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم؟ وترتب على هذا سؤال آخر: وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه لعباده التقريب إليه بالشفعاء والوسائط؟ فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع، أم ذلك قبيح في الفطر والعقول، يمتنع أن تأتي به شريعة، بل جاءت بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح؟ وما السبب في كونه لا يغفره من دون سائر الذنوب؟
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. فتأمل هذا السؤال. واجمع قلبك وذهنك على جوابه. ولا تستهونه فإن به يحصل الفرق بين المشركين والموحدين، والعالمين بالله والجاهلين به، وأهل الجنة وأهل النار. فنقول (وبالله التوفيق والتأييد، ومنه نستمد المعونة والتسديد. فإنه من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له. ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع) : الشرك شركان: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله. وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. والشرك الأول نوعان: أحدهما- شرك التعطيل وهو أقبح أنواع الشرك.
كشرك فرعون إذ قال وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ٢٣] ؟ وقال تعالى مخبرا عنه أنه قال: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً [غافر: ٣٦- ٣٧]. فالشرك والتعطيل متلازمان. فكل مشرك معطل وكل معطل مشرك. لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل بل قد يكون المشرك مقرّا بالخالق سبحانه وصفاته. ولكن عطل حق
153
التوحيد. وأصل الشرك وقاعدته التي ترجع إليها هو التعطيل. وهو ثلاثة أقسام:
تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه. وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله. وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود، الذين يقولون: ما ثمّ خالق ومخلوق، ولا هاهنا شيئان. بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه. ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديّته وإنه لم يكن معدوما أصلا. بل لم يزل ولا يزال. والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها.
يسمونها العقول والنفوس. ومن هذا أشرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهميّة والقرامطة. فلم يثبتوا له اسما ولا صفة. بل جعلوا المخلوق أكمل منه. إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.

فصل


النوع الثاني. شرك من جعل معه إلها آخر ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته.
كشرك النصارى الذي جعلوه ثالث ثلاثة. فجعلوا المسيح إلها وأمه إلها. ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة. ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وإنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته. ولهذا كانوا من أشباه المجوس. ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: ٢٥٨]. فهذا جعل نفسه ندّا لله، يحيي ويميت بزعمه. كما يحيي الله ويميت. فألزمه إبراهيم، عليه السلام ورحمة الله وبركاته، أن طرد قولك، أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها. وليس هذا انتقالا كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزاما على طرد الدليل إن كان حقا. ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم. كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم. ومن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم. ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة. ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة. ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه، أقبل إليه واغتنى به. ومنهم من يزعم أنه معبودهم الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه. والفوقانيّ يقربه إلى من هو فوقه. حتى تقربه تلك الآلهة.
إلى الله سبحانه. فتارة تكثر الوسائط وتارة تقل.
154

فصل


وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك وأخف أمرا. فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله. وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله. وأنه لا إله غيره ولا رب سواه. ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته. بل يعمل لحظّ نفسه تارة وطلب الدنيا تارة. ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة. فلله من عمله وسعيه نصيب. ولنفسه وحظه وهواه نصيب. وللشيطان نصيب. وللخلق نصيب.
هذا حال أكثر الناس. وهو الشرك الذي
قال فيه النبي ﷺ فيما رواه ابن حبان في صحيحه «١» :«الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. قالوا: وكيف ننجو منه؟
يا رسول الله! قال: قل: اللهم! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم»
.
فالرياء كله شرك. قال تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف: ١١٠].
أي كما أنه إله واحد، لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده.
فكما تفرّد بالإلهية، يجب أن يفرد بالعبودية. فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء، المقيد بالسنة. وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم! اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا. ولا تجعل لأحد فيه شيئا. وهذا الشرك في العبادة يبطل العمل. وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا. فإنه ينزله منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك الأمر. فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة. قال تعالى:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ [البينة: ٥].
فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به. بل الذي أتى به، شيء غير المأمور به، فلا يصح ولا يقبل منه. ويقول الله تعالى «٢» : أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه. وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور. وأكبر وأصغر. والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر. وليس شيء منه مغفورا. فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب المخلوق كما يحب
(١) أخرجه أحمد في المسند ٤/ ٤٠٣.
(٢) أخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث ٤٦. [.....]
155
الله. فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله. وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً [البقرة: ١٦٥] الآية.
وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ٩٧- ٩٨]. ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة. وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل. وهذا غاية الجهل والظلم.
فكيف يسوّى من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوى الفقير بالذات، الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم- بالغنيّ بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟
فأيّ ظلم أقبح من هذا؟ وأيّ حكم أشد جورا منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه، كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: ١]. فعدل المشرك من خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه!!

فصل


ويتبع هذا الشرك، الشرك به سبحانه في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات.
فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره، وتقبيل الأحجار، غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض، أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها. وقد لعن النبيّ ﷺ من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي لله فيها. فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا يعبدوها من دون الله.
وفي الصحيحين «١» عنه أنه قال: «لعنة الله على اليهود والنصارى. اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
وفي الصحيح «٢» عنه: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة
(١) أخرجه البخاري في: الصلاة، ٥٥- حدثنا أبو اليمان، حديث ٢٨٥ و ٢٨٦.
ومسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ١٩.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ١/ ٤٣٥.
وهو في البخاريّ في: الفتن، ٥- باب ظهور الفتن، حديث ٢٥٥٠.
وفي مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث ١٣١.
156
وهم أحياء. ومن يتخذ القبور مساجد».
وفي الصحيح «١» «أيضا عنه: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. فإني أنهاكم عن ذلك».
وفي مسند الإمام أحمد «٢» رضي الله عنه وصحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم: «لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. وقال: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
وقال «٣» :«إن من كان قبلكم، إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».
فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر. فكيف حال من سجد للقبر بنفسه؟
وقد قال النبيّ ﷺ «٤» :«اللهم! لا تجعل قبري وثنا يعبد»
. وقد حمى النبيّ جانب التوحيد أعظم حماية حتى نهى «٥» عن صلاة التطوّع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها. لئلا يكون ذريعة إلى التشبيه بعبّاد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين. وسد الذريعة بأن منع الصلاة بعد العصر والصبح، لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس. وأما السجود لغير الله
فقال «٦» :«لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله»
. و (لا ينبغي) في كلام الله
(١) أخرجه مسلم في: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٢٣.
(٢) أخرجه في المسند ١/ ٢٢٩.
(٣)
أخرجه البخاريّ في: مناقب الأنصار، حديث ٢٨١، ونصه: عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير. فذكرتا للنبيّ ﷺ فقال «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تيك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».
ومسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ١٦
. (٤) أخرجه مالك في: قصر الصلاة في السفر، حديث ٨٥.
(٥)
أخرجه البخاريّ في: مواقيت الصلاة، ٣١- باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، حديث ٣٧٩ ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس».
(٦)
أخرجه ابن ماجة في: النكاح، ٤- باب حق الزوج على المرأة، حديث ١٨٥٣ ونصه: عن عبد الله بن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم. قال «ما هذا؟ يا معاذ!» قال: أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم. فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك. فقال رسول الله ﷺ «فلا تفعلوا. فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.
والذي نفس محمد بيده! لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها. ولو سألها نفسها، وهي على قتب، لم تمنعه»

.
157
ورسوله صلى الله عليه وسلم- للذي هو في غاية الامتناع شرعا. كقوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [مريم: ٩٢]. وقوله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: ٦٩].
وقوله: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ [الشعراء: ٢١٠- ٢١١]. وقوله عن الملائكة: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ [الفرقان: ١٨].

فصل


ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ. كالحلف بغيره. كما
رواه أحمد «١» وأبو داود عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك».
وصححه الحاكم وابن حبان. ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت. كما
ثبت عن النبيّ ﷺ «٢»
«أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندّا؟ قل:
ما شاء الله وحده»

. وهذا، مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة، كقوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير: ٢٨]- فكيف من يقول: أنا متوكل على الله وعليك؟ وأنا في حسب الله وحسبك؟ وما لي إلا الله وأنت؟ وهذا من الله ومنك؟
وهذا من بركات الله وبركاتك؟ والله لي في السماء وأنت لي في الأرض؟ أو يقول:
والله! وحياة فلان. أو يقول: نذرا لله ولفلان. وأنا تائب لله ولفلان. وأرجو الله وفلانا ونحو ذلك. فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبيّ ﷺ لقائل تلك الكلمة.
وأنه إذا كان قد جعله ندّا لله بها، فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله ﷺ في شيء من الأشياء، بل لعله أن يكون من أعدائه، ندّا لرب العالمين. فالسجود والعبادة، والتوكل والإنابة، والتقوى والخشية، والتحسب والتوبة، والنذر والحلف، والتسبيح والتكبير، والتهليل والتحميد، والاستغفار وحلق الرأس، خضوعا وتعبدا، والطواف بالبيت، والدعاء- كل ذلك محض حق الله. لا يصلح ولا ينبغي لسواه، من ملك مقرب ولا نبيّ مرسل.
وفي مسند الإمام أحمد «٣»
أن رجلا أتي به إلى النبيّ ﷺ قد أذنب ذنبا. فلما وقف بين يديه قال: اللهم! إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد.
قال: قد عرف الحق لأهله.
(١) أخرجه في المسند ١/ ٤٧.
(٢)
أخرجه في المسند ١/ ٢١٤. ونصه: عن ابن عباس أن رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال له النبيّ ﷺ «أجعلتني والله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده»
. (٣) أخرجه في المسند ٣/ ٤٣٥.
158

فصل


وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلّ من ينجو منه. فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته. والإخلاص: أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإرادته ونيته.
وهذه هي الحنيفية، ملة إبراهيم، التي أمر الله بها عباده كلهم. ولا يقبل من أحد غيرها. وهي حقيقة الإسلام. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران: ٨٥]. وهي ملة إبراهيم عليه السلام، التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.

فصل


وإذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك باب الجواب عن السؤال المذكور. فنقول (ومن الله وحده نستمد الصواب) : حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به. وهذا هو التشبيه في الحقيقة. لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر وجعل التوحيد تشبيها والتشبيه تعظيما وطاعة. فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق. وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، أفضل من غيره. تشبيها بمن له الأمر كله. فأزمّة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد. وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد. فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغنيّ بالذات. ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده. والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده. ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له. وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره. مع أنه كتب على نفسه الرحمة. ومن خصائص
159
الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل. هذا تمام العبودية. وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد شبهه به في خالص حقه.
وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع. وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل.
ولكن غيرت الشيطان فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم، واجتالتهم عنها.
ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى. فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم. فازدادوا بذلك نورا على نور. يهدي الله لنوره من يشاء.
إذا عرف هذا، فمن خصائص الإلهية السجود. فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به. ومنها التوكل. فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها التوبة. فمن تاب لغيره فقد شبهه به. ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا. فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه. وأما في جانب التشبه به، فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم، والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفا ورجاء، والتجاء واستعانة، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته. وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان. ويذله غاية الذل ويجعله تحت أقدام خلقه.
وفي الصحيح «١» عنه ﷺ قال: «يقول الله عز وجل: العظمة إزاري والكبرياء ردائي. فمن نازعني واحدا منهما عذبته»
. وإذا كان المصور، الذي يصنع الصورة بيده، من أشد الناس عذابا يوم القيامة، لتشبهه بالله في مجرد الصنعة- فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية، كما
قال النبيّ ﷺ «٢» :«أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون»
. يقال لهم: أحيوا ما خلقتم.
وفي الصحيح «٣» عنه ﷺ أنه قال: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن
(١)
أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، ٣٨- باب تحريم الكبر، حديث ١٣٦ ونصه: عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله ﷺ «العز إزاره، والكبرياء رداؤه. فمن ينازعني عذبته»
.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: الأدب، ٧٥- باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله، حديث ١٢٢٣ ونصه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبيّ ﷺ وفي البيت قرام فيه صور. فتلوّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه. وقالت: قال النبيّ ﷺ «من أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يصورون هذه الصور».
(٣)
أخرجه البخاريّ في: اللباس، ٩٠- باب نقض الصور، حديث ٢٣٠٨ ونصه: عن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة دارا بالمدينة. فرأى أعلاها مصوّرا يصور. قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي. فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة».
[.....]
160
ذهب يخلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا ذرة. فليخلقوا شعيرة»
. فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر. والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة.
فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته؟ وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده. كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه.
وقد ثبت في الصحيح «١» عنه ﷺ أنه قال: «إن أخنع الأسماء عند الله رجل يتسمى بشاهان شاه ملك الملوك. ولا ملك إلا الله».
وفي لفظ: أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك.
فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له. فهو سبحانه ملك الملوك وحده. وهو حاكم الحكام وحده. فهو الذي يحكم على الحكام كلهم، ويقضي عليهم كلهم، لا غيره.
تنبيه:
حيثما وقع في حديث: من فعل كذا فقد أشرك. أو فقد كفر- لا يراد به الكفر المخرج من الملة، والشرك الأكبر المخرج عن الإسلام الذي تجري عليه أحكام الردة، والعياذ بالله تعالى. وقد قال البخاريّ «٢» : باب كفران العشير وكفر دون كفر.
قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ في (شرحه) : مراده أن يبيّن أن الطاعات، كما تسمى إيمانا، كذلك المعاصي تسمى كفرا. لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد عليه الكفر المخرج عن الملة. فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركا أو كافرا، فإنه يعذر بالجهل والخطأ، حتى تتبين له الحجة، الذي يكفر تاركها، بيانا واضحا ما يلتبس على مثله. وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعا جليّا قطعيا. يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل. كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع. قال الشيخ تقيّ الدين في (كتاب الإيمان) : لم يكفّر الإمام أحمد الخوارج ولا المرجئة ولا القدرية. وإنما المنقول عنه وعن أمثاله تكفير الجهمية. مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية. ولا كل من قال: أنا جهميّ- كفّره. بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم
(١)
أخرجه البخاريّ في: الأدب، ١١٤- باب أبغض الأسماء إلى الله، حديث ٢٣٦٧ ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «أخنع الأسماء يوم القيامة عند الله رجل تسمى بملك الأملاك».
قال سفيان (أحد رجال السند) : يقول غيره تفسيره: شاهان شاه.
(٢) صحيح البخاريّ في: الإيمان، ٢١- باب كفران العشير وكفر دون كفر.
161
بالعقوبات الغليظة. ولم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى لهم الائتمام بالصلاة خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم بما يراه لأمثالهم من الأئمة. وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم. وإن لم يعلموا هم أنه كفر. كان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان. فيجمع بين طاعة الله ورسوله ﷺ في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة وإن كانوا جهالا مبتدعين. وظلمة فاسقين. انتهى كلام الشيخ. فتأمله تأملا خاليا عن الميل والحيف.
وقال الشيخ تقيّ الدين أيضا: من كان في قلبه الإيمان بالرسول وبما جاء به، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع ولو دعا إليها، فهذا ليس بكافر أصلا. والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالا للأمة وتكفيرا لها. ولم يكن في الصحابة من يكفرهم، لا عليّ ولا غيره. بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين. كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع. وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة، من كان منهم منافقا فهو كافر في الباطن. من كان مؤمنا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرا في الباطن. وإن كان أخطأ في التأويل كائنا ما كان خطؤه.
وقد يكون في بعضهم شعبة من النفاق. ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار. ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة، كل واحد منهم يكفر كفرا ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة. بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة. فليس فيهم من كفّر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة. انتهى.
وقال ابن القيّم في طرق أهل البدع: الموافقون على أصل الإسلام ولكنهم مختلفون في بعض الأصول، كالخوارج والمعتزلة والقدرية والرافضة والجهمية وغلاة المرجئة- فهؤلاء أقسام: أحدها- الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له. فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى. وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.
القسم الثاني- متمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق. ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورئاسته ولذاته ومعاشه. فهذا مفرّط مستحق للوعيد، آثم بترك ما أوجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته. فهذا، إن غلب ما فيه من البدعة والهوى، على ما فيه من السنة والهدى، ردّت شهادته. وإن غلب ما فيه من السنة
162
والهدى، على ما فيه من البدعة والهوى، قبلت شهادته.
الثالث- أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويترك، تعصبا أو معاداة لأصحابه.
فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا. وتكفيره محل اجتهاد. انتهى كلامه. فانظره وتأمله. فقد ذكر هذا التفصيل في غالب كتبه. وذكر أن الأئمة وأهل السنة لا يكفرونهم. هذا مع ما وصفهم به من الشرك الأكبر، والكفر الأكبر. وبين في غالب كتبه مخازيهم. ولنذكر من كلامه طرفا تصديقا لما ذكرنا عنه. قال رحمه الله في (المدارج) : المثبتون للصانع نوعان: أحدهما- أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته.
كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية. فإنهم يثبتون مع الله إلها آخر. والمجوسية القدرية تثبت مع الله خالقا للأفعال. ليست أفعالهم مخلوقة لله ولا مقدورة له. وهي صادرة بغير مشيئته تعالى وقدرته. ولا قدرة له عليها. بل هم الذين جعلوا أنفسهم فاعلين مريدين شيّائين. وحقيقة قول هؤلاء: إن الله ليس ربّا خالقا لأفعال الحيوان.
انتهى كلامه. وقد ذكرهم بهذا الشرك في سائر كتبه. وشبههم بالمجوس الذين يقولون: إن للعالم خالقين. وانظر لما تكلم على التكفير هو وشيخه، كيف حكيا عدم تكفيرهم عن جميع أهل السنة. حتى مع معرفة الحق والمعاندة. قال: كفره محل اجتهاد. كما تقدم كلامه قريبا.
وقال ابن تيمية، وقد سئل عن رجلين تكلما في مسألة التكفير. فأجاب وأطال. وقال في آخر الجواب: لو فرض أن رجلا دفع التكفير عمن يعتقد أنه ليس بكافر، حماية له ونصرا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضا شرعيّا حسنا. وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران. وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر. وقال رحمه الله: التكفير إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة. أو بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها. وسئل أيضا، قدس الله روحه، عن التكفير الواقع في هذه الأمة، من أوّل من أحدثه وابتدعه؟ فأجاب: أول من أحدثه في الإسلام المعتزلة. وعنهم تلقاه من تلقاه. وكذلك الخوارج هم أول من أظهره. واضطرب الناس في ذلك. فمن الناس من يحكي عن مالك فيه قولين. وعن الشافعيّ كذلك. وعن أحمد روايتان. وأبو الحسن الأشعريّ وأصحابه لهم قولان. وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفرا. فيطلق القول بتكفير قائله. ويقال: من قال كذا فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قاله لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، من تعريف الحكم الشرعي، من سلطان، أو أمير مطاع. كما هو المنصوص عليه في كتب الأحكام. فإذا عرفه الحكم وزالت عنه الجهالة قامت عليه الحجة. وهذا كما هو في نصوص الوعيد من الكتاب
163
والسنة. وهي كثيرة جدا. والقول بموجبها واجب على وجه العموم. والإطلاق، من غير أن يعين شخص من الأشخاص، فيقال: هذا كافر أو فاسق أو ملعون أو مغضوب عليه أو مستحق للنار، لا سيما إن كان للشخص فضائل وحسنات- فإن ما سوى الأنبياء يجوز عليهم الصغائر والكبائر. مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقا أو شهيدا أو صالحا. كما قد بسط في غير هذا الموضع. من أن موجب الذنوب تتخلف عنه بتوبة أو باستغفار أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة أو لمحض مشيئة الله ورحمته. فإذا قلنا بموجب قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النساء: ٩٣] الآية، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء: ١٠]. وقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ [النساء: ١٤] الآية. وقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ- إلى قوله- وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً [النساء: ٣٠] الآية. إلى غير ذلك من آيات الوعيد، وقلنا بموجب
قوله صلى الله عليه وسلم: لعن الله من شرب الخمر «١»
أو من عقّ والديه «٢» أو من غير منار الأرض «٣» أو من ذبح لغير الله أو لعن الله السارق أو لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه أو لعن الله لاوي الصدقة والمتعدي فيها أو من أحدث «٤» في المدينة حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد- لم يجز أن تعين شخصا، ممن فعل بعض هذه الأفعال، وتقول: هذا المعين قد أصاب هذا الوعيد. لإمكان التوبة وغيرها
(١) أخرجه أبو داود في: الأشربة، ٢- باب العنب يعصر للخمر، حديث ٣٦٧٤.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: الشهادات، ١٠- باب ما قيل في شهادة الزور، حديث ١٢٩١ ونصه: عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ ﷺ «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» (ثلاثا) قالوا: بلى، يا رسول الله! قال «الإشراك بالله وعقوق الوالدين» وجلس وكان متكئا فقال «ألا، وقول الزور» قال فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
ومسلم في: الإيمان، حديث ١٤٣.
(٣)
أخرجه مسلم في: الأضاحيّ، حديث ٤٣ وهذا نصه: عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: كنت عند عليّ بن أبي طالب، فأتاه رجل فقال: ما كان النبيّ ﷺ يسرّ إليك؟ قال فغضب وقال: ما كان النبيّ ﷺ يسرّ إليّ شيئا يكتمه الناس. غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. قال فقال: ما هنّ يا أمير المؤمنين؟
قال: قال «لعن الله من لعن والده. ولعن الله من ذبح لغير الله. ولعن الله من آوى محدثا. ولعن الله من غيّر منار الأرض».
(٤)
أخرجه البخاريّ في: فضائل المدينة، ١- باب حرم المدينة، حديث ١٧٤ عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ قال «المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث. من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
164
من مسقطات العقوبة. إلى أن قال: ففعل هذه الأمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد ونحو ذلك، وغايته أنه معذور من لحوق الوعيد به لمانع، كما امتنع لحوق الوعيد بهم لتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو غير ذلك. وهذه السبيل هي التي يجب اتباعها. فإن ما سواها طريقان خبيثان: أحدهما- القول بلحوق الوعيد بكل فرد من الأفراد بعينه. ودعوى أنها عمل بموجب النصوص. وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب، والمعتزلة وغيرهم. وفساده معلوم بالاضطرار. وأدلته معلومة في غير هذا الموضع. فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق.
لكن الشخص المعين الذي فعله لا يشهد عليه بالوعيد. فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار، لفوات شرط أو لحصول مانع. وهكذا الأقوال الذي يكفر قائلها. قد يكون القائل لها لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق. وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده. أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها. أو قد عرضت له شبهات يعذره الله بها.
فمن كان مؤمنا بالله وبرسوله، مظهرا للإسلام، محبّا لله ورسوله، فإن الله يغفر له لو قارف بعض الذنوب القولية أو العملية. سواء أطلق عليه لفظ الشرك أو لفظ المعاصي. هذا الذي عليه أصحاب رسول الله ﷺ وجماهير أئمة الإسلام. لكن المقصود أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل، بالفرق بين النوع والعين. بل لا يختلف القول عن الإمام أحمد وسائر أئمة الإسلام كمالك وأبي حنيفة والشافعيّ، أنهم لا يكفرون المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل. ونصوصهم صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم. وإنما كان الإمام أحمد يطلق القول بتكفير الجهمية لأنه ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل.
وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة. لكن ما كانوا يكفرون أعيانهم. فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله ولا يدعو إليه. والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط. والذي يكفّر مخالفه أعظم من الذي يعاقب. ومع هذا فالذين من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق. وإن الله لا يرى في الآخرة. وإن ظاهر القرآن لا يحتج به في معرفة الله، ولا الأحاديث الصحيحة. وإن الدين لا يتم إلا بما زخرفوه من الآراء والخيالات الباطلة والعقول الفاسدة. وأن خيالاتهم وجهالاتهم أحكم في دين الله من كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان. وإن أقوال الجهمية والمعطلة من النفي والإثبات أحكم في دين الله. بسبب ذلك امتحنوا المسلمين وسجنوا الإمام أحمد وجلدوه وقتلوا جماعة وصلبوا آخرين. ومع ذلك لا يطلقون أسيرا ولا يعطون من بيت المال إلا من وافقهم ويقرّ بقولهم. وجرى على الإسلام منهم أمور مبسوطة في غير هذا
165
الموضع. ومع هذا التعطيل الذي هو شر من الشرك، فالإمام أحمد ترحّم عليهم واستغفر لهم، وقال: ما علمت أنهم مكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا جاحدون لما جاء به.
لكنهم تأوّلوا فأخطأوا. وقلدوا من قال ذلك. والإمام الشافعيّ لما ناظر حفص الفرد، من أئمة المعطلة، في مسألة (القرآن مخلوق) قال له الإمام الشافعيّ: كفرت بالله العظيم. فكفّره ولم يحكم بردته بمجرد ذلك. ولو اعتقد ردته وكفره لسعى في قتله.
وأفتى العلماء بقتل دعاتهم مثل غيلان القدريّ والجعد بن درهم وجهم بن صفوان إمام الجهمية وغيرهم. وصلى الناس عليهم ودفنوهم مع المسلمين. وصار قتلهم من باب قتل الصائل. لكفّ ضررهم، لا لردتهم. ولو كانوا كفارا لرءاهم المسلمون كغيرهم. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. وقال ابن القيّم في (شرح المنازل) : أهل السنة متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة، من وجهين مختلفين. ويكون محبوبا لله ومبغوضا من وجهين. بل يكون فيه إيمان ونفاق، وإيمان وكفر، ويكون إلى أحدهما أقرب من الآخر. فيكون إلى أهله كما قال تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ [آل عمران: ١٦٧]. وقال: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. فأثبت لهم، تبارك وتعالى، الإيمان مع مقارنة الشرك. فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان. وإن كان تصديق برسله وهم يرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل واليوم الآخر- فهم مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أهل الكبائر. وبهذا الأصل أثبت أهل السنة دخول أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها ودخولهم الجنة، لما قام بهم من السببين. قال: وقال ابن عباس، في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: ٤٤] قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس بكفر ينقل عن الملة. إذا فعله فهو به كفر. وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر.
وكذلك قال طاوس وعطاء. انتهى كلامه.
وقال الشيخ تقيّ الدين: كان الصحابة والسلف يقولون: إنه يكون في العبد إيمان ونفاق. وهذا يدل عليه قوله عز وجل: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ [آل عمران: ١٦٧]. وهذا كثير في كلام السلف. يبيّنون أن القلب يكون فيه إيمان ونفاق. والكتاب والسنة يدل على ذلك. ولهذا
قال النبيّ ﷺ «١» :«يخرج
(١) أخرجه البخاريّ في: التوحيد، ٢٤- باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، حديث ٢١.
166
من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان»
. فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل قليل لم يخلد في النار. وإن كان معه كثير من النفاق، فهذا يعذب في النار على قدر ما معه ثم يخرج. إلى أن قال: وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر وشعبة من شعب النفاق. وقد يكون مسلما وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية. كما قال الصحابة، ابن عباس وغيره: كفر دون كفر. وهذا عامة قول السلف انتهى.
فتأمل هذا الفصل وانظر حكايتهم الإجماع من السلف. ولا تظن أن هذا في المخطئ. فإن ذلك مرفوع عنه إثم خطئه كما تقدم مرارا عديدة.
وقال الشيخ تقيّ الدين في كتاب (الإيمان) : الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن. وإن المنافقين الذين قالوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: ٨]، هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع المسلمين ويناكحونهم ويوارثونهم. كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يحكم النبيّ ﷺ فيهم بحكم الكفار المظهرين الكفر لا في مناكحتهم ولا في موارثتهم ولا نحو ذلك. بل لما مات عبد الله بن أبيّ، وهو من أشهر الناس في النفاق، ورثه عبد الله ابنه، وهو من خيار المؤمنين. وكذلك سائر من يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون. وإذا مات لهم وارث ورثوه مع المسلمين وإن علم أنه منافق في الباطن. وكذلك كانوا في الحدود والحقوق كسائر المسلمين. وكانوا يغزون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من همّ بقتل النبيّ ﷺ في غزوة تبوك. ومع هذا، ففي الظاهر، تجرى عليهم أحكام أهل الإيمان. إلى أن قال: ودماؤهم وأموالهم معصومة ولا يستحل منهم ما يستحل من الكفار. والذين يظهرون أنهم مؤمنون، بل يظهرون الكفر دون الإيمان، فإنه
صلى الله عليه وسلم قال «١» : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وحسابهم على الله.
وكما
قال لأسامة «٢» : أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ قال: فقلت: إنما قالها
(١)
أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٩٥- باب على ما يقاتل المشركون، حديث ٢٦٤١ وهذا نصه: عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا. فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها: لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين»
. (٢)
أخرجه مسلم في صحيحه في: الإيمان، حديث ١٥٨ ونصه: عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله ﷺ في سرية. فصبّحنا الحرقات من جهينة. فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله. فطعنته، فوقع
167
تعوذا. قال: هل شققت عن قلبه؟
وقال «١» : إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم. وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول: أليس يصلي؟ أليس يشهد؟ فإذا قيل له: إنه منافق، قال ذلك. فكان حكمه في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم ولا يستحل منها شيئا مع أنه يعلم نفاق كثير منهم
. انتهى كلام الشيخ.
وقد أوضح حجة الإسلام الغزاليّ رضي الله عنه في (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) الكفر المخرج عن الملة، والعياذ بالله تعالى، بعد مقدمته المدهشة بقوله:
لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين.
فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض. ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفرق وتطويل اللسان في أهل الإسلام. وإن اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين بقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صادقين بها غير مناقضين لها. فأقول: الكفر هو تكذيب الرسول عليه السلام في شيء مما جاء به. والإيمان تصديقه في جميع ما جاء به. فاليهوديّ والنصرانيّ كافران لتكذيبهما للرسول عليه السلام. والبرهميّ كافر بالطريق الأولى لأنه أنكر، مع رسولنا، سائر المرسلين. والدهريّ كافر بالطريق الأولى، لأنه أنكر، مع
في نفسي من ذلك. فذكرته للنبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله ﷺ «أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟» قال قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفا من السلاح قال: «أشققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟» فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ
. (١)
أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٦١- باب بعث عليّ بن أبي طالب. عليه السلام وخالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن قبل حجة الوداع، حديث ١٥٨١ ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ قال: بعث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله ﷺ من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ، لم تحصّل من ترابها. قال فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل. والرابع، إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل. فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. قال فبلغ ذلك النبيّ ﷺ فقال «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟» قال فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمّر الإزار، فقال:
يا رسول الله! اتق الله. قال: «ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ قال ثم ولى الرجل.
قال خالد بن الوليد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال «لا. لعله أن يكون يصلي»
فقال خالد: وكم من مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول الله ﷺ «إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم».
قال ثم نظر إليه وهو مقفّ فقال: «إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (وأظنه قال) لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود».
168
رسولنا المرسل، سائر الرسل. وهذا لأن الكفر حكم شرعيّ كالرق والحرية مثلا.
إذ معناه. إباحة الدم والحكم بالخلود في النار. ومدركه شرعيّ فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص. وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى. والتحق بهم بالطريق الأولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية. وكلهم مشركون. فإنهم مكذبون للرسول. فكل كافر مكذب للرسول، وكل مكذب فهو كافر. فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة.
وتتمة هذا البحث في هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه فاضل. فارجع إليه.
وعض بنواجذك عليه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ تعجيب من تمادحهم بالتزكية التي هي التطهير والتبرئة من القبيح فعلا وقولا، المنافية لما هم عليه من الطغيان والشرك الذي قصه تعالى عنهم قبل. فالمراد بهم اليهود. وقد حكى تعالى عنهم أنهم يقولون:
نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨]. وحكى عنهم أيضا أنهم قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠]. وأنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١١١]. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب. وكذبوا. قال الله: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له. وأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ. أي انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم فيه من الكفر والإثم العظيم. أو من ادعائهم تكفير ذنوبهم مع استحالة أن يغفر للكافر شيء من كفره أو معاصيه. وقوله تعالى بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ تنبيه على أن تزكيته هي المعتد بها دون تزكية غيره. فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح. وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين.
تنبيه:
قال الزمخشريّ: يدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله. فإن قلت: أما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله! إني لأمين في السماء، أمين في الأرض؟ قلت: إنما قال ذلك حين قال له المنافقون:
169
اعدل في القسمة، إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه. وشتان من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم.
وقد ورد في ذم التمادح والتزكية أحاديث كثيرة. منها
عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال «١» : سمع النبيّ ﷺ رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح فقال:
أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل»
. متفق عليه.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه «٢» أن رجلا ذكر عند النبيّ ﷺ فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ويحك! قطعت عنق صاحبك (يقوله مرارا) إن كان أحدكم مادحا، لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك. وحسيبه الله.
ولا يزكي على الله أحدا»
. متفق عليه. وعن همّام بن الحارث عن المقداد رضي الله عنه «٣» أن رجلا جعل يمدح عثمان رضي الله عنه. فعمد المقداد فجثا على ركبتيه.
فجعل يحثو في وجهه الحصاء. فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله ﷺ قال: إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب. رواه مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر ابن الخطاب: من قال: أنا مؤمن فهو كافر. ومن قال: هو عالم، فهو جاهل. ومن قال:
هو في الجنة فهو في النار. ورواه ابن مردويه عن طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه.
فمن قال إنه مؤمن فهو كافر. ومن قال هو عالم فهو جاهل. ومن قال هو في الجنة فهو في النار.
وروى الإمام أحمد عن معبد الجهنيّ قال: كان معاوية قلّما كان يحدث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: وكان قلّما يدع، يوم الجمعة، هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. وإن هذا المال حلو خضر فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه. وإياكم والتمادح فإنه الذبح.
وروى ابن ماجة عنه «٤» : إياكم والتمادح فإنه الذبح.
(١) أخرجه البخاريّ في: الأدب، ٥٤- باب ما يكره من التمادح، حديث ١٢٩٣.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الأدب، ٥٤- باب ما يكره من التمادح، حديث ١٢٩٤.
(٣) أخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث ٦٩. [.....]
(٤) أخرجه في: الأدب، ٣٦- باب المدح، حديث ٣٧٤٣.
170
وروى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال «١» : إن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء. يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرّا فيقول له: والله! إنك لذيت وذيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء، وقد أسخط الله عليه، ثم قرأ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ... الآية وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على جملة قد حذفت، تعويلا على دلالة الحال عليها وإيذانا بأنها غنية عن الذكر. أي يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب فتيلا، أي أدنى ظلم وأصغره. والفتيل الخيط الذي في شق النواة أو ما يفتل بين الأصابع من الوسخ.
يضرب به المثل في القلة والحقارة. وقيل: التقدير، يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلا. ولا يساعده مقام الوعيد. قاله أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥٠]
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١١١] وقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠] واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة. وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئا، في قوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [البقرة: ١٣٤]. الآية.
قال العلامة أبو السعود: (كيف) نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال.
والعامل (يفترون) وبه تتعلق (على) أي: في أي حال أو على أي حال يفترون عليه تعالى الكذب. والمراد بيان شناعة تلك الحال وكمال فظاعتها. والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض و (النظر) متعلق بهما. وهو تعجيب إثر تعجيب. وتنبيه على أن ما ارتكبوه متضمن لأمرين عظيمين موجبين للتعجيب: ادعاؤهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه. وافتراؤهم على الله سبحانه. فإن ادعاءهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قبول الله وارتضاءه إياهم. تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
ولكون هذا أشنع من الأول جرما، وأعظم قبحا لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قبول الكفر وارتضائه لعباده، ومغفرة كفر الكافر وسائر معاصيه- وجّه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب. والتصريح
(١) الأثر رقم ٩٤٧٧.
بالكذب، مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا، للمبالغة في تقبيح حالهم وَكَفى بِهِ أي بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثامهم العظام إِثْماً مُبِيناً ظاهرا بينا كونه إثما. والمعنى: كفى ذلك وحده في كونهم أشد إثما من كل كفّار أثيم. أو في استحقاقهم لأشد العقوبات. ثم حكى تعالى عن اليهود نوعا آخر من المكر. وهو أنهم كانوا يفضلون عبدة الأصنام على المؤمنين، تعصبا وعنادا، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥١]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي علما بالتوراة الداعية إلى التوحيد وترجيح أهله. والكفر بالجبت والطاغوت. ووصفهم بما ذكر، من إيتاء النصيب، لما مر من منافاته لما صدر عنهم من القبائح يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الجبت يطلق، لغة، على الصنم والكاهن والساحر والسحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله تعالى. وكذا الطاغوت. فيطلق على الكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ومردة أهل الكتاب. كما في القاموس. وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي أشركوا بالله، وهم كفار مكة، أي لأجلهم وفي حقهم هؤُلاءِ يعنونهم أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وحده سَبِيلًا أي أرشد طريقة. وإيرادهم بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين، بل من جهة الله تعالى، تعريفا لهم بالوصف الجميل، وتخطئة لمن رجّح عليهم المتصفين بأقبح القبائح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥٢]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢)
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن رحمته وطردهم وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ أي يبعده عن رحمته فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً يدفع عنه العذاب دنيويّا كان أو أخرويّا.
لا بشفاعة ولا بغيرها.
قال الرازيّ: إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد ﷺ يجري مجرى المكابرة. فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله؟ ومن كان دينه الإقبال
بالكلية على خدمة الخالق والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال؟
وقد روى الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، قال: أنتم خير. قال فنزلت فيهم:
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: ٣]. ونزل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ- إلى- نَصِيراً.
وقال الإمام ابن إسحاق رضي الله عنه: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة، حييّ بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وأبو رافع والربيع بن أبي الحقيق وأبو عامر ووحوح بن عامر وهودة بن قيس. فأما وحوح وأبو عامر وهودة فمن بني وائل وكان سائرهم من بني النضير. فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول. فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ... إلى قوله عز وجل: وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة. لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين. وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم وقد أجابوهم وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبيّ ﷺ وأصحابه حول المدينة الخندق (فكفى الله شرّهم). (وردّ الله الّذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا)، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب: ٢٥].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥٣]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. لما ذم سبحانه اليهود بتزكيتهم أنفسهم وتفضيلهم المشركين على الموحدين، شرع في تفصيل بعض آخر من مثالبهم. وهو وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر خصلتين. و (أم) منقطعة. والهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف. أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا مقدار نقير
لفرط بخلهم. و (النقير) النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة والحقارة. كالفتيل والقطمير. والمراد بالملك إما ملك أهل الدنيا وإما ملك الله. كقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ [الإسراء: ١٠٠].
وقال أبو السعود: وهذا هو البيان الكاشف عن كنه حالهم. وإذا كان شأنهم كذلك وهم ملوك فما ظنك بهم وهم أذلاء متفاقرون؟ ويجوز أن لا تكون الهمزة لإنكار الوقوع بل لإنكار الواقع والتوبيخ عليه. أي لعده منكرا غير لائق بالوقوع. على أن الفاء للعطف والإنكار متوجه إلى مجموع المعطوفين على معنى: ألهم نصيب وافر من الملك حيث كانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك فلا يؤتون الناس مع ذلك نقيرا؟ كما تقول لغنيّ لا يراعي أباه: ألك هذا القدر من المال فلا تنفق على أبيك شيئا؟ وفائدة (إذن) تأكيد الإنكار والتوبيخ. حيث يجعلون ثبوت النصيب سببا للمنع مع كونه سببا للإعطاء. وهي ملغاة عن العمل. كأنه قيل: فلا يؤتون الناس إذن: وقرئ: (فإذن لا يؤتوا) بالنصب على إعمالها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥٤]
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ منقطعة أيضا مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق، أعني البخل، إلى توبيخهم بالحسد. وهما شر الرذائل كما قدمنا. وكأن بينهما تلازما وتجاذبا. واللام في (الناس) للعهد والإشارة إلى رسول الله ﷺ والمؤمنين.
وروى الطبرانيّ بسنده عن ابن عباس في هذه الآية قال: نحن الناس دون الناس.
والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه.
قال الرازيّ: وإنما حسن ذكر الناس لإرادة طائفة معينة من الناس. لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] فما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا ﷺ ومن كان على دينه- كان هو وأصحابه كأنهم كل الناس. فلهذا حسن إطلاق لفظ (الناس) وإرادتهم على التعيين عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو النبوة والكتاب والرشد وازدياد العز والنصر يوما فيوما. وقوله تعالى فَقَدْ آتَيْنا تعليل للإنكار والاستقباح وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم. وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم،
المبنيّين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتي من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابرا عن كابر. وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر. والمعنى: أن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان. فإنا قد آتينا من قبل هذا آلَ إِبْراهِيمَ الذين هم أسلاف محمد ﷺ وأبناء أعمامه الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ النبوة وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً لا يقادر قدره. فكيف يستبعدون نبوته ويحسدونه على إيتائها؟ أفاده أبو السعود.
قال الرازيّ: إن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة. فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم. ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين. ثم إنه تعالى أعطاها لمحمد ﷺ وضم إليها أنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا. فلما كانت هذه النعم سببا لحسد هؤلاء، بيّن تعالى ما يدفع ذلك فقال: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. والمعنى: أنه حصل في أولاد إبراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونهم. فلم تتعجبون من حال محمد ﷺ ولم تحسدونه؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥٥]
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ حكاية لما صدر عن أسلافهم. أي:
فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما أوتي آل إبراهيم. ومنهم من كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه. وهو منهم ومن جنسهم. أي من بني إسرائيل.
وقد اختلفوا عليهم. فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟ فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك وأبعد عما جئتهم به من الهدى والحق المبين. وفيه تسلية لرسول الله ﷺ وأن ذلك ديدنهم المستمر وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي نارا مسعّرة يعذبون بها على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله. ثم أخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصدّ عن رسله فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً أي عظيمة هائلة كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ
أي احترقت احتراقا تامّا بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي ليدوم لهم. وذلك أبلغ في العذاب للشخص. لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق، أبلغ من إحساسه لعملها في المحترق.
تنبيه:
لهم في التبديل وجهان: الأول- أنه تبديل حقيقيّ ماديّ. فيخلق مكانها جلود أخر جديدة مغايرة للمحترقة. الثاني- أنه تبديل وصفيّ: أي أعدنا الجلود جديدة مغايرة للمحترقة صورة. وإن كانت عينها مادة. بأن يزال عنها الاحتراق ليعود إحساسها للعذاب. فلم تبدل إلا صفتها، لا مادتها الأصلية. وفيه بعد. إذ يأباه معنى التبديل.
وقال الرازيّ: يمكن أن يقال: هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع. كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ. وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ. من أوله. فكذا قوله كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الآية. يعني: كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك، أعطيناهم قوة جديدة من الحياة. بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا. فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه. انتهى.
وهذا أبعد مما قبله. إذ ليس لنا أن نعدل في كلام الله تعالى عن الحقيقة إلى المجاز، إلا عند الضرورة. لا سيما وقد روي عن السلف، صحابة وتابعين، أنهم يبدلون في اليوم أو الساعة مرات عديدة. كما رواه ابن جرير وغيره مفصّلا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه ما يريد حَكِيماً فيما يقضيه. ومنه هذا التبديل. إذ لا يتم تخليد العذاب الموعود، على الكفر الذي لا ينزجرون عنه، بالعذاب المنقطع.
وعدا لا بد من إيفائه. ثم بيّن مآل أهل السعادة فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥٧]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
وَالَّذِينَ آمَنُوا أي بمحمد ﷺ والقرآن وجملة الكتب والرسل وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم بالإخلاص سَنُدْخِلُهُمْ أي في الآخرة جَنَّاتٍ
أي بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت شجرها وقصورها الْأَنْهارُ أي أنهار الخمر واللبن والعسل والماء خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي مقيمين في
الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها لَهُمْ فِيها أي الجنة أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة والصفات الناقصة وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أي كنّا كنينا لا تنسخه الشمس، ولا حرّ فيه ولا برد. و (ظليل) صفة مشتقة من لفظ (الظل) لتأكيد معناه، كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم.
وفي الصحيحين «١» عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ قال: «إن في الجنة لشجرة يسير، الراكب الجواد المضمّر السريع، مائه عام ما يقطعها».
وفيهما «٢» أيضا من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: «يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطعها».
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥٨]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع.
قال أبو السعود: في تصدير الكلام بكلمة التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار، من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال به والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه. وهو خطاب يعم حكمه المكلفين قاطبة. كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بذممهم: من حقوق الله تعالى وحقوق العباد. سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية. وإن ورد في شأن عثمان بن طلحة. انتهى.
أي لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. كما تقرر في الأصول.
وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها. الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر.
وفي حديث سمرة: إن رسول الله ﷺ قال: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك». رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة. واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزّى بن عثمان بن
(١) أخرجه البخاريّ في: الرقاق، ٥١- باب صفة الجنة والنار، حديث ٢٤٦١.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: بدء الخلق، ٨- باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ١٥٣٩ ونصه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ قال «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة». واقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة: ٣٠].
177
عبد الدار بن قصيّ بن كلاب القرشيّ العبدريّ حاجب الكعبة المعظمة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم. أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة، هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
وأما عمه عثمان بن طلحة بن أبي طلحة فكان معه لواء المشركين يوم أحد وقتل يومئذ كافرا. وإنما نبهنا على هذا النسب لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليه هذا بهذا. وسبب نزولها فيه: لما أخذ رسول الله ﷺ مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه. قال محمد بن إسحاق (في غزوة الفتح) : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله ﷺ لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له. فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ثم وقف على باب الكعبة وقد استكفّ له الناس في المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ قام على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. صدق وعده. ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده. ألا كلّ مأثرة أو دم أو مال يدّعى، فهو تحت قدميّ هاتين: إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج. وذكر بقية الحديث في خطبة النبيّ ﷺ يومئذ. إلى أن قال:
ثم جلس رسول الله ﷺ في المسجد. فقام إليه عليّ بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده. فقال: يا رسول الله! اجمع لنا الحجابة مع السقاية. صلى الله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له. فقال هاك مفتاحك، يا عثمان! اليوم يوم برّ ووفاء.
وروى ابن جرير «١» عن ابن جريج، في الآية قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة. قبض منه النبيّ ﷺ مفتاح الكعبة. ودخل به البيت يوم الفتح. فخرج وهو يتلو هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فدعا عثمان إليه.
فدفع إليه المفتاح. قال: وقال عمر بن الخطاب (لما خرج رسول الله ﷺ من الكعبة وهو يتلو هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها: فداه أبي وأمي. ما سمعته يتلوها قبل ذلك.
(١) الأثر رقم ٩٨٤٦.
178
قال السيوطيّ: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة. انتهى.
وعن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب أن هذه الآية نزلت في الأمراء. يعني الحكام بين الناس.
وقال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآية وجوب ردّ كل أمانة من وديعة وقراض وقرض وغير ذلك. واستدل المالكية، بعموم الآية، على أن الحربيّ إذا دخل دارنا بأمان فأودع وديعة ثم مات أو قتل، إنه يجب رد وديعته إلى أهله. وأن المسلم إذا استدان من الحربيّ بدار الحرب ثم خرج، يجب وفاؤه. وأن الأسير إذا ائتمنه الحربيّ على شيء لا يجوز له أن يخونه. وعلى أن من أودع مالا وكان المودع خانه قبل ذلك، فليس له أن يجحده كما جحده. ويوافق هذه المسألة حديث: أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في هذه الآية قال: مبهمة للبر والفاجر.
يعني عامة.
وقد أخرج ابن جرير وغيره أنها نزلت في شأن مفتاح الكعبة. لما أخذه النبيّ ﷺ من عثمان بن طلحة. واختار ما رواه عليّ وغيره أنها خطاب لولاة المسلمين.
أمروا بأداء الأمانة لمن ولوا عليه. فيستدل بالآية على أن على الحكام والأئمة ونظار الأوقاف أداء الحقوق المتعلقة بذممهم من توليه المناصب وغيرها إلى من يستحقها.
كما أن قوله تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. أمر لهم بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها. وحيث كان المأمور به ههنا مختصا بوقت المرافعة، قيد به. بخلاف المأمور به أولا. فإنه لما لم يتعلق بوقت دون وقت أطلق إطلاقا. وأصل العدل هو المساواة في الأشياء. فكل ما خرج من الظلم والاعتداء سمي عدلا.
روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص «١» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين.
الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا»
.
وروى الترمذيّ عن أبي سعيد الخدريّ «٢» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب
(١) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ١٨.
(٢) أخرجه في: الأحكام، ٤- باب ما جاء في الإمام العادل.
179
الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم عنده مجلسا: إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا: إمام جائر».
وروى الحاكم والبيهقيّ بسند صحيح عن ابن أبي أوفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر. فإذا جار تبرأ الله منه وألزمه الشيطان».
قال الإمام ابن تيمية رضي الله عنه في رسالته (السياسة الشرعية) بعد الخطبة:
هذه الرسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله تعالى. وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها... الآية. قال العلماء: نزلت في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل. ثم قال: وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها: والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة. ثم قال: أما أداء الأمانات ففيه نوعان:
أحدهما- الولايات وهو كان سبب نزول الآية. فإن النبيّ ﷺ لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة وطلبها العباس ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله هذه الآية. فرد مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة. فيجب على وليّ الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل.
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولّى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين». رواه الحاكم في صحيحه.
وفي رواية: من قلد رجلا عملا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين
. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين. فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة. ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر الكبار والصغار وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين. وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمراء الحاج والبرد وخزان الأموال ونقباء العساكر الكبار والصغار وعرفاء القبائل والأسواق.
على كل من ولي شيئا من أمور المسلمين من الأمراء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده، في كل موضع، أصلح من يقدر عليه. ولا يقدم الرجل لكونه طلب أو
180
سبق في الطلب. بل ذلك سبب المنع. فإن
في الصحيح «١» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه».
وقال «٢» لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة. فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها من مسألة وكلت إليها». أخرجاه في الصحيحين.
وقال «٣» :«من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه. ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله إليه ملكا يسدده». رواه أهل السنن
. فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولّاه عتاقة أو صداقة أو موافقة في مذهب أو بلد أو طريقة أو جنس، كالعربية والفارسية والتركية والرومية. أو لرشوة يأخذها منه من ماله أو منفعة. أو غير ذلك من الأسباب. أو لضغن في قلبه على الأحق. أو عداوة بينهما- فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى عنه في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: ٢٧].
ثم قال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
[الأنفال: ٢٨]. فإن الرجل لحبه لولده أو عتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته. وكذلك قد يؤثر زيادة حفظه أو ماله بأخذ ما لا يستحقه أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته. ثم إن المؤدي الأمانة، مع مخالفة هواه، يثيبه الله فيحفظه في أهله وماله بعده. والمطيع لهواه يعاقبه بنقيض قصده. فيذل أهله ويذهب ماله. وفي ذلك الحكاية المشهورة: إن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدّث
(١)
جاء في معناه حديث رواه البخاريّ في: الأحكام، ٧- باب ما يكره من الحرص على الإمارة، حديث ١١٢٩ ونصه: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنا ورجلان من قومي. فقال أحد الرجلين: أمّرنا يا رسول الله! وقال الآخر مثله. فقال «إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه»
. (٢)
أخرجه البخاريّ في: الأحكام، ٥- باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها. و ٦- باب من سأل الإمارة وكل إليها، حديث ٢٤٨٨ ونصه: عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة. فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها. وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فكفّر عن يمينك وأت الذي هو خير»
. (٣) أخرجه أبو داود في: الأقضية، ٣- باب في طلب القضاء والتسرع إليه، حديث ٣٥٧٨. عن أنس ابن مالك.
181
بما أدرك. فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أفقرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم. وكان في مرض موته، فقال:
أدخلوهم عليّ. فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكرا. ليس فيهم بالغ. فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال: والله! يا بنيّ! ما منعتكم حقّا هو لكم. ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم. وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح فالله يتولى الصالحين. وإما غير صالح فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله. قوموا عني.
قال: ولقد رأيت بعض ولده حمل على مائة في سبيل الله. يعني أعطاها لمن يغرو عليها.
قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق ببلاد الترك إلى أقصى المغرب بالأندلس وغيرها من جزيرة قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها، إلى أقصى اليمن. وإنما أخذ كل واحد من أولاده من تركته شيئا يسيرا، يقال أقل من عشرين درهما.
قال: وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه. فأخذ كل واحد ستمائة ألف دينار. ولقد رأيت بعضهم يتكفّف الناس، أي يسألهم بكفه. وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان، والمسموعة عما قبله، عبرة لكل ذي لب. وقد دلت سنة رسول الله ﷺ على أن الولاية أمانة يجب أداؤها، في موضع مثل ما تقدم. ومثل
قوله لأبي ذر رضي الله عنه في الإمارة: «إنها أمانة وإنها يوم القيامة حسرة وندامة. إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه». فيما رواه مسلم «١».
وروى البخاريّ «٢» في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ ﷺ قال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قيل: يا رسول الله! وما إضاعتها؟ قال: إذا وسّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة».
(١)
أخرجه في: الإمارة، حديث ١٦ ونصه: عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال فضرب بيده على منكبي ثم قال «يا أبا ذر! إنك ضعيف. وإنها أمانة. وإنها يوم القيامة خزي وندامة. إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها».
(٢)
أخرجه في: العلم، ٢- باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل، حديث ٥٢ ونصه: عن أبي هريرة قال: بينما النبيّ ﷺ في مجلس يحدّث القوم جاءه أعرابيّ فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله ﷺ يحدّث. فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال.
182
وقد أجمع المسلمون على هذا.
ثم قال ابن تيمية رحمه الله: القسم الثاني- أمانات الأموال كما قال الله تعالى في الديون: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة: ٢٨٣]. ويدخل في هذا القسم الأعيان والديون الخاصة والعامة. مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك. وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك. وقد قال الله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ- إلى قوله- وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المعارج: ١٩- ٣٢]. وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء: ١٠٥]. أي لا تخاصم عنهم.
وقال النبيّ ﷺ «١» :«المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم. والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه. والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله».
وهو حديث صحيح، بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذيّ.
وقال النبيّ ﷺ «٢» : من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله. رواه البخاريّ.
وإذا كان الله تعالى قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق، ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم. وكذلك أداء العارية.
وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال «أين أراه السائل عن الساعة؟» قال: ها أنا يا رسول الله! قال «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» قال: كيف إضاعتها؟ قال «إذا وسّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة».
(١)
جاء في الترمذيّ في: الإيمان، ١٢- باب ما جاء في أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»
.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. [.....]
(٢) أخرجه البخاريّ في: الاستقراض وأداء الديون، ٢- باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها، حديث ١١٨٨، عن أبي هريرة.
183
ولينظر تتمة هذا البحث في الرسالة المذكورة. فإن الوقوف عليها من المهمات. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم ما يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة. و (ما) إما منصوبة موصوفة ب (يعظكم) أو مرفوعة موصولة. كأنه قيل نعم شيئا يعظكم به. أو نعم الشيء الذي يعظكم به. والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها متضمنة لمزيد لطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال بالأمر إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً لأقوالكم في الأمانات والأحكام بَصِيراً بأفعالكم فيهما. فإن سمع ورأى خيرا جازاكم عليه خير الجزاء.
وإن سمع ورأى شرّا جازاكم عليه. فهو وعد ووعيد. وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي يونس قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها إلى قوله- سَمِيعاً بَصِيراً. ويضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه ويقول: هكذا سمعت رسول الله ﷺ يقرؤها ويضع إصبعه.
وقال أبو زكريا: وصفه لنا المقري ووضع أبو زكريا إبهامه الأيمن على عينه اليمنى. والتي تليها على الأذن اليمنى. وأرانا، فقال: هكذا. وهكذا رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وابن مردويه في تفسيره.
وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة. واسمه سليم بن جبير. أفاده ابن كثير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ اعلم أنه تعالى، لما أمر الرعاة والولاة بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، أمر الرعية من الجيوش وغيرهم بطاعة أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك. إلا أن يأمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
قال الرازيّ: قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة. فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا
. وقد روى الطبريّ «١» بسند صحيح عن أبي هريرة: إن أولي الأمر هم الأمراء. واحتج له
(١) الأثر رقم ر ٩٨٥٦.
184
الشافعيّ بأن قريشا ومن يليها من العرب كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير.
فأمروا بالطاعة لمن ولي الأمر، والانقياد له إذا بعثهم في السرايا، وإذا ولاهم البلاد. فلا يخرجوا عليهم ولا يمتنعوا عليهم، لئلا تفترق الكلمة. ولذلك
قال «١» صلى الله عليه وسلم: «من أطاع أميري فقد أطاعني».
متفق عليه. وفي البخاريّ «٢» عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عديّ إذ بعثه النبيّ ﷺ في سرية.
قال ابن كثير: وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة وقال الترمذيّ: حديث حسن غريب. ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج.
وروى الطبريّ «٣» عن السدّيّ أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد ابن الوليد. وكان خالد أميرا. فأجار عمار رجلا بغير أمره. فتخاصما وارتفعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير.
(١)
أخرجه البخاريّ في: الأحكام، ١- باب قول الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، حديث ١٤٠٩ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني»
. (٢) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١١- باب قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، حديث ١٩٩١.
(٣)
الأثر ٩٨٦١ ونصه: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن مفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدّي: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قال: بعث رسول الله ﷺ سرّية عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر. فساروا قبل القوم الذين يريدون. فلما بلغوا قريبا منهم عرّسوا. وأتاهم ذو العيينتين (الجاسوس) فأخبرهم فأصبحوا قد هربوا. غير رجل أمر أهله فجمعوا متاعهم ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد. فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان! إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت. فهل إسلامي نافعي غدا، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك فأقم. فأقام. فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل. فأخذه وأخذ ماله. فبلغ عمارا الخبر. فأتى خالدا فقال: خلّ عن الرجل فإنه قد أسلم، وهو في أمان مني. فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبّا وارتفعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير.
فاستبا عند رسول الله ﷺ فقال خالد: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خالد! لا تسب عمارا فإنه من سب عمارا سبه الله. ومن أبغض عمارا أبغضه الله. ومن لعن عمارا لعنه الله».
فغضب عمار فقام. فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه.
فأنزل الله تعالى قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
.
185
قال ابن كثير: وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدّي مرسلا. ورواه ابن مردويه عن السدّيّ عن أبي صالح عن ابن عباس. فذكره بنحوه.
ولا تنافي بين الروايتين لما أسلفناه في مقدمة التفسير في بحث سبب النزول.
فتذكر.
وقال الزمخشريّ: المراد بأولي الأمر منكم، أمراء الحق. لأن أمراء الجور، الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهي عن أضدادهما. كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان. وكان الخلفاء يقولون: أطيعوني ما عدلت فيكم فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.
وفي الصحيحين «١» عن عليّ رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «إنما الطاعة في المعروف».
وروى الإمام أحمد «٢» عن عمران بن حصين عن النبيّ ﷺ قال: «لا طاعة في معصية الله».
لطيفة:
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : النكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولي الأمر، مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى- كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسنة. فكان التقدير: وأطيعوا الله فيما قضى عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن وما ينصه عليكم من السنة.
والمعنى: أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبّد بتلاوته. وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن.
ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية. لما قال له:
أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؟ فقال له: أليس قد نزعت
(١)
أخرجه في: الأحكام، ٤- باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، حديث ١٩٣٣ ونصه:
عن عليّ رضي الله عنه قال: بعث النبيّ ﷺ سرية وأمّر عليهم رجلا من الأنصار. وأمرهم أن يطيعوه. فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبيّ ﷺ أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطبا وأوقدتم نارا ثم دخلتم فيها. فجمعوا حطبا فأوقدوا (نارا) فلما هموا بالدخول فقام ينظر إلى بعض. قال بعضهم: إنما تبعنا النبيّ ﷺ فرارا من النار، أفندخلها؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه. فذكر النبيّ ﷺ فقال «لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا.
إنما الطاعة في المعروف»
.
(٢) أخرجه في المسند ٤/ ٤٢٦.
186
عنكم، يعني الطاعة، إذا خالفتم الحق بقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ؟
قال الطيبيّ: أعاد الفعل في قوله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة. ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته. ثم بين ذلك بقوله: فإن تنازعتم في شيء. كأنه قيل فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم وردّوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله. انتهى.
تنبيه:
يشمل عموم وقوله وَأُولِي الْأَمْرِ العلماء. كما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه يعني أهل الفقه والدين. وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصريّ وأبو العالية. وهذا ليس قولا ثانيا في الآية بل هو مما يشمله لفظها. فهي عامة في أولي الأمر من الأمراء والعلماء وإن نزلت على سبب خاص. وقد كثرت الأوامر بطاعة العلماء كالأمراء. قال تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة: ٦٣]. وقال تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: ٤٣]، وقال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣].
وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال «١» :«من أطاعني فقد أطاع الله. ومن عصاني فقد عصى الله. ومن أطاع أميري فقد أطاعني. ومن عصى أميري فقد عصاني».
وروى أبو داود «٢» عن عبد الله بن عمر عن رسول الله ﷺ قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية. فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».
وروى البخاريّ «٣» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشيّ كأن رأسه زبيبة»
. والأحاديث في هذا كثيرة.
(١)
أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ١٠٩- باب يقاتل من وراء الإمام ويتّقى به، حديث ١٤٠٩ ونصه:
عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني. وإنما الإمام جنّة يقاتل من ورائه ويتقى به. فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا. وإن قال بغيره فإن عليه منه
. (٢) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٨٧- باب في الطاعة، حديث ٢٦٢٦.
(٣) أخرجه البخاريّ في: الأحكام، ٤- باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، حديث ٤٣٤.
187
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه (الحسبة في الإسلام) :
وقد أمر الله تعالى في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين.
وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام. فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس. كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه «١» (للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا على هذا الأمر) قال: ما استقامت لكم أئمتكم.
ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل من كان متبوعا فإنه من أولي الأمر. وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهي عما نهى عنه. وعلى كل واحد ممن له عليه طاعة أن يطيعه في طاعة الله ولا يطيعه في معصية الله. كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حين تولى أمر المسلمين وخطبهم، فقال في خطبته: أيها الناس! القويّ فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القويّ عندي حتى آخذ له الحق. أطيعوني ما أطعت الله. فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم فَإِنْ تَنازَعْتُمْ أي اختلفتم أنتم وأولو الأمر فِي شَيْءٍ من الأحكام فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ أي فارجعوا فيه إلى كتابه وَالرَّسُولِ بالسؤال منه في زمانه ﷺ والرجوع إلى سننه بعده لا إلى ما تهوون ولا إلى ما يهواه الحكام إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الواضع لشرائع العدل وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الذي يجازى فيه الموافق والمخالف لتلك الشرائع ذلِكَ أي الرد إلى كتاب الله وسنة الرسول، والرجوع إليهما فصل النزاع خَيْرٌ أي لكم ولحكامكم وأصلح وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة ومآلا، كما قاله السدّيّ وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاء. وهو قريب.
(١) أخرجه الدارميّ في مسنده: المقدمة، ٢٣- باب في كراهية أخذ الرأي. ونصه: عن أبي زرعة بن عمرو عن حية بنت أبي حية قالت: دخل علينا رجل بالظهيرة. فقلت: يا عبد الله: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت أنا وصاحب لي في بغاء لنا. فانطلق صاحبي يبغي ودخلت أنا أستظل بالظل وأشرب من الشراب.
فقمت إلى لبينة حامضة فسقيته منها فشرب وشربت.
قالت وتوسمته فقلت: يا عبد الله! من أنت؟ فقال: أنا أبو بكر. فقلت: أنت أبو بكر، صاحب رسول الله ﷺ الذي سمعت به؟ قال: نعم.
قالت فذكرت غزونا خثعما وغزوة بعضنا بعضا في الجاهلية وما جاء الله به من الألفة وأطناب الفساطيط. فقلت: يا عبد الله! حتى متى ترى أمر الناس هذا؟ قال: ما استقامت الأئمة. قلت: ما الأئمة؟ قال: أما رأيت السيّد يكون في الحواء (بيوت مجتمعة على الماء) فيتبعونه ويطيعونه؟
فما استقام أولئك.
188
قال الحافظ ابن كثير: هذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه، أن يردّ التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة. كما قال تعالى:
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: ١٠]. فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولهذا قال تعالى:
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله. فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فدل على أن من لم يتحاكم، في محل النزاع، إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر. انتهى.
تنبيهات
الأول- قال البيضاويّ: إن قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ، يؤيد أن المراد بأولي الأمر الأمراء لا العلماء. قال: إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس. ثم قال: إلا أن يقال: الخطاب لأولي الأمر، على طريقة الالتفات. وتابعه أبو السعود.
قال الخفاجيّ: وجه التأييد أن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء. إذ المراد بهم المجتهدون. والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم. والمراد بالمرؤوس (على وزن المفعول) العامة التابعة للرائس والرئيس. فإذا كان الخطاب في (تنازعتم) لأولي الأمر على الالتفات صح إرادة العلماء. لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة. فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل. انتهى. وفي وقوله: (إذ ليس للمقلد إلخ) ما ستراه.
الثاني- فيهم كثير من الناس والمفسرين أيضا أن طاعة أولي الأمر العلماء، تقليدهم فيما يفتون به. وهو غلط قال الإمام ابن القيّم في (أعلام الموقعين) في:

فصل


في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان.
قال المقلد: وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله ﷺ وأولي الأمر- وهم العلماء. أو العلماء والأمراء- وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فإنه لولا التقليد، لم
189
يكن هناك طاعة تختص بهم. قال: وجوابه أن أولي الأمر، قيل: هم الأمراء. وقيل:
هم العلماء. وهما روايتان عن الإمام أحمد. والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين.
وطاعتهم من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. لكن خفي على المقلدين أنهم يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله ﷺ وإيثار التقليد عليها؟ ثم قال ابن القيّم: إن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها إبطالا للتقليد. وذلك من وجوه: أحدها- الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه. الثاني- طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يكون العبد مطيعا لله ولرسوله حتى يكون عالما بأمر الله تعالى ورسوله. وأما من هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله ﷺ البتة. الثالث- أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم، كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة. وذكرناه عن الأئمة الأربعة وغيرهم.
وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد. وإن لم تكن واجبة الاستدلال. الرابع- أنه سبحانه وتعالى، قال في الآية نفسها: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد. فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصة بهم؟
فإن كانت الطاعة فيما يخبرون به عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، كانت الطاعة لله ورسوله ﷺ لا لهم. قيل: هذا هو الحق. وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال. ولهذا قرنها بطاعة الرسول. وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعا كما يطاع أولو الأمر تبعا. وليس كذلك. بل طاعته واجبة استقلالا. كان، ما أمر به أو نهى عنه في القرآن، أو لم يكن. انتهى.
وقال رحمه الله تعالى قبل ذلك: إن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله ﷺ وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم. وسلكوا ضد طريق أهل العلم. أما أمر الله تعالى، فإنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله.
والمقلدون قالوا: إنما نردّه إلى من قلدناه. وأما أمر رسوله فإنه ﷺ أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين، وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ. وقال المقلدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل ما عداه. وأما هدي الصحابة رضي الله عنهم فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن
190
شخص واحد يقلد رجلا في جميع أقواله ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ولا يقبل من أقوالهم شيئا. وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث. وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه. كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله ﷺ وأقوال خلفائه الراشدين. فما وافق ذلك منها قبلوه ودانوا الله تعالى به. وقبضوا به وأفتوا به. وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه. وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتّباع لا واجبة الاتّباع. من غير أن يلزموا بها أحدا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها. هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا. وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين. فزيفوا كتاب الله سبحانه وسنة رسوله ﷺ وأقوال خلفائه وجميع أصحابه، وعرضوها على أقوال من قلدوه، فما وافقها منها قالوا: لنا وانقادوا له مذعنين. وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا: احتج الخصم بكذا وكذا. ولم يقبلوه ولم يدينوا به. واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن. وتطلبوا لها وجوه الحيل التي يرونها. حتى إذا كانت موافقة لمذهبهم، وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها، شنعوا على منازعهم وأنكروا عليهم ردها بمثل تلك الوجوه بعينها. وقالوا: لا تردّ النصوص بهذا. ومن له همة تسمو إلى الله ومرضاته، ونصر الحق الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين كان ومع من كان، لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم. انتهى.
الثالث- إن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أي فوّضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له؟ وأيضا، لم لا يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية؟ قلنا: أما الأول فمدفوع. وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين: منها ما يكون حكمها منصوصا عليه. ومنها ما لا يكون كذلك. ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد. وأمر في القسم الثاني بالاجتهاد فيه، وهو الرد إلى الله وإلى الرسول. ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الردّ السكوت، لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل ذلك. بل لا بد من قطع الشغب والخصومة فيها، بنفي أو إثبات. وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله، على السكوت عن تلك الواقعة. وأما السؤال الثاني- فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل. فلا يكون رد الواقعة إليها ردا إلى الله بوجه من الوجوه. أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها، كان هذا ردا للواقعة على أحكام
191
الله تعالى. فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى: أفاده الرازيّ.
الرابع- استدل مثبتو القياس بقوله تعالى فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ إلخ قالوا: معنى الآية: فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة، فردوا حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له. وذلك هو القياس. قالوا: ولو كان المراد من قوله تعالى فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة- لكان داخلا تحت قوله أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وهو إعادة لعين ماضي (كذا) وهو غير جائز. وقد توسع الرازيّ في تقرير ذلك هاهنا، كما توسع في أن قوله تعالى (وأولي الأمر) إشارة إلى الإجماع. فتكون الآية، بزعمه، دلت على الأصول الأربع.
ولا يخفى ما في هذا التعمق من دقيق الاستنباط.
الخامس- قدمنا رواية البخاريّ في سبب نزول هذه الآية. وأن ابن عباس قال:
نزلت في عبد الله بن حذافة.
قال الداوديّ (شارح الصحيح) : هذا وهم على ابن عباس. فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب عليهم. فأمرهم أن يوقدوا نارا ويقتحموها. فامتنع بعض وهم بعض أن يفعل.
قال: فإن كانت الآية نزلت قبل، فكيف يخص عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره؟ وإن كانت نزلت بعد فإنما قيل لهم: إنما الطاعة في المعروف، وما قيل لهم:
لم لم تطيعوه؟ انتهى.
وأجاب الحافظ ابن حجر: أي المقصود في قصته قوله فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به. وسببه أن الذين هموا أن يعطوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة. والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار. فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع. وهو الرد إلى الله وإلى رسوله. أي: إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة.
والله أعلم.
ولما أوجب تعالى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ورسوله، آثرها بأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه، وإنما يريدون حكم غيره، فقال:
192
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني التوراة. ووصفهم بادعاء الإيمان بالقرآن وبما أنزل من قبله، لتأكيد العجيب من حالهم وتشديد التوبيخ والاستقباح، ببيان كمال المباينة بين دعواهم المقتضية حتما للتحاكم إلى الرسول، وبين ما صدر عنهم من مخالفة الأمر المحتوم يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ الداعي إلى الطغيان بالحكم على خلاف المنزل إليك والمنزل على من قبلك. وتقدم قريبا معاني الطاغوت. والمراد به هاهنا ما سوى كتاب الله وسنة رسوله، من الباطل وَقَدْ أُمِرُوا في جميع تلك الكتب أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أي يتبرؤوا منه. لأنه تحاكم على خلاف ما أنزل الله في كتبه فيعصونه ويطيعون الشيطان وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أي من الجن والإنس أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق والهدى. وقوله وَيُرِيدُ إلخ عطف على (يريدون) داخل في حكم التعجيب. فإن اتباعهم لمن يريد إضلالهم وإعراضهم عمن يريد هدايتهم، أعجب من كل عجيب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي: إلى حكم ما أنزل الله في القرآن الذي تدعون الإيمان به وَإِلَى الرَّسُولِ أي: حكمه رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ أي يمنعون خصومهم فيبعدونهم عَنْكَ صُدُوداً بليغا ليتمكنوا مما يريدونه بالرشوة.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ إلخ تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله، إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت. وإظهار (المنافقين) في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق.
وذمهم به. والإشعار بعلة الحكم.
تنبيه- في سبب نزولها
أخرج ابن أبي حاتم والطبرانيّ بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان أبو برزة
193
الأسلميّ كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه. فتنافر إليه ناس من المسلمين.
فأنزل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا. إلى قوله- إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً.
أقول: ثم أسلم أبو برزة وصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم. واسمه نضلة بن عبيد.
قال الحافظ ابن حجر في (التقريب) : صحابيّ مشهور بكنيته. أسلم قبل الفتح. وغزا سبع غزوات. ثم نزل البصرة. وغزا خراسان ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح. انتهى.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، أو سعيد، عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر يدّعون الإسلام. فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين، في خصومة كانت بينهم، إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فدعوهم إلى الكهان، حكام الجاهلية. فأنزل الله فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ... الآية.
وأخرج ابن جرير عن الشعبيّ قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة. فقال اليهوديّ: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال: إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
لأنه قد علم أن لا يأخذ الرشوة في الحكم. فاختلفا. واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة. فنزلت. ولا تعارض. لما أسلفناه في المقدمة في بحث سبب النزول. فتذكر.
قال أبو مسلم الأصفهاني: ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقا من أهل الكتاب. مثل: إنه كان يهوديّا فأظهر الإسلام على سبيل النفاق. لأن قوله تعالى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إنما يليق بمثل هذا المنافق. انتهى.
أقول: ما استظهره مناف لما أسلفناه مما روي في نزولها. على أن توصيفهم بالإيمان ب (ما أنزل من قبل) لا يؤيد ما ذكره. لأن هذا كثيرا ما يذكر تنويها به وتثبيتا لركنيته في الإيمان. وتذكيرا له. كما لا يخفى على من سبر قاعدة التنزيل في أمثاله. فاعرفه.
مباحث
الأول- قال الحافظ ابن كثير: هذه الآية إنكار من الله عز وجل على من يدّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين. وهو مع ذلك، يريد أن يتحاكم، في فصل الخصومات، إلى غير كتاب الله وسنة رسوله. كما ذكر في سبب
194
نزول هذه الآية. ثم ساق ما قدمناه وقال: الآية أعم من ذلك كله. فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل. وهو المراد ب (الطاغوت) هاهنا، وأعرضوا كالمستكبرين كما قال تعالى عن المشركين وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [البقرة: ١٧٠]، وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا... [النور: ٥١]، الآية.
الثاني- قال القاضي: يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر.
وعدم الرضا بحكم محمد ﷺ كفر. ويدل عليه وجوه: الأول- أنه تعالى قال يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيمانا به. ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله. كما أن الكفر بالطاغوت إيمان بالله. الثاني- قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ... إلى قوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: ٦٥]، وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثالث- قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: ٦٣]، وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة.
وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول ﷺ فهو خارج عن الإسلام. سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد. وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريّهم. نقله الرازي.
الرابع- قال بعض المفسرين: في هذه الآية وجوب الرضا بقضاء الله سبحانه.
والرضا بما شرعه. وتدل على أنه لا يجوز التحاكم إلى غير شريعة الإسلام.
قال الحاكم: وتدل على أن من لم يرض بحكمه كفر. وما ورد من فعل عمر وقتله المنافق يدل على أن دمه هدر. لا قصاص فيه ولا دية.
وهاهنا فرع. وهو أن يقال: إذا تحاكم رجلان في أمر فرضي أحدهما بحكم المسلمين وأبى الثاني. وطلب المحاكمة إلى حاكم الملاحدة. فإنه يكفر. لأن في ذلك رضا بشعار الكفرة. انتهى.
الخامس- في قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا دقيقة بديعة. قال أبو السعود: الاقتصار في معرض التعجب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم، دون
195
نفسه، مع وقوعه أيضا- للتنبيه على أن إرادته مما يقضي منه العجب ولا ينبغي أن يدخل تحت الوقوع، فما ظنك بنفسه؟
السادس- قال المفسرون: إنما صد المنافقون عن حكم الرسول ﷺ لأنهم كانوا ظالمين. وعلموا أنه لا يأخذ الرشا. وأنه لا يحكم إلا بمرّ الحكم. وقيل: كان ذلك الصدّ لعداوتهم في الدين. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦٢]
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢)
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ متصل بما قبله، مبين غائلة جناياتهم المحكية ووخامة عاقبتها. أي كيف يكون حالهم إذا ساقتهم التقادير إليك، في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، التي منها المحاكمة إلى الطاغوت والكراهة لحكمك، واحتاجوا إليك في ذلك ثُمَّ جاؤُكَ للاعتذار عما صنعوا من القبائح يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كذبا إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا بذلك التحاكم إِلَّا إِحْساناً أي فصلا بالوجه الحسن وَتَوْفِيقاً بالصلح بين الخصمين. ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك. فلا تؤاخذنا بما فعلنا. وهذا وعيد لهم على ما فعلوا. وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم. ولا يغني عنهم الاعتذار.
قال الرازيّ: ذكروا في تفسير قوله تعالى أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ وجوها: الأول- إن المراد منه قتل عمر صاحبهم الذي أقرّ أنه لا يرضى بحكم الرسول عليه السلام.
فهم جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فطالبوا عمر بدمه. وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة. وهذا اختيار الزجاج.
قلت: واختياره غير مختار. لأن قصة قتل عمر لم ترو من طريق صحيح ولا حسن. فهي ساقطة عند المحققين. واستدلال الحاكم، الذي قدمناه، مسلم. لو صحّت. الثاني- قال أبو عليّ الجبائيّ: المراد من هذه المصيبة ما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه لا يستصحبهم في الغزوات. وأنه يخصهم بمزيد الإذلال والطرد عن حضرته. وهو قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ، أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب: ٦٠- ٦١] وقوله فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً
[التوبة: ٨٣] وبالجملة، فأمثال هذه الآيات توجب لهم الذل العظيم. فكانت معدودة في مصائبهم. وإنما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم.
الثالث- قال أبو مسلم الأصفهانيّ: إنه تعالى لمّا أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت وكرهوا حكم الرسول، بشّر الرسول ﷺ أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا له الإيمان به، وإلى أن يحلفوا بأن مرادهم الإحسان والتوفيق. قال: ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا: كيف أنت إذا كان كذا وكذا؟ ومثاله. قوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: ٤١]، وقوله فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران: ٢٥].
ثم أمره تعالى، إذا كان منهم ذلك، أن يعرض عنهم ويعظهم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦٣]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)
أُولئِكَ إشارة إلى المنافقين الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق والميل إلى الباطل وإن أظهروا إسلامهم وعذرهم بحلفهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم ولا تزد على كفهم، بالموعظة والنصيحة عما هم عليه وَعِظْهُمْ أي ازجرهم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أي مؤثرا وأصلا إلى كنه المراد. فإن قيل: بم تعلق قوله تعالى فِي أَنْفُسِهِمْ؟ فالجواب: بقوله بَلِيغاً على رأي من يجيز تقديم معمول الصفة على الموصوف. أي قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما.
ويستشعرون منه الخوف استشعارا. وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق وأطلع قرنه. وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق، معلوم عند الله.
وإنه لا فرق بينكم وبين المشركين. وما هذه المكافّة إلا لإظهاركم الإيمان وإسراركم الكفر وإضماره. فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف. أو يتعلق بقوله قُلْ لَهُمْ أي: قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النّفاق، قولا بليغا. وإن الله يعلم ما في قلوبكم. لا يخفى عليه. فلا يغني عنكم إبطانه فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق. وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك، من انتقامه، وشرّا من ذلك وأغلظ. أو قل لهم في أنفسهم خاليا بهم، ليس معهم غيرهم، مسارّا لهم بالنصيحة، لأنها في السر أنجع وفي الإمحاض
أدخل قَوْلًا بَلِيغاً يبلغ منهم ويؤثر فيهم. كذا يستفاد من الكشاف.
قال الناصر في (الانتصاف) ولكل من هذه التأويلات شاهد على الصحة. أما الأول. فلأن حاصله أمره بتهديدهم على وجه مبلغ صميم قلوبهم. وسياق التهديد في قوله فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يشهد له. فإنه أخبر بما سيقع لهم على سبيل التهديد. وأما الثاني- فيلائمه من السياق قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ يعني ما انطوت عليه من الخبث والمكر والحيل. ثم أمره بوعظهم والإعراض عن جرائمهم حتى لا تكون مؤاخذتهم بها مانعة من نصحهم ووعظهم. ثم جاء قوله وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً كالشرح للوعظ ولذكر أهم ما يعظهم فيه. وتلك نفوسهم التي علم الله ما انطوت عليه من المذامّ. وعلى هذا يكون المراد الوعظ وما يتعلق به. وأما الثالث- فيشهد له سيرته عليه الصلاة والسلام في كتم عناد المنافقين، والتجافي عن إفصاحهم والستر عليهم، حتى عدّ حذيفة رضي الله عنه، صاحب سره عليه الصلاة والسلام. لتخصيصه إياه بالاطلاع على أعيانهم وتسميتهم له بأسمائهم. وأخباره في هذا المعنى كثيرة.
تنبيه:
قال بعض المفسرين: وثمرة الآية قبح الرياء والنفاق واليمين الكاذبة والعذر الكاذب. لأنهم اعتذروا بإرادتهم الإحسان. وذلك كذب. ثم قال: ودلت الآية على لزوم الوعظ والمبالغة فيه. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ كلام مبتدأ. جيء به تمهيدا لبيان خطئهم في ترك طاعة الرسول، والاشتغال بسر جنايتهم بالاعتذار بالأباطيل وعدم تلافيها بالتوبة. أي: وما أرسلنا رسولا إلا ليطاع فيما حكم، لا ليطلب الحكم من غيره. فطاعته فرض على من أرسل إليهم. وإنكار فرضيتها كفر.
وقوله بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بسبب إذنه في طاعته، وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه، لأنه مؤدّ عن الله. فطاعته طاعة الله. ومعصيته معصية الله مَنْ
198
يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ
ويجوز أن يراد: بتيسير الله وتوفيقه في طاعته: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ هذا الظلم العظيم غاية العظم، إذ عرضوها لعذاب، على عذاب النفاق، بترك طاعتك والتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من ذلك وتابوا إليه تعالى من صنيعهم وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ أي دعا لهم بالمغفرة، فكان استغفاره شفاعة لقبول استغفارهم لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً أي قابلا لتوبتهم رَحِيماً أي متفضلا عليهم بالرحمة وراء قبول التوبة.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: ولم يقل: واستغفرت لهم، وعدل عنه إلى طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول الله ﷺ وتعظيما لاستغفاره وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول، من الله بمكان. قال في (الانتصاف) : وفي هذا النوع من الالتفات خصوصية. وهي اشتماله على ذكر صفة مناسبة لما أضيف إليه. وذلك زائد على الالتفات بذكر الأعلام الجامدة.
تنبيهات:
الأول- دلت الآية على أن توبة المنافق مقبولة عند الله وفاقا. وأما الظاهر فظاهر الآية قبولها. لأنه جعل النبيّ ﷺ مستغفرا لهم وشافعا. وعن الراضي بالله في (الباطنية) : إن أظهروا شبههم وما يعتادون كتمه، دل ذلك على صدق توبتهم.
فيقبل وإلا فلا. ودلت الآية على أن من تكررت منه المعصية والتوبة صحت توبته لقوله تعالى: تَوَّاباً وذلك ينبئ عن التكرار. كذا في بعض التفاسير.
الثاني- قال الرازيّ: لقائل أن يقول: أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح، لكانت توبتهم مقبولة؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم:
قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول- أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله. وكان أيضا إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره. فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم. الثاني- إن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول، ظهر منهم ذلك التمرد. فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد. وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول ﷺ ويطلبوا منه الاستغفار.
الثالث- لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتوا بها على وجه الخلل، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول. انتهى.
199
أقول: وثمة وجه رابع- وهو التنويه بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن طاعته طاعته تعالى، فرضاه رضاه وسخطه سخطه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦٥]
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ في السر ولا يستحقون اسم الإيمان في السر حَتَّى يُحَكِّمُوكَ يجعلوك حاكما ويترافعوا إليك فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ في قلوبهم حَرَجاً أي ضيقا مِمَّا قَضَيْتَ بينهم وَيُسَلِّمُوا أي: ينقادوا لأمر ويذعنوا لحكمك تَسْلِيماً تأكيد للفعل. بمنزلة تكريره. أي تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. كما ورد في الحديث: والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به.
تنبيهات:
الأول-
روى البخاريّ «١» عن الزهريّ عن عروة قال: خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصاريّ: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله ﷺ ثم قال:
اسق يا زبير. ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر. ثم أرسل الماء إلى جارك»
.
واستوعى النبيّ ﷺ للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاريّ. وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة.
قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ.
قال ابن كثير: هكذا رواه البخاريّ في (كتاب التفسير) في (صحيحه) من حديث معمر. وفي كتاب (المساقاة) من حديث ابن جريج «٢» ومعمر «٣» أيضا. وفي
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٢- باب فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، حديث ١١٨٠.
(٢) أخرجه البخاريّ في: المساقاة، ٨- باب شرب الأعلى إلى الكعبين.
(٣) أخرجه البخاريّ في: المساقاة، ٧- باب شرب الأعلى قبل الأسفل. [.....]
200
كتاب (الصلح) من حديث شعيب بن أبي حمزة «١». ثلاثتهم عن الزهريّ عن عروة فذكره. وصورته الإرسال وهو متصل في المعنى.
وقد رواه الإمام أحمد «٢» من هذا الوجه فصرّح بالإرسال فقال: حدثنا أبو اليمان. أخبرنا شعيب عن الزهريّ أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا، إلى النبيّ ﷺ في شراج الحرّة. كان يستقيان بها كلاهما. فقال النبيّ ﷺ للزبير:
«اسق: ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاريّ وقال يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال للزبير: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر». فاستوعى النبيّ ﷺ للزبير حقه. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، قبل ذلك، أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاريّ. فلما أحفظ الأنصاريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، استوعى النبيّ ﷺ للزبير حقه في صريح الحكم.
قال عروة: فقال الزبير: والله! ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
(هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فإنه لم يسمع منه. والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله. فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في (تفسيره). فقال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى. حدثنا ابن وهب. أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه خاصم رجلا... الحديث). قال ابن كثير:
وهكذا رواه النسائيّ «٣» من حديث ابن وهب به. ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به. وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير. وهكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير. والله أعلم.
وروى ابن أبي حاتم عن الزهريّ عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة. اختصما في ماء. فقضى النبيّ ﷺ أن يسقى الأعلى ثم الأسفل.
(١) أخرجه البخاريّ في: الصلح، ١٢- باب إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم البيّن.
(٢) أخرجه في المسند ١/ ١٦٥، الحديث ١٤١٩.
(٣) أخرجه النسائي في: آداب القضاة، ١٩- باب الرخصة للحاكم الأمين أن يحكم وهو غضبان، و ٢٧- باب إشارة الحاكم بالرفق.
201
قال ابن كثير: هذا مرسل. لكن فيه فائدة تسمية الأنصاريّ. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : وحكى الواحديّ وشيخه الثعلبيّ والمهدويّ أنه حاطب بن أبي بلتعة. وتعقب بأن حاطبا، وإن كان بدريّا، لكنه من المهاجرين. لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز عن الزهريّ عن سعيد بن المسيّب في قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ... الآية. قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة.
اختصما في ماء... الحديث. وإسناده قويّ مع إرساله. فإن كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير، فيكون موصولا. وعلى هذا فيؤوّل قوله (من الأنصار) على إرادة المعنى الأعم. كما وقع ذلك في حق غير واحد كعبد الله بن حذافة. وأما قول الكرمانيّ بأن حاطبا كان حليفا للأنصار- ففيه نظر.
وأما قوله (من بني أمية بن زيد) فلعله كان مسكنه هناك، كعمر. ثم قال:
ويترشح بأن حاطبا كان حليفا لآل الزبير بن العوام من بني أسد وكأنه كان مجاورا للزبير. والله أعلم.
أقول: وقع في التفسير المنسوب لابن عباس، هاهنا، ذكر حاطب بن أبي بلتعة وتلقيبه بالمنافق وإدراجه تحت قوله تعالى رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ. وفي صحة هذا عن ابن عباس نظر. وكيف؟ وقد كان رضي الله عنه من البدريين. وقد انتفى النفاق عمن شهدها.
قال التوربشتيّ: يحتمل أنه أصدر ذلك منه بادرة النفس. كما وقع لغيره ممن صحت توبته. إذ لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح ولو شاركهم في النسب. قال: بل هي زلة من الشيطان تمكن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة. انتهى.
ولما همّ عمر رضي الله عنه بضرب عنقه في قصة الظعينة «١»، قال حاطب: لا
(١)
أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ١٤١- باب الجاسوس وقول الله تعالى: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، حديث ١٩٢٤، ونصه: عن عبيد الله بن أبي رافع قال: سمعت عليّا رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا والزبير والمقداد بن الأسود. قال «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها» فأنطقنا تعادى بنا خيلنا. حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة. فقلنا: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي من كتاب. فقلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب. فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فيه: من حاطب بن أبي
202
تعجل عليّ يا رسول الله! والله! إني لمؤمن بالله ورسوله. وما ارتددت ولا بدلت.
فأقرّه صلى الله عليه وسلم، وكفّ عمر عنه.
وقال ﷺ لعمر: إنه قد شهد بدرا. وما يدريك، يا عمر؟
لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فذرفت عينا عمر... الحديث.
ولله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه سترا عليه كيلا يغض من مقامه. وهكذا ليكن الأدب. وكفانا أصلا عظيما في هذا الباب إبهام التنزيل الجليل في كثير من قصصه الكريمة. فهو ينبوع المعارف والآداب على مرور السنين والأحقاب. هذا كله على الجزم بأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه. وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : والراجح رواية الأكثر. وأن الزبير كان لا يجزم بذلك.
ثم قال الحافظ ابن حجر: وجزم مجاهد والشعبيّ بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها وهي قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إلخ فروى إسحاق بن راهويه في (تفسيره) بإسناد صحيح عن الشعبيّ. قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة. فدعا اليهوديّ المنافق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة. ودعا المنافق اليهوديّ إلى حكامهم. لأنه علم أنهم يأخذونها. فأنزل الله هذه الآيات، إلى... وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، نحوه.
وروى الطبريّ «١» بإسناد صحيح عن ابن عباس أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلميّ قبل أن يسلم ويصحب.
وروي «٢» بإسناد آخر صحيح إلى مجاهد أنه كعب بن الأشرف. انتهى.
وقال ابن كثير: ذكر سبب آخر غريب جدا.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس
بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله ﷺ «يا حاطب! ما هذا؟» قال: يا رسول الله! لا تعجل عليّ. إني كنت امرءا ملصقا في قريش. ولم أكن من أنفسها. وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم.
فأحببت، إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي. وما فعلت كفرا ولا ارتدادا، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله ﷺ «لقد صدقكم» قال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال «إنه قد شهد بدرا. وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».
(١) لم أعثر على هذا الأثر في نسخة التفسير التي بين يديّ.
(٢) الأثر رقم ١٩١٥.
203
ابن عبد الأعلى قراءة. أخبرنا ابن وهب. أخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى رسول الله ﷺ فقضى بينهما. فقال المقضيّ عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. انطلقا إليه. فلما أتيا إليه، فقال الرجل:
يا ابن الخطاب! قضى لي رسول الله ﷺ على هذا، فقال: ردنا إلى عمر بن الخطاب فردنا إليك. فقال: أكذاك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما. فخرج إليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر. فقتله.
وأدبر الآخر. فأتى إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! قتل عمر، والله! صاحبي.
ولولا أني أعجزته لقتلني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن. فأنزل الله فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ... الآية فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله. فكره الله أن يسنّ ذلك بعد. فأنزل: لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به
، وهو أثر غريب مرسل. وابن لهيعة ضعيف. والله أعلم.
طريق أخرى: قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في (تفسيره) : حدثنا شعيب بن شعيب. حدثنا أبو المغيرة. حدثنا عتبة بن حمزة. حدثني أبي. أن رجلين اختصما إلى النبيّ ﷺ فقضى للمحق على المبطل.
فقال المقضيّ عليه: لا أرضى. فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق. فذهبا إليه. فقال الذي قضى له: قد اختصمنا إلى النبيّ ﷺ فقضى لي.
فقال أبو بكر: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأبى صاحبه أن يرضى. فقال:
نأتي عمر بن الخطاب. فقال المقضيّ له: قد اختصمنا إلى النبيّ ﷺ فقضى لي عليه. فأبى أن يرضى. فسأله عمر بن الخطاب، فقال كذلك. فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله. فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى. فقتله. فأنزل الله فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ... الآية انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : روى الكلبيّ في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهوديّ خصومة. فقال اليهوديّ: انطلق بنا إلى محمد. وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف. فذكر القصة. وفيه أن عمر قتل المنافق وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات وتسمية عمر الفاروق. وهذا الإسناد، وإن كان ضعيفا، لكن تقوى بطريق مجاهد.
204
ولا يضره الاختلاف. لإمكان التعدد. وأفاد الواحديّ بإسناد صحيح عن سعيد عن قتادة أن اسم الأنصاريّ المذكور قيس. ورجح الطبريّ في (تفسيره) وعزاه إلى أهل التأويل في (تهذيبه) أن سبب نزولها هذه القصة. ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد. قال: ولم يعرض بينها ما يقتضي خلاف ذلك.
ثم قال: ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك فيتناولها عموم الآية. والله أعلم. انتهى.
قال الرازيّ: اعلم أن قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط: أولها- قوله تعالى حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا. الشرط الثاني- قوله ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ. واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب. فبيّن، في هذه الآية، أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب.
واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر. فليس المراد من الآية ذلك.
بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق. الشرط الثالث- قوله وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا، قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول. فبيّن تعالى أنه، كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب، فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر. فقوله ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ المراد به الانقياد في الباطن. وقوله وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً المراد منه الانقياد في الظاهر. والله أعلم.
الثالث- قال الرازيّ: ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس. لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق. وأنه لا يجوز العدول منه إلى غيره. ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف. وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس. وقوله ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ مشعر بذلك. لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص، فهناك يحصل الحرج في النفس. فبيّن تعالى أنه لا يكمل إيمانه، إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج، ويسلم النص تسليما كليّا.
وهذا الكلام قويّ حسن لمن أنصف.
205
الرابع- (لا) في قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ قيل إنها ردّ لمقدّر. أي: تفيد نفي أمر سبق. والتقدير: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك. ثم استأنف القسم بقوله وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ وقيل: مزيدة لتأكيد النفي الذي جاء فيما بعد أعني الجواب. لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن. وقيل: إنها مزيدة لتأكيد معنى القسم. وارتضاه الزمخشريّ. قال: كما زيدت في لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد: ٢٩]، لتأكيد وجوب العلم. قال في (الانتصاف) يشير إلى أن (لا) لما زيدت مع القسم، وإن لم يكن المقسم به، دلّ ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم. فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفيا، تعين جعلها لتأكيد القسم، طردا للباب. أو الظاهر عنده، والله أعلم، أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه. والزمخشريّ لم يذكر مانعا من ذلك. وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات. وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة. على أن في دخولها على القسم المثبت نظرا. وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز إلا مع القسم حيث يكون بالفعل. مثل لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: ١]، لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة: ١]، فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ [التكوير: ١٥]، فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: ٧٥]، فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة: ٣٨- ٣٩]، ولم تدخل أيضا إلا على القسم بغير الله تعالى.
ولذلك شرّ يأبى كونها في هذه الآية لتأكيد القسم. ويعين كونها للتوطئة: وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها تأكيد تعظيم المقسم به. إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له. فكأنه بدخولها يقول: إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها، كلا إعظام. يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك. وهذا التأكيد إنما يؤتى به رفعا لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم، وللإقسام بها. فيزاح هذا الوهم بالتأكيد، في إبراز فعل القسم مؤكدا بالنفي المذكور. وقد قرر الزمخشريّ هذا المعنى في دخول (لا) عند قوله (لا) عند قوله لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ على وجه مجمل، هذا بسطه وإيضاحه. فإذا بين ذلك، فهذا الوهم الذي يراد إزاحته في القسم بغير الله، مندفع في الإقسام بالله. فلا يحتاج إلى دخول (لا) مؤكدة للقسم. فيتعين حملها على الموطئة. ولا تكاد تجدها، في غير الكتاب العزيز، داخلة على قسم مثبت. وأما دخولها في القسم، وجوابه نفي، فكثير مثل:
فلا وأبيك ابنة العامريّ لا يدّعي القوم أنّي أفرّ
وكقوله:
206
ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني، فلا بك ما أبالي
وقوله:
رأى برقا فأوضع فوق بكر فلا بك ما أسال ولا أغاما
وقوله:
فحالف فلا والله تهبط تلعة من الأرض إلّا أنت للذلّ عارف
وهو أكثر من أن يحصى. فتأمل هذا الفصل فإنه حقيق بالتأمل. انتهى.
الخامس- اعلم أن كل حديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن رواه جامعو الصحاح، أو صححه من يرجع إليه في التصحيح من أئمة الحديث، فهو مما تشمله هذه الآية. أعني قوله تعالى مِمَّا قَضَيْتَ فحينئذ يتعين على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهرا وباطنا. وإلا بأن التمس مخارج لرده أو تأويله، بخلاف ظاهره، لتمذهب تقلّده وعصبية ربي عليها، كما هو شأن المقلدة أعداء الحديث وأهله- فيدخل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية. الذي تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة.
قال الإمام الشافعيّ في الرسالة التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهديّ: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال: أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا. فذهبت معه إلى عمر. فسأل عن وليدة من ولائد الجاهلية. فقال: أما الفراش فلفلان. وأما النطفة فلفلان. فقال:
صدقت. ولكن رسول الله ﷺ قضى بالفراش.
قال الشافعيّ: وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال: أخبرني مخلد بن خفاف قال: ابتعت غلاما فاستغللته. ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز. فقضى لي برده. وقضى عليّ برد غلته. فأتيت عروة فأخبرته فقال: أرواح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله ﷺ قضى في مثل هذا، أن الخراج بالضمان. فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر بن عبد العزيز: فما أيسر عليّ من قضاء قضيته، والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق- فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج الذي قضى به عليّ له.
207
قال الشافعيّ: وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال:
قضى سعيد بن إبراهيم على رجل. بقضية، برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن. فأخبرته عن النبيّ ﷺ بخلاف ما قضى به. فقال سعد لربيعة: هذا ابن أبي ذئب، وهو عندي ثقة، يخبرني عن النبيّ ﷺ بخلاف ما قضيت به. فقال له ربيعة: قد اجتهدت ومضى حكمك. فقال سعد: وا عجبا. أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأردّ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعى سعد بكتاب القضية فشقه، فقضى للمقضيّ عليه.
قال الشافعيّ: أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابيّ. قال. حدثني ابن أبي ذئب عن المقبريّ عن أبي شريح الكعبيّ أن النبيّ ﷺ «١» قال عام الفتح: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود».
قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا، يا أبا الحارث؟ فضرب صدري وصاح عليّ صياحا كثيرا، ونال منّي وقال: أحدثك عن رسول الله ﷺ وتقول أتأخذ به؟
نعم. آخذ به، وذلك الفرض عليّ وعلى من سمعه. إن الله تبارك وتعالى اختار محمدا ﷺ من الناس فهداهم به وعلى يديه. واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه. فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين داخرين. لا مخرج لمسلم من ذلك.
وما سكت حتى تمنيت أن يسكت. انتهى.
قال الإمام الفلّاني في (إيقاظ الهمم) بعد نقل ما مرّ: تأمل فعل عمر بن الخطاب وفعل عمر بن عبد العزيز وفعل سعد بن إبراهيم، يظهر لك أن المعروف عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعند سائر العلماء المسلمين،
(١)
أخرجه البخاريّ في: الديات، ٨- باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، حديث ٩٦ ونصه: عن أبي هريرة أنه، عام فتح مكة، قتلت خزاعة رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية. فقام رسول الله ﷺ فقال «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين. ألا وإنها لم تحلّ لأحد قبلي. ولا تحل لأحد بعدي. ألا وإنها أحلت لي ساعة من نهار ألا وإنها ساعتي هذه حرام.
لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد. ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما يودى، وإما يقاد»
.
فقام رجل من أهل اليمن، يقال له: أبو شاه. فقال: اكتب لي يا رسول الله! فقال له رسول الله ﷺ «اكتبوا لأبي شاه».
ثم قام رجل فقال: يا رسول الله! إلا الإذخر، فإنما نجعله في بيوتنا وقبورنا. فقال رسول الله ﷺ «إلا الإذخر»
.
208
أن حكم الحاكم المجتهد، إذا خالف نص كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب نقضه ومنع نفوذه. ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسانية والعصبية الشيطانية، بأن يقال: لعلّ هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعلة ظهرت له. أو أنه اطلع على دليل آخر. ونحو هذا، مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين، وأطبق عليه جهلة المقلدين فافهم. انتهى.
وقال وليّ الدين التبريزيّ في (مشكاة المصابيح) في (الفصل الثالث عشر) من (باب الجماعة وفضلها) :
وعن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه «١» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنّكم». فقال بلال: والله! لنمنعهن. فقال عبد الله: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقول أنت:
لنمنعهن؟ (وفي رواية سالم عن أبيه) قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبّا ما سمعت سبه مثله قط. وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله! لنمنعهن. رواه مسلم.
وعن مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبيّ ﷺ «٢» قال: لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد. فقال ابن لعبد الله بن عمر: فإنّا نمنعهن. فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله ﷺ وتقول هذا؟ قال فما كلمه عبد الله حتى مات. رواه الإمام أحمد.
وقال الطيبيّ شارح (المشكاة) : عجبت ممن سمّي بالسنيّ، إذا سمع من سنة رسول الله وله رأي، رجح رأيه عليها. وأيّ فرق بينه وبين المبتدع؟ أما سمع (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) ؟ وها هو ابن عمر، وهو من أكابر الصحابة وفقهائها، كيف غضب لله ورسوله وهجر فلذة كبده لتلك الهنة، عبرة لأولي الألباب.
وروى الإمام مسلم في «٣» (صحيحه) في (كراهة الخذف) قبيل (كتاب الأضاحي)، عن سعيد بن جبير أن قريبا لعبد الله بن مغفل خذف. قال فنهاه وقال:
(١) أخرجه في المسند ٢/ ٩٠. وحديث رقم ٥٦٤٠.
ومسلم في: الصلاة، حديث ١٤٠.
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٣٦. وحديث رقم ٤٩٣٣.
(٣) أخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث ٥٤ ونصه: عن أبي بريدة قال: رأى عبد الله بن المغفّل رجلا من أصحابه يخذف. فقال له: لا تخذف. فإن رسول الله ﷺ كان يكره- أو قال ينهى عن الخذف- فإنه لا يصطاد به الصيد، ولا ينكأ به العدوّ. ولكنه يكسر السنّ ويفقأ العين.
ثم رآه بعد ذلك يخذف. فقال له: أخبرك أن رسول الله ﷺ كان يكره- أو ينهى عن الخذف- ثم أراك تخذف! لا أكلمك كلمة كذا وكذا.
209
إن رسول الله ﷺ نهى عن الخذف، وقال: إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوّا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين. فقال فعاد. فقال: أحدثك أن رسول الله ﷺ نهى عنه ثم تخذف. لا أكلمك أبدا.
قال النوويّ: فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق. وأنه يجوز هجرانهم دائما.
فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام إنما هو في هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا. وأما هجر أهل البدع، فيجوز على الدوام. كما يدل عليه هذا مع نظائر له، لحديث كعب بن مالك.
قال السيوطيّ: وقد ألفت مؤلفا سميته (الزجر بالهجر) لأني كثير الملازمة لهذه السنة.
أقول: حديث الخذف ساقه الحافظ الدارميّ «١» في (سننه) تحت باب (تعجيل عقوبة من بلغه عن النبيّ ﷺ حديث فلم يعظمه ولم يوقره) ورواه من طرق متنوعة. وفي بعضها: أحدثك أني سمعت رسول الله ﷺ ينهى عن الخذف ثم تخذف؟ والله! لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبدا. وأسند الدارميّ في هذا الباب عن قتادة عن ابن سيرين أنه حدث رجلا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رجل: قال فلان وفلان: كذا وكذا! فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبيّ ﷺ وتقول: قال فلان وفلان؟ لا أكلمك أبدا.
وأسند أيضا فيه عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيّب يودعه بحج أو عمرة. فقال له: لا تبرح حتى تصلّي. فإن رسول الله ﷺ قال لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق. إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد. فقال: إن أصحابي بالحرة. قال فخرج.
قال فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه.
وذكر الدارميّ رضي الله عنه قبل هذا الباب (باب ما يتّقى من تفسير حديث النبيّ ﷺ وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم) وأسند «٢» عن معتمر عن أبيه عن ابن عباس أنه قال: أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا: قال رسول الله، وقال فلان.
قال الإمام شمس الدين بن القيّم في (أعلام الموقعين) : ترى كثيرا من الناس
(١) أخرجه في مسنده في المقدمة، ٤٠- باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبيّ ﷺ حديث، فلم يعظمه ولم يوقره.
(٢) أخرجه في مسنده في المقدمة، ٣٩- باب ما يتقى من تفسير حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم.
210
إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده، وقد خالفه راويه يقول: الحجة فيما روى لا في قوله. فإذا جاء قول الراوي موافقا لقول من قلده، والحديث يخالفه قال: لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه. وإلا كان قدحا في عدالته. فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا. بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد. وهذا من أقبح التناقض، والذي ندين الله به، ولا يسعنا غيره، أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه. ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان. لا راوية ولا غيره: إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا. أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة. أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا. أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر. أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه. ولو قدّر انتقاء ذلك كله، ولا سبيل إلى العلم بانتقائه ولا ظنه، لم يكن الراوي معصوما. ولم توجب مخالفته، لما رواه، سقوط عدالته. حتى تغلب سيئآته حسناته. وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك.
وقال الفلانيّ رحمه الله تعالى في (الإيقاظ) قال عثمان بن عمر: جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله عن مسألة فقال له: قال رسول الله ﷺ كذا وكذا. فقال الرجل:
أرأيت؟ فقال مالك: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قال مالك: لم تكن من فتيا الناس أن يقال لهم: لم قلت هذا؟ كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها.
قال الجنيد رضي الله عنه: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (فتوى له) قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله. ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه، في كل ما أمر به ونهى عنه، إلا رسوله صلى الله عليه وسلم. حتى كان صدّيق الأمة وأفضلها بعد نبيّها ﷺ ورضي عنه يقول: أطيعوني ما أطعت الله. فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه. وذلك هو الواجب. وقال أبو حنيفة: هذا رأيي. وهذا أحسن ما رأيت. فمن
211
جاء برأي خير منه قبلناه. ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه، أبو يوسف بإمام دار الهجرة، مالك بن أنس وسأله عن مسألة الصاع، وصدقة الخضراوات، ومسألة الأحباس، فأخبره مالك رضي الله عنه بما دلت عليه السنة في ذلك. فقال: رجعت لقولك يا أبا عبد الله. ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
ومالك رحمه الله كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة. أو كلام هذا معناه.
والشافعيّ رحمه الله كان يقول: إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط. وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي.
ثم قال ابن تيمية: وإذا قيل لهذا المستفني المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلانيّ؟ كانت هذه معارضة فاسدة. لأن الإمام الفلانيّ قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة. ولست من هذا ولا من هذا. ولكن نسبه هؤلاء الأئمة إليّ نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبيّ ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم.
فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله وإلى رسوله، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر. وكذلك موارد النزاع بين الأئمة. وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في مسألة تيمم الجنب. وأخذوا بقول أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه وغيره، لما احتج بالكتاب والسنة. وتركوا قول عمر رضي الله عنه في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان، لما كان من السنة أن النبيّ ﷺ قال: هذه وهذه سواء، وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة. فقال له: قال أبو بكر وعمر. فقال ابن عباس: يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء. أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر. وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما، لما سألوه عنها، فأمر بها فعارضوه بقول عمر. فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه. فألحوا عليه فقال لهم. أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم. ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبيّ في أمته. وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: ٣١]. والله سبحانه أعلم. انتهى.
212
وقال الإمام ابن القيّم في خطبة (زاد المعاد) : فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته صلى الله عليه وسلم، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته. فلاتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة.
ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة.
وقد أقسم ﷺ «١» بأن لا يؤمن أحد حتى يكون هو أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين. وأقسم سبحانه بأنه لا يؤمن من لم يحكّمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره، ثم يرضى بحكمه، ولا يجد في نفسه حرجا مما حكم به، ثم يسلم له تسليما، وينقاد له انقيادا. وقال تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: ٣٦]. فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله. فليس لمؤمن أن يختار شيئا بعد أمره صلى الله عليه وسلم. بل إذا أمر فأمره حتم. وإنما الخيرة في قول غيره، إذا خفي أمره، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته. فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتّباع، لا واجب الاتّباع. فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه. بل غايته أنه يسوغ له اتباعه. ولو ترك الأخذ بقول غيره، لم يكن عاصيا لله ورسوله. فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه، ويحرم عليهم مخالفته، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله. فلا حكم لأحد معه. ولا قول لأحد معه. كما لا تشريع لأحد معه. وكل حيّ سواه، فإنما يجب اتباعه على قوله، إذا أمر بما أمر به ونهى عما نهى عنه. فكان مبلغا محضا ومخبرا، لا منشئا ومؤسسا. فمن أنشأ أقوالا وأسس قواعد، بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها، حتى تعرض على ما جاء به. فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة، قبلت حينئذ. وإن خالفته وجب ردها واطراحها. وإن لم يتبين فيها أحد
(١)
أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ٨- باب حب الرسول ﷺ من الإيمان، حديث ١٤ ونصه: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده».
وفي: الأيمان والنذور، ٣- باب كيف كانت يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث ١٧٣٦ ونصه: عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، هو آخذ بيد عمر بن الخطاب. فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا. والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك».
فقال له عمر: فإنه الآن، والله! لأنت أحب إليّ من نفسي.
فقال النبيّ ﷺ «الآن، يا عمر!».
[.....]
213
الأمرين، جعلت موقوفة. وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها. وأما أنه يجب ويتعين، فكلّا. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦٦]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ. قال الرازيّ: اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الإخلاص وترك النفاق. والمعنى: إنا لو شدّدنا التكليف على الناس، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان، لصعب ذلك عليهم، ولما فعله إلا الأقلون.
وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم. فلما لم نفعل ذلك، رحمة منا على عبادنا، بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة، فليقبلوها بالإخلاص، وليتركوا التمرد والعناد، حتى ينالوا خير الدارين. انتهى.
ونقله فيما بعد عن ابن عباس. وعليه فمرجع الضمير في (عليهم) إلى المنافقين. وثمة وجه آخر. وهو عوده إلى الناس كافة. ويكون المراد ب (القليل) المؤمنين. وأما الضمير في قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا فهو مختص بالمنافقين. ولا يبعد أن يكون أول الآية عامّا وآخرها خاصّا. قرره الرازيّ.
روى ابن جريج بسنده إلى أبي إسحاق السبيعيّ قال: لما نزلت: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ... الآية. قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبيّ ﷺ فقال: «إن من أمتي لرجالا، الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي». ورواه ابن أبي حاتم نحوه.
وأسند عن السديّ قال: افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود. فقال اليهوديّ: والله! لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا. فقال ثابت: والله! لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا. فنزلت الآية.
وأسند أيضا عن عامر بن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم.
وأسند أيضا عن شريح بن عبيد قال: لما تلا رسول الله ﷺ هذه الآية، أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال: لو أن الله كتب ذلك، لكان هذا من أولئك القليل.
تنبيهات:
الأول- قال بعض المفسرين: أراد حقيقة القتل والخروج من الديار. وقيل:
أراد التعرض للقتل بالجهاد. وأراد الهجرة بالخروج من الديار. والمعنى: لو أمر المنافقون، كما أمر المؤمنون، ما فعلوه. انتهى. والقول الثاني بعيد. لأنه لا يعدل عن الحقيقة إلا لضرورة. ولمنافاته للآثار المذكورة الصريحة في الأول.
الثاني- الضمير في (فعلوه) للمكتوب الشامل للقتل والخروج. لدلالة (كتبنا) عليه. أو هو عائد على أحد مصدري الفعلين. قال الخفاجيّ: وللعطف ب (أو) لزم توحيد الضمير. انتهى.
أقول: ذكر الشيخ خالد في (التصريح) أن إفراد الضمير في العطف ب (أو) رأي البصريين. والتثنية رأي الكوفيين. فأفاد جواز الوجهين. قال محشيه العلامة يس: الذي نص عليه ابن مالك أن (أو) التي للشك والإبهام يفرد بعدها الضمير.
والتي للتنويع يطابق. نحو قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: ١٣٥]. ونص على ذلك ابن هشام في (المغني) في (بحث الجملة المعترضة) فقال (في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما) :
الظاهر أن الجواب: فالله أولى بهما. ولا يرد ذلك تثنية للضمير كما قد توهموا. لأن (أو) هنا للتنويع. حكمها حكم (الواو) في وجوب المطابقة. نصّ عليه الأبدي.
وهو الحق. انتهى. وبه يعلم أن ما اشتهر من أنه إذا ذكر متعاطفان ب (أو) فإنه يعاد الضمير إلى أحدهما- ليس على عمومه.
الثالث- قرأ ابن عامر (قليلا) بالنصب على الاستثناء. والباقون بالرفع بدلا من الضمير المرفوع وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي: من متابعة الرسول ﷺ وطاعته والانقياد لما يحكم به ظاهرا وباطنا. وسميت أوامر الله ونواهيه مواعظ، لاقترانها بالوعد والوعيد لَكانَ أي: فعلهم ذلك خَيْراً لَهُمْ في عاجلهم وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي لإيمانهم، وأبعد من الاضطراب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦٧]
وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧)
وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أي: من عندنا أَجْراً أي ثوابا عَظِيماً يعني الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦٨]
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي لثبتناهم في الدنيا على دين قويم نرتضيه، وهو الإسلام. ثم بين تعالى فضل الطاعة وأن ثمرتها مرافقة أقرب عباد الله إلى الله وأرفعهم درجات عنده. فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٦٩]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولم يذكر المنعم به إشعارا بقصور العبارة عن تفصيله وبيانه مِنَ النَّبِيِّينَ الذين أنبأهم الله أكمل الاعتقادات والأحكام. وأمرهم بإنبائها الخلق، كلّا بمقدار استعداده وَالصِّدِّيقِينَ (جمع صديق) وهو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة، وباطنه بالمراقبة. أو الذي يصدق قوله بفعله. كذا في (المدارك).
قال الرازيّ: للمفسرين (في الصدّيق) وجوه: الأول- أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق. والدليل عليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد: ١٩]. الثاني- قال قوم: الصديقون أفاضل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. الثالث- أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام.
فصار في ذلك قدوة لسائر الناس. وإذا كان الأمر كذلك، كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أولى الخلق بهذا الوصف. ثم جوّد الرازيّ الكلام في سبقه رضي الله عنه إلى التصديق، وفي كونه صار قدوة للناس في ذلك. فانظره. وَالشُّهَداءِ الذين استشهدوا في سبيل الله تعالى وَالصَّالِحِينَ الذين صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم وَحَسُنَ أُولئِكَ إشارة إلى النبيين والصديقين وما بعدهما رَفِيقاً يعني في الجنة. والرفيق الصاحب. سمي رفيقا لارتفاقك به وبصحبته. وإنما وحّد (الرفيق) وهو صفة الجمع، لأن العرب تعبّر به عن الواحد والجمع. كالصديق والخليط. والجملة تذييل مقرر لما قبله، مؤكد للترغيب والتشويق.
216
قال الزمخشريّ: فيه معنى التعجب. كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا! ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ (وحسن) بسكون السين.
تنبيهات
الأول- قال الرازيّ: ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين... إلخ- كون الكل في درجة واحدة. لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول. وأنه لا يجوز. بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان. لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا. وإذا أرادوا الزيارة قدروا عليه. فهذا هو المراد من هذه المعية.
الثاني- دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف، وهو كون الإنسان صدّيقا. ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبيّ لم يجعل بينهما واسطة.
كما قال تعالى في وصف إسماعيل: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: ٥٤].
وفي صفة إدريس: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [مريم: ٥٦]. وقال في هذه الآية: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ. يعني إنك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة. وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية. ولا متوسط بينهما. وقال في آية أخرى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر: ٣٣]. فلم يجعل بينهما واسطة. وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة، فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة، حتى جعلوا الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر، على سبيل الإجماع. ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية. فلا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها. أفاده الرازيّ.
الثالث-
روى الطبريّ في سبب نزولها عن سعيد بن جبير قال: جاء»
رجل من الأنصار إلى رسول الله ﷺ وهو محزون. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا فلان! مالي أراك محزونا! فقال: يا نبيّ الله! شيء فكرت فيه. فقال: ما هو! قال نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك. غدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يردّ النبيّ ﷺ شيئا. فأتاه جبريل بهذه الآية: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ إلخ. فبعث النبيّ
(١) الأثر رقم ٩٩٢٤.
217
صلى الله عليه وسلم فبشره.
وقد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق وعن عكرمة وعامر الشعبيّ وقتادة وعن الربيع بن أنس. وهو من أحسنها سندا: قال الطبريّ «١» : حدثني المثنى قال:
حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الرّبيع قال (في هذه الآية) : إن أصحاب النبيّ ﷺ قالوا: قد علمنا أن النبيّ ﷺ له فضله على من آمن به في درجات الجنة. ممن اتبعه وصدقه. فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟
فأنزل الله في ذلك هذه الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل. منهم فيجتمعون في رياضها فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه. وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به. فهم في روضة يحبرون، ويتنعمون فيه».
ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا عن عائشة. قالت: جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله! إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إليّ من أهلي وأحب إليّ من ولدي. وإني لأكون في البيت فأذكرك. فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك. وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك، إذا دخلت الجنة، رفعت مع النبيين. وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يردّ النبيّ ﷺ حتى نزلت عليه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ... الآية. وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في (صفة الجنة)
بإسناد قال فيه: لا أرى به بأسا.
الرابع- روي في السنة في معنى هذه الآية أخبار وافرة. منها:
في صحيح مسلم «٢» عن ربيعة بن كعب الأسلميّ أنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتيته بوضوء وحاجته فقال لي: سل: فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: أو غير ذلك؟
قلت: هو ذاك. قال: فأعنّي على نفسك بكثرة السجود
. ومنها
في مسند الإمام أحمد «٣» عن عمرو بن مرة الجهنيّ: قال: جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وصليت الخمس وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات على ذلك كان من النبيين والشهداء يوم القيامة هكذا (ونصب إصبعيه) ما لم يعقّ والديه.
قال ابن كثير: تفرد به أحمد. ومنها ما
رواه الإمام أحمد «٤» أيضا عن سهل بن
(١) الأثر رقم ٩٩٢٨.
(٢) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ٢٢٦.
(٣) جاء في (عمدة التفسير) ٣/ ٢١٧. قال الأستاذ أحمد محمد شاكر معلقا على هذا الحديث ما يأتي: خفي عليّ مكانه من المسند. وبقوله أقول.
(٤) أخرجه في المسند ٣/ ٤٣٧.
218
معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: «من قرأ ألف آية في سبيل الله تبارك وتعالى كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا»
. إن شاء الله تعالى. ومنها ما
رواه الترمذيّ «١» عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التاجر الصديق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء.
قال ابن كثير: وأعظم من هذا كله بشارة، ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما
من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله ﷺ «٢» سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب.
قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث.
وفي رواية عن أنس أنه قال: إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحب أبا بكر وعمر وأرجو أن يبعثني معهم، وإن لم أعمل كعملهم.
وعن أبي سعيد الخدريّ «٣» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدريّ الغابر من الأفق، من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.
قال: بلى. والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين»
. أخرجاه في الصحيحين من حديث الإمام مالك. واللفظ لمسلم
. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧٠]
ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
ذلِكَ مبتدأ. إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة
(١) أخرجه الترمذيّ في: البيوع، ٤- باب ما جاء في التجار وتسمية النبيّ ﷺ إياهم.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: الأدب، ٩٦- باب علامة حب الله عز وجل لقوله إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، حديث ٢٣٥٧ ونصه: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم.
فقال رسول الله ﷺ «المرء مع من أحب».
وأخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث ١٦٣ ونصه: عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال «وما أعددت للساعة؟» قال: حب الله ورسوله. قال «فإنك مع من أحببت».
قال أنس: فما فرحنا، بعد الإسلام، فرحا أشد من قول النبيّ ﷺ «فإنك مع من أحببت».
قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله، وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم.
(٣) أخرجه مسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث ١١.
المنعم عليهم. أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم. فالمشار إليه إما جميع ما قبله أو ما يليه. الْفَضْلُ صفة مِنَ اللَّهِ خبره. أي: ذلك الفضل العظيم من الله تعالى لا من غيره. أو الْفَضْلُ خبر، ومِنَ اللَّهِ حال. والعامل فيه معنى الإشارة.
أي: ذلك الثواب، لكمال درجته، كأنه هو الفضل. وإن ما سواه ليس بشيء موجودا وكائنا من الله تعالى. لا أن أعمال المكلفين توجبه.
قال الناصر في (الانتصاف) : معتقدنا، معاشر أهل السنة، أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص، خلق الله تعالى وفعله. وإن قدرهم لا تأثير لها في أعمالهم. بل الله عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها.
فالطاعة إذا من فضله. فله الفضل على كل حال. والمنة في الفاتحة والمآل. وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة.
فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام «١» :«لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله بفضل منه وبرحمة».
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا. اللهم! اختم لنا باقتفاء السنة. وأدخلنا بفضلك المحض الجنة. انتهى كلام الناصر.
والحديث المذكور أخرجه الشيخان عن أبي هريرة. وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله.
قال الرازيّ: وله موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله. لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفية الجزاء والتفضل. وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة، والاحتراز عن التقصير فيه. ثم أعاد تعالى، بعد الترغيب في طاعته وطاعة رسوله، الأمر بالجهاد الذي تقدم، لأنه أشق الطاعات وأعظم الأمور التي يحصل بها تقوية الدين، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ أي تيقظوا واحترزوا من العدوّ ولا تمكنوه
(١)
أخرجه البخاريّ في: الرقاق، ١٨- باب القصد والمداومة على العمل، حديث ٣٥ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «لن ينجّي أحدا منكم عمله» قالوا: ولا أنت، يا رسول الله؟ قال «ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله برحمته. سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا، وشيء من الدّلجة. والقصد القصد تبلغوا»
.
من أنفسكم. يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف. كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه. ويطلق الحذر على ما يحذر به ويصون. كالسلاح والحزم. أي:
استعدوا للعدوّ. والحذر على هذا حقيقة. وعلى الأول من الكناية والتخييل. بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية. قال في (الإكليل) : فيه الأمر باتخاذ السلاح. وأنه لا ينافي التوكل. قال بعض المفسرين: دلت الآية على وجوب الجهاد وعلى استعمال الحذر، وهو الحزم، من العدوّ، وترك التفريط. وكذلك ما يحذرونه وهو استعمال السلاح على أحد التفسيرين. فتكون الرياضة بالمسابقة والرهان في الخيل، من أعمال الجهاد فَانْفِرُوا أي اخرجوا إلى الجهاد ثُباتٍ جمع (ثبة) بمعنى الجماعة. كما في القاموس. أي جماعات متفرقين، سرية بعد سرية، وفرقة بعد فرقة إظهارا للجرأة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين كلكم كوكبة واحدة. إيقاعا للمهابة بتكثير السواد، ومبالغة في التحرز عن الخطر. قال الحاكم: اتفق العلماء على أن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧٢]
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي: ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد والخروج مع الجماعة لنفاق. أو معناه: ليثبطن غيره. كما كان المنافقون يثبطون غيرهم. وكان هذا ديدن المنافق عبد الله بن أبيّ. وهو الذي ثبط الناس يوم أحد. وقد روي عن كثير من التابعين أن الآية نزلت في المنافقين. فإن ما حكي عنهم هو دأبهم. وقيل:
الخطاب للمؤمنين وقوفا مع صدر الآية. فإن قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. ثم قال:
وَإِنَّ مِنْكُمْ. وقد قال تعالى في المنافقين: ما هُمْ مِنْكُمْ.
قال الحاكم: والتقدير على القول الأول: وإنّ منكم، على زعمه، في الظاهر أو في حكم الشرع فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ كهزيمة، وشهادة، وغلب العدوّ لكم، لما لله في ذلك من الحكمة قالَ أي: المبطئ فرحا بصنعه، ومعجبا برأيه قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بالقعود إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي حاضرا في المعركة. فيصيبني ما أصابهم. يعدّ ذلك من نعم الله عليه. ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر، أو الشهادة إن قتل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧٣]
وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣)
وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كفتح، وغنيمة، ونصر، وظفر. ونسبة إصابة الفضل إلى جنابه تعالى، دون إصابة المصيبة، من العادات الشريفة التنزيلية. كما في قوله تعالى: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: ٨٠]. لَيَقُولَنَّ ندامة على تثبطه وقعوده، وتهالكا على حطام الدنيا، وتحسّرا على فواته كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي: صلة في الدين، ومعرفة بالصحبة يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً فأصيب غنائم كثيرة، وحظّا وافرا. وقوله تعالى: كَأَنْ لَمْ. إلخ، اعتراض بين الفعل وهو لَيَقُولَنَّ ومفعوله وهو يا لَيْتَنِي إلخ للتنبيه على ضعف عقيدتهم، وأن قولهم هذا قول من لم تتقدم له معكم موادّة. لأن المنافقين كانوا يوادّون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر. وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن.
وفيه تعجيب أيضا من قولهم المذكور. قال بعض المفسرين: ثمرة ذلك تأكيد وجوب الجهاد وتحريم التثبيط عنه. انتهى.
ولما ذم تعالى المبطئين عن الجهاد. رغّب المؤمنين فيه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧٤]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤)
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي: يبيعونها بها.
وهم المؤمنون الذين يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها. والمعنى: إن صدّ الذين في قلوبهم مرض، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة.
ويقال: عني بالموصول المنافقين المبطئين. أي الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة. فيكون وعظا لهم بأن يبدلوا التثبيط بالجهاد وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أي يستشهد أَوْ يَغْلِبْ أي: يظفر على العدوّ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ نعطيه أَجْراً عَظِيماً ثوابا وافرا.
روى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تضمن الله لمن خرج في سبيله. لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي. وإيمانا بي. وتصديقا برسلي. فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه. نائلا
ما نال من أجر أو غنيمة (لفظ مسلم) «١».
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧٥]
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥)
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خطاب للمأمورين بالقتال، على طريقة الالتفات، مبالغة في التحريض عليه، وتأكيدا لوجوبه. وقوله تعالى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مجرور، عطفا على اسم الله. أي: في سبيل المستضعفين الذين هم كأنفسكم. وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدوّ. أو على السبيل، بحذف المضاف. أي في خلاص المستضعفين. أو منصوب على الاختصاص. يعني: وأختص من سبيل الله خلاص المستضعفين. لأن سبيل الله عام في كل خير. وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصّه.
قال في (الانتصاف) : وفي النصب مبالغة في الحث على خلاصهم من جهتين: إحداهما- التخصيص بعد التعميم. فإنه يقتضي إضمار الناصب الذي هو أختص. ولولا النصب لكان التخصيص معلوما من إفراده بالذكر. ولكن أكد هذا المعلوم بطريق اللزوم، بأن أخرجه إلى النطق. مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ بيان للمستضعفين. أو حال منهم. وهم المسلمون الذين صدّهم المشركون عن الهجرة.
فبقوا بمكة مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد.
وكان النبيّ ﷺ يدعو لهم فيقول «٢» : اللهم! أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين. كما في الصحيح.
(١)
أخرجه في: الإمارة، حديث ١٠٣ ونصه:... «والذي نفس محمد بيده! ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم وريحه مسك. والذي نفس محمد بيده! لولا أن يشق على المسلمين، ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم. ولا يجدون سعة. ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده! لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل. ثم أغزو فأقتل. ثم أغزو فأقتل».
(٢)
أخرجه البخاريّ في: الأذان، ١٢٨- باب يهوي بالتكبير حين يسجد، حديث ٢٥٢ ونصه: عن أبي هريرة قال: وكان رسول الله ﷺ حين يرفع رأسه يقول سمع الله لمن حمده. ربنا ولك الحمد» ويدعو لرجال يسميهم بأسمائهم فيقول «اللهم! أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم! اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له
.
223
وإنما ذكر (الولدان) معهم، تكميلا للاستعطاف واستجلاب المرحمة، وتنبيها على تناهي ظلم المشركين. بحيث بلغ أذاهم الصبيان. وإيذانا بإجابة الدعاء الآتي بسبب مشاركتهم في الدعاء الَّذِينَ يَقُولُونَ من إيذاء أهل مكة وإذلالهم إياهم، متبرئين من المقام بها رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها أي: بالشرك الذي هو ظلم عظيم. وبأذية المسلمين. وهي مكة. و (الظالم) صفتها. وتذكيره لتذكير ما أسند إليه. فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له، كان كالفعل في التذكير والتأنيث، بحسب ما عمل فيه. قاله أبو السعود. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أي: سخر لنا من عندك حافظا يحفظ علينا ديننا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ناصرا يدفع عنا أذيّات أعدائنا. أو المعنى: واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة. أي: لتكن أنت ولينا وناصرنا. وقد استجاب الله عز وجل دعاءهم حيث يسرّ لبعضهم الخروج إلى المدينة. وجعل لمن بقي منهم خير وليّ وأعزّ ناصر. ففتح مكة على نبيه صلى الله عليه وسلم. فتولّاهم أيّ تولّ، ونصرهم أية نصرة، حتى صاروا أعزّ أهلها.
وروى البخاريّ «١» بالسند إلى ابن عباس قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
وبه إليه قال «٢» : كانت أمي ممن عذر الله.
قال الرازيّ: معنى الآية: لا عذر لكم في ترك المقاتلة. وقد بلغ حال المستضعفين من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف. فهذا حث شديد على القتال، وبيان العلة التي صار لها القتال واجبا. وهو ما في القتال من تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة. لأن هذا الجمع إلى الجهاد يجري مجرى فكاك الأسير. انتهى.
تنبيه:
قال بعض المفسرين: ثمرة هذه الآية تأكيد لزوم الجهاد. لأنه تعالى وبخ على تركه. وتدل الآية على لزوم استنقاذ المسلم من أيدي الكفار. ويأتي مثل هذا استنقاذه من كل مضرة، من ظالم أو لص وغير ذلك. ووجه مأخذ ذلك، أنه تعالى جعل ذلك كالعلم للانقطاع إليه. وتدل على أن حكم الولدان حكم الآباء، لأن الظاهر أنه أراد الصغار.
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٤- باب قوله: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حديث ٧١٥.
(٢) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٨- باب إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، حديث ٧١٥.
224
قال الزمخشريّ: ويجوز أن يراد بالرجال والنساء، الأحرار والحرائر. وبالولدان، العبيد والإماء. لأن العبد والأمة يقال لهما: الوليد والوليدة. وقيل (للولدان والولائد) : الولدان. لتغليب الذكور على الإناث. كما يقال: الآباء والإخوة. وتدل الآية على أن للداعي حقّا عند الله. لأنه جعل ذلك اختصاصا لنصرته. وتدل على لزوم الهجرة من ديار الكفر. وأن المؤمن لا يذل نفسه بجعله مستضعفا. لأنه تعالى أوجب المقاتلة لزوال الغلبة عليهم. وفي الآيات هذه تأكيدات متتابعة على لزوم الجهاد.
لطيفة:
قال ناصر الدين في (الانتصاف) : وقفت على نكتة في هذه الآية حسنة. وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب العزيز، فالظلم ينسب إليها بطريق المجاز. كقوله:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً- إلى قوله- فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل: ١١٢]. وقوله: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [القصص: ٥٨].
وأما هذه القرية (في سورة النساء) فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة. لأن المراد بها مكة. فوقرت عن نسبة الظلم إليها، تشريفا لها، شرّفها الله تعالى. ثم شجع تعالى المؤمنين ورغّبهم في الجهاد بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧٦]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في طاعته لإعلاء كلمته. فهو وليّهم وناصرهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ في طاعة الشيطان الآمر بغاية الطغيان. كإيذاء المستضعفين من المؤمنين وقتال أقويائهم فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أي: جنده. قال أبو السعود: وذكرهم بهذا العنوان للدلالة على أن ذلك نتيجة لقتالهم في سبيل الشيطان، والإشعار بأن المؤمنين أولياء الله تعالى لما أن قتالهم في سبيله. وكل ذلك لتأكيد رغبة المؤمنين في القتال وتقوية عزائمهم عليه. فإن ولاية الله تعالى علم في العزة والقوة. كما أن ولاية الشيطان مثل في الذلة والضعف. كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك، فقاتلوا، يا أولياء الله! أولياء الشيطان. ثم صرح في التعليل فقيل إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي: في حد ذاته. فكيف بالقياس إلى
قدرة الله تعالى. ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى، إيذانا بظهورها. قالوا: فائدة إدخال (كان) في أمثال هذه المواقع التأكيد ببيان أنه منذ كان، كان كذلك.
فالمعنى: إن كيد الشيطان منذ كان، كان موصوفا بالضعف. انتهى. (والكيد) :
السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه. يقال: كاده يكيده، إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه. أفاده الرازيّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ وهم المؤمنون عند استئذانهم رسول الله ﷺ في القتال، قبل أن يؤمروا به كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أي: عن القتال. فإنكم لم تؤمروا به وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي: أتموا الصلوات الخمس بوضوئها وركوعها وسجودها، وما يجب فيها من مواقيتها. وأعطوا زكاة أموالكم فَلَمَّا كُتِبَ أي فرض عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي الجهاد في سبيل الله حين قوي حالهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي طائفة منهم وهم المنافقون. وإدخالهم مع المؤمنين لما كانوا يظهرونه من أنفسهم أنهم منهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ أي: يخافون أهل مكة الكفار أن يقتلوهم كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أي: أكثر خوفا منه.
فإن قيل: ظاهر قوله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً يوهم الشك. وذلك على علام الغيوب محال. (أجيب) بأن (أو) إما بمعنى (بل) أو هي للتنويع على أن معنى: أن خشية بعضهم كخشية الله، وخشية بعضهم أشد منها. أو للإبهام على السامع. بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة. وهو قريب مما في قوله تعالى:
أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: ١٤٧]، يعني أن من يبصرهم يقول:
إنهم مائة ألف أو يزيدون.
تنبيه:
حكى المفسرون هنا رواية عن ابن عباس، أن هذه الآية نزلت في جماعة من
226
الصحابة المهاجرين وأنهم كانوا يلقون من مشركي مكة، قبل الهجرة، أذى شديدا.
فيشكون ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقولوا: ائذن لنا في قتالهم.
فيقول لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: كفوا أيديكم. فإني لم أومر بقتالهم. واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة.
ثم بعد الهجرة إلى المدينة، لما أمروا بقتالهم في وقعة بدر، كرهه بعضهم، فنزلت الآية.
وعندي أن هذه الآية كسوابقها نزلت في المنافقين، تقريعا لهم وتحذيرا للمخلصين، من شاكلتهم. والقول بنزولها في بعض المؤمنين لا يصح لوجوه: منها- أن في إسنادها عن ابن عباس من ليس على شرط الصحيح ومنها- أن طلبهم للجهاد وهم في مكة، مع قلة العدد والعدد، وممالأة العدوّ عليهم من كل جانب- في غاية البعد. ومنها- أن السياق في المنافقين: وقد ابتدئ الكلام في شأنهم من قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ- إلى قوله تعالى الآتي- فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ... الآية. كما يظهر من التدبر الصادق. ومنها- أن هذا السياق اشتمل على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين. لأنه تعالى قال في وصفهم: يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ولا يكون هذا الوصف إلا لكافر أو منافق. وحكى تعالى عنهم أنهم قالوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ولم يعهد هذا عن المؤمنين، بل المحفوظ مبادرتهم للجهاد. كما روى ابن إسحاق في (السيرة) أن النبيّ ﷺ استشار الناس في غزوة بدر. فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! امض لما أراك الله. فنحن معك. والله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤]. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
ثم قال سعد بن معاذ: امض، يا رسول الله! لما أردت، فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. ما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا. إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء. ومنها- أنه تعالى ذكر بعد ذلك قوله: إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء: ٧٨]. ولا شك أن هذا من كلام المنافقين. ثم صرح تعالى في آخر الكلام عليهم بقوله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ. فزال اللبس وبرح الخفاء.
227
وما أشبه هذه الآيات بقوله تعالى في (سورة محمد) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ. أي: تأمرنا بالجهاد، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ... إلى قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ [محمد: ٢٠- ٢٩] وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ أي الجهاد في سبيلك لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي: هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت بآجالنا قُلْ أي: تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود من المتاع الفاني، وترغيبا فيما ينالونه بالجهاد من النعيم الباقي مَتاعُ الدُّنْيا أي ما يتمتع وينتفع به في الدنيا قَلِيلٌ سريع التقضي، وشيك الانصرام. وإن أخرتم إلى ذلك الأجل وَالْآخِرَةُ أي: ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالجهاد خَيْرٌ أي: لكم من ذلك المتاع الفاني، لكثرته وعدم انقطاعه، وصفائه عن الكدورات.
وإنما قيل لِمَنِ اتَّقى حثّا لهم على اتقاء العصيان والإخلال بموجب التكليف.
وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على مقدر. ينسحب عليه الكلام. أي: تجزون فيها ولا تنقصون أدنى شيء من أجور أعمالكم، التي من جملتها مسعاكم في شأن القتال.
فلا ترغبوا عنه. (والفتيل) ما في شق النواة من الخيط. يضرب به المثل في القلة والحقارة. وقرئ (يظلمون) بالياء، إعادة للضمير إلى ظاهر (من). أفاده أبو السعود.
روى ابن أبي حاتم قال: قرأ الحسن: قل متاع الدنيا قليل. قال: رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك. وما الدنيا كلها، أولها وآخرها، إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه. وقال ابن معين: كان أبو مصهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالا فإنها متاع قليل والزوال قريب
ثم بين تعالى أنه لا ينفعهم الفرار من الموت. لأنه لا خلاص لهم منه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧٨]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨)
أَيْنَما تَكُونُوا أي: في أي مكان تكونوا عند الأجل يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أي:
228
الذي لأجله تكرهون القتال، زعما منكم أنه من مظانه. وتحبون القعود عنه، على زعم أنه منجاة منه. أي: وإذا كان لا بد من الموت، فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسعادة الأبدية، كان أولى من أن لا يكون كذلك. ونظير هذه الآية قوله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: ١٦]. وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ أي حصون مُشَيَّدَةٍ أي: مرفوعة مستحكمة. لا يصل إليها القاتل الإنسانيّ. لكنها لا تمنع القاتل الإلهيّ. كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلّم
وقد ذكر ابن جرير «١» وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد. والشاهد منها هنا أنها كانت أخبرت بأنها تموت بالعنكبوت. فاتخذ لها زوجها قصرا منيعا شاهقا ليحرزها من ذلك. فبينما هم يوما فإذا العنكبوت في السقف. فأراها إياها فقالت: أهذه التي تحذرها عليّ؟ والله! لا يقتلها إلا أنا. فأنزلوها من السقف.
فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها. فطار من سمّها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها. واسودت رجلها. فكان في ذلك أجلها. فماتت.
ولما حكى تعالى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد. خائفين من الموت، غير راغبين في سعادة الآخرة، أتبع ذلك بخلّة لهم أشنع، بقوله سبحانه وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ كخصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحوها يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي من قبله، لما علم فينا الخير وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ كقحط وجدب، وغلاء السعر، ونقص في الزروع والثمار، وموت أولاد ونتاج، ونحو ذلك يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ يعنون: من شؤمك. كما قال تعالى عن قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: ١٣١].
وعن قوم صالح: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل: ٤٧].
قال أبو السعود: فأمر النبيّ ﷺ بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر، ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال. إذ لا يجترءون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى، خلقا وإيجادا، من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء
(١) الأثر رقم ٩٩٥٨. [.....]
229
منها بوجه من الوجوه كما تزعمون. بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا. ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة. كما سيأتي بيانه. فهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل، ردّا على أسلافهم من قوله تعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أي إنما سبب خيرهم وشرهم، أو سبب إصابة السيئة التي هي ذنوبهم، عند الله تعالى لا عند غيره. حتى يسندوها إليه ويطيّروا به فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ يعني المنافقين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أي قولا. والجملة اعتراضية مسوقة لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجب من كمال غباوتهم. إذ لو فقهوا شيئا لعلموا مما يوعظون به، أن الله هو القابض الباسط. وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل والإحسان. والبلية بطريق العقوبة على ذنوب العباد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٧٩]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩)
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي: نعمة فَمِنَ اللَّهِ أي: فمن نعمته وتفضله ابتداء وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أي: بلية فَمِنْ نَفْسِكَ أي من شؤمها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها. وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى، نازلة من عنده عقوبة، كقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٠].
روى ابن عساكر عن البراء رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ قال: «ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم. وما يغفر الله أكثر».
روى الترمذيّ «١» عن أبي موسى الأشعريّ عن النبيّ ﷺ قال: لا يصيب عبدا نكتة فما فوقها أو دونها، إلا بذنب. وما يعفو الله عنه أكثر. قال وقرأ:
(١) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٤٢- سورة الشورى، ٢- حدثنا عبد بن حميد. ونصه: عن عبيد الله بن الوازع: حدثني شيخ من بني مرة قال: قدمت الكوفة فأخبرت عن بلال بن أبي بردة.
فقلت: إن فيه لمعتبرا. فأتيته وهو محبوس في داره التي كان قد بنى. قال وإذ كل شيء منه قد تغير، من العذاب والضرب. وإذا هو في قشاش (لقاطة) فقلت: الحمد لله، يا بلال! لقد رأيتك وأنت تمر بنا، تمسك بأنفك من غير غيار. وأنت في حالك هذا اليوم! فقال: ممن أنت؟ فقلت: من بني مرة بن عباد. فقال: ألا أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به؟
قلت: هات. قال: حدثني أبي، أبو بردة عن أبيه، أبي موسى، أن رسول الله ﷺ قال...
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
لطيفة:
الخطاب في أَصابَكَ عام لكل من يقف عليه. لا للنبيّ صلى الله عليه وسلم. كقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
ويدخل فيه المذكورون دخولا أوليّا. وجوّز أن يكون الخطاب له صلى الله عليه وسلم، كما قبله وما بعده، لكن لا لبيان حاله صلى الله عليه وسلم، بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير. ولعل ذلك لإظهار كمال السخط والغضب عليهم، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب. لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة. قرره أبو السعود.
قال بعض المفسرين: وثمرة الآية ردّ التطيّر والتشاؤم.
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا بيان لجلالة منصبه ﷺ ومكانته عند الله عز وجل.
بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه عليه الصلاة والسلام. بناء على جهلهم بشأنه الجليل. وتعريف (الناس) للاستغراق. أفاده أبو السعود. أي: فمن أين يتصور لك الشؤم وقد أرسلت داعيا العموم إلى الخيرات؟ فأنت منشأ كل خير ورحمة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي: على رسالتك وصدقك، بإظهار المعجزات على يديك.
أي: وإذا ثبتت رسالتك، فاليمن في طاعتك، والشؤم في مخالفتك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨٠]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه عليه الصلاة والسلام مبلغ لأمره ونهيه.
مرجع الطاعة وعدمها هو الله سبحانه وتعالى وَمَنْ تَوَلَّى عن طاعته فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي كفيلا تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم بحسبها. فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: ٤٠].
ولما بين تعالى وجوب طاعة الرسول، تأثره بذكر معاملتهم معه. فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨١]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١)
وَيَقُولُونَ أي: المنافقون، إذا أمرتهم بشيء، وهم عندك طاعَةٌ بالرفع.
231
أي: أمرنا وشأننا طاعة. ويجوز النصب بمعنى: أطعناك طاعة. كما يقول المنقاد:
سمعا وطاعة، وسمع وطاعة. قال سيبويه: سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له:
كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه. كأنه قال: أمري وشأني حمد الله وثناء عليه. ولو نصب (حمد الله) كان على الفعل. والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها. فَإِذا بَرَزُوا أي خرجوا مِنْ عِنْدِكَ أي: من مجلسك بَيَّتَ أي:
دبّر ليلا طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من القائلين المذكورين وهم رؤساؤهم غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي: خلاف ما قالت لك، من القبول وضمان الطاعة. لأنهم مصرون على الرد والعصيان. وإنما يظهرون ما يظهرون على وجه النفاق.
تنبيهان:
الأول- في (القاموس وشرحه) وبيّت الأمر: عمله أو دبره ليلا. وقال الزجاج:
كل ما فكر فيه، أو خيض بليل، فقد بيّت. ويقال: بيّت بليل ودبّر بليل بمعنى واحد.
وفي الحديث: أنه كان ﷺ لا يبيّت مالا ولا يقيله
. أي: إذا جاءه مال لا يمسكه إلى الليل ولا إلى القائلة. بل يعجل قسمته. انتهى.
ونقل الرازيّ عن الزجاج أيضا: أن كل أمر تفكر فيه وتأمل في مصالحه ومفاسده كثيرا، يقال فيه مبيّت. وفي اشتقاقه وجهان: الأول- من البيتوتة لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإنسان في بيته بالليل. فهناك تكون الخواطر أخلى، والشواغل أقل. فلما كان الغالب أن الإنسان وقت الليل يكون في البيت، والغالب أنه يستقصي الأفكار في الليل، لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيّتا. الثاني- اشتقاقه من أبيات الشعر. لأن الشاعر يدبرها ويسويها. قال الأخفش: العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه. فسمّوا المتفكّر فيه، المستقصى، مبيّتا. تشبيها له ببيت الشعر. من حيث إنه يسوى ويدبر.
الثاني- تذكير الفعل. لأن تأنيث (طائفة) غير حقيقيّ. ولأنها في معنى الفوج والفريق. وإسناده إلى طائفة منهم، لبيان أنهم المتصدون له بالذات. والباقون أتباع لهم في ذلك. لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة. وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي:
يثبته في صحائف أعمالهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الموكلين بالعباد فيجازيهم عليه.
قال ابن كثير: والمعنى في هذا التهديد، أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرّونه فيما بينهم. وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول ﷺ وعصيانه. وإن
232
كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة. وسيجزيهم على ذلك. انتهى.
وجوّز أن يكون المعنى: والله يكتبه في جملة ما يوحي إليك في كتابه، فيطلعك على أسرارهم. فلا يحسبوا أن إبطانهم يغني عنهم. فالقصد لتهديدهم على الأول. وتحذيرهم من النفاق لأن الله يظهره، على الثاني. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي تجاف عنهم ولا تعاقبهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي ثق بالله في شأنهم. فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا كفيلا بالنصرة والدولة لك عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨٢]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ إنكار واستقباح لعدم تدبرهم القرآن وإعراضهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان، ليعلموا كونه من عنده تعالى، بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكيّ على ما هو عليه. وأصل التدبّر التأمل والنظر في أدبار الأمر وعواقبه خاصة. ثم استعمل في كل تأمل، سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه وَلَوْ كانَ أي القرآن مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تعالى كما يزعمون لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع. إذ لا علم بالأمور الغيبية، ماضية، كانت أو مستقبلة، لغيره سبحانه. وحيث كانت كلها مطابقة للواقع، تعيّن كونه من عنده تعالى. قال الزجاج: ولولا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب، مما يسره المنافقون وما يبيّتونه، مختلفا: بعضه حق وبعضه باطل. لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقال أبو بكر الأصم: إن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من الكيد والمكر. وكان الله تعالى يطلع الرسول عليه الصلاة والسلام على ذلك. ويخبره بها مفصلة. فقيل لهم إن ذلك، لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لما اطرد الصدق فيه، ولوقع فيه الاختلاف. فلما لم يقع ذلك قط، علم أنه بإعلامه تعالى. وأما حمل الاختلاف على التناقض وتفاوت النظم في البلاغة، فمما لا يساعده السباق ولا السياق. أفاده أبو السعود.
تنبيه:
دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال. وعلى القول بفساد التقليد. لأنه
تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته. أفاده الرازيّ.
وفي الآية، أيضا، الحث على تدبر القرآن ليعرف إعجازه من موافقته للعلوم واشتماله على فوائد منها. وكمال حججه وبلاغته العليا. وموافقة أحكامه للحكمة.
وأخباره الماضية لكتب الأولين، والمستقبلة للواقع.
قال الحافظ ابن حجر: من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله ﷺ وعن أصحابه، الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه، ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها، فإنه الذي يحمد وينتفع به. وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم. انتهى.
وقد روى البخاريّ «١» في صحيحه تعليقا عن ابن عون (وهو عبد الله البصريّ، من صغار التابعين)، أنه قال: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني: هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها. والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه. ويدعوا الناس إلّا من خير. وفي رواية (فيتدبروه) بدل (يتفهموه).
قال الكرمانيّ: قال في القرآن: يتفهموه، وفي السنة: يتعلموها. لأن الغالب أن المسلم يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى الوصية بتعلمه. فلهذا أوصى بتفهم معناه وإدراك منطوقه. انتهى. وفي بقية الآية العذر للمصنفين فيما يقع لهم من الاختلاف والتناقض. لأن السلامة عن ذلك من خصائص القرآن. ثم ذكر تعالى عن المنافقين نوعا آخر من مفاسدهم. وهو إظهارهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبادرتهم بأخبار السرايا وإذاعتها، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨٣]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣)
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أي: مما يوجب أحدهما أَذاعُوا بِهِ
(١) أخرجه البخاريّ في: الاعتصام، ٢- باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الله تعالى:
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً.
234
أي: أفشوه. فتعود إذاعتهم مفسدة من وجوه: الأول- أن هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير. والثاني- أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن، زادوا فيه زيادات كثيرة. فإذا لم توجد تلك الزيادات، أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. لأن المنافقين كانوا يروون تلك الإرجافات عن الرسول. وإن كان ذلك في جانب الخوف، تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الإرجافات سببا للفتنة من هذا الوجه. والثالث- أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام. وذلك سبب لظهور الأسرار. وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة. والرابع- أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار. فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني. فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم، أرجف المنافقون بذلك. فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار. فأخذوا في التحصن من المسلمين، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم. وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه، وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين. فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئا للفتن والآفات من كل الوجوه. ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه. أفاده الرازيّ. وَلَوْ رَدُّوهُ أي ذلك الأمر الذي جاءهم إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وهم كبراء الصحابة البصراء في الأمور رضي الله عنهم، أو الذين يؤمّرون منهم وكانوا كأن لم يسمعوا لَعَلِمَهُ أي: الأمر الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ أي يستعلمونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون مِنْهُمْ أي من الرسول وأولي الأمر. يعني لو أنهم قالوا: نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه، ونعرف الحال فيه من جهتهم، لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير، يعني لم يقل (لعلموه) لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام. أو لذمهم أو للتنبيه على خطئهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفيّ ذلك الأمر.
قال الناصر في (الانتصاف) : في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع. وكفى به كذبا. وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدوّ. وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيرا أو غيره. انتهى.
وقد روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «كفى بالمرء كذبا
235
أن يحدث بكل ما يسمع».
وعند أبي داود «١» والحاكم عنه: كفى بالمرء إثما. ورواه الحاكم أيضا عن أبي أمامة.
هذا، ونقل الرازيّ وجها آخر في الموصول. وهو أن المعنيّ به طائفة من أولي الأمر. قال: والتقدير: ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر. وذلك لأن أولي الأمر فريقان:
بعضهم من يكون مستنبطا وبعضهم من لا يكون كذلك. فقوله (منهم) يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر. فإن قيل: إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ؟ قلنا: إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر. لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون. ونظيره قوله تعالى:
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء: ٧٢]. وقوله: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ.
انتهى.
وعلى هذا الوجه يحمل قول السيوطيّ في (الإكليل) : قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ... الآية، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد. وقول المهايميّ: فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف، لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر، ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق. وقال بعض الإمامية: ثمرة الآية أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين. وأن إذاعته قبيحة. وأنه لا يخبر بما لم يعرف صحته. وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين. وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا. وتدل على صحة القياس والاجتهاد. لأنه استنباط.
انتهى.
تنبيه:
ما نقله الزمخشريّ وتبعه البيضاويّ وأبو السعود وغيرهم، من أن قوله تعالى وَإِذا جاءَهُمْ عنى به طائفة من ضعفة المسلمين- فإن أرادوا بالضعفة المنافقين، فصحيح. وإلا فبعيد غاية البعد كما يعلم من سباق الآية وسياقها. وكذا ما نوعوه من الأقوال في معناه. فكله لم يصب المرمى. والذي يعطيه الذوق السليم في الآية هو الوجه الأول. ولها إشعار بالوجه الثاني لا تأباه. فتبصر ولا تكن أسير التقليد.
(١) أخرجه أبو داود في: الأدب، ٨٠- باب في التشديد في الكذب، حديث ٤٩٩٢.
236
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ بالكفر والضلال إِلَّا قَلِيلًا أي: إلا قليلا منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب، وعصمه عن متابعة الشيطان. كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة. كقس بن ساعدة وأضرابه. وهم عشرة. وقد أوضحت شأنهم في كتابي (إيضاح الفطرة في أهل الفترة) في (الفصل الرابع عشر) فانظره. ونقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهانيّ، أن المراد بفضل الله ورحمته، هنا، هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم: فأفوز فوزا عظيما. أي: لولا تتابع النصرة والظفر لاتبعتم الشيطان وتوليتم إلا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذين يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين. واستحسن هذا الوجه الرازيّ وقال: هو الأقرب إلى التحقيق. قال الخفاجيّ: لارتباطه بما بعده. هذا، وزعم بعضهم أن قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مستثنى من قوله (أذاعوه) أو (لعلمه) واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله. قال: لأنه لو كان مستثنى من جملة (اتبعتم) فسد المعنى لأنه يصير عدم اتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله. وهو لا يستقيم. وبيان لزومه أن (لولا) حرف امتناع لوجود. وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان. فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى، ضرورة. وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم. ألا تراك إذا قلت (لمن تذكره بحقك عليه) : لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا، كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب.
وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله، لا في كله. ومن المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان، إلا بفضله تعالى عليه. هذا ملخص ما قرره صاحب الانتصاف، وهوّل فيه. ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه، أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه. واللازم ممنوع.
لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص. وهو ما بيناه. فإن عدم الاتباع، إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص، لا ينافي أن يكون بفضل آخر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨٤]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تلوين للخطاب، وتوجيه له إلى رسول الله ﷺ بطريق
237
الالتفات. وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم. أي: إذا كان الأمر، كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم، فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا. قاله أبو السعود. لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي: إلا فعل نفسك. بالتقدم إلى الجهاد. فإن الله هو ناصرك، لا الجنود. فإن شاء نصرك وحدك، كما ينصرك وحولك الألوف. أي: ومن نكل، فلا عليك منه ولا تؤاخذ به.
قال الرازيّ: دلت الآية على أنه ﷺ كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال.
لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو ﷺ موصوف بهذه الصفات. ولقد اقتدى به أبو بكر «١» رضي الله عنه حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة. ومن علم أن الأمر كله بيد الله، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلّا بقضاء الله، سهل ذلك عليه.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدوّ فيقاتل، فيكون ممن قال الله فيه: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ؟ قال: قد قال الله تعالى لنبيه: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ.
ورواه الإمام أحمد «٢» أيضا عنه قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا. إن الله بعث رسول الله ﷺ فقال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ. إنما ذلك في النفقة. وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي على الخروج معك وعلى القتال. ورغبهم فيه وشجعهم عليه. كما
قال لهم «٣» صلى الله عليه وسلم، يوم بدر، وهو يسوي الصفوف: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض
. وقد وردت
(١)
جاء في صحيح البخاريّ في: الزكاة، ١- باب وجوب الزكاة، حديث ٧٤٣ و ٧٤٤ ما نصه: عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه. وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قالها، فقد عصم ماله ونفسه، إلا بحقه. وحسابه على الله» ؟
فقال: والله! لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة. فإن الزكاة حق المال: والله! لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فو الله! ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، فعرفت أنه الحق
. (٢) أخرجه في المسند ٤/ ٢٨١.
(٣)
أخرج مسلم في: الإمارة، حديث ١٤٥ ما نصه: عن أنس بن مالك قال: بعث رسول الله ﷺ بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان. فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله ﷺ قال فحدثه الحديث. قال فخرج رسول الله ﷺ فتكلم فقال: إن لنا طلبة. فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا: فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة. فقال «لا. إلا من كان ظهره حاضرا».
238
أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك. منها: ما
رواه البخاريّ «١» عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله.
بين كل درجتين كما بين السماء والأرض»

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ أي: يمنع بَأْسَ أي: قتال الَّذِينَ كَفَرُوا وهم كفار مكة. أي: بتحريضك إياهم على القتال، تبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم.
قال أبو السعود: وقوله تعالى: عَسَى... إلخ عدة منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكروههم. فإن ما صدر ب (لعل وعسى) مقرر الوقوع من جهته عز وجل. وقد كان كذلك. حيث روي في السيرة أن رسول الله ﷺ واعد أبا سفيان، بعد حرب أحد، موسم بدر الصغرى في ذي القعدة. فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج. وخرج في شعبان سنة أربع في سبعين راكبا. ووافوا الموعد وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب. فرجعوا من مرّ الظهران. انتهى، بزيادة.
وقال في ذلك عبد الله بن رواحة (وقيل كعب بن مالك) :
فانطلق رسول الله ﷺ وأصحابه، حتى سبقوا المشركين إلى بدر. وجاء المشركون. فقال رسول الله ﷺ «لا يقدّمنّ أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه» فدنا المشركون. فقال رسول الله ﷺ «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» قال يقول عمير بن الحمام الأنصاريّ: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال «نعم» قال: بخ بخ. فقال رسول الله ﷺ «ما يحملك على قولك بخ بخ» ؟ قال: لا. والله! يا رسول الله! إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال «فإنك من أهلها».
فأخرج تمرات من قرنه (جعبة النشاب) فجعل يأكل منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة.
قال فرمى بما كان معه من التمر. ثم قاتلهم حتى قتل
. (١)
أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ٤- باب درجات المجاهدين في سبيل الله حديث ١٣٣٥ ونصه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ «من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة وصام رمضان، كان حقّا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها».
فقالوا: يا رسول الله! أفلا نبشر الناس؟
قال: إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله. ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة. أراه فوقه عرش الرحمن. ومنه تفجّر أنهار الجنة»
.
239
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا لأبت ذميما، وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه وعمرا، أبا جهل، تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله، أفّ لدينكم وأمركم السّيئ، الذي كان غاويا
فإني، وإن عنفتموني، لقائل فدى لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه، لم نعدله فينا بغيره شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أي: شدة وقوة من قريش وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي تعذيبا وعقوبة.
قال ابن كثير: أي: هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة. كما قال تعالى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد صلى الله عليه وسلم: ٤]. انتهى.
قال الخفاجيّ: والقصد التهديد أو التشجيع. ثم أشار تعالى إلى أن التحريض على القتال شفاعة في تكفير الكبائر ورفع الدرجات فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨٥]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥)
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً أي يتوسط في أمر فيترتب عليه خير من دفع ضر، أو جلب نفع، ابتغاء لوجه الله تعالى. ومنه حمل المؤمنين على قتال الكفار يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً وهي ما كانت بخلاف الحسنة، بأن كانت في أمر غير مشروع يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي: نصيب من وزرها الذي ترتب على سعيه، مساو لها في المقدار من غير أن ينقص منه شيء.
فوائد:
الأولى- قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية مدح الشفاعة وذم السعاية.
وهي الشفاعة السيئة، وذكر الناس عند السلطان بالسوء. وهي معدودة من الكبائر
240
الثانية- روي في فضل الشفاعة أحاديث كثيرة. منها ما
أخرجه الشيخان «١» عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: كان النبيّ ﷺ إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب.
وعن ابن عباس «٢» رضي الله عنهما في قصة بريرة وزوجها قال: قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: لو راجعته! قالت: يا رسول الله! تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع. قالت: لا حاجة لي فيه. رواه البخاريّ.
الثالثة- قال مجاهد والحسن والكلبيّ وابن زيد: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض. فما يجوز في الدين أن يشفع فيه، فهو شفاعة حسنة. وما لا يجوز أن يشفع فيه، فهو شفاعة سيئة. ثم قال الحسن: من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر، وإن لم يشفّع. لأن الله يقول: من يشفع. ولم يقل: من يشفّع. ويتأيد هذا
بقوله عليه الصلاة والسلام «٣» : اشفعوا تؤجروا. نقله الرازيّ.
الرابعة- قال الزمخشريّ: الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله، ولا في حق من الحقوق. يعني الواجبة عليه.
والسيئة ما كان بخلاف ذلك. وعن مسروق: أنه شفع شفاعة. فأهدى إليه المشفوع جارية. فغضب وردها. وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك. ولا أتكلم فيما بقي منها. انتهى.
(١)
أخرجه البخاريّ في: الزكاة، ٢١- باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، حديث ٧٦٥.
ونصه: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا جاءه سائل، أو طلبت إليه حاجة قال «اشفعوا تؤجروا. ويقضي الله على لسان نبيه ﷺ ما شاء»
. (٢)
أخرجه البخاريّ في: الطلاق، ١٦- باب شفاعة النبيّ ﷺ في زوج بريرة، حديث ٢١٥٤. ونصه:
عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث. كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته. فقال النبيّ ﷺ لعباس «يا عباس! ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثا؟». فقال النبيّ ﷺ «لو راجعته!». قالت: يا رسول الله! أتأمرني؟ قال «إنما أنا أشفع». قالت: لا حاجة لي فيه.
(٣)
أخرجه البخاريّ في: الزكاة، ٢١- باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، حديث ٧٦٥ ونصه: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا جاءه السائل، أو طلبت إليه حاجة، قال «اشفعوا تؤجروا. ويقضي الله على لسان نبيه ﷺ ما شاء».
241
وروى أبو داود «١» : أن رسول الله ﷺ قال: «من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هدية عليها، فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الكبائر»
. وهذا
الحديث أورده أيضا المنذريّ في (كتاب الترغيب والترهيب) في ترجمة (الترغيب في قضاء حوائج المسلمين وإدخال السرور عليهم، وما جاء فيمن شفع فأهدي إليه) ثم ساق حديث الشيخين «٢» وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كرب الدنيا يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة».
وروى الطبرانيّ بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه، ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرّم، فقد عرّض تلك النعمة للزوال». وروي نحوه عن عائشة وابن عمر وابن عمرو.
وروى الطبرانيّ وابن حبان في (صحيحه) عن عائشة رضي الله عنها قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ برّ أو تيسير عسير، أعانه الله إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام».
وفي رواية للطبرانيّ عن أبي الدرداء: رفعه الله في الدرجات العلا من الجنة.
وروى الطبرانيّ عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم».
ورواه عن عمر مرفوعا بلفظ: أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن. ورواه بنحو ذلك أيضا عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم.
انظر الترغيب.
الخامسة- نكتة اختيار النصيب في (الحسنة) والكفل في (السيئة) ما أشرنا إليه. وذلك أن النصيب يشمل الزيادة. لأن جزاء الحسنات يضاعف. وأما الكفل فأصله المركب الصعب. ثم استعير للمثل المساوي. فلذا اختير، إشارة إلى لطفه بعباده. إذ لم يضاعف السيئات كالحسنات. ويقال: إنه وإن كان معناه المثل لكنه غلب في الشر وندر في غيره. كقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: ٢٨]، فلذا خص به السيئة تطرية وهربا من التكرار. و (من) بيانية أو ابتدائية. أفاده الخفاجيّ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي: مقتدرا. من (أقات على الشيء) إذا اقتدر عليه كما قال:
(١) أخرجه أبو داود في: البيوع، ٨٢- باب الهدية لقضاء الحاجة، حديث ٣٥٤١، عن أبي أمامة.
(٢) أخرجه البخاريّ في: المظالم، ٣- باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، حديث ١٢٠٢.
242
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
أي رب ذي حقد عليّ كففت السوء عنه مع القدرة عليه. أو شهيدا حافظا.
واشتقاقه من (القوت) فإنه يقوّي البدن ويحفظه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨٦]
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦)
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ أي إذا سلم عليكم فدعى لسلامة حياتكم وصفاتكم التي بها كمال الحياة بتحية، فقيل: السلام عليكم فَحَيُّوا أي: أداء لحق المسلّم عليكم بِأَحْسَنَ مِنْها أي: بتحية أحسن منها. بأن تقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله. ولو قالها المسلم، زيد: وبركاته. قال الراغب: أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها. ثم استعملت في كل دعاء. وكانت العرب، إذا لقي بعضهم بعضا، يقول:
حيّاك الله. ثم استعملها الشرع في السلام، وهي تحية الإسلام. قال الله تعالى:
تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [إبراهيم: ٢٣]. وقال: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: ٤٤]، وقال: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النور: ٦١].
قالوا: في السلام مزية على (حياك) لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات الدينية والدنيوية، وهي مستلزمة لطول الحياة، وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك. ولأن السلام من أسمائه تعالى. فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته أَوْ رُدُّوها أي: أجيبوها بمثلها. ورد السلام ورجعه: جوابه بمثله. لأن المجيب يرد قول المسلّم ويكرره إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أي: فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم التي من جملتها ما أمرتم به من التحية. فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به. وفي الآية فوائد شتى:
الأولى- نكتة نظمها مع آيات الجهاد هو التمهيد لمنع المؤمنين من قتل من ألقى إليهم السلام في الحرب الآتي قريبا، ببيان أن لكل مسلّم حقا يؤدى إليه. وذلك لأن السلام نوع من الإكرام. والمكرم يقابل بمثل إكرامه أو أزيد. قال الرازيّ: إن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه. فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله. وربما ظهر أنه كان مسلما. فمنع الله المؤمنين عنه.
وأمرهم أن كل من يسلّم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام
243
أو أزيد. فإنه إن كان كافرا لا يضر المسلم، إن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام، أما إن كان مسلما، وقتله، ففيه أعظم المضار والمفاسد. ولذا قال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً. أي هو محاسبكم على كل أعمالكم. وكاف في إيصال جزاء أعمالكم إليكم. فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف. فهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء. والمنع من إهدارها. وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن كان مجوسيّا. ذلك بأن الله يقول: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها. وقال قتادة: فحيوا بأحسن منها، يعني للمسلمين. أو ردوها، يعني لأهل الذمة. ومن هنا حكى الماورديّ وجها: إنه يقول في الرد على أهل الذمة، إذا ابتدءوا: وعليكم السلام. ولا يقول: ورحمة الله.
نقله عنه النوويّ. وروى الزمخشريّ عن الحسن أنه يجوز أن يقال للكافر: وعليك السلام. ولا تقل: ورحمة الله. فإنها استغفار. وعن الشعبيّ أنه قال لنصرانيّ سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله. فقيل له في ذلك. فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ انتهى. والظاهر أنه لحظ الأخبار بذلك ولم يرد مضمون التحية. ومع هذا فالثابت
في الصحيحين «١» عن أنس مرفوعا: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا:
وعليكم.
كما يأتي. قال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآية مشروعية السلام ووجوب رده. واستدل بها الجمهور على رد السلام على كل مسلّم، مسلما كان أو كافرا. لكن مختلفان في صيغة الرد.
الثانية- ورد في إفشاء السلام أحاديث كثيرة. منها
قول البراء بن عازب رضي الله عنهما: أمرنا رسول الله ﷺ بسبع، منها: وإفشاء السلام. رواه الشيخان «٢».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم». رواه مسلم «٣».
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا والناس
(١) أخرجه البخاريّ في: الاستئذان، ٢٢- باب كيف يرد على أهل الذمة السلام، حديث ٢٣٧٥. [.....]
(٢)
أخرجه البخاريّ في: النكاح، ٧١- باب حق إجابة الوليمة والدعوة، حديث ٦٦٢ ونصه: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما: أمرنا النبيّ ﷺ بسبع ونهانا عن سبع. أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار المقسم ونصر المظلوم وإفشاء السلام وإجابة الداعي. ونهانا عن خواتيم الذهب وعن آنية الفضة وعن الميثار والقسّيّة والإستبرق والديباج.
(٣) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٧٣.
244
نيام، تدخلوا الجنة بسلام».
قال الترمذيّ «١» : حديث صحيح.
الثالثة- في كيفية السلام. قال الرازيّ: إن شاء قال: سلام عليكم. وإن شاء قال: السلام عليكم. قال تعالى في حق نوح: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود: ٤٨]. وقال عن الخليل: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: ٤٧].
وقال في قصة لوط: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: ٦٩]. وقال عن يحيى وَسَلامٌ عَلَيْهِ
[مريم: ١٥]. وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: ٥٩]. وقال عن الملائكة: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: ٢٣- ٢٤]. وقال عن نفسه المقدسة: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨]. وقال فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام: ٥٤]. وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: ٤٧]. وقال عن عيسى عليه السلام: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: ٣٣]، فثبت أن الكل جائز. انتهى.
قال الإمام أبو الحسن الواحديّ: أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار.
انتهى. ولكثرة ورود التنكير في القرآن، على ما بيناه، فضله بعضهم على التعريف.
الرابعة- في فضله.
روى الإمام أحمد «٢» وأبو داود والترمذيّ والدارميّ عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال: السلام عليكم. فرد عليه ثم جلس. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: عشر. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فرد عليه فجلس فقال: عشرون. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فرد عليه فجلس فقال: ثلاثون.
قال الترمذيّ حديث حسن. وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف. وقال البزار: قد روي هذا
(١) أخرجه الترمذيّ في: القيامة، ٤٢- باب حدثنا محمد بن بشار، ونصه: عن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس إليه: وقيل: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت في الناس لأنظر إليه. فلما استثبتّ وجه رسول الله ﷺ عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. وكان أول شيء تكلم به أن قال...
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٤٣٩.
وأبو داود في: الأدب، ١٣٢- باب كيف السلام، حديث ٥١٩٥.
والترمذيّ في: الاستئذان والآداب، ٢- باب ما ذكر في فضل السلام.
245
عن النبيّ ﷺ من وجوه، هذا أحسنها إسنادا. وفي رواية لأبي داود «١»، من رواية معاذ ابن أنس رضي الله عنه زيادة على هذا. قال: ثم أتى آخر. فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. فقال: أربعون. وقال: هكذا تكون الفضائل. وفيه رد على من زعم أنه لا يزاد على (وبركاته). لا يقال رواية (ومغفرته) عند أبي داود، هي من طريق أبي مرحوم واسمه عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه.
وأبو مرحوم ضعفه يحيى. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به- لأنا نقول:
قد حسّن الترمذيّ روايته عن سهل بن معاذ. وصححها أيضا هو وابن خزيمة والحاكم وغيرهم. قال النسائيّ لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه.
عود:
وروى الطبراني عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله. كتبت عشرون حسنة، ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة».
وروى ابن حيان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا مرّ على رسول الله ﷺ وهو في مجلس فقال: سلام عليكم. فقال: عشر حسنات. ثم مرّ آخر فقال: سلام عليكم ورحمة الله فقال: عشرون حسنة. ثم مرّ آخر فقال: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال: ثلاثون حسنة. فقام رجل من المجلس ولم يسلّم.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أوشك ما نسي صاحبكم. إذا جاء أحدكم إلى المجلس فليسلم.
فإن بدا له أن يجلس فليجلس. وإن قام فليسلم. فليست الأولى بأحق من الآخرة.
وروى الطبرانيّ بإسناد جيد عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبخل الناس من بخل بالسلام. ورواه أيضا عن أبي هريرة. ولأحمد «٢» والبزار نحوه عن جابر.
وروى الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبيّ ﷺ قال: إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده تناثرت خطاياهما كما تتناثر ورق الشجر
. قال المنذريّ:
ورواته لا أعلم فيهم مجروحا.
وروى البزار عن عمر بن الخطاب قال: «قال رسول الله
(١) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٣٢- باب كيف السلام، حديث ٥١٩٦.
(٢)
أخرجه أحمد في مسنده ٣/ ٣٢٨، ونصه: عن جابر أن رجلا أتى النبيّ ﷺ فقال: إن لفلان في حائطي عذقا، وإنه قد آذاني وشقّ عليّ مكان عذقه. فأرسل إليه النبيّ ﷺ فقال: «بعني عذقك الذي في حائط فلان»
قال: لا. قال «فهبه لي» قال: لا. قال «فبعنيه بعذق في الجنة». قال: لا.
فقال النبيّ ﷺ «ما رأيت الذي هو أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام»
.
246
صلى الله عليه وسلم: إذا التقى الرجلان المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه، فإنّ أحبهما إلى الله أحسنهما بشرا لصاحبه. فإذا تصافحا نزلت عليهما مائة رحمة: للبادئ منهما تسعون، وللمصافح عشرة».
وروى أبو داود «١» عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام.
الخامسة- في بعض أحكامه المأثورة.
روى أبو داود «٢» عن عليّ رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ قال: «يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم. ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم».
وفي الموطأ «٣» عن زيد بن أسلم أن رسول الله ﷺ قال: إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم.
قال النوويّ: هذا مرسل صحيح الإسناد.
وفي الصحيحين «٤» عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام. قالت قلت: وعليه السلام ورحمة الله. ترى ما لا نرى
(تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ: ووقع
في بعض روايات الصحيحين (وبركاته)،
ولم يقع في بعضها. وزيادة الثقة مقبولة.
وفي سنن أبي داود «٥» عن غالب القطان عن رجل قال: حدثني أبي عن جدي قال: بعثني أبي إلى رسول الله ﷺ فقال: ائته فأقرئه السلام. فأتيته فقلت: إن أبي يقرئك السلام. فقال: عليك وعلى أبيك السلام
. قال النوويّ: هذا وإن كان رواية عن مجهول، فأحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم. فيستفاد منه الرد على المبلّغ كالمسلّم.
وروى أبو داود «٦» عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه. فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه.
ففيه أن من سلم عليه إنسان، ثم لقيه على قرب، ندب التسليم عليه ثانيا وثالثا.
وروى الشيخان «٧» عن أبي هريرة أن الرسول
(١) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٣٣- باب في فضل من بدأ بالسلام حديث ٥١٩٧.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٤١- باب ما جاء في رد الواحد عن الجماعة، حديث ٥٢١٠.
(٣)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: السلام، حديث ١ ونصه: عن زيد بن أسلم أن رسول الله ﷺ قال «يسلم الراكب على الماشي. وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم».
(٤) أخرجه البخاريّ في: الاستئذان، ١٦- باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال، حديث ١٥١٩.
(٥) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٥٤- باب في الرجل يقول: فلان يقرئك السلام، حديث ٥٢٣١.
(٦) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٣٥- باب في الرجل يفارق الرجل ثم يلقاه أيسلم عليه؟ حديث ٥٢٠٠.
(٧) أخرجه البخاريّ في: الاستئذان، ٥- باب تسليم الراكب على الماشي، ٦- باب تسليم الماشي على القاعد، حديث ٢٣٧٠.
247
صلى الله عليه وسلم قال: يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير.
وروى الشيخان «١» عن أنس: أنه مر على صبيان فسلم عليهم. وقال: كان رسول الله ﷺ يفعله.
ولفظ أبي داود «٢»
أتى رسول الله ﷺ على غلمان يلعبون فسلم عليهم.
وعند ابن السنيّ فيه، فقال: السلام عليكم يا صبيان.
وروى أبو داود «٣» عن أسماء بنت يزيد قالت: مرّ علينا النبيّ ﷺ في نسوة فسلم علينا. وروى الترمذيّ نحوه.
وروى الشيخان «٤» عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سلم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم.
ورويا «٥» عن أسامة أن النبيّ ﷺ مرّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلم عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال «٦» رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبدءوا اليهود ولا النصارى
(١) أخرجه البخاريّ في: الاستئذان، ١٥- باب التسليم على الصبيان. [.....]
(٢) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٣٦- باب في السلام على الصبيان، حديث ٥٢٠٢.
(٣) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٣٧- باب في السلام على النساء، حديث ٥٢٠٤.
(٤) أخرجه البخاريّ في: الاستئذان، ٢٢- باب كيف يرد على أهل الذمة السلام، حديث ٢٣٧٥.
(٥)
أخرجه البخاريّ في: الاستئذان، ٢٠- باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، حديث ١٤٢١ ونصه: عن أسامة بن زيد أن النبيّ ﷺ ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية. وأردف وراءه أسامة بن زيد، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج.
وذلك قبل وقعة بدر. حتى مرّ في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، عبدة الأوثان واليهود. وفيهم عبد الله بن أبيّ، ابن سلول. وفي المجلس عبد الله بن رواحة. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمّر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه. ثم قال: لا تغبّروا علينا. فسلّم عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم. ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله ابن أبيّ، ابن سلول:
أيها المرء! لا أحسن من هذا. إن كان ما تقول حقّا. فلا تؤذنا في مجالسنا وارجع إلى رحلك فمن جاءك منا فاقصص عليه.
قال ابن رواحة: اغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك.
فاستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا.
فلم يزل النبيّ ﷺ يخفضهم حتى ركب دابته. حتى دخل على سعد بن عبادة فقال «أي سعد! ألم تسمع ما قال أبو حباب؟» يريد عبد الله بن أبيّ «قال: كذا وكذا».
قال: اعف عنه، يا رسول الله! واصفح. فو الله! لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوجوه، فيعصبونه بالعصابة.
فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك، شرق بذلك. فذلك فعل به ما رأيت.
فعفا عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم
. (٦) أخرجه مسلم في: السلام، حديث ١٣.
248
بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه
. قال النوويّ: روينا في موطأ مالك أنه سئل عمن سلم على اليهوديّ أو النصرانيّ هل يستقيله ذلك؟ فقال: لا. قال أبو سعد المتولي الشافعيّ: لو أراد تحية ذميّ، فعلها بغير السلام. بأن يقول: هداك الله أو أنعم الله صباحك. قال النوويّ. هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به. إذا احتاج إليه فيقول: صبحت بالخير أو بالسعادة أو بالعافية. أو صبحك الله بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرة أو ما أشبه ذلك.
السادسة- قال الحسن البصريّ: السلام تطوع والرد فريضة. قال ابن كثير:
وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة: أن الرد واجب على من سلّم عليه. فيأثم إن لم يفعل لأنه خالف أمر الله في قوله: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها. انتهى. وفي ترك الرد إهانة وازدراء وهو حرام. ولذا ندب للجمع المسلم عليهم أن يجيبوا كلهم إظهارا للإكرام ومبالغة فيه. وإن كان الفرض يسقط ببعضهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨٧]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: ليبعثنكم من قبوركم ويحشرنكم إلى حساب يوم القيامة في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله. قال الزمخشريّ: القيامة والقيام كالطلابة والطلاب. وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال الله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: ٦]. لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك في يوم القيامة أو في الجمع وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً إنكار لأن يكون أحد أصدق منه تعالى في حديثه وخبره ووعده ووعيده، وبيان لاستحالته.
لأنه نقص وقبيح. إذ من كذب، لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يجر منفعة بكذبه أو يدفع مضرة، أو هو جاهل بقبحه، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في أخباره، ولا يبالي بأيهما نطق. فظهر استحالة الكذب عليه جل شأنه. والغير، وإن دلت الدلائل على صدقه، فكذبه ممكن إذا لم ينظر إليها.
فوائد:
الأولى- قال الرازيّ: في كيفية النظم وجهان: أحدهما إنا بينا أن المقصود من قوله: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها، أن لا يصير الرجل
المسلّم مقتولا. ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً. ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية. فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان. فقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. إشارة إلى التوحيد. وقوله:
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. إشارة إلى العد. وهو كقوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: ١٨]، وكقوله، في طه:
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤]، وهو إشارة إلى التوحيد. ثم قال: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: ١٥]. وهو إشارة إلى العدل. فكذا في هذه الآية، بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة. فينتصف للمظلومين من الظالمين. ولا شك أنه تهديد شديد. الوجه الثاني- كأنه تعالى يقول: من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر. فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو. إنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة.
الثانية- قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إما خبر للمبتدأ و (ليجمعنكم إلخ). جواب قسم محذوف، والجملة القسمية مستأنفة لا محل لها. أو خبر ثان. وإما اعتراض، والجملة القسمية خبر.
الثالثة- تعدية (ليجمعنكم) ب (إلى) لكونه بمعنى الحشر كما بينا. أو لكون (إلى) بمعنى (في) كما أثبته أهل العربية. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨٨]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨)
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ أي: فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين فِئَتَيْنِ أي:
فرقتين ولم تتفقوا على التبرؤ منهم. والاستفهام للإنكار. والنفي والخطاب لجميع المؤمنين. لكن ما فيه من معنى التوبيخ متوجه إلى بعضهم. وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم. وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم. فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ منهم. لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية. فليس لكم أن تختلفوا في شأنهم. وقد قيل: إن المراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين خذلوا رسول الله ﷺ يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم،
250
بعد أن خرجوا. كما تقدم في آل عمران. كما أوضحه الشيخان «١» والإمام أحمد والترمذيّ عن زيد بن ثابت: أن رسول الله ﷺ خرج إلى أحد. فرجع ناس خرجوا معه. فكان أصحاب رسول الله ﷺ فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول:
لا. هم المؤمنون. فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد. هذا لفظ أحمد.
وقد ذكر الإمام محمد بن إسحاق في وقعة أحد: أن عبد الله بن أبيّ، ابن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش: رجع بثلاثمائة وبقي النبيّ ﷺ في سبعمائة.
وثمة في نزول الآية رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد «٢» في مسنده عن عبد الرحمن بن عوف: أن قوما من العرب أتوا رسول الله ﷺ بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحمّاها. فأركسوا. فخرجوا من المدينة. فاستقبلهم نفر من أصحابه.
يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة. فقالوا: أما لكم في رسول الله ﷺ أسوة حسنة؟ فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: لم ينافقوا. فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ... الآية. وهذه الرواية هي الأقرب لنظم الآية كما سنبينه في التنبيه الثاني وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أي نكّسهم وردهم إلى الكفر بِما كَسَبُوا أي: بسبب ما كسبوه من لحوقهم بالكفار أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي: تعدّوهم من جملة المهتدين. قال أبو السعود: تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين، وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك، وإشعار بأنه يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى. وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم، وهم بمعزل عن ذلك، سعي في هدايتهم وإرادة لها.
ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٥- باب فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ، حديث ٩٥٦.
والإمام أحمد في المسند ٥/ ١٨٤.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ١/ ١٩٢، ونصه: عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله ﷺ المدينة فأسلموا. وأصابهم وباء المدينة: حمّاها. فأركسوا فخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من أصحابه (يعني أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم) فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا:
أصابنا وباء المدينة فاجتوينا المدينة. فقالوا: أما لكم في رسول الله ﷺ أسوة؟ فقال بعضهم:
نافقوا. وقال بعضهم: لم ينافقوا هم مسلمون. فأنزل الله عز وجل: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا... الآية.
251
ذكر في حيّز الصلة، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها. بأن يقال: أتهدون إلخ للمبالغة في إنكاره بيان أنه مما لا يمكن إرادته، فضلا عن إمكان نفسه وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي: طريقا إلى الهدى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨٩]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم، إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم. أي:
تمنوا أن تكفروا ككفرهم بعد الإيمان فَتَكُونُونَ سَواءً أي: في الكفر والضلال فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ في العون والنصرة لئلا يفضي إلى كفركم، وإن أظهروا لكم الإيمان طلبا لموالاتكم حَتَّى يُهاجِرُوا من دار الكفر فِي سَبِيلِ اللَّهِ فتتحققوا إيمانهم فَإِنْ تَوَلَّوْا أي عن الهجرة. فهم، وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة، فافعلوا بهم ما تفعلون بالكفار. لأنه زال عنهم حكم النفاق بلحوق دار الكفر فَخُذُوهُمْ أي: أسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الحل والحرم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي: لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.
تنبيهان:
الأول- قال الرازيّ: دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد. وهذا متأكد بعموم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١]. والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين. لأن ذلك هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة. وإذا كان كذلك، كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة. وإذا كان كذلك، امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه. والله أعلم.
الثاني- يظهر لي أن الأقرب في سبب نزول هذه الآيات أعني قوله تعالى:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ. إلخ، رواية عبد الرحمن بن عوف. كما يدل عليه سبر
هذه الآيات وتدبرها بصادق النظر والإمعان. وقد اهتدى إلى ذلك الفاضل المهايميّ في تفسيره. فاقتصر على هذا الوجه فقال: وهم الذين استأذنوا رسول الله ﷺ في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة. فلم يزالوا يرتحلون مرحلة بعد أخرى حتى لحقوا المشركين. انتهى. وقول السيوطيّ: في إسناد رواية عبد الرحمن بن عوف عند أحمد تدليس وانقطاع. لا يقدح في إصابتها كبد الحقيقة. لأنها وجدت فيها قرينة تلحقها بالمقبول وهو موافقتها لألفاظ الآية بلا تكلف. وحينئذ فقول زيد بن ثابت:
فنزلت فيما تقدم بمعنى أنها تشمل ما وقع من المنخزلين عن أحد وما جرى من اختلاف المؤمنين في شأنهم. لا أنّ ما وقع كان سببا لنزولها. واستعمال النزول بذلك معروف كما بيناه في المقدمة. وإلا لأشكل قوله تعالى: (إلا أن يهاجروا). إذ لم تطلب المهاجرة إلا من النائين عن المدينة. وأولئك، أعني الذين انخزلوا عن المسلمين في أحد، كانوا بها. فيحتاج إلى جعل المهاجرة بمعنى خروجهم مع رسول الله ﷺ والمؤمنين، صابرين محتسبين مخلصين. كما قاله بعض المفسرين.
وهذا المعنى لم يشع في المهاجرة. ولأشكل أيضا قوله تعالى: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. فإنه يفيد بأنهم ليسوا من منافقي أهل المدينة. وإنه يتوقع الظفر بهم. وإلا فمنافقوها بين ظهرانيهم ليلا ونهارا. فالظاهر في هذا المقام رواية ابن عوف. وفي آخر رواية زيد ما يشعر بها حيث قال: إنها طيبة وإنها تنفي الخبث.
إشارة إلى أن المدينة نفت هؤلاء الذين نزحوا عنها بعد إسلامهم. والله أعلم. ثم استثنى عن أسر المرتدين وقتلهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩٠]
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ يلجئون إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي: عهد بهدنة أو أمان فاجعلوا حكمهم كحكمهم لئلا يفضي إلى قتال من وصلوا إليهم فيفضي إلى نقض الميثاق أَوْ جاؤُكُمْ
عطف على الصلة أي: والذين جاءوكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار (قد) أي: ضاقت وانقبضت نفوسهم أَنْ يُقاتِلُوكُمْ
253
لإرادتهم المسالمة أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي: معكم من أجلكم لمكان القرابة منهم.
فهم لا لكم ولا عليكم. قال أبو السعود: استثني من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان: أحدهما- من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين. والآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن. أن سراقة ابن مالك المدلجيّ حدثهم قال: لما ظهر النبيّ ﷺ على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج. فأتيته فقلت: أنشدك النعمة. بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي. وأنا أريد أن توادعهم.
فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام. وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم. فأخذ رسول الله ﷺ بيد خالد فقال: اذهب معه فافعل ما يريد. فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أسلمت قريش أسلموا معهم. وأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ
. فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم. وفي قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ إشعار بقوتهم في أنفسهم، وأن في التعرض لقتلهم إظهارا لقوتهم الخفية فهذه الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي تركوكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عز وجل وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الانقياد والاستسلام فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي طريقا بالأسر أو القتل. إذ لا ضرر منهم في الإسلام. وقتالهم يظهر كمال قوتهم.
لطيفة:
قال الخفاجيّ (السلم) بفتحتين: الانقياد. وقرئ بسكون اللام مع فتح السين وكسرها. وكأن إلقاء السلم استعارة. لأنّ من سلّم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلّم له.
وعدم جعل السبيل مبالغة في عدم التعرض لهم، لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له؟
تنبيه:
ظاهر النظم الكريم أن الفريقين المستثنيين من الكفار. وحاول أبو مسلم الأصفهانيّ كونهما من المسلمين حيث قال: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم، استثنى من له عذر. فقال: إلا الذين يصلون، وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة. إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا إليه خوفا من أولئك الكفار. فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد.
وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص. واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول، ولا
254
يقاتل الرسول ولا أصحابه. لأنه يخاف الله تعالى فيه. ولا يقاتل الكفار أيضا، لأنهم أقاربه. أو لأنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم. فيخاف، لو قاتلهم، أن يقتلوا أولادهم وأصحابه. فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم. وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩١]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
سَتَجِدُونَ أقواما آخَرِينَ يُرِيدُونَ بإظهار الإسلام لكم أَنْ يَأْمَنُوكُمْ أي: على أنفسهم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ بإظهار الكفر كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أي: دعوا إلى الارتداد والشرك أُرْكِسُوا فِيها أي: رجعوا إليها منكوسين على رؤوسهم فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ أي يتنحوا عنكم جانبا، بأن لم يكونوا معكم ولا عليكم. وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي: ولم يلقوا الانقياد وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أي: عن قتالكم فَخُذُوهُمْ أي: اتّسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: وجدتموهم في داركم أو دارهم وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي: حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلا وسبيا. لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام.
أو تسلطا ظاهرا، حيث أذنّا لكم في أخذهم وقتلهم.
تنبيهان:
الأول- قال ابن كثير: هؤلاء الآخرون، في الصورة الظاهرة، كمن تقدمهم.
ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك. فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبيّ ﷺ ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريّهم. ويصانعون الكفار في الباطن. فيعبدون معهم ما يعبدون، ليأمنوا بذلك عندهم. وهم في الباطن مع أولئك.
كما قال تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة: ١٤] الآية.
وحكى ابن جرير «١» عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكة. كانوا يأتون النبيّ ﷺ فيسلمون رياء. ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان. يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا. فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
(١) الأثر رقم ١٠٠٧٨.
الثاني- قال الرازيّ: قال الأكثرون: في الآية دلالة على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا، لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم. ونظيره قوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ [الممتحنة: ٨]. وقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: ١٩٠]. فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩٢]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً أي ما جاز ولا صح ولا لاق لمؤمن قتل أخيه المؤمن. فإن الإيمان زاجر عن ذلك. إلا على وجه الخطأ. فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية. قال الزمخشريّ: فإن قلت: بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له. أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده. ويجوز أن يكون حالا. بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ. وأن يكون صفة للمصدر: إلا قتلا خطأ. والمعنى: إن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء، البتة. إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد. بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما. أو يرمي شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم. انتهى.
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً أي: بما ذكرنا. فهو، وإن عفي عنه، لكنه لا يخلو عن تقصير في حق الله، ولا يهدر دم المؤمن بالكلية فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي: فالواجب عليه، لحق الله، إعتاق نفس محكوم عليها بالإيمان، ولو صغيرة. ليعتق الله عنه بكل جزء منها جزءا منه من النار.
وقد روى الإمام أحمد «١» عن عبد الرزاق، عن معمر، عن
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ٤٥١.
وأخرجه في الموطأ في: العتق والولاء، حديث ٩.
256
الزهريّ عن عبيد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء. فقال: يا رسول الله! إن عليّ عتق رقبة مؤمنة. فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم. قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. قال: أعتقها
. وهذا إسناد صحيح، وجهالة الصحابيّ لا تضرّه.
وفي موطأ مالك «١» ومسند الشافعيّ وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائيّ عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
أعتقها فإنها مؤمنة
. أفاده ابن كثير.
لطيفتان:
الأولى- قال الزمخشريّ: التحرير: الإعتاق. والحر والعتيق: الكريم. لأن الكرم في الأحرار، كما أن اللؤم في العبيد. ومنه عتاق الخليل وعتاق الطير لكرامها. وحرّ الوجه أكرم موضع منه. وقولهم للئيم: عبد، وفلان عبد الفعل، أي: لئيم الفعل.
والرقبة عبارة عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق.
الثانية- قيل في حكمة الإعتاق: إنه لما أخرج نفسا مؤمنة من جملة الأحياء، لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار. لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها. من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات. إذ الرق من آثار الكفر. والكفر موت حكما: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: ١٢٢]. ولهذا منع من تصرف الأحرار. وهذا مشكل.
إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضا. لكن يحتمل أن يقال: إنما وجب عليه ذلك، لأن الله تعالى أبقى للقتال نفسا مؤمنة حيث لم يوجب القصاص. فأوجب
(١)
أخرجه في الموطأ: العتق والولاء، حديث ٨ عن عمر بن الحكم أنه قال: أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله: إن جارية كانت ترعى غنما لي. فجئتها وقد فقدت شاة من الغنم. فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئب فأسفت عليها، وكنت من بني آدم فلطمت وجهها. وعليّ رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله ﷺ «أين الله؟» فقالت: في السماء. فقال «من أنا؟» فقالت: أنت رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعتقها».
وأخرجه أحمد في المسند (ضمن حديث طويل) ٥/ ٤٤٧.
وفيه قال «أعتقها فإنها مؤمنة» وقال مرة «هي مؤمنة فأعتقها»
.
257
عليه مثلها رقبة مؤمنة. أفاده النسفيّ. وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي: والواجب عليه أيضا، لحق ورثة المقتول، عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم، دية مؤداة إلى ورثته.
يقتسمونها اقتسام الميراث. وقد بيّنت السنة مقدارها. وذلك فيما
رواه النسائيّ «١» وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ كتب إلى أهل اليمن كتابا. وفيه: إن في النفس الدية، مائة من الإبل. وفيه: وعلى أهل الذهب ألف دينار.
وروى أبو داود «٢» عن جابر عن النبيّ ﷺ أنه فرض في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل. وعلى أهل البقر مائتي بقرة. وعلى أهل الشاء ألفي شاة. وعلى أهل الحلل مائتي حلة
. وفي الموطأ «٣» أن عمر بن الخطاب قوّم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار. وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل، لا في ماله.
قال الشافعيّ رحمه الله: لم أعلم مخالفا أن رسول الله ﷺ قضى بالدية على العاقلة.
وفي الصحيحين «٤» عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل. فرمت إحداهما الأخرى بحجر. فقتلتها، وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقضى أن دية جنينها غرة: عبد أو أمة. وقضى بدية المرأة على عاقلتها.
ورواه أبو داود «٥» عن جابر بلفظ: أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى. ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله ﷺ دية المقتولة على عاقلة القاتلة. وبرأ زوجها وولدها، قال فقال عاقلة القاتلة: ميراثها لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. ميراثها لزوجها وولدها
. و (العاقلة) القرابات من قبل الأب وهم عصبته. وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب وليّ المقتول. وسميت الدية عقلا تسمية بالمصدر. لأن الإبل كانت تعقل بفناء وليّ المقتول. ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، ولو لم تكن إبلا. وتضمين العاقلة مخالف لظاهر قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر: ١٨]. فتكون الأحاديث القاضية بتضمين العاقلة مخصصة لعموم الآية. لما
(١) أخرجه النسائي في: القسامة، ٤٧- باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له.
(٢) أخرجه أبو داود في: الديات، ١٦- باب الدية كم هي؟ حديث ٤٥٤٣.
(٣) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: العقول، حديث ٢.
(٤) أخرجه البخاريّ في: الديات، ٢٥- باب جنين المرأة، حديث ٢٢٦٩. [.....]
(٥) أخرجه أبو داود في: الديات، ١٩- باب دية الجنين، حديث ٤٥٧٥.
258
في ذلك من المصلحة. لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله. لأن تتابع الخطأ لا يؤمن. ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول. كذا في (نيل الأوطار).
قال المهايميّ: تجب الدية على كل عاقلة القاتل. وهم عصبته غير الأصول والفروع. لأنه لما عفي عن القاتل فلا وجه للأخذ منه. وأصوله وفروعه أجزاؤه.
فالأخذ منهم أخذ منه. ولا وجه لإهدار دم المؤمن. فيؤخذ من عاقلته الذين يرثونه بأقوى الجهات وهي العصبية. لأن الغرم بالغنم. فإن لم يكن له عاقلة، أو كانوا فقراء، فعلى بيت المال. انتهى.
وقد خالف أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج. فأوجبوا الدية على القاتل لا على عاقلته. واحتجوا بوجوه خمسة عقلية. ساقها الفخر الرازيّ. هنا. وكلها مما لا يساوي فلسا. إذ هي من معارضة النص النبويّ بالرأي المحض.
اللهم: إنا نبرأ إليك من ذلك. وقد غفلوا عن حكمة المشروعية على العاقلة التي بيّناها.
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر
تنبيه:
يشتمل قوله تعالى فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ تسليمها حالّة ومؤجلة. إلا أن الإجماع قد وقع على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة. ولكن اختلفوا في مقدار الأجل. فذهب الأكثر إلى أن الأجل ثلاث سنين. وقال ربيعة: إلى خمس. وحكى في (البحر) عن بعض الناس بعد حكايته للإجماع السابق: أنها تكون حالّة. إذ لم يرو عنه ﷺ تأجيلها. قال في (البحر) قلنا:
روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين
. وقاله عمر وابن عباس. ولم ينكر. انتهى.
قال الشافعيّ في (المختصر) : لا أعلم مخالفا أن رسول الله ﷺ قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين.
قال الرافعيّ: تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك. فمنهم من قال: ورد.
ونسبه إلى رواية عليّ عليه السلام. ومنهم من قال: ورد أنه ﷺ قضى بالدية على العاقلة. وأما التأجيل فلم يرد به الخبر. وأخذ ذلك من إجماع الصحابة.
وقال ابن المنذر: ما ذكره الشافعيّ لا نعرفه أصلا من كتاب ولا سنة. وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال: لا نعرف فيه شيئا. فقيل: إن أبا عبد الله، يعني
259
الشافعيّ، رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال: لعله سمعه من ذلك المدنيّ. فإنه كان حسن الظن به. يعني إبراهيم بن أبي يحيى. وتعقبه ابن الرفعة: بأن من عرف حجة على من لم يعرف. وروى البيهقيّ من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: من السنة أن تنجّم الدية في ثلاث سنين. وقد وافق الشافعيّ، على نقل الإجماع، الترمذيّ في (جامعه) وابن المنذر. فحكى كل واحد منهما الإجماع.
كذا في (نيل الأوطار). وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي: إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلا تجب عليه. وسمي العفو عنها صدقة حثّا عليه وتنبيها على فضله. قال السيوطيّ في (الإكليل) : فيها (أي: هذه الآية) تعظيم قتل المؤمن والإثم فيه، ونفيه عن الخطأ، وأن في قتل الخطأ كفارة ودية. لا قصاص. وأن الدية مسلمة إلى أهل المقتول. إلا أن يصدقوا بها، أي: يبرءوا منها. ففيه جواز الإبراء من أهل الدية. مع أنها مجهولة. وفي قوله (مسلمة) دون (يسلمها) إشارة إلى أنها على عاقلة القاتل. ذكره سعيد بن جبير. أخرجه ابن أبي حاتم واستدل بقوله: إِلى أَهْلِهِ، على أن الزوجة ترث منها. لأنها من جملة الأهل خلافا للظاهرية. واحتج بها من أجاز إرث القاتل منها. لأنه من أهله. واحتج الظاهرية بقوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.
على أن المقتول ليس له العفو عن الدية. لأن الله جعل ذلك لأهله خاصة. وعموم الآية شامل للإمام إذا قتل خطأ. خلافا لمن قال: لا شيء عليه ولا على عاقلته.
واستدل بعمومها أيضا من قال: إن في قتل العبد الدية والكفارة. وإن على الصبيّ والمجنون، إذا قتلا، الكفارة. وإن المشارك في القتل عليه كفارة كاملة. انتهى.
فَإِنْ كانَ أي: المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي: محاربين وَهُوَ مُؤْمِنٌ فلم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه، بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، أو بأن أتاهم بعد ما فارقهم لمهمّ من المهمات فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي: فعلى قاتله الكفارة، لحق الله دون الدية. فإنها ساقطة. إذ لا إرث بينه وبين أهله. لأنهم محاربون. وقال الإمام زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام: لا تؤدى الدية إليهم لأنهم يتقوّون بها. ومعلوم أن سقوط الدية لمن هذه حاله أخذا من إيجاب الله تعالى على قاتله الكفارة، ولم يذكر الدية كما ذكرها في أول الآية وآخرها، وقد روى الحاكم وغيره عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان الرجل يأتي النبيّ ﷺ ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون: فيصيبه المسلمون في سرية أو غزاة. فيعتق الذي يصيبه رقبة وَإِنْ كانَ أي: المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ أي: كفرة بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي: عهد من هدنة أو أمان. أي: كان على دينهم ومذهبهم فَدِيَةٌ أي: فعلى قاتله دية مُسَلَّمَةٌ
260
إِلى أَهْلِهِ
إذ هم كالمسلمين في الحقوق وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لحق الله تعالى.
وتقديم الدية هاهنا مع تأخيرها فيما سلف، للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق.
قال السيوطيّ: روى الحاكم وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ إلخ: هو الرجل يكون معاهدا. ويكون قومه أهل عهد. فتسلم إليهم الدية ويعتق الذي أصابه رقبة.
قال السيوطيّ: ففيه أن المقتول إذا كان من أهل الذمة والعهد ففيه دية مسلمة إلى أهله مع الكفارة. وفيه رد على من قال: لا كفارة في قتل الذميّ. والذين قالوا ذلك قالوا: إن الآية في المؤمن الذي أهله أهل عهد. وقالوا: إنهم أحق بديته لأجل عهدهم. ويرده تفسير ابن عباس المذكور، وأنه تعالى لم يقل فيه: وهو مؤمن، كما قال في الذي قبله. انتهى.
تنبيه:
استدل بالآية من قال: إن دية المعاهد حربيا أو كتابيا، كالمسلم. لأنه تعالى ذكر في كل منهما الكفارة والدية. فوجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء. إذ إطلاق الدية يفيد أنها الدية المعهودة. وهي دية المسلم. وقد أخرج الترمذيّ «١» عن ابن عباس وقال: غريب أن النبيّ ﷺ ودى العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمريّ، وكان لهما عهد من النبيّ ﷺ لم يشعر به عمرو، بدية المسلمين، وأخرج البيهقيّ عن الزهريّ أنها كانت دية اليهوديّ والنصرانيّ في زمن النبيّ ﷺ مثل دية المسلم. وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان. فلما كان معاوية، أعطى أهل المقتول النصف وألقى النصف في بيت المال. قال: ثم قضى عمر بن عبد العزيز بالنصف وألقى ما كان جعل معاوية. وأخرج أيضا عن ابن عمر أن النبيّ ﷺ ودى ذميّا دية مسلم. وفي أثري البيهقيّ المذكورين مقال. إذ علل الأول بالإرسال. والثاني بأن في إسناده أبا كرز. وهو متروك.
وروى أحمد «٢» والنسائيّ والترمذيّ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: عقل الكافر نصف دية المسلم.
وأخرج أبو داود «٣» عنه بلفظ: دية المعاهد نصف دية الحر.
وفي
(١) أخرجه الترمذيّ في: الديات، ١٢- باب حدثنا أبو كريب.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ١٨٠.
(٣) أخرجه أبو داود في: الديات، ٢١- باب دية الذميّ، حديث ٤٥٨٣.
261
لفظ: قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين: وهم اليهود والنصارى.
رواه أحمد والنسائيّ وابن ماجة.
وعندي: لا تنافي بين هذه الروايات المذكورة. لأن الظاهر أن الفرض في دية الكافر إنما هو النصف. ولا حرج في الزيادة عليه، إلى أن يبلغ دية المسلم تبرعا وتفضلا. وبه يحصل الجمع بين الروايات. والاستدلال بالآية على تماثل ديتي المسلم والكافر المتقدم- غير ظاهر. لما في الدية من الإجمال المرجوع في بيانه إلى السنة، وقد بيّنته وصح فيها أنه النصف فرضا. والله أعلم فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي: رقبة ليحررها. بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أي:
فعليه صيام شهرين متواصلين لا إفطار بينهما. بحيث لو صام تسعة وخمسين، وتعمد بإفطار يوم، استأنف الجميع. لأن الخطأ إنما نشأ من كدورة النفس. وهذا القدر يزيلها ويفيد التزكية. قاله المهايميّ. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي: قبولا من الله ورحمة منه. من (تاب عليه) : إذا قبل توبته. (فتوبة) منصوب على أنه مفعول له.
أي: شرع لكم ذلك توبة منه. أو مصدر مؤكد لمحذوف. أي: تاب عليكم توبة منه وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بجميع الأشياء التي منها مقدار كدورة هذا الخطأ العظيم حَكِيماً في دواء إزالتها. قال المهايميّ: وإذا كان للخطأ هذه الكدورة مع العفو عنه، فأين كدورة العمد؟ أي: وهي التي ذكرت في قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩٣]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً لقتله فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذ قتل وليّه عمدا وَلَعَنَهُ أي أبعده عن الرحمة وَأَعَدَّ لَهُ وراء ذلك عَذاباً عَظِيماً أي: فوق عذاب سائر الكبائر، سوى الشرك.
قال الإمام ابن كثير: هذا تهديد شديد ووعد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم. الذي هو مقرون بالشرك بالله، في غير ما آية في كتاب الله. حيث يقول سبحانه في سورة (الفرقان) : وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ... [الفرقان: ٦٨] الآية. وقال تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً... [الأنعام: ١٥١] الآية. والآيات
262
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا. فمن ذلك ما
ثبت في الصحيحين «١» عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء.
وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود «٢» عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما. فإذا أصاب دما حراما بلّح.
وفي حديث «٣» آخر: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم. قلت: رواه الترمذيّ والنسائيّ عن ابن عمرو.
وفي الحديث الآخر: لو اجتمع أهل السموات وأهل الأرض على قتل رجل مسلم لكبهم الله في النار
. قلت:
رواه الترمذيّ «٤» عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ: لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله عز وجل في النار.
وفي الحديث الآخر «٥» : من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله. قلت: رواه ابن ماجة عن أبي هريرة.
وقد كان ابن عباس يرى أن لا توبة لقاتل المؤمن عمدا.
وقال البخاريّ «٦» : حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال:
سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة. فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها. فقال: نزلت هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ. هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائيّ من طرق عن شعبة، به.
ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن ابن مهديّ عن سفيان الثوريّ عن مغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ فقال: ما نسخها شيء. وقال ابن جرير «٧» : حدثنا ابن بشار، قال حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قال لي عبد الرحمن بن
(١) أخرجه البخاريّ في: الديات، ١- باب وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ، حديث ٢٤٥٥.
(٢) أخرجه أبو داود في: الفتن والملاحم، ٦- باب في تعظيم قتل المؤمن، حديث ٢٤٧٠.
(٣) أخرجه الترمذيّ في: الديات، ٧- باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن.
(٤) أخرجه الترمذيّ في: الديات، ٨- باب الحكم في الدماء.
(٥) أخرجه ابن ماجة في: الديات، ١- باب التغليظ في قتل مسلم ظلما، حديث ٢٦٢٠.
(٦) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٦- باب وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ.
(٧) الأثر رقم ١٠١٩٢.
263
أبزى: سئل ابن عباس عن قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً... الآية. فقال: لم ينسخها شيء. وقال في هذه الآية: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى آخرها قال: نزلت في أهل الشرك.
وروى ابن جرير «١» أيضا عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ. قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام، وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ولا توبة له.
فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم. وروى الإمام أحمد «٢» عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس أن رجلا أتى إليه فقال: أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا؟ فقال:
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها... الآية. قال: لقد نزلت من آخر ما نزل. ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنّى له بالتوبة؟ وقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: ثكلته أمه. رجل قتل رجلا متعمدا يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره، أو آخذا رأسه بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه دما قبل العرش يقول: يا رب! سل عبدك فيم قتلني! ورواه النسائيّ وابن ماجة.
وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة. وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف، زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد ابن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم. نقله ابن أبي حاتم. وفي الباب أحاديث كثيرة. فمن ذلك ما
رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن مسعود عن النبيّ ﷺ قال: يجيء المقتول متعلّقا بقاتله يوم القيامة، آخذا رأسه بيده الأخرى، فيقول:
يا رب! سل هذا فيم قتلني؟ قال فيقول: قتلته لتكون العزة لك. قال: فإنها لي. قال ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول: رب! سل هذا فيم قتلني؟ قال فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان. قال: فإنها ليست له. بوء بإثمه. قال، فيهوي به في النار سبعين خريفا.
ورواه النسائيّ «٣». وأخرج الإمام أحمد والنسائيّ «٤» عن معاوية قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا.
وقال الإمام أحمد «٥» : حدثنا النضر. حدثنا سليمان بن المغيرة.
(١) الأثر رقم ١٠١٨٧.
(٢) أخرجه في المسند ص ٢٤٠ ج ١ حديث ٢١٤٢.
(٣) أخرجه النسائي في: تحريم الدم، ٢- باب تعظيم الدم. [.....]
(٤) أخرجه النسائي في: تحريم الدم، ١- باب تحريم الدم.
(٥) أخرجه الإمام أحمد في المسند ص ٢٨٩ ج ٥.
264
حدثنا حميد قال: أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي: فقال لنا: هلما فأنتما أشب سنّا مني، وأوعى للحديث مني. فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم. فقال له أبو العالية: حدث هؤلاء حديثك. فقال: حدثنا عقبة بن مالك الليثيّ، قال: بعث النبيّ ﷺ سرية فأغارت على قوم. فشد مع القوم رجل فاتّبعه رجل من السرية شاهرا سيفه. فقال الشادّ من القوم: إني مسلم. فلم ينظر فيما قال. فضربه فقتله. فنمى الحديث إلى رسول الله. فقال فيه قولا شديدا. فبلغ القاتل. فبينا رسول الله ﷺ يخطب إذ قال القاتل: والله! ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل. قال فأعرض رسول الله ﷺ عنه وعمن قبله من الناس. وأخذ في خطبته. ثم قال أيضا: يا رسول الله! ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل. فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته. ثم لم يصبر حتى قال الثالثة: والله! يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل. فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرف المساءة في وجهه فقال: إن الله أبى على من قتل مؤمنا.
(ثلاث مرات) ورواه النسائيّ.
ثم قال ابن كثير: والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها. أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل. فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملا صالحا، بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: ٦٨- ٧٠] الآية. وهذا خبر لا يجوز نسخه. وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين- خلاف الظاهر. ويحتاج حمله إلى دليل. والله أعلم.
وقال تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: ٥٣] الآية. وهذا عام في جميع الذنوب: من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك. كل من تاب من أيّ ذلك تاب الله عليه. قال الله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨- ١١٦].
فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك. وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها، لتقوية الرجاء. والله أعلم.
وثبت في الصحيحين «١» خبر الإسرائيليّ الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله
(١) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ٤٥- باب حدثنا أبو اليمان، حديث ١٦٢٩.
ومسلم في: التوبة، حديث ٤٦.
265
فيه. فهاجر إليه فمات في الطريق. فقبضته ملائكة الرحمة. وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة، التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى. لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم. وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً... الآية، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه. وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعا.
ولكن لا يصح. ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه. وكذا كل وعيد على ذنب. لكن قد يكون لذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة والإحباط. وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد.
والله أعلم بالصواب. وبتقدير دخول القاتل في النار، إما على قول ابن عباس ومن وافقه، أنه لا توبة له. أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به- فليس بمخلد فيها أبدا. بل الخلود هو المكث الطويل.
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ «١»
أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من الإيمان
. ثم قال ابن كثير: وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه من حقوق الآدميين. وهي لا تسقط بالتوبة. ولكن لا بد من ردها إليهم. ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغضوب منه والمغبون والمقذوف وسائر حقوق الآدميين. فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة. ولكن لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة. فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة. لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة.
إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول، أو بعضها. ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة. أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك. والله أعلم. انتهى.
وقال النوويّ في (شرح مسلم) في شرح حديث الإسرائيليّ الذي قتل مائة نفس: استدل به على قبول توبة القاتل عمدا. وهو مذهب أهل العلم وإجماعهم. ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس. وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا، فمراد قائله الزجر والتوبة. لا أنه يعتقد بطلان توبته. وهذا الحديث وإن كان شرع من قبلنا،
(١) أخرجه البخاريّ عن أبي سعيد الخدريّ في: التوحيد، ٢٤- باب قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، حديث ٢١.
والحديث الذي أخرجه أيضا عن أنس بن مالك في: التوحيد، ٣٦- باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، حديث ٤٠.
وأخرج الحديث الأول مسلم في: الإيمان، حديث ٣٠٢.
266
وفي الاحتجاج به خلاف، فليس هذا موضع الخلاف. وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره. فإن ورد كان شرعا لنا بلا شك. وهذا قد ورد شرعنا به. وذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ إلى قوله: إِلَّا مَنْ تابَ... [الفرقان: ٦٨]، الآية. وأما قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً...
الآية. فالصواب في معناها: أن جزاءه جهنم. فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره.
وقد لا يجازى بل يعفى عنه. فإن قتل عمدا مستحلّا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتدّ. يخلد في جهنم بالإجماع. وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص. مرتكب كبيرة، جزاؤها جهنم خالدا فيها. لكن تفضل الله تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحدا فيها. فلا يخلد هذا. ولكن قد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا. وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر عصاة الموحدين. ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار. قال: فهذا هو الصواب في معنى الآية. ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة، أن يتحتم ذلك الجزاء. وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم. وإنما فيها أنها جزاؤه. أي: يستحق أن يجازى بذلك. وقيل:
وردت الآية في رجل بعينه. وقيل: المراد بالخلود طول المدة، لا الدوام. وقيل:
معناها: هذا جزاؤه، إن جازاه. وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة. لمخالفتها حقيقة لفظ الآية. فالصواب ما قدمناه. انتهى.
وقال علاء الدين الخازن: اختلف العلماء في حكم هذه الآية. هل هي منسوخة أم لا؟ وهل لمن قتل متعمدا توبة أم لا؟ فروي «١» عن سعيد بن جبير قال:
قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا. فتلوت عليه الآية التي في الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان: ٦٨]. إلى آخر الآية. قال: هذه آية مكية. نسختها آية مدنية:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ. وفي رواية، قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن. فرحلت إلى ابن عباس. فقال: نزلت في آخر ما نزل. ولم ينسخها شيء.
وفي رواية أخرى «٢»، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالمدينة: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٢٥- سورة الفرقان، ٢- باب قوله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً، حديث ١٨٠٩.
(٢) أخرجها البخاريّ في: التفسير، ٢٥- سورة الفرقان، ٣- باب قوله تعالى: يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً. ونصها: عن سعيد بن جبير قال: قال ابن أبزى: سئل ابن عباس
267
مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ... إلى قوله: مُهاناً. فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلام، وقد عدلنا بالله، وقد قتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش؟ فأنزل الله تعالى:
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً... [الفرقان: ٧٠]، إلى آخر الآية. زاد في رواية: فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له. أخرجاه في الصحيحين.
وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الآية فقال: من أين لك أنها محكمة؟ فقال ابن عباس: تكاثف الوعيد فيها.
وقال ابن مسعود: إنها محكمة، وما تزداد إلا شدة. وعن خارجة بن زيد قال:
سمعت زيد بن ثابت يقول: أنزلت هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها، بعد التي في الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، بستة أشهر. أخرجه أبو داود والنسائيّ، وزاد النسائيّ في رواية: بثمانية أشهر.
وقال زيد بن ثابت: لما نزلت هذه الآية في الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، عجبنا من لينها. فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد الليّنة.
فنسخت اللينة. وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء. وباللينة آية الفرقان.
وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة. واختلفوا في ناسخها. فقال بعضهم: نسختها التي في الفرقان. وليس هذا بالقويّ. لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء. والمتقدم لا ينسخ المتأخر. وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الآية التي في النساء أيضا. وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨]، وأجاب، من ذهب إلى أنها منسوخة، عن حديث ابن عباس المتقدم المخرّج في الصحيحين: بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية. والنسخ لا يدخل الأخبار. ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ، لكن الجمع بين الآيتين ممكن بحيث لا يكون بينهما تعارض. وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان. فيكون المعنى:
فجزاؤه جهنم إلا من تاب. وقال بعضهم: ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل
في قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ، وقوله: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.. حتى بلغ إِلَّا مَنْ تابَ. فسألته فقال: لما نزلت قال أهل مكة: فقد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأتينا الفواحش. فأنزل الله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً- إلى قوله: غَفُوراً رَحِيماً.
268
التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل. فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال: إن لم يقتل يقال له: لا توبة لك. وإن قتل ثم ندم وجاء تائبا يقال له: لك توبة.
وقيل: إنه قد روي عن ابن عباس مثله. وروي عنه أيضا أن توبته تقبل. وهو قول أهل السنة. ويدل عليه الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢]. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: ٥٣]. وأما السنة فما
روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. ومن مات يشرك به شيئا دخل النار. أخرجه مسلم «١».
وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال «٢» : كنا مع رسول الله ﷺ في مجلس فقال:
تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. وفي رواية: ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف. فمن وفي منكم فأجره على الله. ومن أصاب من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. فبايعناه على ذلك.
انتهى.
وقال العلامة أبو السعود: تمسّكت الخوارج والمعتزلة بها في خلود من قتل المؤمن عمدا في النار. ولا متمسّك لهم فيها. لا لما قيل من أنها في حق المستحل، كما هو رأي عكرمة وأضرابه. بدليل أنها نزلت في مقيس بن صبابة الكنانيّ المرتد.
فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام. لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم. وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا. وكذا ما روي عن سفيان: أن أهل العلم كانوا إذا سئلوا قالوا: لا توبة له- محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظ. وعليه يحمل ما
روي عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبيّ عليه الصلاة والسلام قال: أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة.
وقال عون بن عبد الله وبكر بن عبد الله وأبو صالح: المعنى هو جزاؤه إن
(١) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٥١.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ١١- باب حدثنا أبو اليمان، حديث ١٨.
ومسلم في: الحدود، حديث ٤١.
269
جازاه. قالوا: قد يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب.
ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا.
قال الواحديّ: والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد، وأن امتنع أن يخلف الوعد. والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور. لأنه إخبار منه تعالى أن جزاءه ذلك. لا بأنه يجزيه بذلك. كيف لا؟ وقد قال الله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠]. ولو كان هذا إخبارا بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها، لعارضه قوله تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٠].
انتهى.
وقال العلامة الشوكانيّ في (نيل الأوطار) : وأما بيان الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول: لا نزاع أن قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب. بل للمسلم والكافر. والاستثناء لمذكور في آية الفرقان. أعني قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ [الفرقان: ٧٠]. بعد قوله تعالى: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان: ٦٨]- مختص بالتائبين فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً. أما على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العامّ على الخاص مطلقا، تقدم أو تأخر أو قارن- فظاهر، وأما على مذهب من قال: إن العامّ المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً، على آية الفرقان، فلا نسلم تأخرها من العمومات القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره الله. كقوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: ٥٣]. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ١١٦]. ومن ذلك ما
أخرجه مسلم «١» عن أبي هريرة. أن النبيّ ﷺ قال: من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه.
وما
أخرجه الترمذيّ «٢» وصححه من حديث صفوان بن عسّال.
(١) أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث ٤٣.
(٢)
أخرجه الترمذيّ في: الدعوات، ٩٨- باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده. ونصه: عن زرّ بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسّال المراديّ أسأله المسح على الخفين؟
فقال: ما جاء بك يا زرّ؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، رضا بما يطلب. فقلت: إنه حكّ في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت
270
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: باب من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة. خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض. مفتوح للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها.
وأخرج الترمذيّ أيضا عن ابن عمر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
وأخرج مسلم «١» من حديث أبي موسى أن رسول الله ﷺ قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار. ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده- لا يقال: إن هذه العمومات مخصصة بقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً... الآية. لأنا نقول: الآية أعم من وجه، وهو شمولها للتائب وغيره. وأخص من وجه، وهو كونها في القاتل. وهذه العمومات أعم من وجه، وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل. وأخص من وجه، وهو كونها في التائب. وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح. ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقا أرجح لكثرتها وهكذا أيضا يقال: إن الأحاديث بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعنى، كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب الحديث، تدل على خروج كل موحد. سواء كان ذنبه القتل أو غيره.
والآية القاضية بخروج من قتل نفسا هي أعم من أن يكون القاتل موحدا أو غير موحد. فيتعارض عمومان. وكلاهما ظنّي الدلالة. ولكن عموم آية القتل قد عورض بما سمعته. بخلاف أحاديث خروج الموحدين، فإنها إنما عورضت بما هو أعم منها مطلقا. كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم. ولا حكم لهذه المعارضة، أو بما هو أخص منها مطلقا. كالأحاديث القاضية بتخليد
امرءا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. فجئت أسألك: هل سمعته يذكر في ذلك شيئا؟ قال: نعم. كان يأمرنا إذا كنا سفرا أو مسافرين، أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم. فقلت: هل سمعته يذكر في الهوى شيئا؟ قال: نعم. كنا مع النبيّ ﷺ في سفر.
فبينما نحن عنده إذ ناداه أعرابيّ بصوت له جهوريّ: يا محمد! فأجابه رسول الله ﷺ نحوا من صوته «هاؤم» وقلنا له: ويحك. اغضض من صوتك، فإنك عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد نهيت عن هذا.
فقال: والله! لا أغضض. قال الأعرابيّ: المرء يحب القوم ولما يلحق بهم. قال النبيّ ﷺ «المرء مع من أحب يوم القيامة».
فما زال يحدثنا حتى ذكر بابا من قبل المغرب مسيرة سبعين عاما. عرضه، أو يسير الراكب في عرضه، أربعين أو سبعين عاما»
. (١) أخرجه مسلم في: التوبة، حديث ٣١.
271
بعض أهل المعاصي. نحو: من قتل نفسه. وهو يبني العام على الخاص. وبما قررناه يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة القاتل إذا تاب، وعدم خلوده في النار إذا لم يتب.
ويتبيّن لك أيضا أنه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان مكية منسوخة بقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً... الآية.
كما أخرج ذلك عنه البخاريّ ومسلم وغيرهما. وكذلك لا حجة له فيما
أخرجه النسائي «١» والترمذيّ «٢» عنه: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: يجيء المقتول متعلقا بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دما. يقول: يا رب! قتلني هذا. حتى يدنيه من العرش.
وفي رواية للنسائيّ «٣»
فيقول: أي رب! سل هذا فيم قتلني؟
لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله عز وجل. وذلك لا يستلزم أخذ التائب بذلك الذنب. ولا تخليده في النار، على فرض عدم التوبة. والتوبة النافعة، هاهنا، هي الاعتراف بالقتل عند الوارث، إن كان له وارث. أو السلطان، إن لم يكن له وارث. والندم على ذلك الفعل، والعزم على ترك العود إلى مثله. لا مجرد الندم والعزم، بدون اعتراف. وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها. لأن حق الآدميّ لا بدّ فيه من أمر زائد على حقوق الله. وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به. فإن قلت: فعلى ما تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب؟ فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين على القتل يلقى الله مكتوبا بين عينيه: الإياس من الرحمة. والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله- قلت هما محمولان على عدم صدور التوبة من القاتل. والدليل على هذا التأويل، ما في الباب من الأدلة القاضية بالقبول عموما وخصوصا. ولو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة، الذي تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
وحديث عبادة بن الصامت المذكور قبله. فإنهما يلجئان إلى المصير إلى ذلك التأويل. ولا سيما مع ما قدمنا من تأخر تاريخ حديث عبادة. ومع كون الحديثين في الصحيحين. بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية. وأيضا في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل. فإنه جعل الرجل القاتل عمدا مقترنا بالرجل الذي يموت كافرا. ولا شك أن الذي يموت كافرا مصرّا على ذنبه غير تائب منه، من المخلدين في
(١، ٣) أخرجه النسائيّ في: تحريم الدم، ٢- باب تعظيم الدم. [.....]
(٢) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٥- حدثنا الحسن بن محمد الزعفرانيّ.
272
النار. فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر. فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها.
وقد قال العلامة الزمخشريّ في (الكشاف) : إن هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ. قال: ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي، من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة. وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له. وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد: وإلّا فكل ذنب ممحوّ بالتوبة. وناهيك بمحو الشرك دليلا.
ثم ذكر
حديث: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم، وهو عند النسائيّ «١» من حديث بريدة، وعند ابن ماجة «٢» من حديث البراء. وعند النسائيّ «٣» أيضا من حديث ابن عمرو. أخرجه أيضا الترمذيّ «٤»
انتهى. كلام الشوكانيّ.
وقال الإمام ابن القيّم في (الجواب الكافي) : لما كان الظلم والعدوان منافيين للعدل الذي قامت به السموات والأرض، وأرسل الله سبحانه رسله عليهم الصلاة والسلام وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط- كان (أي الظلم) من أكبر الكبائر عند الله، وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه: وكان قتل الإنسان المؤمن من أقبح الظلم وأشده. ثم قال: ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة- قال الله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة: ٣٢].
ثم قال: وفي صحيح البخاريّ «٥» عن سمرة بن جندب قال: أول ما ينتن من الإنسان بطنه. فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل. ومن استطاع أن لا يحول بينه وبن الجنة ملء كف من دم أهرقه فليفعل. وفي جامع الترمذيّ «٦» عن نافع
(١، ٣) أخرجه النسائي في: تحريم الدم، ٢- باب تعظيم الدم.
(٢) أخرجه ابن ماجة في: الديات، ١- باب التغليظ في قتل المسلم، حديث ٢٦١٩.
(٤) أخرجه الترمذيّ في: الديات، ٧- باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن.
(٥) أخرجه البخاريّ في: الأحكام، ٩- باب من شاق شق الله عليه، حديث ٢٤٣٩.
(٦)
أخرجه الترمذيّ في: البر والصلة، ٨٥- باب ما جاء في تعظيم المؤمن، ونصه: عن نافع عن ابن عمر قال: صعد رسول الله ﷺ المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال: «يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تعيّروهم ولا تتبعوا عوراتهم: فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته. ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله
.
273
قال: نظر عبد الله بن عمر يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة منك. قال الترمذيّ هذا حديث حسن.
وفي صحيح البخاريّ «١» أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما.
وذكر البخاريّ أيضا عن ابن عمر قال: من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حله.
وفي الصحيحين «٢» عن أبي هريرة يرفعه: سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر.
وفيهما أيضا عنه ﷺ «٣» : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
وفي صحيح البخاريّ «٤» عنه صلى الله عليه وسلم: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة. وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما.
هذه عقوبة قاتل عدوّ الله، إذا كان معاهدا في عهده وأمانه. فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن؟.
وإذا كانت امرأة قد دخلت النار، في هرة حبستها حتى ماتت جوعا وعطشا، فرآها النبيّ ﷺ في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها، فكيف عقوبة من حبس مؤمنا حتى مات بغير جرم؟
وفي بعض السنن عن ﷺ «٥» : لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق.
وقال ابن القيّم أيضا قبل ذلك: وقد جعل الله سبحانه وتعالى جزاء قتل النفس المؤمنة عمدا، الخلود في النار وغضب الجبار ولعنته وإعداد العذاب العظيم له. هذا موجب قتل المؤمن عمدا ما لم يمنع منه مانع. ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل، طوعا واختيارا، مانع من نفوذ ذلك الجزاء. وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ فيه قولان للسلف والخلف. وهما روايتان عن أحمد. والذين قالوا: لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدميّ لم يستوفه في دار الدنيا وخرج منه بظلامته فلا بد
(١) أخرجه البخاريّ في: الديات، ١- باب قول الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ، حديث ٢٥٢١.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ٣٦- باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، حديث ٤٤.
(٣) أخرجه البخاريّ في: العلم، ٤٣- باب الإنصات للعلماء، حديث ١٠٤.
(٤) أخرجه البخاريّ في: الجزية، ٥- باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم، حديث ١٤٩٦.
(٥) أخرجه النسائي في: تحريم الدم، ٢- باب تعظيم الدم.
وابن ماجة في: الديات، ١- باب التغليظ في قتل المسلم، حديث ٢٦١٩.
والترمذيّ في: الديات، ٧- باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن.
274
أن يستوفى له في دار العدل. قالوا: فما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله، من استيفائه والعفو عنه. وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه؟ وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟ وهذا أصح القولين في المسألة. إن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث. وهي وجهان لأصحاب الشافعيّ وأحمد وغيرهما. ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث. فإن التوبة تهدم ما قبلها.
والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده. قالوا: وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر، وهما أعظم إثما من القتل، فكيف تقصر عن محو أثر القتل؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءهم، وجعلهم من خيار عباده. ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة.
وقال تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. وهذا في حق القاتل. وهي تتناول الكفر فيما دونه.
قالوا: وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه. قالوا: وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه، ولا يمكن تسليمها إلى المقتول. فأقام الشارع وليّه مقامه. وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه. فإنه يقوم مقام تسليمه للموروث. والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله، وحق للمظلوم المقتول، وحق للوليّ. فإذا سلّم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الوليّ، ندما على ما فعل، وخوفا من الله، وتوبة نصوحا- فقطع حق الله بالتوبة، وحق الوليّ بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن، ويصلح بينه وبينه، فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا.

فصل


ومن العلماء من اختار التوقف في هذا المقام. منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليمانيّ. فإنه قال في كتابه (إيثار الحق) في (بحث الوعد والوعيد). ما نصه: لا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد، وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول. إما على جهة الجمع، ولا شك في جوازه وصحته وحسنه، والإجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الأمة وخلفها. بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح. فإن تعذر الجمع فالترجيح. فإن وضح عمل به.
فإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
275
[الإسراء: ٣٦]. ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن. بعد الانتصاف منه للمظلوم والقطع على أنه فاسق ملعون، واجب قتله والبراءة منه. والقطع أن جزاءه جهنم خالدا فيها، كما قال تعالى على ما أراد. وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في (العواصم) لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية، هل بيّن جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء؟ أو بيّن جزاءه الذي تخيّر له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول؟ والله سبحانه أعلم.
فمن رجح الجمع بين وعيد القاتل وبين قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨]، وسائر آيات الرجاء وأحاديثه- قال بالأول. ومن رجح وعيد القاتل في هذه الآية، وفي الأحاديث المخصصة لقتل المؤمن، بقطع الرجاء، كما أوضحته في (العواصم) - رجح وعيد القاتل. ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجبا ولا إليه ضرورة- رجح الوقف. والله عند لسان كل قائل ونيته.
ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه. وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة. ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع. واضطر إلى التحكم والتلوّن من غير حجة بيّنة وقد أجمع من يعتدّ به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي، متى كان أهل الصغائر من المسلمين. ولم يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها. فكذلك سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد، ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى. وذلك باب واحد.
ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين. ولم ينكرها أحد. بل رواتها أكابرهم وأئمتهم. وفي (العواصم) من ذلك عن عليّ عليه السلام بضعة عشر أثرا. بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية. وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد. على أن الخلف عند جماعات كثيرة لا يكون إلا في عدم الوفاء بالوعد بالخير. وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه. وأجمعوا على أنه يسمى عفوا. كما قال كعب بن زهير:
أنبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
وإنما اختلفوا، مع تسميته عفوا، هل يسمى خلفا أم لا؟ ومن منع من ذلك، منع صحة النقل له لغة. واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماع اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد. انتهى.
276

فصل


تشرع الكفارة في قتل العمد. لما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال:
أتى النبيّ ﷺ نفر من بني سليم فقالوا: إن صاحبا لنا قد أوجب. قال: فليعتق رقبة.
يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه في النار. ورواه أيضا بسند آخر عنه. قال: أتينا رسول الله ﷺ في صاحب لنا قد أوجب، قال: أعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار. وهذا رواه أبو داود «١» والنسائيّ. ولفظ أبي داود: قد أوجب (يعني النار) بالقتل.
قال الشوكانيّ في (نيل الأوطار) : في حديث واثلة دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد. وهذا إذا عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية. وأما إذا اقتصّ منه فلا كفارة عليه بل القتل كفارته. لحديث عبادة المذكور في الباب. ولما
أخرجه أبو نعيم في (المعرفة) : أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: القتل كفارة
. وهو من حديث خزيمة بن ثابت. وفي إسناده ابن لهيعة. قال الحافظ: لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسنا. ورواه الطبرانيّ في الكبير عن الحسن بن عليّ موقوفا عليه.
ثم حذر تعالى عما يؤدي إلى القتل العمد من قلة المبالاة في الأمور بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ أي: ذهبتم فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى أرض العدوّ للغزو فَتَبَيَّنُوا أي: اطلبوا بيان كل ما تأتون وما تذرون. ولا تعجلوا فيه بغير تدبر
(١)
أخرجه أبو داود في: العتق، ١٣- باب ثواب العتق، حديث ٢٩٦٤ ونصه: عن الغريف بن الديلميّ قال: أتينا واثلة بن الأسقع. قلنا له: حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان. فغضب وقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص. قلنا: إنما أردنا حديثا سمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: أتينا رسول الله ﷺ في صاحب لنا أوجب- يعني النار- بالقتل. فقال «أعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار».
277
ورويّة وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً نهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين. أي: لا تقولوا (لمن أظهر الانقياد لدعوتكم فقال: لا إله إلا الله، أو سلّم عليكم فحياكم بتحية الإسلام) : لست مؤمنا في الباطن. وإنما قلته باللسان لطلب الأمان. بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه تَبْتَغُونَ أي: تطلبون بقتله عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: ماله الذي هو سريع النفاد. والجملة حال من فاعل (لا تقولوا) منبئة عما يحملهم على العجلة وترك التأنّي. وقوله تعالى فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ تعليل للنهي عن ابتغاء ماله بما فيه من الوعد الضمنيّ. كأنه قيل: لا تبتغوا ماله، فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها، فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه. أفاده أبو السعود. ثم قال: وقوله تعالى كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. تعليل للنهي عن القول المذكور. أي:
مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام، كنتم أنتم أيضا. في مبادئ إسلامكم. لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم، من تحية الإسلام ونحوها. فمنّ الله عليكم، بأن قبل منكم تلك المرتبة، وعصم بها دماءكم وأموالكم، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم. والفاء في قوله تعالى فَتَبَيَّنُوا فصيحة. أي: إذا كان الأمر كذلك، فاطلبوا بيان هذا الأمر البيّن وقيسوا حاله بحالكم. وافعلوا به ما فعل بكم. في أوائل أموركم. من قبول ظاهر الحال، من غير وقوف على تواطؤ الظاهر والباطن إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
قال ابن كثير (في سبب نزولها) : أخرج الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: مرّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبيّ ﷺ يرعى غنما له. فسلم عليهم.
فقالوا: ما يسلم علينا إلا ليتعوذ منا. فعمدوا إليه فقتلوه. وأتوا بغنمه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... إلى آخرها. ورواه الترمذيّ «١» ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي الباب عن أسامة بن زيد.
ورواه الحاكم وصححه. وروى البخاريّ «٢» عن عطاء عن ابن عباس في هذه
(١)
أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٦- حدثنا عبد بن حميد، ونصه: عن ابن عباس قال: مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعه غنم له. فسلم عليهم. قالوا: ما سلّم عليكم إلا ليتعوّذ منكم. فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه. فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً
. (٢) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٧- باب وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. [.....]
278
الآية قال: كان رجل في غنيمة له. فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم. فقتلوه، وأخذوا غنيمته. فأنزل الله في ذلك... إلى قوله: عرض الحياة الدنيا: (تلك الغنيمة).
وقال البخاريّ «١» : قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ للمقداد: إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل. هكذا رواه البخاريّ
معلقا مختصرا.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار مطولا موصولا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعث رسول الله ﷺ سرية فيها المقداد بن الأسود. فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا. وبقي رجل له مال كثير لم يبرح. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. وأهوى إليه المقداد فقتله. فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله؟ والله! لأذكرنّ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم. فلما قدموا على رسول الله ﷺ قالوا: يا رسول الله! إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد. فقال: ادعوا لي المقداد. يا مقداد! أقتلت رجلا يقول: لا إله إلا الله! فكيف لك ب (لا إله إلا الله) غدا؟ قال: فأنزل الله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- إلى قوله- كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ... الآية. فقال رسول الله ﷺ للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار. فأظهر إيمانه فقتلته.
وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل.
قال ابن كثير: فقوله تعالى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، أي: قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسرّ إيمانه ويخفيه من قومه. كما تقدم في الحديث المرفوع، وكما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ... [الأنفال: ٢٦] الآية. وهذا وجه آخر في مرجع الإشارة، غير ما سلف، وهو الأدق. وبالقبول أحق.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : يستفاد من هذه الرواية (أي: رواية البزار) تسمية القاتل. وأما المقتول، فروي الثعلبيّ من طريق الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة نحوه. واللفظ للكلبيّ: أن اسم المقتول مرداس بن نهيك. من أهل فدك. وأن اسم القاتل أسامة بن زيد. وأن اسم
(١) أخرجه البخاريّ في: الديات، ١- باب قول الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ، حديث ٢٥٢٢.
279
أمير السرية غالب بن فضالة الليثيّ. وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده. وكان ألجأ غنمه بجبل. فلما لحقوه قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم.
فقتله أسامة بن زيد. فلما رجعوا نزلت الآية.
وكذا أخرج الطبريّ «١» من طريق السّديّ نحوه. وفي آخر رواية قتادة: لأن تحية المسلمين السلام، بها يتعارفون. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال: أنزلت هذه الآية في مرداس. وهذا شاهد حسن. وأسند ابن أبي حاتم أن أسامة حلف لا يقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله، بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله ﷺ فيه.
قال بعض المفسرين من أئمة الزيدية: وبهذا اعتذر إلى عليّ عليه السلام حتى تخلف عنه، وإن كان عذرا غير مقبول. لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة ويكفر يمينه.
قال الحاكم: إلّا أن أمير المؤمنين أذن له. انتهى.
وروى الإمام أحمد «٢» عن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله ﷺ إلى إضم. فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعيّ، ومحلّم بن جثّامة بن قيس. فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعيّ على قعود له. معه متيّع له (تصغير متاع. وهو السلعة) ووطب من لبن. فلما مر بنا سلم علينا. فأمسكنا عنه. وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، لشيء كان بينه وبينه. وأخذ بعيره ومتيّعه. فلما قدمنا على رسول الله ﷺ وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى قوله تعالى خَبِيراً.
ورواه ابن جرير «٣» عن ابن عمر وزاد: فجاء محلم في بردين. فجلس بين يدي النبيّ ﷺ ليستغفر له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا غفر الله لك. فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه. فما مضت له سابعة حتى مات. ودفنوه في الأرض. فلفظته الأرض، فجاؤوا إلى النبيّ ﷺ فذكروا ذلك له. فقال إن الأرض تقبل من هو شرّ من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم. ثم طرحوه بين صدفي جبل، وألقوا عليه الحجارة، ونزلت.
(١) الأثر رقم ١٠٢٢١.
(٢) أخرجه في المسند ص ١١ ج ٦ وابن جرير: الأثر رقم ١٠٢١٢.
(٣) الأثر رقم ١٠٢١١.
280
وروى أئمة السير أنه لما كان عام خيبر، جاء عيينة بن بدر يطلب بدم عامر وهو سيد قيس. وكان الأقرع بن حابس يردّ عن محلّم وهو سيد خندف فقال رسول الله ﷺ لقوم عامر: هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيرا، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة؟ فقال عيينة بن بدر: والله! لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحرّ مثل ما أذاق نسائي. فلم يزل به حتى رضي بالدية.
قال ابن إسحاق: حدثني سالم بن النضر قال: لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم. فقال: يا معشر قيس! سألكم رسول الله ﷺ قتيلا تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه. أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغضب عليكم الله لغضبه؟ أو يلعنكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلعنكم الله بلعنته؟ والله! لتسلمنّه إلى رسول الله ﷺ أو لآتين بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل ما صلى قط. فلأبطلن دمه. فلما قال ذلك أخذوا الدية.
وأخرج ابن مندة عن جزء بن الحدرجان قال: وفد أخي، قداد إلى النبيّ ﷺ من اليمن. فلقيته سرية النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال لهم: أنا مؤمن. فلم يقبلوا منه وقتلوه. فبلغني ذلك. فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ... الآية.
فأعطاني النبيّ ﷺ دية أخي.
قال القفال: ولا منافاة بين هذه الروايات. فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها.
فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته. انتهى.
وتقدم لنا في مقدمة التفسير في سبب النزول ما يدفع التنافي في نحو هذا.
فارجع إليه.
تنبيه:
قال الرازيّ: اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه، لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف. وفي (الإكليل) : استدل بظاهرها على قبول توبة الزنديق إذا أظهر الاستسلام. وعلى أن الكافر يحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي اعتقاده، على قراءة (السلام) وفي الآية وجوب التثبت في الأمور، خصوصا القتل ووجوب الدعوة قبل القتال. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : في الآية دليل على أن من أظهر شيئا من علامات الإسلام لم يحلّ دمه حتى يختبر أمره. لأن السلام تحية المسلمين. وكان
281
تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك. فكانت هذه علامة. وأما على قراءة (السلم) بفتحتين، أو بكسر فسكون، فالمراد به الانقياد. وهو علامة الإسلام. انتهى.
وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الكريمة وجوب التثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والإباحة. لقوله: فتبيّنوا (بالنون) وهذا قراءة الأكثر. وحمزة والكسائيّ قراءتهما: (فتثبتوا) من (الثبات). ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات والأخبار والأفعال من الأحكام وسائر الأعمال، فهذا حكم. والحكم الثاني أنه يجب الأخذ بالظاهر. فمن أظهر الإسلام أو شيئا من شعائر الإسلام، لا يكذّب بل يقبل منه. ويدخل، في هذا، الملحد والمنافق. وهذا هو مذهبنا والأكثر. ويدخل في هذا قبول توبة المرتدّ، خلافا لأحمد. وقبول توبة الزنديق. وهذا قول عامة الأئمة.
وقال مالك: لا تقبل، لأن هذا عين مذهبهم أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.
قال الراضي بالله والإمام يحيى: إن أظهروا ما يعتادون إخفاءه قبلت توبتهم.
وإلا فلا. قال علي خليل: تقبل توبتهم، ولو عرفنا من باطنهم خلاف ما أظهروا. كما قبل النبيّ ﷺ من المنافقين، وقد أخبر الله تعالى بكفرهم.
وقال أبو مضر: تقبل ما لم يعرف كذبهم. وهذا الخلاف في الظاهر. وأما عند الله، إذا صدق، فهي مقبولة وفاقا. قال الحاكم: وتدل على أن التوصل بالسبب المحرم إلى المال لا يجوز. وقد ذكر العلماء صورا في التوصل إلى المباح بالمحظور، مختلفة. ذكرت في غير هذا الموضع. والحجة هنا من قوله تعالى تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا. لأن الذي قصد هنا أخذه، محظور. لأن إظهار الإسلام يحقن النفس والمال. فذلك توصل بمحظور إلى محظور. وقوله تعالى: لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. قرئ (السلم) وهذه قراءة نافع وحمزة وابن عامر بغير ألف وهو الاستسلام. وقيل: إظهار الإسلام. وقرأ الباقون: (السلام) بألف وهو التحية. انتهى.
وقال أبو منصور في (التأويلات) : فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة، والنهي عن الإقدام عندها. وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر. لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأعمال بقوله: فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. وقال في الخبر: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: ٦]. أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة، كما أمر في الأفعال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: ٣٦]. وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة.
لأنه نهاهم أن يقولوا (لمن قال: إني مسلم) لست مؤمنا. وهم يقولون: صاحب
282
الكبيرة ليس بمؤمن. وهو يقول ألف مرة (على المثل) أني مسلم. فإذا نهى أن يقولوا: ليس بمؤمن. أمرهم أن يقولوا: هو مؤمن. فيقال لهم: أنتم أعلم أم الله؟ على ما قيل لأولئك. انتهى.
وقال الرازيّ: قال أكثر الفقهاء: لو قال اليهوديّ والنصرانيّ: أنا مؤمن، أو قال:
أنا مسلم، لا يحكم بهذا القدر بإسلامه. لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام.
وهو الإيمان. ولو قال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله. فعند قوم لا يحكم بإسلامه، لأن فيهم من يقول: إنه رسول الله إلى العرب، لا إلى الكل. ومنهم من يقول: إن محمدا الذي هو الرسول الحق، بعد ما جاء، وسيجيء بعد ذلك. بل لا بد وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل، وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم. انتهى.
أقول: كل من قال: أنا مؤمن أو أنا مسلم، من المحاربين، مظهرا الانقياد لنا، وأنه من ملتنا، فإنه يحكم بإسلامه، ويكف عن قتله وأخذ ماله. كتابيّا كان أو مشركا. وهذا هو المقصود من الآية. وأما مسألة من أراد الدخول في الإسلام وهو على عقيدة فاسدة، وأنه لا بد في صحة إسلامه من تبرئه عنها، ونبذها ظهريا، وأنه لا يكتفى بقوله: أنا مسلم- فذاك بحث آخر مسلّم. لكن ليس مما تشمله الآية. كما أن من أظهر الإسلام وأتى بالشهادتين ولم يدن بشرائع الإسلام وإقامة شعائره، كبعض القبائل البادية الجافية، فإن يجب على الإمام قتالهم. ولا يقال: إن الآية تشملهم لما ذكرنا. وظاهر أن مدار النهي في الآية إنما هو على سفك الدماء ابتغاء عرض الدنيا.
لقوله (تبتغون). وهو حال كما أسلفنا. والحال قيد لعاملها. فما ذكره الرازي عن الفقهاء ليس مما تشمله الآية. لأن البحث ليس في القدر الذي يصير به الكافر مسلما، بل في الكف عن قتل المنقاد لنا. فافهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩٥]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥)
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بيان لتفاوت طبقات المؤمنين بحسب تفاوت درجات مساعيهم في الجهاد، بعد ما
283
مر من الأمر به وتحريض المؤمنين عليه، ليأنف القاعد عنه ويترفع بنفسه عن انحطاط رتبته، فيهتزّ له رغبة في ارتفاع طبقته. قاله أبو السعود. وأصله للزمخشريّ حيث قال: فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان. فما فائدة نفي الاستواء؟ قلت: معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد. ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه، وفي ارتفاع طبقته. ونحوه: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩]. أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به إلى التعلّم ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم. انتهى.
والمراد بهم، وقت النزول، القاعدون عن غزوة بدر والخارجون إليها. كما رواه البخاريّ «١» والترمذيّ عن ابن عباس. وقوله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، مخرج لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد: من العمى والعرج والمرض، عن مساواتهم للقاعدين.
فإنهم مساوون المجاهدين بالنية. ولا يعتد بزيادة أجر العمل لهم لعظم أمر النية.
كما
روى الإمام أحمد والبخاريّ «٢» وأبو داود عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه. قالوا: وهم بالمدينة؟ يا رسول الله! قال: نعم. حبسهم العذر.
وفي هذا المعنى قال الشاعر:
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما، وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر كمن راحا
وروى البخاريّ «٣» عن البراء قال: لما نزلت: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، دعا رسول الله ﷺ زيدا فكتبها. فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته.
فأنزل الله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وفي رواية للبخاريّ «٤» عن زيد: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ. قال: يا رسول الله! والله! لو أستطيع الجهاد لجاهدت. وكان
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٨- باب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حديث ١٨٤١.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ٣٥- باب من حبسه العذر عن العدوّ، حديث ١٣٦٠.
(٣) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٨- باب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حديث ١٣٥٦.
(٤) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٨- باب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حديث ١٣٥٧.
284
أعمى. فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتى خفت أن ترضّ فخذي. ثم سرّى عنه فأنزل الله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وقوله تعالى بِأَمْوالِهِمْ أي: التي ينفقونها على أنفسهم في الجهاد أو على مجاهد آخر وَأَنْفُسِهِمْ أي: التي هي أعز عليهم من كل شيء. وإن أنفق عليهم غيرهم إذا لم يكن عندهم مال.
قال أبو السعود: وإيرادهم، يعني الغزاة، بعنوان المجاهدين، دون الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه، كما وقع في عبارة ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا تقييد المجاهدة بكونها في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، - لمدحهم بذلك والإشعار بعلة استحقاقهم لعلوّ المرتبة، مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود. انتهى.
وظاهر أن نفي المساواة يستلزم التفضيل. إلا أنه للاعتناء به، وليتمكن أشد تمكن، لم يكتف بما فهم ضمنا، بل صرح به فقال فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ.
لأنهم رجحوا جانبه بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ أي: غير أولي الضرر دَرَجَةً في القرب ممن رجحوا جانبه وَكُلًّا أي: كل واحد من القاعدين والمجاهدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة، لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم. والجملة اعتراض جيء به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بالجهاد عَلَى الْقاعِدِينَ أي بغير عذر أَجْراً عَظِيماً. أي: ثوابا وافرا في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩٦]
دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
دَرَجاتٍ مِنْهُ بدل من (أجرا) بدل الكل. مبيّن لكمية التفضيل و (منه) متعلق بمحذوف وقع صفة ل (درجات) دالة على فخامتها وجلالة قدرها. قاله أبو السعود.
وقد ثبت في الصحيحين «١» عن أبي سعيد الخدريّ أن رسول الله ﷺ قال: إن
(١)
الحديث ليس لأبي سعيد وإنما هو لأبي هريرة. وهو من ضمن حديث طويل أخرجه البخاريّ في:
الجهاد، ٤- باب درجات المجاهدين في سبيل الله، حديث ١٣٣٥ وهذا نصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان
285
في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله. ما بين كل درجتين كما بين السماء، والأرض.
وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال:
قال «١» رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رمى بسهم فله أجره درجة. فقال رجل: يا رسول الله! وما الدرجة؟ فقال: أما إنها ليست بعتبة أمك: ما بين الدرجتين مائه عام وَمَغْفِرَةً أي:
لذنوبهم وَرَحْمَةً فوق الأجر ودرجاته وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة
. وهاهنا فوائد:
الأولى- دلت الآية على أن الجهاد ليس بفرض عين. إذ لو كان فرضا من فروض الأعيان لم يكن للقاعد فضل، ولكن تفاوت الفضل بينه وبين المجاهد. وقال: وكلا وعد الله الحسنى.
الثانية- دلت أيضا على أن الجهاد أفضل من القرب التي يفعلها القاعد. لأنه فضّله على القاعد مطلقا. ويؤيد هذا
قوله صلى الله عليه وسلم: الجهاد سنام الدين.
وقد فرّع العلماء على هذا أن رجلا لو وقف ما له على أحسن وجوه البر، أو أوصى أن يصرف في أحسن وجوه البرّ، فإنه يصرف في الجهاد. خلاف ما ذكره أبو عليّ أنه يصرف في طلب العلم. كذا في بعض التفاسير.
الثالثة- قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية تفضيل المجاهدين على غيرهم. وأن المعذورين في درجة المجاهدين، واستدل بقوله (بأموالهم) على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديون أو نحوه.
الرابعة- قال الرازيّ: لقائل أن يقول: إنه تعالى قال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ. فقدم ذكر النفس على المال. وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله: وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ قدم ذكر المال على النفس، فما السبب؟ وجوابه: أن النفس أشرف من المال. فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على
حقّا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها». فقالوا: يا رسول الله! أفلا نبشر الناس؟ قال «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، أراه فوقه عرش الرحمن. ومنه تتفجر أنهار الجنة»
. (١) أخرجه النسائيّ في: الجهاد، ٢٦- باب ثواب من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل. ولكن عن كعب بن مرّة.
286
أن الرغبة فيها أشد. والبائع أخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد. فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب.
الخامسة- قال أبو السعود: لعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة، وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات، مع اتحاد المفضل والمفضل عليه، حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام- إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتيّ تمهيدا لسلوك طريق الإبهام، ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير. كما في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: ٥٨]. كأنه قيل: فضل المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها، ولا يبلغ كنهها. وحيث كان تحقيق هذا البون البعيد بينهما موهما لحرمان القاعدين، قيل: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، ثم أريد تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام، بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة، فقيل ما قيل. ولله درّ شأن التنزيل. وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات، على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة، وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر، كما ينبئ عن تقديم الأول وتأخير الثاني، وتوسيط الوعد بالجنة بينهما، كأنه قيل: وفضلهم عليهم. في الدنيا درجة واحدة وفي الآخرة درجات لا تحصى. وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود، أعني الوعد بالجنة، توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول. والله سبحانه أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩٧]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ روى البخاريّ «١» عن ابن عباس أن
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٩- باب إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها... الآية، حديث ١٩٩٣.
287
ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين ويكثّرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله. أو يضرب فيقتل. فأنزل الله:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ... الآية. وأخرجه ابن مردويه، وسمى منهم (في روايته) قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة، وعمرو ابن أمية بن سفيان، وعليّ بن أمية بن خلف. وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر.
فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا: غر هؤلاء دينهم. فقتلوا ببدر. وأخرجه ابن أبي حاتم، وزاد: منهم الحارث بن زمعة بن الأسود، والعاص بن منبه بن الحجاج.
وأخرج الطبرانيّ عن ابن عباس قال: كان قوم بمكة قد أسلموا. فلما هاجر رسول الله ﷺ كرهوا أن يهاجروا، وخافوا. فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إلى قوله: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ. وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا. وكانوا يخفون الإسلام. فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر. فأصيب بعضهم. فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين، فأكرهوا فاستغفروا لهم. فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ... الآية. فكتبوا بها إلى من بقي منهم، وإنه لا عذر لهم، فخرجوا. فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا.
فنزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: ١٠]. فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا. فنزلت: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا... [النحل: ١١٠] الآية. فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا. فلحقوهم. فنجا وقتل من قتل.
وأخرج ابن جرير «١» من طرق كثيرة نحوه. كذا في (لباب النقول). قال المهايميّ: ولما أوهم ما فهم مما تقدم، من تساوي القاعدين أولي الضرر والمجاهدين، أن من قعد عن الجهاد لكونه في دار الكفر محسوب منهم، وإن عجز عن إظهار دينه، فإن لم يحسب فلا أقل من أن يحسب من القاعدين غير أولي الضرر، الموعود لهم الحسنى- أزيل ذلك الوهم بأنهم بترك الهجرة من مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم، مع إمكان الخروج عنه، صاروا ظالمين مستحقين لتوبيخ الملائكة، بل لعذاب جهنم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي: في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة عن مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم مع القدرة عليها وبموافقة الكفار. و (توفاهم) يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ: (توفتهم)
(١) الأثر رقم ١٠٢٦١- ١٠٦٩.
288
ومضارعا بمعنى تتوفاهم. بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها. أي:
يمكنهم من استيفائها فيستوفونها. كذا في (الكشاف). و (الظلم) قد يراد به الكفر كقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣]. وقد يراد به المعصية كقوله: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر: ٣٢]. ويصح إرادة المعنيين هنا كما أشرنا.
روى أبو داود «١» عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله
. قالُوا أي: الملائكة للمتوفين، تقريرا لهم بتقصيرهم وتوبيخا لهم فِيمَ كُنْتُمْ أي: في أي شيء كنتم من أمور دينكم قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ أي: أرض الأعداء. قال الزمخشريّ: كيف صح وقوع قوله كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ جوابا عن قولهم فِيمَ كُنْتُمْ وكان حق الجواب: كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ قلت معنى فِيمَ كُنْتُمْ التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا. فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به، واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء. فبكتتهم الملائكة بقولهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أرادوا: إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله ﷺ كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب، والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة- حقت عليه المهاجرة. انتهى.
فَأُولئِكَ أي: النفر المذكور مَأْواهُمْ أي: مصيرهم جَهَنَّمُ لأنهم الذين ضعّفوا أنفسهم إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنة ديارهم وَساءَتْ مَصِيراً أي:
جهنم. بدل المصير إلى دار الهجرة. ثم استثنى سبحانه من أهل الوعيد ما بينه بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩٨]
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ لعمى أو عرج أو مرض أو هرم أو فقر
(١) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ١٧٠- باب في الإقامة بأرض الشرك حديث ٢٧٨٧. [.....]
وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ أي: الصبيان فإنهم معذورون في ترك الهجرة لأنهم لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً في الخروج، إذ لا قوة لهم على الخروج ولا نفقة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أي: لا يعرفون طريقا إلى دار الهجرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩٩]
فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)
فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ أي يتجاوز عنهم بترك الهجرة. قال الرازيّ:
هاهنا سؤال. وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة، والعاجز عن الشيء غير مكلف به، وإذا لم يكن مكلفا به لم يكن عليه في تركه عقوبة- فلم قال: عسى الله أن يعفو عنهم؟ والعفو لا يتصور إلا مع الذنب. وأيضا (عسى) كلمة الإطماع. وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم. والجواب عن الأول: أن المستضعف قد يكون قادرا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة. وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة، عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة، شاق ومشتبه. فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة، ولا يكون كذلك، ولا سيما في الهجرة عن الوطن. فإنها شاقة في النفس. وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزا. مع أنه لا يكون كذلك. فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام.
والجواب عن الثاني- بأن الفائدة في (عسى) الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه. حتى إن المضطر البيّن الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني. فكيف الحال في غيره؟ هذا ما ذكره صاحب (الكشاف).
والأولى في الجواب ما قدمناه. وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن، ربما ظن نفسه عاجزا عنها. مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة. فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة (عسى) لا بالكلمة الدالة على القطع. انتهى. وقال أبو السعود: جيء بكلمة (الإطماع) ولفظ (العفو) إيذانا بأن الهجرة من تأكيد الوجوب بحيث ينبغي أن يعد تركها، ممن تحقق عدم وجوبها عليه، ذنبا يجب طلب العفو عنه، رجاء وطمعا. لا جزما وقطعا. وقال المهايميّ: فيه إشعار بأن ترك الهجرة أمر خطير. حتى إن المضطر حقه أن يترصد الفرصة ويعلّق قلبه بها. وإن الصبيّ إذا قدر فلا محيص له عنه. وإن قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم. ثم أكد الإطماع لئلا ييأسوا فقال وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً وفي إقحام (كان) إشارة إلى اتصافه تعالى بهذه الصفة قبل خلق الخلق. أو أن هذه عادته تعالى، أجراها في حق خلقه. ووعده بالعفو والمغفرة
290
مطلقا مما يدل على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة.
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل بالآية على وجوب الهجرة من دار الكفر، إلّا على من لم يطقها. وعن مالك: الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تغيّر فيه السنن، فينبغي أن يخرج منه. انتهى.
وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية وجوب الهجرة من دار الكفر. ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح. ولذلك قال الله تعالى في سورة الأنفال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال: ٧٢]. قيل:
ونسخت بعد الفتح. والصحيح عدم النسخ.
وقوله ﷺ «١» : لا هجرة بعد الفتح،
معناه من مكة.
قال جار الله: وهذا يدل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب، وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله، حقت عليه الهجرة. ثم قال رحمه الله: قال في التهذيب: وعن القاسم بن إبراهيم: إذا ظهر الفسق في دار، ولا يمكنه الأمر بالمعروف، فالهجرة واجبة. وهذا بناء على أن الدور ثلاث: دار إسلام، ودار فسق، ودار حرب. وهذا التقسيم هو مذهب الهادي والقاسم، وابن أبي النجم في كتاب (الهجرة والدور) عن الراضي بالله وجعفر بن مبشر وأبي عليّ. وذهب الإخوان وعامة الفقهاء وأكثر المعتزلة إلى النفي لدار الفسق. واعلم أن من حمل على معصية أو ترك واجب أو طالبه الإمام بذلك، فالمذهب وجوب الهجرة مع حصول الشروط المعتبرة. وقد قال الراضي بالله: إن من سكن دار الحرب مستحلّا، كفر. لأن ذلك رد لصريح القرآن. واحتج بهذه. وقد حكى الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد عن القاسم والهادي والراضي بالله: التكفير لمن ساكن الكفار في ديارهم. وفي (مذهب الراضي بالله) : يكفر إذا جاورهم سنة. قال الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى، حاكيا عن الراضي بالله: إنه يكفر بسكنى دار الحرب وإن لم يستحل لأن ذلك منه إظهار الكفر على نفسه. والحكم بالتكفير محتمل هنا. ثم قال: وإنما استثنى تعالى الولدان، وإن كانوا غير داخلين في التكليف، بيانا لعدم
(١)
أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ١- باب فضل الجهاد والسير حديث ٧١٠ ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ «لا هجرة بعد الفتح. ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا».
291
حيلتهم. والهجرة إنما تجب على من له حيلة. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : الهجرة الترك. والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره. وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه. وقد وقعت في الإسلام على وجهين:
الأول- الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن. كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة. الثاني- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان. وذلك بعد أن استقرّ النبيّ ﷺ بالمدينة. وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين. وكانت الهجرة، إذ ذاك، تختص بالانتقال إلى المدينة. إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص. وبقي عموم الانتقال من دار الكفر، لمن قدر عليه، باقيا. انتهى.
وقد أفصح ابن عمر بالمراد. فيما أخرجه الإسماعيليّ بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار. أي: ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه. وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة. أخرجها مجد الدين بن تيمية في (منتقى الأخبار) في ترجمة (باب بقاء الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها) ثم قال:
عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ «١» : من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله. رواه أبو داود.
وعن جرير بن عبد الله أن رسول الله ﷺ «٢» بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود. فأسرع فيهم القتل. فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: لا تراءى ناراهما. رواه أبو داود والترمذيّ.
وعن معاوية قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة.
ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. رواه أحمد «٣» وأبو داود «٤».
وعن عبد الله بن السعديّ أن رسول الله ﷺ قال «٥» : لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدوّ. رواه
(١) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ١٧٠- باب في الإقامة بأرض الشرك حديث ٢٧٨٧.
(٢) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٩٥- باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، حديث ٢٦٤٥.
(٣)
أخرجه في المسند ص ٩٩ ج ٤ ونصه: عن أبي هند البجليّ قال: كنا عند معاوية، هو على سريره وقد اغمض عينيه. فتذاكرنا الهجرة. والقائل منا يقول: قد انقطعت. والقائل منا يقول: لم تنقطع. فاستنبه معاوية. فقال: ما كنتم فيه؟ فأخبرناه. وكان قليل السرد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال:
تذاكرنا عند رسول الله ﷺ فقال «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة. ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»
. (٤) وأخرجه أبو داود في: الجهاد، ٢- باب في الهجرة هل انقطعت؟، حديث ٢٤٧٩.
(٥) أخرجه في المسند ٥/ ٢٧٠.
292
أحمد والنسائيّ.
وعن ابن عباس عن النبيّ ﷺ قال «١» : لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة. رواه الجماعة إلا ابن ماجة
. وعن عائشة، وسئلت عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم. كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يفتن. فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام. والمؤمن يعبد ربه حيث شاء. رواه «٢» البخاريّ.
وعن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبيّ ﷺ فقال: هذا مجالد. جاء يبايعك على الهجرة. فقال: لا هجرة بعد فتح مكة. ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد.
متفق عليه «٣». ولما تضمنت ترجمة المجد، رحمه الله، شقين، أورد لكلّ أحاديث، فمن قوله: لا هجرة بعد الفتح. إلخ، جميعه للشق الثاني. وهو قوله: وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها، إشارة للجمع بين هذه الأحاديث. وهو ظاهر.
ثم رغب تعالى في المهاجرة بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٠٠]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعته يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً أي: طريقا يراغم فيه أنوف أعدائه القاصدين إدراكه كَثِيراً وَسَعَةً أي: في الرزق، أو في إظهار الدين، أو في الصدر، لتبدل الخوف بالأمن وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ بمكة
(١) أخرجه البخاري في: الجهاد، ١- باب فضل الجهاد والسير، حديث ٧١٠.
ومسلم في: الإمارة، حديث ٨٥.
وأبو داود في: الجهاد، ٢- باب في الهجرة، هل انقطعت؟ حديث ٢٤٨٠.
والترمذي في: السير، ٣٢- باب ما جاء في الهجرة.
والنسائي: في البيعة، ١٥- باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة.
(٢) أخرجه البخاري في: المغازي، ٥٣- باب وقال الليث، حديث ١٤٥٧.
(٣)
أخرجه البخاري في: المغازي، ٥٣- باب وقال الليث، حديث ١٤١٣ و ١٤١٤.
ومسلم في: الإمارة، حديث ٨٣ و ٨٤.
وهذا نص البخاري: عن أبي عثمان قال: حدثني مجاشع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، بأخي، بعد الفتح. قلت: يا رسول الله! جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال «ذهب أهل الهجرة بما فيها» فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال «أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد».
فلقيت أبا معبد بعد، وكان أكبرهما. فسألته فقال: صدق مجاشع
.
293
مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ إلى طاعته، أو إلى مكان أمر الله وَإلى رَسُولِهِ بالمدينة ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ أي: في الطريق قبل أن يصل إلى المقصد فَقَدْ وَقَعَ أي ثبت أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي: فلا يخاف فوات أجره الكامل، لأنه نوى مع الشروع في العمل. ولا تقصير منه في عدم إتمامه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج. ويرحمه بإكمال ثواب هجرته.
تنبيهات:
الأول- فيما روي في نزول الآية. أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا. فقال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فنزل الوحي: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ... الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة الزرقيّ، الذي كان مصاب البصر، وكان بمكة. فلما نزلت: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً، فقال:
إني لغنيّ وإني لذو حيلة. فتجهز يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأدركه الموت بالتنعيم. فنزلت هذه الآية: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ... إلى آخرها. وأخرج ابن جرير «١» نحو ذلك من طرق، عن سعيد بن جرير وعكرمة وقتادة والسدّيّ والضحاك وغيرهم. وسمي في بعضها ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة. وفي بعضها جندب بن ضمرة الجندعيّ. وفي بعضها الضمريّ. وفي بعضها رجل من بني ضمرة. وفي بعضها رجل من خزاعة. وفي بعضها رجل من بني ليث. وفي بعضها من بني كنانة. وفي بعضها من بني بكر.
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن يزيد بن عبد الله بن قسيط أن جندع بن ضمرة الضمريّ كان بمكة. فمرض. فقال لبنيه: أخرجوني من مكة فقد قتلني غمها.
فقالوا: إلى أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة. يريد الهجرة. فخرجوا به. فلما بلغوا أضاة بني غفار، مات. فأنزل الله فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ... الآية.
(١) عن سعيد بن جبير الأثر رقم ١٠٢٨٢ ورقم ١٠٢٨٣.
وعن عكرمة الأثر رقم ١٠٢٨٧ و ١٠٢٩١ و ١٠٢٩٢.
وعن قتادة الأثر رقم ١٠٢٨٥ و ١٠٢٨٦.
وعن السدّيّ الأثر رقم ١٠٢٩٠.
وعن الضحاك الأثر رقم ١٠٢٨٩.
294
وأخرج الأمويّ في (مغازيه) عن عبد الملك بن عمير قال: لما بلغ أكثم بن صيفيّ مخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، أراد أن يأتيه. فأبى قومه أن يدعوه. قال: فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه. فانتدب له رجلان. فأتيا النبيّ ﷺ فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفيّ وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت؟ وبم جئت؟ قال أنا محمد بن عبد الله. وأنا عبد الله ورسوله. ثم تلا عليهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ... [النحل: ٩٠] الآية. فأتيا أكثم فقالا له ذلك. قال: أي قوم! إنه يأمر بمكارم الأخلاق. وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا فيه أذنابا. فركب بعيره متوجها إلى المدنة، فمات في الطريق. فنزلت فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ... الآية
. قال السيوطيّ: مرسل. إسناده ضعيف.
وأخرج أبو حاتم في كتاب (المعمرين) من طريقين من ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: نزلت في أكثم بن صيفيّ. قيل: فأين الليثيّ؟ قال: هذا قبل الليثيّ بزمان. وهي خاصة عامة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مندة والباورديّ في (الصحابة) عن هشام بن عروة، عن أبيه أن الزبير بن العوام قال: هاجر خالد بن حرام إلى أرض الحبشة. فنهشته حية في الطريق فمات. فنزلت فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ... الآية.
قال الزبير: فكنت أتوقعه وأنظر قدومه وأنا بأرض الحبشة. فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغتني. لأن قلّ أحد هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله، أو ذوي رحمه. ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ولا أرجو غيره.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا الأثر غريب جدا. فإنّ هذه القصة مكية. ونزول الآية مدنيّ. فلعله أراد أنها تعم حكمه مع غيره، وإن لم يكن ذلك سبب النزول.
والله أعلم.
الثاني- ثمرة الآية، أن من خرج للهجرة، ومات في الطريق فقد وجب أجره على الله. قال الحاكم: لكن اختلف العلماء. فقيل: أجر قصده. وقيل: أجر عمله دون أجر الهجرة. وقيل: بل له أجر المهاجرة، وهو ظاهر في سبب نزول الآية.
قال الحاكم: وقد استدل بعض العلماء أن الغازي يستحق السهم وإن مات في الطريق قال: وهو بعيد. لأن المراد بالآية أجر الثواب.
قال الزمخشريّ، حكاية عن المفسرين: إن كل هجرة لغرض دينيّ من طلب علم أو حج أو جهاد، أو فرارا إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة، أو زهدا في الدنيا،
295
وابتغاء رزق طيب، فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله.
ووقع في كلام الزمخشريّ على الآية السابقة هذا الدعاء. وهو: اللهم! إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير، ودرك المرجوّ من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك، بجوارك في دار كرامتك، يا واسع المغفرة.
وكلامه، رحمة الله، بناه على أنه يستحب للإنسان أن يدعو الله بصالح عمله.
وقد ذكر البخاريّ «١» ومسلم حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وانسد عليهم بصخرة. وصوبهم رسول الله ﷺ وقد دعا كل واحد منهم بصالح عمله. وانفرجت عنهم الصخرة.
وقد اقتضت الآية لزوم الهجرة ولو ببذل مال كالحج. وفيما سبق من حديث
(١) أخرجه البخاريّ في: البيوع، ٩٨- باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرضي، حديث ١١١١.
وأخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث ١٠٠.
وهذا نصه
من البخاريّ: عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ ﷺ قال: خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر. فدخلوا في غار في جبل. فانحطت عليهم صخرة. قال فقال بعضهم لبعض:
ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه. فقال أحدهم: اللهم! إني كان لي أبوان شيخان كبيران. فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء فأحلب. فأجيء بالحلاب فآتي به أبويّ فيشربان. ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي. فاحتبست ليلة فجئت فإذا هما نائمان. قال فكرهت أن أوقظهما. والصبية يتضاغون عند رجلي. فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر. اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء. قال ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهم! إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي. كأشد ما يحب الرجل النساء. فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار. فسعيت فيها حتى جمعتها. فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقه. فقمت وتركتها.
فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة.
قال ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم! إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة. فأعطيته. فأبى ذاك أن يأخذ.
فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقرا وراعيها. ثم جاء فقال: يا عبد الله! أعطني حقي. فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك.
فقال: أتستهزئ بي؟
قال فقلت: ما أستهزئ بك. ولكنها لك.
اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا. فكشف عنهم
.
296
الذي حمل من مكة وقد قال: احملوني فإني لست من المستضعفين- إشارة إلى أنها تجب الهجرة إذا تمكن من الركوب ولو مضطجعا في المحمل. لأنه حمل على سرير. وقد ذكر المتأخرون (في الحج) أن الصحيح الذي يلزمه أن يمكنه الثبات على المحمل، قاعدا لا مضطجعا، لأن أحدا لا يعجز عن ذلك. فيحتمل أن يسوى بين المسألتين. وأنه يجب الحج ولو مضطجعا. وأنهما لا يجبان مع الاضطجاع.
وفعل ضمرة على سبيل الشذوذ. ويحتمل أن يفرق بينهما وتجعل الهجرة أغلظ. لأن فعل المحظور، وهو الإقامة، أغلظ من ترك الواجب. وهذا يحتاج إلى تحقيق. كذا في تفسير بعض الزيدية.
الثالث-
روي في معنى هذه الآية أحاديث وافرة. منها ما في الصحيحين «١» والسنن والمسانيد: عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى
. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
قال ابن كثير: وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال.
ومنه الحديث الثابت في الصحيحين «٢» في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، ثم أكمل، بذلك العابد، المائة. ثم سأل عالما: هل له من توبة؟ فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد أخرى يعبد الله فيه. فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الأخرى أدركه الموت في أثناء الطريق.
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقال هؤلاء: إنه جاء تائبا. وقال هؤلاء: إنه لم يصل بعد. فأمروا إن يقيسوا ما بين الأرضين. فإلى أيهما كان أقرب فهو
(١) أخرجه البخاريّ في: الوحي، ١- باب حدثنا الحميدي، حديث ١.
ومسلم في: الإمارة، حديث ١٥٥.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ٥٤- حدثنا أبو اليمان، حديث ١٦٢٩.
ومسلم في: التوبة، حديث ٤٦.
ونصه عن البخاريّ: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ قال «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا. ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله فقال له: هل من توبة؟ قال: لا.
فقتله. فجعل يسأل. فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا. فأدركه الموت. فناء بصدره نحوها.
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فأوحى الله إلى هذه أن: تقرّبي. وأوحى الله إلى هذه أن: تباعدي وقال: قيسوا ما بينهما. فوجد إلى هذه أقرب بشبر. فغفر له
.
297
منها. فأمر الله هذه أن تقترب من هذه وهذه أن تبعد. فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر. فقبضته ملائكة الرحمة.
وفي رواية: أنه لما جاءه الموت نأى بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها.
وروى الإمام أحمد «١» عن عبد الله بن عتيك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله، فخرّ عن دابته فمات، فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٠١]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١)
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي: سافرتم فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي: إثم أَنْ تَقْصُرُوا أي: تنقصوا شيئا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ أي: يقاتلكم الَّذِينَ كَفَرُوا في الصلاة إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة. فلا يراعون حرمة الصلاة لعداوتهم.
تنبيه: في مسائل تتعلق بالآية:
الأولى- ذهب الجمهور إلى أن الآية عني بها تشريع صلاة السفر. وإن معنى قوله تعالى أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ هو قصر الكمية، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية. قالوا: وحكمها للمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقا. روى الترمذيّ «٢» والنسائيّ وابن أبي شيبة عن ابن عباس. أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: خرج من المدينة لا يخاف إلا الله رب العالمين. فصلى ركعتين.
وروى البخاريّ «٣» وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب قال: صلى بنا رسول الله ﷺ آمن ما كان، بمنى، ركعتين.
وروى البخاريّ «٤» والبقية عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة. فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى
(١) أخرجه في المسند ٤/ ٣٦. [.....]
(٢) أخرجه الترمذيّ في: الجمعة، ٣٩- باب ما جاء في التقصير في الصلاة.
(٣) أخرجه البخاريّ في: تقصير الصلاة، ٢- باب الصلاة بمنى، حديث ٥٩٧.
(٤) أخرجه البخاريّ في: تقصير الصلاة، ١- باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر؟ حديث ٥٩٥.
298
رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا.
وحينئذ فقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ خرج مخرج الغالب، حال نزول الآية. إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة. بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عامّ، أو سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله. والمنطوق، إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. كقوله: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور: ٣٣]. وكقوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ...
[النساء: ٢٣] الآية.
قالوا: ويدل على أن المراد بالآية صلاة السفر ما
رواه الإمام أحمد «١» ومسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب. قلت له: قوله تعالى:
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا... وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله ﷺ عن ذلك؟ فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم. فاقبلوا صدقته.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي حنظلة الحذاء قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتان. فقلت: أين قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا- ونحن آمنون؟ فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن مردويه عن أبي الوداك قال: سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر؟
فقال: هي رخصة نزلت من السماء. فإن شئتم فردوها.
قالوا: فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات.
وإن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية. قالوا: ومما يدل على أن لفظ (القصر) كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات. ولهذا المعنى، لما صلّى النبيّ ﷺ الظهر ركعتين، قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ «٢».
هذا، وذهب كثير من السلف، منهم مجاهد والضحاك والسدّيّ، إلى أن هذه
(١) أخرجه في المسند ص ٢٥ ج ١ حديث ١٧٤.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٤.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: السهو، ٤- باب من لم يتشهد في سجدتي السهو، حديث ٣٢٠ ونصه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ انصرف من اثنتين. فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين؟ فقال الناس: نعم. فقام رسول الله ﷺ فصلى اثنتين أخريين ثم سلم. ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول. ثم رفع.
299
الآية نزلت في صلاة الخوف. وأن المعنيّ بالقصر هو قصر الكيفية لا الكمية. لأن عندهم كمية صلاة المسافر ركعتان. فهي تمام غير قصر. كما قاله عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم. قالوا: ولهذا قال تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقال تعالى بعدها وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ... الآية. فبين المقصود من القصر هاهنا. وذكر صفته وكيفيته. ولهذا لما عقد البخاريّ (كتاب صلاة الخوف) صدّره بقوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ... إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ، قال: ذاك عند القتال.
يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه. وقال أسباط عن السديّ، في هذه الآية: إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير. لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة، فالتقصير ركعة.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ، يوم كان النبيّ ﷺ وأصحابه بعسفان. والمشركون بضجنان فتوافقوا. فصلى النبيّ ﷺ بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات. بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا. فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم. روى ذلك ابن أبي حاتم. ورواه بن جرير «١» عن مجاهد والسدّيّ، وعن جابر وابن عمر
. واختار ذلك أيضا. فإنه قال، بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك: وهو الصواب. ثم
روي عن أمية أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر. فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا ﷺ يعمل عملا عملنا به.
فقد سمى صلاة الخوف مقصورة. وحمل الآية عليها، لا على قصر صلاة المسافر. وأقره ابن عمر على ذلك. واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع. لا بنص القرآن. وأصرح من هذا ما رواه أيضا عن سماك الحنفيّ قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتان تمام غير قصر.
إنما القصر في صلاة المخافة. فقلت: وما صلاة المخافة؟ فقال. يصلي الإمام بطائفة ركعة. ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء. ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء. فيصلي بهم ركعة. فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة.
(١) عن مجاهد الأثر رقم ١٠٣٢١ و ١٠٣٢٢ و ١٠٣٢٣.
وعن السدّيّ، الأثر رقم ١٠٣٢٦.
وعن جابر، الأثر رقم ١٠٣٢٥.
وعن ابن عمر، الأثر رقم ١٠٣٢٧.
300
هذا ما نقله ابن كثير. وهو موافق لما نقله بعض مفسري الزيدية عن الهادوية والقاسمة أن الآية واردة في صلاة الخوف، وأن المراد بالقصر في الآية قصر الصفة.
بمعنى أن المأموم يقصر ائتمامه فيأتمّ بركعة. ويصلي منفردا في ركعة. انتهى.
قال العلامة أبو السعود: إن هذه الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته. وفي حق ما يتعلق به من الصلوات. وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر. فكل ما ورد عنه ﷺ من القصر في حال الأمن، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف، وبالضرب في المدة المعينة- بيان لإجمال الكتاب.
المسألة الثانية- إذا حمل القصر على قصر العدد، وأن الرباعية تكون ركعتين، فما حكم هذا القصر؟ قلنا: في هذا مذاهب أربعة: الأول- أن القصر رخصة والإتمام أفضل. الثاني- أنه حتم، الثالثة- أنه سنة غير حتم. الرابع- أنه مخير كما يخير في الكفارات. وأنهما، أعني القصر والإتمام، واجبان. وهاك بيان متعلق هذه المذاهب.
تعلق أهل القوم الأول بقوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ.
وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز، لا فيما هو فرض. نحو: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا [البقرة: ٢٣٠] ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [البقرة: ٢٣٦]. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: ٢٢٩]. إن قيل: قد يستعمل ذلك في الواجب مثل: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: ١٧٨]. أجابوا بأن ذلك على سبيل المجاز. ومن جهة السنة، ما
روي عن عائشة قالت: اعتمرت مع النبيّ ﷺ من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت: يا رسول الله! بأبي وأمي أنت! قصرت وأتممت. وصمت وأفطرت.
فقال: أحسنت، يا عائشة! وما عاب عليّ.
وكان عثمان يقصر ويتم.
ومن جهة المعنى، أو المعقول والمفهوم من لفظ (القصر) إنما هو الرخصة لأجل مشقة المسافر. كما خص له في الإفطار. وفي الحديث: تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا: حملنا لفظ الجناح على الفرض، وإن كان مجازا، لما روي عن ابن عباس «١» قال: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. وعن عمر «٢» : صلاة الجمعة ركعتان وصلاة
(١) أخرجه ابن ماجة في: إقامة الصلاة والسنة فيها، ٧٣- باب تقصير الصلاة في السفر، حديث ١٠٦٨.
(٢) أخرجه ابن ماجة في: إقامة الصلاة والسنة فيها، ٧٣- باب تقصير الصلاة في السفر، حديث ١٠٦٤.
301
السفر ركعتان. تمام غير قصر. على لسان نبيّكم. وكانت صلاة رسول الله ﷺ في أسفاره ركعتين. وأقام بمكة ثمانية عشر يوما يقصر ويقول: أتموا، يا أهل مكة! فإنا قوم سفر. وعن الشعبيّ: من أتم في السفر فقد رغب عن ملة إبراهيم.
وروي أن عثمان أتم الصلاة بمنى. فأنكر عليه عبد الله بن مسعود. وقال: صليت خلف رسول الله ﷺ ركعتين
. وخلف أبي بكر ركعتين. منفصلتين. فاعتذر عثمان بضروب من الأعذار. منها أنه قد تأهل. وقيل: أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة. وهو مذهب سعد بن أبي وقاص. فيكون قولنا: قصرت الصلاة، مجازا، لأنها تامة إذا نقص من الأربع. ويقولون: هذه الأخبار تعارض ما يفهم من معقولية التسهيل. ومتعلق أهل القول الثالث والرابع بالجمع بين الروايات، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين. فكان واجبا مخيّرا. ومن قال: إنه سنة، فلأن المشهور عنه ﷺ القصر في الأسفار، كذا في تفسير بعض الزيدية.
أقول: حديث عائشة المذكور. رواه النسائيّ والدّارقطنيّ والبيهقيّ. واختلف قول الدّارقطنيّ فيه، فقال في (السنن) : إسناده حسن. وقال في (العلل) : المرسل أشبه. وقال ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه. وطعن فيه. وقال ابن النحويّ (في البدر المنير) : في متن هذا الحديث نكارة. وهو كون عائشة خرجت مع النبيّ ﷺ في عمرة رمضان. والمشهور أن عمره كلهن في ذي القعدة. وأطال في ذلك.
وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) : وكان ﷺ يقصر الرباعية. فيصليها ركعتين من حين خرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة. ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة. وأما حديث عائشة أن النبيّ ﷺ كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم فلا يصح. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقد روي (كان يقصر وتتم) الأول بالياء آخر الحروف. والثاني بالتاء المثناة من فوق. وكذلك (يفطر وتصوم) أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين.
قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل. ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله ﷺ وجميع أصحابه. فتصلي خلاف صلاتهم. كيف؟ والصحيح عنها «١» أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين. فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة زيدت في
(١) أخرجه البخاريّ في: الصلاة، ١- كيف فرضت الصلوات في الإسراء، حديث ٢٣٦.
302
صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. فكيف يظن بها، مع ذلك، أن تصلي بخلاف صلاة النبيّ ﷺ والمسلمين معه؟.
ثم قال ابن القيم: قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس وغيره: إنها تأولت كما تأول عثمان. وإن النبيّ ﷺ كان يقصر دائما. فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال: فكان رسول الله ﷺ يقصر وتتم هي. فغلط بعض الرواة فقال: كان يقصر ويتم. أي: هو. والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه. فقيل:
ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر. فإذا زال سبب الخوف زال سبب القصر.
وهذا التأويل غير صحيح. فإن النبيّ ﷺ سافر آمنا. وكان يقصر الصلاة. والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وغيره. فسأل عنها رسول الله ﷺ فأجابه بالشفاء.
وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة. وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد.
وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف. وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له. وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرا يتناول الأركان بالتخفيف.
وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الأرض والخوف. فإذا وجد الأمران، أبيح القصر. فيصلون صلاة تامة كاملة. وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده. فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد. وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية. فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن. وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق. وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة، باعتبار نقصان العدد. وقد تسمى تامة، باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية. والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين. والثاني يدل عليه كلام الصحابة. كعائشة وابن عباس وغيرهما.
قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين. فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر
. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع. وإنما هي مفروضة كذلك. وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربعا. وفي السفر ركعتين. وفي الخوف ركعة. متفق على حديث عائشة. وانفرد مسلم «١» بحديث ابن عباس.
وقال عمر بن الخطاب «٢» : صلاة السفر ركعتان. والجمعة ركعتان. والعيد
(١) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٥.
(٢) أخرجه ابن ماجة في: إقامة الصلاة والسنة فيها، ٧٣- باب تقصير الصلاة في السفر، حديث ١٠٦٤.
303
ركعتان. تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه. وهو الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما بالنا نقصر وقد أمنّا؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقة تصدق الله بها عليكم. فاقبلوا صدقته
. ولا تناقض بين حديثيه. فإن النبيّ ﷺ لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم، ودينه اليسر السمح، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد، كما فهمه كثير من الناس،
فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر
. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح، منفيّ عنه الجناح. فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم. وكان رسول الله ﷺ يواظب في سفره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف. كما سنذكره هناك، ونبيّن ما فيه إن شاء الله تعالى.
وقال أنس «١» : خرجت مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة. وكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة.
متفق عليه.
ولما بلغ «٢» عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. صليت مع رسول الله ﷺ بمنى ركعتين
. وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركعتين. فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. متفق عليه. ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما. بلى الأولى على قول وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبيّ ﷺ وخلفائه على ركعتين.
وفي صحيح البخاريّ «٣» عن ابن عمر رضي الله عنه قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان في السفر لا يزيد على ركعتين.
وأبا بكر وعمر وعثمان (يعني في صدر خلافة عثمان). وإلا فعثمان قد أتمّ في آخر خلافته. وكان ذلك أحد الأسباب التي نكرت عليه. وقد خرج لفعله تأويلات: أحدها- أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة. فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع، لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر. ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبيّ صلى الله عليه وسلم. فكانوا حديثي عهد بالإسلام، والعهد بالصلاة قريب. ومع هذا فلم يربع بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم. الثاني- أنه كان إماما للناس. والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته.
(١) أخرجه البخاريّ في: تقصير الصلاة، ١- باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، حديث ٥٩٥.
(٢) أخرجه البخاريّ في: تقصير الصلاة، ٢- باب الصلاة بمنى، حديث ٥٩٨.
(٣) أخرجه البخاريّ في: تقصير الصلاة، ١١- باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها، حديث ٦٠٦. [.....]
304
فكأنه وطنه، وردّ هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان هو أولى بذلك. وكان هو الإمام المطلق ولم يربّع، التأويل الثالث- أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده. ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل كانت فضاء. ولهذا قيل له: يا رسول الله! ألا تبني لك بمنى بيتا يظلك من الحر؟ فقال: لا. منى مناخ من سبق. فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر. ورد هذا التأويل بأن النبيّ ﷺ أقام بمكة عشرا يقصر الصلاة. التأويل الرابع- أنه أقام بها ثلاثا.
وقد قال «١» النبيّ صلى الله عليه وسلم: يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثا. فسماه مقيما
. والمقيم غير مسافر. ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيّدة في أثناء السفر، ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر. وقد أقام ﷺ بمكة عشرا يقصر الصلاة. وأقام بمنى بعد نسكه، أيام الجمار الثلاث، يقصر الصلاة. التأويل الخامس- أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى، واتخاذها دار الخلافة. فلهذا أتم. ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة. وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى. فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين. وقد منع ﷺ المهاجر من الإقامة بمكة بعد نسكه. ورخص له ثلاثة أيام فقط. فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبيّ ﷺ من ذلك. وإنما رخص فيها ثلاثا. وذلك لأنهم تركوها لله. وما ترك الله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع. ولهذا منع النبيّ ﷺ من شراء المتصدق لصدقته. وقال لعمر «٢» : لا تشترها ولا تعد في صدقتك. فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن. التأويل السادس- أنه كان قد تأهل بمنى. والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة، أتم. ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فروى عكرمة عن إبراهيم الأزديّ عن أبي ذياب عن أبيه قال: صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال: يا أيها الناس! لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم رواه الإمام أحمد «٣» في (مسنده) وعبد الله بن الزبير الحميديّ في (مسنده)
أيضا. وقد أعله البيهقيّ بانقطاعه وتضعيف عكرمة.
(١)
أخرجه مسلم في: الحج، حديث ٤٤٢ ونصه: عن العلاء بن الحضرميّ قال: قال رسول الله ﷺ «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه، ثلاثا»
. (٢)
أخرجه البخاريّ في: الهبة، ٣٧- باب إذا حمل رجل على فرس فهو كالعمري والصدقة، حديث ٧٩٧ ونصه: عن زيد بن أسلم قال: سمعت أبي يقول: قال عمر رضي الله عنه: حملت على فرس في سبيل الله. فرأيته يباع. فسألت رسول الله ﷺ فقال: «لا تشتر. ولا تعد في صدقتك»
. (٣)
أخرجه في المسند ص ٦٢ ج ١ حديث ٤٤٣ ونصه: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي
305
قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف. فإن البخاريّ ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه. وعادته ذكر الجرح والمجروحين. وقد نص أحمد، وابن عباس قبله، أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام. وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما. وهذا أحسن من اعتذر به عن عثمان. وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين. فحيث نزلت فكان وطنها. وهو أيضا اعتذار ضعيف. فإن النبيّ ﷺ أبو المؤمنين. وأمومة أزواجه فرع على أبوته. ولم يكن يتم لهذا السبب. وقد روى هشام ابن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا. فقلت لها: لو صليت ركعتين؟
فقالت: يا ابن أختي! لا يشق عليّ.
قال الشافعيّ رحمه الله: لو كان فرض المسافر ركعتين، لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود. ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم. وقد قالت عائشة: كل ذلك قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. أتم وقصر. ثم روي عن إبراهيم عن محمد عن طلحة ابن عمر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت: كل ذلك فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم. قصر الصلاة في السفر، وأتم.
قال البيهقيّ: وكذلك رواه المغيرة بن زياد عن عطاء. وأصحّ إسناد فيه ما
أخبرنا أبو بكر الحازميّ عن الدّارقطنيّ عن المحامليّ: حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب. حدثنا أبو عاصم. حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء، عن عائشة، أن النبيّ ﷺ كان يقصر الصلاة في السفر ويتم. ويفطر ويصوم
. قال الدّارقطنيّ: وهذا إسناد صحيح. ثم ساق
من طريق أبي بكر النيسابوريّ عن عباس الدوريّ: أنا أبو نعيم.
حدثنا العلاء بن زهير. حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة، أنها اعتمرت مع النبيّ ﷺ من المدينة إلى مكة. حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! قصرت وأتممت وصمت وأفطرت. قال: أحسنت، يا عائشة!
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله ﷺ وسائر الصحابة. وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين.
فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله؟
وتخالف رسول الله ﷺ وأصحابه؟
ذباب عن أبيه: أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات. فأنكره الناس عليه. فقال: يا أيها الناس! إني تأهلت بمكة منذ قدمت. وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «من تأهل في بلد.
فليصلّ صلاة المقيم»
.
306
قال الزهريّ لعروة، (لما حدثه عن أبيه عنها بذلك) : فما شأنها؟ كانت تتم الصلاة. فقال: تأولت كما تأول عثمان. فإذا كان النبيّ ﷺ قد حسن فعلها وأقرها، فما للتأويل حينئذ وجه. ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير.
وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله ﷺ لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر. أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون؟ وأما بعد موته ﷺ فإنها أتمت. كما أتم عثمان. وكلاهما تأول تأويلا. والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم. مع مخالفة غيره له. والله أعلم.
وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن. ولا نجد صلاة السفر في القرآن. فقال له ابن عمر: يا أخي! إن الله بعث محمدا ﷺ ولا نعلم شيئا. فإنما نفعل كما رأينا محمدا ﷺ يفعل.
وقد قال أنس «١» : خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى مكة. فكان يصلي ركعتين ركعتين. حتى رجعنا إلى المدينة.
وقال ابن عمر: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان لا يزيد في السفر على ركعتين.
وأبا بكر وعمر وعثمان رضي عنهم. وهذه كلها أحاديث صحيحة.
انتهى كلام ابن القيّم.
قال الإمام الشوكانيّ في (نيل الأوطار) : وقد استدل، بحديثي عائشة، القائلون بأن القصر رخصة. ويحاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة لهم فيه. لما تقدم من أن لفظ (تتم وتصوم) بالفوقانية. لأن فعلها، على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صلى الله عليه وسلم، لا حجة فيه. فكيف إذا كان معارضا للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة؟ وأما الحديث الأول، فلو كان صحيحا، لكان حجة.
لقوله ﷺ في الجواب عنها: أحسنت
. ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة. وهذا بعد تسليم أنه حسن، كما قال الدّارقطنيّ. فكيف؟ وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة. فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض. انتهى.
المسألة الثالثة- استدل بعموم الآية من جوّز القصر في كل سفر طويلا أو قصيرا. ووجهه أن قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يصدق على كل ضرب.
(١) أخرجه البخاريّ في: تقصير الصلاة، ١- باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، حديث ٥٩٥.
307
ولكنه خرج الضرب أي: المشي لغير السفر، لما كان يقع منه ﷺ من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه، ولا يقصر. ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء. فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا. ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل، يعد في مسيره إليه مسافرا، قصر الصلاة. وإن كان ذلك المحل دون البريد. ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاث وما زاد على ذلك، بحجة نيرة. وغاية ما جاءوا به
حديث «١» : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم. وفي رواية: يوما وليلة. وفي رواية: بريدا
. وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه. والاحتجاج به مجرد تخمين. وأحسن ما
ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائيّ قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة؟
فقال: كان رسول الله ﷺ إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، صلى ركعتين. والشك من شعبة. أخرجه مسلم وغيره
. فإن قلت: محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم، هو كونه ﷺ سمى ذلك سفرا. قلت:
تسميته سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا. فقد سمى النبيّ ﷺ مسافة الثلاث سفرا. كما سمى مسافة البريد سفرا، في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية.
وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا. فإن قلت:
أخرج الدّارقطنيّ والبيهقيّ والطبرانيّ من حديث ابن عباس أنه ﷺ قال: يا أهل مكة! لا تقصروا في أقل من أربعة برد
. من مكة إلى عسفان- قلت: هو ضعيف لا تقوم به الحجة. فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر. وهو متروك. وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها. والحاصل أن الواجب هو الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعا أو لغة. كذا في (الروضة الندية). (وفي المصباح) : سفر الرجل سفرا مثل طلب، خرج للارتحال. وفي (القاموس) : قوم سفر وسافرة وأسفار وسفار: ذوو سفر، لضدّ الحضر.
هذا وللقصر مباحث مقررة في شروح السنة.
ولما كان النص السابق الوارد في مشروعية القصر مجملا بيّن كيفيته بصورة في مزيد الحاجة إليها، ويكتفي فيما عداها ببيان السنة، فقال تعالى:
(١)
أخرجه مسلم في: الحج، حديث ٤٢٣ ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا، إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها».
308
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٠٢]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ أي: مع أصحابك شهيدا وأنتم تخافون العدوّ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي: أردت أن تقيم بهم الصلاة بالجماعة التي، لوفور أجرها، بتحمل مشاقها فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ في الصلاة. أي بعد أن جعلتم طائفتين. ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدوّ ليحرسوكم منهم. وإنما لم يصرح به لظهوره وَلْيَأْخُذُوا أي الطائفة التي قامت معك أَسْلِحَتَهُمْ معهم لأنه أقرب للاحتياط فَإِذا سَجَدُوا أي: القائمون معك، سجدتي الركعة الأولى وأتموا الركعة، فارقوك وأتموا صلاتهم.
وتقوم إلى الثانية منتظرا. فإذا فرغوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أي: فلينصرفوا إلى مقابلة العدوّ للحراسة وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا وهي الطائفة الواقعة تجاه العدوّ فَلْيُصَلُّوا ركعتهم الأولى مَعَكَ وأنت في الثانية. فإذا جلست منتظرا، قاموا إلى ثانيتهم وأتموها ثم جلسوا ليسلموا معك. ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الرابعة الباقية لكل من الطائفتين اكتفاء ببيانه ﷺ لهم. كما يأتي وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ أي: تيقظهم. لأن العدوّ يتوهمون في الأولى كون المسلمين قائمين في الحرب. فإذا قاموا إلى الثانية ظهر لهم أنهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم. فلذا خص هذا الموضع بزيادة تحذير فقال: وليأخذوا حذرهم وجعله كالآلة، فأمر بأخذه وعطف عليه وَأَسْلِحَتَهُمْ قال الواحديّ: فيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة. قال أبو السعود: وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر، لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها، ومئنّة لهجوم العدوّ. كما ينطق به قوله تعالى وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي تمنوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ فتضعونها وَأَمْتِعَتِكُمْ أي: حوائجكم التي بها بلاغكم فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً أي يحملون حملة واحدة فيقتلونكم. فهذا علة الأمر
بأخذ السلاح. والأمر بذلك للوجوب. لقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا حرج ولا إثم عليكم إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ يثقل معه حمل السلاح أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى يثقل عليكم حمله أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ أخرج البخاريّ «١» عن ابن عباس قال: نزلت: إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى، في عبد الرحمن بن عوف كان جريحا. ثم أمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط. فقيل وَخُذُوا حِذْرَكُمْ لئلا يهجم عليكم العدوّ غيلة إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أي: يهانون به. ويقال:
شديدا. قال أبو السعود: هذا تعليل الأمر بأخذ الحذر. أي: أعدّ لهم عذابا مهينا.
بأن يخذلهم وينصركم عليهم. فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب. كي يحل بهم عذابه بأيديكم. وقيل: لما كان الأمر بالحذر من العدوّ موهما لتوقع غلبته واعتزازه، نفي ذلك الإيهام بأنه الله تعالى ينصرهم ويهين عدوّهم لتقوى قلوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٠٣]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣)
فَإِذا قَضَيْتُمُ أي: أتممتم الصَّلاةَ أي: صلاة الخوف، على ما فصّل فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ أي: فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال. فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدوّ جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه. قاله الرازيّ. وقال ابن كثير: أمر تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها. ولكن هنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى (في الأشهر الحرم) : فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: ٣٦]. وإن كان هذا منهيّا عنه في غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها. فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أي: سكنت قلوبكم بالأمن فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي:
على الحالة التي كنتم تعرفونها. فلا تغيروا شيئا من هيئاتها إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي: فرضا موقتا، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها وإن لزمها نقائص في رعايتها.
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٢٢- باب قوله: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ، حديث ١٩٩٤.
310

فصل


في أحكام تتعلق بهذه الآية. الأول- في هذه الآية مشروعية صلاة الخوف وصفتها. وأنه لا يجب قضاؤها. وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر. الثاني- تعلّق بظاهر قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ من لم ير صلاة الخوف بعده صلى الله عليه وسلم.
زاعما أنها خاصة بعهده صلى الله عليه وسلم. لاشتراطه كونه فيهم. ولا يخفى أن الأئمة بعده نوّابه قوّام بما كان يقوم به. فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى الله عليه وسلم. كما في قوله تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: ١٠٣].
وقد قال ﷺ «١» : صلوا كما رأيتموني أصلي.
وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم. وقد روى أبو داود «٢» والنسائيّ والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم، عن سعيد بن العاص أنه قال (في غزوة ومعه حذيفة) : أيكم شهد مع رسول الله ﷺ صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا.
فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح ثم قال: إن هاجمكم هيج فقد حل لكم القتال.
فصلى بإحدى الطائفتين ركعة. والأخرى مواجهة العدو ثم انصرف هؤلاء. فقاموا مقام أولئك. وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى. ثم سلم عليهم. وكانت الغزوة بطبرستان. قال بعضهم: وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم. فلم ينكره أحد. فحل محلّ الإجماع. وروى أبو داود «٣» أن عبد الرحمن بن سمرة صلى، بكابل، صلاة الخوف. الثالث-
روى الإمام احمد «٤» وابن أبي شيبة وسعيد بن
(١)
أخرجه البخاريّ في: الأذان، ١٨- باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، والإقامة، حديث ٤٠٢ ونصه: عن مالك بن الحويرث: أتينا النبيّ ﷺ ونحن شببة متقاربون. فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة. وكان رسول الله ﷺ رحيما رفيقا. فلما ظن أنّا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا. فأخبرناه. قال «ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم» وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها «وصلوا كما رأيتموني أصلي. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكبركم»
. (٢) أخرجه أبو داود في: الصلاة، ١٨- باب من قال يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون، حديث ١٢٤٦.
والنسائيّ في: صلاة الخوف، ١- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم.
(٣) أخرجه أبو داود في: الصلاة، ١٧- باب من قال يصلى بكل طائفة ركعة، ثم يسلم.. إلخ.
حديث ١٢٤٥.
(٤) أخرجه في المسند ٤/ ٥٩.
وأبو داود في: الصلاة، ١٢- باب صلاة الخوف، حديث ١٢٣٦.
والنسائي في: صلاة الخوف، ٢١- باب أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار.
311
منصور وأبو داود والنسائيّ وغيرهم (في نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنه) قال: كنا مع رسول الله ﷺ بعسفان. فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد.
وهم بيننا وبين القبلة. فصلى بنا النبيّ ﷺ الظهر. فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم. ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم.
فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ... فحضرت الصلاة. فأمرهم رسول الله ﷺ فأخذوا السلاح. فصفنا خلفه صفين. ثم ركع فركعنا جميعا. ثم رفع فرفعنا جميعا. ثم سجد النبيّ ﷺ بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم. فلما سجدوا وقاموا، جلس الآخرون. فسجدوا في مكانهم. ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء. ثم ركع فركعوا جميعا. ثم رفع فرفعوا جميعا. ثم سجد النبيّ ﷺ بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم. فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا. ثم سلم عليهم.
وروى عبد الرزاق عن الثوريّ عن هشام، مثل هذا، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. إلا أنه قال: نكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤسهم من السجود. ويتقدم الصف المؤخر فيسجدون في مصاف الأولين.
وروى عبد الرازق وابن المنذر وابن جرير «١» عن ابن أبي نجيح قال: قال مجاهد (في قوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : نزلت يوم كان النبيّ ﷺ بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا. فصلى النبيّ ﷺ بأصحابه صلاة الظهر أربعا. ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعهم، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم ويقاتلوهم، فأنزل الله عليهم: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ. فصلى النبيّ ﷺ العصر وصف أصحابه صفين وكبر بهم جميعا. فسجد الأولون بسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا. حتى قام النبيّ ﷺ والصف الأول. ثم كبر بهم وركعوا جميعا. فقدموا الصف الآخر واستأخروا. فتعاقبوا السجود كما فعلوه أول مرة. وقصر النبيّ ﷺ صلاة العصر ركعتين
. وفي هذه الأحاديث أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعا. واشتراكهم في الحراسة. ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود. فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الطائفة الأولى. ثم تسجد وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة.
وتأخرت المتقدمة. (فإن قلت) : لا ينطبق ما في الآية على هذه الروايات التي حكت سبب نزولها. وذلك لأن قيل في الآية: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
(١) الأثر رقم ١٠٣٢١.
312
وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا... الآية. وفي هذه الروايات أنهم قاموا جميعا معه ﷺ في الصلاة، وإنما ينطبق ما فيها على ما
رواه «١» الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رسول الله ﷺ صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة
، والطائفة الأخرى مواجهة للعدوّ. ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ. وجاء أولئك. ثم صلى بهم النبيّ ﷺ ركعة ثم سلم. ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة. وما روياه عن صالح بن خوّات عمن صلى مع النبيّ ﷺ يوم ذات الرقاع أن الطائفة صف معه وطائفة وجاه العدوّ. فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما. فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدوّ. وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته. فأتموا لأنفسهم فسلم بهم- (قلت) : بمراجعة ما أسلفناه في المقدمة من قاعدة سبب النزول يندفع الإشكال.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نزل رسول الله ﷺ بين ضجنان وعسفان فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم.
وهي العصر. فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة. وأن جبريل عليه السلام أتى النبيّ ﷺ فأمره أن يقسم أصحابه، شطرين. فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم.
وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم. فتكون لهم ركعة وللنبيّ ﷺ ركعتان. أخرجه أصحاب السنن «٢».
ثم رأيت القرطبيّ بحث في (تفسيره) نحو ما سبق لي حيث قال: وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد. لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين. ثم قال (بعد رواية حديث أبي هريرة المذكور) قلت: ولا تعارض بين هذه الروايات. فلعله ﷺ صلى بهم صلاة أخرى مفترقين. انتهى. الرابع- ظاهر الآية الكريمة الترخيص لكل طائفة بركعة واحدة. لأنه لم يبين فيها حال الركعة الباقية.
وقد روى النسائيّ «٣» عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين: صفا خلفه وصفا موازي العدوّ. فصلى بالذين خلفه ركعة. ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء.
وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة.
وكذا روى أبو داود والنسائي «٤» أيضا عن حذيفة أنه صلى بطبرستان بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا. وروى
(١) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٣١- باب غزوة ذات الرقاع، حديث ١٨٨٩.
ومسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٣٠٥ و ٣٠٦.
(٢) أخرجه النسائي في: صلاة الخوف، ١٦- باب أخبرنا العباس بن عبد العظيم. [.....]
(٣) أخرجه النسائي في: صلاة الخوف، ٥- باب أخبرنا محمد بن بشار.
(٤) أخرجه النسائيّ في: صلاة الخوف، ٢- باب أخبرنا عمرو بن عليّ.
313
أحمد ومسلم «١» وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض الله الصلاة على نبيّكم صلى الله عليه وسلم، في الحضر، أربعا. وفي السفر ركعتين. وفي الخوف ركعة.
فهذه الأحاديث تدل على أن من صفة صلاة الخوف، الاقتصار على ركعة لكل طائفة.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف، يقول الثوريّ وإسحاق ومن تبعهما. وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعريّ وغير واحد من التابعين. ومنهم من قيّد بشدة الخوف. وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد. وتأولوا هذه الأحاديث بأن المراد بها ركعة من الإمام وليس فيها نفي الثانية. ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس وحذيفة: (ولم يقضوا ركعة) وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني: (وفي الخوف ركعة) وأما تأويلهم قوله (لم يقضوا) بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن- بعيد جدا. كذا في (نيل الأوطار) نعم.
وقع في حديث ابن عمر المتفق عليه وقد قدمناه: ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة. وعند أبي داود من حديث ابن مسعود: ثم سلم، وقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة. ثم سلموا ثم ذهبوا. ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا. وبالتحقيق، كل ما روي هو من صورها الجائزة. ولما ذكر الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) هديه ﷺ في أدائها، قال في آخر صورة: وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة فتذهب ولا تقضي شيئا. وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة ولا تقضي شيئا. فيكون له ﷺ ركعتان. ولهم ركعة ركعة. وهذه الأوجه كلها يجوز الصلاة بها.
قال الإمام أحمد: كل حديث يروى في باب صلاة الخوف فالعمل به جائز.
انتهى.
وقال ابن كثير: صلاة الخوف أنواع كثيرة. فإن العدوّ تارة يكون تجاه القبلة.
وتارة يكون في غير صوبها. ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة. بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. ورجالا وركبانا.
ولهم أن يمشوا والحالة هذه، ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة. ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم، وبه قال أحمد ابن حنبل.
(١) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٥.
314
قال المنذريّ: وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد.
وإليه ذهب طاوس والضحاك. وقد حكى أبو عاصم العباديّ عن محمد بن نصير المروزيّ أنه يرى ردّ الصبح إلى ركعة في الخوف. وإليه ذهب ابن حزم أيضا. وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماء. فإن لم تقدر فسجدة واحدة. لأنها ذكر الله. وقال آخرون: يكفي تكبيرة واحدة. فلعله أراد ركعة واحدة. كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه. وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدّيّ. ورواه ابن جرير. ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة. كما هو مذهب إسحاق بن راهويه: وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكيّ حتى قال: فإن لم يقدر على التكبير فلا يتركها في نفسه. يعني بالنية. رواه سعيد بن منصور في (سننه) عن إسماعيل بن عياش عن شعيب بن دينار عنه. فالله أعلم. ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة. كما أخر النبيّ ﷺ يوم الأحزاب الظهر والعصر، فصلاهما بعد الغروب. ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء. وكما قال بعدها، يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة. فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق. فقال منهم قائلون: لم يرد منا رسول الله ﷺ إلا تعجيل المسير. ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها. فصلّوا الصلاة لوقتها في الطريق. وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب. ولم يعنف رسول الله ﷺ أحدا من الفريقين. فاحتج في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة، اليهود. وأما الجمهور فقالوا: هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد. فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك. وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدريّ الذي رواه الشافعيّ رحمه الله وأهل السنن. ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاريّ «١» في (صحيحه) حيث قال (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدوّ) وقال الأوزاعيّ: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء. كل امرئ لنفسه.
فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين. فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين. فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحول. وقال أنس بن مالك: حضرت عند مناهضة
(١) أخرجه البخاريّ في: صلاة الخوف، ٤- باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدوّ.
315
حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة. فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار. فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا. وقال أنس: وما يسرني، بتلك الصلاة، الدنيا وما فيها. انتهى. ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ثم بحديث «١» أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة وكأنه كالمختار لذلك. والله أعلم. ولمن جنح له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا. وكان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب. ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة. والله أعلم. قال هؤلاء: وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي. وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقديّ ومحمد بن سعد، كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم. وقال البخاريّ «٢» وغيره: كانت ذات الرقاع بعد الخندق، لحديث أبي موسى. وما قدم إلا في خيبر. والله أعلم.
الحكم الخامس- استدل بقوله تعالى طائِفَةٌ على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد. لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة به في ذلك.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد. فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف. جاز لأحدهم أن يصلي بواحد.
ويحرس واحد. ثم يصلي الآخر. وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة.
السادس- استدل بالآية على عظم أمر الجماعة بل على ترجيح القول بموجبها. لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها. ولو صلى كل امرئ منفردا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك. أفاده الحافظ ابن حجر في (الفتح).
قال ابن كثير: وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة. حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة. فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك.
(١)
أخرجه البخاريّ في: صلاة الخوف، ٥- باب صلاة الطالب والمطلوب، حديث ٥٤٩ ونصه: عن ابن عمر قال: قال النبيّ ﷺ لنا، لما رجع من الأحزاب، «لا يصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بلى نصلي.
لم يرد منا ذلك.
فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدا منهم
. (٢) البخاريّ في: المغازي، ٣١- باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان. فنزل نخلا. وهي بعد خيبر. لأن أبا موسى جاء بعد خيبر.
316
السابع- قال بعض المفسرين: اختلف في المأمور بأخذ السلاح في قوله تعالى وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فقيل: هم الطائفة الذين يواجهون العدوّ. وهذا ظاهر.
وقيل: بل هم الطائفة المصلون. وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر والسيف ونحو ذلك. وقيل: للطائفتين. وهو قول القاسم. انتهى.
قال الناصر في (الانتصاف) : والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون.
إذ من لم يصل إنما أعد للحرس. فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه.
وهم إنما أخروا الصلاة لذلك. أما المصلون فهم في مظنة طرح الأسلحة لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة. فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة. لضرورة الخوف وخشية الغرة. وأيضا فصنيع الآية يعطي ذلك. لأنه قال فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وعقب ذلك بقوله وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فالظاهر رجوع الضمير إليهم. وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم، بدلالة قوة الكلام عليهم، وإن لم يذكروا. وناقش الناصر أيضا، الزمخشريّ في جعله المراد بقوله تعالى فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا غير المصلين.
فقال: الظاهر أن معنى السجود هاهنا الصلاة، وقد عبر عنها بالسجود كثيرا. والمراد:
فإذا صلت الطائفة، (أي أتمت صلاتها) فليكونوا من ورائكم. انتهى.
الثامن- قال أبو علي الجرجانيّ صاحب النظم: قوله تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ يدل على أنه كان يجوز للنبيّ ﷺ أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا، غير غافل من كيد العدوّ. والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر. لأن العدوّ يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة. فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة. ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوّهم. فلا جرم، أمروا بأن يصيروا طائفتين: طائفة في وجه العدوّ، وطائفة مع النبيّ ﷺ مستقبل القبلة.
وأما حين كان النبيّ ﷺ بعسفان وببطن نخل، فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين. وذلك لأن العدوّ كان مستدبر القبلة. والمسلمون كانوا مستقبلين لها. فكانوا يرون العدوّ حال كونهم في الصلاة. فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود. فلا جرم، لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم. فلما فرغوا من السجود. وقاموا، تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا. وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني. فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ يدل على جواز كل هذه الوجوه. والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه، أنا لو لم نحملها
317
على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة. ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن. وإنه غير جائز. نقله الرازيّ.
وقال الخطابيّ: صلاة الخوف أنواع صلاها النبيّ ﷺ في أيام مختلفة وأشكال متباينة. يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة. فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى. وأنواعها مبينة في شروح السنة. ثم حثهم تعالى على الجهاد بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٠٤]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي: لا تضعفوا في طلب عدوّكم بالقتال بل جدّوا فيهم واقعدوا لهم كل مرصد. ثم ألزمهم الحجة بقوله سبحانه إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ أي: ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم. كما قال تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران: ١٤٠]. ثم زاد في تقرير الحجة، وبيّن أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين بقوله تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ يعني وتأملون من القرب من الله واستحقاق الدرجات من جناته وإظهار دينه، كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ما لا يأملونه، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأجدر بإقامة كلمة الله وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي: فلا يكلفكم إلا بما يعلم أنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم. فجدوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة.
قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة وجوب الجهاد وأنه لا يسقط لما يحصل من المضرة بالجراح ونحوه. وأن التجلد وطلب ما يقوّى لازم، وما يحصل به الوهن لا يجوز فعله. وتدل على جواز المعارضة والحجاج لقوله فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ وتدل على أن للمجاهد أن يجاهد لطلب الثواب لقوله وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ فجعل هذا سببا باعثا على الجهاد. هذا معنى كلام الحاكم. ونظير هذا: لو صلى لطلب الثواب أو السلامة من العقاب. وقد ذكر في ذلك خلاف. فعن الراضي بالله: يجزي ذلك. وقواه الفقيه يحيى بن أحمد. وعن أبي مضر: لا يجزي. لأنه لم ينو الوجه الذي شرع الواجب له. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٩]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩)
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ، وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً.
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ، كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً.
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً.
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا.
روى الحافظ ابن مردويه في سبب نزولها من طريق العوفيّ عن ابن عباس «١» : أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله ﷺ في بعض غزواته. فسرقت درع لأحدهم.
فأظنّ (أي: اتهم) بها رجلا من الأنصار. فأتى صاحب الدرع رسول الله ﷺ فقال:
إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء. وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ الله ﷺ ليلا فقالوا: يا نبيّ الله! إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان. وقد أحطنا بذلك علما. فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه.
(١) أخرجه الطبري في التفسير، الأثر رقم ١٠٤١٣.
319
فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله ﷺ فبرّأه وعذره على رؤوس الناس. فأنزل الله: إِنَّا أَنْزَلْنا... الآية
. ثم قال تعالى- للذين أتوا رسول الله ﷺ مستخفين بالكذب-: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
. يعني الذين أتوا رسول الله ﷺ مستخفين يجادلون عن الخائنين. ثم قال عز وجل: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً...
الآية. يعني الذين أتوا رسول الله ﷺ مستخفين بالكذب. ثم قال:
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
. يعني السارق والذين جادلوا عن السارق.
قال ابن كثير: وهذا سياق غريب. وقد ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسّديّ وابن زيد وغيرهم (في هذه الآية) أنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم، وهي متقاربة.
وقد روى هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق مطولة. ورواها عنه، من طريقه، أبو عيسى الترمذيّ في (جامعه) في كتاب التفسير، عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه، قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبشير (قال أبو ذرّ الخشنيّ:
بشير بن أبيرق. كذا وقع هنا: بشير بفتح الباء. وقال الدّارقطنيّ: إنما هو بشير بضم الباء) ومبشّر. وكان بشير رجلا منافقا. وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ينحله إلى بعض العرب. ثم يقول: قال فلان كذا أو قال فلان كذا. فإذا سمع أصحاب رسول الله ﷺ ذلك الشعر قالوا: والله! ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث. فقال:
أو كلما قال الرجال قصيدة... أضموا وقالوا: ابن الأبيرق قالها!
قال: وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام. وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة، التمر والشعير. وكان الرجل إذا كان له يسار، فقدمت ضافطة من الشام بالدرمك، ابتاع الرجل منها فخص به نفسه. فأما العيال، فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له. وفي المشربة سلاح له: درعان وسيفاهما وما يصلحهما. فعدي عليه من تحت الليل، فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي! تعلّم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بسلاحنا وطعامنا.
320
قال: فتحسست في الدار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى، فيما نراه، إلا على بعض طعامكم.
قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا: ونحن نسأل في الدار: والله! ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل. رجلا منا له صلاح وإسلام. فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال: والله! ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيّننّ السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل. فو الله! ما أنت بصاحبها. فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها. فقال عمي: يا ابن أخي! لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرت ذلك له.
قال قتادة: فأتيت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، فقلت: يا رسول الله! إن أهل بيت منا أهل جفاء. عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه. فليردوا علينا سلاحنا. وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظر في ذلك. فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة. فكلموه في ذلك. واجتمع إليه ناس من أهل الدار. فأتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا، أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة في غير بيّنة ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول الله ﷺ فكلمته. فقال عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت؟ قال فرجعت. ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله ﷺ في ذلك. فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي! ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان.
فلم نلبث أن نزل القرآن إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً يعني: بني أبيرق. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي: مما قلت لقتادة إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ أي: بني أبيرق إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
إلى قوله ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
أي: إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
قولهم للبيد وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
يعني: أسيرا وأصحابه وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
إلى قوله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
321
فلما نزل القرآن: أتي رسول الله ﷺ بالسلاح فرده إلى رفاعة.
قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي! هو في سبيل الله. قال فعرفت أن إسلامه صحيحا.
فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين. فنزل على سلافة ابنة سعد بن شهيد.
فأنزل الله فيه وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إلى قوله وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.
فلما نزل على سلافة، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر. فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت فرمت به في الأبطح، ثم قالت: أهديت إليّ شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير «١».
وقال الترمذيّ: هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحرانيّ. وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا. لم يذكروا فيه: عن أبيه عن جده «٢».
ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحرانيّ عن محمد بن سلمة به، ببعضه. ورواه ابن المنذر في (تفسيره) بسنده عن محمد بن سلمة. فذكره بطوله.
ورواه أبو الشيخ الأصفهانيّ في (تفسيره) بسنده عن محمد بن سلمة به. ثم قال في آخره: قال محمد بن سلمة: سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إسرائيل. ورواه الحاكم في كتابه (المستدرك) بسنده عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بمعناه، أتم منه، وفيه الشعر. ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. كذا نقله ابن كثير. قال السيوطيّ في (اللباب) : وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال: عدا بشير ابن الحارث على علّيّة رفاعة بن زيد، عم قتادة بن النعمان. فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما. فأتى قتادة النبيّ ﷺ فأخبره بذلك. فدعا بشيرا فسأله فأنكر. ورمى بذلك لبيد بن سهل، رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب. فنزل القرآن
(١) أخرجه الإمام الطبريّ في تفسيره، الأثر رقم ١٠٤١١ والوارد في المتن هو نصّ الطبري.
(٢) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٢٢- حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحرانيّ.
322
بتكذيب بشير وبراءة لبيد: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ... الآيات. فلما نزل القرآن في بشير وعثر عليه، هرب إلى مكة مرتدّا. فنزل على سلافة بنت سعد. فجعل يقع في النبيّ ﷺ وفي المسلمين. فنزل فيه: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ... [النساء:
١١٥] الآية. وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع. وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة. انتهى.
وأما إيضاح ألفاظ الآيات وثمراتها فنقول: قوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. أي: بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك. سمي ذلك العلم بالرؤية. لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية، في القوة والظهور.
قال الزمخشريّ: وعن عمر رضي الله عنه: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله. فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم. ولكن ليجتهد رأيه. لأن الرأي من رسول الله ﷺ كان مصيبا. لأن الله كان يريه إياه. وهو منا الظن والتكلف.
قلت: روى هذا الأثر البيهقي في (المدخل) وابن عبد البر، بنحو ما ذكر.
قال ابن الفرس: في هذه الآية إثبات الرأي والقياس. وتعقبه السيوطيّ بما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: إياكم والرأي. فإن الله تعالى قال لنبيه:
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. ولم يقل: بما رأيت. ثم قال السيوطيّ: وقال غيره:
يحتمل قوله بِما أَراكَ اللَّهُ. الوحي والاجتهاد معا. انتهى.
وقال ابن كثير: احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان ﷺ له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية. وبما
ثبت في الصحيحين «١» عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ سمع جلبة خصم بباب حجرته. فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر. وإنما أقضي بنحو مما أسمع. ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له.
فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار. فليحملها أو ليذرها.
ورواه الإمام أحمد «٢» عنها أيضا بلفظ: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله ﷺ في موارث بينهما قد درست. ليس بينهما بينة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنكم تختصمون إليّ. وإنما أنا بشر. ولعل بعضكم ألحن بحجته (أو قد قال:
(١) أخرجه البخاريّ في: المظالم، ١٦- باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه. حديث ١٢١٢.
وأخرجه مسلم في: الأقضية، حديث ٤ و ٥.
(٢) أخرجه في المسند ٦/ ٣٢٠.
323
لحجته) من بعض. فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه. فإنما أقطع له قطعة من النار. يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة. فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذ قلتما، فاذهبا فاقتسما. ثم توخيا الحق بينكما. ثم استهما. ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه.
وقد رواه أبو داود «١» وزاد: إني إنما أقضي بينكما برأيي. فيما لم ينزل عليّ فيه.
انتهى.
قال السيوطيّ: وفي الآية الرد على من أجاز أن يكون الحاكم غير عالم. لأن الله تعالى فوّض الحكم إلى الاجتهاد. ومن لا علم عنده كيف يجتهد؟ انتهى. وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ. أي: لأجلهم والذبّ عنهم. وهم طعمة ومن يعينه من قومه على ما تقدم خَصِيماً أي مخاصما. وفيه أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق. وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ. أي مما قلت لقتادة، كما تقدم مفسرا.
قال الرازيّ: تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء. وقالوا:
لو لم يقع من الرسول ﷺ ذنب لما أمر بالاستغفار. ثم أجاب عن ذلك بوجوه. وقال القاضي عياض في (الشفا) : إن تصرف الأنبياء عليهم السلام بأمور لم ينهوا عنها ولا أمروا بها، ثم عوتبوا بسببها، أو أتوها على وجه التأويل- إنما هي ذنوب بالإضافة إلى عليّ منصبهم وإلى كمال طاعتهم. لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم. وأطال في هذا المقام وأطاب. ثم قال: وأيضا، فإن في التوبة والاستغفار معنى آخر لطيفا أشار إليه بعض العلماء. وهو استدعاء محبة الله. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: ٢٢٢]. انتهى. وقوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
أي: يخونونها بالمعصية. جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم. كما جعلت ظلما لها لرجوع ضررها إليهم.
قال الرازيّ: واعلم أن في الآية تهديدا شديدا. وذلك لأن النبيّ ﷺ لما مال طبعه قليلا إلى جانب طعمة، وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقا، فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب. فكيف حال من يعلم من الظالم
(١) أخرجه في: الأقضية، ٧- باب في قضاء القاضي إذا أخطأ، حديث ٣٥٨٥.
324
كونه ظالما، ثم يعينه على ذلك الظلم، بل يحمله عليه ويرغّبه فيه أشد الترغيب؟
وإنما قيل للخائنين (ويختانون) مع أن الخائن واحد، لأن المراد به هو ومن عاونه من قومه، وهم يعلمون أنه سارق. أو ذكر بلفظ الجمع ليتناوله وكل من خان خيانته.
كما أنه إنما ذكر بلفظ المبالغة في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
لأنه تعالى علم منه أنه مفرط في الخيانة وركوب المآثم. ويدل له أنه هرب إلى مكة وارتدّ. كما أسلفنا. قيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر رضي الله عنه، أنه أمر بقطع يد سارق. فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت. إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة.
وقوله تعالى يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
أي: يستترون حياء منهم وخوفا من ضررهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
فلا يستحيون منه وَهُوَ مَعَهُمْ
أي: وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خاف من سرهم.
قال الزمخشريّ: وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم، إن كانوا مؤمنين، أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح.
وقوله تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
أي: يدبرون ويزوّرون الحلف الكاذب ورمي البريء وشهادة الزور. وقوله تعالى ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
... الآية.
المجادلة: أشد المخاصمة. والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن السارق وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه؟ وقوله تعالى أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وانتقامه.
قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة هذه الآيات وجوب الحكم من غير محاباة ولا ميل، والنهي عن التعصب والمجادلة عن كل خائن وعاص. ويدل تقييد النهي عن الجدل بالذين يختانون أنفسهم، على إباحة المجادلة. انتهى.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب، أتبعه بالدعوة إلى التوبة بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١٠]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أي: قبيحا متعديا. يسوء به غيره، كما في القصة أَوْ
يَظْلِمْ نَفْسَهُ
فيخصها بالمعصية ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
بالتوبة الصادقة يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
لذنوبه كائنة ما كانت رَحِيماً
أي متفضلا عليه.
قال أبو السعود: وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار. لما أن مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١١]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
أي فليتحرز عن تعريضها للعقاب.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١٢]
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
الخطيئة الذنب، أو ما تعمد منه. والإثم الذنب أيضا. وأن يعلم ما لا يحل له (كذا في القاموس). قال الراغب: الإثم أعم من العدوان. وقال غيره: هو فعل مبطئ عن الثواب ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
أي: يقذف به بَرِيئاً
أي: مما رماه به، كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح، ذلك الرجل الصالح، وهو لبيد بن سهل. كما تقدم. وقد كان بريئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
وهو الكذب على الغير بما يبهت منه وَإِثْماً مُبِيناً
أي بيّنا فاحشا. لأنه بكسب الإثم، آثم. وبرمي البريء، باهت. فهو جامع بين الأمرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١٣]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
برمي البريء والمجادلة عن الخائنين. يعني أسير ابن عروة وأصحابه. يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برءاء. ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله ﷺ وَما
يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
لأن وباله عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك. ولما أنزل تعالى فصل القضية وجلّاها لرسوله صلى الله عليه وسلم، امتنّ عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال بقوله وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
أي: القرآن والسنة وَعَلَّمَكَ
من أمور الدين والشرائع ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
أي: قبل نزول ذلك عليك. كقوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ... [الشورى: ٥٢] الآية. وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: ٨٦]. ولهذا قال تعالى: وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
أي: فيما علمك وأنعم عليك.
قال الرازيّ: هذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب.
ثم أشار تعالى إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيّتون ما لا يرضى من القول. بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١٤]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤)
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ أي: مساررتهم. والسياق، وإن دل على مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض، إلا أنها في المعنى عامة. والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث. ثم استثنى النجوى في أعمال الخير بقوله سبحانه إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أي: إلا في نجوى من أمر، بخفية عن الحاضرين، بصدقة ليعطيها سرا، يستر به عار المتصدّق عليه أَوْ مَعْرُوفٍ أي: بطاعة الله.
وأعمال البر كلها معروف. وسر التناجي فيه أن لا يأنف المأمور عن قبوله لو جهر به أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ يعني الإصلاح بين المتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع. على ما أذن الله فيه وأمر به. وسر النجوى فيه أنه لو ظهر أولا ربما لم يتم.
قال المهايميّ: قيل في الحصر: الخير إما نفع جسمانيّ وهو في الأمر بالصدقة.
أو روحانيّ وهو في الأمر بالمعروف. وإما دفع وهو في الإصلاح ويمكن أن يقال:
الخير إما نفع متعد من المأمور وهو الصدقة. أو لازم له وهو المعروف. أو دفع ضرر
327
متعد أو لازم له، وهو الإصلاح. وإنما تتم خيريتها إذا ابتغى بها رضاء الله تعالى كما قال وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ أي: طلب مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ يعني في الآخرة أَجْراً عَظِيماً يساوي أجر الفاعل أو يفوقه. وقد دلت الآية على الترغيب في الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس. وقد أكد تعالى الترغيب بقوله عَظِيماً وأن النية فيها شرط لنيل الثواب. لقوله تعالى ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وعلى أن كلام الإنسان عليه لا له. إلا ما كان في هذا ونحوه. كما جاء
في الحديث الذي رواه ابن مردويه بسنده إلى محمد بن يزيد بن حنيش قال: دخلنا على سفيان الثوريّ نعوده.
فدخل علينا سعيد بن حسان، فقال له الثوريّ: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح اردده عليّ. فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة، عن أم حبيبة قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلام ابن آدم كله عليه لا له. إلا ذكر الله عز وجل. أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر
. فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ؟ فهو هذا بعينه. أو ما سمعت الله يقول: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً؟ [النبأ: ٣٨]، فهو هذا بعينه. أو ما سمعت الله يقول في كتابه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: ١- ٢] إلخ. فهو هذا بعينه.
وقد روى هذا الحديث الترمذيّ «١» وابن ماجة «٢» من حديث ابن حنيش عن سعيد بن حسان به. ولم يذكر أقوال الثوريّ إلى آخرها.
ثم قال الترمذيّ: حديث غريب لا يعرف إلا من حديث ابن حنيش. قلت: هو مقبول، كما في (التقريب) لابن حجر. فحسن حديثه.
وروى الجماعة «٣» عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا. وقالت: لم أسمعه
(١) أخرجه الترمذيّ في: الزهد، ٦٣- باب منه، حدثنا محمد بن بشار.
(٢) أخرجه ابن ماجة في: الفتن ١٢- باب كف اللسان في الفتنة، حديث ٣٩٧٤. [.....]
(٣) أخرجه البخاريّ في: الصلح، ٢- باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، حديث ١٣٠٢.
ومسلم في: البر والصلة والآداب، حديث ١٠١.
وأبو داود في: الأدب، ٥٠- باب في إصلاح ذات البين، حديث ٤٩٢١.
والترمذيّ في: البر والصلة، ٢٦- باب ما جاء في إصلاح ذات البين.
328
يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب. والإصلاح بين الناس.
وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.
وروى الإمام أحمد «١» وأبو داود «٢» والترمذي «٣» عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. يا رسول الله! قال: إصلاح ذات البين. قال: وفساد ذات البين هي الحالقة.
قال الترمذيّ: حسن صحيح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١٥]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالفه ويعاديه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي اتضح له الحق وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل، وهو الدين القيّم نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي. نجعله واليا مرجحا ما تولاه من المشاقة ومتابعة غير سبيلهم فنزينه له تزين الكفر على الكفرة، استدراجا له ليكون دليلا على شدة العقوبة في الآخرة. كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم: ٤٤]. وقال تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥]. وقال سبحانه: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: ١١٠] وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ أي: ندخله إياها وَساءَتْ مَصِيراً وجعل النار مصيره في الآخرة. لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة. كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: ٢٢].
الآية. وقال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف: ٥٣].
قال الإمام ابن كثير: قوله تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هذا ملازم للصفة الأولى. ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا. فإنه قد ضمنت لهم العصمة، في
(١) الإمام أحمد في المسند ٦/ ٤٤٥.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأدب، ٥٠- باب في إصلاح ذات البين، حديث ٤٩١٩.
(٣) أخرجه الترمذيّ في: الزهد، ٥٦- باب حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم البغداديّ.
329
اجتماعهم، من الخطأ، تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم. وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك. ومن العلماء من ادعى تواتر معناها. والذي عوّل عليه الشافعيّ رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته، هذه الآية الكريمة. بعد التروّي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها. وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك. انتهى.
وقال بعض مفسري الزيدية: الآية دلت على أن مشاقة الرسول ﷺ كبيرة. وقد تبلغ إلى الكفر. ودلت على أن الجهل عذر. لقوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى.
ودلت على أن مخالفة الإجماع كبيرة. وأنه دليل كالكتاب والسنة لكن إنما يكون كبيرة إذا كان نقله قطعيا، لا آحاديا. انتهى.
وقال المهايميّ: في الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع. لأنه عز وجل رتب الوعيد الشديد على مشاقة الرسول ومخالفة الإجماع، فهو إما لحرمة أحدهما وهو باطل. إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ، إذ لا دخل لأكل الخبز فيه. أو لحرمة الجمع بينهما وهو أيضا باطل. لأن مشاقة الرسول حرام وإن لم يضم إليها غيرها. أو لحرمة كل واحد منهما وهو المطلوب. انتهى.
ونقل الخفاجيّ قصة استدلال الشافعيّ من هذه الآية عن الإمام المزنيّ قال:
كنت عند الشافعيّ يوما. فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا. فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا، وكان مستندا لأسطوانة، فاستوى وسوى ثيابه. فقال له: ما الحجة في دين الله؟ قال: كتابه قال: وماذا؟ قال: سنة نبيه. قال وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال:
من أين هذا الأخير؟ أهو في كتاب الله؟ فتدبر ساعة ساكتا. فقال له الشيخ: أجّلتك ثلاثة أيام بلياليهن. فإن جئت بآية، وإلا فاعتزل الناس.
فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر، وقد تغير لونه. فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس. وقال: حاجتي. فقال: نعم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. قال الله عز وجل: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ- إلى آخر الآية. لم يصله جهنم، على خلاف المؤمنين، إلا واتّباعهم فرض. قال: صدقت. وقام وذهب.
وروي عنه أنه قال: قرأت القرآن في يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات. حتى ظفرت بها.
وأورد الراغب عليه، أنه لا حجة فيها على ما ذكره. بأن كل موصوف علق به
330
حكم فالأمر باتباعه يكون في مأخذ ذلك الوصف. فإذا قيل اقتد بالمصلي فالمراد في صلاته. فكذا سبيل المؤمنين، يعني به سبيلهم في الإيمان، لا غير. فلا دلالة في الآية على اتباعهم في غيره. وردّ بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول. ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف، تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا. فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه. فسبيل المؤمنين، وإن فسر بما هم عليه من الدين، يعمّ الأصول والفروع، الكل والبعض. على أن الجزاء مرتب على كل من الأمرين المذكورين في الشرط، لا على المجموع. للقطع بأن مجرد مشاقة الرسول كافية في استحقاق الوعيد، معنى على أن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين. لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل، البتة. انتهى.
ورأيت للإمام تقيّ الدين بن تيمية في كتابه (الفرقان بين الحق والباطل) مقالة بديعة في هذه الآية والإجماع. أجال فيها جواد قلمه وأجاد. وأطال وأطاب. قال رحمه الله: ما يسميه ناس الفروع والشرع والفقه، فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان.
فما بقي مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بيّن ذلك. وقد قاله تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: ٣].
وقال تعالى: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: ١١١]. وقال تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: ٨٩].
وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى: ١٠]. وقال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ [التوبة: ١١٥]. فقد بيّن للمسلمين جميع ما يتقونه. كما قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: ١١٩]. وقال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: ٥٩]. وهو الردّ إلى كتاب الله، أو إلى سنة الرسول، بعد موته. وقوله فَإِنْ تَنازَعْتُمْ شرط. والفعل نكرة في سياق الشرط. فأي شيء تنازعوا فيه ردّوه إلى الله والرسول. ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه.
وقد جاء عنه ﷺ أنه قال «١» : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا
(١)
أخرجه ابن ماجة في المقدمة، ١- باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث ٥ ونصه: عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نذكر الفقر ونتخوّفه، فقال «الفقر تخافون؟
331
هالك.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلام نحو هذا. والحاصل أن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين. وأما إجماع الأمة فهو في نفسه حق. لا تجتمع الأمة على ضلالة. وكذلك القياس الصحيح حق. فإن الله بعث رسله بالعدل وأنزل الميزان مع الكتاب. والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل. وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك. والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين وهذا هو القياس الصحيح، وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل. وبيّن بالقياس الصحيح وهي الأمثال المضروبة، ما بينه من الحق. لكن القياس الصحيح يطابق النص. فإن الميزان يطابق الكتاب. والله أمر نبيّه أن يحكم بالعدل. فهو أنزل الكتاب. وإنما أنزل الكتاب بالعدل. قال تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: ٤٩]. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة: ٤٢].
وأما إجماع الأمة فهو حق. لا تجتمع الأمة، ولله الحمد، على ضلالة، كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة. فقال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: ١١٠]. وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر. فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه.
وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: ١٤٣]. والوسط العدل الخيار وقد جعلهم الله شهداء على الناس وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول.
وقد ثبت في الصحيح «١»
أن النبيّ ﷺ مرّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا. فقال: وجبت. ثم مرّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا. فقال: وجبت. قالوا: يا رسول الله! ما قولك وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا. فقلت: وجبت لها الجنة. وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا.
فقلت: وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض.
والذي نفسي بيده! لتصبّنّ عليكم الدنيا صبّا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلّا هيه. وأيم الله! لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء».
(١)
أخرجه البخاريّ في: الجنائز، ٨٥- باب ثناء الناس على الميت حديث ٧٢٣ ونصه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيرا. فقال رسول الله ﷺ «وجبت». ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرّا. فقال «وجبت». فقال عمر بن الخطاب: ما وجبت؟ قال «هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة. وهذا أثنيتم عليه شرّا فوجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض».
وأخرجه مسلم في: الجنائز، حديث ٦٠.
332
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل. فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به. وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه. ولو كان يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض. وقال تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ [لقمان: ١٥]. والأمة منيبة إلى ربها فيجب اتباع سبيلها وقال تعالى:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: ١٠٠]. فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة. فدلّ على أن متابعهم عامل بما يرضي الله. والله لا يرضى إلا بالحق لا بالباطل. وقال تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً، والشافعيّ، رضي الله عنه، لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع. كما كان يسمع هو وغيره من مالك.
ذكر ذلك عن عمر بن عبد العزيز. والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين، مستحق للوعيد كما أن مشاقّ الرسول من بعد ما تبين له الهدى، مستحق للوعيد.
ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده. فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره. وهنا للناس ثلاثة أقوال: قيل: اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرده مخالفة الرسول المذكورة في الآية. وقيل بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم. فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم. وقيل: بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية. لكن هذا لا يقتضي مفارقته للأول بل قد يكون مستلزما له. فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاقّ للرسول.
وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين. وهذا كما في طاعة الله والرسول.
فإن طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة. وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم. وهما متلازمان. فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وفي الحديث الصحيح «١» عن النبيّ ﷺ قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني. ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني.
ثم قال تقيّ الدين رحمه الله (بعد ثلاثة أوراق) : ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع. فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين. وهذا لا نزاع فيه. أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين. وهي متابعة الرسول. وهذا لا نزاع
(١) أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ١٠٩- باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به، حديث ١٤٠٩.
ومسلم في: الإمارة، حديث ٣٢.
333
فيه. أو إن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة. وهذا لا نزاع فيه. فهذا ونحوه قول من يقول: لا تدل على محل النزاع. وآخرون يقولون: بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقا. وتكلفوا لذلك ما تكلفوه. كما قد عرف كلامهم ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية. والقول الثالث الوسط: إنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم. ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى. وهو يدل على ذم كلّ من هذا وهذا. كما تقدم. لكن لا ينفي تلازمهما. كما ذكر في طاعة الله والرسول. وحينئذ يقول: الذم إما أن يكون حقّا لمشاقة الرسول فقط، أو باتباع غير سبيلهم فقط، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما. بل بهما إذا اجتمعا. أو لحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر، أو بكل منهما لكونه مستلزما للآخر. والأوّلان باطلان. لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط، كان ذكر الآخر ضائعا لا فائدة فيه. وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعا. فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه. ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية. فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع. بقي القسم الآخر وهو أن كلا من الوصفين يقتضي الوعيد. لأنه مستلزم للآخر. كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام. فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار. ومثله قوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً. فإن الكفر بكل واحد من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره. فمن كفر بالله كفر بالجميع. ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل، فكان كافرا بالله. إذ كذب رسله وكتبه. وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل. فكان كافرا. وكذلك قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران: ٧١] ذمهم على الوصفين. وكل منهما مقتض للذم. وهما متلازمان. ولهذا نهى عنهما جميعا في قوله وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فإن من لبس الحق بالباطل فغطاه به، فغلط به، لزم أن يكتم الحق الذي تبين أن هذا باطل، إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق. فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين. من شاقّه، فقد اتبع غير سبيلهم. وهذا ظاهر. ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد. فدل على أنه وصف مؤثر في الذم.
فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا، والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان. وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول. فالمخالف لهم مخالف للرسول.
334
كما أن المخالف للرسول مخالف لله. ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه الرسول قد بيّنه الرسول. وهذا هو الصواب. فلا يوجد مسألة قط مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس. ويعلم الإجماع فيستدل به. كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص. وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن. وكذلك الإجماع دليل آخر. كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها. فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة. وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ. فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه. ولا توجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص. وقد كان بعض الناس يذكر فيها الإجماع بلا نص كالمضاربة. وليس كذلك. بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية، لا سيما قريش. فإن الأغلب كان عليهم التجارة. وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال. ورسول الله ﷺ قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة. والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره. فلما جاء الإسلام أقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة. ولم ينه عن ذلك. والسنة قوله وفعله وإقراره. فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة. والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ «١»، ويعتمد عليه الفقهاء، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لا بنيه واتّجرا فيه وربحا. وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصّهما بذلك دون سائر الجيش. فقال له أحدهما: لو خسر المال لكان علينا. فكيف يكون الربح وعلينا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربة. فجعله مضاربة.
(١) أخرجه في الموطأ في: القراض، حديث ١ ونصه: عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرج عبد الله وعبيد الله، أبناء عمر بن الخطاب، في جيش إلى العراق. فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعريّ، وهو أمير البصرة. فرحب بهما وسهّل. ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت. ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله. أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين. فأسلفكماه.
فتبتاعان به متاعا من متاع العراق. ثم تبيعانه بالمدينة. فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين.
ويكون الربح لكما. فقالا: وددنا ذلك، ففعل. وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال.
فلما قدما باعا فأربحا. فلما دفعا ذلك إلى عمر، قال: أكلّ الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا:
لا. فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين. فأسلفكما. أدّيا المال وربحه.
فأما عبد الله فسكت. وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي ذلك، يا أمير المؤمنين! هذا. لو نقص هذا المال أو هلك لضمنّاه. فقال عمر: أدّياه. فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله. فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين! لو جعلته قراضا! فقال عمر: قد جعلته قراضا فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه. وأخذ عبد الله وعبيد الله، ابنا عمر بن الخطاب، نصف ربح المال.
335
وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم. والعهد بالرسول قريب. لم يحدث بعده. فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول. كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والخرازة. وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص. لكن كان النص عند غيرهم. وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا من نص نقلوه عن الرسول. مع قولهم بصحة القياس. ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى، كما نقل الأخبار، ولكن استقرينا موارد الإجماع فوجدنا كلها منصوصة. وكثر من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة. كما أنه قد يحتج بقياس، وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع. كما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعموم. كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: ٤]. وقال ابن مسعود «١» : سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى. أي: بعد البقرة. وقوله: أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، يقتضي انحصار الأجل في ذلك. فلو أوجب عليها أن تعتد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها. وعليّ وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين. وجاء النص الخاص في قصة «٢» سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود. وكذلك. لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها هل لها مهر المثل، أفتى
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٦٥- سورة الطلاق، ٢- باب وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً، وَأُولاتُ الْأَحْمالِ، حديث ٢٠٦١ ونصه:
عن أيوب عن محمد قال: كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى. وكان أصحابه يعظمونه. فذكر آخر الأجلين. فحدّثت بحديث سبيعة بنت الحارث، عن عبد الله بن عتبة. قال فضمّز لي بعض أصحابه. قال محمد: ففطنت له. فقلت: إني إذا لجريء إن كذبت على عبد الله ابن عتبة، وهو في ناحية الكوفة. فاستحيا وقال: لكن عمّه لم يقل ذلك. فلقيت أبا عطية مالك بن عمر. فسألته فذهب يحدثني حديث سبيعة. فقلت: هل سمعت عن عبد الله فيها شيئا؟ فقال:
كنا عند عبد الله فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة؟ لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
(٢)
أخرجها البخاريّ في: التفسير، ٦٥- سورة الطلاق، ٢- باب وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً، وَأُولاتُ الْأَحْمالِ، حديث ٢٠٦١.
عن يحيى قال: أخبرني أبو سلمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس؟ وأبو هريرة جالس عنده. فقال:
أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة. فقال ابن عباس: آخر الأجلين. قلت أنا: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي (يعني: أبا سلمة) فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها.
فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى. فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت.
فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو السنابل فيمن خطبها
.
336
ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل. ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك. وقد خالفه عليّ وزيد وغيرهما. فقالوا: لا مهر لها. فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس، ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه. ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها. بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص وأولئك يحتجون بنص. كالمتوفى عنها الحامل. هؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها. والآخرون قالوا: إنما تدخل في آية الحمل فقط، وإن آية الشهور في غير الحامل. كما أن آية القروء في غير الحامل. وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يمينا بقوله: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: ١- ٢].
وكذلك تنازعوا في المبتوتة هل لها نفقة أو سكنى. احتج هؤلاء بحديث فاطمة «١» وبأن السكنى التي في القرآن للرجعية. وأولئك قالوا: بل هي لهما.
ودلالات النصوص قد تكون خفية. فخص الله بفهمها بعض الناس. كما
قال عليّ «٢» : إلّا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه
. وقد يكون النص بيّنا ويذهل المجتهد عنه، كتيمم الجنب. فإنه بيّن في القرآن في آيتين. ولما «٣» احتج أبو موسى على ابن
(١)
أخرجها مسلم في: الطلاق، حديث ٣٦ وهذا نصها: عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة. وهو غائب. فأرسل إليها وكيله بشعير. فسخطته. فقال: والله! ما لك علينا من شيء.
فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له. فقال «ليس لك عليه نفقة» فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك. ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي. اعتدّي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى. تضعين ثيابك. فإذا حللت فآذنينى. قالت: فلما حللت ذكرت له، أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني. فقال رسول الله ﷺ «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه. وأما معاوية فصعلوك لا مال له.
انكحي أسامة بن زيد»
. فكرهته. ثم قال «انكحي أسامة» فنكحته فجعل الله فيه خيرا، واغتبطت.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: العلم، ٣٩- باب كتابة العلم، حديث ٩٥ ونصه: عن أبي جحيفة قال: قلت لعليّ: هل عندكم كتاب؟ قال: لا. إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر
. (٣)
أخرجه البخاريّ في: التيمم، ٧- باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش، تيمم، حديث ٢٣٣ ونصه: عن شقيق بن سلمة قال: كنت عند عبد الله وأبي موسى.
فقال له أبو موسى: أرأيت، يا أبا عبد الرحمن! إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع؟ فقال عبد الله: لا يصلي حتى يجد الماء. قال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمار، حين قال له النبيّ ﷺ «كان يكفيك» ؟ قال: ألم تر عمر يقنع بذلك؟ فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار. كيف تصنع بهذه الآية؟
فما دري عبد الله ما يقول.
فقال: إنا لو رخصنا لهم في هذا، لأوشك، إذا برد على أحدهم الماء، أو يدعه ويتيمم...
(قال الأعمش) : فقلت: لشقيق: فإنما كره عبد الله لهذا؟ قال: نعم.
[.....]
337
مسعود بذلك قال الحاضر: ما درى عبد الله ما يقول، إلا أنه قال: لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد البرد أن يتيمّم. وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر: إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطلاق: ١] وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة؟ وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: ١٩٦]. واحتج بهذه الآية من منع الفسخ. وآخرون يقولون: إنما أمر بالإتمام فقط. وكذلك أمر الشارع أن يتم. وكذلك في الفسخ قالوا: من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها. أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتى بما تم مما شرع فيه فإنه شرع ﷺ أصحابه عام حجة الوداع. وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: ٤٣]. ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه. وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جلي ولا خفيّ، فهذا ما أعرفه. والجدّ، لما قال أكثرهم: إنه أب، واستدلوا على ذلك بالقرآن بقوله: كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف: ٢٧]، وقال ابن عباس: لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمى أبا الأب جدّا لما قالت: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا [الجن: ٣]. نقول: إنما هو أب، لكن أب أبعد من أب. وقد روي عن عليّ وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقا فقد غلط. ومن ادعى أن من المسائل ما لم يتكلم أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط. بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم. فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها. ومن رأى دلالة الميزان ذكرها.
والدلائل الصحيحة لا تتناقض. لكن قد يخفى وجه اتفاقهما أو ضعف أحدهما على بعض العلماء. وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين. كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين. فإنهم شهدوا التنزيل وعاينوا الرسول. وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله ما يستدلون به على مرادهم، ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس. ومن قال من المتأخرين: إن الإجماع مستند معظم الشريعة، فقد أخبر عن حاله. فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك.
وهذا كقولهم: إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها.
فإنما هذا من قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها. فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام، حدثت جميع أجناس الأعمال.
338
فتكلموا فيها بالكتاب والسنة. وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة.
والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه. إذ هم أهل الإجماع، فلا إجماع قبلهم. لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح: اقض بما في كتاب الله.
فإن لم تجد، فبما في سنة رسول الله. فإن لم تجد، فبما قضى به الصالحون قبلك.
وفي رواية: فبما أجمع عليه الناس. فقدم عمر الكتاب ثم السنة: وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر. قدّم الكتاب ثم السنة، ثم الإجماع. وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب ثم بما في السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر.
لقوله «١» : اقتدوا باللّذين من بعدي: أبي بكر وعمر.
وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس. وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء. وهذا هو الصواب. ولكن طائفة من المتأخرين قالوا: يبدأ المجتهد ينظر أولا في الإجماع. فإن وجده لم يلتفت إلى غيره. وإن وجد نصّا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه. وقال بعضهم: الإجماع نسخه.
والصواب طريقة السلف. وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذاك منسوخ. فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة، وحفظت النص المنسوخ، فهذا لا يوجد قط. وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه. وإضاعة ما أمرت باتباعه. وهي معصومة عن ذلك. ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرا أو غالبا. فمن الذي يحيط بأقوال المجتهدين؟ بخلاف النصوص، فإن معرفتها ممكنة متيسرة. وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أوّلا. لأن السنة لا تنسخ الكتاب. فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة. بل إن كان فيه منسوخ، كان في القرآن ناسخه. فلا يقدم غير القرآن عليه. ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنّة. ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته. لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره. ولا تعارض السنة بإجماع. وأكثر ألفاظ الآثار. فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة. مع أنها فيها. وكذلك في القرآن. فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة. وإذا كان في السنة لم يكن ما فيه السنة معارضا لما في القرآن.
وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتابا ولا سنة. انتهى كلامه قدس الله روحه.
(١)
أخرجه الترمذيّ في: المناقب، ١٦- في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كليهما. ونصه:
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبيّ ﷺ فقال: «إني لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي» وأشار إلى أبي بكر وعمر.
339
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١٦]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦)
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قد مر الكلام على هذه الآية الكريمة في أوائل هذه السورة مطولا. قالوا: تكريرها إما تأكيدا وتشديدا أو لتكميل قصة طعمة، وقد مر موته كافرا. أو إن لها سببا آخر في النزول. على ما
رواه الثعلبيّ عن ابن عباس قال: جاء شيخ، إلى رسول الله ﷺ وقال: إني شيخ منهمك في الذنوب. إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به. ولم أتخذ من دونه وليّا. ولم أوقع المعاصي جراءة. وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا. وإني لنادم تائب. فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى؟ فنزلت.
واستظهر بعضهم الوجه الأخير قال: لأن التأكيد، مع بعد عهده، لا يقتضي تخصص هذا الموضع، فلا بدّ له من مخصص. وأغرب المهايميّ حيث جعلها مشيرة إلى شقي الآية الكريمة، حيث قال: ثم أشار إلى أن وعيد مشاقة الرسول جازم دون مخالفة الإجماع. لأن مشاقة الرسول دليل تكذيبه. وهو مستلزم للشرك بالله. إذ خلق المعجزات لا يكون إلا لكامل القدرة. ولا يكون إلا لإله. فإذا نفاها عن الله فقد أثبت له شريكا وأن الله لا يغفر أن يشرك به. ومخالفة الإجماع يجوز أن تكون مغفورة. لأنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، إذ لا تنتهي إلى الشرك. وكل هذه المناسبات دالة دون ذلك قطعا على دلالة هذه الآية، على أن ما سوى الشرك مغفور قطعا. سواء حصلت التوبة أو لم تحصل.
وقد روى الترمذيّ «١» عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
- الآية وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً. أي: عن الحق. فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة. وإنما ذكر في الآية الأولى فَقَدِ افْتَرى لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب. ومنشأ شركهم كان نوع افتراء. وهو دعوى التبني على الله تعالى بقولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قاله القاضي.
وفي (السمين) : ختمت الآية المتقدمة بقوله فَقَدِ افْتَرى وهذه بقوله
(١) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٢٣- حدثنا خلاد بن أسلم.
فَقَدْ ضَلَّ لأن الأولى في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بصحة نبوته، وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك وافتروا على الله. وهذه في شأن قوم مشركين ليس لهم كتاب ولا عندهم علم. فناسب وصفهم بالضلال.
وأيضا قد تقدم هنا ذكر الهدى وهو ضد الضلال. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١٧]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يعبد مشركو مكة ونحوهم من دون الله إِلَّا إِناثاً قال الرازيّ: (يدعون) بمعنى (يعبدون) لأن من عبد شيئا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه. انتهى.
وقد روى الإمام أحمد «١» وابن أبي شيبة وأصحاب السنن وغيرهم، عن النعمان ابن بشير أن رسول الله ﷺ قال: الدعاء هو العبادة. ورواه أبو يعلى عن البراء.
ورواه الترمذيّ «٢» عن أنس بلفظ: الدعاء مخ العبادة.
وفي قوله تعالى إِلَّا إِناثاً وجوه:
الأول- ما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: يعني أوثانا. وعليه فمرجع التسمية بالإناث كون أسماء غالبها مؤنثة. كمناة والعزّى واللات ونحوها. ولأنهم كانوا يلبسونها أنواع الحليّ ويزيّنونها على هيئات النسوان. وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومجاهد وأبي مالك والسدّيّ ومقاتل نحو ما لعائشة.
الوجه الثاني- أنه عنى الملائكة. لأن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون عنها: بنات الله. روى ابن جرير «٣» عن الضحاك في الآية: قال المشركون، للملائكة:
بنات الله. وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. قال: فاتخذوهن أربابا وصوروهن جواري فحكوا وقلّدوا وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده. يعنون الملائكة.
(١)
أخرجه في المسند ٤/ ٢٦٧ ونصه: عن النعمان بن بشير أن رسول الله ﷺ قال «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: ٦٠]
. (٢) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٢- سورة البقرة، ١٦- حدثنا هناد.
(٣) الأثر رقم ١٠٤٣٧ ونصه: عن الضحاك، في قوله: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً قال: الملائكة.
يزعمون أنهم بنات الله.
341
قال ابن كثير: وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم: ٢٧] الآيات وقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩]... الآية. وقال وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: ١٣٧] انتهى.
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى.
الوجه الثالث- ما رواه ابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب في الآية قال: مع كل صنم جنية.
الرابع- قال عليّ بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس والحسن: إناثا يعني موتى. قال الحسن: الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح. إما خشبة يابسة وإما حجر يابس. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير «١». وفي (القاموس. وشرحه) : الإناث جمع الأنثى. وهو خلاف الذكر من كل شيء. والموات الذي هو خلاف الحيوان.
كالشجر والحجر والخشب، عن اللحيانيّ. وعن الفراء: تقول العرب اللات والعزى وأشباههما من الآلهة المؤنثة. انتهى.
وقال الإمام أبو البقاء: قوله تعالى إِلَّا إِناثاً هو جمع أنثى على (فعال) ويراد به كل ما لا روح فيه من صخرة وشمس ونحوهما. ويقرأ (أنثى) على الإفراد. ودل الواحد على الجمع. ويقرأ (أنثا) مثل رسل فيجوز أن تكون صفة مفردة مثل امرأة جنب، ويجوز أن يكون جمع أنيث كقليب وقلب. وقد قالوا: حديد أنيث، من هذا المعنى. ويقرأ اثنا والواحد وثن وهو الصنم وأصله وثن، في الجمع كما في الواحد إلا أن الواو قلبت همزة لما انضمت ضمّا لازما وهو مثل أسد. وأسد. ويقرأ بالواو على الأصل جمعا. ويقرأ بسكون الثاء مع الهمزة والواو. انتهى.
قال البيضاوي: ولعله تعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيها على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثا. لأنه ينفعل ولا يفعل. ومن حق المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل، ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم وَإِنْ يَدْعُونَ أي: ما يعبدون من دون الله إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وهو إبليس لعنه الله لطاعتهم له في عبادتها. وإذا
(١) الأثر رقم ١٠٤٣٦ ونصه: عن الحسن إن يدعون من دونه إناثا قال: و (الإناث) كل شيء ميت ليس فيه روح: خشبة يابسة: أو حجر يابس. قال الله تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً، إلى قوله: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ.
342
أطاعوه فيما سوّل لهم فقد عبدوه. كما قال تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: ٦٠] وقال تعالى بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: ٤١] والمريد المتمرد العاتي الطاغي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١٨]
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨)
لَعَنَهُ اللَّهُ صفة ثانية ل (شيطانا) أي: أبعده الله عن رحمته. فأراد إبعاد من أبعد بسببه وَقالَ حين أبعد لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ أي: الذي أبعدتني بسببهم أي: لأجعلن لي منهم نَصِيباً أي: حظّا مَفْرُوضاً أي: مقطوعا ومقدرا من عبادتهم بأن يعبدوا غيرك، أو يراءوا فيها، أو يعجبوا بها، أو يتلفوها في المظالم، أو يحبطوها بالكفر بعدها.
قال العلامة أبو السعود. قوله تعالى وَقالَ إلخ عطف على الجملة المتقدمة أي: شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله، وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن.
ولقد برهن على أن عبادة الأصنام غاية الضلال بطريق التعليل بأن ما يعبدونها ينفعل ولا يفعل فعلا اختياريا. وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة. ثم استدل عليه بأن ذلك عبادة للشيطان وهو أفظع الضلال من وجوه ثلاثة: الأول- أنه منهمك في الغيّ لا يكاد يعلق بشيء من الخير والهدى. فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الحق. والثاني- أنه ملعون لضلاله. فلا تستتبع مطاوعته سوى اللعن والضلال. والثالث- أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالهم. فموالاة من هذا شأنه غاية الضلال، فضلا عن عبادته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١١٩]
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ أي: عن الهدى وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أي: الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال. قال الرازيّ: إن الشيطان لما ادعى أنه يضل الخلق قال وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الإضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق. وطلب ما يورث شيئين: الحرص والأمل. والحرص والأمل يستلزم أكثر
343
الأخلاق الذميمة. وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان.
قال «١» صلى الله عليه وسلم: يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص والأمل.
والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين. فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق. وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا. فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة وَلَآمُرَنَّهُمْ أي على خلاف أمرك إضلالا لهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي: فليقطعنها ويشقنها سمة وعلامة للبحائر والسوائب ليحرموها، بعد ما أحللتها. قال الواحديّ رحمه الله:
التبتيك، هاهنا، هو قطع آذان البحيرة، بإجماع المفسرين. وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، وجاء الخامس ذكرا ثم تسيّب وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها. فأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح. ولا يردّونها عن ماء ولا مرعى. وإذا لقيها المعيى المنقطع به لم يركبها. وسوّل لهم إبليس أن هذا قربة، وهي البحيرة. قال ابن سيده: بحر الناقة والشاة يبحرها: شق أذنها بنصفين. وقل بنصفين طولا وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ أي: دين الله عزّ وجلّ. رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وكثيرين. وهذا كقوله تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: ٣٠] على قول من جعل ذلك أمرا. أي: لا تبدلوا فطرة الله، ودعوا الناس على فطرتهم، كما
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال «٢» رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه
. كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء. هل تجدون بها من جدعاء؟
وفي صحيح مسلم «٣» عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال
(١)
أخرجه مسلم في: الزكاة، حديث ١١٥ ونصه: عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان. الحرص على المال والحرص على العمر»
. (٢)
أخرجه البخاريّ في: الجنائز، ٩٣- باب ما قيل في أولاد المشركين، حديث ٧١٦ ونصه: عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجّسانه. كمثل البهيمة تنتج البهيمة. هل ترى فيها جدعاء؟»
. (٣)
أخرجه مسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث ٦٣ ونصه: عن عياض بن حمار المجاشعيّ، أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا. كل مال نحلته عبدا، حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم.
وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. وحرّمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي، ما لم أنزل به سلطانا. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء.
344
الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.
وحرمت عليهم ما أحللت لهم.
وروى الإمام أحمد «١» والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجر قصبه في النار. وكان أول من سيّب السوائب وبحر البحيرة.
وروى الطبرانيّ عن ابن عباس مرفوعا: أول من غير دين إبراهيم عمرو بن لحي ابن قمعة بن خندف، أبو خزاعة.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس: أنه عنى بالآية خصي الدواب. وقال أنس: منه الخصا.
وقد روى ابن عساكر عن ابن عمر قال: نهى رسول الله ﷺ عن الإخصاء.
ورواه الإمام أحمد «٢» أيضا عنه بلفظ: نهى رسول الله ﷺ عن خصاء الخيل والبهائم.
وروى الطبرانيّ عن ابن مسعود: نهى النبيّ ﷺ أن يخصى أحد من ولد آدم.
وروى البيهقيّ عن ابن عباس: نهى النبيّ ﷺ عن صبر الروح وخصاء البهائم
. وقال الحسن: عنى بالآية الوشم (بالشين المعجمة) أخرجه ابن أبي حاتم.
روى الإمام أحمد «٣» عن أبي هريرة: نهى رسول الله ﷺ عن الوشم.
وفي الصحيح «٤»
تقرؤه نائما ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرق قريشا. فقلت: رب! إذا يثلغوا رأسي (أي: يشدخوه ويشقوه) فيدعوه خبزة (أي: كما يشدخ الخبز) قال: استخرجهم كما استخرجوك. واغزهم نغزك (أي: نعينك) وأنفق فسننفق عليك. وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك. قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفّق. ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال. قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له (أي: لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي) الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا.
والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دق إلا خانه. ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك». وذكر البخل أو الكذب «والشّنظير: الفحّاش»
. (١)
أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٢٧٥، ونصه: عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجرّ قصبه (يعني الأمعاء) في النار. وهو أول من سيّب السوائب».
وفي البخاري في: المناقب، ٩- باب قصة خزاعة، حديث ١٦٥٧.
ومسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث ٥١.
(٢)
أخرجه في المسند ص ٢٤ ج ٢ ونصه: عن ابن عمر قال: نهى رسول الله ﷺ عن إخصاء الخيل والبهائم
. وقال ابن عمر: فيها نماء الخلق.
(٣) أخرجه في المسند ٢/ ٣١٩.
(٤) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٥٧- سورة الحديد، ٤- باب وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، حديث ٢٠٥٥. [.....]
345
عن ابن مسعود: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات المتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله عز وجل. ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهو في كتاب الله عز وجل؟
يعني قوله وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
قال السيوطيّ في (الإكليل) : فيستدل بالآية على تحريم الخصاء والوشم وما يجري مجراه، من الوصل في الشعر. والتفلج، وهو تفريق الأسنان، والتنميص، وهو نتف الشعر في الوجه. انتهى.
قال بعض الزيدية: ويلحق بالوشر ما يفعل في الخدّ من الشرط للزينة. وحكى الزجاج عن بعضهم، في معنى الآية: إن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها، فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل. وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها، فعبدها المشركون فغيروا خلق الله. ولا يخفى أن عموم الآية يصدق على جميع المعاني. إذ كلها من تغيير خلق الله. فلا مانع من حمل الآية عليها. قال البيضاويّ: قوله فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ أي: عن وجهه وصورته، أو صفته. ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي، وخصاء العبيد، والوشم والوشر، واللواط، والسحق، ونحو ذلك. وعبادة الشمس والقمر، وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام. واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا، ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى. انتهى.
وهذه الجمل المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالا أو حالا. وما فيها من (اللامات) كلها للقسم. والمأمور به في الموضعين محذوف، ثقة بدلالة النظم عليه. ثم حذر تعالى عن متابعته فقال وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ بإيثار ما يدعو إليه، مجاوزا ولاية الله، بترك ما يدعو إليه فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي: بينا لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢٠]
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)
يَعِدُهُمْ بأنهم الفائزون وَيُمَنِّيهِمْ أي: ما لا ينالونه وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً باطلا وضلالا، وإيهام نفع مما ليس فيه إلا الضرر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢١]
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١)
أُولئِكَ أي: أولياء الشيطان مَأْواهُمْ مصيرهم ومآلهم يوم القيامة جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً معدلا ومفرّا. ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومآلهم من الكرامة فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢)
وَالَّذِينَ آمَنُوا أي: صدقت قلوبهم وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: عملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي: من تحت غرفها ومساكنها الْأَنْهارُ أنهار الخمر والماء واللبن والعسل خالِدِينَ فِيها مقيمين في الجنة. لا يموتون ولا يخرجون منها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا صدقا واقعا لا محالة. وكيف لا يكون وعد الله حقّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وعدا وخبرا. وهو استفهام بمعنى النفي. أي: لا أحد أصدق منه قيلا. لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وكان رسول الله ﷺ يقول «١» في خطبته: إن أصدق الحديث كلام الله. وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم. وشر الأمور محدثاتها. وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. وكل ضلالة في النار
والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه، بوعد الله الصادق لأوليائه. والمبالغة في توكيده ترغيبا للعباد في تحصيله. و (القيل) مصدر، كالقال والقول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢٣]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣)
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ أي: ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث
(١) أخرجه مسلم في: الجمعة، حديث ٤٣.
قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠] مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ. أي: من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وهذا وعيد للكفار لأنه قال بعده:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢٤]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ جملة حالية. و (من) الأولى زائدة عند الأخفش. وصفة عند سيبويه. أي: شيئا من الصالحات فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً
أي: لا ينقص من حسناتهم قدر نقير. وهو النقرة التي على ظهر النواة. وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم. ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان. والراجع في وَلا يُظْلَمُونَ لعمال السوء وعمال الصالحات جميعا. وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلا على ذكره عند الآخر. وقوله تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وقوله وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ بعد ذكر تمني أهل الكتاب كقوله سبحانه بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة: ٨١] وقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عقيب قوله وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً.
تنبيه:
ما قدمناه من أن الخطاب في قوله تعالى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ للمشركين وأن قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أي: من أهل الكتاب والمشركين- هو الذي يدل عليه سياق الآية ونظمها الكريم كما بينا. ورواه الطبريّ «١» عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن. قال الأولان رضي الله عنهما: (السوء) هاهنا هو الشرك. وقال الحسن: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً هو الكافر. ثم قرأ وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
ولما كان لعموم هذا الخطاب روعة، وأيّ روعة، أشفق كثير من الصحابة لأجله. قال ابن كثير: وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من
(١) عن ابن عباس، الأثر رقم ١٠٥١٨، وعن سعيد بن جبير، الأثر رقم ١٠٥١٩، وعن الحسن، الأثر رقم ١٠٥١١.
الصحابة.
قال الإمام أحمد «١» : حدثنا عبد الله بن نمير. حدثنا إسماعيل عن أبي بكر بن أبي زهير قال: أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! كيف الفلاح بعد هذه الآية لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فكل سوء عملنا جزينا به؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك، يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى. قال: هو مما تجزون به.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شق ذلك على المسلمين. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا. فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة. حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها. رواه سعيد بن منصور وأحمد «٢» ومسلم «٣» والترمذيّ والنسائيّ.
وقال عطاء بن يسار عن أبي سعيد وأبي هريرة، أنهما سمعا رسول الله ﷺ يقول: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه إلا كفر الله عن سيئاته. أخرجاه. «٤»
وروى ابن مردويه عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس قال قيل: يا رسول الله! من يعمل سوءا يجز به؟ قال: نعم. ومن يعمل حسنة يجز بها عشرا. فهلك من غلب واحدته عشراته
. القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢٥]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي: أخلص نفسه له تعالى فلم يتخذ ربا سواه. وَهُوَ مُحْسِنٌ أي آت بالحسنات تارك للسيئات. أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفيّ المستلزم لحسنها الذاتيّ. وقد فسر
(١) أخرجه في المسند ١/ ١١، والحديث رقم ٦٨- ٧١.
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٢٤٨، والحديث ٧٣٨٠.
(٣) أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث ٥٢.
(٤) أخرجه البخاريّ في: المرضى، ١- باب ما جاء في كفارة المرض حديث ٢٢٣٥- ٢٢٣٦.
ومسلم في: البر والصلة والآداب، حديث ٥٢.
349
النبيّ «١» ﷺ الإحسان
بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ الموافقة لدين الإسلام، المتفق على صحتها وقبولها حَنِيفاً أي: مائلا عن الشرك قصدا. أي: تاركا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكليته، لا يصده عنه صادّ، ولا يرده عنه رادّ.
قال الرازيّ: اعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمنا، شرح الإيمان وبين فضله من وجهين: أحدهما- أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى. والثاني- أنه الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام. وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام. أما الوجه الأول فاعلم أن دين الإسلام مبنيّ على أمرين:
الاعتقاد والعمل. أما الاعتقاد فإليه الإشارة بقوله أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وذلك لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع. والوجه أحسن أعضاء الإنسان. فالإنسان إذا عرف بقلبه ربه، وأقر بربوبيته وعبودية نفسه، فقد أسلم وجهه لله. وأما العمل فإليه الإشارة بقوله وَهُوَ مُحْسِنٌ ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات. فتأمل في هذه اللفظة المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض. وأيضا فقوله أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يفيد الحصر، معناه أنه أسلم نفسه لله وما أسلم لغير الله. وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق، وإظهار التبرئ من الحول والقوة. وأيضا ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله. فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. والدهرية والطبيعيون يستعينون بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها. واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم: إنهم من أولاد الأنبياء. والنصارى كانوا يقولون: ثالث ثلاثة. فجميع الفرق استعانوا بغير الله. وأما الوجه الثاني في بيان فضيلة الإسلام فهو أن محمدا ﷺ إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: ١٩]، وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة لصنم ولا استعانة بطبيعة. بل كان ديدنه الدعوة إلى الله والإعراض عن كل ما سوى الله.
وهكذا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل. وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم. وأما اليهود والنصارى فلا شك
(١) أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ٣٧- باب سؤال جبريل النبيّ ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، حديث ٤٦.
350
في كونهم مفتخرين به. وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولا عند الكل وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا أي: صفيّا خالص المحبة له. وإظهاره، عليه السلام، في موضع الإضمار، لتفخيم شأنه والتنصيص على أنه الممدوح. وسر هذه الجملة الترغيب في اتباع ملته عليه الصلاة والسلام. فإن من بلغ من الزلفى عند الله تعالى مبلغا مصححا لتسميته خليلا، حقيق بأن يكون اتّباع طريقته أهم ما يمتد إليه أعناق الهمم، وأشرف ما يرمق نحوه أحداق الأمم. فإن درجة الخلة أرفع مقامات المحبة.
وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه. كما صفه به في قوله: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: ٣٧] قال كثير من علماء السلف: أي: قام بجميع ما أمر به، وفي كل مقام من مقامات العبادة. فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير. ولا كبير عن صغير. وقال تعالى وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ... [البقرة: ١٢٤] الآية. وقال تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ...
[النحل: ١٢٠] الآية. والخليل، لغة، الصديق المختص. وقال ابن الأعرابيّ: الخليل الصادق. وقال الزجاج: هو المحب الذي لا خلل في محبته. وبه فسر الآية. أي:
أحبه محبة تامة لا خلل فيها. وقال ابن دريد: الخليل من أصفى المودة وأصحّها.
قال: ولا أزيد فيه شيئا لأنها في القرآن. انتهى.
قال الرازيّ: ذكروا في اشتقاق الخليل وجوها: منها أن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره. والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه. ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة. قيل: لما أطلع الله إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل، ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله، ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس، ومنعهم عن عبادة الأوثان، ثم سلّم للنيران، وولده للقربان، وماله للضيفان، جعله الله إماما للخلق ورسولا إليهم، وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته.
فلهذه الاختصاصات سماه خليلا، لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه. انتهى.
وقوله: (لأن محبة الله لعبده إلخ منزع كلاميّ لا سلفيّ).
ثم قال الرازيّ: وعندي وجه آخر. وهو أن جوهر الروح، إذا كان مضيئا مشرقا علويا قليل التعلق بالذات الجسمانية والأحوال الجسدانية، ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف، أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسماني، أفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية، صار مثل هذا الإنسان متوغلا في عالم القدس والطهارة، متبرئا عن علائق الجسم والحسّ. ثم لا يزال هذا الإنسان
351
يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا الله، ولا يتحرك إلا بالله، ولا يسكن إلا بالله، ولا يمشي إلا بالله فكأن نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية. وتخلل فيها وغاص في جواهرها. وتوغل في ماهياتها. فمثل هذا الإنسان هو الموصوف، حقا، بأنه خليل. لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه. وإليه الإشارة
بقول «١» النبيّ صلى الله عليه وسلم، في دعائه: اللهم! اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وفي عصبي نورا
. انتهى.
قال الإمام العلامة شمس الدين بن القيّم في كتابه (الجواب الكافي) : الخلة تتضمن كمال المحبة ونهايتها. بحيث لا يبقى في القلب سعة لغير محبوبه. وهي منصب لا يقبل المشاركة بوجه ما. وهذا المنصب خاصة للخليلين صلوات الله وسلامه عليهما: إبراهيم ومحمد. كما
قال صلى الله عليه وسلم: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا.
وفي الصحيح «٢» عنه صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن صاحبكم خليل الله.
وفي حديث «٣» آخر: إني أبرأ إلى كل خليل من خلته.
ولما سأل إبراهيم عليه السلام الولد، فأعطيه، فتعلق حبه بقلبه، فأخذ منه شعبة، غار الحبيب على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره. فأمر بذبحه. وكان الأمر في المنام ليكون تنفيذ المأمور به أعظم ابتلاء وامتحانا. ولم يكن
(١)
أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ١٨١ ونصه: عن ابن عباس قال: بت ليلة عند خالتي ميمونة. فقام النبيّ ﷺ من الليل. فأتى حاجته. ثم غسل وجهه ويديه. ثم نام. ثم قام فأتى القربة فأطلق شناقها (الشناق هو الخيط الذي تربط به في الوتد. وقيل: هو الوكاء) ثم توضأ وضوءا بين الوضوءين. ولم يكثر. وقد أبلغ. ثم قام فصلى فقمت فتمطيت كراهة أن يرى أني كنت أنتبه له. فتوضأت. فقام فصلى. فقمت عن يساره. فأخذ بيدي فأدارني عن يمينه.
فتتامّت صلاة رسول الله ﷺ من الليل ثلاث عشرة ركعة. ثم اضطجع. فنام حتى نفخ. وكان إذا نام نفخ. فأتاه بلال فآذنه بالصلاة. فقام فصلى ولم يتوضأ. وكان في دعائه «اللهم! اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، وعظّم لي نورا»
. (٢)
أخرجه البخاريّ في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ٥- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: لو كنت خليلا، حديث ٣١٢ ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ ﷺ قال «لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر. ولكن أخي وصاحبي».
وفيه أيضا عنه، قال: «لو كنت متخذا خليلا لاتخذته خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل».
(٣)
أخرجه ابن ماجة في المقدمة، ١١- باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث ٩٣، ونصه عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. إن صاحبكم خليل الله»
.
352
المقصود ذبح الولد. ولكن المقصود ذبحه من قلبه. ليخلص القلب للرب. فلما بادر الخليل عليه الصلاة والسلام إلى الامتثال، وقدم محبة الله على محبة ولده، حصل المقصود. فرفع الذبح وفدي بذبح عظيم. فإن الرب تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله رأسا. بل لا بد أن يبقى بعضه أو بدله. كما أبقى شريعة الفداء. وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة. وكما أبقى الخمس الصلوات بعد رفع الخمسين، وأبقى ثوابها. وقال: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: ٢٩]. هي خمس في الفعل وخمسون في الأجر. ثم قال ابن القيّم قدس سره: وأما ما يظنه بعض الظانين أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله ومحمد ﷺ حبيب الله، فمن جهله. فإن المحبة عامة والخلة خاصة. والخلة نهاية المحبة. وقد أخبر النبيّ ﷺ أن الله اتخذ إبراهيم خليلا. ونفى أن يكون له خليل غير ربه. مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم. وأيضا فإن الله سبحانه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة: ٢٢٢]، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: ٢٢٢]، ويُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: ١٤٦]، ويُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: ١٩٥]، ويُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: ٧٦]، ويُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: ٨]. وخلته خاصة بالخليلين عليهما الصلاة والسلام. والشاب التائب حبيب الله. وإنما هذا عن قلة العلم والفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقد تمسك من زعم أن المحبة أصفى من الخلة بما
رواه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله ﷺ ينتظرونه.
فخرج، حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون. فسمع حديثهم. وإذا بعضهم يقول:
عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا. فإبراهيم خليله. وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما. وقال الآخر: فعيسى روح الله وكلمته. وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم فسلم وقال: قد سمعت كلامكم وتعجبكم. أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك. وموسى كليمه. وعيسى روحه وكلمته. وآدم اصطفاه الله.
وهو كذلك. وكذلك محمد ﷺ قال: ألا وإني حبيب الله. ولا فخر. وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر. وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله لي ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر. وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر.
قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه. ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها. انتهى.
353
قلت: ورواه الترمذي «١» أيضا في جامعه في فضائله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: هذا حديث غريب.
وظاهر أن
قوله صلى الله عليه وسلم: ألا وإني حبيب الله،
لا يدل على أن درجة المحبة أرفع.
لأنه لم يورد للتفاضل بينهما. وإنما سيقت هذه الجملة مع ما بعدها للتعريف بقدره الجسيم، وفضله العظيم. وبيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق. وما يدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً [المدثر: ٣١]، وروى ابن أبي حاتم عن إسحاق بن يسار قال:
لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل. حتى إن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء. وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، إذا اشتد غليانها، من البكاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢٦]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جملة مبتدأة. سبقت لتقرير وجوب طاعة الله تعالى على أهل السموات والأرض، ببيان أن جميع ما فيهما من الموجودات، له تعالى خلقا وملكا. لا يخرج عن ملكوته شيء منها. فيجازي كلّا بموجب أعماله خيرا وشرّا. وقيل: لبيان أن اتخاذه عز وجل لإبراهيم عليه السلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأن من شؤونه كما هو دأب الآدميين. فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم. بل لمجرد تكرمته وتشريفه عليه السلام. وقيل: لبيان أن الخلة لا تخرجه عن رتبة العبودية. وقيل: لبيان أن اصطفاءه عليه السلام للخلة، بمحض مشيئته تعالى. أي: له تعالى ما فيهما جميعا. يختار منهما ما يشاء لمن يشاء. أفاده أبو السعود.
وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً يعني عالما علم إحاطة. لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ [يونس: ٦١].
(١) أخرجه الترمذيّ في: المناقب، ١- باب في فضل النبيّ صلى الله عليه وسلم، حدثنا علي بن نصر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢٧]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي: ويسألونك الإفتاء في النساء. والإفتاء تبيين المبهم، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ذكروا في (ما) وجوها:
المختار منها أنها في موضع رفع بالعطف على المبتدأ، وهو لفظ الجلالة. أي:
والمتلوّ في الكتاب يفتيكم فيهن أيضا. أو بالعطف على ضميره في يُفْتِيكُمْ وساغ، لمكان الفصل بالمفعول والجارّ والمجرور. وذلك المتلوّ في الكتاب هو قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ قال الرازيّ: وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء.
فما كان منها غير مبين الحكم، ذكر أن الله يفتيهم فيها. وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة، ذكر أن تلك الآيات المتلوّة تفتيهم فيها. وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب. ألا ترى أنه يقال في المشهور: إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم. وكما جاز هذا، جاز أيضا أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا. قال أبو السعود: وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامها و (في الكتاب) إما متعلق ب (يتلى) أو بمحذوف وقع حالا من المستكنّ فيه. أي يتلى كائنا فيه فِي يَتامَى النِّساءِ متعلق ب (يتلى) أي: ما يتلى عليكم في شأنهن. وهذه الإضافة بمعنى (من) لأنها إضافة الشيء إلى جنسه. وقيل: من إضافة الصفة إلى الموصوف.
أي: النساء اليتامى اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ أي: ما وجب لهن من الميراث وغيره وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ روى البخاريّ «١» ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت، في هذه الآية: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليّها ووارثها. فأشركته في ماله حتى في العذق. فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٤- باب قوله: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ، الحديث ١٢٣٤.
355
شركته. فيعضلها. فنزلت هذه الآية. وعنها «١» أيضا قالت: وقول الله عز وجل وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره. حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط. من أجل رغبتهم عنهن. وهذا المرويّ عن عائشة يدل على أن الآية نزلت في المعدمة. وأن الجار المقدّر مع (أن) هنا هو (عن). وقد تأولها سعيد بن جبير على المعنيين. أي تقدير (عن) و (في) فقال نزلت في المعدمة والغنية.
قال الحافظ ابن حجر: والمرويّ عن عائشة أوضح، في أن الآية الأولى، أي:
التي في أول السورة، نزلت في الغنية. وهذه الآية نزلت في المعدمة. قال ابن كثير:
والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزوجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله أن يمهرها، أسوة أمثالها من النساء. فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء. فقد وسع الله عز وجل. وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة. وتارة لا يكون له فيها رغبة، لدمامتها عنده، أو في نفس الأمر. فنهاه الله عز وجل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها. كما قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية، وهي قوله فِي يَتامَى النِّساءِ الآية: كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه. فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا. فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت. فإذا ماتت ورثها. فحرّم الله ذلك ونهى عنه.
(١)
أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١- باب وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا، حديث ١٢٣٤ ونصه: عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى، فقالت: يا ابن أختي! هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها. فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق. فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية، فأنزل الله:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ.
قالت عائشة: وقول الله في آية أخرى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ: رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. قالت: فنهوا أن ينكحوا عن من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، إذا كن قليلات المال والجمال.
356
تنبيه:
ما ذكرناه عن ابن جبير من حمل الآية على المعنيين، أي: أن حرف الجر المقدّر مع (أن) هو (عن) و (في)، وأن كلا منهما مراد منها على سبيل البدل لصلاحيتها لهما بالاعتبارين المتقدمين. قال الخفاجيّ: مثله لا يعدّ لبسا بل إجمالا.
كما ذكره بعض المحققين. انتهى.
قلت: وهذا بناء على أن اللبس هو أن يدل اللفظ على غير المراد. والإجمال أن لا تتضح الدلالة. وبعبارة أخرى: إيراد الكلام على وجه يحتمل أمورا متعددة. وقد نظم بعضهم الفرق بينهما فقال:
والفرق بين اللّبس والإجمال مما به يهتمّ في الأقوال
فاللفظ، إن أفهم غير القصد، فاحكم على استعماله بالرد
لأنه اللّبس. وأما المجمل فربما يفهمه من يعقل
وذاك أن لا تفهم المخالفا ولا سواه بل تصير واقفا
وحكمه القبول في الموارد فاحفظه نظما أعظم الفوائد
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف (على يتامى النساء). وما يتلى في حقهم: قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ... إلخ. وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم كما لا يورثون النساء. وإنما يورثون الرجال القوّام. قال ابن عباس، في الآية: كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات. وذلك قوله لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ فنهى الله عن ذلك. وبيّن لكل ذي سهم سهمه.
فقال لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ صغيرا أو كبيرا. وكذا قال سعيد بن جبير وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ بالجر، عطف على ما قبله. وما يتلى في حقهم: قوله تعالى وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: ٢] ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر. قال سعيد بن جبير: المعنى: كما أنها إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات مال وجمال، فانكحها واستأثر بها. والخطاب للولاة، أو للأولياء والأوصياء.
تنبيه:
استنبط من الآية أحكام: الأول- جواز نكاح الصغيرة. لأن اليتيم: الصغير
357
الذي لم يبلغ.
وفي الحديث عنه ﷺ أنه قال: لا يتم بعد احتلام. رواه أبو داود «١».
وعن الأصم: أراد البوالغ قبل التزوج. وسماهن باليتم لقرب عهدهن باليتم. والأول أظهر. لأنه الحقيقة. قالوا: قد يطلق اليتيم على البالغة. وبدليل
قوله «٢» صلى الله عليه وسلم: تستأمر اليتيمة في نفسها. فإن سكتت فهو إذنها. وإن أبت فلا جواز عليها. رواه أهل السنن
. والاستئمار لا يكون إلا من البالغة. وقد ورد قول الشاعر:
إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى
فسمى البالغات يتامى، لانفرادهن عن الأزواج. وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له يتيم. كقولهم: درة يتيمة. وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء: الأولى- جواز نكاح الصغيرة لجميع الأولياء. وهذا مذهب الهادوية ومالك وأبي حنيفة وصاحبيه.
الثاني- للناصر والشافعيّ: لا يجوز ذلك إلا للأب والجد. والثالث- لا يجوز ذلك إلا للأب فقط. وهذا قول الأوزاعيّ. ومرويّ عن القاسم. دليل الأولين، ما اقتضاه قوله تعالى وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وهي نزلت في شأن اليتيمة ينكحها وليها ولا يقسط لها في المهر. فنهوا عن ذلك وأمروا أن يقسطوا في المهر بقوله في سورة النساء وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ واليتم الحقيقيّ مع الصغر. وغيره مجاز. وأدنى الأولياء الذي يجوز له النكاح، ابن العم.
فإذا صح فيه صح. وحجة القول الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: تستأمر اليتيمة. الحديث المتقدم.
والإذن لا يكون إلا بعد البلوغ.
وروى الإمام أحمد والدّارقطنيّ: أن قدامة بن مظعون زوّج ابنة أخيه، وكان وصيّها، ممن أبته. فرفع ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها
. كذا ذكره بعض مفسري الزيدية.
وتخريج الأحاديث من زيادتي. وما نقله من أن الإذن لا يكون إلا بعد البلوغ يحتاج إلى دليل. إذ لا يدل عليه الخبر بمنطوقه ولا مفهومه.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وفي حديث: لا تنكح الأيّم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن: ظاهر الحديث اشتراط رضاء المزوجة. بكرا كانت أو ثيبا. صغيرة أو كبيرة. انتهى.
(١)
أخرجه في: الوصايا، ٩- باب ما جاء متى ينقطع اليتم، حديث ٢٨٧٣ ونصه: عن عليّ بن أبي طالب قال: حفظت عن رسول الله ﷺ «لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل»
. [.....] (٢)
أخرجه أبو داود في: النكاح، ٢٣- باب في الاستئمار، حديث ٢٠٩٣ ونصه: عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله ﷺ «تستأمر اليتيمة في نفسها. فإن سكتت فهو إذنها. وإن أبت فلا جواز عليها»
.
358
قال الترمذيّ «١» في (جامعه) : قال بعضهم: لا يجوز نكاح اليتيمة حتى تبلغ.
وقال أحمد وإسحاق: إذا بلغت اليتيمة سبع سنين فزوجت فرضيت فالنكاح جائز.
ولا خيار لها إذا أدركت. واحتجا بحديث عائشة أن النبيّ ﷺ بنى بها وهي بنت تسع سنين. وقد قالت عائشة: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. انتهى.
الحكم الثاني- أنه يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد في النكاح. لقوله وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وقد روى ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد، أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه قد خطبني غير واحد. فزوجني أيّهم رأيت. قال: وتجعلين ذلك إليّ؟ فقالت: نعم. قال: قد تزوجتك. قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه. وروى عبد الرزاق ووكيع والبيهقيّ أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليّها. فأمر أبعد منه، فزوجه.
وروى عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: امرأة خطبها ابن عم لها، لا رجل لها غيره. قال: فلتشهد أن فلانا خطبها، وإني أشهدكم أني قد نكحته.
ولتأمر رجلا من عشيرتها.
أخرج هذه الآثار الثلاثة البخاري في (صحيحه) تعليقا في (باب إذا كان الوليّ هو الخاطب) أي: هل يزوج نفسه أو يحتاج إلى وليّ آخر.
قال ابن المنير: ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معا، ليكل الأمر في ذلك إلى نظر المجتهد.
قال الحافظ ابن حجر: لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز. فإن الآثار التي فيها أسر الوليّ غيره أن يزوجه- ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه.
(١)
أخرجه الترمذيّ في: النكاح، ١٩- باب ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «اليتيمة تستأمر في نفسها. فإن صمتت فهو إذنها. وإن أبت فلا جواز عليها»
يعني إذا أدركت فردّت جاز.
قال: وفي الباب عن أبي موسى وابن عمر وعائشة. (قال أبو عيسى) : حديث أبي هريرة حديث حسن. واختلف أهل العلم في تزويج اليتيمة. فرأى بعض أهل العلم أن اليتيمة إذا زوجت فالنكاح موقوف حتى تبلغ. فإذا بلغت فلها الخيار في إجازة النكاح أو فسخه. وهو قول بعض التابعين وغيرهم. وقال بعضهم: لا يجوز نكاح اليتيمة حتى تبلغ، ولا يجوز الخيار في النكاح. وهو قول سفيان الثوريّ والشافعيّ وغيرهما من أهل العلم. وقال أحمد وإسحاق: إذا بلغت اليتيمة تسع سنين فزوجت فرضيت فالنكاح جائز. ولا خيار لها إذا أدركت. واحتجا بحديث عائشة أن النبيّ ﷺ بنى بها وهي بنت تسع سنين. وقد قالت عائشة: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.
359
ثم قال: وقد اختلف السلف في ذلك. فقال الأوزاعيّ وربيعة والثوريّ ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه: يزوّج الوليّ نفسه. ووافقهم أبو ثور. وعن مالك: لو قالت الثيب لوليّها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه، أو ممن اختار، لزمها ذلك. ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعيّ: يزوجهما السلطان أو وليّ آخر مثله، أو أقعد منه. ووافقه زفر وداود. وحجتهم أن الولاية شرط في العقد. فلا يكون الناكح منكحا، كما لا يبيع من نفسه. انتهى.
الحكم الثالث- أنه يجوز للأولياء التصرف في المال. لأن القيام بالقسط لا يتم إلا بذلك وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ لا سيما في حق الضعفاء من حفظ أموالهم والقيام بتدبيرهم والإقساط لهم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجزيكم به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢٨]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها أي: زوجها نُشُوزاً أي: تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها، بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها أَوْ إِعْراضاً أي: تطليقا. أو أن يقلّ محادثتها ومجالستها. كراهة لها أو لطموح عينه إلى أجمل منها فَلا جُناحَ أي لا إثم عَلَيْهِما حينئذ أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً بحطّ شيء من المهر أو النفقة. أو هبة شيء من مالها أو قسمها، طلبا لبقاء الصحبة إن رضيت بذلك. وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها. قال في (الإكليل) : الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القسم وغيره. استدل به من أجاز لها بيع ذلك وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أي من الفرقة والنشوز والإعراض. قال ابن كثير: بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى.
ولهذا جاء
في الحديث الذي رواه أبو داود «١» وابن ماجة «٢» عن عبد الله بن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
قال بعض مفسري الزيدية: وفي هذه الآية حث على الصبر على نفس الصحبة. لقوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أي:
(١) أخرجه في: الطلاق، ٣- باب في كراهية الطلاق، حديث ٢١٧٨.
(٢) أخرجه في: الطلاق، ١- باب حدثنا سويد بن سعيد، حديث ٢٠١٨.
360
من الفرقة وسوء العشرة. أو خير من الخصومة. أو خير من الخيور. كما أن الخصومة شر من الشرور. وقد كان من كرم أخلاقه ﷺ «١» أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها.
وعنه ﷺ «٢» : إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه
. وهذا فيه صبر. وفي الصبر ما لا يحصر من المحاسن والفضائل. والصلح فيه من أنواع الترغيب.
روى عنه صلى الله عليه وسلم: من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد.
وعن أنس: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة.
انتهى.
وفي (الإكليل) : قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ عام في كل صلح، أصل فيه.
وفي الحديث «٣» : الصلح جائز بين المسلمين. إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا.
واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار والمجهول وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ بيان لما جبل عليه الإنسان. أي: جعلت حاضرة له مطبوعة عليه، لا تنفك عنه أبدا. فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز، والإعراض، وحقوقها من الرجل. ولا الرجل في إمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي، إذا كرهها أو أحب غيرها. والجملة
(١) أخرجه البخاريّ في: مناقب الأنصار، ٢٠- باب تزويج النبيّ ﷺ خديجة، وفضلها رضي الله عنها، حديث ١٧٨٩ وها هو بطرقه الثلاث:
١- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة للنبيّ ﷺ ما غرت على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني، لما كنت أسمعه يذكرها. وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب. وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن.
٢- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، من كثرة ذكر رسول الله ﷺ إياها. قالت: وتزوجني بعدها بثلاث سنين. وأمره ربه عز وجل. أو جبريل عليه السلام، أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب.
٣-
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النبيّ ﷺ ما غرت على خديجة. وما رأيتها. ولكن كان النبيّ ﷺ يكثر ذكرها. وربما ذبح الشاة ثم يقطّعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة. فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة! فيقول «إنها كانت وكانت. وكان لي منها ولد»
. (٢)
أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، ٤- باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم، ونحوهما، حديث ١١ ونصه: عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة. فسلّم عليه عبد الله. وحمله على حمار كان يركبه. وأعطاه عمامة كانت على رأسه.
فقال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله! إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير.
فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودّا (أي: صديقا من أهل مودته) لعمر بن الخطاب. وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن أبر صلة الولد أهل ود أبيه»
. (٣) أخرجه أبو داود في: الأقضية، ١٢- باب في الصلح، حديث ٣٥٩٤.
361
الأولى للترغيب في المصالحة. والثانية لتمهيد العذر في المشاحة وللحث على الصلح. فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبليّة بغير استمالة، مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته. وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير، ولا يكلفها بذل الكثير، فيتحقق بذلك الصلح وَإِنْ تُحْسِنُوا في العشرة وَتَتَّقُوا النشوز والإعراض ونقص الحق فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من تحمل المشاق في ذلك خَبِيراً فيجازيكم ويثيبكم. قال أبو السعود: وفي خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ (التقوى) المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم عليه- من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة، ما لا يخفى.
وما قدمنا في تفسير الآية هو زبدة ما نقل عن السلف، صحابة وتابعين في معناها.
قال ابن كثير: ولا أعلم في ذلك خلافا. وفي البخاريّ «١» عن عائشة، في هذه الآية قالت: الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها. يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلّ. فنزلت هذه الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن خالد ابن عرعرة قال: جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فسأله عن قول الله عز وجل: وَإِنِ امْرَأَةٌ... الآية، قال عليّ: يكون الرجل عنده المرأة. فتنبو عينه عنها من دمامتها، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها، فتكره فراقه. فإن وضعت له من مهرها شيئا، حلّ له. وإن جعلت له من أيامها، فلا حرج. وكذا رواه أبو داود الطيالسيّ «٢» وابن جرير
. وروى ابن جرير «٣» أيضا عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها. فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها. فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وروى سعيد بن منصور عن
(١) أخرجه في: الطلاق، ٩٥- باب وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً، حديث ١٢٠٦ ونصه: عن عائشة رضي الله عنها: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً.
قالت: هي المرأة تكون عند الرجل، لا يستكثر منها. فيريد طلاقها ويتزوج غيرها. تقول له:
أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري. فأنت في حل من النفقة عليّ والقسمة لي.
فذلك قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ.
(٢) الأثر رقم ١٠٥٧٥.
(٣) الأثر رقم ١٠٥٧٩.
362
عروة قال: أنزل في سودة وأشباهها: وَإِنِ امْرَأَةٌ الآية وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت. ففرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وضنّت بمكانها منه وعرفت من حب رسول الله ﷺ عائشة ومنزلتها منه. فوهبت يومها من رسول الله ﷺ لعائشة. فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى نحوه أبو داود «١» الطيالسيّ والترمذيّ عن ابن عباس.
وروى الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت له: يا ابن اختي! كان رسول الله ﷺ لا يفضّل بعضنا على بعض في القسم في مكثه عندنا. وكان قلّ يوم إلا وهو يطوف علينا. فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها. فيبيت عندها. ولقد قالت سودة بنت زمعة، حين أسنّت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله! يومي هذا لعائشة. فقبل ذلك رسول الله ﷺ منها.
قالت: نقول في ذلك أنزل الله تعالى، وفي أشباهها، أراه قال: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً...
الآية. وكذلك رواه أبو داود «٢». وفي الصحيحين «٣» عن عائشة قالت: لما كبرت سودة بنت زمعة، وهبت يومها لعائشة. فكان النبيّ ﷺ يقسم لها بيوم سودة. ولا يخفى أن قبوله ﷺ ذلك من سودة، إنما هو لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه. فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام.
وقول بعض المفسرين في هذه القصة: أن النبيّ ﷺ كان عزم على طلاق سودة- باطل وسوء فهم من القصة. إذ لم يرو عزمه ﷺ على ذلك. لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد. غاية ما روي في السنن أن سودة خشيت الفراق لكبرها.
وتوهمته. وجليّ أن للنساء في باب الغيرة أوهاما منوعة. فتقدمت للنبيّ ﷺ بقبول ليلتها لعائشة. فقبل منها. وما رواه ابن كثير عن بعض المعاجم من كونه ﷺ بعث إليها بطلاقها، ثم ناشدته فراجعها- فهو (زيادة عن إرساله وغرابته، كما قاله) فيه نكارة لا تخفى.
لطيفة:
حكى الزمخشريّ هنا أن عمران بن حطان الخارجيّ كان من أدمّ بني آدم.
وامرأته من أجملهم. فأجالت في وجهه نظرها يوما. ثم تابعت الحمد لله. فقال:
(١) أخرجه في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٢٦- حدثني محمد بن المثنى.
(٢) أخرجه في: النكاح، ٣٨- باب في القسم بين النساء، حديث ٢١٣٥.
(٣) أخرجه البخاريّ في: النكاح، ٩٨- باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، وكيف يقسم ذلك؟ حديث ١٢٦٦.
363
مالك؟ قالت: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة. قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت. ورزقت مثلك فصبرت. وقد وعد الله الجنة، عباده الشاكرين والصابرين. انتهى.
قلت: عمران المذكور ممن خرّج له البخاريّ في صحيحه. ولما مات سئلت زوجته عن ترجمته؟ فقالت: أوجز أم أطنب؟ فقيل: أوجزي. فقالت: ما قدمت له طعاما بالنهار، وما مهدت له فراشا بالليل. تعني أنه كان صوّاما قوّاما رحمه الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٢٩]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أي: تساووا بينهن في جميع الوجوه، بحيث لا يقع ميل مّا إلى جانب إحداهن، في شأن من الشؤون. فإنه وإن وقع القسم الصوريّ ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع. كما قاله ابن عباس وغيره وَلَوْ حَرَصْتُمْ أي على إقامة العدل، وبالغتم في ذلك. لأن الميل يقع بلا اختيار في القلب.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ يقسم بين نسائه، فيعدل. ثم يقول: اللهم! هذا قسمي فيما أملك. فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. يعني القلب. رواه الإمام أحمد «١» وأهل السنن
فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي: إذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل إليها. وقال المهايميّ: فلا تميلوا، أي عن امرأة كل الميل فتتركوا المستطاع من القسط فَتَذَرُوها أي: التي ملتم عنها كَالْمُعَلَّقَةِ بين السماء والأرض. لا تكون في إحدى الجهتين. لا ذات زوج ولا مطلقة.
وروى أبو داود «٢» الطيالسيّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شدقيه ساقط.
(١) أخرجه في المسند ٦/ ١٤٤.
وأخرجه أبو داود في: النكاح، ٤٨- باب في القسم بين النساء، حديث ٢١٣٤. [.....]
(٢) أخرجه في مسنده، حديث ٢٤٥٤ وروايته (شقيه) وفي ابن كثير ١/ ٥٦٤ (شقيه) وهو الصواب بخلاف النسخة التي نقل عنها شيخنا المؤلف.
وأخرجه النسائي في السنن في: عشرة النساء، ٢- باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض.
كذا رأيته في (ابن كثير) شدقيه، بشين معجمة ثم دال.
ورواية أصحاب السنن المنقولة: وشقه (بمعجمة ثم قاف) ساقط. وفي رواية:
مائل وَإِنْ تُصْلِحُوا أي نفوسكم بالتسوية والقسمة والعدل فيما تملكون وَتَتَّقُوا الحيف والجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فيغفر لكم ما سلف من ميلكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣٠]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)
وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي الزوج والمرأة بالطلاق، بأن لم يتفق الصلح بينهما، فاختارا الفرقة يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا أي: منهما. أي يجعله مستغنيا عن الآخر مِنْ سَعَتِهِ أي:
غناه وجوده وقدرته. وفيه زجر لهما عن المفارقة رغما لصاحبه، وتسلية لهما بعد الطلاق وَكانَ اللَّهُ واسِعاً أي: واسع الفضل حَكِيماً في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣١]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جملة مستأنفة منبهة على كمال سعته وعظم قدرته أي: كيف لا يكون واسعا وله ما فيهما من الخلائق والأرزاق وغيرهما؟
فله أن يعطي ما شاء منهما لمن شاء من عبيده. وعلى هذا، فهي متعلقة بما قبلها. أو أتى بها تمهيدا لما بعدها من العمل بوصيته، إعلاما بأنه مالك ما في السموات والأرض والحاكم فيهما. ولهذا قال وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي:
من الأمم السابقة. والْكِتابَ اسم جنس يتناول الكتب السماوية وَإِيَّاكُمْ معطوف على (الذين) أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي: وصينا كلّا منكم ومنهم بالتقوى. وهي عبادته وحده. لا شريك له. والمعنى: أن وصيته قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، ولستم بها مخصوصين. لأنهم بالتقوى يسعدون عنده وَإِنْ تَكْفُرُوا أي: بالله فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: فهو مالك الملك كله. لا يضره كفركم.
لغناه المطلق. فما الوصية إلا لفلاحكم رحمة بكم. كما في الآية الأخرى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: ٨]، وقال تعالى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: ٦] وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن عباده حَمِيداً أي: محمودا في ذاته، حمدوه أو لم يحمدوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣٢]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ذكره ثالثا، إما لتقرير كونه تعالى غنيا حميدا فإن جميع المخلوقات تدل، بحاجتها على غناه. وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات، على كونه حميدا. وإما تمهيدا للاحقه من الشرطية.
وهو بيان كونه تعالى قادرا على جميع المقدورات. أي: له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا. فهو قادر على الإفناء والإيجاد. فإن عصيتموه، أيها الناس، فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية. وعلى أن يوجد قوما آخرين يشتغلون بعبادته وتعظيمه. فذكر هذه الكلمات في هذا المقام ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور في سياقها. كما بيّنا. قال الرازيّ: إذا كان الدليل الواحد دليلا على مدلولات كثيرة، فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات. ثم يذكر مرة أخرى ليستدل به على الثاني. ثم ثالثا ليستدل له على المدلول الثالث. وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة. لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول. فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى. فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال. وأيضا، فإذا أعدته ثلاث مرات، وفرّعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله، تنبّه الذهن حينئذ لكون تخليق السموات والأرض دالّا على أسرار شريفة ومطالبه جليلة. فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى. ولما كان الغرض الكليّ من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام، عن الاشتغال بغير الله، إلى الاستغراق في معرفة الله، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده. لا جرم كان في غاية الحسن والكمال. انتهى.
وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي: ربّا حافظا توكل بالقيام بجميع ما خلق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣٣]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي: يفنكم ويستأصلكم بالمرّة أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي: ويوجد، دفعة مكانكم، قوما آخرين من البشر. أو خلقا آخرين مكان الإنس يعني أن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولعدم تعلق مشيئته المبنيّة على الحكم بالبالغة بإفنائكم. لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ أي: إهلاككم بالمرة وتخليق غيركم قَدِيراً بليغ القدرة، كما قال تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد صلى الله عليه وسلم: ٣٨]. وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم: ١٩]. ففيه تقرير لغناه وقدرته، وتهديد لمن كفر به. قال بعض السلف، ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره!
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣٤]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يجاهد للغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي: فما له يطلب أخسهما. فليطلبهما، أو الأشرف منهما. كما قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ [البقرة: ٢٠٠- ٢٠٢]. وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ... [الشورى: ٢٠] الآية. وقال تعالى:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ... [الإسراء: ١٨] الآية.
قال بعضهم: عني بالآية مشركو العرب. فإنهم كانوا يقرون بالله تعالى، خالقهم، ولا يقرون بالبعث يوم القيامة. وكانوا يتقربون إلى الله تعالى ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً فلا يخفى عليه خافية. ويجازي كلّا بحسب قصده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥)
367
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أي مقتضى إيمانكم المبالغة والاجتهاد في القيام بالعدل والاستقامة. إذ به انتظام أمر الدارين الموجب لثوابهما.
ومن أشده القيام بالشهادة على وجهها. فكونوا شُهَداءَ لِلَّهِ أي: مقيمين للشهادة بالحق، مؤدين لها لوجهه تعالى، ولو كانت الشهادة عَلى أَنْفُسِكُمْ فاشهدوا عليها بأن تقروا بالحق عليها ولا تكتموه أَوِ على الْوالِدَيْنِ أي الأصول وَالْأَقْرَبِينَ أي الأولاد والإخوة وغيرهم. فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم.
فإن الحق حاكم على كل أحد إِنْ يَكُنْ أي: من تشهدون عليه غَنِيًّا يبتغي في العادة رضاه ويتقي سخطه أَوْ فَقِيراً يترحم عليه غالبا. أو يخاف من الشهادة عليه أن يلجئ الأمر إلى أن يعطي ما يكفيه فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي: من المشهود عليه، واعلم بما فيه صلاحهما. فلولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها. لأن أنظر لعباده من كل ناظر فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا أي: إرادة العدول عن أمر الله الذي هو مصلح أموركم، وأمور المشهود عليهم، لو نظرتم ونظروا إليه.
قال ابن كثير: أي: لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم، على ترك العدل في شؤونكم. بل الزموا العدل على أي حال كان. كما قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨] ومن هذا قول عبد الله بن رواحة «١»، لما بعثه النبيّ ﷺ يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله! لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ. ولأنتم أبغض إليّ من أعدائكم من القردة والخنازير. وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض وَإِنْ تَلْوُوا أي: تحرفوا ألسنتكم عن الشهادة على وجهها أَوْ تُعْرِضُوا أي: عنها بكتمها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم على ذلك. قال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: ٢٨٣].
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ٣٦٧، ونصه: عن جابر بن عبد الله أنه قال: أفاء الله عز وجل خيبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأقرّهم رسول الله ﷺ كما كانوا. وجعلها بينه وبينهم. فبعث عبد الله ابن رواحة فخرصها عليهم. ثم قال لهم: يا معشر اليهود! أنتم أبغض الخلق إليّ. قتلتم أنبياء الله عز وجل، وكذبتم على الله. وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم. قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر. فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. قد أخذنا فاخرجوا عنا.
368
تنبيه:
قال بعض مفسري الزيدية: لهذه الآية ثمرات. هي أحكام: الأول- وجوب العدل على القضاة والولاة. وأن لا يعدل عن القسط لأمر تميل إليه النفوس وشهوات القلوب من غنى أو فقر أو قرابة. بل يستوي عنده الدنيء والشريف والقريب والبعيد. ويروى أن عمر أقام حدّا على ولد له. فذاكره في حق القرابة. فقال: إذا كان يوم القيامة شهدت عند الله أن أباك كان يقيم عليك الحدود. الحكم الثاني- أنه يجب الإقرار على من عليه الحق ولا يكتمه. لقوله تعالى: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ والمراد بالشهادة على النفس الإقرار. وهذا ظاهر. وقيل المعنى: ولو كانت الشهادة وبالا ومضرة على أنفسكم وآبائكم. بأن تكون الشهادة على سلطان ظالم. وهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء إذا خشي مضرة دون القتل، هل يجب عليه الشهادة أم لا؟ فقيل: يجب لأنه لا يحفظ ماله بتلف مال غيره. وعن الشافعية والمتكلمين، وصحح للمذهب، أنه لا يجب. لأن الشهادة أمر بمعروف، وشرطه أن لا يؤدي إلى منكر. ولكن إنما يسقط عنه أداء الشهادة بحصول الظن لمضرته، لا بمجرد الخشية. وقد قال المؤيد بالله في (الإفادة) : على الشاهد أن يشهد وإن خشي على نفسه وماله. لأن الذي يخشاه مظنون. ولعله غير كائن. يؤول على أن مراده مجوّز لا أنه قد ظن حصول المضرة. وهذا يجوز له الشهادة مع الخشية على نفسه، قال في (شرح الإبانة) :
يجوز إذا كان قتله إعزازا للدين. كالنهي عن المنكر. أمّا لو كتم لغير عذر فلا إشكال في عصيانه. وعن ابن عباس: ذلك من الكبائر. الحكم الثالث- يتعلق بقوله تعالى شُهَداءَ لِلَّهِ أي: تشهدون لوجه الله كما أمركم. وفي هذا دلالة على أن أخذ الأجرة على تأدية الشهادة لا يجوز. لأنه لم يقمها لله. وقد استثنى أهل الفقه صورا جوّزوا أخذ الأجرة على تأدية الشهادة. منها: إذا طلب إلى موضع. لأن الخروج غير واجب عليه. ومنها: إذا كان غيره يشهد ويحصل به الحق، فإن شهادته غير لازمة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا أي: اثبتوا على إيمانكم بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم. يعني القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ على
الرسل، بمعنى الكتب وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً أي: خرج عن الهدى وبعد عن القصد كل البعد. ما الكفر بالله فظاهر.
وأما بالملائكة فلأنهم المقربون إليه. وأما بالكتب فلأنها الهادية إليه. وأما بالرسل فلأنهم الداعون إليه. وأما باليوم الآخر فلأن فيه نفع إقامته وضرر تركه. فإذا أنكر لزم إنكار النفع الحقيقيّ والضرر الحقيقيّ فهو الضلال البعيد. ثم الكفر بالملائكة كفر بمظاهر باطنة. وبالكتب كفر بمظاهر صفة كلامه. وبالرسل كفر بأتم مظاهره. وباليوم الآخر كفر بدوام ربوبيته وعدله. ثم الكفر بالملائكة يدعو إلى الإيمان بالشياطين.
وبكتب الله إلى الإيمان بكتب الكفرة. وبالرسل إلى تقليد الآباء، وباليوم الآخر إلى الاجتراء على القبائح. وكل ذلك ضلال بعيد. أفاده المهايميّ. ولما أمر تعالى بالإيمان ورغب فيه، بيّن فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا في الآية وجوه: الأول- أن المراد الذين تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله. لأن قول أولئك، الذين هذا ديدنهم، قلوب قد ضريت بالكفر ومرنت على الردّة. وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى. وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة، ونصحت توبتهم، لم يقبل منهم ولم يغفر لهم. لأن ذلك مقبول. حيث هو بذل للطاقة واستفراغ الوسع. ولكنه استبعاد له واستغراب. وإنه أمر لا يكاد يكون. وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع، ثم يتوب ثم يرجع، فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات. والغالب أنه يموت على الفسق. فكذا هنا. الثاني- قال بعضهم: هم اليهود. آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا حين عبدوا العجل. ثم آمنوا بعد عوده إليهم ثم كفروا بعيسى والإنجيل. ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد أورد على هذا الوجه أن الذين ازدادوا كفرا بمحمد ﷺ ليسوا مؤمنين بموسى. ثم كافرين بالعجل، ثم مؤمنين بالعود، ثم كافرين بعيسى. بل هم إما مؤمنون بموسى وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى والإنجيل. والجواب: أن هذا إنما يرد لو أريد قوم بأعيانهم:
370
الموجودين وقت البعثة. أما لو أريد جنس ونوع، باعتبار عدّ ما صدر من بعضهم كأنّه صدر من كلهم، فلا إيراد. والمقصود حينئذ استبعاد إيمانهم لما استقر منهم ومن أسلافهم. الثالث- قال آخرون: المراد المنافقون. فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام.
وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم. وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم. والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا إنا مؤمنون. والكفر الثاني هو أنهم إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: ١٤]. وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين.
وإظهار الإيمان قد يسمى إيمانا. قال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] : قال القفال رحمه الله: وليس المراد بيان هذا العدد. بل المراد ترددهم. كما قال: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ. قال: والذي يدل عليه، قوله تعالى بعد هذه الآية: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ. الرابع- قال قوم: المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى. على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: ٧٢]، وقوله ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام.
نقل هذه الوجوه الزمخشريّ والرازيّ وغيرهما. وكلها مما يشمله لفظ الآية.
تنبيه:
في الآية مسائل:
الأولى- قال في (الإكليل) : استدل بها من قال: تقبل توبة المرتد ثلاثا. ولا تقبل في الرابعة.
وقال بعض الزيدية (تفسيره) : دلت على أن توبة المرتد تقبل. لأنه تعالى أثبت إيمانا بعد كفر، تقدمه إيمان.
وأقول: دلالتها على ذلك في صورة عدم تكرار الردة. وأما معه، فلا. كما لا يخفى.
ثم قال: وعن إسحاق: إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته، وهي رواية الشعبيّ عن عليّ عليه السلام. انتهى.
وذهبت الحنابلة إلى أن من تكررت ردته لم تقبل توبته. كما أسلفنا ذلك في آل عمران في قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً... [آل عمران: ٨٦]، الآية.
371
وقوله بعدها: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً... [آل عمران: ٩٠]، وذكرنا، ثمة، أن هذه الآية كتلك الآية. وأن ظاهرهما يشهد لما ذهب إليه إسحاق وأحمد. وأما الوجوه المسوقة هنا فهي من تأويل أكثر العلماء القائلين بقبول توبة المرتد، وإن تكررت. وبعد. فالمقام دقيق. والله أعلم.
الثانية- دلت على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان. فوجب أن يكون الإيمان نصّا كذلك. لأنهما ضدان متنافيان. فإذا قبل أحدهما التفاوت، قبله الآخر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣٨]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨)
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ من باب التهكم بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً فإنهم آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن. ويدل على مقارنة إيمانهم للكفر ترجيحهم جانب الكفرة في المحبة إذ هم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٣٩]
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي: يتخذونهم أنصارا مجاوزين موالاة المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي: أيطلبون بموالاتهم القوة والغلبة. وهذا إنكار لرأيهم وإبطال له. وبيان لخيبة رجائهم. ولذا علله بقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي: له الغلبة والقوة. فلا نصرة لهم من الكفار. والنصرة والظفر كله من الله تعالى. وهذا كما قال تعالى في آية أخرى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: ٨].
قال ابن كثير: والمقصود، من هذا، التهييج على طلب العزة من جناب الله، والإقبال على عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ويناسب هنا أن نذكر
الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي ريحانة. أنّ النبيّ ﷺ قال: من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وكرما، فهو عاشرهم في النار. تفرد به أحمد «١».
(١) أخرجه في المسند ٤/ ١٣٤.
وأبو ريحانة هذا هو أزديّ واسمه (شمعون) بالمعجمة فيما قاله البخاريّ.
وقال غيره: بالمهملة والله أعلم.
تنبيه:
قال الحاكم: دلت الآية على وجوب مولاة المؤمنين، والنهي عن موالاة الكفار.
قال: والمنهيّ عن موالاتهم في الدين فقط. وقد ذكر المؤيد بالله، قدس الله روحه، معنى هذا. وهي: أن تحبه لما هي عليه. وهذا ظاهر. وهو يرجع إلى الرضا بالكفر، وما أحبه لأجله.
فأما الخلطة فليست موالاة. وقد جوز العلماء رحمه الله نكاح الفاسقة.
وكذلك الإحسان. فقد مدح الله من أطعم الأسارى. وجوّز كثير منهم الوصية لأهل الذمة. وكذلك الاغتمام بغمه في أمر، كاغتمام المسلمين لغلب فارس للروم. كذا في تفسير بعض الزيدية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤٠]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ قال المفسرون: إن المشركين بمكة كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به. فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم بقوله: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: ٦٨]. وهذه الآية من سورة الأنعام. وهي مكية.
فامتنع المسلمون عن القعود معهم. ولما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين. وكان اليهود يستهزئون بالقرآن. فنزلت هذه الآية وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ. يعني في سورة الأنعام أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها يعني يجحد بها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وفيها دلالة على أن المنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن خوطب به خاصة، منزل على الأمة وأن مدار الإعراض عنهم، هو العلم بخوضهم في الآيات. ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع. وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم. لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أي: إذا قعدتم معهم دل على رضاكم
373
بالكفر بالآيات والاستهزاء بها. فتكونون مثلهم في الكفر واستتباع العذاب.
فاجتماعكم بهم هاهنا سبب اجتماعكم في جهنم. كما قال إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً لأنهم لما شاركوهم في الكفر، واجتمعوا على الاستهزاء بالآيات في الدنيا، جمعهم الله في عذاب جهنم يوم القيامة.
تنبيه:
قال بعض مفسري الزيدية: اعلم أنه لا خلاف في تحريم القعود والمخالطة، إذا كان ذلك يوهم بأن القاعد راض. ولا خلاف أنه يحرم إذا خشي الافتتان. ولا خلاف أنه يجوز القعود للتنكير عليهم والدفع لهم.
قال الحاكم: ولذلك يحضر العلماء مع أهل الضلالة يناظرونهم. ولهم بذلك الثواب العظيم. وأما إذا خلا عما ذكرنا، وكان لا يوهم بالرضا ولا يفتتن ولا ينكر عليهم، فاختلف العلماء في ذلك. فمنهم من أوجب المثل. لظاهر الآية.
قال الحاكم: روي «١» أن قوما أخذوا على شراب في عهد عمر بن عبد العزيز.
فأمر بضربهم الحدّ. فقيل: فيهم صائم. فتلا قوله تعالى: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ إلى قوله إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ. وهذا أيضا ظاهر حديث: لا يحل لعين ترى الله يعصى، فتطرف حتى تغير وتنتقل.
وقال أبو عليّ وأبو هاشم: إن أنكر بقلبه لم يجب عليه أكثر من ذلك. وجاز له القعود، يعني مع عجزه عن الإنكار باليد أو باللسان، وعدم تأثير ذلك.
أقول: ما قالاه مخالف لظاهر الآية. فلا عبرة به.
وقال القاضي والحاكم: أما لو كان له حق في تلك البقعة، فله أن لا يفارق.
كمن يحضر الجنائز مع النوح، أو الولائم. فيسمع المنكر فيسعه أن يقعد. والنكير على قدر الإمكان واجب عليه. وعن الحسن: لو تركنا الحق للباطل لبطل الشرع.
وقد كان خرج إلى جنازة، خرجت النساء فيها فلم يرجع. ورجع ابن سيرين. انتهى.
أقول: من له حق في البقعة، فعليه أن يفارق كغيره. إذ ليس في مفارقته ضياع حقه. وعموم الآية يشمله، ولا تخصيص إلا بمخصص. والمسألة المقيس عليها غير ما نحن فيه. على ما فيها من الخلاف. كما حكى. ولا قياس مع النص. وقد حكى
(١) الأثر رقم ١٠٧٠٩ من تفسير الطبريّ.
374
الحاكم أقوالا كلها ترجع إلى تخصيص الآية. ولا مستند فيها إلا الرأي، والاحتمال.
فلذا أعرضنا عنها.
قال أبو عليّ: تحريم القعود في المجلس لما فيه من الإبهام. فإذا أظهر الكراهة جاز القعود في مكان آخر، وإن قرب. وأما إذا خاضوا في حديث غيره، جاز القعود.
بمفهوم الآية. ثم إن الآية محكمة عند الجمهور. وروي عن الكلبيّ، أنها منسوخة بقوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٦٩]. وهو مردود. فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها.
قال الحاكم: دلت الآية على أن الراضي بالاستهزاء بالرسول والدين، كافر. لأنه تعالى قال إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ودلت على أن الرضا بالكفر كفر.
وقال السمرقنديّ: في هذه الآية دليل على أن من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم، فيكون معهم في الوزر سواء. وينبغي أن ينكر عليهم، إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها. فإن لم يقدر أن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وروى ابن جرير عن الضحاك أنه قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة.
وقال في (فتح البيان) : وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب، دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقيص والاستهزاء، للدلالة الشرعية. كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة. ولم يبق في أيديهم سوى (قال إمام مذهبنا:
كذا) و (قال فلان من أتباعه بكذا) أو إذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبويّ، سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا، ولا بالوا به بالة.
وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع. وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع. مع أن الأئمة، الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم، برءاء من فعلهم.
فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم. انتهى.
وفي (الإكليل) : قال ابن الفرس. واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب اجتناب أهل المعاصي والأهواء. وفي هذه الآية أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر، والتنبيه عليه. انتهى. وقوله تعالى.
375
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤١]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ إما بدل من الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ وإما صفة للمنافقين:
أي: ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو هزيمة فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أي:
نصر وتأييد وظفر وغنيمة قالُوا لكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي: مظاهرين لكم، فلنا دخل في فتحكم، فليكن لنا شركة في غنيمتكم وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي:
إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان، كما وقع يوم أحد، فإن الرسل تبتلي ثم تكون لها العاقبة قالُوا أي: الكفرة توددا إليهم، ومصانعة لهم، ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم لضعف إيمانهم أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن ثبطناهم عنكم، وتوانينا في مظاهرتهم حتى انتصرتم عليهم. وإلا لكنتم نهبة للنوائب. وتسمية (ظفر المسلمين) فتحا، و (ما للكافرين) نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين.
قال في (الانتصاف) : وهذا من محاسن نكت القرآن. فإن الذي كان يتفق للمسلمين فيه، استئصال لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤها. وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا. فالتفريق بينهما أيضا مطابق للواقع. والله أعلم.
قال بعض الزيدية: في الآية دلالة على وجوب محبة نصرة المؤمنين وكراهة أن تكون اليد عليهم. وتحريم خذلانهم. وإن المنافق لا سهم له. لأن في الآية إشارة إلى أنهم طلبوا لما منعوا، فقالوا: ألم نكن معكم؟ ثم قال. يجوز التأليف من الغنيمة للمنافقين، كما فعل الرسول ﷺ يوم حنين. حتى أعطى الواحد منهم مائة ناقة، والواحد من المسلمين الشاة أو البعير. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي حكما يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب. أي: فلا يغترّ المنافقون بحقن دمائهم في الدنيا لتلفظهم بالشهادة. لما له تعالى في ذلك من الحكمة. فيوم القيامة لا ينفعهم ظواهرهم. وقوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ردّ على المنافقين فيما أمّلوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين. وفيما سلكوه من
مصانعتهم الكافرين خوفا على أنفسهم منهم، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم. كما قال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ إلى قوله نادِمِينَ [المائدة: ٥٢]. أي: لن يسلط الله الكافرين على المؤمنين فيستأصلوهم بالكلية. وإن حصل لهم ظفر حينا مّا. أفاده ابن كثير وهذا التأويل روعي فيه سابق الآية ولا حقها، وأن السياق في (المنافقين) وهو جيد. ويقرب منه ما في تفسير ابن عباس من حمل (الكافرين) على يهود المدينة. ومن وقف مع عمومها، قال: المراد بالسبيل الحجة. وتسميتها (سبيلا) لكونها موصلا للغلبة. أو المراد: ما دام المؤمنون عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر. كما قال تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠]. قال: فلا يراد أنه قد يدال للكافرين.
تنبيه:
قد يستدل بهذه الآية على أن الكافر لا ينكح مؤمنة. وأنه لا يلي على مؤمنة في نكاح ولا سفر. وأن الكافر لا يشفع المؤمن. وهذا قول الهادي في (الأحكام) والنفس الزكية والراضي بالله. وروي مثله عن الحسن الشعبيّ وأحمد. وقال في (المنتخب) والمؤيد بالله والحنفية والشافعية: له الشفعة. لعموم أدلة الشفعة.
وبالقياس على رد المعيب فيما شرى من مسلم. ويستدل بأن المرتد تبين منه امرأته المسلمة. والخلاف: هل بنفس الردة كما يقول الحنفية، أو بانقضاء العدة كما يقول المؤيد بالله والشافعية؟ وكذلك بيع العبد المسلم من الذميّ. أجازه الحنفية ومنعه المؤيد والشافعية. لكن على الأول، يجبر على بيعه، فلا يستخدمه. قيل: والأمة مجمع على تحريم بيعها من الكافر إذا كانت مسلمة. ولا خلاف أن الآية مخصوصة بأمور. منها: الدّين يثبت للكافر على المؤمن. ومنها: أنه ينفق المؤمن على أبويه الكافرين ونحو ذلك. وإذا خص العموم فقد اختلف الأصوليون: هل تبقى دلالته على الباقي حقيقة أم مجازا؟ انتهى. وزاد بعض المفسرين: إن الكافر لا يرث المسلم. وإن المسلم لا يقتل بالذميّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤٢]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢)
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي: يفعلون ما يفعل المخادع من
377
إظهار الإيمان وإبطان الكفر. والله يفعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع. حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ
أي: أتوها قامُوا كُسالى
أي: متثاقلين كالمكر على الفعل. قال ابن كثير: هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها.
وهي الصلاة. إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها. لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها، ولا خشية، ولا يعقلون معناها. كما روى ابن مردويه عن عطاء عن ابن عباس قال: يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان. ولكن يقوم إليها طلق الوجه عظيم الرغبة شديد الفرح. فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه، يغفر له ويجيبه إذا دعاه.
ثم يتلو هذه الآية: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
انتهى.
قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أن من علامات المنافق الكسل في الصلاة.
والكسل: التثاقل عن الشيء لمشقته. فهذه الآية في صفة ظواهرهم كما قال وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة: ٥٤]، ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة فقال يُراؤُنَ النَّاسَ
أي: يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ليحسبوهم مؤمنين. لا لإخلاص ومطاوعة أمر الله. ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا.
كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس. كما
ثبت في الصحيحين «١» أن رسول الله ﷺ قال: إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر. ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام. ثم آمر رجلا فيصلي بالناس. ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار.
وفي رواية «٢» : والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء. ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم.
وروى الحافظ وأبو يعلى عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة. استهان بها ربّه عز وجل
. وقوله وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
فيه وجوه: الأول- معناه ولا يصلون إلا قليلا لأنهم إنما يصلون رياء ما دام من يرقبهم. فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا. وتأويل (الذكر) بالصلاة، روي في غير ما آية عن السلف. الثاني- ولا يذكرون الله في
(١) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٢٥٢ عن أبي هريرة.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الأذان، ٢٩- باب وجوب صلاة الجماعة، حديث ٤٠٨ عن أبي هريرة.
378
صلاتهم إلا قليلا. لأنهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون. بل هم في صلاتهم ساهون لا هون.
وقد روى الإمام مالك «١» عن العلاء بن عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك صلاة المنافق. تلك صلاة المنافق. تلك صلاة المنافق.
يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا. وكذا رواه مسلم والترمذيّ والنسائيّ
. الثالث- معناه: ولا يذكرون الله بالتهليل والتسبيح إلا ذكرا قليلا في الندرة. على أن الذكر بمعناه المتبادر منه.
وعليه، فمن علامات النفاق استغراق الأوقات بحديث الدنيا، وقلة ذكره تعالى بتحميد أو تهليل أو تسبيح. كما أن من صفات المؤمنين ذكر الله تعالى كثيرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤٣]
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من فاعل (يراؤن) أو منصوب على الذم و (ذلك) إشارة إلى الإيمان والكفر. المدلول عليهما بمعونة المقام. أو إلى (المؤمنين والكافرين)، فيكون ما بعده تفسيرا له. أي: مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان والهوى. وحقيقة المذبذب الذي يذبّ عن كلا الجانبين. أي: يذاد ويدفع، فلا يقرّ في جانب واحد. إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب. كأنّ المعنى كلما مال إلى جانب ذبّ عنه لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي: لا منضمين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين. ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين. وقال مجاهد:
لا إِلى هؤُلاءِ، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وَلا إِلى هؤُلاءِ، يعني اليهود. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه وحجته فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي: طريقا إلى الصواب والهدى.
روى الشيخان عن ابن عمر عن النبيّ ﷺ قال «٢» : مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين: تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة: «العائرة المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع».
(١)
أخرجه في الموطأ في: القرآن، حديث ٤٦ ونصه: عن العلاء بن عبد الرحمن قال: دخلنا على أنس ابن مالك بعد الظهر. فقام يصلّي العصر. فلما فرغ من صلاته، ذكرنا تعجيل الصلاة، أو ذكرها، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «تلك صلاة المنافقين. تلك صلاة المنافقين. تلك صلاة المنافقين. يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس، وكانت بين قرني الشيطان، أو على قرن الشيطان، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا»
. (٢) أخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ١٧.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً هذا نهي عن موالاة الكفرة. يعني مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم. كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: ٢٨]. أي: يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه. ولهذا قال هاهنا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي: حجة عليكم في عقابكم بموالاتكم إياهم. وقد دلت الآية على تحريم موالاة المؤمنين للكافرين. قال الحاكم: وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه. لا المخالقة والإحسان. قال الزمخشريّ: وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر. فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن. وأنه يحق عليك أن تخالص المؤمن. قال أبو السعود: وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: أتجعلون... إلخ، للمبالغة في إنكار ذلك، وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر على العاقل إرادته، فضلا عن صدور نفسه. كما في قوله عز وجل: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ [البقرة: ١٠٨].
لطيفة:
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: كل سلطان في القرآن حجة. وكذا قال غيره من أئمة التابعين. قال محمد بن يزيد: هو من (السليط). وهو دهن الزيت لإضاءته. أي: فإن الحجة من شأنها أن تكون نيّرة. وفي (البصائر) إنما سمى الحجة سلطانا لما يلحق من الهجوم على القلوب. لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤٥]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥)
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ قرئ بسكون الراء وفتحها الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي الطبق الذي في قعر جهنم. والدرك كالدرج. إلا أنه يقال باعتبار الهبوط. والدرج
باعتبار الصعود. وإنما عوقبوا بذلك لأنهم أخبث الكفرة. إذ ضموا إلى الكفر استهزاء بالإسلام وخداعا للمسلمين.
قال الرازيّ: وبسبب أنهم لمّا كانوا يظهرون الإسلام، يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك. فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين. فلهذه الأسباب عوقبوا بذلك. ونقل عن ابن الأنباريّ أنه قال: إنه تعالى أخبر عن آل فرعون بقوله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: ٤٦]، وعن المنافقين بما في هذه الآية. فأيهما أشد عذابا؟ فأجاب: بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل. وقد اجتمع فيه الفريقان. والله أعلم.
روى الترمذيّ «١» عن الحسن قال: قال عتبة بن غزوان على منبر البصرة، إن النبيّ ﷺ قال: إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما، وما تفضي إلى قرارها
. وكان عمر رضي الله عنه يقول: أكثروا ذكر النار. فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد.
وروى الترمذيّ «٢» عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً أي: ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤٦]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي: عن النفاق وَأَصْلَحُوا أي: أعمالهم وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي: وثقوا به بترك موالاة الكفار وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فلم يبق لهم فيه تردد.
ولم يريدوا بطاعتهم إلا وجهه سبحانه، لا رياء الناس كما كانوا قبل. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيّز الصلة. وما فيه من معنى البعد، للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة. أي: لعلو رتبتهم بهذه الأمور لا يكونون في درك من النار فضلا عن الأسفل، بل مع المؤمنين المستمرين على الإيمان بلا نفاق. أي: معهم في درجات الجنان. وقد بيّن ذلك بقوله سبحانه وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ثوابا وافرا في الجنة. فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. وحذفت
(١) أخرجه الترمذيّ في: صفة جهنم، ٢- باب ما جاء في صفة قعر جهنم.
(٢) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٢١- سورة الأنبياء، ١- حدثنا عبد بن حميد.
(الياء) في الخط هنا اتباعا للفظ. لسكونها وسكون اللام بعدها. ومثله: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: ٦]، و: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨]، و: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ [ق: ٤١] ونحوها. فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين. فجاء الرسم تابعا للّفظ. والقراء يقفون عليه دون ياء، اتباعا للخط الكريم. إلا يعقوب والكسائيّ وحمزة. فإنهم يقفون بالياء، نظرا إلى الأصل. كذا في (الفتح).
تنبيه:
قال الزمخشريّ: فإن قلت: من المنافق؟ قلت: هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. وأما تسمية من ارتكب ما يفسق به ب (المنافق) فللتغليظ،
كقوله «١» : من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا.
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «٢» : ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان
. وقيل لحذيفة رضي الله عنه: من المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وقيل لابن عمر: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه. فقال: كنا نعده من النفاق:
انتهى كلامه.
أقول: قول الزمخشريّ (فللتغليظ) يوجد مثله لثّلة من شراح الحديث وغيرهم. وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله: هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه أدنى عالم أن ينسب إليه. وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر. انتهى. وقال بعض المحققين: عليك أن تقر الأحاديث كما وردت، لتنجو من معرة الخطر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤٧]
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ قال أبو السعود: هو استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم، وجودا وعدما، إنما هو كفرهم. لا شيء آخر. فيكون مقررا
(١) قال في (الجامع الصغير) : رواه الطبرانيّ في (الأوسط) عن أنس. وقال العزيزيّ: إسناده حسن.
(٢)
أخرجه مسلم في: الإيمان، عن أبي هريرة. وهذا نصه: الحديث رقم ١٠٧ «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».
لما قبله من إثابتهم عند توبتهم. و (ما) استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده. أي: أيّ شيء يفعل الله سبحانه بتعذيبكم؟ أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثار؟ أم يستجلب به نفعا؟ أم يستدفع به ضررا؟ كما هو شأن الملوك. وهو الغنيّ المتعالي عن أمثال ذلك. وإنما هو أمر يقتضيه كفركم. فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر، انتفى التعذيب لا محالة. وتقديم (الشكر) على (الإيمان) لما أنه طريق موصل إليه. فإن الناظر يدرك أوّلا ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكرا مبهما. ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً الشكر منه تعالى المجازاة والثناء الجميل. كما في (القاموس). ويرحم الله ابن القيم حيث يقول في (الكافية الشافية) :
وهو الشكور فلن يضيّع سعيهم لكن يضاعفه بلا حسبان
ما للعباد عليه حق واجب هو أوجب الأجر العظيم الشان
كلا ولا عمل لديه ضائع إن كان بالإخلاص والإحسان
إن عذّبوا فبعدله، أو نعّموا فبفضله، والحمد للرحمن
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤٨]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨)
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي: لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالقبيح من القول إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء. فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه، حتى إنه يجيب دعاءه. ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة. فما نقل عن السلف هنا من ذكر نوع منه، فليس المراد حصر معنى الآية فيه. بل القصد تنبيه المستمع على النوع. فمن ذلك ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس «١» في الآية، يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما. فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه. وذلك قوله إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وإن صبر فهو خير له. ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق وابن إسحاق وهنّاد بن السريّ عن مجاهد قال: هي في رجل أضاف رجلا فأساء قراه، فتحول عنه.
فجعل يثني عليه بما أولاه. فرخص له أن يثني عليه بما أولاه. وفي رواية عنه: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن. وفي
(١) تفسير الطبريّ، الأثر رقم ١٠٧٤٩.
383
رواية: هو الضيف المحول رحله. فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.
قال ابن كثير: وقد روى الجماعة (سوى النسائيّ والترمذيّ) عن عقبة بن عامر «١» قال: قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا. فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم.
وروى الإمام أحمد «٢» عن المقدام أبي كريمة عن النبيّ ﷺ أنه قال: أيما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقا على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله.
وروى هو وأبو داود «٣» عنه أيضا. سمع رسول الله ﷺ يقول: ليلة الضيف واجبة على كل مسلم.
فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه. فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه
. ومن هذا القبيل
الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبيّ ﷺ فقال: إن لي جارا يؤذيني. فقال له: أخرج متاعك فضعه على الطريق. فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق. فكل من مرّ به قال: ما لك؟ قال جاري يؤذيني.
فيقول: اللهم! العنه. اللهم! أخزه. قال فقال الرجل: ارجع إلى منزلك. والله! لا أوذيك أبدا. ورواه أبو داود «٤» في كتاب الأدب.
وقال عبد الكريم بن مالك الجزريّ، في هذه الآية. هو الرجل يشتمك فتشتمه. ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه. لقوله تعالى وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: ٤١]. وقال قطرب: معنى الآية: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول، من كفر أو نحوه. فهو مباح له. وسئل المرتضى عنها فقال: لا يحب الله ذلك ولا يجيزه لفاعله. إلا من ظلم. وذلك مثل ما كان من مردة قريش وفعلهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من العقاب والضرب، ليشتموا رسول الله ﷺ ويتبرءوا منه. ففعل ذلك عمار. فخلّوه وصلبوا صاحبه. فأطلق لمن فعل به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه. وفي عمار وصاحبه نزل قول الله في سورة النحل: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [النحل: ١٠٦]. فكانت هذه الآية مبينة لما في قلب عمار من شحنه بالإيمان. انتهى.
(١) أخرجه البخاريّ في: الأدب، ٨٥- باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه، حديث ١٢١٣. [.....]
(٢) أخرجه في المسند ١/ ٤٥٤.
(٣) أخرجه في المسند ٤/ ١٣٠.
(٤) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٢٣- باب في حق الجوار، حديث ٥١٥٣.
384
وكل هذا مما تشمله الآية بعمومها. وما نقله السمرقنديّ وغيره عن الفراء في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أن إِلَّا بمعنى (لا) يعني: ولا من ظلم- فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه: فإن الآية صريحة في أنه يجوز للمظلوم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه. ويؤيده
الحديث الذي رواه الإمام أحمد «١» وأبو داود والنسائيّ وابن ماجة والحاكم، عن الشريد بن سويد عن رسول الله ﷺ أنه قال «٢» : ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته.
وأما من لم يظلم فجهره بالسوء داخل في الغيبة المحظورة.
فوائد:
قال بعض مفسري الزيدية: أفادت الآية جواز الجهر بالدعاء على الظالم والجهر بمساويه. ودلت على أن من جهر بكلمة الكفر مكرها، لم يكفر. لأنه مظلوم. وإذا ثبت بطلان حكم لفظ (الكفر) مع الظلم، فكذا يلزم في سائر الأحكام من البيع والعتاق والطلاق والإقرار. ثم قال: والمحبة هاهنا بمعنى الإباحة. لا أن ذلك يريده الله تعالى.
أقول: هذه نزغة اعتزالية.
ثم قال: وتسميته سوءا، لكونه يسوء المقول فيه. وإلا فليس بقبيح في هذه الحال.
ثم قال: وقول من قال (إلا) هنا بمعنى (الواو) أي: ومن ظلم، مثل:
وكل أخ مفارقه أخوه... لعمر أبيك إلا الفرقدان
فخلاف الظاهر. انتهى.
وقد نقل في معنى هذه الآية حكم ونوادر بديعة. قال الشعبيّ: يعجبني الرجل إذا سيم هونا، دعته الأنفة إلى المكافأة. وجزاء سيئة سيئة مثلها، فبلغ كلامه الحجاج فقال: لله دره! أي رجل بين جنبيه! وتمثل:
ولا خير في عرض امرئ لا يصونه... ولا خير في حلم امرئ ذل جانبه
وقال أعرابيّ لابن عباس رضي الله عنهما: أتخاف عليّ جناحا إن ظلمني رجل
(١) أخرجه في المسند ٤/ ٢٢٢.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الاستقراض، ١٣- باب لصاحب الحق مقال.
385
فظلمته؟ فقال له: العفو أقرب للتقوى. فقال: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ.
وقال المتنبي:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا اتّسعت في الحلم طرق المظالم
لطيفة:
الاستثناء في قوله تعالى إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إما متصل أو منقطع. فعلى الأول فيه وجهان: الأول- قول أبي عبيدة: هذا من باب حذف المضاف، أي: إلا جهر من ظلم. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والثاني- قول الزجاج: المصدر هاهنا بمعنى الفاعل. أي: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم. وعلى أنه منقطع، فالمعنى لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته.
وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه ويعلم ظلم ظالمه. كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: ٤٢]. ووعيد له أيضا بأن يتعدّى في الجهر المأذون فيه.
بل ليقل الحق ولا يقذف بريئا بسوء فإنه يصير عاصيا لله بذلك. ثم حث سبحانه على العفو بعد ما جوّز الجهر بالسوء وجعله محبوبا، حثّا على الأحب إليه والأفضل عنده. وإلا دخل في الكرم والتخشع والعبودية، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٤٩]
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أي: طاعة وبرّا أَوْ تُخْفُوهُ أي: تعملوه سرّا أَوْ تَعْفُوا أي: تتجاوزوا عَنْ سُوءٍ أي: ظلم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أي: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام. فعليكم أن تقتدوا بسنة الله بالعفو مع القدرة. فثمرة هذه الآية الحث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء، وإن كان على وجه الانتصار، حملا على مكارم الأخلاق. وإنما كان المقصود العفو لأن ما قبلها في ذكر السوء والجهر به. فمقتضى السياق: لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظلم. فإن عفا المظلوم عنه، ولم يدع على ظالمه ويتظلم منه، فإن الله عفوّ قدير. وإنما ذكر قبله إبداء الخير وإخفاءه توطئة للعفو عن السوء. لأنه يعلم من مدح حالي الخير: السر والعلانية، أن السوء ليس كذلك جهرا وإخفاء. فينبغي العفو عنه وتركه. وإنما عطف
(العفو) ب (أو) مع دخوله في الخير بقسميه، للاعتداد به، والتنبيه على منزلته، وكونه من الخير بمكان مرتفع. وليس المراد أنه حينئذ هو المقصود وأنه من قبيل:
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: ٩٨]. لأن مثله يعطف بالواو لا ب (أو) ولذا حمل الخير على الطاعة والبر مما هو عبادة وقربة فعلية. لتغاير العفو. فالمراد بالتوطئة ذكر ما هو مناسب وقدم عليه. كذا في (العناية).
قال ابن كثير.
ورد في الأثر: أن حملة العرش يسبحون الله. فيقول بعضهم:
سبحانك على حلمك بعد علمك. ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك.
وفي الحديث الصحيح «١» : ما نقصت صدقة من مال. وما زاد الله عبدا يعفو إلا عزّا. وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
وقال الرازيّ: اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق وخلق مع الخلق والذي يتعلق مع الخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم.
ودفع ضرر عنهم. فقوله: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ إشارة إلى إيصال النفع إليهم.
وقوله أَوْ تَعْفُوا إشارة إلى دفع الضرر عنهم. فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.
ثم نزل في اليهود إلى أواخر السورة قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قال ابن عباس: يعني كعبا وأصحابه وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي في الإيمان وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الرسل وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ منهم. كما قالوا: نؤمن بموسى والتوراة، ونكفر بما وراء ذلك. وما ذاك إلا كفر بالله تعالى ورسله، وتفريق بين الله تعالى ورسله في الإيمان.
لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بكل نبيّ يأتي مصدقا لما معهم، ونصره. ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل، وبالله تعالى من حيث لا يحتسب. لأنهم لما تساووا
(١) أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث ٦٩.
في المعجزات والدعوة إلى الحق، والقيام بالخيرات في أنفسهم، كان الكفر بواحد منهم كفرا بالكل. بل وبالله. إذ يعتقدون فيه أنه صدّق الكاذب بخلق المعجزات.
كذا في (التبصير) وَيُرِيدُونَ أي: بقولهم ذلك أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أي بين الإيمان ببعض، والكفر ببعض سَبِيلًا دينا يسلكونه. مع أنه لا واسطة بينهما قطعا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥١]
أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١)
أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي الذين كفروا كفرا ثابتا لا ريب فيه. فلا عبرة بمن ادعوا الإيمان به. لأنه ليس شرعيّا. إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله، لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يهانون به. وهو عذاب جهنم. أي: كما استهانوا بمن كفروا به، إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه، وإقبالهم على جمع حطام الدنيا. وإما بكفرهم به، بعد علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبارهم في عهده صلى الله عليه وسلم.
حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة. وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه.
فسلط الله عليهم الذل الدنيويّ الموصول بالذل الأخرويّ. وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ كلهم وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يعني بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فإنهم يؤمنون بكل نبيّ بعثه الله. ولا يفرقون بين أحد منهم، بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين. كما فعله الكفرة أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أي: يعطيهم أُجُورَهُمْ ثواب إيمانهم بالله ورسله في الآخرة وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أي: لما فرط منهم رَحِيماً مبالغا في الرحمة عليهم، بتضعيف حسناتهم.
ثم بيّن تعالى ما جبل عليه اليهود من اللجاج والعناد، والبعد عن طريق الحق، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥٣]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣)
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ قال ابن عباس: كعب وأصحابه أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ أي: كما نزلت التوراة على موسى جملة في الألواح. مع أنه لا حاجة لهم إلى طلب ذلك بعد ما وضحت البراهين على نبوتك، لا سيما بإعجاز ما نزل عليك من الفرقان. إلا أن الذي حملهم على سؤالهم هو التعنت والكفر. كما قال قبلهم كفار قريش نظير ذلك: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً...
[الإسراء: ٩٠] الآيات. ولهذا قال تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ أي: مما سألوك فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي: رؤية ظاهرة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي النار النازلة من السماء بِظُلْمِهِمْ أي: جراءتهم على الله وعتوّهم وعنادهم. إذ لا يرون آية إلا يطلبون أكبر منها. حتى يروا آية ملجئة إلى الإيمان. بحيث لا يفيد الإيمان معها.
فلا يكادون يؤمنون إيمانا يفيدهم أصلا، ولا يبعد منهم الكفر، بعد رؤية الآيات.
فإنهم رأوا آيات موسى ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي: إلها وعبدوه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي: الدلائل القاطعة على نفي الشرك. ثم تابوا عنه فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أي:
تركناهم ولم نستأصلهم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أي: حجة بينة وتسلطا ظاهرا على إهلاك من خالفه. وفي ذلك بشارة للنبيّ ﷺ بنصره، وإن بالغوا في العناد والإلحاد. ثم أشار إلى أنهم مع رؤيتهم الآيات، لم ينقادوا لأوامر موسى. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥٤]
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤)
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ أي: الجبل ليتحملوا التكليف بِمِيثاقِهِمْ أي:
بسبب أخذ ميثاقهم. ليخافوا فلا ينقضوه.
قال ابن كثير: وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء على ما جاءهم به موسى عليه السلام، رفع الله على رؤوسهم جبلا. ثم ألزموا
وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى ما فوق رؤوسهم، خشية أن يسقط عليهم. كما قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ... [الأعراف: ١٧١] الآية، وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أي: ادخلوا باب إيلياء مطأطئين، عند الدخول، رؤوسكم. فخالفوا ما أمروا به. وقد تقدم في سورة البقرة إيضاح هذه الآيات مفصلا وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أي: وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ما دام مشروعا لهم وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي: عهدا شديدا. فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل. كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ... [الأعراف: ١٦٣]. ثم بين تعالى ما أوجب لعنهم وطردهم ومسخهم من مخالفتهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥٥]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥)
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ (ما) مزيدة للتأكيد، أو نكرة تامة. و (نقضهم) بدل منها. والباء متعلقة بفعل محذوف. أي فبسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم، فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم، أو على أعقابهم وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ أي: حججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم السلام وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ كزكريا ويحيى عليهما السلام.
قال العلامة البقاعيّ: وهو أعظم من مطلق كفرهم. لأن ذلك سدّ لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم. لأن الأنبياء سبب الإيمان. ولما كان الأنبياء معصومين من كل نقيصة، ومبرأين من كل دنية، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه، قال تعالى بِغَيْرِ حَقٍّ أي: كبير ولا صغير أصلا. وهذا الحرف لكونه في سياق طعنهم في القرآن، الذي هو أعظم الآيات، وقع التعبير فيه بأبلغ مما في آل عمران. لأن هذا مع جمع الكثرة. وتنكير الحق، عبر فيه بالمصدر، المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقا وصفة راسخة. بخلاف ما مضى. فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض.
ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع (أغلف) أي: هي مغشاة بأغشية جبلّية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. كما قال تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ...
[فصلت: ٥]. أي: فلا ذنب لنا: لأن قلوبنا خلقت بعيدة عن فهم ما يقول الأنبياء. وذلك سبب قتلهم ورد قولهم. وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبيّ الكريم ويشهدون له بالرسالة، وبأنه خاتم الأنبياء، ويصفونه بأشهر صفاته ويترقبون إتيانه. لا جرم ردّ الله عليهم بقوله، عطفا على ما تقديره (وقد كذبوا) لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان. فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفا بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ أي:
ليس كفرهم، وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفا بحسب الجبلّة. بل الأمر بالعكس. حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم. لأنه خلقها أولا على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر. فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقص عن الخير، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم، وتركوا ما تدعو إليه عقولهم، طبع سبحانه عليهم فجعلها قاسية محجوبة. ولذا سبب عنه قوله فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم. كعبد الله بن سلام وأضرابه. أو: إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به لتمرن قلوبهم على الكفر والطغيان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥٦]
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦)
وَبِكُفْرِهِمْ أي: بعيسى عليه السلام. وهو عطف على (قولهم) وإعادة الجار لطول ما بينهما. وقد جوز عطفه على (بكفرهم) فيكون هو وما عطف عليه من أسباب الطبع. وقيل هذا المجموع معطوف على مجموع ما قبله. تكرير الكفر للإيذان بتكرر كفرهم. حيث كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليهم الصلاة والسلام. كذا في أبي السعود وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً أي: مع قولهم الذي يجترءون به على مريم عليها السلام، بعد ظهور كراماتها وإرهاصات ولدها ومعجزاته، يبهتونها به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥٧]
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ.
قال أبو السعود: نظم قولهم هذا في سلك سائر جناياتهم التي نعيت عليهم
ليس لمجرد كونه كذبا، بل لتضمنه لابتهاجهم بقتل النبيّ عليه السلام والاستهزاء به. فإن وصفهم له عليه السلام بعنوان الرسالة إنما هو بطريق التهكم به عليه السلام.
كما في قوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر: ٦]. ولإنبائه عن ذكرهم له عليه السلام بالوجه القبيح، على ما قيل من أن ذلك وضع للذكر الجميل من جهته تعالى، مكان ذكرهم القبيح. وقيل: هو نعت له عليه الصلاة والسلام من جهته تعالى. مدحا له، ورفعا لمحله، وإظهارا لغاية جراءتهم، في تصديهم لقتله، ونهاية وقاحتهم في افتخارهم بذلك.
لطيفة:
قال الراغب: سمي عيسى بالمسيح لأنه مسحت عنه القوة الذميمة، من الجهل والشره والحرص وسائر الأخلاق الذميمة. كما أن الدجال مسحت عنه القوة المحمودة من العلم والعقل والحلم والأخلاق الحميدة. وقال شمر: لأنه مسح بالبركة. وهو قوله تعالى: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [مريم: ٣١]. أو لأن الله مسح عنه الذنوب.
وذكر المجد في كتابه (البصائر) في اشتقاقه ستة وخمسين قولا. وتطرّق شارح القاموس لبعضها. فانظره وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أي: لا يصح لهم الفخر بقتله. لأنهم ما قتلوه. ولا متمسك لهم فيما يزعمونه من صلبهم إياه. لأنهم ما صلبوه ولكن قتلوا وصلبوا من ألقى عليه شبهه وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي: في شأن عيسى لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي: من قتله. وسنبينه بعد ما لَهُمْ بِهِ أي: بقتله مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ استثناء منقطع. أي: لكن يتبعون فيه الظن الذي تخيلوه وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي: قتلا يقينا بمعنى متيقنين أنه عيسى عليه السلام، بل فعلوه شاكّين فيه. أو المعنى: انتفى قتله انتفاء يقينا بمعنى انتفائه على سبيل القطع.
قال البرهان البقاعي: وهو أولى لقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥٨]
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ردّ وإنكار لقتله. وإثبات لرفعه. أي: اليقين إنما هو في رفعه إليه وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي: لا يبعد رفعه على الله. لأنه عزيز لا يغلب على ما يريده. وحكيم اقتضت حكمته رفعه. فلا بد أن يرفعه. وهي حفظه لتقوية دين محمد صلى الله عليه وسلم، حين انتهائه إلى غاية الضعف بظهور الدجال، فيقتله. أفاده المهايميّ.
392
تنبيه:
لا خفاء في أن هذه الآية الكريمة لتكذيب اليهود في دعوى الصلب التي تابعهم عليها أكثر النصارى، ولتبرئة ساحة مقام عيسى عليه السلام مما توهموه في ذلك. ولما كانت هذه الآية من مباحث الأمتين، ومعارك الفرقتين- أردت بسط الكلام في هذا المقام. انتهاجا للحق. وأخذا بناصر الصدق. وردّ أباطيل المكذبين.
وتزييف أقوال الملحدين. نورد أولا ما زعموه ورووه. مما نفاه التنزيل الكريم. ثم بطلان المرويّ عندهم وتهافته بالحجج الدامغة. ثم ما رواه أئمة سلفنا رضي الله عنهم في هذه القصة. ثم رد زعمهم أن إلقاء الشبه سفسطة. ثم سقوط دعواهم التواتر في الصلب. ثم تزييف تفسير بعض النصارى لهذه الآية، وأنها مطابقة لمعتقدهم على زعمه. مع ذكر من رفض عقيدة الصلب من فرق النصارى. وذكر ما روي في إنجيل خامس يوافق عقيدة المسلمين، ويطابق هذه الآية. ونختم هذه المباحث بما قاله شيخ الإسلام تقيّ الدين ابن تيمية رضي الله عنه في هذه الآية، وأبدع، على عادته قدس سره. فهذا المطالب ينبغي معرفتها لكل طالب. إذ تفرعت إلى مباحث فائقة. وفوائد شائقة. فنقول وبالله التوفيق:
ذكر ما زعموه ورووه مما نفاه التنزيل الكريم
جاء في الفصل الثاني والعشرين من إنجيل لوقا ما نصه:
٢- كان رؤساء الكهنة والكتبة يلتمسون كيف يقتلون يسوع لكنهم كانوا يخافون من الشعب.
٣٨- أي لأن الشعب كلهم كانوا يبكرون إليه في الهيكل (وهو الكنيسة) ليستمعوه.
إنجيل لوقا
الأصحاح الحادي والعشرون
(٣٧) وكان في النهار يعلّم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون.
(٣٨) وكان كل الشعب يبكّرون إليه في الهيكل ليسمعوه.
٣٧- وكان في النهار يعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل المسمى
393
جبل الزيتون. كما ذكر لوقا قبل الفصل.
٣- فدخل الشيطان في يهوذا الملقب بالأسخريوطيّ وهو أحد الاثني عشر.
٤- فمضى وفاوض رؤساء الكهنة والولاة كيف يسلمه إليهم.
٥- ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة.
٦- فواعدهم وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم بمعزل عن الجمع.
٧- وبلغ يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح.
٨- فأرسل بطرس ويوحنا قائلا: امضيا فأعدّا لنا الفصح لنأكل.
٩- فقالا له: أين تريد أن نعدّ.
١٠- فقال لهما: إذا دخلتما المدينة يلقاكما رجل حامل جرة ماء. فاتبعاه إلى البيت الذي يدخله.
الأصحاح الثاني والعشرون
١- وقرب عيد الفطير الذي يقال له الفصح.
٢- وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه. لأنهم خافوا الشعب.
٣- فدخل الشيطان في يهوذا الذي يدعى الإسخريوطيّ وهو من جملة الاثني عشر.
٤- فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقوّاد الجند كيف يسلّمه إليهم.
٥- ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة.
٦- فواعدهم. وكان يطلب فرصة ليسلّمه إليهم خلوا من جمع.
٧- وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح.
٨- فأرسل بطرس ويوحنّا قائلا اذهبا وأعدّا لنا الفصح لنأكل.
٩- فقالا له أين تريد أن نعدّ.
١٠- فقال لهما إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جرّة ماء. اتبعاه إلى البيت حيث يدخل.
١١- وقولا لرب البيت: المعلم يقول لك أين يكون المنزل الذي آكل فيه الفصح مع تلاميذي.
١٢- فهو يريكما غرفة كبيرة مفروشة. فأعدّا هناك.
١٣- فانطلقا فوجدا كما قال لهما وأعدا الفصح.
394
١٤- ولما كانت الساعة اتكأ هو والرسل الاثنا عشر معه.
١٥- فقال لهم: لقد اشتهيت شهوة أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم.
١٦- فإني أقول لكم: إني لا آكله بعد حتى يتم في ملكوت الله.
١٧- ثم تناول كأسا وشكر وقال: خذوا فاقتسموا بينكم.
١٨- فإني أقول لكم: إني لا أشرب من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.
١٩- وأخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم قائلا: هذا هو جسدي الذي يبذل لأجلهم.
اصنعوا هذا لذكري.
٢٠- وكذلك الكأس من بعد العشاء قائلا: هذه هي الكأس العهد الجديد بدمي الذي يسفك من أجلكم.
٢١- ومع ذلك فها إن يد الذي يسلمني معي على المائدة.
٢٢- وابن البشر ماض كما هو محدود ولكن الويل لذلك الرجل الذي يسلمه.
٢٣- فطفقوا يسألون بعضهم بعضا: من كان منهم مزمعا أن يفعل ذلك.
٢٤- ووقعت بينهم مجادلة في أيهم يحسب الأكبر.
٢٥- فقال لهم: إن ملوك الأمم يسودونهم والمسلطين عليهم يدعون محسنين.
٢٦- وأما أنتم فلستم كذلك. ولكن ليكن الأكبر فيكم كالأصغر. والذي يتقدم كالذي يخدم.
٢٨- وأنتم الذين ثبتّم معي في تجاربي.
٢٩- فأنا أعدّ لكم الملكوت كما أعدّه لي أبي.
٣٠- لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر.
٣١- وقال يسوع: سمعان سمعان هو ذا الشيطان سأل أن يغربلكم مثل الحنطة.
٣٢- لكني صليت من أجلك لئلا ينقص إيمانك وأنت متى رجعت فثبّت إخوتك.
٣٣- فقال له: أنا مستعد أن أمضي معك إلى السجن وإلى الموت.
٣٤- قال: إني أقول لك يا بطرس إنه لا يصيح الديك اليوم حتى تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني.
٣٩- ثم خرج ومضى على عادته إلى جبل الزيتون وتبعه التلاميذ.
٤٠- فلما انتهى إلى المكان قال لهم: صلوا لئلا تدخلوا في تجربة.
395
٤١- ثم فصل عنهم نحو رمية حجر وخر على ركبتيه وصلى.
٤٢- قائلا: يا رب إن شئت فأجز عني هذه الكأس لكي لا تكن مشيئتي بل مشيئتك.
٤٣- وتراءى له ملاك من السماء يشدّده.
٤٤- ولما أخذ في النزاع أطال في الصلاة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض.
٤٥- ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه فوجدهم نياما من الحزن.
٤٦- فقال لهم: ما بالكم نائمين. قوموا فصلوا لئلا تدخلوا في تجربة.
٤٧- وفيما هو يتكلم وإذا بجمع يتقدمهم المسمى يهوذا أحد الاثني عشر فدنا من يسوع ليقبله.
٤٨- فقال له يسوع: يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن البشر.
٤٩- فما رأى الذي حوله ما سيحدث قالوا له: أنضرب بالسيف.
٥٠- وضرب أحدهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى.
٥١- فأجاب يسوع وقال: قفوا لا تزيدوا. ثم لمس أذنه فأبرأه.
٥٢- ثم قال يسوع للذين جاءوا إليه من رؤساء الكهنة وولاة الهيكل والشيوخ:
كأنما خرجتم إلى لص بسيوف وعصي.
٥٣- إني كل يوم كنت معكم في الهيكل ولم تمدوا علي أيديكم ولكن هذه ساعتكم وهذا سلطان الظّلمة.
حينئذ تركه تلاميذه وهربوا.
٥٤- فارتموا على يسوع قبضوا عليه وقادوه إلى بيت رئيس الكهنة.
وكان الكتبة والرؤساء مجتمعين. وهناك أعطى يهوذا الحواري الثلاثين درهما التي أخذها رشوة على تسليم المسيح.
وكان بطرس يتبعه من بعيد...
٥٤- فجلس داخلا مع الخدام لينظر الغاية.
٥٥- وأضرموا نارا في وسط الدار وجلسوا حولها فجلس بطرس بينهم.
٥٦- فرأته جارية جالسا عند الضوء فتفرست فيه ثم قالت: إن هذا أيضا كان معه.
٥٧- فكفر أمام الجمع وأنكره قائلا: إني لست أعرفه.
396
٥٨- وبعد قليل رآه آخر فقال: أنت أيضا منهم. فأخذ بطرس يحلف لا أعرف هذا الرجل ولست منهم.
٥٩- وبعد نحو ساعة أكد عليه آخر قائلا: في الحقيقة هذا أيضا كان معه فإنه جليلي.
٦٠- فقال بطرس: يا رجل لا أدري ما تقول.
قال مفسروهم: إن خطأ بطرس هذا كان ثقيلا: لأن المسيح قال: من ينكرني أمام الناس أنكره أمام أبي الذي في السموات.
٦٠- وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك.
٦١- فالتفت يسوع ونظر إلى بطرس فتذكر كلامه إذ قال: إنك قبل أن يصيح الديك. تنكرني ثلاث مرات.
٦٢- فخرج بطرس وبكى بكاء مرّا.
٦٣- وكان الرجال الذين قبضوا عليه يهزئون به ويضربونه.
٦٤- وغطوه وطفقوا يلطمونه ويسألونه قائلين: تنبأ من الذي ضربك.
٦٥- وأشياء آخر كانوا يقولونها عليه مجدفين.
٦٦- ولما كان النهار اجتمع شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة عليه ليميتوه وأحضروه إلى محفلهم.
٦٧- وقالوا: إن كنت أنت المسيح فقل لنا. فقال لهم: إن قلت لكم لا تؤمنون.
٦٨- وإن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقوني.
٦٩- ولكن من الآن يكون ابن البشر جالسا عن يمين قدرة الله.
٧٠- فقال الجميع: أفأنت ابن الله. فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو.
٧١- فقالوا ما حاجتنا إلى شهادة إنا قد سمعنا من فمه.
فأوثقوه. وأما يهوذا الأسخريوطي الدافع، لما رأى يسوع قد دين ندم ومضى فأعاد الثلاثين الفضة إلى رؤساء الكهنة قائلا: لقد أخطأت بتسليمي دما زكيا. فقالوا له: ما علينا أنت أخبر. فطرح الفضة في الهيكل وذهب فخنق نفسه، وأما رؤساء الكهنة فأخذوا الفضة وقالوا لا يحل لنا أن نضعها في بيت التقدمة لأنها ثمن دم.
١- ثم ذهب جميع جمهورهم ومضوا بيسوع إلى بيلاطس.
٢- وطفقوا يشكونه قائلين: إنا وجدنا هذا يفسد أمتنا ويمنع من أداء الجزية لقيصر
397
ويدعي أنه هو المسيح الملك.
٣- فسأله بيلاطس قائلا: هل أنت ملك اليهود؟ فأجابه قائلا: أنت قلت.
٤- فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة وللجموع: إني لم أجد على هذا الرجل علة.
٥- فلجّوا وقالوا: إنه يهيج الشعب إذ يعلم في اليهودية كلها مبتدئا من الجليل إلى هاهنا.
٦- فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل: هل الرجل جليليّ.
٧- ولما علم أنه من إيالة هيرودس أرسله إلى هيرودس وكان في تلك الأيام في أورشليم.
٨- فلما رأى هيرودس يسوع فرح جدّا لأنه من زمان طويل كان يشتهي أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة ويرجو أن يعاين آية يصنعها.
٩- فسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء.
١٠- وكان رؤساء الكهنة والكتبة واقفين يشكونه بلجاجة.
١١- فازدراه هيرودس مع جنوده وهزأ به وألبسه ثوبا لا معا وردّه إلى بيلاطس.
١٢- وتصادق هيرودس وبيلاطس في ذلك اليوم وقد كانا من قبل متعاديين.
١٣- فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب.
١٤- وقال لهم: قد قدمتم إليّ هذا الرجل كأنه يفتن الشعب. وها أنا قد فحصته أمامكم فلم أجد على هذا الرجل علة مما تشكونه به.
١٥- ولا هيرودس أيضا لأني أرسلتكم إليه وهو ذا لم يصنع به شيء من حكم الموت.
١٦- فأنا أؤدبه وأطلقه.
١٧- وكان لا بد له أن يطلق لهم في كل عيد رجلا.
١٨- فصاحوا كلهم جملة قائلين: ارفع هذا وأطلق لنا برأبّا.
١٩- كان ذاك قد ألقي في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل.
٢٠- فناداهم بيلاطس مرة أخرى وهو يريد أن يطلق يسوع.
٢١- فصرخوا قائلين: اصلبه، اصلبه.
٢٢- فقال لهم مرة ثالثة: وأي شر صنع هذا؟ إني لم أجد عليه علة للموت فأنا أؤدبه وأطلقه.
٢٣- فألحوا عليه بأصوات عالية طالبين أن يصلب واشتدت أصواتهم.
398
٢٤- فحكم بيلاطس أن يجرى مطلبهم.
٢٥- فأطلق لهم الذي طلبوه ذاك الذي ألقي في السجن لأجل فتنة. وجلد يسوع بالسياط وأسلمه ليصلب.
قال مفسروهم: ولذا يظهر أن اللصين اللذين صلبا معه جلدا أيضا والجلادون كانوا ستين نفرا. وأرشاهم اليهود ليميتوه بالجلد خشية أن يطلقه بيلاطس ونزعوا ثيابه وألبسوه لباسا قرمزيا وضفروا إكليلا من شوك العوسج ووضعوه على رأسه، وأنشبوا في رأسه عنفا أشواكه الحادة. ومن هنا أخذت الكنيسة العادة على إبقاء إكليلا من شعر في رأس الكهنة تذكارا لإكليل المسيح الشوكيّ. ثم جثوا على ركبهم مستهزئين به وقائلين: السلام يا ملك اليهود وتناولوا قصبة يضربون بها رأسه.
ولما هزؤا به نزعوا عنه ذلك اللباس وألبسوه ثيابه واستاقوه ليصلب. وكان يتقدمه مبوّق يدعو الشعب إلى هذا المنظر بحسب عادة اليهود. وخشبة الصلب على منكبيه.
٣٢- وانطلق معه بآخرين مجرمين ليقتلا.
ولما بلغوا إلى المكان المسمى الجمجمة صلبوه هناك هو والمجرمين، أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار...
وناولوه خلّا بمرارة أو خمرا ممزوجا بعلقم بعد أن طلب الماء فذاقه ولم يشرب.
ولما صلبوه بالمسامير وبالحبال معها. وكانت المسامير في راحة اليدين والرجلين، ضربوا جنبه بالحربة فنفذت من صدره. وفي الصليب محل يسند إليه رجليه. واقتسموا ثيابه بالقرعة وهي ثلاثة: القميص والرداء والجبة. ولم يكن يلبس السروال كعادة تلك البلاد. وجلسوا هناك يحرسونه لئلا يسرقه أحد.
وكان الشعب واقفين ينظرون. والرؤساء يسخرون منه معهم قائلين: قد خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار.
٣٦- وكان الجند أيضا يهزئون به.
٣٧- وقائلين: إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك.
٣٨- وكان عنوان فوقه مكتوبا بالحروف اليونانية واللاتينية والعبرانية: هذا هو ملك اليهود.
399
٤٤- ولما كان نحو الساعة السادسة حدثت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة.
٤٥- وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه.
٤٦- ونادى يسوع بصوت عظيم قائلا: إيل إيل لم شبقتني؟ أي: إلهي إلهي لم ذا تركتني؟ فكان أناس من القائمين يقولون: دعوا ننظر هل يأتي إيليا فيخلصه.
ثم صرخ أيضا بصوت عال وأسلم الروح.
٤٧- فلما رأى قائد المائة ما حدث مجّد الله قائلا: في الحقيقة كان هذا الرجل صديقا.
٤٨- وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين على هذا المنظر، لما عاينوا ما حدث، رجعوا وهم يقرعون صدورهم.
٤٩- وكان جميع معارفه والنساء اللواتي تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك.
٥٠- وإذا برجل اسمه يوسف وهو صالح صديق.
٥١- ولم يكن موافقا لرأيهم وعملهم.
٥٢- فدنا إلى بيلاطس وسأله جسد يسوع فأعطاه إياه.
٥٣- فأنزله ولفه في كتان ووضعه في قرب منحوت لم يكن وضع فيه أحد.
٥٤- وكان يوم التهيئة أي: الجمعة وقد أخذ السبت يلوح...
وفي يوم السبت اجتمع عظماء الكهنة عند بيلاطس قائلين له: قد تذكرنا أن ذاك المضل كان يقول وهو حيّ: إني أقوم بعد ثلاثة أيام. فمر أن يحرسوا القبر حتى اليوم الثالث. لئلا يأتي تلاميذه فيسرقوه ليلا ويقولوا للشعب: إنه قام من بين الأموات. فتكون الضلالة الأخيرة شرّا من الأولى. فأمر لهم بجنود يحرسون وحصنوا القبر وختموا الحجر مع الجنود. وفي عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد أتت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر.
قال مفسروهم: إن هذه الآية أتعبت العلماء في تفسيرها والتوفيق بين أجزائها وبين أقوال باقي الإنجيليين. انتهى.
وإذا بزلزلة عظيمة قد ضارت لأن ملك الرب انحدر من السماء. وكان الملك جبريل ظهر بهيئة شاب وجاء فدحرج الحجر عن باب القبر وجلس فوقه. وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج. ومن الخوف منه اضطرب الحراس وصاروا كالأموات.
400
فقال للنسوة: لا تخفن. فقد عرفت أنكن تطلبن يسوع المصلوب. إنه ليس هاهنا.
فإنه قد قام.
وقال لوقا:
٥٥- كانت النساء اللواتي أتين معه من الجليل. يتبعن. فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده.
٥٦- ثم رجعن وأعددن حنوطا وأطيابا. وفي السبت قررن على حسب الوصية.
١- وفي أول الأسبوع باكرا جدّا أتين إلى القبر وهن يحملن الحنوط الذي أعددناه.
٢- فوجدن الحجر قد دحرج عن القبر.
٣- فدخلن فلم يجدن جسد يسوع.
٤- وبينما هن متحيرات في ذلك إذا برجلين قد وقفا عندهن بلباس برّاق.
٥- وإذ كن خائفات ونكّسن وجوههن إلى الأرض قالا لهن: لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات.
٦- إنه ليس هاهنا لكنه قام. اذكرن كيف كلمكن وهو في الجليل.
٧- إذ قال إنه ينبغي لابن البشر أن يسلم إلى أيدي أناس خطأة ويصلب ويقوم في اليوم الثالث.
فذكرن كلامه.
ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله.
وقلن لهم: قد أخذوا يسوع من القبر ولا نعلم أين وضعوه.
١٠- ومريم المجدلية وحنّة ومريم أم يعقوب وأخر معهن هن اللواتي أخبرن الرسل بهذا.
فكان عندهم عند الكلام كالهذيان ولم يصدقوهن.
١٢- فقام بطرس وأسرع إلى القبر وتطلع فرأى الأكفان موضوعة على حدة فانصرف متعجبا في نفسه مما كان.
١٣- وإن اثنين منهم كانا سائرين في ذلك اليوم إلى قرية اسمها عمّاوس بعيدة عن أورشليم ستين غلوة.
١٤- وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كلها.
١٥- وفيما هما يتحادثان ويتساءلان دنا منهما يسوع نفسه وكان يسير معهما.
401
١٦- ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته.
١٧- فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتحاوران فيه وأنتما سائران مكتئبين.
١٨- فأجاب أحدهما: أفأنت غريب في أورشليم ولم تعلم ما حدث بها في هذه الأيام.
١٩- فقال لهما: وما هو؟ قالا له ما يخص يسوع الناصري الذي كان رجلا نبيّا ذا قوة في العمل والقول أمام الله والشعب كله.
٢٠- وكيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه.
٢١- واليوم هو اليوم الثالث لحدوث ذلك.
٢٢- إلا أن نساء منا أدهشننا لأنهن بكرن إلى القبر.
٢٣- فلم يجدن جسده فأتين وقلن: إنهن رأين مظهر ملائكة قالوا إنه حي.
٢٤- فمضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا كما قالت النساء لكنهم لم يروه.
٢٥- فقال لهما: يا قليلي الفهم وبطيئي القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء.
٢٦- أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل إلى مجده.
٢٧- ثم أخذ يفسر لهما، من موسى ومن جميع الأنبياء، ما يختص به في الأسفار كلها.
٢٨- فلما اقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها تظاهر بأنه منطلق إلى مكان أبعد.
٢٩- فألزماه قائلين: امكث معنا لأن المساء مقبل وقد مال النهار. فدخل ليمكث معهما.
٣٠- ولما اتكأ معهما أخذ خبزا وبارك وكسر وناولهما.
٣١- فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما.
٣٢- فقال أحدهما للآخر: أما كانت قلوبنا مضطرمة فينا حين كان يخاطبنا في الطريق ويشرح لنا الكتب.
٣٤- وقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين.
وهم يقولون: لقد قام يسوع في الحقيقة وتراءى لسمعان.
٣٥- فأخذا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز.
٣٦- وبينما هم يتحدثون بهذه وقف يسوع في وسطهم وقال لهم: السلام لكم. أنا هو لا تخافوا.
402
٣٧- فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم يرون روحا.
٣٨- فقال لهم: ما بالكم مرتعدين ولماذا ثارت الأوهام في قلوبكم.
٣٩- انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو جسّوني وانظروا فإن الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي.
٤٠- ثم أراهم يديه ورجليه.
٤١- وإذ كانوا غير مصدقين بعد من الفرح ومتعجبين قال: أعندكم هاهنا طعام.
٤٢- فأعطوه قطعة من سمك مشويّ وشهد عسل.
٤٣- فأخذ وأكل أمامهم.
ثم أخذ الباقي وأعطاهم...
وبعد مفاوضته معهم.
٥٠- خرج بهم إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم.
٥١- وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء.
هذا ما جاء في إنجيل لوقا ممزوجا ببعض تفاسيرهم. وإنما آثرت النقل عنه لزعمهم أن كلامه أصح وأفصح، وأشد انسجاما من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد.
كما في (ذخيرة الألباب) من كتبهم.

فصل في بطلان ما رووه وتهافته بالحجج الدامغة


اعلم أن في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القصة ما يقضي بالعجب ويبرهن على عدم الوثوق بها. كما قال تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء: ١٥٧].
قال البرهان البقاعيّ رحمه الله في (تفسيره) بعد (أن ساق أزيد مما سقناه عن أناجيلهم، وقال: أحسن ما ردّ على الإنسان بما يعتقده) ما نصه: فقد بان لك أن أناجيلهم كلها اتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد. وهو الأسخريوطيّ.
وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه. وإنه إنما وضع يده عليه ولم يقل بلسانه إنه هو. وأن الوقت كان ليلا. وأن عيسى نفسه قال لأصحابه: كلكم تشكّون فيّ هذه الليلة. وأن تلاميذه كلهم هربوا فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره. وإن
403
بطس إنما تبعه من بعيد. وإن الذي دل عليه خنق نفسه. وإن الناقل لأن الملك قال إنه قام من الأموات، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد. وما يدري النسوة الملك من غيره. ونحو ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن. وأما الآيات التي وقعت على تقدير تسليمها لا يضرنا التصديق بها.. وتكون لجراءتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح. وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه. ويدل على أن المصلوب، إن صح أنهم صلبوه، من ظنوه إياه، هو الذي دل عليه.
قال بعض العلماء: إنه ألقى شبهه عليه. ويؤيد ذلك قولهم إنه خنق نفسه.
فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه: فجزموا به. والله أعلم.
انتهى.
وقال العلامة خير الدين الآلوسي في (الجواب الفسيح) : اعلم أن ما ذكره هذا النصرانيّ من أن المسيح عليه السلام مات بجسده، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة، ثم أنزل ودفن، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد، ثم انبعث حيّا بلاهوته وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات، وظهر بعد لحوارييه... إلى آخر ما قاله- هو ما أجمع عليه النصارى. ويرد ذلك العقل والنقل.
وإن صدقتهم اليهود في قتله. فاستمع من المنقول ما يتلى عليك بأذن واعية. وخذ ما يأتيك من المعقول بالدلائل الهادية. على أن المقتول هو الشبه. وأن الحال عند صالبيه اشتبه. وأن المسيح رفعه الله تعالى، قبل القتل، إليه. لشرفه عنده ومكانته.
لديه. قال الله تعالى في بيان حال اليهود: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ... الآية. وفي الإنجيل أن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله أأنت المسيح بن الله؟ فقال له:
أنت قلت. ولم يجبه بأنه المسيح. فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له: نعم.
ولم يورّ ولم يتلعثم. وهو محلّف بالله. لا سيما وهو بزعمهم الإله. الذي نزل لخلاص عباده بإفداء نفسه ودخول الجحيم ولأواه.
وقال لوقا في الفصل التاسع من إنجيله.
٢٨- إن المسيح صعد قبل الصلب إلى جبل الخليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا.
٢٩- فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه وصارت تلمع كالبرق.
٣٠- وإذا موسى بن عمران وإيليا.
٣١- قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم.
404
٣٢- وأما الذين كانوا مع المسيح فوقع عليهم النوم فناموا.
وهذا من أوضح الدلالات على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به. إذ لا معنى لظهور موسى وإيليا ووقوع النوم على أصحابه إلا رفعه. ألا ترى أن اليهود كانوا يسمعون منه، عليه السلام أن إيليا يأتي. فلما رفعوه على الخشبة، كما في الأناجيل، قالوا: دعوه حتى نرى أن إيليا يأتي فيخلصه. فصاروا في شك يريدون تحقيقه. فإن أتى إيليا فما رفعوه هو المسيح. وإن لم يأت فهو غيره كما في ظنهم.
فلما لم يأت ازدادوا ريبة في أمره. ومن رآه الحواريون بعد يقظتهم، يجوز أن يكون طورا من أطوار روحه. لأنه عليه السلام لا يبعد أن يكون له قوة التطور. وتشكل الروح بعد الموت أمر ممكن. لا سيما وقد صدرت على يديه معجزات أعظم من ذلك. كإحياء الموتى وكثرة الخبز والحيتان وإبراء الأكمه والأبرص.
وقال يوحنا التلميذ:
١- كان يسوع مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهودي في طلبه.
٤- فخرج إليهم يسوع وقال لهم: من تريدون؟
قالوا: يسوع. (وقد خفي شخصه عنهم). فقال: أنا يسوع. وفعل ذلك مرتين وقد أنكروا صورته.
فانظر أيها العاقل كيف اعترف هنا أنه يسوع لما علم أن الله تعالى تولّى حراسته منهم، وأنهم لا يقدرون أن ينالوه بسوء. وكيف لم يعترف بأنه المسيح لما سأله رئيس الكهنة عن نفسه. فعدم اعترافه هناك واعترافه هنا دليل واضح أيضا على أن ما قاله الله سبحانه في القرآن العظيم هو الحق.
ثم من الأدلة على عدم قتله ما اشتملت عليه الأناجيل من اختلاف المباني والمعاني والمقاصد والاضطراب في حكاية هذه الواقعة والتناقص في ألفاظها.
كدعواهم الألوهية مع قوله عليه الصلاة والسلام (عند صلبه بزعمهم) : إلهي! إلهي! لم تركتني. وقوله كما في الفصل السادس والعشرين من إنجيل متى:
يا أبتاه إن كان لا يمكنك أن تفوتني هذه الكأس أي: الموت ولا بد لي أن أشربها فلتكن مشيئتك. وقام يصلي. وقوله لرئيس الكهنة: إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء. يريد بالقوة البارئ تعالى شأنه. وفي الفصل السابع من إنجيل يوحنا: إن المريسيين ورؤساء الكهنة
405
أرسلوا شرطا ليقبضوا على المسيح (يعني ليقتلوه كما قال مفسروهم) قال أنا ماكث أيضا معكم زمانا. ثم أنطلق إلى من أرسلني وتطلبونني فلا تجدونني. وحيثما أكن فلا تستطيعون إليه سبيلا. قال اليهود في ذواتهم: فإلى أين؟ هذا عتيد أن ينطلق حتى لا نجده نحن، قال مفسروهم أي: يصعد إلى السماء. وغير ذلك مما لو أردنا ذكره والتنقير عنه لطال البحث.
ثم نقل خير الدين نحوا مما أسلفناه عن أناجيلهم وقال بعض ذلك: فأجل في تناقضها قداح فكرك. وفي تهافتها خيول ذهنك. لترى في هذه القصة ما يدلك على وقوع الشبه ونجاة المسيح عقلا ونقلا. كما قال تعالى: وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.
وليتبين لك عبوديته ورسالته عليه السلام. فإن ذلك ظاهر من العبارات. ولنزدك في البيان وضوحا بما ننبهك عليه بكلمات يسيرة مقدوحا ومشروحا.
منها: قولهم إنه صلب قبل غروب يوم الجمعة ودفن مساءها. ولما جاءت النسوة عشية السبت المفسر صباحه عن الأحد، وجدنه فارغا، وقد قام منه المدفون.
مع أن النصارى يزعمون، كما في أناجيلهم، أنه يبقى في قبره ثلاثة أيام. كما بقي يونان، أي: يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام بلياليها، فما هذا إلا دليل على الاختلاف والتهافت في هذا الأمر.
ومنها: سؤالة اليهود مرتين من تطلبون؟ وهم يقولون: يسوع الناصريّ. فلم يعرفوه وهو يقول لهم: أنا.
ومنها: أن يهوذا ارتشى ليدلهم عليه. وجعل العلامة على تعيينه لهم تقبيل يده. فلو كان معلوما لهم لعرفوه بلا دلالة وبلا سؤال. مع أنه كان بين أظهرهم وفي غالب الأيام في هيكلهم.
ومنها: أنه لما أقسم عليه رئيس الكهنة أنه هو المسيح لم يقل له: أنا المسيح. بل قال له: أنت قلت.
ومنها: إنكار بطرس له وهو من أعظم رسله. وإنكاره كفر.
ومنها: أنه لما سأله الوالي: أنت هو؟ لم يردّ له جوابا. فلو كان هو لاعترف وأقرّ.
ومنها: أنه لما كان أخذه ليلا، وقد شوهت صورته وتغيرت محاسنه بالضرب والنكال، فهي حالة توجب اللبس بين الشيء وخلافه. فكيف بين الشيء وشبهه؟
406
فمن أين يحصل القطع بأنه هو؟ لا سيما والنصارى قد حكموا أن المسيح عليه السلام قد أعطي قوة التحوّل من صورة إلى صورة. ويحتمل أن المسيح ذهب في الجماعة الذين أطلقهم الأعوان، وكان المتكلم معهم تلميذ أراد أن يبيع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح. فألقى الله تعالى عليه الشبه. وأتباع الأنبياء يفدون أنفسهم لأنبيائهم. وهذا فدى نفسه لإلهه، بزعم النصارى.
ومنها: أنه يحتمل أن الأعوان ارتشوا على إطلاقه كما ارتشى يهوذا على الدلالة عليه. وأخذوا غيره ممن يريد أن يفدي نفسه للمسيح. والدليل عليه عدم اعترافه بأنه المسيح.
ومنها: قوله عليه السلام الذي تقدم آنفا: أنا ماكث معكم زمانا. ثم أنطلق إلى من أرسلني. فتطلبوني فلا تجدوني. وحيثما أكن فلا تستطيعون إليّ سبيلا، فهذا صريح في الثاني عشر من (إنجيل يوحنا) ما لفظه: قال له الجموع: نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يمكث إلى الأبد. فكيف تقول أنت أن ابن البشر سوف يرتفع.
من هو هذا ابن البشر؟ قال لهم يسوع: إن النور معكم زمانا آخر يسيرا. امشوا ما دام لكم النور. لئلا يدرككم الظلام. ومن يمش في الظلام فلا يدري أين يذهب. آمنوا بالنور ما دام لكم النور. قال يسوع هذا وذهب متواريا عنهم. انتهى.
ففي هذا الكلام أدلة كثيرة مؤيدة لقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: ١٥٨].
منها: أن اليهود قالوا لعيسى: إن المسيح المذكور في العهد القديم يمكث إلى الأبد.
أي: فإن كنت أنت المسيح فأنت لا تموت في هذا الزمان. بل تبقى إلى قيام الساعة. ولم يكذبهم في نقلهم ذلك. والمسلمون يقولون: إنه رفع حيّا إلى السماء وهو الآن حيّ فيها. وسينزل آخر الزمان عند قرب الساعة. ويقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية. ويتوفى ويدفن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم. فهو حيّ إلى الأبد، يعني إلى قرب قيام الساعة ونزوله وموته من أمارات الساعة الكبرى. وفي هذا القول دلالات ظاهرات أيضا على أنه ليس بإله: أحدها- أنه قال: ابن البشر. يعني لا تظنوا أني أدعي الألوهية وإن أحييت الموتى. لأن ذلك معجزة خلقها الله تعالى على يده للإيمان بنبوّته.
ثانيها: لو كان إلها لما توارى منهم خائفا من قتلهم له. لأن الإله هو خالق لهم ولعملهم. وعالم بزمن قدرتهم عليه. فكيف يفرّ وهو يعلم وقت موته؟ وهو خالق
407
الموت والحياة؟ ثم إنه يحتمل أن الله تعالى ألقى شبهه على شيطان أو مارد من مردة الجن ليخلص نبيه ورسوله من أيدي أعدائه، ويرفعه إليه محفوظا مكرما. كما أجرى عليه يديه إحياء الموتى، وخلقه من غير أب، وأبرأ الأكمه والأبرص. لا سيما وهو بزعمهم إله العالم وخالق الإنس والجن وبني آدم. فأي ضرورة تدعو لإثبات أنواع الإهانة والعذاب، على ما زعموا، لرب الأرباب. مع وجود التناقض فيما نقلته أناجيلهم في هذا الفصل والباب.
عجبا للمسيح بين النصارى... وإلى أيّ والد نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا:... إنهم بعد ضربه صلبوه
فإذا كان ما يقولون حقّا... وصحيحا، فأين كان أبوه؟
حين خلى ابنه رهين الأعادي... أتراهم أرضوه أم أغضبوه؟
فلئن كان راضيا بأذاهم... فاحمدوهم لأنهم عذّبوه
ولئن كان ساخطا فاتركوه... واعبدوهم لأنهم غلبوه
وفي كتاب (الفاصل بين الحق والباطل) ما نصه: وفي الذي اتخذتموه شهيدا على صلبه من كلام عاموص النبيّ. أن الله تعالى قال على لسانه: ثلاثة ذنوب أقبل لبني إسرائيل. والرابعة لا أقبلها. بيعهم الرجل الصالح- حجة عليكم لا لكم. لأنه لم يقل بيعهم إياي. ولا قال بيعهم إلها متساويا معي.
ويجزي تأويل ذلك على وجهين: إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى كما تزعمون فقولوا حينئذ إنه (الرجل الصالح) كما قال عاموص، وليس بالإله المعبود.
وإما أن يريد بالمبيع غيره وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه. ويلزمكم وقتئذ إنكار مصلوبية عيسى عليه السلام. كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم الصلب لعيسى عليه السلام. ووقوع الشبه على غيره. وذلك من وجوه: أحدها- يوجد في الإنجيل أن عيسى عليه السلام صعد إلى جبل الجليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا. فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق. وإذا بموسى بن عمران وإيليا قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم. فوقع النوم على الذين معه. فأي مانع يمنع من أن يكون ذلك قد وقع في اليوم الذي طلبته فيه اليهود. وإنما قد اختلفتم في نقلها كما اختلفتم وتناقضتم في غير ذلك. وغيرتم الكلم عن مواضعه. وظهور الأنبياء عليهم السلام وتظليل السحابة ووقوع النوم على التلاميذ، يكون حينئذ دليلا ظاهرا على الرفع إلى
408
السماء وعدم الصلب. وإلا فلا معنى لظهور هذه الآيات. وثانيها- ما في الإنجيل أيضا أن المصلوب قد استسقى اليهود فأعطوه خلّا مضافا بمر. فذاقه ولم يشربه.
فنادى: إلهي إلهي لم خذلتني؟ والأناجيل كلها مصرحة بأنه عليه السلام كان يطوي أربعين يوما وأربعين ليلة. ويقول للتلاميذ: إن لي طعاما لستم تعرفونه. ومن يصبر على العطش والجوع أربعين يوما وليلة كيف يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد؟ هذا لا يفعله أدنى الناس، فكيف بخواصّ الأنبياء؟ أو كيف بالرب على ما تدعونه؟ فيكون حينئذ المدعى للعطش غيره. وهو الذي شبه لكم. وثالثها- قوله: إلهي إلهي لم خذلتني وتركتني؟ هو كلام يقتضى عدم الرضا بالقضاء، وعدم التسليم لأمر الله تعالى. وعيسى عليه السلام منزّه عن ذلك. فيكون المصلوب غيره.
لا سيما وأنتم تقولون: إن المسيح عليه السلام إنما نزل ليؤثر العالم على نفسه، ويخلّصه من الشيطان ورجسه. فكيف تروون عنه ما يؤدي إلى خلاف ذلك، مع روايتكم في توراتكم أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون، عليهم السلام، لما حضرهم الموت كانوا مستبشرين بلقاء ربهم، فرحين بانقلابهم إلى سعيهم، لم يجزعوا من الموت ولم يستقيلوا منه. ولم يهابوا مذاقه. مع أنهم عبيده. والمسيح بزعمكم ولد وربّ. فكان ينبغي أن يكون أثبت منهم. ولما لم يكن كذلك دلّ على أن المصلوب غيره، وهو الذي شبه لكم.

فصل


فيما روي عن سلفنا الكرام رضي الله عنهم في تفسير هذه الآية.
قال الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقيّ رحمه الله تعالى في (تفسيره) هنا ما نصه: وكان من خبر اليهود، عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه، أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى، حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات. التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله. ويصوّر من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله عز وجل. إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه. ومع هذا كذبوه وخالفوه وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم. حتى جعل نبيّ الله عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلدة. بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام. ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان، وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد
409
على الملك رعاياه. فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور. وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه. ويكفّ أذاه عن الناس. فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام. وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر وقيل سبعة عشر نفرا. وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت. فحصروه هنالك. فلما أحس بهم، وأنه لا محالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم، قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم.
فكأنه استصغره عن ذلك. فأعادها ثانية وثالثة. وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب.
فقال: أنت هو. وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو. وفتحت روزنة من سقف البيت وأخذت عيسى سنة من النوم فرفع إلى السماء. وهو كذلك كما قال الله: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ... الآية.
فلما رفع، خرج أولئك النفر. فلما رأى أولئك النفر ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه. وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك، لجهلهم وقلة عقلهم. ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه. وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم. حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت. ويقال إنه خاطبها. والله أعلم. وهذا كله من امتحان الله عباده، لما له في ذلك من الحكمة البالغة. وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبيّنه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات، والدلائل الواضحات، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: ورب العالمين، المطلع على السرائر والضمائر، الذي يعلم السر في السموات والأرض، العالم بما كان ويكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء: ١٥٧]. أي: رأوا شبهه فظنوا أنه إياه. ولهذا قال: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء: ١٥٧]. يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلمه إليهم من جهال النصارى. كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر. ولهذا قال: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً [النساء: ١٥٧]. أي: وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكّين متوهمين: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً، أي:
منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه. حَكِيماً أي: في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها. وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان
410
العظيم والأمر القديم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان. حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين. يعنى فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء. فقال: إن منكم من يكفر بي اثني عشر مرة بعد أن آمن بي. قال ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكن معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنّا فقال له: اجلس.
ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا فقال: هو أنت ذاك. فألقي عليه شبه عيسى. ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء. قال وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه. فكفر به بعضهم اثني عشر مرة بعد أن آمن به. وافترقوا ثلاث فرق. فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه إليه. وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها. فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس. ورواه النسائيّ عن أبي كريب عن أبي معاوية نحوه. وكذا ذكر غير واحد من السلف أنه قال لهم: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة؟
وقال ابن جرير «١» حدثنا ابن حميد. حدثنا يعقوب القميّ عن هارون بن عنترة عن وهب بن منبه قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت. فأحاطوا بهم. فلما دخلوا عليه صورهم الله عز وجل كلهم على صورة عيسى. فقالوا لهم:
سحرتمونا. لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا. فقال عيسى لأصحابه: من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا. فخرج إليهم وقال: أنا عيسى. وقد صوره الله على صورة عيسى. فأخذوه فقتلوه وصلبوه. فمن ثم شبه لهم فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى. وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى. ورفع الله عيسى من يومه ذلك. قال ابن كثير: وهذا سياق غريب جدا. ثم قال ابن جرير: وقد روي عن وهب نحو هذا القول وهو «٢» ما حدثني المثنى. حدثنا إسحاق. حدثنا إسماعيل عن عبد الكريم. حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى بن مريم لما
(١) الأثر رقم ١٠٧٧٩ من تفسير ابن جرير.
(٢) الأثر رقم ١٠٧٨٠ من تفسير ابن جرير.
411
أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشقّ عليه. فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما فقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة. فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم. فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه. فتعاظموا ذلك وتكارهوه. فقال: ألا من ردّ عليّ الليلة شيئا مما أصنع فليس مني ولا أنا منه. فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة.
فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعاظم بعضكم على بعض وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكم. وأما حاجتي الليلة التي استعنتكم عليها، فتدعون الله لي وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي. فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء. فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله! أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها. فقالوا: والله! ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرا. وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه. فقال:
يذهب بالراعي وتتفرق الغنم. وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى نفسه. ثم قال:
الحقّ، ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات. وليبيعنّي أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني! فخرجوا فتفرقوا. وكانت اليهود تطلبه. وأخذوا شمعون أحد الحواريين وقالوا: هذا من أصحابه. فجحد وقال: ما أنا بصاحبه.
فتركوه. ثم أخذه آخرون فجحد كذلك. ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه. فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟
فجعلوا له ثلاثين درهما. فأخذها ودلهم عليه. وكان شبّه عليهم قبل ذلك. فأخذوه فاستوثقوا منه وربطوه بالحبل. فجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتى وتنتهر الشيطان وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك. حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها. فرفعه الله إليه. وصلبوا ما شبّه لهم. فمكث سبعا. ثم إن أمّه والمرأة التي كان يداويها عيسى عليه السلام فأبرأها الله من الجنون، جاءتا تبكيان حيث المصلوب. فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان؟ فقالتا: عليك. فقال: إني قد رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير. وإن هذا شيء شبّه لهم. فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا. فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر. وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود فسأل عنه أصحابه فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه. فقال: لو تاب لتاب الله عليه. ثم سألهم عن غلام يتّبعهم يقال له يحنّى. فقال: هو معكم، فانطلقوا فإنه يصبح كلّ
412
إنسان يحدث بلغة قوم. فلينذرهم وليدعهم.
قال ابن كثير: سياق غريب جدا. وقال ابن جريج عن مجاهد: صلبوا رجلا شبه بعيسى. ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء حيّا.

فصل في رد زعم النصارى أن إلقاء الشبه يفضي إلى السفسطة


قال خير الدين في (الجواب الفسيح) قال النصارى: القول بإلقاء الشبه على عيسى عليه السلام قول يفضي إلى السفسطة، والدخول في الجهالات، وما لا يليق بالعقلاء. لأنا إذا جوزنا ذلك فينبغي إذا رأى الإنسان ولده أو زوجته لم يثق بأنه ولده أو زوجته. وكذلك سائر المعارف. لا يثق الإنسان بأحد منهم ولا يسكن إليه. ونحن نعلم بالضرورة أن الإنسان يقطع بأن ولده هو ولده. وإن كل واحد من معارفه هو، من غير شك ولا ريبة. بل القول بالشبه يمنع من الوثوق بمدينة الإنسان ووطنه إذا دخله.
ولعله مكان آخر ألقي عليه الشبه. بل إذا غمض الإنسان عينه عن صديقه بين يديه لحظة، ثم فتحها، ينبغي أن لا يقطع بأنه صديقه. لجواز إلقاء الشبه على غيره. وكل ذلك خلاف الضرورة. فالقول بإلقاء الشبه على غير عيسى خلاف الضرورة. كالقول بأن الواحد نصف العشرة مثلا، فلا يسمع.
والجواب عنه من وجوه: أحدها- أن هذا تهويل ليس عليه تعويل. بل البراهين القاطعة، والأدلة الساطعة قائمة على أن الله تعالى خلق الإنسان وجملة أجزاء العالم. وإن حكم الشيء حكم مثله: فما من شيء خلقه الله تعالى في العالم إلا هو قادر على خلق مثله. لتعذر خلقه في نفسه. فيلزم أن يكون خلق الإنسان مستحيلا.
بل جملة العالم، وهو محال بالضرورة. وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على خلق مثل لكل شيء في العالم، فجميع صفات جسد عيسى عليه السلام لها أمثال في حيز الإمكان في العدم، يمكن خلقها في محل آخر غير جسد المسيح. فيحصل الشبه قطعا. فالقول بالشبه قول بأمر ممكن. لا بما هو خلاف الضرورة. ويؤنس ذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق جميع ما للحية في عصا موسى عليه السلام. وهو أعظم من الشبه. فإنّ جعل حيوان يشبه حيوانا، وإنسان يشبه إنسانا- أقرب من جعل نبات يشبه حيوانا. وقلب العصا مما أجمع عليه اليهود والنصارى. كما أجمعوا على قلب النار بردا وسلاما. وعلى قلب لون يد موسى عليه السلام. وعلى انقلاب الماء
413
خمرا وزيتا للأنبياء عليهم السلام. وإذا جوزوا مثل هذا فيجوز إلقاء الشبه من غير استحالة. على أن عيسى عليه السلام قد خولفت عادة الله تعالى الأغلبية في خلقه من ماء واحد. ونفخ جبريل في جيب مريم. فجعل شبهه على غيره ليس بأبعد من العادة، من خلقه. على أن إحياءه للموتى وإبراءه للأبرص والأكمه أعظم من إلقاء شبهه على غيره. على أن عروجه إلى السماء بناسوته وخرق السماء والتئامها، ليس بأهون من ذلك. على أن رد الشمس ليوشع بن نون، ومشي عيسى وحواريّه على الماء، وسائر معجزات أنبياء بني إسرائيل، ليس بأهون مما هنالك. وإذا صح عند النصارى انقلاب الخبز إلى جسد المسيح، والخمر إلى دمه في العشاء السرّي، لم لا يمكن أن يوقع شبهه على أحدهم؟ كما لا يخفى.
وثانيها- أن الإنجيل ناطق بأن المسيح عليه السلام نشأ بين ظهراني اليهود.
وحضر مرارا عديدة في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم. يعظهم ويعلمهم ويناظرهم.
ويتعجبون من براعته وكثرة تحصيله. حتى إنهم (كما في الإنجيل) يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟ أليست أمه مريم؟ أليس إخوته عندنا؟ فمن أين له هذه الحكمة؟
وإذا، كان في غاية الشهرة والمعرفة عندهم. وقد نص الإنجيل على أنهم عند إرادة الصلب لم يحققوه، حتى دفعوا لتلميذه ثلاثين درهما ليدلهم عليه. فما حاجتهم حينئذ أن يكتروا رجلا من تلاميذه ليعرفهم شخصه؟ لولا وقوع الشبه الذي نقول به.
وثالثها- أنه كما تقدم في الأناجيل، أخذ في حندس من الليل المظلم في حالة شوّهت صورته وغيّرت محاسنه وهيئته، بالضرب والسحب وأنواع النكال الموجبة لتغير الحال. ومثل ذلك يوجب اللبس بين الشيء وخلافه. فكيف بين الشيء وشبهه؟ حتى إن رئيس الكهنة عند إحضاره أقسم عليه هل هو يسوع المسيح ابن الله؟ فلم يجبه. ولو كان هو لأجابه. فمن أين للنصارى واليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى عليه السلام دون شبهه؟ بل إنما يحصل الظن والتخمين كما قال تعالى في كتابه المبين: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.
رابعها- قد تقدم في الأناجيل أنه لما جاء اليهود إلى محله خرج إليهم وقال:
من تريدون؟ قالوا: يسوع. وقد خفى شخصه عليهم. ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته. وهذا دليل الشبهة، ورفع عيسى عليه السلام. ولا سيما وقد نقل غير واحد من العلماء عن بعض النصارى القول بأن المسيح عليه السلام كان قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة.
خامسها- قول متى في (الفصل الخامس والعشرين) من (إنجيله) ما لفظه:
414
حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون فيّ هذه الليلة. لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية. ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل. فأجاب بطرس وقال له:
وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدا. قال له يسوع: الحق أقول لك. إنك هذه الليلة، قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات. انتهى.
فقد شهد عليهم بالشك. بل خيرهم بطرس الذي هو خليفة عليهم، شك.
فقد انخرمت الثقة بأقوالهم. وصح قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ.
سادسها- إن في (الفصل السابع والعشرين) من (إنجيل متى) ما لفظه:
حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ. قائلا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا. فقالوا: ما علمنا. أنت أبصر. فطرح الفضة في الهيكل وانصرف. ثم مضى وخنق نفسه. انتهى.
فهذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه. بل فيها اختلافات. فيحتمل أن يهوذا كذب عليهم في قوله (هو هذا) ويدل على وقوع ذلك، ويقرّبه ظهور ندمه بعد هذا.
ولا سيما وهو من جملة الاثني عشر الذين شهد لهم المسيح بالسعادة الأبدية.
والسعيد لا يتم منه مثل هذا الفساد العظيم. فيلزم إما أنّ يهوذا ما دل عليه، أو كون المسيح ما شهد لهم بالسعادة الدائمة. أو إن أناجيلهم محرفة مبدلة. ويحتمل أن أحد أتباع المسيح باع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح عليه السلام. وادعى أنه هو. ومثل هذا كثير في أتباع الأنبياء. حيث يريدون أن يفدوا أنفسهم بدل أنبيائه.
ويحتمل أن الأعوان أخذوا عليه رشوة وأطلقوه، وأخذوا بدله. كما أن يهوذا، مع أنه صديقه ورسوله، أخذ رشوة ودلهم عليه. ويحتمل أن الله تعالى أرسل شيطانا على صورته وصلبوه. ويحتمل أن الملك الذي نزل عليه ليقويه، كما تقدم في إنجيل لوقا بزعمهم، صار فداء له. ويحتمل أن هذا الذي نزل إنما نزل لرفعه. لأنه لو كان نازلا لتقويته لقوّاه. فلما لم نر أنه قواه فيقتضي أنه رفعه إلى السماء، أو فدى نفسه له.
وقال بعض الأفاضل: ومن الأدلة على رفعه وصلب شبهه ما في الفصل التاسع من (إنجيل لوقا) ما لفظه: أن المسيح صعد إلى جبل ليصلي وأخذ بطرس ويوحنا ويعقوب معه. وفيما هو يصلي صارت هيئته ووجهه متغيرة، ولباسه مضيئا لامعا. إلخ.
فهذا فيه دلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به. إذ لا معنى لظهور موسى وإيلياء، ووقوع النوم على أصحابه، وتغير وجهه وإضاءة لباسه، إلا رفعه..
415
ورؤيتهم له بعد ذلك، إنما هو من تطور روحه. لأنه عليه السلام كان له قوة التطور:
وهذا من أحكام الروح والنفس.
ولئن قلنا إنه لا يدل على الرفع بالوجه التام، غير أنا نتنزل ونقول: ما دام في هذه المرة تغيرت هيئته ووجهه ولباسه، واجتمع بالأنبياء وسمع من الغمامة هذا الصوت، فلا أقل من أن يكون ذلك مقدمة لرفعه ومقياسا، ومبدأ لتقويته وإيناسا.
واليهود لم يتحققوا من أنفسهم أنه هو المسيح. بل اعتمدوا على قول يهوذا كما تقدم لك. ويهوذا قوله قول فرد، وغير صالح للاحتجاج. للاحتمالات والأدلة التي ذكرناها لك. فلم يبق في قول الفرقتين حجة أن المصلوب هو المسيح عليه السلام، لا شبهه. وأنا جيلهم حالها معلوم لديك. وبيان اشتباههم المحكيّ لك في القرآن، لا يخفى عليك. انتهى.
وهنا سؤال يورده بعض النصارى وهو: أن عيسى عليه السلام إذا كان لم يصلب حقيقة، وإنما صلب رجل ألقي عليه شبهه، ورفع هو إلى السماء، فلم لم يخبر الحواريين بذلك قبل رفعه أو بعده؟
والجواب: أن عيسى عليه السلام لم يخبر بذلك لعلمه بأن أناسا سيفترون عليه ويقولون بألوهيته. فأبهم الأمر ليكون ذلك أدل على كونه عبدا من عبيد الله. لا يقدر على جلب نفع ولا دفع ضر. بخلاف ما لو أخير بأنه لا يصلب، أو لم يصلب، وأن المصلوب شبهه، فإنه ربما كان ذلك مقويا لشبهة أولئك الجماعة. ولعدم كون هذه المسألة من المسائل الاعتقادية في الأصل. إذ لو اعتقد أحد، قبل إرسال نبينا عليه الصلاة والسلام، بصلب عيسى، لم يضره ذلك. لكن لما ورد نبينا الذي لا ينطق عن الهوى، أبان خطأ النصارى في الوجهين: أحدهما- اعتقاد أن عيسى إله- والآخر اعتقاد أنه قد قتل وصلب. وأبان أنه عبد من عبيد الله تعالى تولاه بالرسالة.
واصطفاه وحفظه من أيدي أعدائه وحماه، كذا في (منية الاذكاء في قصص الأنبياء).

فصل في سقوط دعواهم التواتر في أمر الصلب


قال القرافيّ: اعلم أن النصارى قالوا: إنهم واليهود أمتان عظيمتان طبقوا مشارق الأرض ومغاربها. وكلهم يخبر أن المسيح عليه السلام صلب. وهم عدد
416
يستحيل تواطؤهم على الكذب. والإنجيل أيضا مخبر عن الصلب. فإن جوزتم كذبهم، وكذب ما يدعي أنه الإنجيل، وإن مثل هؤلاء ممكن تواطؤهم على الكذب- لزم المحال من وجوه: أحدها- أنه يتعذر عليكم أيها المسلمون، جعل القرآن متواترا. وثانيها- أن قاعدة التواتر تبطل بالكلية.
فإن غاية خبر التواتر يصل إلى مثل هذا. وثالثها- أن إنكار الأمور المتواترة.
جحد للضرورة، فلا يسمع. فلو قال إنسان: الخبر عن وجود بغداد ودمشق كذب، لم يسمع ذلك منه، وعدّ خارجا عن دائرة العقلاء. وحينئذ يتعين أن القول بالصلب حق وأن إخبار المسلمين والقرآن عن عدم ذلك، مشكل.
والجواب من وجوه: أحدها- أن جميع النصارى واليهود يوردون هذا السؤال ولا يعلمون حقيقة التواتر ولا شروطه. وإنما فهم ذلك وغيره هذه الأمة المحمدية والملة الإسلامية! لعلو قدرها وشرفها واختصاصها بمعاقد العلوم وأزمتها. دون غيرها. كما هو مسلم عند كل درّي (كذا) منصف. وها نحن نوضح ذلك إن شاء الله تعالى فنقول: إن التواتر له شروط: الشرط الأول- أن يكون المخبر عنه أمرا محسوسا. ويدل على اعتبار هذا الشرط، أن الأمة العظيمة قد تخبر عن القضايا الجسيمة وهي باطلة. كإخبار المعطلة عن عدم الصانع والفلاسفة عن قدم العالم. مع بطلان ذلك عند أمم كثيرة. وسببه أن مجال النظر يكثر فيه وقوع الخطأ. فلا يثق الإنسان بالخبر عن العقليات، حتى ينظر فيجد البرهان العقليّ يعضد ذلك الخبر.
فحينئذ يقطع بصحة ذلك الخبر. أما الأمور المحسوسة، مثل المبصرات ونحوها فشديدة البعد على الخطأ. وإنما يقع الخلل من التواطؤ على الكذب. فإذا كان المخبرون يستحيل تواطؤهم على الكذب حصل القطع بصحة الخبر. الشرط الثاني- استواء الطرفين والواسطة. وتحرير هذا الشرط أن المخبرين لنا، إذا كانوا يستحيل تواطؤهم على الكذب وكانوا هم المباشرين لذلك الأمر المحسوس، المخبر عنه، حصل العلم بخبرهم. وإن لم يكن المخبر لنا هو المباشر لذلك الأمور المحسوس، بل ينقلون عن غيرهم أنه أخبرهم بذلك، فلا بد أن يكون الغير المباشر عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، فإنه إن جاز الكذب عليه، وهو أصل هؤلاء المخبرين لنا، فإذا لم يبق الأصل لم يبق المفرع عليه. فلا يلزم من كون المخبر لنا يستحيل تواطؤهم على الكذب حصول العلم بخبرهم. لجواز فساد أصلهم المعتمدين عليه. فيتعين أن يكون الأصل عددا يستحيل توطؤهم على الكذب.
فهذا معنى قولنا: (استواء الطرفين) في كونهما عددا يستحيل تواطؤهما على
417
يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأصلهم الذي ينقلون عنه كذلك، لكن أصلهم لم يباشر ذلك الأمر المحسوس، بل ينقل عن غيره أيضا، فأصل ذلك الأصل يجب أن يكون عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب أيضا. لما تقدم. وفي هذه الصورة حصل طرفان وواسطة. فالطرفان المخبر لنا. والمباشر الأول الواسطة الذي بينهما.
فيجب استواء الطرفين والواسطة. والوسائط تكثرت في كونهم عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب. فينقسم، بهذا التحرير، التواتر إلى طرف فقط، وإلى طرفين بلا وساطة، وإلى طرفين وواسطة. والثلاثة أقسام مشتركة في هذا الشرط. فإذا تقرر حقيقة التواتر فنقول: الحس إنما يتعلق بأن هذا مصلوب على هذه الخشبة. وأما أنه عيسى عليه السلام نفسه أو غيره، فهذا لا يفيده الحس البتة. بل إنما يعلم بقرائن الأحوال إن وجدت، أو بأخبار الأنبياء عليهم السلام عن الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علما.
وأحصى كل شيء عددا. والذي يدل على أن الحس لا يفرق بين المتماثلات، أنا لو وضعنا في إناء رطلا من الماء مثلا. وأريناه لإنسان، ثم رفعنا ذلك الماء ووضعنا فيه رطلا آخر من ذلك الماء ثم أريناه ذلك الإنسان. وقلنا له: هذا الماء هو عين الماء الأول أو مثله؟ فإنه إذا أنصف يقول: الذي أدركه بحسّي أن هذا ماء بالضرورة. أما أنه عين الأول أو غيره مماثلا له، فلا أعلم. لكون الحس لا يحيط بذلك. هذا في المائعات. وكذلك كفّ من تراب أو أوراق الأشجار أو أنواع الحبوب. كالحنطة مثلا. إذا أخذ منها حفنتان ونحو ذلك. وكذلك الحيوانات الوحشية والطيور شديدة الالتباس على الحس. إذا اتحد النوع في اللون والسن والغلظ. وإنما كثرت الفروق في الحيوانات الإنسية كالفرس ونحوها.
مطلب:
وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري.
والحيوان الإنسيّ يختلف ذلك فيه، بحسب مقتنيه، اختلافا كثيرا. فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق، وإيثار نوع من العلف على غيره، ومكان مخصوص على غيره، وإلزام الحيوان أنواعا من الأعمال والرياضة دون غيرها، فيختلف الحيوان الإنسيّ بحسب ذلك. ثم يتصل ذلك بالنّطف في التوليد، مضافا إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف. والحيوان الوحشيّ سلم عن جميع ذلك.
فتشابهت أفراد نوعه. ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة. فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين، ولا التمييز بين الشيئين، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى عليه السلام دون شبهه أو مثله- ليس مدركا بالحس.
418
وإذا لم يكن مدركا بالحس، جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى عليه السلام شبهه في غيره. كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيره. ثم يرفعه ويصونه عن إهانة أعدائه. وهو اللائق بكريم آلائه. في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه وإذا جوز العقل مثل هذا مع أن الحس لا مدخل له في ذلك، بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالما عن المعارض. مؤيدا بكل حجة. وسقط السؤال بالكلية. وثانيها- سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين. والتمييز بين الشبهين. لكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب. ويدل على أنهم ليسوا كذلك، أن الحواريين فرّوا عنه. لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود. فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم. لا يفيد علما بل هو ظن وتخمين لا عبرة به. لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. أي: هم لا يتيقنون ذلك. بل يحزرون بالظن والتخمين. وأما من جهة الملة اليهودية، فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة وأعوان الولاة. وذلك في مجرى العادة يكون نفرا قليلا. كالاثنين أو الثلاثة ونحوها. يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر. فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا علم بالصلب. فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد، سقط اعتبارها في إفادة العلم.
لجواز كذب الناقل. فلا يكون عدد التواتر حاصلا في نفس الأمر. والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والإنجيل. ولا يوجد يهوديّ ولا نصرانيّ على وجه الأرض يروي التوراة والإنجيل، عدلا عن عدل، إلى موسى وعيسى عليهما السلام. وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل، فأولى أن يتعذر التواتر. ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جدا. بحيث إن التواريخ الإسلامية أصح منها، لقرب عهدها. مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ. فضلا عن أصول الأديان. وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد، في غاية الضعف- كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف. لأن الفرع لا يزيد على أصله.
وثالثها- أن نصوص الإنجيل مشعرة بعدم صلب عيسى عليه السلام بخصوصه. كما نقلنا بعضها آنفا.
وقال في (تخجيل الأناجيل) : فيقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه، أتنقلونه تواترا أم آحادا؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة، ولم يثبت العلم الضروريّ. إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب.
419
وإذا كان الآحاد يعرض عليهم ذلك، فلا يحتج بهم في القطعيات. وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: شرط التواتر استواء الطرفين فيه والوسط. وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين شاهدوا المشهود به، وهو المصلوب. وعلموا أنه هو ضرورة.
فإن اختل شيء من ذلك فلا تواتر. فإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة، أكذبتم نصوص أناجيلهم التي بأيديهم. إذ قال لهم نقلتها الذين دوّنوها لهم وعليها معوّلهم: إنه لما أخذ فقتل كان في شرذمة يسيرة من تلاميذه.
فلما أقبل عليه هربوا بأسرهم. ولم يتبعه إلا بطرس من بعيد. ولما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته. فقالت: هذا كان مع يسوع. فحلف أنه لا يعرف يسوع بقوله. وخادعهم حتى تركوه. وذهب ولم يكد يذهب. وأن شابّا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به. فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانا. فهؤلاء أصحابه وأتباعه، لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة أناجيلهم. وأما أعداؤه اليهود، الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر، فلم يبلغوا عدد التواتر. بل كانوا آحادا وأفرادا. لأن عموم الناس الذين حضروا لا يرون إلا شخصا على خشبة ومعه لصّان مصلوبان. ولا شك أن هيئتهم وصفتهم متغيرة عن الحالة التي قبل أخذهم. وأما المشايخ ونحوهم فلم يعرفوه أيضا. ففي الأصحاح الثاني والعشرين من (إنجيل لوقا) ما لفظه: فلما كان النهار اجتمع مشايخ الشعب ورؤساء الكهنة وأدخلوه إلى مجمعهم. وقالوا له:
إن كنت أنت المسيح فقل لنا. قال لهم: إن قلت لكم لم تؤمنوا لي. وإن سألتكم لم تجيبوني ولم تخلوني. انتهى.
وهذا يحتمل أنهم يسألونه عن ذاته أو عن رسالته. على أنا لو سلمنا كثرة عددهم وصدق معرفتهم فيمكن تواطؤهم على الكذب. لأنهم لما لم يجدوه هو، ولم يعلموا محل المسيح، وكان ذلك من تلاميذه، واستحلوا قتله أيضا، أشاعوا أنه هو المسيح ليترك الناس متابعته، ولئلا يتخذوا المسيح نبيّا. وصمموا، أنهم إذا وجدوا المسيح بعد هذا أيضا، يعملون به كما عملوا بصاحبه. ويؤيد هذا أنهم جعلوا على القبر حراسا لئلا ينبش القبر ويرى أنه غير المسيح. ومما يزيد الأمر وضوحا قول (إنجيل متى) في (الأصحاح الثامن والعشرين) : أن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت ملكا قد نزل من السماء برجّة عظيمة. فدحرج الحجر عن فم القبر.
وجلس عنده. فكاد الحراس أن يموتوا من هيبته. وبادروا من فورهم إلى المشايخ فأعلموهم بالقصة. فأرشاهم المشايخ برشوة أن يستروا القصة وأن يشيعوا أن التلاميذ سرقوه ونحن نيام. فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود. كما أنهم
420
ستروا الآية التي ذكرتم، صلبوا شخصا من أتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح. فإذا تبين عدم الاحتجاج بإجماع اليهود والنصارى الآن على صلبه، فنرجع إلى القرائن العقلية والنقلية. فأما العقل فلا يجوّز أن الإله القادر على كل شيء يقتله أذل عباده، وهم اليهود. ويضربونه ويعملون به ما هو محرر في أناجيل النصارى المضطربة المحرفة المكتوبة بعد رفعه بسنين عديدة وأعوام مديدة. مع أنه يفرّ منهم مرات كثيرة ويستغيث ويطلب من الله تعالى تأخير أجله بقوله: أجز عني هذه الكأس.
ويصرخ ويقول: إلهي! إلهي! لم تركتني؟ ويسلم روحه. وعند الصلب يطلب منهم الماء لكثرة عطشه. فيعطوه خلّا بدله. وأيّ خلاص لعباده في هذه الحالة، وهو بزعمهم أتى ليخلص العالم من الخطيئة. بل صار موقعا لهم في الإثم بسبب عدم إيمانهم به. فكيف يكون مخلصا بنفسه؟ وأما النقل، فقد تبين لك تهافت أناجيلهم واضطرابها، والدلالة على عدم المعرفة به، وعدم وجوده في قبره. والأعظم من ذلك عند كل ذي عقل سليم قوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. وأما قول متى في (الأصحاح السابع والعشرين) : فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا للكثيرين- فهو قول بهت ومحال. لا يخفى بطلانه على ذوي العقول من النساء والرجال. لأنه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله. ولم يتفق إخفاء مثله. ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع. فحيث داموا على الجحد له والتكذيب، دلّ على كذب ما نقله عباد الصليب. وإذا كان اليهود أعطوا دراهم رشوة، كما علمت سابقا، لحراس القبر حتى لا يخبروا القائد وسائر الناس بملك نزل من السماء على قبر يسوع، كي لا يظن براءته مما نسب إليه أعداؤه، فكيف تكون هذه الآيات العظيمة؟ وتقوم الأموات من قبورها؟ ويدخلون المدينة؟ ولا يكون ذلك حجة على من لا يؤمن به إذ ذاك؟ وأيضا، ما معنى تفتح القبور وقيام القديسين من قبورهم؟ فهل كان استبشارا بمصابه؟ فهم إذا ذاك ليسوا من أحبابه. أو كان جزعا على مماته؟ وخرجوا إعانة له قبل فواته؟ فوا عجبا لرب أحياهم بعد أن كانوا رفات. ولم يعينوه حتى قضى ومات. وأحيي الرمم، وصرخ عند تسليم الروح. ولم يقدر على إبراء ما فيه من جروح. وليت شعري ما عمل هؤلاء القديسون؟ أبقوا في المدينة المقدسة؟ أم كروا إلى قبورهم فهم راجعون؟ وهل التأم الهيكل والصخور؟ أم دامت على انشقاقها إلى كثير من الدهور؟
421
فإن قيل: إنما لم يشتهر ذلك، لأن أصحاب المسيح لم يحضر منهم أحد خوفا من اليهود، والذين شاهدوا هذه الآيات من اليهود تواطؤوا على الكتمان حسدا وبغيا.
قلنا: مثل هذه الآيات العظيمة إذا وقعت، علمها من حضر ومن غاب، من الأعداء والأحباب. لأنها آيات نهارية. ومعجزات تشتهر في البرية. ويتناقلها أهل البلدان.
وتبقى مؤرخة بكل لسان. في سائر الملل بكل أرض وزمان. فعلم بالضرورة أن هذه الأقوال. مما اخترعها وحررها أئمة الضلال. ليخدعوا بها ضعفاء العقول. ويتوصلوا إلى جذب الدنيا بالكذب على هذا الرسول. انتهى.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه (الملل) عند الكلام على النصارى:
ومما يعترض به علينا اليهود والنصارى، ومن ذهب إلى إسقاط الكوافّ (جمع كافة) من سائر الملحدين، أن قال قائلهم: قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل. وجاء القرآن بأنه ﷺ لم يقتل ولم يصلب. فقولوا لنا: كيف كان هذا؟ فإن جوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس، نقل الباطل فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه. فإن قلتم: اشتبه عليهم فلم يتعمدوا نقل الباطل، فقد جوزتم التلبيس على الكواف. فلعل كافتكم أيضا ملتبس عليها. فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم، وقولوا لنا: كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله؟ فإن قلتم: كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه، وجب من قولكم الإقرار أن الله فرض على الناس الإقرار بالباطل. وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتديّن به. وفي هذا ما فيه. وإن قلتم: كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه، فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب الكواف.
وفي هذا إبطال قول كافتكم. بل إبطال جميع الشرائع. بل إبطال كل خبر كان في العالم، عن كل بلد وملك، ونبي وفيلسوف وعالم، ووقعتم. وفي هذا ما فيه.
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى. ونحن مبيّنون ذلك بالبراهين الضرورية بيانا لا يخفى على من له أدنى فهم. بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله التوفيق: إن صلب المسيح لم يقله قط كافة. ولا صح بالخبر قط. لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي إما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ، لتنابذ طرقهم، وعدم التقائهم، وامتناع اتفاق خواطرهم، على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة، أو رجع إلى مشاهدة، ولو كانوا اثنين فصاعدا. وإما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على
422
سنن ما تواطؤوا عليه، فأخبروا بخبر شاهدوه، ولم يختلفوا فيه، فما نقلوه أحد أهل هاتين الصفتين على مثل إحداهما. وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة. فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها، ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه. وسواء كانوا عدولا أو فساقا أو كفارا. ولا يقطع على صحته إلا ببرهان. فلما صحّ ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام، فوجدناه كوافّ عظيمة. صادقة بلا شك في نقلها جيلا بعد جيل. إلى الذين ادّعوا مشاهدة صلبه. فإن هناك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين. مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل.
والنصارى مقرّون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا خوف العامة. وأنهم أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن الفصح. وأنه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار. وأنه أنزل أثر ذلك. وأنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة. في بستان فخّار متملك للفخار. ليس موضعا معروفا بصلب من يصلب. ولا موقوفا لذلك. وأنه بعد هذا كله رشي الشّرط على أن يقولوا إن أصحابه سرقوه. ففعلوا ذلك. وإن مريم المجدلانية، وهي امرأة من العامة، لم تقدم على حضور موضع صلبه. بل كانت واقفة على بعد تنظر. هذا كله في نص الإنجيل عندهم. فبطل أن يكون صلبه منقولا بكافة. بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوم متواطأ عليه. وما كان الحواريون ليلتئذ، بنص الإنجيل، إلا خائفين على أنفسهم، غيّبا عن ذلك المشهد. هاربين بأرواحهم مستترين. وإن شمعون الصفا غرّر ودخل دار قيقان الكاهن أيضا بضوء النهار. فقال له: أنت من أصحابه؟ فانتفى وجحد وخرج هاربا عن الدار. فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه. على أن نظن به الصدق. فكيف أن ينقله كافة. وهذا معنى قوله تعالى: وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق، الذين دبّروا هذا الباطل، وتواطؤوا عليه، هم شبهوا على من قلدهم.
فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه. وهم كاذبون في ذلك. عالمون أنهم كذبة. ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة، لبطلت النبوات كلها. إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة. ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها. لأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس. وفيمن يجالس. وفي حيث هو فلعله نائم، أو مشبه على حواسه. وفي هذا خروج إلى السخف وقول السفسطائية والحماقة. وقد شاهدنا نحن مثل ذلك. وذلك أننا أنذرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر. فرأيت أنا وغيري نعشا فيه شخص مكفن. وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة، في بيت. وخارج البيت
423
أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد. ثم صلينا في ألوف من الناس عليه. ثم لم يلبث شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيّا. وبويع بعد ذلك بالخلافة. ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه. ورأيته. وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام.
قال أبو محمد رضي الله عنه: وأما قوله: قد جوّزتم التمويه على الكافة، فقد بيّنا أنها لم تكن كافة قط. وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس؟ فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات. فلو صح أنها كانت كافة، لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم، حاكما على حواسهم ومحيلا لها. كخروج النبيّ ﷺ ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش. وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه. وأما ما لم يأت خبر عن الله عز وجل بأنه شبه على الكافة، فلا يجوز أن يقال ذلك. لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعة. وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن. إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل، فيلزم قبوله. وأما التشبيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز. وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك. ولا يجوز على الجماعة كلها. وقوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليدا لأسلافهم من النصارى واليهود أنه عليه السلام قتل وصلب. فهؤلاء شبّه لهم القول. أي: أدخلوا في شبهة منه. وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت. وشرطهم المدّعون أنهم قتلوه. وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك. وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس. ثم أنزلوه ودفنوه تمويها على العامة التي شبه الخبر لها.
ثم نقول لليهود والنصارى، بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسألة: إن كوافكم قد نقلت عن بعض أنبياءكم فسوقا ووطء إماء. وهو حرام عندكم. وعن هارون عليه السلام أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه. وقد نزه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام عن عبادة غيره. وعن الأمر بذلك، وعن كل معصية ورذيلة. فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء، منهم موسى عليه السلام وسائر أنبيائهم- كان كل ما أمروهم به، مع جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته. ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان عليهما السلام وسائر أنبيائهم. لا سيما وهم يقرون بأن العجل كان يحور بطبعه. وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه نقل كافة. ولكن نقل آحاد كذبوا فيه. وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنه، من أنه إنما كان
424
صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره. لا أنه خار بطبعه قط. وحتى لو صح أنه خار بطبعه، لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامريّ من أثر جبريل عليه السلام. والذي يعتمد عليه فهو قول ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكرناه. وبالله تعالى التوفيق.
وأما قوله: كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه؟ الإقرار بصلبه أم الإنكار له؟ فهذه قسمة فاسدة شغبية. قد حذر منها الأوائل كثيرا. ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام. وذلك أنهم أوجبوا فرضا ثم قسموه على قسمين: إما فرض بإنكار، وإما فرض بإقرار. وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه. وهذا لا يرضى به لنفسه إلا جاهل أو سخيف مغابط غابن لنفسه، غاش لمن اغترّ به. وإنما الحقيقة هاهنا أن يقول. هل يلزم الناس، قبل ورود القرآن، فرض بالإقرار بصلب المسيح، أو بإنكار صلبه، أولم يلزمهم فرض بشيء من ذلك؟ فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح. وحق الجواب أنه لم يلزم الناس قط، قبل ورود القرآن، فرض بشيء من ذلك. لا بإقرار ولا بإنكار. وإنما كان خبرا لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروريّ. ممكن صدق قائله. فقد قتل أنبياء كثيرة وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك. وهو بمنزلة شيء مغيب في دار. فيقال لهذا المعرّض بهذا السؤال الفاسد:
ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار؟ الإقرار بأن فيها رجلا أم الإنكار لذلك؟ فهذا كله لا يلزم منه شيء. ولم ينزل الله عز وجل كتابا قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح ﷺ ولا بإنكاره. وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه.
فإن قالوا: قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول. قيل لهم وبالله التوفيق:
الناقلون لنبوتهم وأعلامهم ولقولهم بصلبه عليه السلام، هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى، مفتر عليه، كافر به. فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقا أو كانوا كافة، فما كان يوحنا ومتى وبولس إلا كفارا كاذبين. وما كانوا قط من صالحي الحواريين. وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذبا، فالكاذب لا يقوم بنقله حجة. فبطل التمويه المتقدم. والحمد لله رب العالمين.

فصل


أخذ بعض نصارى هذا العصر يتذبذب في الاعتقاد. فطفق يرد على المسيحيين قولهم بتثليث الآلهة. وأنه مضاد لصريح نصوص الوحي. أخذ يسلم بحقية القرآن
425
وكذا التوراة والإنجيل الموجودين وأنهما لم يحرفا تحريفا جوهريا. واعتقد بصلب المسيح يقينا. وصار يناقش المفسرين فيما فسروا به الآية المذكورة، أعني آية الصلب. زاعما أن المنفيّ عن اليهود فيها هو نسبه الفعل لهم توبيخا لتهكمهم وازدرائهم. وردّ فعل الصلب إليه تعالى. وقد توسع في هذا الموضوع وألف كتابا سماه (المعتقد الصحيح في صلب السيد المسيح) ولما كان مبحثه غريبا جدّا، أردت أن أورد هنا بعض تمويهاته في رسالته. وأعقبها بما فوّق عليه من سهام ردود تهافته.
قال في أول رسالته: إن التباس فهم آية الصلب هو غالبا في تقدير نائب الفاعل لفعل (شبّه لهم) فإنا إن قدرنا نائب الفاعل مصدرا مأخوذا من الفعل السابق المذكور في الآية (وما قتلوه وما صلبوه) وكان التقدير شبه لهم أنهم قتلوه وأنهم صلبوه. أو شبه لهم قتلهم له وصلبهم إياه. والمعنى أنه مثل أو خيّل لهم أنهم كانوا هم القاتلين وهم الصالبين- انحلت المسألة تقريبا. وزالت كل صعوبة تأويل. حيث إن السيد المسيح لم يقتل أصلا. ولا صلب قهرا. أو مات جبرا. أو اضطرارا. بل هو من نفسه (على زعمه) قدم ذاته للصلب عن رغبته واختياره ورضاه. فكأنّ اليهود لم يفعلوا شيئا بقدرتهم ومجرد إرادتهم. حتى يحق لهم الافتخار بأنهم قتلوه. وأما إن قدّر المسيح نائب الفاعل ل (شبه) تعقدت المسألة وضاع السياق اللغويّ. لأنه لا وجه، لغويا، في الآية يثبت وقوع الصلب على رجل آخر غيره. إذ لم يذكر صريحا ولا إشارة.
ثم ذكر في الفصل السادس أن القرآن العزيز لم يؤنب النصارى، ولا مرة، على ضلال اعتقادهم بصلب المسيح وموته وقيامته. ولا كذب الإنجيل أو الحواريين. ولا لام الذين آمنوا بصلب المسيح. حال كونه نبههم مرارا على غير ضلالات عندهم.
وذكر فيه أيضا: لم ترد أحاديث صحيحة عن الرسول ﷺ بنفي صلبه. وفيه أيضا: أن هذه الآية يصح تأويلها إيجابيا طبقا لما في الإنجيل. بما أن عدة آيات أخرى قرآنية مجانسة لها أوّلت بخلاف ظاهرها اللفظيّ. كأفعال المبايعة والرمي والموت والحياة وما أشبه ذلك. التي نسبت صريحا لغير فاعلها الظاهر.
وقال في الفصل العاشر: أما قولنا إن القرآن العزيز قصد نفي نسبة فعل الصلب لليهود وإسناده لله حقيقة، فهو استناد على قوله: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: ١٧]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ
426
إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
[الفتح: ١٠]، فهنا الفاعل الظاهر حسّا وفعلا إنما هو الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. ولكن الفاعل الحقيقيّ إنما هو الله الفاعل كل شيء في الكل.
ثم قال: وربما يعترض أنه ذكر في الآية نفسها أن الله رمى، وإنه تعالى هو المبايع، فنقول: كذلك في آي الصلب وإخباره مرارا عديدة صرح في الإنجيل أن الفاعل والمسلّم والبازل والحاكم والآذن في أمر الصلب إنما هو الله جلّ جلاله.
ثم قال: نقول أخيرا: إن آية الصلب القرآنية هي صحيحة في ذاتها تماما وكمالا. ومطابقة أشد المطابقة لما ورد في نفس القرآن بهذا الشأن. ولكلّ فحوى أسفار الميثاقين أو العهدين. بكل بيان. إنما تفسيرها بمطلق النفي كان وما زال غلطا وضدّ الحقيقة والذوق اللغويّ. وضد ما جانسها في الآي الأخرى من نفس القرآن. ومن نصوص سائر الكتب المنزلة. ولا سيما الإنجيل، الذي زبدته وروحه وقوامه وخلاصته هي كون المسيح صلب ومات وقام وعرج إلى السماء. وأرسل البارقليط الآخر الرسول محمدا مبلغ القرآن العظيم، الحاوي روح الصدق والحق، والمذكر بكل ما قال المسيح في الإنجيل الشريف.
ثم قال: إن إنكار أمر الصلب أو إثباته ليس من الأركان في الدين عند المحمديين. ولا هو محرّم قطعا الاختلاف في تفسير بعض آيات. وقد وجد ويوجد عدة اختلافات عند اليهود والنصارى والمسلمين. وليس ذلك محرما إلا إذا آل لإنكار أو لإفساد نفس الآيات. أو إيقاع الشبهة على ذات نصوص الوحي. ففي آية الصلب ليس شيء من ذلك. بل بالعكس تأييد كل النصوص الإلهية.
هذا خلاصة ما أورده في رسالته. وقد رد عليه من الفضلاء المسلمين عدد وافر، في تآليف بديعة. منها كتاب (السيوف البتّارة) اعتمد مؤلفها في إيراد حججها على التواريخ الإفرنجية المعول عليها. فإن الإفرنج أعرف من غيرهم بحقيقة ما يهمهم، وأبعد من مظنة التشيّع في شهادتهم على أنفسهم، في أمر دينهم.
قال رعاه الله: يعلم الواقف على حقائق التاريخ أن مسألة الصلب من أهم المسائل التي ولدت الشقاق والنفرة فيما بين النصارى عموما ونصارى مصر والشام في الأجيال الأولى خصوصا. فإنهم كانوا غالبا يرفضون حصول الصلب رفضا باتا.
لأن بعضهم كان يعتبره إهانة لشرف المسيح، ونقصا فاضحا. والبعض الآخر كان يجحده ارتكانا على الأدلة التاريخية. وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة. منها:
427
الساطر نيوسيون والمركيونيون والبارديسيانيون والتاتيانيسيون والكاربوكراتيون والمانيسيون والبارسكاليونيون والبوليسيون. إذ كلهم اعتقدوا، مع كثيرين غيرهم، بأنه لا يمكنهم أن يسلموا بنوع من الأنواع، أن المسيح سمّر فعلا، أو مات على الصليب حقيقة. حتى استخفّوا بالصليب والصلب. وقال بعض المؤرخين الأفاضل:
إن الخلاف الذي وقع بين النصارى في مبدأ الأمر كان سببا في انسلاخ جملة طوائف وتشتتها واعتبارها في رأي آخرين مارقة من الدين. ولكن هذه الطوائف المضطهدة المهضومة كانت أفكارها منطبقة على الأصول النصرانية عقلا ونقلا. بخلاف أفكار مضطهديهم، فإن هذه الطوائف بنت على ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز أن يمتهن. واستنتجت من هذا أنه لم يصلب قطعا. وأن ألفاظ التوجع والتضجر، التي نسبتها إليه كتب النصارى المتأخرين، لم يتفوّه بها ولا تصح نسبتها إليه. وبالجملة إن الشخص المصلوب غير عيسى قطعا. وأنه عليه الصلاة والسلام لم تسلط عليه أيدي مضطهديه. بل رفع إلى السماء. ومن القائلين. بهذه الأفكار الدوسيتية والمرسيونية والفلنطانيائية. وغير خاف أنه حتى على فرض البنوة فقط، لا يمكن عقلا أن يتصور صلبه. انتهى.
ويؤيد هذا ما قاله الباحث الشهير الموسيو إدوار سيوس، أحد أعضاء (الانستيتو دي فرنس) في باريس. المشهور بمعارضته المسلمين في كتابه (عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصرانية) صحيفة (٤٩) : إن القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه. ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه. وإن ما قاله القرآن موجود عند طوائف النصرانية منه الباسيليديون. كانوا يعتقدون، بغاية السخافة، أن عيسى وهو ذاهب لمحل الصلب، ألقي شبهه على سيمون السيرناي تماما، وألقي شبه سيمون عليه. ثم أخفى نفسه ليضحك استهزاء على مضطهديه الغالطين. ومنهم السيرنتيون، فإنهم قرروا أن أحد الحواريين صلب بدل عيسى. وقد عثر على فصل من كتب الحواريين. وإذا كلامه نفس كلام الباسيليديين. وقد صرح (إنجيل القديس برنابا) باسم الذي صلب بدل عيسى قال: إنه يهوذا. انتهى.
ولم يردّ المؤرخ، المترجم كلامه، على هذا الإنجيل، إلا بدعوى أنه كلام لا يعول عليه. وهذا الرد من رجل صدر نفسه للرد على المسلمين غير كاف. فيستفاد من جميع ما ذكر أن جمّا غفيرا من طوائف النصارى ذوات البال والأهمية، كانت تنبذ عقيدة صلب المسيح نبذا، وتفندها تفنيدا وما زالوا كذلك حتى جاء الإسلام فدخلوا فيه أفواجا. لإنكار القرآن. وما أنكروه من الصلب وغيره. وبالجملة فإن أغلب
428
الشعوب الشرقية، قبل الفتح الإسلاميّ، رفضت القتل والصلب. حتى قال ياسيليوس الباسليدي: إن نفس حادثة القيامة، المدعى بها بعد الصلب الموهوم، هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب. ومن المعلوم أن نصارى الشام هم الذين وقعت هذه الحادثة بينهم. فهم أقرب الناس إلى العمل بحقيقتها. وكذلك من جاورهم من نصارى المصريين وغيرهم. لحصول الجوار وقرب المسافة. فكيف لا تكون شهادتهم هي عين الصواب؟ وبذلك يتبين أن دعوى (صاحب جريدة شهادة الحق) الإجماع على الصلب وانفراد القرآن الشريف بنفيه- غير مسلمة، مع وجود هذه الطوائف المنازعة في الصلب. وقد صرح القرآن بأن رسول الله ﷺ إنما بعث لتصديق ما بين يديه من الحق وتبيين ما اختلف فيه طوائف النصارى مع اليهود، والنصارى مع بعضهم بعضا. ولو حكمنا التاريخ لشهد لهؤلاء الناس وبرّز أقوالهم.
وذلك أن أهل فلسطين كانوا يعبدون الأوثان ويخالفون بني إسرائيل في ديانتهم.
فكان من مبادئهم، العاملين عليها في سياستهم العمومية، بذل المجهود وإفراغ الوسع في معاكسة عقائد اليهود. لإدخالهم في الديانة الوثنية وتقويض دعائم الشريعة الموسوية. والضغط على شعائرهم الملية. يشهد لهذا أقوال الكاتب الشهير (أرنست رنان) العضو في (الأكاديمية الفرنساوية) المنفرد بالإجادة والشهرة، في رسالة نشرت في جريدة العالمين في ١٥ مارس ١٨٩٣. معنونة ب (اليهود تحت حكم الرومان) حيث قال: إن كل المناصب ذوات المرتب الباهظ كانت تعطى غنيمة باردة لليهود الذين يطرحون دينهم ظهريا. ويجعلون شعائرهم الملية شينا.
ويعتنقون ديانة الرومان الوثنية. فكان من ضغط الرومان ومن تزلف اليهود إليهم، ومن أطماعهم إلى الرتب والألقاب، أن ارتد غالب سواد اليهود وعبدوا جوبيتر الألومبي. وكان الواحد منهم يخفي الاختتان بعملية شاقة جدّا (ذكرها سلس المؤرخ الروماني الشهير) ثم يتزيى بزي الرومان ويسحب ذيوله تيها وإعجابا بنفسه وبعوائد الرومان. وازدراء واحتقارا لبني جلدته وذوي ملته. فرحا بلقمة يلتقمها. أو مرتبة يتربع في دستها. وما زالت اليهود تترومن حتى أن الأحبار غادروا الهيكل والمجامع.
واشتغلوا بملاعب الرومان الرياضية. وأخيرا آل الأمر، قبل وجود عيسى عليه السلام، إلى إدخال صنمهم الأكبر ووضعه في محل تقريب القربان نفسه. بحيث أن القربانات كانت تعمل أمامه. حتى كادت معالم اليهودية أن تنمحي من صحيفة الوجود. ووقع ذلك سيء الوقع وأثّر أردأ تأثير في نفوس البقية القليلة من اليهود التي اعتصمت بدينها. انتهى.
429
وبهذا يعلم مقدار ضغط الرومان على اليهود لمحو آثار دينهم من الوجود.
فليس من المعقول أن الحكومة، وهي ما ترى من الكراهة الدينية لليهود، تجيبهم إلى ما طلبوا من تنفيذ أمر الصلب. أو تعيره أدنى ذرة من الأهمية. خصوصا والحاكم الرومانيّ على فلسطين في ذلك الوقت، كان يكره اليهود كما يكره أن يلقى في النار.
وهم يكرهونه أشد من ذلك. دليلنا على ذلك ما كتبه المسيو رنان المذكور في كتابه المشهور المسمى (حياة المسيح) حينما تكلم على شكاية اليهود من عيسى بدعوى أنه غيّر التوراة. وكان ذلك على زعمهم ليستوجب قتله. حيث قال: إن حاكم فلسطين المسمى (بونسيوس) الملقب (بيلاطس) - أظهر عدم عنايته بمنازعات اليهود الداخلية وشكاويهم وخصوماتهم. بل كان يعتبر أن هذه الأعمال صادرة عن عقول مختلفة وأفكار معتلة. وبالإجمال، كان يكره اليهود وهم يكرهونه أشد من كراهته لهم. لأنهم كانوا يجدونه قاسيا ذا أنفة وكبر. غير مكترث بهم. ولقد رموه وعابوه بجنايات لا يسعها عقل عاقل. والمتمسكون بدينهم منهم رأوا أن غرض بيلاطس هذا، سحق أثر الشريعة الموسوية سحقا ومحوها محوا. وتعصبهم الأعمى وكراهتهم الدينية له جعلاه يأنف من أفكارهم. فإنه كان يميل كل الميل إلى الأحكام الوضعية الرومانية. التي كانت نهاية فخر كل رومانيّ في ذلك الحين. وكان يرى أفكار اليهود سخيفة تقهقرية. لأنه كلما هم بجلب النافع العام، وسن مشروع يضمن الراحة والرفاهية، قام الأحبار عن آخرهم وعارضوه بتفسير التوراة التي كانت تسدّ في وجهه أبواب التحسين والتغيير. فلم يعتن بجرح حواسهم ومسّ شرفهم ومعالمهم الدينية.
وعاملهم بالقسوة والكبر وعدم تنفيذ رغباتهم. فانشعب الأمر ودام الفشل. وأخيرا اضطرت الحكومة إلى إقالته من منصبه بسبب قيامة اليهود عليه. ولقد كانت نفس بيلاطس تضيق، وصدره يحرج عند مجيء شكوى ضد عيسى عليه الصلاة والسلام.
حيث كان لا يسمح بتنفيذ أمر القتل عليه. وعيسى ضد اليهود، ويعيب التوراة كما يقولون. فكان ذلك عن رغبة الحاكم. وجلّ ما يتمنى. فكيف يكون هو الآمر والمنفذ لقتله؟ مع أنه كان قادرا على تنفيذ رغباته المضادة لليهود على خط مستقيم. والحقيقة أن بيلاطس كان ميالا كل الميل لخلاص السيد المسيح من هؤلاء الظلمة. ولعله رأى ما فيه من جميل الشيم والأخلاق الكريمة الطاهرة. فراقه ذلك، زيادة عن كراهته لليهود. فعمل على خلاصه من الصلب. كما يتضح من إنجيل متى ٢٧ و ٢٤. ولوقا ٢٣ و ١٢. ويوحنا ١٣- ٢٣ وفي بعض آيات الإنجيلين أن عيسى سوعد من زوجة بيلاطس الحاكم القائلة (كما هو مذكور في إنجيل متى
430
٢٧ و ١٩) : إياك وهذا البارّ. لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله. ولعلها رأته فبهرها كماله ووقاره وحشمته وبلوغه الغاية في الأدب والشمائل الطاهرة. والظاهر أنها رأت هذا الشاب البريء المبجّل من إحدى نوافذ قصرها المطلة على أفنية هيكل سليمان عليه السلام. فظهر لها بكماله الحقيقي فاستفظعت إهدار دم هذا البريء الوقور. وكيفما كان السبب، فالذي لا يشك فيه أحد، أن بيلاطس كان محبا لعيسى عليه السلام حبّا شديدا. ولذلك سأله بكمال اللطف والأدب ليفرغ ما في وسعه لتبرئته. انتهى.
فيؤخذ من كلام (رنان) أن الحاكم المنوط به الأمر والتنفيذ، كان مضادّا للصلب. فلا غرابة في عدم حصوله للمسيح عليه السلام، وتبديله بآخر. وكراهة هذا الحاكم لليهود مشهورة لا تحتاج لزيادة إيضاح. حتى إن ترتوليانوس، أحد آباء الكنيسة النصرانية، جزم بأن بيلاطس الحاكم كان نصرانيّا في الباطن. وفي الجزء الأول من تاريخ الديانة النصرانية لمؤلفه (ملمن) : إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس وإسدال ثوب الظلام. فيستنتج من ذلك أيضا إمكان استبدال السيد المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس، منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم.
كما اعتقد بعض الطوائف. وصدقهم القرآن. ولقد جرى على هذا الرأي جماعة من المؤرخين المهمّين (كالمسيوشارل بيكار) و (أرنست دي بونس) وغيرهما. فإن الأول قال: إن مسألة صلب المسيح كلها مبتكرة مخترعة لا غير. لتوافق اعتقادات قديمة. مآلها أن الله لا يسكن غضبه إلا بسفك دم القربان من بني آدم. وكانت اليهود تقدم أولادها قربانا للذبح استجلابا لإسكان غضب الخالق وجلب رضاه.
ويقول: إنهم ربما أكلوا لحوم القربان الآدميّ وشربوا دمه. ولما قامت الأنبياء في بني إسرائيل واضطهدت هذه العادة الشنعاء، بدّل ذبح الآدميّ قربانا بذبح الحيوان. وأطال المسيو (بيكار) في شرح ارتباط تضحية سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام مع هذه العوائد القديمة. فأفاد أن نفس الصليب كان مستعملا رمزا عن شيء عندهم اسمه (اللنجام) وهو عبارة عن خشبتين متصلبتين متداخلتين في بعضهما.
وأما المسيو (أرنست دي بونس الألمانيّ) فإنه قال في كتابه المسمى ب (النصرانية الحقة) صحيفة ١٤٢ ما معناه: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء، هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه، من الذين لم يروا المسيح عليه الصلاة والسلام. لا من أصول النصرانية الأصلية.
فوضح وضوح الشمس لذي عينين أن التاريخ، فضلا عن كونه لم يثبت مسألة
431
الصلب والقتل، يرجح نفي حصوله رجحانا لا يكاد يفارق اليقين الحقيقيّ. ومعلوم أن أخذ الأمور التاريخية في هذا الصدد عن طوائف مصر والشام أولى، لأنهم أبناء جلدتها، وأدرى بحوادث بلادهم الحقيقية. فيؤخذ من كل ذلك: أولا- أن كافة الظروف التي حصل فيها تنفيذ الحكم كانت مساعدة لتخليص المسيح عليه الصلاة والسلام. وبالأخص اضطهاد الحكومة الرومانية للعقائد الموسوية. وعدم الاعتناء بها لا يسهل تنفيذها. ثانيا- وقت الغلس الذي حصل فيه ذلك الصلب الموهوم.
وكان يمكننا لدرس هذا الموضوع التكلم على جملة مسائل تفند دعوى الصلب تفنيدا لا مزيد عليه. ومن ضمنها، أن نصارى اليوم تدعي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام حكم عليه من مجمع اليهود بالقتل بسبب تغييره لأحكام التوراة. ومن المعلوم أن الحكم، في ذلك الموضوع، الرجم لا الصلب. فهذا مما يرتكن عليه مثل الموسيو (شارل بيكار) في ادعائه أن النصارى الحديثين احتاجوا لعلامة الصليب رمزا لبعض عقائد كانوا يريدون إدخالها في الديانة. وهي مسألة الفدا. انتهى كلام صاحب السيوف البتارة.
ولما اطلع عليها ذلك النصرانيّ المذبذب المردود عليه، أعياه الرد من الطريقة التاريخية، فأخذ يرد عليها تشبثا بأسباب واهية. فعدّ، كل من رفض الصلب من نصارى الأيام الأول، هرطوقيا. أي: مارقا من الدين. ورمى أصحاب التواريخ من أهل أوروبا الذين وافقوا المسلمين في عدم حصول الصلب بأنهم كفرة الإفرنج. ثم تمسك بالأناجيل الأربعة الرسمية وقال: أنه لا يمكنه أن يزيف شيئا منها ما دامت شاهدة من أولها إلى آخرها بحصول الصلب حقيقة. وأنه يلزم حينئذ تأويل ما جاء في القرآن المجيد حتى يصل للوفاق.
فعاد صاحب (السيوف البتارة) وألف رسالة ثانية في شهادة علماء الإفرنج بحفظ القرآن وتحريف ما سواه. تكملة للأول. فتوسع جزاه الله خيرا في هذا الموضوع ثم قال (في الكلام على الإنجيل) ما لفظه: أما الإنجيل فإنه أبعد عن الصحة من التوراة بكثير. إذ لا يفهم أحد للآن كيف تعدد الإنجيل الأصليّ إلى نسخ شتى متباينة. ولأي مرجح استحسنت منها النصارى الحاليون أربعة أناجيل، مختلفة كل الاختلاف، متضاربة كل التضارب. ولا يدري لماذا عدلوا عن (إنجيل برنابا) مثلا الذي وافق القرآن قبل ظهوره في المسائل التي أبتها الكتب الحالية. فإنا نجد هذا الإنجيل يخبر أن السيد المسيح نبيّ، عبد، مخلوق. ليس بإله. وأنه لم يصلب.
وفيه البشارة بسيدنا محمد ﷺ مذكورا بلفظه (كذا). وهاك ما قاله السيد المسيح
432
في الإنجيل المذكور (وإني وإن كنت بريا، لكن بعض الناس لما قالوا في حقي إنه الله وابن الله، كره الله هذا القول واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة عليّ ولا يستهزءون. فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا. ويظن كل شخص أني صلبت. لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله. فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط. وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس).
وقد استشهد العلامة (سيل) الإنكليزيّ، المشهور في أوروبا بترجمة المصحف الشريف، بهذه الآية الإنجيلية، تفسيرا لقوله تعالى في سورة آل عمران:
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: ٥٤] وإنجيل برنابا أثبته العلماء قبل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة. حتى أن العالم الإنكليزي (تولاند) قال:
وعلى النصرانية السلام، بمجرد رؤيته هذا الإنجيل. ثم قال: قال العلامة (هيردر) وجماعة آخرون: إن الإنجيل الأصليّ كان واحدا. إلا أنه لم يكتب. بل قاله المسيح مشافهة. ورواه الحواريون عنه للناس شفاهيّا أيضا. فحفظ الخلق منه بعض أقوال أضافوا إليها ما استحسنوه من السير والقصص. ونقصوا منها ما لم يوافق أذواقهم. وما زالت تنتقل الروايات المختلفة من شخص إلى آخر، ومن زمن إلى غيره حتى تشعبت، وكتب أخيرا منها أناجيل شتى، فاختارت الكنائس منها أربعة جعلتها الرسمية.
ثم قال مؤلف (السيوف البتارة) : فوضح وضوحا تامّا لذي بصيرة، أن الحجة على دعوى صلب المسيح قد سقطت سقوطا لا تقوم بعده أبدا. سواء من جهة التاريخ الصحيح الذي دحضها وخذل مدعيها بأجلى برهان، أو من جهة الأناجيل المعتبرة عندهم. لذهاب أصلها أدراج الرياح، بثبوت التحريف والتغيير لها.
ثم قال: وأما قوله (يعني المذبذب). بأن طوائف النصارى الرافضة للصلب هراقطة- فغريب. لأنهم مثله في العقيدة لا يمتازون إلا بإنكارهم الصلب الحقيقيّ للمسيح. وهل الاقتصار، في الرد من باحث، على قوله (كفرة) يعد من باب نقض الدليل بالدليل وتزييف الحجة بالحجة؟ أو من باب المكابرة في المحسوس والانقطاع عن المناظرة للعجز الواضح. وإذا جاز إطلاق (كفرة) على هؤلاء وهم أمناء النصرانية واليهودية- جاز أن تصف بهذه الصفة كل يهوديّ ونصرانيّ. وحينئذ لا يصح احتجاجك بإجماعهم ولا بشيء من آرائهم. وتكون في ردك بكلمة (هراقطة. كفرة) أشبه بمن اقتصر في مناظرة خصمه على كلمة (لا) فقط. فهو يكررها ولا يسأم من الرد بها.
433
ثم قال: فقد برح الخفاء وانكشف الغطاء وبان للقراء أن لا إجماع بين النصارى أنفسهم على حصول الصلب منذ تكلم الناس فيه حتى الآن. وتفرقت فيه آراؤهم أيدي سبا. وذهبوا فيه كل مذهب. فلا تكاد تجد قولا لأحدهم في أيّ عصر إلا وهو مضادّ لأقوال آخرين منهم على خط مستقيم. حتى لا ترى إلا غوغاء وجلبة المناقضات. فلم يتفقوا على كيفية الصلب ولا على معناه ولا على المراد منه. ولا اجتمع فيه رأيان. كان ذلك من باب التقليد والتسليم، الذي لا يقام عليه دليل أعظم من أن يقال: إن الدين ينبغي أن لا يفهم ولا يدخل معناه السريّ تحت تصور. هذا مع أن الصلب عند النصارى هو قلب دينهم (كما يقولون) وأساس معتقدهم. حتى كأنه بمنزلة التوحيد عند المسلمين. ومع أن نفي الصلب عندنا ليس من الأصول التي انبنى عليها ديننا في شيء، بل لا تخرج مسألته عن كونها من قصص الأولين، كالإخبار عن نوح وإبراهيم وموسى، مما سيق لنحو الوعظ والاعتبار- فلم يهجس بخلد مسلم منذ وجد الإسلام إلى يومنا هذا أن عيسى ﷺ صلب أو قتل. ولم يخرق إجماع المسلمين على ذلك واحد منهم في كل عصر ومكان. وما ذلك إلا لضبط القرآن الكريم وصيانته. ولو حكّمنا غير متدين في هذه المسألة، ونظر لأهمّيّتها عند النصارى، مع عدم قدرتهم على إثباتها، ولفرعيّتها عند المسلمين، مع إجماعهم على نفيها إجماعا لا مثيل له في العالم- لا نبهر من همة المسلمين في ضبط وحفظ كتابهم، وثباتهم في صغير الأمر وكبيره. وتمنى أن تتدلى الأنجم الزهر ليصوغ منها عقود ثناء ومدح لهم، على عنايتهم بدينهم إلى هذا الحد الذي لا نظير له. ولم يسعه إلا أن يقلب أكف الأسف، ويعضّ بنان الندم على تزعزع دين غيرهم. لدرجة أن أعظم أصل فيه لا يثبت إلا في مخيلات بعض المقلدين. من غير استناد على دليل نقليّ صحيح. أو عقليّ مسلم، حتى قام عقلاؤهم نافضين غبار التقليد، ناشدين الحقيقة. فانجلت، لكثير منهم، عن تدمير هذا البناء التقليديّ. والرجوع إلى ما ثبت بالدليل في ديانة غيرهم. ومما هو جدير بالتنبه له أن بولس الذي عزا إليه كل محققي التاريخ من الإفرنج وغيرهم، أنه وحده المخترع لمسائل الصلب والفداء، وألوهية عيسى إلى غير ذلك- قد أبان أن الصلب والقتل ليسا حقيقيين. كما جاء في رسالته لأهل غلاطية. حيث قال: أنتم الذين رسم يسوع المسيح بينكم مصلوبا.
وقال في رسالته لأهل رومية: نحن نقوم بشبه موته. إلى أن قال: فدفنا معه بالمعمودية، لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضا بارتفاعه، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه إلخ. فيستفاد من مجموع أقوال بولس هذه أن المسيح لم يصلب ولم يقتل حقيقة. وإنما ذلك مجاز عن الشبه المقتول المصلوب.
434
كما جاء في إنجيل برنابا. وقد يدعوك حب التمسك بهذه المسألة إلى أن تؤوّل كلام بولس بما لا يحتمله اللفظ والسياق. وأنت لاه عن أنه متى وقع الاحتمال سقط الاستدلال. وإنما أتينا بكلامه تنزلا معك على التسليم الجدليّ بصحة ما روي عنه في رسالته لأهل غلاطية. فنقول: حتى على فرض صحة ما روي عن بولس نفسه، فإنه يشهد لنفي الصلب والقتل. لا لحصولهما حقيقة. هذا ولو قارنت دعوى الصلب والفداء بما جاء في التوراة من قولها (الشرّير فدية الصدّيق) لكان معناه، على مقتضى زعمك، أن عيسى شرّ بالإضافة لكل أحد. وهذا لا يجوز لا عقلا ولا شرعا.
فوجب، أخذا من عبارة التوراة، أن يكون المصلوب شرّيرا فداء لصدّيق، هو عيسى عليه الصلاة والسلام. كما جاء في إنجيل برنابا انتهى ملخصا.
ولن يعدم الحق أنصارا، والباطل خزيا وانكسارا.

فصل


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في كتابه (الفرقان) وهو من آخر مصنفاته. صنفه بقلعة دمشق، ما لفظه: (فإن قيل) فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم، وقال لهم: أنا المسيح.
ولا يقولون إن الشيطان تمثل على صورته- فالشيطان ليس هو لحم وعظم. وهذه أثر المسامير. أو نحو هذا الكلام- فأين الإنجيل الذي قال الله عز وجل فيه:
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: ٤٧]. وقال قبل هذا: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ، وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: ٤٦- ٤٧] وقال قبل هذا: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [المائدة: ٤٣- ٤٤]. وقال أيضا: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: ٦٦]. وقال أيضا: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [المائدة: ٦٨]. وهذا أمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم
435
بأن يقول لأهل الكتاب، الذين بعث إليهم، وهو من كان في وقتهم ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة. لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم. وكذلك قوله:
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ [المائدة: ٤٣]، إخبار عن اليهود الموجودين وأن عندهم التوراة فيها حكم الله. وكذلك قوله: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة: ٤٧]، هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الإنجيل. ومن لا يؤمر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، قيل قبل هذا: إنه قد قيل ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والإنجيل بل ذلك مبدّل. فإن التوراة انقطع تواترها. والإنجيل إنما أخذ عن أربعة. ثم من هؤلاء من زعم أن كثيرا مما في التوراة والإنجيل باطل ليس من كلام الله. ومنهم من قال: بل ذلك قليل. وقيل: لم يحرف أحد شيئا من حروف الكتب وإنما حرّفوا معانيها بالتأويل. وهذان القولان، قال كلّا منهما كثير من المسلمين. والصحيح القول الثالث، وهو أن في الأرض نسخا صحيحة وبقيت إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخا كثيرة محرّفة. ومن قال: إنه لا يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه.
ومن قال: جميع النسخ بعد النبيّ ﷺ حرفت فقد قال ما يعلم أنه خطأ.
والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل ويخبر أن فيهما حكمه.
وليس في القرآن خبر أنهم غيّروا جميع النسخ. وإذا كان كذلك فنقول: هو سبحانه قال: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة: ٤٧]. وما أنزله الله هو ما تلقوه عن المسيح. فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثلها في التوراة ذكر وفاة موسى عليه السلام. ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل، من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما، ليس هو مما أنزله الله ومما تلقوه عن موسى وعيسى. بل هو مما كبتوه مع ذلك للتعريف بحال توفيهما. وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما، ليس هو مما أنزله الله عليهما، ولا هو مما أمرا به في حياتهما، ولا مما أخبرا به الناس وكذلك: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة: ٦٨]. وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: ٦٦]. فإن إقامة الكتاب، العمل بما أمر الله به في الكتاب، ومن التصديق بما أخبر به على لسان الرسول.
وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك، ليس هو مما أنزله الله على الرسول، ولا مما أمر به، ولا أخبر به. وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة. يصنّف الشخص كتابا فيذكر ناسخه، في آخره، عمر المصنف ونسبه
436
وسنه. ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف. ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن. وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن. فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا (آمين). ولا غير ذلك. والمصاحف القديمة والتي كتبها أهل العلم، على هذه الصفة. وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور والتخميس والتعشير والوقف والابتداء. وكتب في آخر المصحف تصديقه. ودعا وكتب اسمه ونحو ذلك. وليس هذا من القرآن. فهكذا ما في الإنجيل من الخبر عن صلب المسيح وتوفيه ومجيئه بعد رفعه إلي الحواريين، ليس هو مما قاله المسيح، وإنما هو مما رآه من بعده. والذي أنزله الله هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله.
فإن قيل: فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب، وأنه أتاهم بعد أيام، وهم الذين نقلوا عن المسيح الإنجيل والدين، فقد دخلت الشبهة.
قيل: الحواريون وكل من نقل عن الأنبياء، إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء، فإن الحجة في كلام الأنبياء. وما سوى ذلك فموقوف على الحجة. إن كان حقّا قبل وإلّا ردّ. ولهذا كان ما نقله الصحابة عن النبيّ ﷺ من القرآن والحديث يجب قبوله. لا سيما المتواتر، كالقرآن وكثير من السنن. وأما ما قالوه، فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم. وما تنازعوا فيه، ردّ إلى الله والرسول. وعمر قد كان أوّلا أنكر موت النبيّ صلى الله عليه وسلم. حتى ردّ ذلك عليه أبو بكر. وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث «١» الذي رواه. وتنازعوا في تجهيز جيش أسامة. وتنازعوا في قتال «٢» مانعي الزكاة. فلم يكن هذا قادحا فيما نقلوه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. والنصارى
(١)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: الجنائز، الحديث ٢٧ ونصه: حدثني يحيى عن مالك أنه بلغه رسول الله ﷺ توفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء. وصلى عليه الناس أفذاذا. لا يؤمهم أحد.
فقال ناس: يدفن عند المنبر. وقال آخرون: يدفن بالبقيع. فجاء أبو بكر الصديق فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «ما دفن قط نبيّ إلا في مكانه الذي توفي فيه».
فحفر له فيه. فلما كانوا عند غسله، أرادوا نزع قميصه فسمعوا صوتا يقول: لا تنزعوا القميص.
فلم ينزع القميص. وغسّل وهو عليه صلى الله عليه وسلم
. (٢)
أخرجه البخاريّ في: الزكاة، ١- باب وجوب الزكاة، حديث ٧٤٣ و ٧٤٤ ونصهما: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو بكر رضي الله عنه. وكفر من كفر من العرب. فقال عمر بن الخطاب: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحق وحسابه. على الله» ؟
فقال: والله! لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة. فإن الزكاة حق المال. والله! لو منعوني عناقا كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها.
قال عمر رضي الله عنه: فو الله! ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، فعرفت أنه الحق
.
437
ليسوا متفقين على صلب المسيح. ولم يشهد أحد منهم صلبه. فإن الذي صلب إنما صلبه اليهود. ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضرا. وأولئك اليهود الذين صلبوه قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح. وقد قيل إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح. ولكن هم كذبوا وشبهوا على الناس. والأول هو المشهور وعليه جمهور الناس. وحينئذ فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب. لكن عمدتهم على ذلك، الشخص الذي جاء الشيطان بعد أيام وقال. أنا المسيح. وذاك شيطان.
وهم يعترفون بأن الشياطين كثيرا ما تجيء ويدّعي (كذا) إنه نبيّ أو صالح. ويقول.
أنا فلان النبيّ والصالح. ويكون شيطانا. وفي ذلك حكايات متعددة مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاء وقال: أنا المسيح. جئت لأهديك. فعرف أنه الشيطان.
فقال. أنت قد بلغت الرّسالة ونحن نعمل بها. فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك. فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب. كما قال تعالى:
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء:
١٥٧]. وأضاف الخبر عن قتله، إلى اليهود بقوله: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء: ١٥٧]، فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة. إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح. ومن جوز قتله فهو كمن قتله. فهم في هذا القول كاذبون. وهم آثمون. وإذا قالوه فخرا لم يحصل لهم الفخر. لأنهم لم يقتلوه. وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه.
وقد قال النبيّ «١» صلى الله عليه وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول! فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه.
وقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ: قيل هم اليهود والنصارى.
والآية تعم الطائفتين. وقوله: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ. من قتله. وقيل: منه، أي: في شك منه. هل صلب أم لا؟ كما اختلفوا فيه. فقالت اليهود: هو ساحر. وقالت النصارى:
إنه إله. فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا؟ وهم في شك من ذلك ما لهم به من علم. فإذا كان هذا في الصلب فكيف في الذي جاء بعد الرفع وقال إنه هو المسيح؟
(١)
أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ٢٢- باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، حديث ٢٩ ونصه: عن الأحنف بن قيس قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل. فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل. قال: ارجع. فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار» فقلت: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه»
.
438
فإن قيل: كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم، فأين المؤمنون به الذين قال فيهم: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران: ٥٥]. وقوله: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصف: ١٤]. (قيل) ظنّ من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه. إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح. بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه- فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه. فإن هذا اعتقاد موته على وجه معيّن. وغاية الصلب أن يكون قتلا له. وقتل النبيّ لا يقدح في نبوته. وقد قتل بنو إسرائيل كثيرا من الأنبياء. وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران: ١٤٦] الآية. وقال تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ
[آل عمران: ١٤٣]. وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم. هو مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبيّ ﷺ جاءهم في اليقظة. فإنهم لا يكفرون بذلك. بل هذا كان يعتقده من هو من أكثر الناس اتّباعا للسنة وأتباعا لها. وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره. وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله فهذا غلط منه لا يوجب كفره. فكذلك ظنّ من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح، لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح، ولا يقدح فيما نقلوه عنه. وعمر- لما كان يعتقد أن النبيّ ﷺ لم يمت «١»، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه- لم يكن هذا قادحا في إيمانه. وإنما كان غلطا ورجع عنه. وقوله تعالى:
(١) أخرجه البخاريّ في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ٥- باب قول النبيّ ﷺ «لو كنت متخذا خليلا» حديث ٦٦٤ و ٦٦٥ وهذا نصهما: عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله ﷺ مات وأبو بكر بالسّنح (يعني بالعالية) فقام عمر يقول: والله! ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: وقال عمر: والله! ما كان يقع في نفسي إلا ذاك. وليبعثنّه الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم.
فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله ﷺ فقبّله. قال: بأبي أنت وأمي. طبت حيّا وميتا. والذي نفسي بيده! لا يذيقك الله الموتتين أبدا. ثم خرج فقال: أيها الحالف! على رسلك.
فلما تكلم أبو بكر جلس عمر. فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. وقال إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠] وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: ١٤٤].
قال: فنشج الناس يبكون... إلخ.
439
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم. انتهى كلام ابن تيمية رضي الله عنه.
ولإمام الأدباء، شرف الدين البوصيريّ رحمه الله، قصيدة في هذا المقام.
نظمها في سلك ما تقدم تكملة للمرام. قال قدس سره:
جاء المسيح من الإله رسولا... فأبى أقل العالمين عقولا
قوم رأوا بشرا كريما فادّعوا... من جهلهم لله فيه حلولا
وعصابة ما صدقته وأكثرت،... بالإفك والبهتان، فيه القيلا
لم يأت فيه مفرط ومفرّط... بالحق تجريحا ولا تعديلا
فكأنما جاء المسيح إليهم... ليكذبوا التوراة والإنجيلا
فاعجب لأمته التي قد صيرت... تنزيهها لإلهها التنكيلا
وإذا أراد الله فتنة معشر... وأضلهم، رأوا القبيح جميلا
هم بجّلوه بباطل فابتزّه... أعداؤه بالباطل التبجيلا
وتقطعوا أمر العقائد بينهم... زمرا. ألم تر عقدها محلولا
هو آدم في الفضل إلا أنه... لمن يعط حال النفخة التكميلا
أسمعتموا أنه الإله لحاجة... يتناول المشروب والمأكولا؟
وينام من تعب ويدعو ربه... ويروم من حرّ الهجير مقيلا
ويمسّه الألم الذي لم يستطع... صرفا له عنه ولا تحويلا
يا ليت شعري، حين مات بزعمهم... من كان بالتدبير عنه كفيلا؟
هل كان هذا الكون دبر نفسه... من بعده أم آثر التعطيلا؟
زعموا الإله فدى العبيد بنفسه... وأراه كان القاتل المقتولا
اجزوا اليهود بصلبه خيرا. ولا... تجزوا (يهوذا) الآخذ البرطيلا
أيكون قوم في الجحيم ويصطفى... منهم كليما ربّنا، وخليلا
وإذا فرضتم أن عيسى ربكم،... أفلم يكن لفدائكم مبذولا؟
وأجلّ روحا قامت الموتى به... عن أن يرى بيد اليهود قتيلا
فدعوا حديث الصلب عنه ودونكم... من كتبكم ما وافق التنزيلا
شهد الزبور بحفظه ونجاته... افتجعلون دليله مدخولا؟
أيكون من حفظ الإله مضيعا... أو من أشيد بنصره مخذولا؟
أيجوز قول منزه لإلهه:... سبحان قاتل نفسه مقتولا؟
أو جلّ من جعل اليهود بزعمكم... شوك القتاد لرأسه إكليلا
ومضى لحبل صليبه مستسلما... للموت مكتوف اليدين ذليلا
كم ذا أبكتكم ولم تستنكفوا... أن تسمعوا التبكيت والتخجيلا
ضل النصارى في المسيح وأقسموا... لا يهتدون إلى الرشاد سبيلا
440
وهي سابغة الذيل، كلها من هذا النفس البديع.
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم. وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام، وبين أنه ما حصل لهم ذلك المقصود، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجلّ المراتب- بيّن تعالى تحقيق ما أثبته في الآية السابقة، من القطع بكذبهم. مثبتا أنهم في مبالغتهم في عداوته، سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره، الذي منه التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم. مؤكدا له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٥٩]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي: ما أحد من أهل الكتاب يدرك نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، إلا ليؤمنن به قبل موته. أي: موت عيسى عليه السلام. أي: لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان يؤيد الله به دين الإسلام. حتى يدخل فيه جميع أهل الملل. إشارة إلى أن موسى عليه السلام، إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زمانا طويلا، فالنبيّ الذي ينسخ شريعة موسى، وهو عيسى عليهما السلام، هو الذي يؤيد الله به هذا النبيّ العربيّ، في تجديد شريعته، وتمهيد أمره، والذود عن دينه. ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة، وأتباع مستكثرة. أمر قضاه الله تعالى في الأزل. فاقصروا أيها اليهود. فمعنى الآية إذن، والله أعلم: إنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه السلام على شك، إلا وهو يوقن بعيسى عليه السلام قبل موته، بعد نزوله من السماء، أنه ما قتل وما صلب. ويؤمن به عند زوال الشبهة أفاده البقاعي.
روى البخاريّ «١» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا له من الدنيا وما فيها. ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم:
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٤٩- باب نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، حديث ١١١٥.
441
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً. وأخرجه مسلم «١» أيضا وابن مردويه وزاد بعد قوله (قبل موته) : موت عيسى ابن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.
ورواه الإمام أحمد «٢» عن حنظلة عن أبي هريرة أيضا مرفوعا ولفظه: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطى المال حتى لا يقبل ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما.
قال وتلا أبو هريرة: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ.... فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: يؤمن به قبل موت عيسى. فلا أدري هذا كله حديث النبيّ ﷺ أو شيء قاله أبو هريرة.
ورواه حامد «٣» أيضا عن عبد الرحمن عن أبي هريرة وفيه: ويهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام. ويمكث أربعين ثم يتوفى ويصلّي عليه المسلمون.
وفي حديث النّوّاس بن سمعان عند مسلم «٤» : فينزل عند المنارة شرقيّ دمشق.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير، هنا، الأحاديث المتواترة في نزوله عليه السلام، من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنوّاس بن سمعان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومجمّع بن جارية وأبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنهم. وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه من أنه بالشام بل بدمشق عند المنارة الشرقية. وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح.
قال ابن كثير: وقد بنيت في هذه الأعصار، في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، منارة للجامع الأمويّ، بيضاء من حجارة منحوتة، عوضا عن المنارة التي هدمت
(١) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٢٤٢- ٢٤٦. [.....]
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٢٩٠.
(٣)
أخرجه في المسند ٢/ ٤٣٧ ونصه: عن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ قال «الأنبياء إخوة لعلّات.
دينهم واحد وأمهاتهم شتى. وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ. وإنه نازل. فإذا رأيتموه فاعرفوه. فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض. سبط. كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل. بين ممصّرتين (الممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة) فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل. حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام. ويهلك الله في زمانه المسيح الكذاب. وتقع الأمنة في الأرض. حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعا. والنمور مع البقر. والذئاب مع الغنم. ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات، لا يضر بعضهم بعضا. فيمكث ما شاء الله أن يمكث. ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه»

. (٤) أخرجه مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث ١١٠.
442
بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. وكان أكثر عمارتها من أموالهم. وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام. وهذا من إخبار النبيّ ﷺ بذلك. انتهى.
قلت: وقد اشتهرت هذه المنارة بمئذنة عيسى.
وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في (تاريخه) عن بعض السلف أن عيسى عليه السلام، بعد نزوله، يدفن مع النبيّ ﷺ في حجرته. فالله أعلم.
والتأويل المذكور في الآية رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير «١» والعوفي «٢»، كلاهما عن ابن عباس.
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن الضحاك عن ابن عباس في الآية قال: يعني اليهود خاصة. وبه إلى الحسن: يعني النجاشيّ أصحابه.
وبه إليه قال: إن الله رفع إليه عيسى وهو باعثه قبل يوم القيامة، مقاما يؤمن به البر والفاجر.
وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد.
قال ابن كثير: وهذا القول هو الحق. وروي عن ابن عباس أيضا ومحمد بن الحنفية ومجاهد وعكرمة ومحمد بن سيرين والضحاك وجويبر أن المعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت ذلك الكتابيّ عند الغرغرة. حين لا ينفعه الإيمان. ذهابا إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل. لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه.
قال عكرمة: قال ابن عباس: لا يموت اليهوديّ حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله. ولو عجل بالسلاح.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟
قلت: فائدته الوعيد. وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب، عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم- بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به. وليكون إلزاما للحجة لهم. انتهى.
(١) عن سعيد بن جبير، الأثر رقم ١٠٧٩٤ و ١٠٧٩٥ من التفسير.
(٢) عن العوفيّ، الأثر رقم ١٠٨٠٧ من التفسير.
443
قال الأصبهانيّ: ويدل على صحة هذا التأويل قراءة أبيّ بن كعب رضي الله عنه (إلا ليؤمننّ به قبل موتهم) بضم النون وإلحاق ميم الجمع.
والأسانيد إلى ابن عباس في هذا التأويل كلهم صحيحة. كما قاله ابن كثير.
وثمة وجه آخر وهو أن الضمير الأول للنبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني للكتابيّ. رواه ابن جرير «١» : عن عكرمة قال: لا يموت النصرانيّ ولا اليهوديّ حتى يؤمن بمحمد ﷺ وتلا الآية. قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول. وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب، بعد نزول عيسى عليه السلام، إلا آمن به قبل موته أي: قبل موت عيسى عليه السلام.
قال ابن كثير: ولا شك أن الذي قاله ابن جرير هو الصحيح. لأنه المقصود من سياق الآي، في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك. فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك. وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه. وهم لا يتبيّنون ذلك. ثم إنه رفعه إليه. وإنه باق حيّ. وإنه سينزل قبل يوم القيامة. كما دلت عليه الأحاديث المتواترة. فيقتل مسح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف).
فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ. ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم.
ثم قال: فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى: أن كل كتابيّ لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما السلام- فهذا هو الواقع. وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به. ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له، إذا كان قد شاهد الملك. كما قال تعالى: في أول هذه السورة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ... [النساء: ١٨]. وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ... الآية وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ أي:
عيسى عليه السلام عَلَيْهِمْ أي: على أهل الكتاب شَهِيداً أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء.
وبعد نزوله إلى الأرض. قال قتادة: يشهد عليهم أنه قد بلّغهم الرسالة من الله، وأقرّ بعبوديته لله عز وجل. وهكذا كقوله تعالى:
(١) الأثر رقم ١٠٨١٣ من التفسير.
444
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ... إلى قوله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: ١١٦].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦٠]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠)
فَبِظُلْمٍ أي: بسبب ظلم عظيم فالتنوين للتفخيم. وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه، بعد أن حرمته التوراة مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي تلبسوا باليهودية. وفيه تعظيم ظلمهم أيضا. إذ صدر عنهم بعد ما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ قال ابن كثير: هذا التحريم قد يكون قدريّا. بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم. فحرموها على أنفسهم تضييقا وتنطعا. ويحتمل أن يكون شرعيّا. بمعنى أنه تعالى حرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك. كما قال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ [آل عمران: ٩٣]. أي: ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، من لحوم الإبل وألبانها. ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة في التوراة. كما قال في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام: ١٤٦]. أي: إنما حرمنا عليهم ذلك، لطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه.
ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته بقوله تعالى وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم كَثِيراً أي: ناسا كثيرا. أو صدّا كثيرا. فهم صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق. وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه. ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقا من الأنبياء.
وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦١]
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ أي: في التوراة وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ أي: من اليهود المصرّين على الكفر. لا لمن تاب وآمن من بينهم عَذاباً أَلِيماً وجيعا يخلص إلى قلوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦٢]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أي: الثابتون في العلم المستبصرون فيه.
كعبد الله بن سلام.
قال الرازيّ: الراسخون في العلم: الثابتون فيه. وهم في الحقيقة المستدلون.
لأن المقلد يكون بحيث إذا شكّك يشكّ. وأما المستدل فإنه لا يتشكك، البتة.
فالراسخون هم المستدلون وَالْمُؤْمِنُونَ أي: من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ، بصحبة رسول الله ﷺ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على سائر الأنبياء لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك وأنه صدق ما أنزل من قبلك.
فلا بد من الإيمان به أيضا وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال ابن كثير: هكذا هو في مصاحف الأئمة. وكذا هو في مصحف أبيّ بن كعب.
قال الزمخشريّ: ارتفاع (الراسخون) على الابتداء. و (يؤمنون) خبره و (المقيمين) نصب على المدح. لبيان فضل الصلاة. وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان. وغبي عليه أن السابقين الأولين، الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم. وخرقا يرفوه من يلحق بهم.
وقيل: هو عطف على (بما أنزل إليك) أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو. وهي قراءة مالك بن دينار والجحدريّ وعيسى الثقفيّ. انتهى.
وجوز عطف (المقيمين) على الضمير في (منهم) وعطفه على الضمير في
446
(إليك). والكتاب أنزل للنبيّ ولأتباعه. قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس: ٥٧] كذا في حواشي الشذور. وقد أشار الزمخشريّ بقوله (كانوا أبعد همة) إلى ردّ ما نقل، أن عثمان رضي الله عنه، لما فرغ من المصحف أتى به إليه. فقال: قد أحسنتم وأجملتم. أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها. ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش، لم يوجد فيه هذا.
قال الحافظ السخاويّ: هذا الأثر ضعيف. والإسناد فيه اضطراب وانقطاع. لأن عثمان رضي الله عنه جعل للناس إماما يقتدون به. فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط، إلا فيما هو من وجوه القراءات. وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟
وتأول قوم اللحن في كلامه (على تقدير صحته عنه) بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:
منطق رائع وتلحن أحيا نا. وخير الكلام ما كان لحنا
أي: المراد به الرمز. بحذف بعض الحروف خطّا. كألف (الصّابرين) مما يعرفه القراء إذا رأوه. وكذا زيادة بعض الحروف. كذا في (عناية الراضي) وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ رفعه بالعطف على الرَّاسِخُونَ أو على الضمير في يُؤْمِنُونَ أو على أنه مبتدأ، والخبر أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ. والوجوه المذكورة تجري في الْمُقِيمِينَ على قراءة الرفع وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني: والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب. وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع، لأنه المقصود في هذا المقام. لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم. وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه. فبيّن لهم ما يلزمهم ويجب عليهم أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً يعني الجنة. لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
لطيفة:
في الآية وجوه من الإعراب. أحسنها ما اعتمده أبو السعود، من أن جملة أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ إلخ خبر للمبتدأ الذي هو الرَّاسِخُونَ وما عطف عليه. وأن جملة يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلخ حال من الْمُؤْمِنُونَ مبينة لكيفية إيمانهم. أو اعتراض مؤكد لما قبله. قال: وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ووعد الآخرون بالأجر العظيم. كأنه قيل إثر قوله تعالى
447
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجرا عظيما.
وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلخ خبرا للمبتدأ، ففي كمال السداد، خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦٣]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله ﷺ أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشادا، ولكن للتعنت واللجاج، وبيّن أنواعا من فضائحهم- أشار إلى رد شبهتهم. فاحتج عليهم بأنه ليس بدعا من الرسل. وأمره في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم. ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثل ما أنزل على موسى. وإذ لم يكن هذا من شرط النبوة، وضح أن سؤالهم محض تعنت.
تنبيه:
قيل: بدأ بنوح لأنه أول نبيّ شرع الله تعالى على لسانه الأحكام، والحلال والحرام. وفي (العناية) بدأ به تهديدا لهم. لأنه أول نبيّ عوقب قومه. لا أنه أول مشرع، كما توهم. وظاهر الآية يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى له كما أوحي لنبينا صلى الله عليه وسلم. لا أنه غير موحى إليه أصلا، كما قيل. انتهى. وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب عليهم السلام وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦٤]
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي: في السور المكية وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أي: لم نسمهم لك في القرآن. وقد أحصى بعض المدققين أنبياء
448
اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين. روى في عدتهم أحاديث تكلّم في أسانيدها. منها
حديث أبي ذر: إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر
. صححه ابن حبان. وخالفه ابن الجوزيّ فذكره في (موضوعاته) واتهم به إبراهيم بن هاشم. وقد تكلم فيه غير واحد وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة. لأن تأكيد (كلّم) بالمصدر يدلّ على تحقيق الكلام. وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك.
لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر. فلا يقال: أراد الحائط يسقط إرادة. وهذا رد على من يقول: إن الله خلق كلاما في محلّ. فسمع موسى ذلك الكلام. قال الفراء:
العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما، بأي طريق وصل. لكن لا تحققه بالمصدر. وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام. فدل قوله تعالى تَكْلِيماً على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة. قال بعضهم: كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء، فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه منجما من الأنبياء. كذا في (اللباب).
تنبيه:
يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام. فإنها من أعظم مسائل الدين. وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين.
واضطربت فيها الأقوال. وكثرت بسببها الأهوال. وأثارت فتنا وجلبت محنا. وكم سجنت إماما. وبكت أقواما. وتشعبت فيها المذاهب. واختلفت فيها المشارب.
ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة. المقتفين لأثر الرسول ﷺ وصحابته الكرام رضي الله عنهم. فنقول: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية عليه رحمة الرحيم السلام، في كتابه إلى جماعة العارف عدي بن مسافر ما نصه:

فصل


ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان. مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة: أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود. هكذا قال غير واحد من السلف. روي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال: ما زلت أسمع
449
الناس يقولون ذلك. القرآن الذي أنزله الله على رسول الله ﷺ هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم. وهو كلام الله لا كلام غيره. وإن تلاه العباد وبلّغوه بحركاتهم وأصواتهم. فإن الكلام لمن قاله مبتدئا، لا لمن قاله مبلغا مؤديا. قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: ٦]. وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: ٢١- ٢٢]. وقال تعالى: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة: ٢- ٣]. وقال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:
٧٧- ٧٨]. والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه. كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله. وإعراب الحروف هو من تمام الحروف. كما
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات
. وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: حفظ إعراب القرآن أحبّ إلينا من حفظ بعض حروفه.
ثم قال رحمه الله: والتصديق بما
ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن الله يتكلم بصوت
وينادي آدم عليه السلام بصوت، إلى أمثال ذلك من الأحاديث. فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة. وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، حيث تلي، وحيث كتب. فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة. لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل. ولا يقال غير مخلوقة، لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد. ولم يقل قط أحد من أئمة السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة. بل أنكروا على من قال (لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق) وأما من قال: إن المداد قديم- فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة. قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف: ١٠٩]، فأخبر أن المداد يكتب به كلماته. وكذلك من قال (ليس القرآن في المصحف. وإنما في المصحف مداد وورق وحكاية وعبارة) فهو مبتدع ضال. بل القرآن الذي أنزله الله على محمد ﷺ هو ما بين الدفتين. والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس، له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء. وكذلك من زاد على السنة فقال: إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة، مبتدع ضال. كمن قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت- فإنه أيضا مبتدع منكر للسنة. وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم- فهو ضال. كمن قال: ليس في المصاحف كلام الله. وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون: إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط، كلام الله- فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه. هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل
450
التكذيب من جانب النفي. وكلاهما خارج عن السنة والجماعة. وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة، نفيا وإثباتا. وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل. فإن من قال: إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به قديم، فهو ضال جاهل. ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن- فهو ضال مبتدع.
بل الواجب أن يقال. هذا القرآن العربيّ هو كلام الله. وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها. كما دخلت معانيه. ويقال: وما بين اللوحين جميعه كلام الله. فإن كان المصحف منقوطا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله. وإن كان غير منقوط ولا مشكول، كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة، كان أيضا ما بين اللوحين هو كلام الله. فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظيّ لا حقيقة له. ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت.
وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت. وقال أحدهما: النقط التي في المصحف والشكل من القرآن. وقال الآخر: ليس ذلك من القرآن. فما الصواب في ذلك؟
فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس. ويخلطون الحق بالباطل. فالذي قال: إن القرآن حرف وصوت، إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله، الذي نزل به الروح الأمين على محمد خاتم النبيين والمرسلين، وأن جبرئيل سمعه من الله، والنبيّ ﷺ سمعه من جبرئيل، والمسلمون سمعوه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: ١٠٢]. وقال: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: ١١٤]- فقد أصاب في ذلك. فإن هذا مذهب من سلف الأمة وأئمتها. والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.
ومن قال: إن القرآن العربيّ لم يتكلم الله به وإنما هو كلام جبرئيل أو غيره، عبّر به عن المعنى القائم بذات الله، كما يقول ذلك ابن كلّاب والأشعريّ ومن وافقهما- فهو قول باطل من وجوه كثيرة. فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات. وإن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد. وإنه لا يتعدد ولا يتبعض. وإنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وبالعبرانية كان توراة. وبالسريانية كان إنجيلا. فيجعلون معنى آية الكرسي، وآية الدّين، وقل هو الله أحد، وتبت يدا أبي لهب، والتوراة والإنجيل وغيرهما- معنى واحدا. وهذا قول فاسد بالعقل والشرع. وهو قول أحدثه ابن كلاب. لم يسبقه إليه غيره من السلف. وإن أراد قائل بالحرف والصوت، أن الأصوات
451
المسموعة من القراء، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي- أخطأ وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع. فإن
النبيّ ﷺ قال «١» : زينوا القرآن بأصواتكم
. فبين أن الصوت صوت القارئ. والكلام كلام الباري. كما قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: ٦]. فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله لا كلام غيره. كما ذكر الله ذلك.
وفي السنن «٢» عن جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ كان يعرض نفسه على الناس في الموقف فقال: ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي
. قالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم الم غُلِبَتِ الرُّومُ: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي. ولكنه كلام الله تعالى.
والناس إذا بلّغوا كلام النبيّ ﷺ «٣»
كقوله: إنما الأعمال بالنيات
- يعلمون أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم. تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه.
والمحدّث بلّغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبيّ صلى الله عليه وسلم. فالقرآن أولى أن يكون كلام الله، إذا بلّغته الرسل عنه، وقرأه الناس بأصواتهم. والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه. ونادى موسى بصوت نفسه. كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف. وصوت العبد ليس هو صوت الرب. ولا مثل صورته. فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وقد نص أئمة الإسلام، أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة: من أن الله ينادي بصوت. وإن القرآن كلامه تكلم بحروف وصوت. ليس منه شيء كلاما لغيره. لا جبرئيل ولا غيره. وأن العباد يقولونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم. فالصوت المسموع من العبد صوت
(١)
أخرجه البخاريّ في: التوحيد، ٥٢- باب قول النبيّ ﷺ «الماهر بالقرآن مع سفرة الكرام البررة وزينوا القرآن بأصواتكم».
قال الحافظ في (الفتح) : هذا الحديث من الأحاديث التي عقلها البخاريّ ولم يصلها في موضع آخر من كتابه. وقد أخرجه في كتاب (خلق أفعال العباد) من رواية عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء، بهذا.
وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارميّ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من هذا الوجه.
(٢) أخرجه أبو داود في: السنّة، ٢٠- باب في القرآن، حديث ٤٧٣٤.
(٣)
أخرجه البخاريّ في: الوحي، ١- باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث ١.
عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «إنما الأعمال بالنيات. وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
.
452
القارئ. والكلام كلام الباري. وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب. بل يجعل هذا هو هذا. فينفيهما جميعا. ويثبتهما جميعا. فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربيّ كلام الله، وأن يكون مناديا لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله. كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله. ثم جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا. لا فرق بين القديم والحادث. وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل. حيث جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا لا حقيقة له عند التحقيق. وإذا أثبت، جعل صوت الرب هو صوت العبد، أو سكت عن التمييز بينهما، مع قوله: إن الحروف متعاقبة في الوجود، مقترنة في الذات، قديمة أزلية الأعيان، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد، ويتحد بصفته، فقال في نوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل. وقد علم أن نفي الفرق والمباينة، بين الخالق وصفاته، والمخلوق وصفاته، خطأ وضلال. لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها. بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد. ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. حروفه ومعانيه. وأنه ينادي عباده بصوته. ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد. وعلى أنه ليس بشيء من أصوات العباد، ولا مداد المصاحف، قديما. بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين. مقروء بألسنتهم. محفوظ بقلوبهم. وهو كلام الله.
والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط. لأنهم كانوا عربا لا يلحنون. ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها. فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز. وإن كتبت بنقط وشكل جاز. ولم يكره، في أظهر قولي العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وحكم النقط والشكل حكم الحروف فإن الشكل يبين إعراب القرآن، كما يبين النقط الحروف. والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط، مخلوق. وكلام الله العربيّ الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط، وبغير شكل ونقط، ليس بمخلوق. وحكم الإعراب حكم الحروف. لكن الإعراب لا يستقل بنفسه. بل هو تابع للحروف المنقوطة. والشكل والنقط لا يستقل بنفسه. بل هو تابع للحروف المرسومة. فلهذا لا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام. بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله: معانيه وحروفه وإعرابه. والله تكلم بالقرآن العربيّ الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. والناس يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله. وهو القرآن العربيّ
453
الذي أنزل على نبيه. سواء كتب بشكل ونقط، أو بغير شكل ونقط. والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق. والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل، غير مخلوق. والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين. لأن كلام الله مكتوب فيها. واحترام النقط والشكل، إذا كتب المصحف مشكلا منقوطا، كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين. كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين. ولهذا قال أبو بكر وعمر: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه. فجميعه كلام الله. فلا يقال: بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله. وهو سبحانه نادى موسى. بصوت سمعه موسى. فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن. كما قال تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [النازعات:
١٥- ١٦].. والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة. وقد قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: ١٦٣- ١٦٤]. فقد فرّق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى. فمن قال: إن موسى لم يسمع صوتا، بل ألهم معناه- لم يفرق بين موسى وغيره. وقد قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: ٢٥٣]، وقال تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى: ٥١].
فقد فرّق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب. كما كلم الله موسى. فمن سوّى بين هذا وهذا، كان ضالًّا. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره: لم يزل الله متكلما إذا شاء. وهو يتكلم بمشيئته وقدرته. يتكلم بشيء بعد شيء. كما قال تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى [طه: ١١] فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك. وقال تعالى:
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: ٢٢]. فهو سبحانه ناداهما حين ذاقا الشجرة. ولم ينادهما قبل ذلك. وكذلك قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف: ١١]. بعد أن خلق آدم وصوّره. ولم يأمرهم قبل ذلك. وكذا قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ
454
كُنْ فَيَكُونُ
[آل عمران: ٥٩]. فأخبر أنه قال له: كن فيكون. بعد أن خلقه من تراب. ومثل هذا الخبر في القرآن كثير. يخبر أنه تكلم في وقت معين. ونادى في وقت معين.
وقد ثبت في الصحيحين «١» عن النبيّ ﷺ أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: ١٥٨]. قال: نبدأ بما بدأ الله به.
فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة.
والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق. منه بدأ وإليه يعود. فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين. ثم قالت طائفة: هو معنى واحد. وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهيّ والخبر بكل مخبر. إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا. وهذا القول مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان، لازمة لذات الله، لم تزل لازمة لذاته. وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معا. أزلا وأبدا. لم تزل ولا تزال. لم يسبق منها شيء شيئا. وهذا أيضا مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته. وإنه في الأزل كان متكلما بالنداء الذي سمعه موسى. وإنما تجدد استماع موسى. لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى. ولكن تلك الساعة سمع النداء.
وهؤلاء وافقوا الذين قالوا: إن القرآن مخلوق، في أصل قولهم. فإن أصل قولهم: إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية. فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وقالوا:
هذه حوادث. والرب لا تقوم به الحوادث. فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول.
واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم. وأخطئوا في ذلك. فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا. وادعوا أن الرب لم يكن قادرا في الأزل على كلام يتكلم به، ولا فعل يفعله. وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا. بغير أمر حدث. أو يغيّرون العبارة فيقولون: لم يزل قادرا. لكن يقولون: إن المقدور كان ممتنعا. وإن الفعل صار ممكنا له، بعد أن صار ممتنعا عليه. من غير تجدد شيء.
وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا: كان قادرا في الأزل على ما يمكن، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل. فيجمعون بين النقيضين. حيث يثبتونه قادرا في حال كونه المقدور عليه ممتنعا عندهم. ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل، وبين عينه كما لم يفرّق الفلاسفة بين هذا وهذا. بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم
(١) أخرجه مسلم في: الحج، ١٩- باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث ١٤٧.
455
بقدمه. فضلّوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول. فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم. بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث. بعد أن لم يكن. إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته. كما تدل على ذلك الدلائل القطعية. والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازما، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء. بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازما لذاته. ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين، له. ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة. فكيف بالفاعل بالإرادة؟ وما يذكر بأن المعلول يقارن علته، إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط. فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط. بل قد يقارنه. كما تقارن الحياة العلم. وأما ما كان فاعلا، سواء سمي علة أو لم يسم، فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين. والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته. ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين. وقول القائل (حركت يدي فتحرك الخاتم) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين. ولأنه لو كان العالم قديما لكان فاعله موجبا بذاته في الأزل. ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه. ولو كان كذلك لم يحدث شيئا من الحوادث. وهذا خلاف المشاهدة. وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرا على الكلام والفعل. بل لم يزل متكلما إذ شاء، فاعلا لما يشاء، ولم يزل موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام. والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب. وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته. وفيه من الإحسان ما دل على رحمته. وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته. وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى. مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود. لا نقص فيه. منزه عن كل نقص. وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره. فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل. منزه فيها عن التشبيه والتمثيل. ومنزه عن النقائص مطلقا. فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل. وكماله من لوازم ذاته المقدسة. لا يستفيده من غيره. بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء. وما جعله فيهم من صفات الأحياء. وخالق صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله، أن الجهمية والمعتزلة، لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم، اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثا. بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده.
والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام. بل كان ذلك ممتنعا عليه. وكان معطلا عن ذلك. وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرا في الأزل على
456
الفعل فيما لا يزال، مع امتناع الفعل عليه في الأزل. فيجمعون بين النقيضين. حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته. إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أولا. والأزل لا أول له. والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين. ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث. وهو الفعل المعين والمفعول المعين. وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام. بل هذا يكون دائما. وإن كان كلّ من آحاده حادثا. كما يكون دائما في المستقبل، وإن كان كل من آحاده فانيا. بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائما، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل. ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك. لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة، كابن سينا وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديما واجب الوجود بغيره. فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء. مع مخالفتهم لسلفهم، أرسطو وأتباعه، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك. وإن قالوا بقدم الأفلاك. وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين. بناء على إثبات علة غاية لحركة الفلك.
بتحرك الفلك للنسبة بها. لم يثبتوا له فاعلا مبتدعا. ولم يثبتوا ممكنا قديما واجبا بغيره. وهم، وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم، فهم يسلمون لجمهور العقلاء، أن ما كان ممكنا بذاته فلا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم. فاحتاجوا أن يقولوا: كلامه مخلوق منفصل عنه. وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له.
لكن قالوا: تقوم به الأمور الاختيارية. فقالوا: إنه في الأزل لم يكن متكلما، بل ولا كان الكلام مقدورا له. ثم صار متكلما بلا حدوث حادث، بكلام يقوم به. وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم. وطائفة قالت: إذا كان القرآن غير مخلوق، فلا يكون إلا قديم العين، لازما لذات الرب. فلا يتكلم بمشيئته وقدرته. ثم منهم من قال: هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض. ومنهم من قال: إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات. وهؤلاء أيضا وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته. وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية. وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض. ولن يأتي يوم القيامة. ولم يناد موسى حين ناداه. ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات. ولا تفرحه توبة التائبين. وقالوا في قوله: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: ١٠٥]، ونحو ذلك، أنه لا يراها إذا وجدت. بل إما أنه لم يزل رائيا لها. وإمّا أنه لم يتجدد شيء موجود، بل تعلق معدوم. إلي أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة. مع مخالفة صريح العقل. والذي ألجأهم لذلك، موافقتهم للجهمية على
457
أصل قولهم: في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام. وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله متكلما إذا شاء. ثم افترقوا أحزابا أربعة كما تقدم:
الخلقية. والحدوثية. والاتحادية. والاقترانية. وشر من هؤلاء الصائبة والفلاسفة.
الذين يقولون: إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته. لا قديم النوع ولا قديم العين. ولا حادث ولا مخلوق. بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء. ويقولون: إنه كلم موسى من سماء عقله. وقد يقولون إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات. فإنه إنما يعلمها على وجه كلّي. ويقولون، مع ذلك: إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله. وقولهم (يعلم نفسه ومفعولاته) حق، كما قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: ١٤]. لكن قولهم، مع ذلك (إنه لا يعلم الأعيان المعينة) جهل وتناقض. فإن نفسه المقدسة معينة.
والأفلاك معينة. وكل موجود معين. فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئا من الموجودات. إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان. فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات: تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
وهم، إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للباري تعالى. إن هؤلاء يقولون: إن الحوادث تقوم بالقديم. وإن الحوادث لا أول لها. لكن نفوا ذلك عن الباري. لاعتقادهم أنه لا صفة له. بل هو وجود مطلق. وقالوا: إن العلم نفس عين العالم. والقدرة نفس عين القادر. والعلم والعالم شيء واحد. والمريد والإرادة شيء واحد. فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى. وجعلوا الصفات هي الموصوف. ومنهم من يقول: بل العلم كل المعلوم. كما يقوله الطوسيّ صاحب (شرح الإشارات) فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه. وابن سينا أقرب إلى الصواب.
لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف، وكل صفة هي الأخرى. ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول:
معاني الكلام شيء واحد. لكنهم ألزموا قولهم لأولئك فقالوا: إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئا واحدا، جاز أن يكون العلم هو القدرة، والقدرة على الإرادة.
فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه. ثم قالوا: وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، جاز أن تكون الصفة هي الموصوف. فجاء ابن عربيّ وابن سبعين والقونويّ ونحوهم، فقالوا: إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف، جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق، هو الموجود الممكن المحدث المخلوق. فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق. وقالوا:
458
الوجود واحد. ولم يفرّقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين. كما لم يفرّق أولئك بين الكلام الواحد بالعين، والكلام الواحد بالنوع. وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام، إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد. الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات. كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه، وقالوا: هو يتكلم بحرف وصوت قديم، قالوا: أولا إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي. إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودا في الأزل، يقارن بعضها بعضا، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله. ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القرّاء. وقال بعضهم: بل المسموع صوتان: قديم ومحدث.
وقال بعضهم: أشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزليّ.
وحكي عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزليّ وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه. بل منهم من يظن أنه قديم في علمه. ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره. ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق. ومنهم من لا يميز بين ما يقول. فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات. ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات. وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل. والصواب في هذا الباب وغيره، مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء. وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته. وأن كلماته لا نهاية لها. وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى. وإنما ناداه حين أتى. لم يناده قبل ذلك. وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم. وقدرته لا تماثل قدرتهم. وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته. ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته.
ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال- باطلة. وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات- باطلة. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. وقد بسطناها في (الواجب الكبير). والله أعلم بالصواب. (وقال تقي الدين أيضا في مقالة له في هذا البحث) : أول من أظهر إنكار التكليم والمخالّة الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية. وأمر علماء الإسلام، كالحسن البصريّ وغيره، بقتله. فضحّى به خالد بن عبد الله القسريّ، أمير العراق بواسط. فقال: أيها الناس ضحوا. تقبل الله ضحاياكم. فإني مضحّ بالجعد بن درهم. إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا.
ولم يكلم موسى تكليما. تعالى الله عما يقول الجعد علوّا كبيرا.
459
ثم نزل فذبحه. وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان. فأنكر أن يكون الله يتكلم.
ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام وقال: كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر. ودخل بعض أهل الكلام أو الجدل، من المنتسبين إلى الإسلام، من المعتزلة ونحوهم، في بعض مقالة الصابئة والمشركين. متعاقبة للجعد والجهم. وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين: منهم من يقول: إن السموات مخلوقة بعد أن لم تكن. كما أخبرت بذلك الرسل وكتب الله تعالى. ومنهم من ابتدع فقال: بل هي قديمة أزلية. لم تزل موجودة بوجود الأول واجب الوجود بنفسه. ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية. ولهم مقالات كثيرة الاضطراب، في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد.
لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل من الله تعالى يجمعهم. والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور. التي تعجز الآراء عن درك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى. وهم إنما يناظر بعضهم بعضا بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية. وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء والهواء. والحيوان والمعدن والنبات. ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله، وعلم ما فوق السموات. وأول الأمر وآخره. وهذا غلط بيّن. اعترف أساطينهم بأن هذا غير ممكن. وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين. وأنهم إن يتبعون إلا الظن. فلما كان حال هذه الصائبة المبتدعة الضالة ومن أضلوه من اليهود والنصارى، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهتد بهدى الله الذي بعث به رسله، من أهل الكلام والجدل- صاروا يريدون أن يأخذوا مآخذهم. كما
أخبر النبيّ ﷺ بقوله «١» : لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع. قالوا يا رسول الله! فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا فارس والروم؟
فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة. وهو الكلام في الأجسام والأعراض. بأن تثبت الأعراض ثم يثبت لزومها للأجسام. ثم حدوثها. ثم يقال ما لا يسبق الحوادث فهو حادث. واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم. فلما رأوا أن الأعراض، التي هي الصفات، تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض- التزموا نفيها عن الله. لأن ثبوتها مستلزم حدوثه.
وبطلان دليل حدوث العالم الذي اعتقدوا أن لا دليل سواه بل ربما اعتقدوا أنه لا
(١)
أخرجه البخاريّ في: الاعتصام، ١٤- باب قول النبيّ ﷺ «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حديث ٢٥٨٩ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ ﷺ قال «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر وذراعا بذراع» فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال «ومن الناس إلا أولئك» ؟
460
يصح إيمان أحد إلا به معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وبأن النبوة كمال يفيض على نفس النبيّ. لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقّا وأتبع للأدلة العقلية والسمعية، لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن. وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسل. لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها. فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم. كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات. ورأوا أن إثباته متكلما يقتضي أن يكون جسما. والجسم حادث. لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف. بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره. لأنه يفتقر من المخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره. ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره. ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم، والقرآن مملوء من إثبات ذلك- صاروا تارة يقولون: متكلم مجازا لا حقيقة. وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة. قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود. ثم إنهم رأوا هذا شنيعا فقالوا:
بل هو متكلم حقيقة. وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع. وليس عندهم كذلك.
بل حقيقة قولهم وأصله، عند من عرفه وابتدعه: إن الله ليس بمتكلم. وقالوا:
المتكلم من فعل الكلام، ولو في محل منفصل عنه. ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم، لا حقيقة ولا مجازا. وهذا قول من يقول: القرآن مخلوق. وهو أحد قولي الصابئة الذين يوافقون الرسل في حدوث العالم. وهو وإن كفر بما جاءت به الرسل، فليس هو في الكفر مثل القول الأول. لأن هؤلاء لا يقولون:
إن الله أراد أن يبعث رسولا معينا، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه. وأنكروا أن يكون متكلما على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة. ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة، وبينا لمؤمنين أتباع الرسل، الخلاف. فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم.
واختلفوا في كتاب الله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم من أن الله تكلم بالقرآن. وأنه كلم موسى تكليما. وأنه يتكلم. ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الأولون. بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان، الذي علموا به مراد الرسل من أخبارهم برسالة الله وكلامه. وتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء. وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى. حتى كان ابن المبارك إمام المسلمين يقول: إنّا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وكان قد كثر
461
ظهور هؤلاء، الذين هم فروع المشركين، ومن اتبعهم، من مبدلة الصابئين ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية وأوائل الثالثة، في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون، بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين. الذين كانوا قبل النصارى، ومن أشبههم من فارس والهند. وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم. وقد تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين. كما يقال: المعتزلة مخانيث الفلاسفة. فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام. وفي أهل السيف والإمارة. وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء، ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم.
ولم يبدلوا ويبتدعوا. وذلك لقصور وتفريط من أكثرهم، في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول وأتباعه.

فصل


فجاء قوم من متكلمي الصفاتية الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة، بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية. وفرّقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضا وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضا. لأن العرض ما لا يدوم وما لا يبقى. أو ما يقوم بمتحيز أو جسم. وصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام. وهؤلاء أهل الكلام القياسي من الصفاتية، فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم. وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقليّ عليها. كالصفات السبع. وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام. هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية؟ ولهم اختلاف في البقاء والقدم. وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات. ولهم أيضا اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية. كالوجه واليد. فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها. وكثير من متأخريهم لا يثبتها. وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها. ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عارضها من القياس العقليّ عنده. ومنهم من يفوّض معناها. وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات. وإنما المقصود القول في رسالة الله وكلامه الذي بلغته رسله. فكان هؤلاء، بينهم وبين أهل الوراثة النبوية، قدر مشترك بما ملكوه من الطرق الصائبة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته. فصار في مذهبهم في
462
الرسالة تركيب من الوراثتين. لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة. كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع كالمعتزلة، تركيب. وليس بين الأثارة النبوية وبين الأثارة الصابئة. لكن أولئك أشد اتباعا للأثارة النبوية، وأقرب إلى مذاهب أهل السنة، من المعتزلة ونحوهم، من وجوه كثيرة. ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه والحديث والتصوف، لوجوه: أحدها- كثرة الحق الذي يقولونه وظهور الأثارة النبوية عندهم. الثاني- لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضهما موروث عن الصابئة وبعضها مما ابتدع في الإسلام. واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم. وظنهم أنه لم يكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه. الثالث- ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات والموضحة لسبيل الهدى عندهم. الرابع- العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث. تارة يرون ما يعلمون صحته. وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور. فلما كان هذا منهاجهم، وقالوا: إن القرآن غير مخلوق، لما دل على ذلك من النصوص وإجماع السلف. ولمّا رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية، وبين القياس العقليّ، لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائما بنفس الله تعالى كسائر الصفات. كما جعله الأوّلون من باب المصنوعات المخلوقات، لا قديما كسائر الصفات. ورأوا أنه ليس إلا مخلوقا أو قديما، فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضي حلول الحوادث بذاته، وهو دليل على حدوث الموصوف، ويبطل لدلالة حدوث العالم، ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معاني كثيرة، بل إما معنى واحدا عند طائفة، أو معاني أربعة عند طائفة، ولتزموا على هذا أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام، بل دالة عليه. فتسمى باسمه إما مجازا عند طائفة أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة. وإما مجازا في كلام الله، حقيقة في غيره عند طائفة. وخالفهم الأولون وبعض من يستنن أيضا، وقالوا: لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه، أو الإرادة ونوعها. فصار النزاع بين الطائفتين.
وادعى هؤلاء أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية. ليست أنواعا له وأقساما.
وأن كلام الله معنى واحد. إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن. وبالعبرية فهو توراة.
وبالسريانية فهو إنجيل. وقال لهم أكثر الناس: هذا معلوم الفساد بالضرورة. كما قال الأولون: إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلما به. وإن المتكلم من أحدث الكلام
463
ولو في ذات غير ذاته. وقال لهم أكثر الناس: إن هذا معلوم الفساد بالضرورة. وقال الجمهور من جميع الطوائف: إن الكلام اسم للفظ والمعنى جميعا. كما أن الإنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعا. وإنه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة. وإن معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة، كتنوّع ألفاظه. وإن كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع. والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرّق. والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة. وإن لم يكن عندهم المعنى الذي هو كلام الله مخلوقا.
وفرّقوا بين كتاب الله وكلامه. فقالوا: كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق. وكلام الله هو معناها غير مخلوق. وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون:
إنه مخلوق. واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف؟ هل خلقت في الهواء أو في نفس جبرئيل أو أن جبرائيل هو الذي أحدثها أو محمد؟ وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم. وهم المتبعون للرسالة اتباعا محضا، لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين. وهو أن القرآن كله كلام الله. لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله. والقرآن هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن. حروفه ومعانيه. والأمر والنهي. هو اللفظ والمعنى جميعا. ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف: الحنفيه والمالكية والشافعية والحنبلية، إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء، إذا تكلموا في الأمر والنهي، ذكروا ذلك، وخالفوا من قال: إن الأمر هو المعنى المجرد. ويعلمون أهل الأثارة النبوية أهل السنة والحديث وعامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة أن قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: ١- ٢]. ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره. وكلام الله هو ما تكلم به، لا ما خلقه في غيره ولم يتكلم هو به.
(وسئل تقي الدين أيضا) ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين، فيمن يقول: الكلام غير المتكلم والقول غير القائل. والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى. بينوا لنا ذلك بيانا شافيا ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد. أثابكم الله بمنه.
(فأجاب رحمه الله) : الحمد لله. من قال: إن الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، وأراد أنه مبائن له ومنفصل عنه، فهذا خطأ وضلال. وهو من يقول: إن القرآن مخلوق. فإنهم يزعمون أن الله لا تقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره.
ويهمون الناس بقولهم: العلم غير العالم، والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم.
464
ثم يقولون: وما كان غير الله فهو مخلوق. وهذا تلبيس منهم. فإن لفظ (الغير) يراد به ما يجوز مبائنته للآخر ومفارقته له. وعلى هذا فلا يجوز أن يقال: علم الله غيره ولا كلامه غيره. ولا يقال: إن الواحد من العشرة غيرها. وأمثال ذلك. وقد يقال بلفظ (الغير) ما ليس هو الآخر. وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف. ولكن على هذا المعنى، لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته- مخلوقا. لأن صفاته ليست هي الذات. لكن قائمة بالذات. والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله. وليس الاسم اسما لذات لا صفات لها. بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها. والصواب في مثل هذا أن يقال: الكلام صفة المتكلم.
والقول صفة القائل. وكلام الله ليس مبائنا منه. بل أسمعه لجبرئيل ونزّله به على محمد صلى الله عليه وسلم. كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ. ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره.
بل يقال كما قال السلف: إنه كلام الله غير مخلوق. منه بدا وإليه يعود.
فقولهم (منه بدا) رد على من قال (إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق ابتدأ) فبينوا أنه الله هو المتكلم به. ومنه بدا، لا من بعض المخلوقات.
(وإليه يعود) أي: فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف حرف. وأما القرآن فهو كلام الله. فمن قال: إن القرآن، الذي هو كلام الله، غير الله- فخطؤه وتلبيسه كخطإ من قال: إن الكلام غير المتكلم. وكذلك من قال: إن الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به، فخطؤه ظاهر. وكذلك: أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون- فقد أخطأ. وإن أراد بالقرآن مصدر (قرأ يقرأ قراءة وقرآنا) وقال: أردت القراءة غير المقروء، فلفظ القراءة مجمل قد يراد بالقراءة القرآن، وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر، قال: القارئ غير المقروء. كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي هو يقول، وأراد ب (الغير) أنه ليس هو إياه- فقد صدق. فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني. ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة، وقسيما منه أخرى. فالأول كما يقال: الإيمان قول وعمل. ومنه
قوله ﷺ «١» : إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم.
ومنه قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ
(١) أخرجه البخاريّ في: الأيمان والنذور، ١٥- باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، حديث ١٢٤٢، عن أبي هريرة.
465
[فاطر: ١٠]. ومنه قوله تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ [يونس: ٦١]. وأمثال ذلك فيما يفرق فيه بين القول والعمل.
وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: ٩٢- ٩٣]. وقد فسروه بقوله: لا إله إلا الله.
ولما سئل «١» :
أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله.
مع
قوله «٢» : الإيمان بضع وسبعون. والحياء شعبة من الإيمان. أفضلها وأعلاها قول: لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذى عن الطريق
. ونظائر ذلك متعددة. وقد تنوزع فيمن حلف لا يعمل عملا، إذا قال قولا كالقراءة، هل يحنث؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره. بناء على هذا. فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها، وإلا وقع فيها نزاع واضطراب، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى. كلام تقيّ الدين رحمه الله تعالى.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب (الرد على الجهمية) : سألت أبي عن قوم يقولون (لما كلم الله موسى) : لم يتكلم بصوت. فقال أبي: بلى. تكلم جل ثناؤه بصوت. هذه الأحاديث نرويها كما جاءت. وقال أبي: حديث ابن مسعود «٣» :
(١)
أخرجه البخاريّ في: العتق، ٢- باب أي الرقاب أفضل، حديث ١٢٤١ ونصه: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال «إيمان بالله وجهاد في سبيله» قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال «أغلاه ثمنا وأنفسها عند أهلها» قلت: فإن لم أفعل؟ قال «تعين صانعا أو تصنع لأخرق» قال: فإن لم أفعل؟ قال «تدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدّق بها على نفسك»
. (٢) أخرجه أبو داود في: السنّة، ١٤- باب في ردّ الإرجاء، حديث ٤٦٧٦. [.....]
(٣) لم أعثر على حديث في هذا الموضوع وبهذا اللفظ لعبد الله بن مسعود، وإنما وقفت على حديث لأبي هريرة.
أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٣٤- سورة سبأ، ١- باب حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، حديث ٢٠١٥ ونصه: عن عمر قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إن نبيّ الله ﷺ قال «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان. إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا (للذي قال) الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع، هكذا بعضه فوق بعض...
فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن. فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها. وربما ألقاها قبل أن يدركه. فيكذب معها مائة كذبة.
فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟
فصدّق تلك الكلمة التي سمع من السماء
.
466
إذا تكلم الله تعالى سمع له صوت كمر السلسلة على الصفوان. قال: وهذه الجهمية تنكره. وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس. ثم قال: حدثنا المحاربيّ عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبيد الله قال: إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي، سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا.
وقال السفارينيّ في (شرح العقيدة) : روى في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على أربعين حديثا. وأخرج الإمام أحمد غالبها، واحتج به. وأخرج الحافظ ابن حجر أيضا في (شرح البخاريّ) واحتج بها البخاريّ وغيره من أئمة الحديث. على أن الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت. وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه، واعتمدوا على ذلك، منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله. من شبهات الحدوث وسمات النقص. كما قالوا في سائر الصفات، معتمدين على ما صح عندهم من صاحب الشريعة المعصوم في أقواله، الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام الواسطيّ ابن شيخ الحرمين الشافعيّ في (عقيدته) : إنني: كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل: مسألة الصفات، ومسألة الفوقية، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد. وكنت متحيرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك. من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها والوقوف فيها. أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل. فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات. وكذلك في إثبات العلوّ والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت. ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم، منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء. وتأول النزول بنزول الأمر. وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين. وتأول القدم بقدم صدق عند ربهم. وأمثال ذلك. ثم أحدهم مع ذلك يجلون كلام الله معنى قائما بالذات، بلا حرف ولا صوت ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم. ومعنى ذلك إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة. مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعيين. لأني على مذهب الشافعيّ رحمه الله تعالى، عرفت فرائض ديني وأحكامه. فأجد مثل هؤلاء الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال. وهم شيوخي. ولي فيهم الاعتقاد التام. لعلمهم وفضلهم. ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها. وأجد الكدر والظلمة منها. وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها.
فكنت كالمتحير. المضطرب في تحيره. المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره.
وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول، مخافة الحصر
467
والتشبيه. ومع ذلك، فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني. وأجد الرسول ﷺ قد صرح بها مخبرا عن ربه، واصفا له بها. ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص ويؤولها كما تأولها هؤلاء الفقهاء المتكلمون. ثم قال: والذين أولوا ما أولوا، هو أنهم ما فهموا في صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين. فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه، وعطلوا ما وصفه الحق به نفسه. ولو علموا أن هذه الصفات هي كلها ثابتة له، كما يليق بجلاله وعظمته، لا على ما نعقل من صفات المخلوقين، لسلموا من التشبيه والتأويل المؤدي إلى التعطيل.
ثم قال: ومسألة الحرف والصوت تساق هذا المساق. فإن الله تعالى قد تكلم بالقرآن المجيد بجميع حروفه. فقال تعالى: المص [الأعراف: ١]. وقال: ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: ١]. وكذلك جاء في
الحديث «١» : فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب
. وفي
الحديث: لا أقول (آلم) حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف.
فهؤلاء ما فهموا من كلام الله إلا ما فهموه من كلام المخلوقين. قالوا: إذا قلنا بالحرف فإن ذلك يؤدي إلى القول بالجوارح واللهوات. وكذلك إذا قلنا بالصوت أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة. فعملوا بهذا من التخبيط كما عملوا فيما تقدم من الصفات. والتحقيق هو أن الله تعالى تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر- والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا إلى لهوات. وكذلك له صوت يليق به يسمع. ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والحنجرة. فكلام الله كما يليق به، وصوته كما يليق به. ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه، لافتقارهما منا إلى الجوارح واللهوات. فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك. وهذا ينشرح الصدر له ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف بقوله: هذا عبارة عن ذلك. فإن قيل: هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله وعين تكلمه هو؟ قلنا: لا. بل القارئ يؤدي كلام الله. والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مؤدّيا مبلغا. ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق، وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدّي عن الكلام المؤدّى عنه. ولهذا منع السلف من قول
(١)
أخرجه البخاري في: التوحيد، ٣٢- باب قول الله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
. ونصه: عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبيّ ﷺ يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديّان
.
468
(لفظي بالقرآن مخلوق) لأنه لا يتميز. كما منعوا عن قول (لفظي بالقرآن غير مخلوق) فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق وفي التلاوة مسكوت عنه. كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن. وما أمر السلف بالسكوت عنه، يجب السكوت عنه. والله الموفق والمعين.
تنبيه:
قال في (العناية) : القراءة المشهورة في الآية رفع الجلالة الشريفة. وقرئ بنصبها في الشواذ. انتهى.
قال الحافظ ابن كثير: روى الحافظ أبو بكر بن مردويه أن رجلا جاء إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلا يقرأ: وكلم الله موسى تكليما. فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر. قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثّاب، وقرأ يحيى ابن وثّاب على أبي عبد الرحمن السلميّ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ على عليّ بن أبي طالب، وقرأ عليّ بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكلّم الله موسى تكليما.
وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عيّاش، رحمه الله، على من قرأ كذلك، لأنه حرّف لفظ القرآن ومعناه. وكأن هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن الله كلم موسى عليه السلام، أو يكلم أحدا من خلقه. كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: وكلم الله موسى تكليما. فقال له: يا ابن الخنا! كيف تصنع بقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: ١٤٣] يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦٥]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥)
رُسُلًا أي: كل هؤلاء النبيين أرسلناهم رسلا مُبَشِّرِينَ بالجنة لمن آمن وَمُنْذِرِينَ من النار لمن كفر لِئَلَّا لكيلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ يوم القيامة أي: معذرة يعتذرون بها قائلين: لولا أرسلت إلينا رسولا فيبيّن لنا شرائعك، ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك، لقصور القوّة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها. كما في قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ...
469
[طه: ١٣٤] الآية. وإنما سميت حجة، مع استحالة أن يكون لأحد عليه، سبحانه، حجة في فعل من أفعاله، بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء- للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى، بمقتضى كرمه ورحمته لعباده، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها. ولذلك قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥].
أفاده أبو السعود.
وفي الصحيحين «١» عن المغيرة: لا أحد أحبّ إليه العذر من الله. ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين. وقوله تعالى: بَعْدَ الرُّسُلِ أي: بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
متعلق ب (حجة) أو بمحذوف وقع صفة لها. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسل. كما قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥]. وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى، لا تثبت إلا بالسمع وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله حَكِيماً في بعث الرسل للإنذار.
تنبيه:
أشارت الآية إلى بيان حاجة البشر إلى إرسال الرسل، وإلى وظيفتهم عليهم السلام. قال العلامة السيد محمد عبده، مفتى مصر في (رسالة التوحيد) في هذا المبحث: أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم والكتاب
(١)
أخرجه مسلم في: التوبة، حديث ٣٥ ونصه: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ «ليس أحد أحبّ إليه المدح من الله عز وجل. من أجل ذلك مدح نفسه. وليس أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش. وليس أحد أحبّ إليه العذر من الله. من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل».
وأخرجه البخاريّ في: التفسير، ٦- سورة الأنعام، ٧- باب لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ.
وفي: التفسير، ٧- سورة الأعراف، ١- باب إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وفي: النكاح، ١٠٧- باب الغيرة.
وفي التوحيد، ١٥- باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ.
الحديث ٢٠٠٣
وكل طريق من هذه الطرق تنقص القطعة التي أوردها المؤلف وأخرجها مسلم، ضمن الحديث.
470
للتراسل- أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعدّ لها، بمحض فضله، بعض من يصطفيه من خلقه؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته. يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه. والأمانة على مكنون سره. مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم، لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه. فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين. نهاية الشاهد وبداية الغائب.
فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها ثم يتلقون من أمره أن يحدّثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدّر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه. معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم. وأن يبلغوا عنه شرائع عامة.
تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك الكون المغيّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله. ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة. ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات. حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة. فيكونون بذلك رسلا من لدنه إلى خلقه، مبشرين ومنذرين.
لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد على كل حيّ بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرا ولا جليلا من خلقه- يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره- أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط في أهم حياتيه والضلال في أفضل حاليه.
يقول قائل: ولم لم يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل، وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل، والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنسانيّ. ذلك النوع، على ما به، وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدا لكل حال بطبعه، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال. فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات، لم
471
يكن هو ذلك النوع، بل كان إمّا حيوانا آخر، كالنحل والنمل، أو ملكا من الملائكة.
ليس من سكان هذه الأرض.
ثم قال: إن كان الإنسان قد فطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل مثلا من الإلهام الهادي إلى ما يلزم ذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف فيه، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه، مع ذلك الشعور، عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها. وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري. وفي كل ذلك الويل على جامعته، والخطر على وجوده. أفهل مني هذا النوع بالنقص، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم، هو كذلك. لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه.
الإنسان عجيب في شأنه: يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت. ويسامي بقوته ما يعظم عن أن يسامي من قوى الكون الأعظم. ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع، متى عرض له أمر ما، لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه. ذلك لسرّ عرفه المستبصرون. واستشعرته نفوس الناس أجمعين.
من ذلك الضعف قيد إلى هواه. ومن تلك الضعة أخذ بيده إلى شرف سعادته.
أكمل الواهب الجواد لجملته، ما اقتضته حكمته في تخصيص نوعه، بما يميزه عن غيره، أن ينقص من أفراده. وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرّف للحواس، لينظر في طلب اللقمة، وستر العورة والتوقي من الحر والبرد- جاد على الجملة بما هو أمسّ بالحاجة في البقاء، وآثر في الوقاية من غوائل الشقاء. وأحفظ لنظام الاجتماع الذي هو عماد كونه بالإجماع. منّ عليه بالنائب الحقيقيّ عن المحبة، بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفرت منها. لم يخالف سنته فيه، من بناء كونه على قاعدة التعليم والإرشاد. غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه، وهي جهة الخضوع والاستكانة. فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين. وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم. وأيد ذلك، زيادة في الإقناع، بآيات باهرات تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول. فيستخذي الطامح. ويذل الجامح.
ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده. وينبهر لها بصر الجاهل فيرتدّ عن غيه.
يطرقون القلوب بقوارع من أمر الله. ويدهشون المدارك ببواهر من آياته. فيحيطون العقول بما لا مندوحة من الإذعان له. ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك
472
والمملوك، والسلطان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول والفاضل. فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراريّ منه بالاختياريّ النظريّ. يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم. وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته.
وأولئك هم الأنبياء والمرسلون. فبعثه الأنبياء، صلوات الله عليهم، من متممات كون الإنسان. ومن أهم حاجاته في بقائه. ومنزلتها من النوع منزلة العقل من الشخص.
نعمة أتمها الله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
ثم قال، في الكلام على وظيفة الرسل عليهم السلام: تبين مما تقدم في حاجة العالم الإنسانيّ إلى الرسل، أنهم من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية، قضت رحمة المبدع الحكيم بسدادها، ونعمة من واهب الوجود ميّز بها الإنسان عن بقية الكائنات من جنسه. ولكنها حاجة روحية وكل ما لامس الحسّ منها، فالقصد فيه إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة وتقديم ملكاتها. أو إيداعها ما فيه سعادتها في الحياتين. أمّا تفصيل طرق المعيشة، والحذق في وجوه الكسب، وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أعدّ للوصول إليه، من أسرار العلم- فذلك مما لا دخل للرسالات فيه. إلا من وجه العظة العامة، والإرشاد إلى الاعتدال فيه، وتقرير أن شرط ذلك كله أن لا يحدث ريبا في الاعتقاد بأن للكون إلها واحدا قادرا عالما حكيما متصفا بما أوجب الدليل أن يتصف به، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها مخلوقة له وصنع قدرته. وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال. وشرطه أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحدا من الناس بشرّ في نفسه أو عرضه أو ماله، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة، على ما حدد في شريعتها.
يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته. ويبيّنون الحدّ الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان. على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة. يجمعون كلمة الخلق على إله واحد لا فرقة معه، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده. وينهضون نفوسهم إلى التعلق به في جميع الأعمال والمعاملات ويذكرونهم بعظمته بفرض ضروب من العبادات، فيما اختلف من الأوقات. تذكرة لمن ينسى. وتزكية مستمرة لمن يخشى. تقوّي ما ضعف منهم. وتزيد المستيقن يقينا.
يبيّنون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم وتنازعته مصالحهم ولذاتهم.
فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع. ويؤيدون، بما يبلغون عنه، ما تقوم
473
به المصالح العامة. ولا تفوت به المنافع الخاصة. يعودون بالناس إلى الألفة.
ويكشفون لهم سر المحبة. ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة.
ويفرضون عليهم مجاهدة أنفسهم، ليستوطنوها قلوبهم، ويشعروها أفئدتهم.
يعلمونهم لذلك أن يرعى كلّ حق الآخر، وإن كان لا يغفل حقه. وأن لا يتجاوز في الطلب حدّه. وأن يعين قويّهم ضعيفهم. ويمد غنيّهم فقيرهم. ويهدي راشدهم ضالّهم. ويعلم عالمهم جاهلهم:
يضعون لهم بأمر الله حدودا عامة. يسهل عليهم أن يردّوا إليها أعمالهم.
كاحترام الدماء البشرية إلا بحق. مع بيان الحق الذي تهدر له. وحظر تناول شيء مما كسبه الغير إلا بحق. مع بيان الحق الذي يبيح تناوله. واحترام الأعراض. مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوّموا أنفسهم بالملكات الفاضلة كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود والمحافظة على العهود والرحمة بالضعفاء والإقدام على نصيحة الأقوياء والاعتراف لكل مخلوق بحقه بلا استثناء.
يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية، إلى طلب الرغائب السامية، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب والإنذار والتبشير حسبما أمرهم الله جل شأنه.
يفضّلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله عنهم، وما يعرّضهم لسخطه عليهم.
ثم يحيطون بيانهم بنبإ الدار الآخرة، وما أعدّ الله فيها من الثواب وحسن العقبى. لمن وقف عند حدوده، وأخذ بأوامره، وتجنب الوقوع في محظوراته.
يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به مما لو صعب على العقل اكتناهه، لم يشقّ عليه الاعتراف بوجوده.
بهذا تطمئن النفوس وتثلج الصدور، ويعتصم المرزوء بالصبر، انتظارا لجزيل الأجر. أو إرضاء لمن بيده الأمر. وبهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الإنساني.
لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم.
ليس من وظائف الرسل ما هو من عمل المدرسين ومعلمي الصناعات. فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكنّ من طبقات الأرض ولا مقادير الطول فيها والعرض. ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها. ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في إبقاء
474
أشخاصها وأنواعها... وغير ذلك مما وضعت له العلوم. وتسابقت في الوصل إلى دقائقه الفهوم. فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة. هدى الله إليه البشر بما أودع فيهم من الإدراك. يزيد في سعادة المخلصين، ويقضي فيه بالنكد على المقصّرين. ولكن كانت سنة الله في ذلك، أن يتبع طريقة التدرج في الكمال. وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجماع بالسعي فيه، وما يكفل التزامه بالوصول إلى ما أعد الله له الفطر الإنسانية من مراتب الارتقاء.
أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك أو هيئة الأرض- فإنما يقصد منه، النظر إلى ما فيه من الدلالة على حكمة مبدعه، أو توجيه الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه. وحالهم، عليهم الصلاة والسلام، في مخاطبة أممهم، لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون. وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم. ولهذا قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة، بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة. وكذلك ما وجه إلى الخاصة، يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة. وهذا القسم أقل ما ورد في كلامهم. على كل حال، لا يجوز أن يقام الدين حاجزا بين الأرواح، وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان. بل يجب أن يكون الدين باعثا لها على طلب العرفان. مطالبا لها باحترام البرهان. فارضا عليها أن تبذل ما تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديه من العوالم. ولكن مع التزام القصد، والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد.
ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين، وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب الدين.
انتهى.
ولما تضمن قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ... الآية، إثبات نبوته والاحتجاج على تعنتهم عليه، بسؤال كتاب نزل عليهم من السماء، كأنه قيل: إنهم لا يشهدون بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦٦]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦)
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القرآن المعجز الناطق بنبوتك. قال الزمخشريّ: معنى شهادة الله بما أنزل إليه، إثباته لصحته، بإظهار المعجزات. كما
تثبت الدعاوي بالبينات. إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب، بالمعجزة أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي:
وهو عالم به، رقيب عليه. فالظرف حال من الفاعل. والجملة كالتفسير لما قبلها وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أي: بذلك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على صحة نبوتك وإن لم يشهد غيره. وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بما شهد الله بإنزاله، مع اطلاعهم على إعجازه وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهو دين الإسلام، من أراد سلوكه قَدْ ضَلُّوا أي بما فعلوا ضَلالًا بَعِيداً لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦٨]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا أي الخلائق بإضلالهم لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة. التي هي طريق الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٦٩]
إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩)
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ أي: المؤدي إليها. وهو اكتسابهم الأعمال السيئة خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي: هيّنا لا يعسر عليه ولا يستعظمه. ولما قرر أمر النبوة، وبيّن الطريق الموصل إلى العلم بها، ووعيد من أنكرها، خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعيد على الرد، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٧٠]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ أي: بالهدى ودين الحق والبيان الشافي الذي يجب قبوله فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أي: إيمانا خيرا لكم. أو ائتوا
أمرا خيرا لكم من تقليد المعاندين وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي:
فهو قادر على تعذيبكم لعظم ملكوته، أو فهو غنيّ عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم. كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: ٨]، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً في صنعه. ولما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الحجة، جرّد الخطاب للنصارى، زجرا لهم عما هم عليه من الكفر والضلال. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٧١]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي: بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته. فإنه تجاوز فوق المنزلة التي أوتيها. وهي الرسالة. واستفيد حرمة الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد.
وفي الصحيح «١» عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا:
عبد الله ورسوله.
وقال الإمام أحمد «٢» : حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البنانيّ، عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا! وخيرنا وابن خيرنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! عليكم بقولكم ولا يستهوينّكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله. والله! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل.
قال ابن كثير: تفرد به من هذا الوجه. وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد. بل نزهوه عن جميع ذلك إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه به من كونه ابنا لله تعالى رَسُولُ اللَّهِ خبر المبتدأ أعني المسيح. أي: مقصود على
(١) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ٤٨- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ، حديث ١٢١٤.
(٢) قال الأستاذ أحمد محمد شاكر في (عمدة التفسير) : إنه الحديث رقم ١٢٥٧٨.
477
مقام الرسالة لا يتخطاه وَكَلِمَتُهُ أي: مكوّن بكلمته وأمره الذي هو (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي: أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام وَرُوحٌ مِنْهُ أي بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة. وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال: بيت الله، وناقة الله.
وقيل: الروح هو نفخ جبريل عليه السلام في جيب درع مريم. فحملت بإذن الله.
سمى النفخ روحا لأنه ريح تخرج من الروح. وإنما أضافه إلى نفسه لأنه وجد بأمره تعالى وإذنه.
قال أبو السعود: (من) لابتداء الغاية مجازا، لا تبعيضية، كما زعمت النصارى. يحكى أن طبيبا نصرانيّا للرشيد، ناظر عليّ بن حسين الواقديّ المروزيّ ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى.
وتلا هذه الآية. فقرأ الواقديّ: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية: ١٣]. فقال: إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءا منه، تعالى علوّا كبيرا. فانقطع النصرانيّ وأسلم. وفرح الرشيد فرحا شديدا، ووصل الواقديّ بصلة فاخرة. وقيل: سمي روحا، لإحيائه الموتى بإذن الله. وقيل: لإحيائه القلوب.
كما سمى به القرآن لذلك، في قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢]. وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم بالبشارة. وقيل:
جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة، قالوا: إنه روح. فلما كان عيسى عليه السلام متكوّنا من النفخ، لا من النطفة، وصف بالروح. وتقديم كونه عليه السلام رسول الله في الذكر، مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحا منه، في الوجود- لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل، وتعيين مآل ما يحتمله، وسدّ باب التأويل الزائغ. انتهى.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وخصوه بالألوهية وَرُسُلِهِ أي: جميعهم وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي: الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم. كما ينبئ عنه قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: ١١٦].
وقد ذكر السيد عبد الله الهنديّ في مناظرته مع قسيس الهند حكاية عن مناظره أنه حكى أن فرقة من النصارى تسمى (كولى ري دينس) كانت تقول:
الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم. قال: ولعل هذا الأمر كان مكتوبا في نسخهم، لأن القرآن كذبهم. انتهى.
478
أو التقدير: ولا تقولوا: الله ثلاثة. أي ثلاثة أقانيم. وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه: أخص أسرار المسيحية سر الثالوث. وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس. والأب هو الله والابن هو الله وروح القدس هو الله. وليسوا ثلاثة آلهة. بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية. وذلك لأن لهم جوهرا واحدا ولاهوتا واحدا وذاتا واحدة. وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين. لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء. ما عدا الأقنومية. ولا نقدر أن نفهم جيدا هذه الحقائق لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشريّ. انتهى كلامهم في تعليمهم المدرسيّ المطبوع في بيروت سنة (١٨٧٦) مسيحية. فانظر إلى هذا التناقض والتمويه. يعترفون بأن الثلاثة آلهة. ثم يناقضون قولهم وينكرون ذلك.
ونقل العلامة الشيخ رحمة الله الهنديّ في كتابه (إظهار الحق) عن صاحب (ميزان الحق) النصرانيّ أنه قال: نحن لا نقول: إن الله ثلاثة أشخاص أو شخص واحد. بل نقول بثلاثة أقانيم في الوحدة. وبين الأقانيم الثلاثة وثلاثة أشخاص بعد السماء والأرض انتهى.
قال رحمة الله: وهذه مغالطة صرفة. لأن الموجود لا يمكن أن يوجد بدون التشخص. فإذا فرض أن الأقانيم موجودون وممتازون بالامتياز الحقيقيّ، كما صرح هو بنفسه في كتبه، فالقول بوجود الأقانيم الثلاثة هو بعينه القول بوجود الأشخاص الثلاثة. على أنه وقع في الصحيفة التاسعة والعشرين من كتاب الصلاة، الرائج في كنيسة انكلترة، المطبوع سنة (١٨١٨) ما ترجمته: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلة، الذين هم واحد. يعني ثلاثة أشخاص وإلها واحدا. فوقع فيه ثلاثة أشخاص صريحا. وكذلك مملوءة بعبارات مصرحة بأن عيسى ابن الله، وأنه الله، وأن مريم أم الله وزوجه الله. ويسجدون لها ولصورتها السجود المحرّم في كتبهم لغير الله، كما يسجدون لله. نسأله سبحانه وتعالى الحفظ. ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان.
ولقد شفى الغليل الأستاذ الجليل الشيخ رحمه الله في (إظهار الحق) فساق، في الباب الرابع منه، إبطال التثليث بالبراهين الدامغة والحجج البالغة. كما رد عليهم من المسلمين وممن أسلم منهم عدد وافر يفوت الحصر. وقد انتشر، والله الحمد،
479
في ذلك مؤلفات نافعة. بل رد عليهم فرق كثيرة منهم فقد جاء في كتاب (الرأي الصواب وفصل الخطاب) للقس جبارة ما صورته: إن المسيحيين الموحدين الذي ظهروا منذ (٨٠) سنة في أميركا ولهم الآن ثلاثمائة كنيسة والدرجة الأولى في المعارف والمدارس والاجتماعات الأدبية، وكذلك لهم في انكلترا ثلاثمائة كنيسة وتآليف عديدة معتبرة، ويعتبرون القرآن كما يعتبرون الإنجيل والتوراة كتبا إلهية- لا يؤمنون بتثليث الآلهة. أي إنهم لا يعتقدون بكون السيد المسيح أو الروح القدس هو إله حقيقيّ. كالله الواجب الوجود. بل يعتقدون أن الله وحده هو الإله الحق. انتهى.
وفيه أيضا ما لفظه: كل الكتب المنزلة تعلّم بالوحدانية وتنفي تثليث الآلهة.
أو كون الله ثلاثة. وتعلن صريحا بأوضح العبارة أن الله واحد أحد. وأنه لا إله حقّا سواه. انتهى.
وفي كتاب (سوسنة سليمان) ذكر فرق منهم متعددة صارت إلى إنكار ألوهية المسيح والروح القدس. وهذا الكتاب ساق من فرقهم العتيقة والحديثة واختلافهم ما يقضي بالعجب. مما يؤيد ما قاله الحافظ ابن كثير، من أن لهم آراء مختلفة وأقوالا غير مؤتلفة. ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولا. انتهى.
قال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية في (الرسالة القبرصية) : فتفرّق النصارى في التثليث والاتحاد تفرقا وتشتتوا تشتيتا لا يقرّ به عاقل ولم يجئ نقل. إلا كلمات متشابهات في الإنجيل وما قبله من الكتب. قد بينتها كلمات محكمات في الإنجيل وما قبله. كلها تنطق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده. ودعائه وتضرعه. ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله، كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله. فأرباب التثليث في الوحدانية، والاتحاد في الرسالة، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بيّن بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها. انتهى.
وقد اجتمع لديّ، بحمده تعالى، حين كتابة هذه السطور عشرون مؤلّفا في الرد عليهم. وكلها، ولله الحمد، مطبوعة منتشرة. فلا حاجة للإطالة بالنقل عنها.
لسهولة الوقوف عليها.
قال الماورديّ في (أعلام النبوّة) : فأما النصارى فقد كانوا، قبل أن تنصر قسطنطين الملك، على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام.
ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين. وهو أول من تنصر من ملوك الروم. أي
480
لأن الروم كانوا صابئة. ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم. فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله. وقال أوائل اليعاقبة: إنه ابن الله. وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة. أحدهم عيسى. ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر، حين استنكرته النفوس، ودفعته العقول، فقالوا: إن الله تعالى جوهر واحد. هو ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب. وأقنوم الابن. وأقنوم روح القدس. وأنها واحدة في الجوهرية. وأن أقنوم الأب هو الذات. وأقنوم الابن هو الكلمة. وأقنوم روح القدس هو الحياة. واختلفوا في الأقانيم. فقال بعضهم: هي خواص. وقال بعضهم: هي أشخاص. وقال بعضهم: هي صفات. وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى. واختلفوا في الاتحاد.
ثم قال: وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول. وفسادها ظاهر في المعقول. وقوله تعالى انْتَهُوا أي: عن التثليث خَيْراً لَكُمْ أي: انتهاء خيرا. أو اقصدوا خيرا من التثليث وهو التوحيد إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي: بالذات. لا تعدد فيه بوجه ما. وبقوله: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ تنزيه لمقامه جل شأنه، عما زعموه من نبوّة عيسى. حيث قالوا: إنه الله وابن الله. والذي أوقعهم في هذه المهلكة الوخيمة، والورطة الجسيمة، ما ورد موهما من ألفاظ الإنجيل كالأب والابن. فلم يحملوها على ما أريد منها. وحملوها على ظاهرها. فضلّوا وأضلّوا. وفي (منية الأذكياء) ما نصه: وأما ما ورد في الإنجيل الموجود الآن، من إطلاق ابن الله على عيسى عليه السلام، فهو- إن لم يكن مما حرّف. يكون مجازا، بمعنى ابن المحبة. كما يقال: فلان من أبناء الدنيا. ونظير ذلك قول عيسى عليه السلام لليهود، حين ادعوا أن لهم أبا واحدا هو الله: (لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني). ثم قال لهم. (أنتم من أب هو إبليس. وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا) ادعت اليهود أن الله تعالى أبوهم. أي أنهم مطيعون له إطاعة الابن للأب. فكذبهم عيسى عليه السلام وجعلهم أبناء الشيطان. أي أنهم مطيعون له. ولا يخفي أن الابن والأب هنا مجازان.
وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى. واسم الابن على العبد الصالح، في الكتب السالفة. فهو إما من الخبط في الترجمة. وإما مؤوّل بما ذكرنا، فلا تغفل. لكن قد منع من هذا الإطلاق في الملة المحمدية بالكلية، تحرزا من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام. وهذا هو الطريق الرشد. وقوله تعالى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تعالى للتنزهه مما نسب إليه. بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه. فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه؟ إذ البنوّة والملك لا يجتمعان وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي: إليه
481
يكل كل الخلق أمورهم. وهو غنيّ عنهم. فإنّى يتصور في حقه اتخاذ الولد، الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٧٢]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢)
ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنزيه. أي: لن يأنف من أن يكون عبدا لله. فإن عبوديته شرف يتباهى به لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
من أن يكونوا عبيدا له تعالى. واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء.
قال الزمخشريّ: أي: ولا من هو أعلى منه قدرا وأعظم منه خطرا. وهم الملائكة الكروبيون. الذين حول العرش. كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومن في طبقتهم.
ثم قال: فإن قلت: من أين دل قوله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
على أن المعنى:
ولا من فوقه؟ قلت: من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك. وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوّهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية. فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية. ولا من هو أرفع منه درجة. كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية. فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة، تخصيص المقربين. لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة. ومثاله قول القائل.
وما مثله ممن يجاود حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتجّ زاخره
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذي الأمواج، ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق، مع هذه الآية قوله: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى [البقرة: ١٢٠]، حتى يعترف بالفرق البين. انتهى.
قال البيضاويّ: وجوابه أن الآية: للرد على عبدة المسيح والملائكة. فلا يتجه ذلك. وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير. كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس. وإن أراد به التكبير
482
فغايته تفضيل المقربين من الملائكة، وهم الكروبيون، الذين هم حول العرش، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة، على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا والنزاع فيه. انتهى.
قال ناصر الدين في (الانتصاف) : وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة. فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء. وذهب القاضي أبو بكر، منّا، والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة. واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة. من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشريّ. ونحن بعون الله نشبع القول في المسألة من حيث الآية. فنقول: أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة. أحدها- أن سيدنا محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام. فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح، أن تكون أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام. وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدّع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء، أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة. وبين طائفتنا في هذه الطرف خلاف (السؤال الثاني) أن قوله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
صيغة جمع. تتناول مجموع الملائكة. فهذا يقتضي كونه مجموع الملائكة أفضل من المسيح.
ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح. وفي هذا السؤال أيضا نظر. لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة، فقد يقال يلزمه القول بأنه أفضل من الكل. كما أن النبيّ عليه الصلاة والسلام، لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء، كان أفضل من كلهم. ولم يفرق بين التفضيل على التفصيل، والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى. وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين، وادعى أنه لا يلزم منه، على التفصيل، تفضيل على الجملة. ولم يثبت عنه هذا القول. ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف. وهو: أن التفضيل المراد، جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة.
والأحاديث متوافرة بذلك. وحينئذ لا يخلوا إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه.
لا سبيل إلى الأول. لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل. فتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع، ضرورة. فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم، قطعا. الثالث أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو. وهي لا تقتضي ترتيبا. وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن
483
الثاني أبدا يكون أعلى رتبة، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك. كقول القائل: ما عابني على هذا الأمر زيد ولا عمرو. قلت: وكقولك لا تؤذ مسلما ولا ذمّيّا. فإن هذا الترتيب وجه الكلام. والثاني أدنى وأخفض درجة. ولو ذهبت تعكس هذا، فقلت:
لا تؤذ ذميّا ولا مسلما، ليجعل الأعلى ثانيا، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة.
وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر. ولكن الحق أولى من المراء. وليس بين المثالين تعارض. ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء. فنقول:
النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة. وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى، وفي مواضع تأخيره. وتلك النكتة مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول. فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول، قد أفاده. وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول. مثاله الآية المذكورة. فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة، لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه. لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح، على هذا التقدير، عبدا لله غير مستنكف من العبودية- لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله، وهم الملائكة على هذا التقدير. فلم يتجدد إذا بقوله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
إلا ما سلف أول الكلام. وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة، فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له، إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك. وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل. فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة. إذ لم يستلزم الأول الآخر. فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد. وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز. لأنه الغاية في البلاغة. وبهذه النكتة يجب أن نقول: لا تؤذ مسلما ولا ذميّا. فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية. لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم، فقد يقال ذاك من خواصه احتراما للإسلام. فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية. فإذا قلت: ولا ذميّا- فقد جددت فائدة لم تكن في الأول. وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى، إلى النهي عن أكثر منه. ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية، فقلت: لا تؤذ ذميّا، فهم المنهيّ أن أذى المسلم أدخل في النهي. إذ يساوي الذميّ في سبب الاحترام وهو الإنسانية مثلا، ويمتاز عنه بسبب أجلّ وأعظم وهو الإسلام. فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم.
484
فإن قلت: ولا مسلما، لم تجدد له فائدة. ولم تعلمه غير ما علمه أولا. فقد علمت أنها نكتة واحدة، توجب أحيانا تقديم الأعلى، وأحيانا تأخيره. ولا يميز لك ذلك إلا السياق. وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى. ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: ٢٣]. استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه. بتقدير الأدنى. ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهيا عن أعلى من التأفيف والإنهار (كذا). لأنه مستغنى عنه. وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨] ولما اقتضى الإنصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف. وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار. قال: وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية. لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام. مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص. وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة. فناسب ذلك أن يقال: هذا الذي صدرت على يديه الخوارق، لا يستنكف عن عبادة الله. بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثارا. كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام. وقد بلغ من قوته وإقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه. فقلب عاليها سافلها. فيكون تفضيل الملائكة، إذا، بهذا الاعتبار. لا خلاف أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر. وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء.
وليس في الآية عليه دليل. ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقا، أي: موجودا من غير أب، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب، لا يستنكف من عبادة الله. بل ولا الملائكة المخلوقون من غير أب ولا أم.
فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى. ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام. فنظر الغريب بالأغرب. وشبه العجيب من قدرته بالأعجب. إذ عيسى مخلوق من أم. وآدم من غير أم ولا أب. ولذلك قال: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٥٩]. ومدار هذا البحث على النكتة الّتي نبهت عليها. فمتى استقام اشتمال المذكور أياما على فائدة، لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان، من تفضيل أو غيره، من الفوائد- فقد استدّ النظر وطابق صيغة الآية والله أعلم. وعلى الجملة فالمسألة سمعية. والقطع فيها
485
معروف بالنص الذي لا يحتمل تأويلا. ووجوده عسر، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. انتهى.
مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ
أي: يأنف منها ويمتنع يَسْتَكْبِرْ
أي: يتعظم عنها ويترفع سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
أي: فيجمعهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم، ويفصل بينهم بحكمه العدل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٧٣]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فلم يستكبروا عن عبوديته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فلم يستنكفوا عن عبادته فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي ثواب أعمالهم من غير أن ينقص منها شيء وَيَزِيدُهُمْ أي: على أجورهم شيئا عظيما: مِنْ فَضْلِهِ بتضعيفها أضعافا مضاعفة، مبالغة في إعزازهم وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا أي عن عبادة الله عز وجل فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً هو عذاب النار وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يواليهم ليعزهم وَلا نَصِيراً ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٧٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ لما بيّن تعالى بطلان ما عليه الكفرة على طبقاتهم من فنون الكفر والضلال، عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وسماه برهانا لما أوتيه من البراهين القاطعة التي شهدت بصدقه. ففيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت ببعثته. فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل. قال أبو السعود: التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين، لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيئه إليهم لتربيتهم وتكميلهم وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً أي: ضياء واضحا على الحق. يهتدى به من ظلمات الضلال. وهو القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٧٥]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي: عصموا به أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وهي الجنة وَفَضْلٍ يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة. كالنظر إلى وجهه الكريم وغيره من مواهبه الجليلة وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً فيسلكهم، بتمسكهم بالبرهان والنور المبين، الطريق الواضح القصد. وهو الإسلام. وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة، على الوعد بالهداية إليها، على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين- للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصليّ. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
يَسْتَفْتُونَكَ أي: في ميراث الكلالة. استغنى عن ذكره لوروده في قوله سبحانه قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة.
والمستفتي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
روى الشيخان «١» وغيرهما عن جابر ابن عبد الله قال: دخل علي النبيّ ﷺ وأنا مريض. فتوضأ فصب عليّ. أو قال: صبوا عليه. فعقلت فقلت: لا يرثني إلا كلالة. فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
أي: مات. واختصاص الهلاك بميتة السوء عرف طارئ لا يعتد به. بدليل ما لا يحصى من الآي والأحاديث. ولطروّ هذا العرف قال الشهاب في (شرح الشفاء) : إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولا يعتدّ بأصل اللغة القديمة، كما لا يخفى عمن له مساس بالقواعد الشرعية والله أعلم. كذا في (تاج العروس). لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ أي: الميت، من المال.
(١) أخرجه البخاريّ في: المرضى، ٢١- باب وضوء العائد للمريض، حديث ١٥١.
487
قال ابن كثير: تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد. وهو رواية عن عمر بن الخطاب رواها ابن جرير «١» عنه بإسناد صحيح. ولكن الذي يرجع إليه، قول الجمهور. وقضى الصديق رضي الله عنه أنه الذي لا ولد له ولا والد. ويدل على ذلك قوله (وله أخت) ولو كان معها أب لم ترث شيئا، لأنه يحجبها بالإجماع. فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص أيضا، عند التأمل أيضا. لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد. بل ليس لها ميراث بالكلية. وروى الإمام أحمد «٢» عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم؟ فأعطى الزوج النصف والأخت النصف. فكلم في ذلك فقال: حضرت رسول الله ﷺ قضى بذلك. وقد نقل ابن جرير «٣» وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان (في الميت ترك بنتا وأختا) : أنه لا شيء للأخت لقوله إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ قال: فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا. فلا شيء للأخت. وخالفهما الجمهور فقالوا (في المسألة) : للبنت النصف بالفرض. وللأخت النصف الآخر بالتعصيب. بدليل غير هذه الآية. وهذه نقصت أن يفرض لها في هذه الآية. وأما وراثتها بالتعصيب. فما رواه البخاريّ «٤» من طريق سليمان عن إبراهيم الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، النصف للبنت والنصف للأخت. ثم قال سليمان (قضى فينا) ولم يذكر (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي صحيح البخاري «٥» أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعريّ عن بنت، وبنت ابن، وأخت؟ فقال. للبنت النصف وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني. فسأل ابن مسعود فأخبره بقوله أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. أقضي فيها بما قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم:
النصف للبنت. ولبنت الابن السدس، تكملة للثلثين. وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. قوله تعالى وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أي: والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة،
(١) الأثران: ٨٧٤٨ و ٨٧٦٧.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في: المسند ٥/ ١٨٨.
(٣) تفسير ابن جرير ٩/ ٤٤٣.
(٤) أخرجه البخاريّ في: الفرائض، باب ميراث البنات، حديث ٢٤٧٩.
(٥) أخرجه البخاريّ في: الفرائض، باب ميراث ابنة ابن مع ابنة، حديث ٢٤٨٩.
488
وليس لها ولد أي: ولا والد. لأنها لو كان لها ولد لم يرث الأخ شيئا. فإن فرض أن معه من له فرض، صرف إليه فرضه. كزوج أو أخ من أم. وصرف الباقي إلى الأخ. لما
ثبت في الصحيحين «١» عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: ألحقوا الفرائض بأهلها. فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر.
وقوله تعالى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أي: فإن كان، لمن يموت كلالة، أختان- فرض لهما الثلثان. وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما. ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين. كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ [النساء: ١١]. وقوله تعالى وَإِنْ كانُوا أي: من يرث بطريق الأخوة إِخْوَةً أي مختلطة رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ أي منهم مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي مثل نصيب اثنتين من أخواته الإناث يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي: كراهة أن تضلوا في ذلك. أو على تقدير (اللام ولا) في طرفي (أن) أي لئلا تضلوا. وقيل: ليس هناك حذف ولا تقدير. وإنما هو مفعول (يبين) أي: يبين لكم ضلالكم الذي هو من شأنكم إذا خليتم وطباعكم. لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه. ورجحه بعضهم بأنه من حسن الختام، والالتفات إلى أول السورة وهو يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء: ١] فإنه أمرهم بالتقوى. وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية. ولما تم تفصيله قال لهم: إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم. فإن الشر إذا عرف اجتنب. والخير إذا عرف ارتكب.
قال العلامة أبو السعود: وأنت خبير بأن ذلك إنما يليق بما إذا كان بيانه تعالى على طريقة تعيين مواقع الخطأ والضلال، من غير تصريح بما هو الحق والصواب.
وليس كذلك. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم عَلِيمٌ مبالغ في العلم. فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.
تنبيهات:
الأول- اعلم أنه تعالى لما بين في أول السورة أحكام الأموال، ختم آخرها بذلك أيضا ليكون الآخر مشاكلا للأول. وأما وسط السورة فقد اشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفة للدين.
(١) أخرجه البخاريّ في: الفرائض ٥- باب ميراث الولد من أبيه وأمه، حديث ر ٢٤٩٦.
ومسلم في: الفرائض، حديث ٢ و ٣.
489
الثاني- أنزل في الكلالة آيتان: إحداهما في الشتاء، وهي التي في أول هذه السورة. والأخرى في الصيف وهي هذه الآية. ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف.
الثالث- روى البخاريّ «١» ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال:
آخر سورة نزلت براءة. وآخر آية نزلت: يستفتونك. والله سبحانه وتعالى أعلم. وهو الموفق والمعين.
وقد تم بحمده تعالى ما تيسر من (محاسن تأويل) هذه السورة الكريمة ضحوة الجمعة، غرة صفر الخير عام (١٣٢٠) في السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية. على يد كاتبه وجامع العبد الضعيف الذليل الجهول، محمد جمال الدين القاسميّ، غفر المولى له وأعانه على الإتمام.
بمنه وكرمه ويليه الجزء الرابع. وأوله: (سورة المائدة)
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٢٧- باب يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ، حديث ١٩٤١.
ومسلم في: الفرائض، حديث ١٠- ١٣.
490
فهرس الجزء الثالث
سورة النساء الآية ١ ٥ الآية ٢ ٩ الآية ٣ ١٢ الآية ٤ ٢٦ الآية ٥ ٢٧ الآية ٦ ٢٩ الآية ٧ ٣٢ الآية ٨ ٣٢ الآية ٩ ٣٤ الآية ١٠ ٣٦ الآية ١١ ٣٧ الآية ١٢ ٤٢ الآية ١٣ ٤٦ الآية ١٤ ٤٧ الآية ١٥ ٤٧ الآية ١٦ ٤٨ الآية ١٧ ٤٩ الآية ١٨ ٥١ الآية ١٩ ٥١ الآية ٢٠ ٥٦ الآية ٢١ ٥٧ الآية ٢٢ ٦٢ الآية ٢٣ ٦٣ الآية ٢٤ ٧٠ الآية ٢٥ ٧٩ الآية ٢٦ ٨٤ الآية ٢٧ ٨٤ الآية ٢٨ ٨٤ الآية ٢٩ ٨٥ الآية ٣٠ ٨٧ الآية ٣١ ٨٨ الآية ٣٢ ٩٠ الآية ٣٣ ٩١ الآية ٣٤ ٩٦
491
الآية ٣٥ ١٠٠ الآية ٣٦ ١٠٢ الآية ٣٧ ١٠٨ الآية ٣٨ ١٠٩ الآية ٣٩ ١١١ الآية ٤٠ ١١١ الآية ٤١ ١١٣ الآية ٤٢ ١١٤ الآية ٤٣ ١١٥ الآية ٤٤ ١٣٧ الآية ٤٥ ١٣٨ الآية ٤٦ ١٣٨ الآية ٤٧ ١٤٣ الآية ٤٨ ١٤٦ الآية ٤٩ ١٦٩ الآية ٥٠ ١٧١ الآية ٥١ ١٧٢ الآية ٥٢ ١٧٢ الآية ٥٣ ١٧٣ الآية ٥٤ ١٧٤ الآية ٥٥ ١٧٥ الآية ٥٦ ١٧٥ الآية ٥٧ ١٧٦ الآية ٥٨ ١٧٧ الآية ٥٩ ١٨٤ الآية ٦٠ ١٩٣ الآية ٦١ ١٩٣ الآية ٦٢ ١٩٦ الآية ٦٣ ١٩٧ الآية ٦٤ ١٩٨ الآية ٦٥ ٢٠٠ الآية ٦٦ ٢١٤ الآية ٦٧ ٢١٥ الآية ٦٨ ٢١٦ الآية ٦٩ ٢١٦ الآية ٧٠ ٢١٩ الآية ٧١ ٢٢٠ الآية ٧٢ ٢٢١ الآية ٧٣ ٢٢٢ الآية ٧٤ ٢٢٢
492
الآية ٧٥ ٢٢٣ الآية ٧٦ ٢٢٥ الآية ٧٧ ٢٢٦ الآية ٧٨ ٢٢٨ الآية ٧٩ ٢٣٠ الآية ٨٠ ٢٣١ الآية ٨١ ٢٣١ الآية ٨٢ ٢٣٣ الآية ٨٣ ٢٣٤ الآية ٨٤ ٢٣٧ الآية ٨٥ ٢٤٠ الآية ٨٦ ٢٤٣ الآية ٨٧ ٢٤٩ الآية ٨٨ ٢٥٠ الآية ٨٩ ٢٥٢ الآية ٩٠ ٢٥٣ الآية ٩١ ٢٥٥ الآية ٩٢ ٢٥٦ الآية ٩٣ ٢٦٢ الآية ٩٤ ٢٧٧ الآية ٩٥ ٢٨٣ الآية ٩٦ ٢٨٥ الآية ٩٧ ٢٨٧ الآية ٩٨ ٢٨٩ الآية ٩٩ ٢٩٠ الآية ١٠٠ ٢٩٣ الآية ١٠١ ٢٩٨ الآية ١٠٢ ٣٠٩ الآية ١٠٣ ٣١٠ الآية ١٠٤ ٣١٨ الآية ١٠٥ ٣١٩ الآية ١٠٦ ٣١٩ الآية ١٠٧ ٣١٩ الآية ١٠٨ ٣١٩ الآية ١٠٩ ٣١٩ الآية ١١٠ ٣٢٥ الآية ١١١ ٣٢٦ الآية ١١٢ ٣٢٦ الآية ١١٣ ٣٢٦ الآية ١١٤ ٣٢٧
493
الآية ١١٥ ٣٢٩ الآية ١١٦ ٣٤٠ الآية ١١٧ ٣٤١ الآية ١١٨ ٣٤٣ الآية ١١٩ ٣٤٣ الآية ١٢٠ ٣٤٦ الآية ١٢١ ٣٤٧ الآية ١٢٢ ٣٤٧ الآية ١٢٣ ٣٤٧ الآية ١٢٤ ٣٤٨ الآية ١٢٥ ٣٤٩ الآية ١٢٦ ٣٥٤ الآية ١٢٧ ٣٥٥ الآية ١٢٨ ٣٦٠ الآية ١٢٩ ٣٦٤ الآية ١٣٠ ٣٦٥ الآية ١٣١ ٣٦٥ الآية ١٣٢ ٣٦٦ الآية ١٣٣ ٣٦٦ الآية ١٣٤ ٣٦٧ الآية ١٣٥ ٣٦٧ الآية ١٣٦ ٣٦٩ الآية ١٣٧ ٣٧٠ الآية ١٣٨ ٣٧٢ الآية ١٣٩ ٣٧٢ الآية ١٤٠ ٣٧٣ الآية ١٤١ ٣٧٦ الآية ١٤٢ ٣٧٧ الآية ١٤٣ ٣٧٩ الآية ١٤٤ ٣٨٠ الآية ١٤٥ ٣٨٠ الآية ١٤٦ ٣٨١ الآية ١٤٧ ٣٨٢ الآية ١٤٨ ٣٨٣ الآية ١٤٩ ٣٨٦ الآية ١٥٠ ٣٨٧ الآية ١٥١ ٣٨٨ الآية ١٥٢ ٣٨٨ الآية ١٥٣ ٣٨٩ الآية ١٥٤ ٣٨٩
494
الآية ١٥٥ ٣٩٠ الآية ١٥٦ ٣٩١ الآية ١٥٧ ٣٩١ الآية ١٥٨ ٣٩٢ الآية ١٥٩ ٤٤١ الآية ١٦٠ ٤٤٥ الآية ١٦١ ٤٤٥ الآية ١٦٢ ٤٤٦ الآية ١٦٣ ٤٤٨ الآية ١٦٤ ٤٤٨ الآية ١٦٥ ٤٦٩ الآية ١٦٦ ٤٧٥ الآية ١٦٧ ٤٧٦ الآية ١٦٨ ٤٧٦ الآية ١٦٩ ٤٧٦ الآية ١٧٠ ٤٧٦ الآية ١٧١ ٤٧٧ الآية ١٧٢ ٤٨٢ الآية ١٧٣ ٤٨٦ الآية ١٧٤ ٤٨٦ الآية ١٧٥ ٤٨٧ الآية ١٧٦ ٤٨٧
495

[المجلد الرابع]

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المائدة
سميت بها لأن قصتها أعجب ما ذكر فيها. لاشتمالها على آيات كثيرة ولطف عظيم على من آمن. وعنف شديد على من كفر. فهو أعظم دواعي قبول التكاليف، المفيدة عقدة المحبة من الاتصال الإيماني بين الله وبين عبيده. أفاده المهايميّ.
وهذه السورة مدنية. وآياتها مائة وعشرون.
قال الشهاب الخفاجي: السورة مدنية، إلّا قوله تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ إلخ، فإنها نزلت بمكة. انتهى.
أقول: في كلامه نظران:
الأول- إن هذا بناء على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة. والمدني ما نزل بالمدينة، وهو اصطلاح لبعض السلف. ولكن الأشهر كما في (الإتقان) أن المكّي ما نزل قبل الهجرة. والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أو عام حجة الوداع، أم بسفر من الأسفار.
الثاني- بقي عليه، لو مشي على ذاك الاصطلاح، آيات آخر.
قال السيوطي في (الإتقان) : في (النوع الثاني معرفة الحضريّ والسفريّ) للسفريّ أمثلة.
منها: أول المائدة. أخرج البيهقيّ في (شعب الإيمان) عن أسماء بنت يزيد أنها نزلت بمنى. وأخرج في (الدلائل) عن أم عمرو، عن عمها أنها نزلت في مسير له، وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب قال: نزلت سورة المائدة في حجة الوداع، فيما بين مكة والمدينة.
ومنها: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: ٣] في الصحيح عن عمر:
3
أنها نزلت عشية عرفة، يوم الجمعة، عام حجة الوداع، وله طرق كثيرة. لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ، أنها نزلت يوم غدير خمّ. وأخرج مثله من حديث أبي هريرة، وفيه: إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، مرجعه من حجة الوداع، وكلاهما لا يصح.
ومنها: آية التيمم فيها. في الصحيح «١» عن عائشة أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة.
ومنها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ...
[المائدة: ١١] الآية. نزلت ببطن نخل.
ومنها: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ... [المائدة: ٦٧] نزلت في ذات الرقاع. انتهى.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه الروايات، عند هذه الآيات.
قال ابن كثير: روى الإمام أحمد «٢» عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة بزمام العضباء- ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- إذ نزلت عليه المائدة كلها. فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
وروى الإمام أحمد «٣» أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، لم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. تفرد به أحمد
وروى الحاكم عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير! تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم. فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت. فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
(١)
أخرجه البخاري في: التيمم، ١- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث ٢٣٠ ونصه: عن عائشة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التماسه. وأقام الناس معه. وليسوا على ماء.
فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع رأسه على فخذي، قد نام. فقال: حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.
قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلّا مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حين أصبح، على غير ماء. فأنزل الله آية التيمم فتيمموا.
فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
قالت: فبعثنا البعير الذي كنا عليه، فأصبنا العقد تحته. [.....]
(٢) أخرجه في المسند ٦/ ٤٥٥.
(٣) أخرجه في المسند ٢/ ١٧٦ والحديث رقم ٦٦٤٣.
4
Icon