تفسير سورة النساء

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة النساء من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

( وبه نستعين ) ١
١ ساقطة من م..

سُورَةُ النِّسَاءِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)
قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)
في كل ما كان الخطاب للكفرة: ذكر اللَّه - سبحانه وتعالى - على أثره حُجج وحدانيته، ودلائل ربوبيته؛ لأنهم لم يعرفوا ربهم، من نحو ما ذكر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ...) الآية، وكقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ...) الآية، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، ونحوه كثير: ذكر الحجج والدلائل التي بها يوصل إلى معرفة الصانع وتوحيده؛ لينظروا فيها وليتفكروا؛ فيعرفوا بها خالقهم وإلههم.
وفي كل ما كان الخطابُ للمؤمنين: لم يذكر حجج الوحدانية، ولا دلائل الربوبية؛ لأنهم قد عرفوا ربهم قبل الخطاب، ولكن ذكر على أثره نعمه التي أنعمها عليهم، وثوابه الذي وعد لهم، نحو قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا...) إلى آخر ما ذكر، ذكر نعمه التي أنعمها عليهم، وكقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ...) كذا إلى آخر ما ذكر؛ على هذا يخرج الخطاب في الأغلب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّقُوا رَبَّكُمُ).
قيل: اتقوا عذابه ونقمته.
وقيل: اتقوا عصيانه في أمره ونهيه.
وقيل: اتقوا اللَّه بحقه في أمره ونهيه.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)
أضاف خلقنا إلى آدم؛ إذ صورة الإنسان في النطفة.
قال: دلت إضافة خلقنا من آدم -وإن لم تكن أنفسنا مستخرجة منه- على أمرين:
3
أحدهما: جوازُ إضافة الشيء إلى الأصل الذي إليه المرجع، وإنْ بَعُدَ ذلك عن الراجع إليه؛ على التوالد والتتابع.
والثاني: أنا لم نكن بأبداننا فيه، وإن أضيف خلقنا إليه؛ إذ لو كنا فيه لكُنا منه بحق الإخراج لا بحق الخلق منه. وذلك يبطل قول من يجعل صورة الإنسان في النطفة مع الإحالة أن يكون معنانا في التراب أو النطفة؛ إذ هما من الموات الخارج من احتمال الدرك، ونحن أحياء داركون، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً)
أي: فرق، ونشر، وأظهر منهما أولادًا كثيرًا: ذكورا وإناثًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)
قوله: (تَسَاءَلُونَ بِهِ)، أي: اتقوا اللَّه الذي تساءلون بعضكم من بعض، أي: يسأل بعضكم من بعض الحوائج والحقوق به، يقول: أسألك بوجه اللَّه، وبحق اللَّه، وباللَّه.
ويسأل بعضكم من بعض بالرحم، يقول الرجل لآخر: أسألك بالرَّحم وبالقرابة أن تعطيني.
وقوله: (وَالْأَرْحَامَ)، روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ)، واتقوا في الأرحام وصلوها.
وقرئ بالنصب والخفض: (وَالْأَرْحَامَ): فمن قرأ بالنصب يقول: اتقوا اللَّه فلا تعصوه، واتقوه الأرحام فلا تقطعوها.
ومن قرأ بالخفض يقول: اتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام.
وروي في الخبر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " اتقُوا اللهَ وَصِلُوا الأَرْحَامَ؛ فَإِنَّهُ أَتْقَى لكُم فِي الدُّنْيَا، وَخَيرٌ لكُمْ فِي الْآخِرَةِ ". والآية في الظاهر على العظة والتنبيه.
وكذلك قوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
هو على التنبيه والاتعاظ.
4
قوله تعالى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (٣)
قوله - تعالى -: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: احفظوا أموالهم إلى أن يخرجوا من اليتم، فإذا خرجوا من اليتم أعطوهم أموالهم.
ويحتمل قوله: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)، أي: أنفقوا عليهم من أموالهم، ووسعوا عليهم النفقة ولا تضيقوها لينظروا إلى أموال غيرهم.
(وَآتُوا)، بمعنى: آتوا لوقت الخروج من اليتم، أي: احفظوا؛ لتؤتوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)
أي: لا تأخذوا الخبيث فتتركوا لهم ما وعد لكم في الآخرة بحفظ أموالهم.
وقيل: لا تأخذوا الجياد من ماله وتعطي الدون من ماله؛ فذلك تبديل الخبيث بالطيب.
وقيل: لا تأكلوا الخبيث: وهو أموال اليتامى، وتذروا الطيب: وهو أموالكم؛ إشفاقًا على أموالكم أن تفنى.
وقيل: لا تأكلوا الحرام مكان الحلال؛ لأن أكل مال اليتيم حرامٌ، وأكل ماله حلال؛
5
فنهي أن يبدلوا الخبيث بالطيب.
ويحتمل: لا تأخذ ماله -وهو خبيث- ليؤخذ منك الذي لك وهو طيب.
ويحتمل: لا تأكلوا ذلك؛ إبقاء لأموالكم التي طيبها اللَّه - تعالى - لكم، بما جعل اللَّه لكم خبيثًا.
ويحتمل: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ) في الدنيا؛ فتكون هي نارا تأكلونها؛ فتتركون الموعود لكم في إبقاء الخبيث؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا...) الآية.
وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)
يحتمل هذا - واللَّه أعلم - وجهين:
يحتمل قوله: (أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)، أي: مع أموالكم، أي: لا تخلطوا أموالهم مع أموالكم فتأكلوها؛ ففيه نهي عن الخلط والجمع.
ويحتمل: (أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)، أي: بأموالكم؛ ففيه النهي عن أكل أموالهم بأموال أنفسهم تبعًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
وقوله - تعالى -: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)، بمعنى: لا تجمعوها إليها فتأكلونهما معًا.
ويحتمل: مع أموالكم، واللَّه أعلم.
وقوله - جل وعز -: (إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)
قيل: جورًا.
وقيل: الحوب: الإثم، وهو واحد.
وقيل: خطأ.
وقِيل: ذنبًا كبيرًا.
6
وقيل إثمًا؛ وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ (٣)
اختلف في تأويله:
فقيل: إنهم كانوا يخافون من أموال اليتامى ويتحرجون منها؛ لكثرة ما جاء من الوعيد فيها؛ فنزل هذا: (وَإِنْ خِفْتُمْ) وتحرجتم من أموال اليتامى؛ فكذا فتحرجوا من الزنا: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ...) الآية.
عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: نزلت في يتامى من يتامى النساء كُنَّ عند الرجال؛ فتكون اليتيمة الشوهاء عند الرجل -وهي ذات مال- فلا ينكحها؛ لشوهتها، ولا يُنْكِحُهَا؛ ضنًّا بمالها؛ لتموتَ فيرثَها، وإن نكحها أمسكها على غير عدل منه في أداء حقها إليها، ولا ولي لها سواه يطالبه بحقها؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) فذروهن، ولا تنكحوهن، (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ).
وروي عنها -أيضًا- أنها سئلت عن هذه الآية؟ فقالت: نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في جمالها ومالها، وينقص من صداقها؛ فنهوا عن نكاحهن، إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء.
قالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: واستفتى الناس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك؛ فأنزل اللَّه: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ...) إلى قوله: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) فأنزل اللَّه - تعالى - لهم في هذه الآية: أن اليتيمة إذا كانت ذات جمالٍ ومال رغبوا فيها -في نكاحها- وسنتها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبًا عنها في شوهتها، وقلة
7
مالها؛ تركوها وأخذوا غيرها من النساء.
قالت: فكما تتركونها حين ترغبون عنها؛ فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق.
وقيل: لما أنزل اللَّه - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا...) الآية ترك المؤمنون مخالطة اليتامى، وتنزهوا عنها؛ فشق ذلك عليهم؛ فاستفتوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في مخالطتهم، وكان يكون عند الرجل عدد من النساء ثم لا يعدل ببنهن؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَإِنْ خِفْتُمْ) الجور في مخالطة اليتامى؛ فكذلك خافوا جمع النساء وترك التسوية بينهن في النفقة والجماع.
ثم من الناس من يبيح نكاح التسع بقوله تعالى: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) فذلك تسع.
وأما عندنا: فإنه لا يحتمل ذلك؛ لأن معنى قوله - تعالى -: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ): مثنى أو ثلاث أو رباع؛ لأنه قال: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً): استثنى الواحدة إذا خاف ألا يعدل بينهن، فلو كان ما ذكر؛ لكان لا معنى لاستثناء واحدة منهن، ولكن يقول: وإن خفتم ألا تعدلوا " بين التسع؛ فثمان، أو سبع، أو ست؛ فلما لم يستثن إلا واحدة دل أن التأويل ما ذكرنا: مثنى أو ثلاث أو رباع، على الانفراد.
8
والثاني: ما ذكر في القصة: أنه كان عند الرجل عدد من النساء عشر أو أكثر أو أقل، فخرج ذلك على بيان ما يحل من العدد، وذلك أربعة.
وروي أن رجلا أسلم وتحته ثماني نسوة، فأسلمن، فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اختَر مِنْهُنَّ أَرْبعًا، وفَارِقِ الْبَوَاقِي ".
والخبر في بيان منتهى ما يحل من العدد دون وجه الحل؛ فاحتمل أن يختار أربعًا على استقبال النكاح.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى...) الآية: قيل فيه بوجوه:
أحدها: أنه قال: إذا خفتم الجور في كفالة اليتامى فاتقيتموها؛ فخافوا في كفالة النساء؛ فلا تكثروا منهن.
والثاني: أنكم إذا خفتم في أموال اليتامى؛ فتحرجتم ضم أموالهم إليكم؛ إشفاقا على أنفسكم أن تأكلوا منها - فخافوا النساء مواقعتهن من وجهٍ يحرم عليكم؛ فانكحوهن.
والثالث: أنه إذا خفتم الجور في يتامى النساء لو تزوجتموهن من حيث ليس معهن من يمنعكم من ظلمهن، فانكحوهن من غيرهن ممن إذا جرْتُمْ فيهن مُنِعْتُمْ من ذلك.
10
لكنه معلوم أن الحد في عدد النساء؛ لخوف الجور، وبما علم اللَّه من عجز البشر على ما جُبِل عليه، أخبر أنه لا يقوم بوفاء الحق في أكثر من ما ذكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)
ليس على الحكم والحتم؛ ولكنه أدب؛ لأنه وإن خاف ألا يعدل فتزوج أربعًا - جاز، وهو مثل الذي نهى -في الإصرار- المراجعة، وأمر بالقصد فيها والعدل، فإن فعل ذلك أثم ورجعته صحيحة، وكذلك كالأمر بالطلاق في العدة، والنهي عنه في غير العدة، ثم إذا طلق في غير العدة وقع؛ فكذلك الأول.
وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا): في القسم والجماع والنفقة.
(فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) إن خفتم ألا تعدلوا في واحدة؛ لأنه ليس للإماء قِبَلَ سادتهن حق الجماع والقسم؛ ينكح ما شاء؛ كأنه قال هذا؛ لما ليس لأكثرهن غاية؛ فله أن يجمع ما شاء من الإماء في ملكه، وليس له أن يجمع بالنكاح أكثر من أربع، ولو كان التأويل ما ذهب إليه لم يكن لقوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وجهٌ.
وفيه إذن بتكثير العيال، مع ما أن كثرة العيال معدودة من الكرم؛ إذا أحسن إليهم لم يحتمل أن يزهد فيه.
11
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا):
قال بعضُ أهل العلم: إن قوله - تعالى -: (أَلَّا تَعُولُوا): من كثرة العيال، وهو قول الشافعي - رحمه - اللَّه تعالى - ولكن هذا لا يستقيم في اللغة؛ لأنه يقال من كثرة العيال: أعال يُعِيل إعالة؛ فهو معيل، ولا يقال: عال يعول، وإنما يقال ذلك في الجور.
فَإِنْ قِيلَ: روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ " لكن تأويله - والله أعلم -: ابدأ بمن يلزمُك نفقته، أي: ابدأ بمن تصير جائرًا بترك النفقة عليه، وكذلك يقال: عال يعول عولا؛ إذا أنفق على عياله، وليس من كثرة العيال في شيء، ألا ترى أن على الرجل أن يبدأ بمن يعول؛ فلو كان قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) من العيال؛ لكان المتزوج واحدة ذا عيال، وإن قول اللَّه - تعالى -: (أَلَّا تَعُولُوا)، والمتزوج واحدة يعولها؛ فدل بما ذكرنا أن قوله: (أَلَّا تَعُولُوا)، أي: لا تجوروا ولا تميلوا؛ على ما قيل.
وعن عائشة - رضي اللَّه عنها -: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا): ألا تميلوا.
12
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله.
والعول: هو المجاوزة عن الحد؛ ولذلك سمي الحساب الذي ازداد على أصله عولا؛ لمجاوزته الحد؛ فعلى ذلك العول هاهنا هو: المجاوزة عن الحد الذي جعل له، وهو الجور.
وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً): ليس بشرط؛ ليتفق القول، ولأنه لا وجه لمعرفة حد الخوف الذي يجعل شرطا للجواز، وكل عدل يخاف أدنى خوف، بل جميع أمور الدِّين هي على الخوف والرجاء.
ولأنه يوجب جهل النساء بمن يحل لهن النكاح ويحرم؛ إذ لا يعرفن ذلك، ومتى حرم عليه حرم عليها، ولا يحتمل أن يجعل للحل شرطا لا يوصل إلى حقيقته، ولظهور الجور في الأمة على الإبقاء على النكاح؛ فضلًا عن خوفه؛ كذا مع ما في قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا...) الآية. دلالة ظاهرة، وكذلك في قوله: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا) الآية، وقوله - تعالى -: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ).
* * *
قوله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (٤) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٥)
وقوله - تعالى -: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً).
13
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نحلة -قال-: المهر.
وقيل: النحلة: الفريضة، أي: آتوهن فريضتهن.
وقيل: نحلة؛ أي: عطية، أي: تُعْطَى هي لا وليها؛ وهو من النُّحْلَى.
وقيل: نحلة: من نحلة الدِّين، أي: من الدِّين أن تؤتوا النساء صدقاتهن؛ ليس على ما كانوا يفعلون في الجاهلية: يتزوجون النساء بغير مهورهن؛ ففيه أن لأهل الكفر النكاح بغير مهر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا).
وفي الآية دلالة جواز هبة المرأة من زوجها، وفساد قول من لا يجيز هبة المرأة بمالها حتى تلد أو تبقى في بيته سنة؛ فيجوز أمرها.
وفي الآية -أيضًا-: دليل أن المهر لها؛ حيث أضاف الإحلال والهبة إليهن بقوله: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا).
14
وفيه دليل -أيضًا-: أن هبة الديون والبراءة منها جائزة؛ كما جازت هبة المرأة مهرها وهو دَين.
وقيل: فيه وجه آخر، وهو أن الآباء في الجاهلية والأولياء كانوا يأخذون مهور نسائهم؛ فأمرهم - عَزَّ وَجَلَّ - ألا يأخذوا ذلك، وحكم بأن المهر للمرأة دون وليها، إلا أن تهبه لوليها؛ فيحل حينئذٍ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلُوهُ هَنِيئًا): لا داء فيه، و (مَرِيئًا): لا إثم فيه.
وقيل: الهنيء: هو اللذيذ الشهي، الذي يلذ عند تناوله ويسر.
والمريء: الذي عاقبته.
ثم الحكمة في ذكر الهنيء والمريء هنا وجهان:
أحدهما: ما ذكر في الآيات من الوعيد بأخذه منها: يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا...) إلى قوله: (بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ)؛ لئلا يمتنعوا عن قبول ذلك للوعيد الذي ذكر في الآيات.
والثاني: إن الامتناع عن قبول ما بذلت الزوجة يحمل على حدوث المكروه، ويورث الضغائن؛ وذلك يسبب قطع الزوجية فيما بينهما.
وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، يعني: بطيبة أنفسكم: يقول: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، ولكن آتوهن وأنفسكم بها طيبة؛ إذ كان المهور لهن دونكم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ)، أي: ما طابت به أنفسهن من غير كره فهو حلال.
15
وعن علقمة أنه قال لامرأته: أطعميني من الهنيء المريء.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا اشتكى أحدكم شيئًا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها، ثم يشتري بها عسلًا، ثم يشربه بماء السماء، فيجمع اللَّه - تعالى - الهنيء المريء والشفاء والماء المبارك.
وفي قوله - أيضًا، عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) أن النفقة - وإن كانت عليه - فهي إذا قامت بها في نفسها لا يحرج هو؛ لأن نفقتها عليها ليست بأعظم من نفقته من مالها إذا تطيبت، ووصف بالهنيء المريء بما ربما يستثقل الطبع عن مالها؛ كراهة الامتنان، أو بما كان عليه كفايتها، أو بما جرى من الوعيد الشديد في منع مهرها، أو بما قد تحتشمه فتبذل له، أو بما يوهم الطمع في مالها، والرغبة في النكاح لذلك؛ فطيبه اللَّه - تعالى - حتى وصفه بغاية ما يحتمل المال من الطيب.
وفيه بيان جواز معروفها، وترغيب في حسن المعاشرة بينهما حتى أبقى ذلك بعد الفراق بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ...) الآية وذلك أحد ما يورث المحبة والمودة، أو يديمها؛ إذ جعل اللَّه بينهما بقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا).
مسألة: في العبد لا ينزوج أكثر من اثنتين:
روي عن عبد اللَّه بن عتبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ينكح العبد اثنتين، ويطلق اثنتين، وتعتد الأمة بحيضتين، فإن لم تحض فشهر ونصف ".
16
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " لا يحل للعبد أن ينكح فوق اثنتين ".
وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: " يتزوج العبد اثنتين ".
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: " ما يحل للعبد من النساء؟ قال: " اثنتين "، قال عمر - رضي اللَّه عنه -: " ذلك أرى ".
وعن الحكم قال: اجتمع أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين؛ فهَؤُلَاءِ ستة نفر من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي، وابن مسعود، والفضل بن العباس، والأنصاري - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - اتفقوا على أن العبد يتزوج اثنتين، ولا يتزوج أكثر من ذلك.
وأيضًا عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " طَلاقُ الأَمَةِ تَطْليقَتَانِ، وَعِدتُهَا حَيضَتَانِ ".
وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الأَمَةُ تُطَلقُ تَطْيقَتَينِ، وَتَعْتَد حَيضَتَينِ ".
فإن احتج محتج بعموم الآية أن اللَّه - تعالى - قال: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، ولم يذكر عبدًا ولا حرًّا؛ فهو على عمومه.
قيل: في الآية دليل أن الخطاب للأحرار، وهو قوله - تعالى -: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)؛ فهو على من له النكاح بنفسه، والعبد يكون له النكاح بغيره بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ): فكان المخاطب بنكاح العبيد مواليهم، ليس له أن ينكح المرأة إلا بإذن مولاه؛ ومولاه يزوجه إذا شاء بغير أمره، فإنما الخطاب لمن له أن يتزوج إذا شاء؛ والعبد من ذلك خارج؛ ألا ترى أنه قال - عز
17
وجل -: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)؟! والعبد لا يملك ملك اليمين؛ فدل أن الخطاب راجع إلى الأحرار دون العبيد.
فَإِنْ قِيلَ: قد جعلتم للعبد أن يطلق الحرة ثلاثًا، فجعلتم له من الطلاق مثل الذي جعلتموه للحر؛ فيجب أن تجعلوا له مِنْ تزوج النساء مثل الذي يجوز للحر.
قيل: الفرق بينهما أن الطلاق عندنا بالنساء؛ لأن الحر يطلق امرأته الأمة تطليقتين؛ فتحرم عليه؛ والتزويج بالرجال لا ينظر فيه إلى النساء، فللعبد أن يتزوج النصف من تزويج الحر، كما أن عدة الأمة وطلاقها على النصف من عدة الحرة، على ما روينا من الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حَتَّى يَكُونَ لِلْعَبدِ في امْرَأَتَينِ شَيءٌ نِصْفُ مَا لِلْحُر مِنَ الأرْبَعِ "؛ ورُويَ عن الحسن أنه قال في قوله - تعالى -: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) يعني: الكفار.
وقيل: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ)؛ فيكونوا قيامًا عليكم، ولكن كونوا أنتم قيامًا عليهم.
وقيل: لا تؤتوهم أموالكم؛ فيكونوا أربابًا عليكم، وكونوا أربابًا بأموالكم عليهم.
ومن صرف التأويل إلى اليتامى جعل معنى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْوَالَكُمُ) و - كقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، وكقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُم): يريد من ترونه في البيوت؛ فعلى ذلك إضافة أموال اليتامى إلى الأولياء.
18
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ... (٥)
فالسفيه -في الحقيقة- من يعمل عمل الجهال، كان جاهلا في الحقيقة أو لا؛ لما قد يلقب العالم به؛ إذا ضيع الحدود، وتعاطى الأفعال الذميمة؛ وعلى ذلك ما جاء من الكتاب بتسفيه علماء أهل الكتاب. ثم قد يسمى الجهال به؛ لما أن الجهل هو السبب الباعث على فعل السفه؛ فقوله - تعالى -: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) يحتمل ذلك الوجهين.
وأي الأمرين كان ففيه التحذير للمعنى الذي بين من قوله: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا): فإما إذا كانت قيامًا للمعاش أو للمعاد أو لهما، وطريق الإنفاق في الوجهين والإمساك لهما التدبر، ومراعاة الشرع، وتعاهد الأسباب، والوجهان جميعًا يمنعان الوفاء بما جعلت له الأموال؛ فحذر من أنعم بها عن تضييع ذلك بالتسليم إلى من ذكر، مع ما يكون في ذلك أن اتباع من يستحق أن يكون متبوعًا لمن حقه أن يجعل تابعًا، وذلك خارج عن حد الحكمة، وما يحمده العقل.
ثم قد صرفت الآية إلى النساء بما جعل من إليه التدبير وهو الذي أنشأهن تحت أيدي الرجال في الأمور، مع وصف الرجال أنهم قوامون على النساء.
وصرفت -أيضًا- إلى الصغار بما ضمن حفظ أموال مثلهم الكبار، وجعلوا مكفولين عند البالغين؛ فأموال البالغين أحق بذلك، وحقيقة السفه ما ذكرت.
وجائز أن يكون المقصود بالذكر -من ذكر الصغار والنساء بما خاطب من حذر بالدفع إلى من ذكر- رزق أُولَئِكَ وكسوتهم، ولا يجب رزق الجهال والسفهاء في الأفعال على غيرهم؛ فيكون ما ذكروا أولى بمراد الآية، وإن كان للمعنى الذي قصد بالآية التي ذكرتهم - قد استحقوا.
ولما غلبت تلك الأحوال على هَؤُلَاءِ جعل من ذكرت قوامًا عليهم، وقد ذكرت عن الحسن: أنه صرف الآية إلى الكفار؛ فكأنه تأول في القيام - القيام بأمر الدِّين؛ والكفار لا
19
يجوز الاستعانة بهم فيه؛ وله جعل المال عنده مع ما كره العلماء تسليط الكفار العقوبة؛ لجهلهم بحق شرع الإسلام فيها؛ فمثله دفع الأموال إليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)، يعني: قوام أمركم ومعيشتكم، وهو هكذا جعل اللَّه هذه الأموال أغذية للخلق، بها يقوم دينهم وأبدانهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ)
يقول: لا تؤتوهم، ولكن ارزقوهم أنتم واكسوهم.
وقيل: يقول: أنفقوا عليهم منها، وأطعموهم.
وقيل: لما أضاف الأموال إلى الدافعين لا إلى المدفوعة إليهم؛ دل على وجوب نفقة الولد وكسوته على الرجل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا)
20
قيل: عِدَةٌ حسنة جميلة: سأفعل وسأكسو.
وقبل: مروهم بالمعروف، وانهوا عن المنكر.
وقيل: علموهم الأدب والدِّين، وقولوا لهم كلام البر واللين واللطف.
* * *
قوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ)
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا) حرف، " حتى " صلة؛ وتأويله: وابتلوا اليتامى إذا بلغوا النكاح؛ وهو قول الشافعي، يجعل الابتلاء بعد البلوغ.
21
ويحتمل أن يكون المراد بالابتلاء - قبل البلوغ؛ لوجهين:
أحدهما: أن يبتلي الأيتام قبل بلوغهم بأنواع العبادات والآداب؛ ليعتادوا بها ويتأدبوا؛ ليعرفوا حقوق الأموال وقدرها، ويحفظوها إذا بلغوا؛ لأنهم إذا ابتلوا بعد البلوغ لم يعرفوا ما عليهم من العبادات والفرائض وقت البلوغ، وكان في ذلك تضييع حقوق اللَّه وفرائضه؛ إذ لا سبيل لهم إلى القيام بها حتى البلوغ، فأمر الأولياء والأوصياء أن يبتلوهم قبل البلوغ، حتى إذا بلغوا، بلغوا عارفين لما عليهم من العبادات والحقوق، حافظين لها؛ ألا ترى إلى ما روي في الخبر أنه أمر الأب أنه يأمر ولده بالصلاة إذا كان ابن سبع، وأمر بالضرب والتأديب إذا كان ابن تسع وبالتفريق في المضاجع، وهو من حقوق الخلق؟! فهذا ليعتادوا، ويأخذوا الأدب قبل البلوغ، حتى إذا بلغوا عرفوا ما عليهم، وهَان القيام بها، وإذا لم يُعَوَّدُوا قبل ذلك يشتد عليهم القيام بإقامة العبادات وأداء الحقوق؛ فعلى ذلك الأول.
ووجه آخر: أن يبتلي عقولهم بشيء من أموالهم يتجرون بها، ويتقلبون فيها؛ لينظروا: هل يقدرون على حفظ أموالهم عند حدوث الحوادث والنوائب؟ ففيه دليل جواز الإذن في التجارة في حال الصغر؛ لأنه لا يظهر ذلك إلا بالتجارة.
وإن كان المراد بالابتلاء بعد البلوغ والكبر فهو -أيضًا- يحتمل وجهين:
يحتمل العلم بها نفسه؛ ويحتمل العمل بها والعلم، ولا يضعوها في غير موضعها.
وقوله: " إن حرف (حتى) صلة ": إنه لو جاز له أن يجعل هذا صلة، لجاز لغيره أن يجعل الرشد صلة فيه؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول أن يجعل صلة.
ثم اختلف في قوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن يصير هو من أهل الشهادة؛ فحينئذ يدفع إليه المال؛ فعلى قوله يجيء أن ينتزع الأموال من أيدي الفساق؛ لأنه لا شهادة لهم؛ ومن قوله: إن اليتيم من أهل الكفر لا يدفع إليه المال إلا بعد استئناس الرشد منه، فلو كان شرط الرشد هو شهادة لكان الكافر لا يدفع إليه عنده؛ لما لا يقبل الشهادة ما لزم الكفر على أحد؛ دل أن
22
الرشد ليس ما ذكر، ولكن ما قيل من العقل والحفظ لماله، والإصلاح فيها.
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - في قوله - تعالى -: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) قال: إذا أدرك بحلم وعقل ووقار.
وهو يقول -أيضًا- في قوله - تعالى -: (مِنْهُمْ رُشْدًا): إن اللَّه - سبحانه وتعالى - يقول: اختبروا اليتامى من عند الحلم، فإن عرفتم منهم رشدًا في حالهم، والإصلاح في أموالهم -: (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " فإن أحسستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم
أموالهم ".
وفي حرف حفصة: " وابتلوا اليتامى في أموالهم حتى إذا بلغوا النكاح بعد كبرهم ".
ثم لا يخلو منع الأموال منهم من أوجه ثلاثة:
إما أن يمنع؛ لفرط البذل والإنفاق، جودًا وسخاوة، وحسن الظن باللَّه أنه - عَزَّ وَجَلَّ - يرزقهم ويعطيهم خلف نفقتهم، وهذا لا يحتمل؛ لأن هذا من أخلاق الأنبياء - صلى اللَّه عليهم وسلم - وسيرتهم؛ فلا يحتمل النهي عن ذلك.
أو يمنع؛ لغلبة شهوتهم، ولقضاء وطرهم وحاجتهم، ينفقون الأموال؛ ليصلوا إلى ذلك، فإنهم إن مُنِعوا عن أموالهم يتناولوا من أموال غيرهم، ويتعاطوا ما لا يحل ولا يحسن؛ فلا يحتمل أن يمنعوا لذلك.
أو أن يمنع عنهم الأموال؛ لآفة في عقولهم، ونقص في لُبِّهم، فإن كان لهذا ما يمنع أموالهم عنهم؛ فيجب أن يمنع أبدًا، لا وقت في ذلك ولا مدة إلا بعد ارتفاع ذلك وزواله عنهم، وهو الوجه، يمنع منه حتى يؤنس منه الرشد.
ثم جعل إدراكه وبلوغه بالاحتلام؛ لأن كل جارحة من جوارح الإنسان يجوز استعمالها إلا الجارحتين منهما؛ فإنه لا يقدر على استعمالهما إلا هو، إحداهما: الذكر، والأخرى: اللسان؛ فإن هاتين الجارحتين لا يمكن استعمالهما إلا صاحبهما؛ فجعل
23
الاحتلام علمًا لبلوغه وإدراكه لذلك؛ ولهذا لم يعمل الإكراه عليهما، نحو من أكره أعلى الزنا؛ فزنا؛ فإنه عليه الحد؛ لأن الإكراه لا يعمل عليه؛ فإنما كان بفعل منه، إلا الوالي؛ فإنه إذا أكره آخر بالزنا ففعل لم يقم عليه الحد؛ لما جعلنا ذلك كالعلم بالسبب الذي يحل؛ وكذلك لو أكره حتى وطئ امرأة لزمه المهر، ولا يرجع على المكرِه.
ولو أكره على إتلاف مال من أمواله ففعل لرجع على المكرِه؛ للمعنى الذي وصفنا؛ ولهذا ما وقع طلاق المكره ونكاحه وعتاقه؛ لأن هذه الأشياء إنما تقع باللسان، واللسان مما لا يعمل عليه الإكراه؛ لذلك جاز، واللَّه أعلم.
وأما البيوع والأشربة والعقود كلها سوى هَؤُلَاءِ، تكون بالتسليم والقبض دون النطق باللسان والتكلم بها، فالإكراه مما يعمل عليها؛ لما أمكن استعمالها غيره؛ لذلك افترقا؛ ولهذا ما قلنا: إن الإيمان يكون بالقلب دون اللسان؛ لأنه إذا أكره حتى يكفر؛ فأجرى كلمة الكفر على لسانه، وكان قلبه مطمئنا بالإيمان -لم يكفر، فإذا اطمأن قلبه بالكفر- كَفَرَ؛ لأن الإكراه لا يعمل على القلب، ولا يصير المكره مستعملا له، إنما المستعمل هو؛ لا غير؛ لذلك كان الجواب ما ذكرنا.
ومعنى جعل الاحتلام بلوغا هو إمكان استعمال سائر الجوارح دونه -يعني: الفرج- إلا بعد الكبر، وما كان المعروف من الآباء والأولاد، وما كان مما يجري الأمر بابتغاء المكتوب من الولد يكون بعد البلوغ، وبعيد ذلك، إلا في الوقت الذي لو ابتغى لوجد ولقدر عليه، وليس ذلك إلا في خروج الماء للشهوة.
ثم يكون في المتعارف الاحتلام عن ذلك؛ فجعل علمًا له؛ ولذلك قيل: (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) ثم فرق في حق الكتاب بين اللسان وغيره؛ من حيث لا يملك أحد قهر لسان آخر حتى ينطق دون صاحبه؛ فبه يظهر سبب جري القلم من الإقرار بالبلوغ وهذا معنى ما جعل سببه بما لا يعلمه غيره؛ ليكون أول أحوال البلوغ وقوع قوله بحيث البلوغ، مع ما كان النطق فعل من يجري في جنسه الخطاب؛ وكأنه اتصل أمره بالسبب الذي خص به
24
الممتحن من العقل؛ إذ كان العقل قد يعرف بالمحنة والاحتلام لا؛ فأمرنا بالابتلاء من حيث العقول، ولم نؤمر من حيث الاحتلام، بل يقبل قوله في ذلك.
ودل قبول قول من بلغ بالإخبار عن احتلامه، وبه يجري القلم عليه، ويلزم الحقوق - أن يقبله، يجوز في ذلك الوقت -وبخاصة على قول من يرى الابتلاء بعد الإدراك- أنه لو لم يقبل فبم نبتليه؟ ثم إذا جاز قوله لزم كل أمر علق به، وعلى ما ذكرت من أول ما علق به القول في حق البلوغ دليل اتصال حكم القول بالعقل، وتمام العقل بالبلوغ؛ إذ به يجري القلم.
ودل ما ذكرت من امتناع اللسان عن سلطان غير صاحبه عليه - على لزوم كل حق معلق به على الإكراه؛ إذ لا يلزم بغيره، وهو لا يجري عليه، ثم كل أمر يكون لا به يصير اللسان سببا فيه كَالْمُعْلِم عنه، وهو مما يجري عليه القهر، ويعلم به؛ فيبطل، والله أعلم.
وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا)
الإسراف: هو كل ما نُهي عنه.
وقيل: الإسراف: هو أكل في غير حق؛ وكأن الإسراف هو المجاوزة عن الحد، وهو كقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا)، وكان القتر مذمومًا، فعلى ذلك الإسراف في النفقة في مال اليتيم.
وقوله - تعالى -: (إِسْرَافًا وَبِدَارًا)، قيل: البدار: هو المبادرة، وكلاهما لغتان، كالجدال والمجادلة، وهو أن يبادر بأكل مال اليتيم؛ خشية أن يكبر؛ فيحول بينه وبين ماله. وهو قول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وفي حرف ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: " ولا تأكلوها إسرافًا وبدارا خشية أن يكبروا ".
25
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)
أطلق اللَّه - تعالى - لولي اليتيم - بظاهر الآية؛ إذا كان فقيرا - أن يأكل بالمعروف من غير إسراف، وذلك هو الوسط منها، وكذلك روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَن رجُلا سَألَهُ، فَقَالَ: لَيسَ لِي مَالٌ، وَلي يَتِيم؟ فَقَالَ: " كُلْ مَالَ يَتِيمك غَير مُسرِفٍ، وَلا مُتَأَثِّلٍ مَالَكَ بمَالِهِ " وفيه دليل أن الغني لا يجوز له أن يأكل مال اليتيم، وأن الفقير إذا أكل منه: أنفق نفقة لا إسراف فيها.
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إني أنزلت نفسي من مال اللَّه منزلة مال اليتيم: إذا استغنيت استعففت، وإذا احتجت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت.
وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم، ولا يكتسي عمامة.
وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: في قوله - تعالى -: (وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)، قالت: يأكل والي اليتيم من مال اليتيم؛ إذا كان يقوم له على ماله،
26
ويصلح إذا كان محتاجًا.
وقيل: يأكل قرضًا ثم يرد عليه إذا أيسر، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنهما.
وقيل: (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)، أي: من مال نفسه، حتى لا يفضي إلى مال اليتيم.
وقيل: يأكل إذا كان يعمل له، ويقوم عليه.
وقيل: يأكل قرضًا؛ ألا ترى إلى قول اللَّه - تعالى -: (فَأَشْهدُوا عَلَيْهِمْ): أمر بالإشهاد عليهم عند الدفع، ولو كان أمانة في يده لم يحتج إلى الإشهاد في الدفع، ولكن يجوز أن يأمر بالإشهاد لا لمكان الوصي نفسه؛ ولكن لما يجوز أن يحدث بينه وبين ورثة الوصي خصومة فَيُشْهِد؛ ليدفع تلك الخصومة عنهم.
وقيل: الأكل بالمعروف هو ما يسد به جوعه، ويواري عورته.
27
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)
قيل: شهيدا بما أخذ من ماله وأنفق.
ويحتمل قوله: (حَسِيبًا) يحاسبه في الآخرة؛ إذا لم يحاسبه اليتيم في الدنيا.
قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (٧) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ...) الآية.
يحتمل أن تكون الآية - واللَّه أعلم - نزلت بسبب ما لم يكن يورث أهل الجاهلية الإناث والصغار، ويجعلون المواريث لذوي الأسنان من الرجال، الذين يصلحون للحرب، ويحرزون الغنيمة؛ فنزلت الآية بتوريث الرجال والنساء جميعًا.
ويقال: إن الآية نزلت في شأن رجل يقال له: أوس بن ثابت الأنصاري، توفي
28
وترك بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمه - وهما وصيان - فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئًا؛ فجاءت امرأة أوس بن ثابت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فشكت، وأخبرت بالقصة؛ فقال لها: " ارْجِعِي في بَيتِكِ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّه في ذَلِكَ ". فانصرفت؛ فنزل قوله - تعالى -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ...) الآية.
وقيل: نزلت الآية في شأن امرأة سعد: أن سعدا استشهد بأُحد، وترك ابنتين وامرأة، فاحتوى أخ لسعد على مال سعد، ولم يعط المرأة ولا الابنتين شيئًا؛ فاختصمت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأخبرته بالقصة؛ فقال لها: " لَم يُنْزِلِ اللهُ عَلَيَّ فِيكُم شَيئًا ". ثم نزلت الآية، فأخذ من عمهما ثلثي المال، ورده إليهما، ودفع الثمُن إلى المرأة، وترك البقية للعم.
واللَّه أعلم أنْ فيم كان نزولها؟.
وفي هذا الخبر دليل أن للابنتين الثلثين، كما للثلاث فصاعدًا، ليس كما قال بعض الناس: إن لهما النصف؛ لأن اللَّه - تعالى - إنما جعل الثلثين للثلاثة.
ثم تحتمل الآية وجهين بعد هذا:
تحتمل أن يكون المراد الأولاد خاصة لا غير؛ فيدخل كل ولد: ولد البنات، وولد البنين؛ لأنهم كلهم أولاده.
ويحتمل أن يكون المراد منها الرجال والنساء؛ فيدخل ذوو الأرحام في ذلك، فلما لم يدخل بنات البنات في ذلك -وهم أولاد- دل أنه أراد النساء والرجال جميعًا، لا
29
الأولاد خاصة.
وفيه دلالة نسخ الوصية للوارث؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ...) إلى قوله: (مَفْرُوضًا) أي: معلومًا بما أوجب في كل قبيل.
ثم قال في قوله: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا)، قيل: ذا يرجع إلى ما بين فرضه، وهو أصحاب الفرائض دون العصبات، فيكون على ما أشار إلى حقه من حيث الاسم في القرآن.
ويحتمل ما بين، وقد جرى فيه ذكر حقين:
أحدهما: حق العصبة، كما ذكر في الأب والإخوة والأولاد، وحق أصحاب الفرائض، ولو كان على ذلك فقد يتضمن الفرض ما يعلم بالإشارة إليه والدلالة؛ لأن أكثر من يوصي بحق العصبة هو ما لا نص فيه، والذي فيه النص هو في الأولاد والإخوة -خاصة- والوالد.
وقيل: يتضمن كل الأقرباء على اختلاف الدرجات؛ فيكون منصوصًا -أيضًا- ومدلولا عليه، ويؤيد هذا التأويل قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) ثم بَيَّنَ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) وأُولَئِكَ هم البعداء الذين لهم أخوة الدِّين والهجرة، فإذا بقي في الرحم أحد - لم يصرف ذلك إلى المؤمنين، وقد قدم حقهم على المؤمنين والمهاجرين بالرحم؛ لذلك هم أولى، مع ما للإمام صرف ذلك بحق الإيمان إليهم؛ فيصير الدفع إليهم بحق الجواز، وإلى غيرهم شك عند قيامهم؛ فالدفع إليهم أولى لوجهين:
أحدهما: عموم الكتاب على تحقيق حق لكل آية منها؛ دون إدخال حكم آية في حق آخرين بلا ضرورة.
والثاني: الإجماع من الوجه الذي ذكرت مع اتفاق أكثر الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - والفتوى إلى يومنا هذا.
30
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى) قيل فيه بوجهين:
قيل: أراد بالقسمة: قسمة المواريث بين الورثة بعد موت الميت.
وقيل: أراد به: قسمة الموصي وهو الإيصاء، يوصى ويبر لمن ذكر من الأقرباء واليتامى والمساكين بشيء؛ فالخطاب للموصى.
ومن قال بقسمة المواريث: فالخطاب للورثة إن كانوا كبارًا، يعطون لهَؤُلَاءِ شيئًا،
31
ويبرونهم بشيء؛ وإن كانوا صغارا يقول الوصي: لهم (قَوْلًا مَعْرُوفًا)، أي: يَعِدُ لهم عدَةً حسنة إلى وقت خروج الأنزال، أو إلى وقت البيع إن باعوها.
ثم اختلف المتأولون فيها:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي منسوخة.
وقال آخرون: هي محكمة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ومن قال: هي منسوخة، قال: نسختها آية المواريث: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ...) الآية؛ لأنهم كانوا يوصون الأولاد والآباء والأمهات؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ...) الآية. فنسخت آية المواريث وصية الموصي.
ومن قال: هي محكمة متقنة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، والحسن ومجاهد وغيرهم؛ لأنه المعروف والبر والإحسان، وذلك مما لا يحتمل النسخ.
وقبل: إن عبد اللَّه بن عبد الرحمن قسم ميراث أبيه، وعائشة حية، فلم يدع في الدار مسكينًا ولا ذا قرابة إلا قسم له من ميراث أبيه، وتلا هذه الآية: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ...) الآية، فذكر ذلك لابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - فقال: ما أصاب ليس ذلك له، إنما ذلك في الوصية، يريد الميت أن يوصي لهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا).
قيل: إذا كان المال كثيرًا - رضخ وأعطى لهم شيئًا، وإذا كان قليلًا اعتذر إليهم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
32
وقيل: أمر من يرث أن يرضخ ويعطي لمن لا يرث شيئًا، وهو قول الحسن، ويقال لهم: (قَوْلًا مَعْرُوفًا).
والقول المعروف يحتمل ما ذكرنا: أن يعطى لهم إن كانوا كبارًا -أعني: الورثة- ويعد لهم عِدة إن كان المال ضياعًا إلى وقت خروج الأنزال والغلات، أو إلى وقت خروج الثمر، أو يعطي الورثة إن كانوا كبارا ويعتذر إليهم الوصي إن كانوا صغارًا.
وقوله - جل وعز -: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ... (٩)
قيل: هو الرجل يحضره الموت، وله ولد صغار، فيقو له آخر: أوص بكذا، أو أعتق كذا، أو افعل كذا، ولو كان هو الميت لأحب أن يترك لولده؛ فخوف هذا القائل بقوله: (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ)، وأمر أن يقول له مثل ما يحب أن يقال له في ولده بالعدل بقوله - عز وجل -: (وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)، وهو قول ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنه.
وقيل: هو الرجل يحضره الموت، فيقول له مَنْ يحضره: اتق اللَّه، وأمسك عليك لولدك الصغار والضعفاء، ليس أحد أحق بمالك منهم، ولا توصِ من مالك، شيئًا.
فنهي أن يقال له ذلك؛ لما لو كان هو الموصي، وله ورثة صغار ضعفاء، أحبَّ بألا يقال له ذلك؛ فكذلك لا يقول هو له. والأول أشبه.
وقوله: (وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا).
قيل: عدلًا؛ يأمر أن يوصي بما عليه من الدَّين والوصية، ولا يجور في الوصية.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: نهي من حضر منهم مريضا عند الموت أن يأمره أن ينفق ماله في العتق والصدقة، أو في سبيل اللَّه؛ ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين أو حق.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠)
أي: استحلالاً، فإذا استحل كفر؛، فذلك الوعيد له.
وقيل: (ظُلْمًا): أي: غصبًا.
والأكل: هو عبارة عن الأخذ؛ كقوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) إنما هو نهي عن أخذه، وكذلك قوله: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا)، وقوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) - إنما هو نهي عن قبض الربا؛ فعلى ذلك الأكل -في هذه الآية- عبارة عن الأخذ والاستحلال.
ومن حمل الآية على الغصب جعل الوعيد عليه، إلا أن يتوب؛ إذ لله أن يعذب من
34
شاء ممن ارتكب من عباده جرمًا، كما جعل الوعيد على المستحل إلا أن يتوب.
وقيل: إنه على التمثيل أن الذي يأكل من مال اليتيم كأنه يأكل نارًا؛ لخبثه ولشدته.
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " اتقُوا اللَّه في الضعِيفَين "؛ قيل: ومن هما يا رسول اللَّه؟ قال: " اليَتيمُ والمرأة "؛ فإن اللَّه أيتمه وأوصى به، وابتلاه وابتلى به.
وقيل في قوله: (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا): للميت إذا جلس إليه (قَوْلًا سَدِيدًا)، أي: عدلاً في وصيته ولا يجور، ومن عدل في وصيته عند موته، فكأنما وجه ماله في سبيل اللَّه؛ فقال سعد بن أبي وقاص: فسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: كم يوصي الرجل من ماله؛ فقال: " الثلُث، والثلُث كَثير، لأَنْ تَدَع عِيالَكَ أَغْنياءَ خَيرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناسَ ". ثم قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّ اللَّه - تعالى - تَصَدَّقَ عَلَيكُم بثُلُثِ أَمْوالِكم زِيَادةً في أَعْمَالِكم عِندَ وَفَاتِكُم ".
35
قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)
قيل: قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) أي: يفرضكم اللَّه، وقد سمى اللَّه - تعالى - الميراث
36
فريضة في غير آى من القرآن بقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ) ثم قال: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا...)، وقال -أيضًا- في آخر هذه الآية: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)، ولأنه شيء تولى اللَّه إيجابه من غير اكتساب أهله؛ فهو كالفرائض التي أوجبها اللَّه على عباده من غير اكتساب أهلها؛ فعلى ذلك سمى هذه فريضة؛ لأن اللَّه - تعالى - أوجبه، واللَّه أعلم.
وقيل: قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)، أي: يبين اللَّه في أولادكم... إلى آخر ما ذكر.
وفيه نسخ الوصية للوالدين والأقربين في قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، ودليل نسخه ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَعْطَى كُل ذِي حَق حَقَّهُ؛ فَلَا وَصِيةَ [لِوَارِثٍ] ".
ثم قيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد والإناث في الميراث؛ وإنما كانوا يورثون الرجال ومن يحوز الغنيمة؛ فنزل قوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ...) الآية؛ فالآية في بيان الحق للإناث في الميراث، وكذلك قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فيه بيان حق الميراث للذكور والإناث جميعًا.
وقيل: تأويل هذه الآية ما بين في القرآن في ذوي الأرحام، وإن كانوا مختلفين في سبب ذلك، وإن الآيات التي بعدها من قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) إلى آخر الآيات
37
التي فيها ذكر المواريث - فُسر بها مبلغ النصيب الذي أوجبه اللَّه للنساء والرجال في الآية الأولى مجملا، وأجمعوا أن الرجل إذا مات وترك ولدًا ذكورًا وإناثًا؛ فالمال بينهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).
ويحتمل قوله: (فِي أَوْلَادِكُمْ) - أولاد موتاكم، وهذا جائز في اللغة؛ لأنه لا يجوز أن يفرض على الرجل قسمة الميراث في أولاده وهو حي؛ دل أنه أراد أولاد الموتى.
أو يحتمل ما ذكرنا أنهم كانوا لا يورثون الإناث من الأولاد والصغار منهم؛ فخاطب الجملة بذلك؛ لئلا يحرموا الإناث من الأولاد والصغار منهم.
وفي قوله -أيضًا-: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)، أي: في أولاد من مات منكم؛ إذ لا يحتمل خطاب الحي ما ذكر في ولده؛ فهذا إن كان تأويل " يوصي ": يفرض أو يأمر.
وإن كان تأويل ذلك: يُبَيِّن، فذلك جائز أن يخبر الحي ما بيَّن اللَّه في أولاده بعد موته في ماله، وذلك يمنع الوصية؛ لأنه يزيل حق البيان، ولما يمكن رفع القسمة وتحصيل الوصية على بعض لبعض، وذلك بعيد؛ إذ لا يملك في غيرهم.
ثم من الناس مَنْ رأي نسخ الوصية للوارث بقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ...) الآية؛ لأن الآية أوجبت الميراث فيما قل أو كثر، فلو كانت الوصية تجب للوالدين بقوله - تعالى -: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ...) الآية، لكان الميراث لا يجب فيما قل منه، وإنما يجب فيما يفضل منه، لكن الآية إذا لم تمنع الوصية للأجنبي وهي تصرف السهم المفروض إلى ما يفضل من الوصية؛ فمثله للوارث، لكن في الآية دلالة على رفع الكتاب؛ إذ في الأولى أنها كتبت، فلما أوجب الحق في كل قليل وكثير لم يبق معه الفرض والوجوب، ولكن يجب الفضل، ثم كان حق الوالدين ومن ذكر بحق اللزوم، وقد سقط ذلك، وبه كان يجوز، فلما سقط الحق جاء في الخبر أن " لا وَصِيَّةَ [لِوَارِثٍ] ".
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّه قد أَعْطَى كُل ذِي حَق حَقه؛ فلا وَصيةَ [لِوَارِثٍ] "؛ فسقط الحق بالآية من الوجه الذي ثبت، والتنفل بقوله: " لا وَصية... ".
فمن هذا الوجه الذي ذكرت يسقط حق الوصية بالقرآن، لكن قد ذكر للمرأة لا بحرف الوجوب بقوله: (مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ)، ثم سقط -أيضًا- بالخبر الذي
38
ذكرنا؛ إذ ليس في الآية ذكر المرأة بما ذكر فيها ميراث الأولاد والأقربين، وقد بقي حق المتاع؛ إذ له أن يوصى لغير الورثة، لكن ذكر في ميراث المرأة وصية، كقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً) من اللَّه، والوصية منه مكتوبة على ما للوالدين والأقربين، ثم أشرك الزوجين في ميراث الوالدين والأقربين مما قل أو كثر، كقوله: " النصف " و " الربع " و " الثمن " مما ترك.
وقد بينا أن الآية نسخت ما ذكرت فصارت ناسخة للأمرين جميعًا، فهذا من جهة الاستخراج في حق النسخ.
على أنه على مذهبنا: السنة كافية في بيان نسخ الحكم الذي، بينه الكتاب؛ إذ هو بيان منتهى الحكم من الوقت، وقد جعل اللَّه - تعالى - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بحيث البيان مما في القرآن.
وقوله - تعالى -: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ): فيه دلالة أن المال كله للذكر من الولد إذا لم يكن ثَمَّة أنثى؛ لأنه جعل للذكر مثلَي ما جعل للأنثى، وجعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر؛ بقوله - تعالى -: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).
فدل أن للذكر من الولد إذا جعل له مثلي ما جعل للأنثى عند الجمع، إنما جعل له ذلك بحق الكل، ففي حال الانفراد له الكل.
وقوله - تعالى -: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ)
قَالَ بَعْضُهُمْ: بين الحق لما فوق الثنتين، ولم يبين للاثنتين، ولهما النصف الذي ذكر للواحدة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه.
39
وأما عندنا: فإن للاثنتين ما للثلاث فصاعدًا؛ فيكون بيان الحق للثلاث بيانا للاثنتين؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل حق ميراث الواحدة من الأخو. ات: النصف؛ بقوله: (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)، كما جعل حق الابنة النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله - تعالى -: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)، ثم جعل للأختين الثلثين بقوله: (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)، فإذا نزلت الأخوات منزلة البنات في استحقاق النصف إذا كانت واحدة، واستحقاق الثلثين إذا كانتا اثنتين فصاعدًا؛ فعلى ذلك نزل بيان الحكم في الأختين منزلة بيان الحكم في الابنتين. قيل: يفوق اثنتين اثنتان فما فوقهما.
وقيل: بين الكتاب الاستواء بين الابنة، الواحدة والأخت الواحدة؛ ليعلم استواء حق الولد وولد الأب، ثم بين في الأخوات للثنتين الثلثان، وفي البنات لما فوقهما؛ ليكون الذكر في الأختين دليلاً على الابنتين، وفيما كثر من البنات على ما كثر من الأخوات، وأيد ذلك أمر الاجتماع بين البنتين والبنات -وإن كثروا- بالإخوة والأخوات -وإن كثروا- مع ما كان معلومًا أن بنات الرجل أحق من بنات أبيه؛ أيد ذلك أن بنات ابنه قد يَرِثْنَ، وبنات ابن أبيه لا؛ فلا يجوز أن تكون الأختان أكثر حقا من الابنتين.
وفي الأغلب أن يجعل لهن ميراث هَؤُلَاءِ، وأيد ذلك أنه ما دام يوجد في الأولاد من له فرض أو فضل - لم يصرف إلى أولاد الأب؛ ثبت أنهم بمعنى الخلف من هَؤُلَاءِ، وعلى ما ذكرت جاءت الآثار، واجتمع عليه أهل الفتوى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ)
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بالولد الذكورَ خاصة؛ لأنه جعل للأبوين لكُلِّ واحد منهما السدس إذا كان الولد ذكرًا، أما إذا كان الولد أنثى فللأب يكون الثلث.
وأمَّا عندنا: فإن اسم الولد يجمع الذكور والإناث جميعًا.
وبعد: فإنه إن كان الولد -هاهنا- ذكرًا وأنثى؛ فينظر:
40
إن كان ذكرًا يكون لكل واحد من الأبوين السدس، والباقي للولد.
وإن كان أنثى فلها النصف، وللأبوين السدسان، والباقي للأب؛ على ما جاء في الخبر: " مَا أَبْقَتِ الفَرَائضُ فِلأَوْلَى رَجُل ذَكَرٍ ".
وقالت الروافض: الباقي للابنة، ذهبوا في ذلك إلى أن الذي يقابل الابنة هو الابن، والذي يقابل الأب هي الأم، فالذي يقابلُ الابنة هو أولى بإحراز الميراث من الذي يقابل الأم؛ وهو الأب؛ فعلى ذلك الذي يقابل الابن -وهي الابنة- أولى بذلك من الذي يقابل الأم؛ وهو الأب.
وأما عندنا: فإن الأب أولى بذلك من الابنة؛ لأن للأب حَقَّين: حق فريضة، وحق عصبة: أمَّا حق الفريضة بقوله: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)، وأما حق العصبة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ): جعل الباقي له؛ فذو حقين أولى بذلك من ذي حق واحد، والابنة ليس لها إلا حق الفريضة؛ لذلك كان الأب أولى.
وفي الخبر دلالة أن حكم الابنتين وما فوقهما سواء، وهو الثلثان: ما روي عن جابر ابن عبد اللَّه قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بابنتين إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول اللَّه، هاتان ابنتا ثابت بن قيس، أصيبَ معك يوم أحد، وقد أخذ عمهما مالهما وميراثهما، ولم يدع لهما شيئا إلا أخذه، فما ترى يا رسول اللَّه؟ فواللَّه لا تنكحان إلا ولهما مال، فنزل قوله - تعالى -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعم الجاريتين: " اعْطِهِمَا الثُّلُثَينِ، وَأَعْطِ أمَّهُما الثمُنَ، ولَكَ ما بَقِيَ ".
ثم في الآية دلائل:
41
أحدها: يخرج الخطاب على العموم، والمراد منه خاص؛ لأنه ذكر الأولاد، والولد قد يكون على غير دينه؛ فلا يرث، وقد يكون مملوكًا فلا يرث، على ما روي في الخبر: " لا يَتَوَارَث أَهْلُ مِلَّتَيْنِ "، وما روي: " لا يَرِث الْمُسْلمُ الكافِرَ وَلا الكَافِرُ الْمُسْلِمَ إِلا العَبْدَ مَوْلاهُ "، وذلك في الحقيقة ليس بميراث، ولكن ما للعبد يكون لمولاه.
وفي هذا دليل جواز الاستثناء من غير نوعه؛ حيث استثنى العبد، وذلك في الحقيقة
42
ليس بميراث.
وفي الآية دليل جواز القياس، والفكر فيها، والاعتبار؛ لأن ميراث الابنتين مستدل عليهما، غير منصوص، وكذلك ميراث الذكور من الأولاد بالانفراد مستدل عليه غير
43
منصوص، وما يحرز الأب من الميراث بحق العصبة مستدل عليه لا منصوص، وما يستحق بالفريضة فهو منصوصٌ عليه، وهكذا كل من يستحق شيئا بحق الفريضة فهو منصوص عليه؛ فدل أن ما ترك ذكره إنما ترك للاجتهاد، والتفكر فيه، والاعتبار.
وفيه دليل أنه يجوز ألا يُطْلِع اللَّه عباده على الأشياء بقوله - تعالى - (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) إذ لم يبين أيهم أقرب نفعًا؛ دل قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)؛ إذ ذكر وراثتهما، ولم يبين حق الأب أنه جعله عصبة يرد إليه الفضل.
فيظهرُ للأب بهذه الآية من قوله - تعالى -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ...) إلى آخرها - أمران:
أَحَدُهُمَا: حق العصبة.
الثاني: حق الفرض بقوله: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ)
ثم بعد هذا فيه أمران:
أحدهما: أنه إذا ثبت له حق العصبة، وقد بين اللَّه - تعالى - نصيب الابنة أنه النصف، ونصيب الأب مع الوالد أن له السدس؛ فزعمت الشيعة أن الفضل يرد إلى الابنة؛ لأنها ولد، ولم يذكر له مع الولد إلا السدس.
وعندنا: يرد إلى الأب؛ لأنه لم يذكر للابنة إلا النصف، ثم قد جعل الأب عصبة فيما له حق الفضل عن المفروض، ولم يجعل الابنة؛ لذلك كان الرد إلى الأب أحق مع ما يحتمل إن كان له ولد ذكر، ثم حرمت الأمُّ بالابنة؛ إذ هي تحرم بالأخوات، فالبنات أحق؛ إذ هن أقرب.
والثاني: أنه إذ جعل للأب السهم من وجهين، ثم الذي له في أحد الوجهين صار للجد دون أولاده، وبين لأولاد الأب الحق، وإبقاء حق الجد لما بين لولده؛ فعلى ذلك ما له من الوجه الثاني وهو أولى؛ لأن حق العصَّاب يخرج على إلحاق الأبعدين فيه بالأقربين، وحق الفرائض لا، حتى يبين، ثم صار الجد أبًا في حقه من الفرض إذا لم يكن هو فمثله في حق العصبة.
ثم فيه وجه آخر: أنه أتبع ذلك الذكر ذِكر الزوجين، وذكرهما مع الولد، ولم يذكر معهما الولدان؛ فثبت أن أمرهما يدخل في حالهما فيما كان، لا في حالهما، أي: الزوجين، وأيد ذلك قوله: إنه بقي حالهما مع الزوجين مع الولد على ما كان عليه دون الزوجين معه؛ فعلى ذلك حالهما بلا ولد، وفي ذلك وجوب صرف حقهما إلى ما فضل، كما ذكر في قوله:
44
(وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) فيكون الفضل بينهما على ما كان عليه بالكل لولا الزوجان.
وقوله: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)
اختلف في حكم الآية من أوجه ثلاثة:
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يحجب الأم عن الثلث أخوان ولا أختان، حتى يكون ثلاثة؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (إِخْوَةٌ)، وأقل الإخوة ثلاثة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه.
وقال آخرون: يحجب الأم عن الثلث الذكور منهم، ولا تحجب الإناث؛ لأن اللَّه - تعالى - ذكر الإخوة، والإخوة اسم للذكور منهم دون للإناث؛ إذ الإناث اسم على حدة وهو الأخوات؛ لذلك حجب الذكور ولم يحجب الإناث.
وأما عندنا: فإن الإخوة اسم للذكور والإناث جميعًا في الحكم، وإن لم يكن اسمًا لهما جميعًا في الحقيقة؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - ذكر الإخوة، ثم جعل بالتفسير اسما لهما جميعا بقوله: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً)، دل أن اسم الإخوة يجمع الذكور والإناث جميعا في الحكم؛ لذلك حجب الأم عن الثلث ذكورًا كانوا أو إناثًا.
وأما قولنا: بأن الاثنين يحجبانها عن الثلث: ما رُويَ عن عليٍّ وعبد اللَّه وزيد بن ثابت أنهم قالوا: يحجب الأخوان الأم عن الثلث كما يحجبها الثلاثة.
45
وجعلوا الأخوين إخوة، والفرائض على اختلافها اتفقت في أن حكم الاثنين حكم الأكثر؛ فكذلك في حق الحجاب، واللَّه أعلم.
وحجة أخرى: وهي أن اللَّه - تعالى - حكم في (الْكَلَالَةِ) إذا كان واحدًا أن له السدس، (فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ)؛ فجعل حكم الاثنين والثلاثة واحدًا يشتركون في الثلث؛ فوجب أن يكون حكم الاثنين والثلاثة من الإخوة في حجب الأم عن الثلث سواء.
وحجة أخرى: وهي أن اللَّه - تعالى - جعل للأختين من الأب والأم الثلثين، وسوى بين حكم الأختين والثلاث في الميراث؛ فعلى ذلك يجب أن يستوي حكم الأخوين والثلاث في حجاب الأم عن الثلث.
ثم المسألة بيننا وبين الروافض: زعمت الروافض أن الإخوة من الأم لا تحجب الأم عن الثلث؛ لأنهم منها، فمن البعيد أن يحجبوها، ويمنعوا ذلك عنها، ويجعلون ذلك لغيرها، يضرون بالأم وينْفَعونَ غيرها؛ وقد قال - تعالى -: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً).
والثاني: أن الحجاب قد يجوز أن يقع بمن يحصل له ما حجب عنها نحو الإخوة من الأب والأم إذا حجبوا الأم عن الثلث وقع لهم ذلك، وأمَّا الإخوة من الأم فإن وقع لهم الحجاب لم يجعل لهم ذلك المحجوب منها؛ فلا يحتمل الحجاب بهم.
وأما عندنا: فإنه ليس لهم بحق القرب والبعد ما يحجبون، ولكن بحق الميت، فإذا كان ما ذكرنا؛ فسواء كانوا من قبل الأم أو من قبل الأب في حق الحجاب.
والثاني: أن المواريث جعلت بحق الابتداء لا بحق المورثين؛ لما لا يحتمل أن يختار المورث من هو أبعد على من هو أقرب، نحو من يموت عن ابنة وابن عم، لا يحتمل أن يختار ابن العم على الابنة في النصف الباقي؛ دل أنه على الابتداء.
ونقول في الإخوة في الأم: إنهم في الحجاب كالأخوة من الأب والأم، وإن كان الحق
46
لغيرهم؛ لما أن الإخوة لما تفرقت حقوقهم ذكرت، وكذلك الأولاد، فلو كان الحجابُ يتفرق لكانت الحاجة إلى الذكر لازمة؛ إذ بعيد ترك الأمر للنظر فيما لا أصل له في الأثر، ولا أصل له في هذا بالتفريق؛ بل قد جمع ذلك بين الإخوة والأخوات، على ما في ذلك من اختلاف الحقوق؛ ثبت أن غير الحجاب من الحقوق ليس بأصل له، والأصل أن ذلك لو كان على اعتبار الحق فهو بحق الميت، لا بحق الأبوين؛ لأنه لم يُعرف إيجاب حق ممن لا حق له، ولا حق لهم مع الأب؛ فبان أنه بمعتبر حق الميت يقع الحجاب، والمعنى منه واحد، ولو كان حجاب الإخوة من الأب بالأب لكان الأب إذن حجب الأم، فإذا كان هو لا يحجب بأن أن ولدها لا يحجبونها؛ إذ هو بحق الميت.
وقوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)
ذكر اللَّه - تعالى - الوصية قبل الدَّين، وأجمع أهلُ العلم أن الدَّين يبدأ به قبل الوصية والميراث.
رُويَ عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: تقرءون الوصية قبل الدَّين، وقضى مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - بالدَّين قبل الوصية.
47
ورُويَ عن عليٍّ - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الدَّيْنُ قَبلَ الوَصِيةِ، وَالْوَصِيةُ قَبلَ المِيرَاثِ، وَلَا وَصِيةَ لِوَارِثٍ ".
وأجمعوا أنه إذا قضى الدَّين - دفع إلى أهل الوصايا وصاياهم إلا أن تجاوز الثلث فترد إلى الثلث؛ إن لم يجز الورثة، ويقسم الثلثان بين الورثة على فرائض اللَّه تعالى.
وليس معنى قول اللَّه - تعالى -: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) - أن يخرج الثلث، فيبدأ بدفعه إلى الموصى لهم، ثم يدفع الثلثان إلى الورثة؛ لأن الموصى له شريك الورثة؛ إن هلك من المال شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعًا، ويبقى سائر المال بالشركة بينهم.
ولكن معناه: من بعد وصية إعلام أن الميراث يجري في المال بعد وضع الوصية من جملته إذا كان الثلث أو دونه، وإن لم يكن دفع ذلك إلى أصحاب الوصايا، ثم لم يذكر في الآية قدر الدَّين والوصية، ومن قولهم: إن الدِّين إذا أحاط بالتركة منع الميراث والوصية، وإذا لم يحط لم يمنع.
والوصية تجوز قدر الثلث، ولا تجوز أكثر من الثلث، إلا أن يجيز الورثة.
48
والآية لم تخص قدرًا من الدَّين دون قدر، وكذلك الوصية، لكن تفسيره ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الثلُث والثلُث كثير "، وما رُوي في خبر آخر: " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - تصَدَّقَ عَلَيكُم بِثُلُثِ أَمْوَالِكُم عِنْدَ وَفَاتِكُم زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُم لَم يَجْعَلْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ "، وما روي في خبر آخر عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعمر وعثمان - رضي اللَّه عنهما -: " الخُمُسُ اقْتِصادٌ، وَالرُّبُعُ جَهْدٌ، وَالثلُثُ حَيفٌ ".
ثم الوصية جوازها الاستحسان والإفضال من اللَّه تعالى، والقياس يبطلها؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - لم يملك الخلق أَعْينَ الأموال؛ وإنما جعل الانتفاع لهم بها؛ ألا ترى أنهم نُهوا عن إضاعتها، ولو كان أعين المال لهم لكان لا مَعْنى للنَهْي عن إضاعتها؛ دل أنه إنما جعل لهم الانتفاع فيها إلى وقت موتهم، وبالموت ينقطع الانتفاع بها؛ فينظر من الأحق بها بعد الموت: الغريم صاحب الدَّين، أو الوارث، وإلا جواز الوصية الإفضال من اللَّه - تعالى - على عباده بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللهَ تَصَدقَ عَلَيكُم بِثُلُثِ أَمْوَالِكُم عِنْدَ وَفَاتِكُم "؛ دل هذا الخبر أن جوازها الإفضال والاستحسان منه إلى عباده، واللَّه أعلم.
وقوله - تعالى -: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) -يدل على أن ما ليس بدين ولم
49
يوصِ به الميت- فإنه لا يخرج من ماله، ويدخل عندنا في هذا الجنس: الحج يكون على الرجل، والنذر، والزكاة، وأشباه ذلك، ليس بشيء منها دين، فإذا لم يوص الميت بها فلا يجب أن تؤدى من التركة إلا أن يُنْفِذَها الورثة.
فإن قال قائل: هي دين كسائر الديون.
قيل له: أرأيت إن كان عليه دين وزكاة: يبدأ بالدَّين أو تقسم التركة بالحصص إذا لم يف بذلك كله؟
فإن قال: يبدأ بالدَّين؛ قيل له: لو كانت الزكاة دينًا كديون الناس كانت في القضاء.
فإن قال: أجعل الزكاة أسوة في القضاء مع الديون؛ قيل له: ما تقول في رجل أفلس وعليه ديون: هل يقسم ماله بين غرمائه؟
فإن قال: نعم؛ قيل: فإن كانت عليه زكاة هل يضرب لها بسهم؟
فإن قال: لا؛ قيل: كيف ضربت لها بسهم بعد الموت لما قسمت ماله، ولم تضرب لها بسهم في الحياة، إن كانت كسائر الديون بعد الموت؟! فيجب أن تكون كسائر الديون في الحياة، إلا أن الزكاة حالة واجبة على من كان عنده مال فحال عليه الحول فاستهلكه، وليس يجوز له تأخير قضاء الدَّين. وفي إقرارك أنك تبدأ بالدَّين قبل الزكاة في الحياة دليل على أنه يجب أن يبدأ بالدَّين قبل الزكاة بعد الموت.
فَإِنْ قِيلَ: قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للمرأة التي سألت: هل تحج عن أبيها؟: " أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ، فَقَضَيتِيهِ أَلَم يُجْزِ عَنْهُ؟ " يدل على أن الحج دَين.
قيل له: ليس فيه دلالة الوجوب عليها؛ إنما فيه دليل جواز الحج عن الميت وقبوله، إذن كان قضاء ما هو أوكد منه من ديون العباد قضاء صحيحًا؛ فالحج الذي هو دون ذلك
50
في التأكيد أحرى أن يقبل؛ كأنه أراد هذا، واللَّه أعلم.
ودليل آخر: أن الزكاة لا تجوز أن تؤدى عن الميت إذا لم يوص بها؛ لأن الزكاة لا تؤدى إلا بنية المزكي، والنية عمل القلب، ولا خلاف في أنه لا يُصَلَّى عن الميت ولا يصام عنه؛ فلما لم يجز أن يُقْضَى عن الميت على الأبدان، لم يجز أن تقوم نية الورثة في أداء الزكاة مقام نية الميت.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وظاهره أنه يقدم الوصية على الميراث، لكن أجمع أن الابتداء به عن حق حد الميراث، ولكن يوزع؛ فيخرج التأويل على وجوه:
أحدها: أن قوله - تعالى -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ...) إلى قوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) -كأنه سوى، أي: سواء مالُكُمْ: أن توصوا، أوصاكم اللَّه فيه- بكذا.
والثاني: أن يكون (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ)، أي: من بعد ما أوصيتم، ويكون الميراث بعد الإيصاء.
ويحتمل: من بعد أن كان عليكم الإيصاء والدَّيْنَ - أمركم بالمواريث؛ فيكون فيه نسخ قول: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ)؛ فدلت هذه الآية على حجر بعض الوصايا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَيْرَ مُضَارٍّ)، لكن يحتمل أن تكون المضارة تبطل الفضل، ويحتمل ألا تبطل؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا) في الرجعة على إمضاء الرجعة على ذلك، لكن الإضرار في الرجعة
51
مقصود، وفي هذا مفضول، فيمكن التفريق بين الأمرين، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ...) الآيتين، وأوعد جهنم على تعدي هذه الحدود، وفي ذلك لا يحتمل مع جواز الفضل، وأيد ذلك قوله: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ...) الآية، ولو كان يجوز لكان لا يملك معه الإصلاح؛ فثبت أن من الوصايا ما يبطل مع ما كان اللَّه ذكر في المواريث: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)؛ فلا يُملك إبطال فريضة اللَّه، وبالإذن منه يجوز فعله؛ لذلك يبطل بعض وصاياه.
والأصل في ذلك أن الأموال أنشئت للأحياء؛ وخُلقت لمنافع الأحياء، فكأنهم ملكوا منافعها إلى انقضاء آجالهم، ثم صارت إلى مَن به ملكوها، يجعلها لمن يشاء، ويضعها عند من يشاء.
وقد بين - عَزَّ وَجَلَّ - أنها: لمن، ومن أحق بها؛ فصار الموصي كأنه أوصى بحق مَنْ بَيّن أن مُحِقَّه فيه غيرُهُ، فإن تفضل اللَّه عليه في ذلك من شيء، وإلا فذلك كسائر الأملاك التي بينت أربابها، لم يكن لغيرهم فيها حق إلا بجعل اللَّه أو جعل من له؛ فعلى ذلك هذا قد جاء عن اللَّه بيان هذه بعد أن بينت هذه الآيات جعل الحق له إلى الثلث، فذلك له صدقة من اللَّه - تعالى - وفي الفضل إن أجاز المجعول له جاز، وإلا لا، واللَّه أعلم.
فجعلت للوصية حدًّا، ولم تجعل للدِّين؛ لأن الدِّين مما يتصل بحوائجه في حال حياته؛ إذ هو يلزم بالأسباب التي بها معاشه وغذاؤه؛ فصار مقدمًا على المتروك في الحكم، وإنما جُعلت المواريث في المتروك مع ما كان الغرماء أحق بملكه في حياته بعجزه عن كثير من المعروف في مرضه بهم، فلو لم يكن لهم الحق لامتنعوا من المداينات إلا بوثائق يكونون هم أحق بها بعد الوفاة من الورثة، أو يمتنعون من المداينات، وفي ذلك تقصير القوت والأغذية عن مضي الأجل، وهو به مأمور؛ فجعلت الديون كأنها استحقت الإملاك في حال الحياة؛ فلم تجئ منهم التركة، وليس كالعبادات؛ لأنها تجب في الفضول عن الحاجات، والديون في الأصول، فليست العبادات بالتي تمنع الوفاء بالآجال ولا كان بأربابها إليها تلك الضرورات؛ فإنما هي بحق القرب، وهي عمل الأحياء، فإذا ماتوا زال الإمكان، وجرت في الأموال المواريث، وكذا المعروف من الدِّين المذكور في القرآن من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا
52
أَوْ دَيْنٍ) - أن العبادات لا توصف بالديون، ولا تفهم من إطلاق القول بالديون؛ فصارت بمعنى الفضل عن الوصايا والديون إلى أن يؤجل، وهو الحقيقة؛ ألا يكون للمولى على عبده دين؛ فيكون المذكور دينا في الأفعال؛ كما ذكرت العِدَاتُ دَيْنًا في الأخلاق، لا في حقيقة الذمم، مع ما كانت هي لله، وقد جعل اللَّه له فريضة لأقوام بأعيانهم، لا تمنع عنهم إلا بالوصية، كما جعل للموصي.
وعلى أن العبادات لا تقوم إلا بالبينات، ولا تؤدى عن أحد في حياته إلا بأمره، وإن احتمل قيام بعض منها عن بعض، وسائر الديون تجوز دونه؛ فعلى ذلك بعد الوفاة، وإن كان كل ما يؤدى به فهو الذي حدث به الوصية، وقد جاء الحد لها مع ما كانت العبادات لا تحتمل لحوق الأموات ولا الإيجاب عليهم في أموالهم، ثبت أنها حقوق الحياة خاصة، والديون تحتمل، فهي حقوقهم في الحالين.
ثم قد ذكر في الدِّين (غَيْرَ مُضَارٍّ)؛ بل الدَّين أقرب إلى حرف الثنيا، ومعلوم أنه لا يقع منه في الديون الظاهرة المعلومة مضارة بالورثة إن كان يقع، يقع في الغرماء؛ إذ يؤخذ منه بلا إيصاء، ولا يحتمل النهي من حيث الغرماء؛ لما فيه إلزام المكاسب في أوقات العجز لقضاء الديون؛ فثبت أن ذلك فيما لا يعرف من الديون؛ وإنما يرجع فيها إلى قوله؛ فبطل بالذي ذكرته جواز إقراره على كل حال لكل أحد؛ إذ لا ضرر يقع من حيث فعله فيرد، وقد بينا أن المضارة في هذا تمنع الجواز؛ فثبت أن من الإقرار ما لا يجوز، فقال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: لا يجوز إقراره لبعض الورثة وقت الإياس من نفسه؛ لأنه
53
وقت الإيثار، والسخاء بما عنده من المال، ولوقت السخاء ما أبطل وصيته للوارث بما يخرج مخرج الإيثار، فنحن إذا أجزنا إقراره فيهن لنظره لم يمنع الوصية أن ينتفع؛ بل يذهب الكل، وفي الأول لم يكن يذهب، واللَّه أعلم.
ثم الأصل أنه أجيز في الكل بحق الأمانة، ووصيته بحق الفضل ثم جعل في وارثه كمن لا ملك له؛ إذ قد يقصد به التفضيل والتخصيص إلى القربة؛ فعلى ذلك فيما خان في الأمانة يجعل كمن لا أمانة له لما يخرج، على ما بينا، وإسقاط الأخبار؛ لتوهم من الأمناء أوجد في الأحكام، ومن إسقاط المعروف عن الأملاك، واللَّه أعلم.
وعلى ذلك فيما كانت عليه ديون ظاهرة قد يبقى الضرر بأهلها لبعض من له بشأنه عناية، وفيما بينهما حقوق تحث على المعروف والصلة له وقت السخاء بماله، وللعلم بأنه عن الانتفاع به عاجز؛ فيقر لهم ذلك بتهم في الحقوق التي ظهرت، ثم كانت عبادات الأموال قد تقام عن الأموات بالأمر، ولا تقام عبادات الأفعال لوجهين:
أحدهما: جواز بعض في أحد عن بعض النوعين فيما للعباد بلا أمر في الحياة، ولا يجوز في الآخر؛ فمثله العبادات بالأمر.
والثاني: أن السبب الذي به تجب عبادات الأموال قد يجوز أن يوجب على نفر بالتحول من ملك إلى ملك، وما له تجب عبادات الأفعال يجوز فعل ذلك حق القيام بالأفعال، وعلى ذلك النيات؛ إذ ليست من الحقوق التي تتصل بالأموال في شيء من الأمور لم يقم بها أحد عن أحد، لذلك لم يجز إلا بأمر؛ فيكون الأمر بالأمر لما أمرنا به نادرا، واللَّه أعلم.
وقوله - تعالى -: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا).
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الدنيا، وهو أن يلزم الابن نفقة والده عند الحاجة والقيام بأمره، والأب يلزم أن ينفق على ولده في حال صغره، وعند الحاجة إليه، والقيام بحفظه، وتعاهده، فإذا كان ما ذكرنا لم يدر أيهما أقرب نفعًا: نفع هذا لهذا، أو هذا لهذا.
ويحتمل أن يكون قال: لا تدرون أنتم أي نفع أقرب إليكم: نفع الآباء أو الأبناء، فإن كان التأويل ما ذكرنا؛ ففيه دلالة بطلان شهادة الوالد لولده، وشهادة الولد لوالده؛ إذ
54
أخبر أن لهذا نفعًا في مال هذا ولهذا نفعًا في مال هذا، فإذا ثبت النفع لم تقبل شهادة من ئنتفع بشهادته؛ ولهذا قال أبو حنيفة - رضي اللَّه عنه -: لا يجوز للوكيل بالبيع أو الشراء أن يبيع من أبيه، أو ابنه، أو والدته؛ لما ينتفع ببيعه منه وبالشرى منه. وكذلك قالوا: إذا اشترى من هَؤُلَاءِ فليس له أن يبيع مرابحة، إلا أن يبين؛ لأنه ينتفع به.
وقيل: هذا في الآخرة.
ورُوي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، يقول: أطوعكم لله من الآباء والأبناء: أرفعكم درجة عند اللِّه يوم القيامة؛ لأنه - تعالى - يُشَفعُ المؤمنين بعضهم في بعض.
وقيل: قوله: (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ) أنتم في الدنيا (أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، يقول: أخصّ لكم نفعًا في الآخرة في الدرجات الوالد لولده، أو الولد لوالده؛ إذ هم في الدنيا لا يدرون أيهم أقرب لصاحبه نفعًا في الآخرة حتى يرجعوا في الآخرة قال: فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع اللَّه - تعالى - إليه ولده في درجته؛ لتقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والده رفع اللَّه - تعالى - الوالدين إلى الولد في درجته؛ لتقر بذلك
55
أعينهم برفع الأسفل إلى الأعلى والأدون إلى الأفضل، وهو كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ)، يعني: بإيمان الآباء، (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ)، يعني الآباء (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).
ويحتمل أن يكون هذا في الشفاعة، أو لا يدرى ما ذلك النفع وما مقداره.
أو يحتمل قوله: (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا): ليس على حقيقة القرب؛ ولكن على الكبر والعظم، وقد يتكلم بهذا كقوله: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا): ليس على أن آية هي أكبر من أخرى، ولكن على وصف الكل منها بالكبر والعظم؛ فعلى ذلك قوله: (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) على وصف كل منهم بالنفع؛ على الإعظام والإكبار، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله - تعالى -: (أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، أي: أوجب؛ كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، أي: واجب للمحسنين، وغيره من الآيات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)
سمى اللَّه - تعالى - المواريث فرائض؛ لأنه كان بإيجاب اللَّه - تعالى - لا باكتساب من الخلق؛ إذ لم يملك الخلق أعين هذه الأموال، ولكنه إنما ملكهم المنافع منها، وإلى وقت وفاتهم فإذا ماتوا صار ذلك المال للذي جعل اللَّه له؛ لذلك سمى فرائض.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) ببدو حالهم ومعاشهم ومصالحهم، وما يصلح لهم وما لا يصلح (حَكِيمًا) فيما فرض من قسمتها وبينها.
والحكيم: هو المصيب واضع كل شيء في موضعه، والظالم: هو واضع الشيء في غير موضعه.
* * *
قوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى
56
بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ...) إلى آخر ما ذكر: فيه مراد الخصوص، وإن كان مخرج الخطاب عافا؛ لأن الزوج أو الزوجة إذا لم يكن على دين صاحبه وعلى وصفه لم يجز بينهما التوارث؛ دل أن ليس لأحد الاحتجاج بعموم المخرج، على ما ذكرنا في الولد والوالد والأم وغيرهم: أنه إذا لم يكن بعضهم على وصف بعض لم يجز بينهما التوارث؛ دل أن عموم مخرج الخطاب لا يدل على عموم المراد، ثم الآية معطوفة على ما سبق من الآيات؛ لأنها ذُكرت بحرف العطف والنسق بقوله: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) والربع إن كان لهن ولد (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ)، والثمن إن كان لكم ولد، فبين في الآية الأولى ميراث الأب والأم وميراث الأولاد، ولم يبن ميراث الأزواج، ثم بين في هذه الآية؛ فنسق على الأول؛ دل أن الأزواج والزوجات إذا كانوا معهم فإن الحكم لا يختلف فيهم، يكون للأم الثلث إذا لم يكن هنالك ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات فصاعدا، والسدس إن كان له ولد أو اثنان من الإخوة والأخوات يكون لها مع هَؤُلَاءِ ثلث ما بقي، حيث نسق هذه على السابقة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً)
اختلف في الكلالة:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الكلالة: الميت الذي لا ولد له ولا والد.
57
وعن الحسن أنه قال: الكلالة: الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو الإخوة والأخوات من الأب، ذهب في ذلك إلى ما ذكر في آية أخرى قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ...) إلى آخر ما ذكر. والنصف إنما يكون للأخت من الأب والأم، أو الأخت من الأب، وذلك تفسير الكلالة؛ دل أنها الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب.
وروي عن أبي بكر الصديق - رضي اللَّه عنه - أنه قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد.
وروي عن عمر - رضي اللَّه عنه - أنه قال: لقد أتى عليَّ زمان وما أدري ما الكلالة، ألا وإن الكلالة ما لم يكن له ولد ولا والد.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد.
وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في خطبته: ألا إن الآية التي أنزلها اللَّه - تعالى - في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والمرأة، والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة من الأب والأم، والآية التي في سورة الأنفال في: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)، مما جرت في الرحم من العصبة.
وروي عن عمر - رضي اللَّه عنه - أنه قال: إذا كانت الكلالة بعضهم أقرب من بعض بأبٍ فهو أحق بالمال.
58
وحديث عمر هذا يبين أن الكلالة، اسم يقع على الإخوة من الأم ويقع على الإخوة من الأب، ويقع على الإخوة من الأب والأم، وهو ما ذكرنا في قول أبي بكر الصديق وعمر - رضي اللَّه عنهما - أن الكلالة ما عدا الولد والوالد، فكانوا يذهبون - واللَّه أعلم - أن الأعمام وبني الأعمام يرجعون في النسب مع الميت إلى جده، وقد تكللهم الجد، وكذلك الأخوال والخالات وأولادهم يرجعون مع الميت إلى جده أبي أمه، وقد تكللهم أبو الأم؛ فسبيلهم في ذلك سبيل الإخوة والأخوات الذين تكللهم الأب والأم، إلا أنهم لما كانوا أبعد في النسب من الإخوة والأخوات لم يرثوا معهم، فأجمعوا أن معنى قوله - سبحانه وتعالى -: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ)، هو في الأخت من الأب والأم، أو من الأب، إذا مات الرجل ولا ولد له ذكر ولا أنثى يعطى الأخت النصف تسمية، فقال قوم من الشيعة: الآية تدل على أنه إن ترك ابنة وأختا أن المال كله للابنة، ولا شيء للأخت؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل لها الميراث إذا لم يكن له ولد؛ فسوى الذكر والأنثى من الأولاد.
وليس الأمر كما قالوا؛ لأنا إذا جعلنا للابنة النصف وجعلنا ما بقي للأخت فلم نعطها ما أعطيناها بالتسمية؛ ألا ترى أنه لو كانتا أختين كان لهما عندنا ما بقي، ولو جعلنا ذلك لهما تسمية، أعطيناهما الثلثين؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل لهما الثلثين بالتسمية، وليس سبيل ما تأخذه الأخت بالتسمية لا ينقص منها شيئًا ما تأخذه من الباقي بغير تسمة؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - جعل للأبوين السدسين مع الولد، فإن كانت ابنة وأبًا فلها النصف، وما بقي للأب، فقد أعطينا الأب أكثر مما سمى اللَّه - تعالى - ولكنا لم نعطه الزيادة بالتسمية؛ فلم يلزمنا الخلاف في زيادثه، فإن خالفونا في ذلك، قيل: قد سبق لذلك جواب ما يدل على أن الأب بالباقي أولى من الابنة؛ لذلك لم نذكره في هذا الموضع.
فإن قال: الابنة أولى بما زاد على النصف؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)؛ فكانت الابنة أحق بذلك من غيرها.
59
قيل له: أإن قوله - تعالى -: ، (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) - إنما أوجب أنهم أولى ببعض من الأجنبيين؛ بين ذلك قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ)؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة، فنسخ اللَّه ذلك، وجعل الميراث لذوي القرابة. وليس في الآية دليل على أن القريب أولى بالميراث ممن هو أبعد منه في القرابة، وقال اللَّه - تعالى -: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ)، يقول - واللَّه أعلم -: الأخ من الأب يرث الأخت المال كله؛ إن لم يكن لها ولد، وترث من الأخ النصف إذا كان هو الميت، وقال اللَّه سبحانه وتعالى: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)؛ فأجمعوا أن الأختين وما زاد من الميراث سواء. وقال اللَّه - تعالى -: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)، فأجمعوا أن الرجل والمرأة إذا مات أحدهما وترك أخًا وأختًا فما زاد على ذلك من الذكور والإناث كان الميراث بينهم: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)؛ فهذا ما نص اللَّه - تعالى - عليه في فرائض المواريث.
وقد تكلم أهل العلم في الرد، والعول، وميراث ذوي الأرحام:
فأما ميراث ذوي الأرحام: فإن اللَّه - تعالى - قال: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)، فمن زعم أن المال لبيت المال فلم يجعل بعض الأرحام أولى ببعض؛ بل جعل الغرباء أولى بالميت من أولى الأرحام؛ فكان قول المورثين عندنا أولى، وهو قول عمر، وعلى، وعبد اللَّه بن مسعود، وجماعة من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - إلا زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه جعل ذلك لبيت المال.
فَإِنْ قِيلَ: إن قول اللَّه - سبحانه وتعالى -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) إنما هو فيمن سمى اللَّه لهم سهامًا.
قيل: في الخبر دليل أنه في غير الذين سمى اللَّه لهم سهامًا: ما روي عن عمر بن
60
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اللهُ وَرَسُولُهُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَالخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ ".
وروي -أيضًا- أن عمر - رضي اللَّه عنه - قضى للخالة بالثلث، وللعمة بالثلثين.
وعن زر بن حبيش، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قسم الميراث بين العمة والخالة.
وعن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الخالة والدة.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في العمة والخالة: للعمة الثلثان، وللخالة الثلث.
فأخذ علماؤنا في ذلك بما رُوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعن الأجِلَّة من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وكان ذلك موافقا لظاهر الآية وعمومها، وكان اتباع ذلك عندهم أولى من غيره.
فأما الكلام في العول: فإن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - كان ينكره، ويقول: لا تعول
الفريضة.
وكان علي وعبد اللَّه وزيد بن ثابت يقولون بعول الفرائض.
وروي عن الحارث قال: ما رأيت أحدًا قط أحسب من علي بن أبي طالب - رضي اللَّه عنه - أتاه آت، فقال: يا أمير المؤمنين، رجل مات وترك ابنتيه وأبويه وامرأته، ما لامرأته؟ قال: صار ثمنها تسعًا.
وكان ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - يكره أن ينقص الأب من السدس، وقد سمى اللَّه - تعالى - له السدس، ثم لم يمض على هذا الأصل؛ لأنه قال في الابنتين وأبوين وامرأته: للمرأة الثمن، وللأبوين السدسان، وما بقي فللابنتين؛ فنقص الابنتين مما سمى اللَّه لهما،
61
فلم كانتا أولى بالنقصان كله من غيرهما؟
وسائر الصحابة أدخلوا النقصان على كل وارث بقدر نصيبه؛ لئلا يلحق النقصان على بعض، ويأخذ البقية كمال نصيبهم، وجعلوا ذلك كقوم أوصى لهم رجل بوصايا تتجاوز الثلث إذا جمعت؛ فالحكم أن يقسم الثلث بينهم بالحصص، وكقوم صح لهم دَيْن على ميت، وتركته لا تفي بذلك؛ فهم جميعًا أسوة: يلحق كل واحد منهم النقصان بقدر حصته.
وأما الردُّ: فإن عليًّا - رضي اللَّه عنه - وعبد اللَّه - رضي اللَّه عنه - قالا به، على اختلافهما فيمن يرد عليه، وسبيل ذلك سبيل ذوي الأرحام؛ لأن ذا الرحم بباقي المال أولى من الأجنبيين؛ بقول اللَّه - سبحانه وتعالى -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)؛ فمن لا رحم له فلا حق له غير سهمه.
وليس في الزوج والزوجة خلاف بين أهل العلم أنه لا يرد عليهما، ولأن في الآية دليل الرد على غير الزوجين من أهل السهام ومنعَ الرد عليهما؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر للأبوين السدسين إذا كان له ولد، وسمى للأم الثلث إذا لم يكن له ولد، ولم يسم للأب شيئًا؛ فيرد الباقي عليه، وكذلك سمى للذكور من الأولاد مع الإناث نصيبًا بقوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، ولم يسم لهم شيئًا في حال الانفراد؛ فيرد الكل عليهم، ولم يترك للزوجين ذكر تسمية سهامهما في حال؛ بل ذكر سهامهما في الأحوال كلها في حال الولد، وفي حال الذي لا ولد له؛ فلذلك منع دليل الرد عليهما.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) ومرة: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)؛ حتى يعلم أنهما واحد.
ثم ذكر المضارة في ميراث الإخوة والأخوات، ولم يذكر في الولد والوالد والزوج والزوجة؛ فهو - واللَّه أعلم - يحتمل وجهين:
يحتمل: أنه ذكر في هذا أنه بهم ختم المواريث؛ فتكون تلك المضارة كانت كالمذكورة في الأولاد، أو الوالدين والأزواج؛ إذ بذلك ختم.
ويحتمل: أنه ذكر هاهنا المضارة ولم يذكر فيما ذكرنا؛ لما في الطبع يقصد الرجل إلى مضارة الأخ والأخت ومَنْ بَعُدَ منه، ولا يقصد في المتعارف إلى مضارة الآباء والأولاد ومن ذكرنا، فإذا جاء النهي في مضارة من يُقصد في الطبع - بقصد الرجل - مضارته؛ فَلَان ينهى عنها فيما لا يقصد بالطبع أحق.
62
ثم بيان المضارة في الوصية ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " وقوله: " إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِياءَ خَيرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ "، وما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ الخَيرِ سِتِّينَ سَنَةً، فَإِذَا أَوْصَى خَانَ فِي وَصِيتِه، فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ؛ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الشَرِّ سِتِّينَ سَنَةً، فَيَعْدِلُ فِي وَصِيّتهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ " ثم يقول أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اقرءوا إن شئتم: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...) إلى قوله: (عَذَابٌ مُهِينٌ)
وما روي: " الثُّلثُ حَيفٌ ".
وما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم قرأ (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ...) إلى آخره، قال: في الوصية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ).
ثم الإضرار قد يكون -أيضًا- إذا أوصى لوارث ولم يوص للباقين؛ لأنه أضر به بالوصية لبعض ورثته الباقين؛ فلا فرق بين أن يضر بعض الورثة وبين أن يضر الورثة كلهم؛ ففيه دليل بطلان الوصية لبعض الورثة دون بعض.
ثم الإضرار قد يكون بالدَّيْن على ما يكون بالوصية؛ لأنه إذا أقر المريض لبعض الورثة بدين، فإن إقراره لا يجوز كما لا تجوز وصيته، والإقرار بالدَّين أحق ألا يجوز من
63
الوصية؛ لأن الإقرار في المرض جوازه بحق الأمانة؛ إذ يجوز جواز الشهادة، والشهادة أمانة، والوصية جوازها بحق الملك؛ فإذا بطلت الوصية لوارثه فإقراره له في المرض أحق أن يبطل؛ وعلى ذلك إذا كان عليه دين في الصحة، فأقر بدَين في المرض؛ فغرماء الصحة أولى بدينهم من غرماء المرض؛ لأن في ذلك إضرارًا بغرماء الصحة؛ لأن دينهم قد تعين في ماله، وتحول من الذمة إلى التركة؛ ألا ترى أنه ليس له أن يقضي غريمًا دون غريم! فإذا كان ما ذكرنا - لم يكن له قسمة المال بين غرماء الصحة وبين من أقر لهم بالدَّين في المرض؛ إذ فيه الإضرار بهم؛ إذ قد تعين حقهم؛ فلا فرق أن يكسب الضرر على الوارث وبين أن يكسب الضرر على الغرماء.
وإذا باع شيئًا بقيمته في المرض أو استقرض؛ فإنه يجوز ويبدأ به؛ لأنه يعمل للغرماء؛ إذ يقضي ديونهم مما أخذ.
وإذا تزوج أو استأجر فيكون أسوة الغرماء؛ لأنه لم يعمل لهم، إنما يعمل لنفسه، وليس فيه اكتساب الضرر على الغرماء، فيكون أسوة، ثم إذا أضر لم يجز، ويرد ذلك الضرر ويفسخ.
فَإِنْ قِيلَ: إن الرجل قد ينهى عن الإضرار في نفسه وماله، ولو فعل يجوز.
قيل: إن الإضرار إذا حصل في ملكه أو في نفسه - يُنْهي ويجوز؛ لأنه لم يضر غيره، وإذا حصل في ملك غيره لم يجز وَرُد، وهاهنا إنما حصل في ملك الورثة والغرماء؛ لذلك بطل، ولا يوصي بأكثر من الثلث، ولا يوصي لوارث، ولا يقر بحق ليس عليه مضارة للورثة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ)
يحتمل قوله تعالى: (وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ)، أي: الذي نهي عن المضارة وصيةً.
ويحتمل: الذي فرض عليكم من المواريث؛ وصية من اللَّه وفريضة منه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ).
بمن ضارَّ الوارث، وزاد على الثلث، وبمن لم يضار.
(حَلِيمٌ)
لا يعجل بالعقوبة على من ضار.
ويحتمل العليم والحليم أن يكونا سواء؛ لأن ضد (حَلِيمٌ) سفيه، وكذلك الحليم.
64
قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ)
قيل: فرائض اللَّه التي أمركم بها من قسمة الميراث.
ويحتمل (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ): ما حد لنا حتى لا يجوز مجاوزتها، وقد تقدم ذكرها في سُورَةِ البقرة. وذكر حدود اللَّه، وقد يجوز أن يكون للخلق حدود، يقال: حدُّ فلان؛ فإذا لم يفهم من حدود اللَّه ما فهم من حد الخلق كيف فهم من قوله: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، و (استَوَى إلَى السَّمَاءِ) ما فهم من استواء الخلق؟! فإذا لم يفهم من حدود اللَّه ما فهم من حد الخلق - لم يجز أن يفهم من استواء اللَّه ما يفهم من استواء الخلق، وكذلك لا يفهم من رؤية الرب ما يفهم من رؤية المخلوق، ولا يفهم من مجيئه مجيء الخلق، ولا من نزوله نزول الخلق، على ما لم يفهم من قوله - تعالى - (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) حدود الخلق؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يحتمل وجهين:
أحدهما: أوامره ونواهيه، وما حَرَّم وأحلَّ.
ويحتمل: حدود شيء من ذلك؛ فيرجع تأويل الأول إلى أنفس العبادات، والثاني: إلى نهايات العبادات.
والمعروف من الحدود التي تنسب إلى الخلق وجهان:
أحدهما: نهاية المنسوب إليه، وذلك حق حد الأعيان.
والثاني: الأثر الذي يضاف إليه، وذلك حد الصفات أن يقال: حد الفعل فعل كذا، وحد البصر والسمع، يراد به الأثر الذي به يعرف، أو هنالك ما ذكر، ثم لم تكن الحدود التي أضيفت إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - على واحد من الوجهين اللذين يضافا إلى الخلق؛ إذ قد ثبت بضرورة العقل وحُجج السمع تعاليه عن المعاني التي هي معاني خلقه؛ فعلى ذلك ما أضيف إليه من طريق العقل من الاستواء، والمجيء، والرؤية - لم يجز في ذلك تصوير المعنى الذي في إضافة ذلك إلى الخلق يكون بما في ضرورة العقل والسمع جلاله وكبرياؤه عن ذلك المعنى، وباللَّه العصمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
قيل: من يطع اللَّه في أداء فرائضه أوسنة رسوله.
(يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ...) إلى آخر ما ذكر.
وقيل: ومن يطع اللَّه فيما أمر ونهى، وأطاع رسوله في أمره ونهيه؛ فله ما ذكر.
وقيل: إذا أطاع اللَّه فقد أطاع رسوله، وإذا أطاع رسوله فقد أطاع اللَّه - تعالى - وهو واحد، كقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ) - تعالى -: فيما أمر ونهي، وحَرَّم وأحلَّ، (وَرَسُولَهُ): فيما بلغ وبين.
وقيل: ذا ليس بتفريق، لكن من الذي يطيع اللَّه هو الذي يطيع رسوله؛ لأنه إلى طاعة اللَّه - تعالى - دعاه، وعلى عبادته رغب؛ فتكون طاعتُهُ طاعتَهُ، كقوله - تعالى -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وكقوله - سبحانه -: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي...) الآية.
وقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... (١٤)
وهذا كذلك -أيضًا- إذا عصى اللَّه؛ فقد تعدى حدوده، ومن تعدى حدوده فقد عصى اللَّه.
ويحتمل قوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ): فيما لم ير أمره أمرًا ونهيه نهيًا، (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ)، يعني: أحكامه وشرائعه، أي: لم يرها حقًّا -:
(يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا)
وله ما ذكر.
* * *
قوله تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (١٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)، (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا)
قيل: كان هذان الحكمان في أول الإسلام: الأول منهما للمرأة، والثاني للرجل.
66
وقيل: إن آية الأذى كانت في الرجل والمرأة، وآية الحبس كانت في حبس المرأة.
ويحتمل أن تكون آية الأذى في البكر في الرجل والمرأة جميعًا، وآية الحبس في الثيب في الرجل والمرأة جميعًا.
ويحتمل أن تكون آية الأذى في الرجال خاصة: فيما يأتي الذكرُ ذكرًا؛ على ما كان من فعل قوم لوط، وآية الحبس في الرجال والنساء جميعًا.
فإن كانت آية الأذى في الرجال خاصّة؛ ففيها حجة لأبي حنيفة - رضي اللَّه عنه - حيث لم يوجب على من عمل عمل قوم لوط الحدَّ؛ ولكن أوجب التعزير والأذى، وهو منسوخ إن كان في هذا، وإن كانت في الأول؛ فهي منسوخة.
ثم اختلف بما به نسخ:
فقال قوم: نسخ بقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)،
لكن عندنا هذا يجوز أن يجمع بين حكميهما؛ فكيف يكون به النسخ؟! ولكن نسخ عندنا بالخبر الذي روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً: البِكْرُ بِالبِكْرِ، والثيبُ بِالثيبِ، البِكْرُ يُجْلَد ويُنْفَى، والثيبُ يُجْلَدُ وَيُرجَمُ ". ففيه دليل حكم نسخ القرآن بالسنة.
فَإِنْ قِيلَ: في الآية دليل وعد النسخ بقوله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)؛ فإنما صار متسوخًا بما وعد اللَّه في الآية من النسخ، لا بالسنة.
قيل: ما من آية أو سنة كان من حكم اللَّه النسخ إلا والوعد فيه النسخ، وإن لم يكن مذكورًا؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يجعل الحكم في الشيء للأبد ثم ينسخ؛ لأنه بدو، وذلك فعل البشر لا فعل الربوبية؛ فإذا كان ما ذكرنا فلا فرق بين أن ينسخه بوحي يكون قرآنا يتلى وبين أن ينسخه بوحي لا يكون قرآنا، وفيه أخبار كثيرة:
روي أنه رجم ماعزًا لما أقرّ بالزنا مرارًا، ورجم -أيضًا- غيره: ما روي أن عسيف الرجل زنا بامرأته، وقال: سأقضي بينكما بكتاب اللَّه تعالى، وقال: " وَاغْدُ يَا أُنَيسُ عَلَى
67
امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ هِيَ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ".
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائله: ما نجد الرجم في كتاب اللَّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، ألا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل، وقامت البينة، أو اعترف، وقد قرأناها: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتَّة نكالا من اللَّه "، رجم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده.
وقال قوم: الرجم بين اليهود والنصارى كهو بين المسلمين كالجلد بالآية، ولما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه رجم يهوديين ".
قيل: إنما رجم بحكم التوراة؛ ألا ترى أنه روي أنه دعا بالتوراة، ودعا علماءهم فأمرهم أن يقرءوا عليه؛ فوضعوا أيديهم على الموضع الذي فيه ذكر الرجم فقرءوا غيره؛ فقال ابن سلام: إنهم كتموه يا رسول اللَّه، ثم قرأ هو؛ فأمر برجمهم، ولا شك أن القرآن نسخ حكم التوراة؛ لذلك لم يقم عليهم الرجم.
فإن قال قائل: إن الحد يقام على من عمل عمل قوم لوط بقوله - تعالى -: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)،
قيل: لا يحتمل وجوب الحد عليه بذلك؛ لأنه مختلف حكم هذا من هذا في الحرمة، ووجوب المهر؛ وغير ذلك، فلا يحتمل أن يعرف حكم شيء لما يخالفه في جميع أحكامه وجميع الوجوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) -: في الآية دليل جواز القياس؛ لأنه ذكر الحكم في النساء، ولم يذكر في الرجال ذلك الحكم، وهما لا يختلفان في هذا الحكم؛ ما يلزم المرأة في ذلك الفعل يلزم الرجل مثله؛ دل أن ما ترك ذكره في المنصوص إنما ترك؛ للاستدلال عليه، والاستنباط من المنصوص والانتزاع منه.
68
وقال قوم: إن على الثيب الجلد والرجم جميعًا؛ ذهبوا في ذلك إلى ما روي عن عبادة ابن الصامت، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " خُذُوا عَني خُذُوا عَني؛ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُن سَبَيلا: البِكْرُ بِالبِكْرِ يُجْلَدُ وُينْفَى، وَالثيبُ بِالثيبِ يُجْلَدُ وُيرجَمُ ": أوجب الجلد والرجم على الثيب أما عندنا: فإنه لا يوجب مع الرجم الجلد؛ لما روينا من الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه رجم ماعزًا، ولم يذكر أنه جلده، وما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " اغْدُ يَا أُنَيسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ": لم يُذكر هنالك جلد، والأخبار كثيرة في هذا.
وروي أنه قال: " مَنْ أصَابَ مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ شَيئًا فَلْيَستَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ الَّذِي سَتَرَهُ عَلَيهِ، فَإِن مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيهِ حَدَّ اللَّهِ ".
ثم يحتمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الثيبُ بِالثيبِ يُجْلَدُ ويرجَمُ " في اختلاف الأحوال: يجلد في حال، ويرجم في حال، أو يجلد ثيب ويرجم آخر؛ لأنه لا كل ثيب يرجم؛ لأنه إذا كان ثيبا غير محصن لا يرجم؛ دل أنه على ما ذكرنا.
أو يحتمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " البِكْرُ بِالبِكْرِ يُجْلَدُ وُينْفَى، وَالثيبُ بِالثيبِ "، أي: البكر مع البكر، والثيب مع الثيب؛ فيكون ثيبا يجلد وثيبًا آخر يرجم.
ثم اختلف أهل العلم في نفي البكر:
قال قوم: النفي ثابت واجب.
وعندنا: إن كان فهو منسوخ، ودليك نسخه: ما روي في خبر زيد بن خالد، وكان الرجل بكرا، لم يذكر أنه نفي.
وما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه نفى رجلا؛ فارتد ولحق بالروم؛ فقال: لا أنفي بعد هذا أبدًا.
وما روي أنه قال: كفى بالنفي فتنة.
69
وإن كان فهو عقوبة وليس بحد؛ كحبس الدعارة وغيره.
والدليل على أن النفي ليس بحد أن اللَّه - سبحانه وتعالى - قال في الإماء: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، والأمة لا تنفي؛ لما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَلْيَجلِدْهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ ": أمر بجلدها ولم يأمر بالنفي، ولو كان حدا لأمر به كما أمر بالجلد؛ دل أنه ليس بحد في الحر، ولأنه أوجب على الإماء نصف ما أوجب على الحرائر، ولا نصف للنفي؛ دل أنه ليس بحد، ولا يجب ذلك، أو إن كان فهو حبس، وفي الحبس نفي، فيحبسان أو ينفيان؛ لينسيا ما أصابا؛ لأن كل من رآهما يذكر فعلهما؛ فينفيان لذلك، لا أنه حد؛ ولكن لينسبا ذلك ولا يذكر.
وقوله -أيضًا-: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ...) إلى قوله - تعالى -: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا)، - يخرج على وجهين - لو كان الإتيان الزنا:
أحدهما: أن يكون في جميع الإناث الحبس، وفي الذكور: الإيذاء؛ ولذلك جمع بين
70
الجميع في الخبر الذي به النسخ؛ فارتفع الحبس والأذى جميعًا، وذلك معقول: تأديب الرجل به أزجر له، وحبس المرأة أقطع لوجوه الزنا.
أو أن تكون الآية الأولى: في المحصنات؛ على تضمن المحصنين بالمعنى، والآية الثانية: في الذكور؛ على تضمن الإناث بالمعنى، لكن جرى الذكر على ما ظهر من فضل صيانة الأبكار في الإناث: إما تدينًا، أو حياء الافتضاح، أو بما الغالب عليهن الصون من المحارم، والحفظ عن قرب الذكور، ليس بشيء من ذلك في الذكور ولا في الثيبات من النساء، على أنه بعيد بلوغ النساء في قلة الحياء إلى أن يُعْلِنَ حتى يشهده أربع، والغالب عليهن ألا يخالطن هذا القدر من العدد.
ثم الدلالة على دخول الكل - قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَ سَبِيلًا... ": ذكر لهن؛ على ما جرى به الذكر في القرآن، ثم جمع في التفسير بين الكل؛ ثبت أن الذكر قد يضمن الكل، وذلك يبطل تأويل من يصرف الآية إلى الأبكار من الإناث والذكور، ومتى يحتمل وجود الكل مثل ذلك بعد النكاح على إثر خلوة الأزواج بهن والاطلاع على ما فيه المسبة الدائمة، والعار اللازم لهن، ثم كشف ذلك لجميع محارمها، ثم خوف الانتشار به ظاهرًا، وكيف يحتمل في مثل تلك الحال إلى تمكن من ذكر بحضرة من ذكر دون أن ينضم إلى زوجها؟
فتأويل من وجَّهَ الآية إلى الأبكار خارج عن المعروف.
ثم المروي من السنة، ثم بما أجمع عليه أهل التأويل عمل صاحبه على هذا جهله بألا يجوز بيان نسخ حكم بينه الكتاب بالسنة، ويحكم على اللَّه - تعالى - وعلى رسوله بحجر هذا النوع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا...) الآية، ومعلوم أن عقوبة الزناة يتولاها الأئمة، فكأن الخطاب عليهم خرج، ثم قد أثبت الفاحشة منهن، ولم يأذن في إقامة عقوبتها حتى يستحضر أربعة فيشهدون بها؛ فعلى هذا أن ليس للأئمة تولي حد الزناة بعلمهم حتى يكون ثَمَّ شهود، وفي ذلك لزوم حق الستر إلى أقصى ما ينتهي إليه من إعلان الفعل من الزناة؛ إذ ذلك أمر معلوم فيما يحل ألا يفعل إلا في أحوال الخلوات التي تعلم حقيقة ذلك بالولد يكون، فأما
71
من حيث الكون دونه فإنما هو غالب الظن، فالذي لا يحل من ذلك أن يكون بحيث لا يعلم حقيقته أبدًا؛ يدل على ذلك جميع الأمور التي منها المباح أو المحظور: أن المحظور منه أبعد من الظهور والعلم به من المباح؛ فعلى ذلك أمر هذا مع ما زيد هاهنا ما جعل فيه من حد الزاني وجهين:
أحدهما: الزجر عن هتك هذا النوع من الستر حتى خرجت شهادة من رمى بذلك؛ بما هتك ستر اللَّه.
والثاني: فحش الشين بفاعل ذلك، ولزوم المسبة في صاحب ذلك، وذلك غاية معنى لزوم الشين، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ شَيْئا فَليَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّه، فَإِنهُ مَن أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَد اللَّه ". فإذا بلغ العمل الذي حده ما ذكرت من العقوبة، من نهاية الستر النهاية من الإعلان حتى أظهر ذلك الجماعة بفعل من يشينه فعله ما ذكرت، استحق ما ذكرت من العقوبة بجرأته على ذلك بحله، وبقلة حيائه، حيث أظهر الذي ذلك حقه الستر عقوبة ذلك الفعل، فألزم من إليه ذلك القيام به لله، ثم جعل اللَّه في ذلك الفعل عقوبات مختلفة على اختلاف أوقات الفعل وأهله، على ما علم من مصلحة الخلق بها، وزجرهم، وتكفيرهم بها.
ثم إن اللَّه - سبحانه وتعالى - جعل أول عقوبة الزنا في نوع من الخلق في الإسلام الحبس في البيوت، فهو - واللَّه أعلم - مخرج على أوجه:
أحدها: إنه كان الزنا في الابتداء في نوع ظاهر يكتسبون به عرض الدنيا في ذلك في الإماء حتى قال اللَّه - تعالى -: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ...) الآية، وحتى كانوا يدعون الأنساب في أولاد الزناة من الإماء، حتى بلغ من ظهور ذلك إلى أن يمازج به الحرائر في الطرق تعاميا عن حالهن؛ فنزل قوله - سبحانه وتعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ)، وإن كان هذا حالهم في ذلك الوقت غلب عليهم خوف مواقعة الزنا، وكذلك على الحرائر؛ لكثرة ما يرين أو يسمعن، وذلك معنى يبعث من شَرِهَت نفسه،
72
وقل تفكره في أمر عاقبته مما ينزل به أو يشينه، وقد ركبت هذه الشهوة في كل البشر، فخفف اللَّه عقوبته في الابتداء أن جعل فيه الحبس والإمساك في البيوت، ثم صار ذلك إلى الضرب؛ لما أن تحرج الناس وعظم ذلك في أعينهم، وجعل في الشتم به الحد؛ ليعرفوا عظم موقعه عند اللَّه وينتهوا عن فعله، وقد جعل في ذلك في بعض الأحوال الرجم، وهي الحال التي يزول فيها كل وجوه العذر، ويرتفع جميع معاني الشبه لعظيم أمره.
والثاني: أن السبب الباعث على ذلك قرب بعض لبعض، ومخالطة بعض ببعض على عظم الشهوة؛ فغلب عليهم الأمر، واستعدتهم الشهوة حتى واقعوا ذلك.
ثم في الحبس وجهان:
أحدهما: الكف عن المعنى الذي يدعو إليه من الاختلاط وتلاقي الأبصار.
والثاني: ما فيه من فضل ضجر وتضييق الحال؛ إذ جعل ذلك إلى الموت، فيكون في ذلك عقوبة من حيث الضجر، ومعونة على الكف عنه بالحبس حتى لا يقع بصر ذكر على أنثى وأنثى على ذكر.
والثالث: أن يكون في الحبس ترغيب الأرحام في الحفظ وإلزام القرابة بعض ما يزجر عن تضييع حقوق الرحم، ويدعو إلى القيام بالكفاية؛ إذ ضيق على الفاعل ذلك، وذلك يوجب قبل المواقعة الاستعلام عن الأحوال والجهد في الحفظ؛ إذ في ذلك بعض عقوبة أهل الاتصال من تكليف الإمساك والقيام بالكفاية؛ فيكون أبلغ في العفاف، وأقرب إلى الصلاح، وعلى مثل ذلك جعل أمر المعاقل؛ ليقوم أهل الصلاح في كل قبيلة في كف أهل الفساد عن الفساد، واللَّه أعلم.
ثم لما انقطعت العادة وقام الناس بالتعاهد، وتفرق الفريقان حتى لا يؤذن بالاجتماع، إلا أن يكون ثَمَّ مَنْ جُبِلَ على الإياس من ذلك وأنشئ على قطع الشهوة فيهن، فجعل في ذلك حد، وجعل في ذلك لهن سبيلا، وذلك - واللَّه أعلم - يخرج على أوجه، يجب التأمل في الوجه الذي سمى ما نسخ به اللازم في ذلك، وذكر فيما ذكر حد مرة ورجم ثانيًا، ومعلوم أن المجعول له السبيل، والرجم والحد أشد عليهم من الحبس، وقد رُوي عن نبي الرحمة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائة وَتَغْريبُ عَامٍ، والثيبُ بِالثيبِ يُجْلَدُ وُيرجَمُ " فهو - واللَّه أعلم - أن بهذه الشريعة خلى سبيلهن، لا أن أوجب على المحبوسات إقامة ذلك بما قد حبس بالزنا،
73
ولكن في هذا تخلية السبيل، على أنهن؛ إذا زنين فعل بهن ذلك على رفع الحبس عنهن إذا حبس بما لم يبين حد ذلك، فإذا بين زال ذلك ولا حد حتى يكون منها ذلك، فالسبيل المجعول لهن تخلية السبيل، ثم بين الحكم في الحادث.
ووجه آخر: أن السبيل في الحقيقة مجعول لمن كلف إمساكهن، وإن أضيف إليهن بما فيهن ضيق عليهم الأمر، وذلك كقوله - تعالى -: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، والإماء لا يؤتَين الأجر، لكن بما بمعنى فيهن ذكر الأجر، فأضيف إليهن، وعلى نحو ما أضيف أهل القرى إلى القرى بالتسمية، فأخرجت على تسمية القرى، وإذا كان المراد أهل ذلك في حق تسمية الأهل التذكير والقرية التأنيث، فكأنه جعل للمأمورين بالإمساك سبيلا في أن يقيموا الحد، ويزول عنهم مؤنة الإمساك والقيام بالكفاية.
والثالث: أن يكون في طول الحبس ضجر وضيق، وحيلولة بين المحبوس والشهوات كلها، وقطع ما بينه وبين الأحباب، وتحمل مثله بمرة أيسر على النفس وأهون من دوام الذل والقهر، ثم لا مخلص عن ذلك إلا بما في الأول يكون ثمرة؛ فلذلك سمي - واللَّه أعلم - ذلك سبيلاً لهن.
ثم دل الخبر الذي ذكرت على أمرين:
أحدهما: أن الحبس -وإن كان مذكورًا في النساء خاصة- فهو في جميع الزناة؛ لأنه قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللُّه لَهُن سَبِيلًا " ثم ذكر ما به جعل لهن السبيل، في الذكور والإناث، في المحصنين وغيرهم جميعًا؛ ليعلم أن الحكم يجمع الكل وإن كان الذكْرُ فيهن، وذلك كما ذكر حد المماليك في الإماء، وحد الزناة في قذف المحصنات، والحكم يجمع الذكر والأنثى من حيث اتفاق المعنى الذي له جعل، فمثله فيما نحن فيه.
والثاني: بيان نسخ المذكور من الحكم في الكتاب بالسنة، وذلك لوجهين:
أحدهما: أنه لم يوجد على الترتيب الذي ذكر في القرآن مع ما ذكر تخلية السبيل، وليس بمذكور في شيء من القرآن؛ ثبت أن ذلك كان بوحي غير القرآن.
والثاني: أنه - عليه السلام - قال: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني " ثم أخبر عن جعل اللَّه لهن السبيل؛ فدل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني " أنه بيان اللَّه، وهكذا معنى النسخ
74
أن بيان جعل اللَّه مدة حكم الأول بما يحدث فيه الحكم، وليس قول من يقول في هذا في القرآن وعد بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) - معنى؛ لأن كل شيء في حكم اللَّه أنه ينسخه، فالوعد في حكمه قائم، إلا أن يقول قائل: لا يصدق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ببيان وعد الحكم، وإنما يصدق ببيان وعد الشرط؛ فيحتاج أن يحدث منه إيمانًا، واللَّه الموفق، مع ما إذا جاز أن يعد النسخ المذكور في القرآن حقيقة، لا فيه يجوز أن ينسخ المذكور حقيقته لا فيه.
وبعد، فإن من يقول هذا بعثه عليه جهله بمعنى النسخ: أنه البيان عن منتهى حكم المذكور من الوقت، ولا ريب أن لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بيان منتهى الحكم من النوع، فمثله الوقت.
ثم إذا كان هذا أول عقوبة في الإسلام؛ فثبت به نسخ الحكم بالتوراة والعمل إذا كان فيها الرجم، وقد ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما رجم بحكم التوراة، وقال: " أَنا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّة أَمَاتُوهَا ". وإذا ثبت أن ذلك حكم التوراة ثم ثبت نسخ حكمه، فلا يقام عليهم الرجم إلا بعد البيان مع ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهَ فَلَيسَ بِمُحْصَنٍ "، وأنه أخبر بالرجم في القرآن للمحصن.
وقال قوم: عقوبة الحبس في الإناث خاصة، وأما في الذكور ففيهم الأذى باللسان والتعزير بقوله - تعالى -: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا...) الآية، وهذا
75
قريب من حيث كانت النساء مكانهن البيوت، وأمكن حفظهن عن الزنا، وتسليمهن إلى الأزواج مرة والمحارم ثانيًا، والرجال إذا حبسوا تحولت مؤنهم إلى غيرهم، فتكون عقوبة فعلهم تلزم غيرهم، والراحة تكون لهم، وأمَّا النساء فمؤنهن في الأصل على غيرهنَّ، فليس في حبسهن زيادة على غيرهن، فذلك عقوبة لهن مع ما كان الرجال بحيث يمكن تعييرهم، وذلك أبلغ ما يزجر العقلاء، وقد يحتمل أن يكون ذلك في الرجال خاصة؛ إذ لا يذكر في عمل قوم لوط العقوبة، وقد علم اللَّه - سبحانه وتعالى - حاجة الناس إلى معرفة عقوبة ذلك؛ إذ قد جعل اللَّه - تعالى - في إتيان النساء حقوقا وحرمات وأحكامًا ليست في إتيان الذكور، عرف الخلائق تلك؛ فلم يحتمل أن يترك ذكر عقوبة للذكور في الزنا بعد أن فرق أحكام الأمرين؛ فيشبه أن تكون الآية على ذلك؛ وأيد ذلك عَزَّ وَجَلَّ أنه - سبحانه وتعالى - قال: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) ولم يذكر في ذلك جعل السبيل، وقد ذكر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك في كل أقسام الزنا، ثبت أن ذلك فيما ذكر، فتكون عقوبة الأولى في ذلك أخف من الحد، فكذلك عقوبة الثانية مع ما يكون فيما يؤذيان بتفريق، وهو تعزير، وذلك هو الباقي أبدًا إذا لم يظهر معنى النسخ، وأيد الذي ذكرت استواء الذكور والإناث في جميع عقوبات الزنا في قديم الدهر وحديثه من حدود المماليك والأحرار، والثيبات والأبكار، فعلى ذلك أمر تأويل الآية.
والنفي المذكور في الخبر يحتمل وجوهًا:
أحدها: ما ذهب إليه الخصوم من جعله عقوبة، وأنه النفي من البلد، لكن الحدود إذا جعلت كفارات قد جعلن زواجر، وفي الزنا بخاصة إذا أمر فيه بالحبس أريد قطع السبيل إليه، وفي الإشخاص والإخراج من البلدان تمكين، وذلك بعيد، واللَّه أعلم.
فعلى ذلك لو كان عقوبة فهو على الحبس، فينتفي عن وجوه الاجتماع على ما كان من قبل، فينتفي ذلك العذر منه؛ لظهور خشوع التوبة.
وقد يحتمل أن يراد بالنفي قطع الذكر ورفع المسبَّة، فينفى؛ لينسى ذلك؛ فلا يعير بذلك، وكذلك في الإماء ولا في الكفر؛ إذ ما فيهم من الذل أعظم مع ما لا يجب بسبِّ من ذكرت حد؛ ليعلم عظيم موقع ذلك في الأحرار، ولو كان على العقوبة فهو منسوخ بما
76
الآيتان ١٥ و١٦ وقوله تعالى :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ﴾، ﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ﴾ قيل كان هذان الحكمان في أول الإسلام : الأول منهما للمرأة والثاني : للرجل وقيل : إن آية الأذى كانت في الرجل والمرأة، وآية الحبس كانت في حبس المرأة، ويحتمل أن تكون آية الأذى في البكر في الرجل والمرأة جميعا، وآية الحبس في الثيب في الرجل والمرأة، ويحتمل أن تكون آية الأذى في الرجال خاصة في ما يأتي الذكر ذكرا على ما كان من فعل قوم لوط وآية الحبس في الرجال والنساء جميعا.
فإن كانت١ آية الأذى في الرجال خاصة ففيها حجة لأبي حنيفة رضي الله عنه حين لم يوجب على من عمل قوم لوط الحد، ولكن أوجب التعزير والأذى هو منسوخ إن كان في هذا وإن كانت في الأول فهي منسوخة.
ثم اختلف بما به نسخ فقال قوم نسخ بقوله ﴿ الزانية والزاني فاجدلوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ ( النور ٢ ) لكن عندنا : هذا يجوز أن يجمع بين حكميهما فكيف يكون به النسخ ؟ ولكن نسخ عندنا بالخبر، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ) ٢ قال : " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر والثيب بالثيب، البكر يجلد وينفى، والثيب يجلد ويرجم " ( مسلم ١٦٩٠ ) ففيه دليل حكم نسخ القرآن بالسنة، فإن قيل : في الآية دليل وعد النسخ بقوله :﴿ أو يجعل لهن سبيلا ﴾ فإنما صار منسوخا بما وعد الله في الآية من النسخ لا٣ بالسنة وقيل : ما من آية أو سنة كان من حكم الله النسخ إلا الوعد فيه النسخ، وإن لم يكن مذكورا لأن الله عز وجل لا يجعل الحكم في الشيء للأبد ثم ينسخ لأنه بدو، وذلك فعل البشر لا فعل الربوبية، فإذا كان ما ذكرنا فلا فرق بين أن ينسخه الوحي٤ يكون قرآنا يتلى ( والسنة فيها ) ٥ أخبار كثيرة روي أنه رجم ماعز إذ أقر بالزنى مرارا، ورجم أيضا غيره ( بما روي أن رجلا عسف آخر فزنى بامرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ٦ " سأقضي بينكما بكتاب الله تعالى " وقال ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ٧ " واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن هي اعترفت فارجمها " ( البخاري ٢٦٩٥ و٢٦٩٦ ).
وعن عمر رضي الله عنه قال :( خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. ألا وإن الرجم حق ( على من زنى، إذا أحصن الرجل والمرأة ) ٨ وقامت البينة أو اعترفا٩، وقد قرأناها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ).
وقال قوم : الرجم بين اليهود والنصارى كهو بين المسلمين كالجلد بالآية ولما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديا قيل : إنما رجم بحكم التوراة. إلا ترى أنه روي أنه دعا بالتوراة فأمرهم أن يقرؤوا عليه ف وضعوا أيديهم على الموضع الذي فيه ذكر الرجم فقرؤوا غيره. قال ابن سلام : إنهم كتموه يا رسول الله ثم قرأ هو : فأمر برجمه١٠ ولا شك أن القرآن نسخ حكم التوراة ذلك لم يقم عليهم الرجم. فإن قال قائل : إن الحد يقام على من عمل عمل قوم لوط بقوله تعالى :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ ( النور ٢ ) قيل : لا يحتمل وجوب الحد ذلك لأنه مختلف حكم من هذا في الحرمة ووجوب الرجم١١ وغير ذلك فلا يحتمل أن يعرف شيء بما١٢ يخالفه في جميع أحكامه وجميع الوجوه.
وقوله تعالى :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ في الآية دليل القياس لأنه ذكر الحكم في النساء ولم يذكر في الرجال ذلك الحكم وهما لا يختلفان في هذا الحكم لما يلزم المرأة في ذلك الفعل يلزم الرجل مثله دل ما ترك ذكره في المنصوص والانتزاع منه. وقال قوم : إن على الثيب الجلد والرجم جميعا ذهبوا في ذلك إلى ما روي عن عبادة ابن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه ) ١٣ قال : " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر يجلد، والثيب بالثيب يجلد ويرجم " ( مسلم ١٦٩٠ أوجب الرجم على الثيب.
وأما عندنا فإنه لا يوجب مع الرجم الجلد لما روينا من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم ماعزا ولم يذكر أنه جلده وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ) ١٤ قال : " واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " ( ٢٦٩٥ و٢٦٩٦ ) لم يذكر هنالك جلد والأخبار كثيرة في هذا، وروي انه قال : " من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله الذي ستره عليه فإن من أبدى لنا صفحة أقمنا عليه حد الله " ( مالك في الموطأ ٢/ ٨٢٥ ).
ثم يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم : " والثيب يجلد ويرجم " في اختلاف الأحوال : يجلد في حال ويرجم في حال أو يجلد ثيب ويرجم آخر لأنه لا كل ثيب يرجم لأنه إذا كان ثيبا غير محصن لا يرجم دل أنه ما ذكرنا أو يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم " البكر بالبكر يجلد وينفى، والثيب بالثيب ( يجلد ويرجم )١٥ " ( مسلم ١٦٩٠ ) أي البكر مع البكر، والثيب مع الثيب، فيكون ثيب يجلد وثيب آخر يرجم.
ثم اختلف أهل العلم في نفي البكر قال قوم : النفي ثابت واجب وعندنا إن كان فهو منسوخ ودليل نسخه ما روي في خبر زيد بن خالد ( الجهني ) ١٦، وكان الرجل بكرا، يذكر أنه نفي، وما وري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه نفى رجلا فارتد ولحق بالروم وقال : لا أنفي بعد هذا أبدا وما روي أنه قال :( كفى بالنفي فتنة ). وإن كان فهو عقوبة وليس بحد كحبس الدعارة وغيره والدليل على أن النفي ليس بحد أن الله سبحانه وتعالى قال في الإماء :{ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصن من العذاب( النساء ٢٥ ).
والأمة لا تنفى، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال : " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ثم إذا زنت فليجلدها ثم إذا زنت فليبعها ولو بضفر " ( البخاري ٢١٥٢ و٢١٥٤ ) أمر بجلدها ولم يأمر بالنفي ولو كان حدا لأمر به كما أمر بالجلد دل أنه ليس بحد في الحرة١٧ ولأنه أوجب على الإماء نصف ما اوجب على الحرائر ولا نصف للنفي دل أنه ليس بحد ولا يجب ذلك او إن كان فهو حبس وفي الحبس نفي فيحسبان١٨ أو ينفيان لينسيا ما أصاب لأن كل من رآهما يذكر فعلهما فينفيان لذلك لا أنه حد ولكن لينسيا ذلك ولا يذكر١٩.
وقوله تعالى أيضا :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ إلى قوله :﴿ فإن تابا وأصلحا ﴾ ( النساء ١٥ و١٦ ) يخرج على وجهين لو كانت الآيتان في الزنى.
أحدهما : أن يكون في جميع الإناث الحبس وفي الذكور الإيذاء ولذلك جميع من الجميع في الخبر الذي به النسخ فارتفع الحبس والأذى جميعا وذلك تأنيب الرجل به أزجر له، وحبس المرأة أقطع لوجوه الزنى.
والثاني :٢٠ ان تكون الآية الأولى في المحصنات على تضمن المحصنين بالمعنى والآية الثانية في الذكور والإناث ( على تضمن الإناث ) ٢١ بالمعنى لكن جرى الذكر على ما ظهر من فضل صيانة الأبكار في الإناث إما تدينا أو حياء افتضاح٢٢ أو بما الغالب عليهن الصون من المحارم والحفظ عن قرب الذكور ليس من شيء من ذلك في الذكور ولا في الثيبات من النساء٢٣ على أنه بعيد بلوغ النساء في قلة الحياء إلى أن يعلن حتى يشهده أربعة٢٤ والغالب عليهن ألا يخالطن هذا القدر من العدد.
ثم الدلالة على دخول الكل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا " ذكرهن على ما جرى به الذكر في القرآن ثم جمع في التفسير بين الكل ثبت أن الذكر قد يضمن الكل وذلك يبطل تأويل / ٨٤- أ/ من يصرف الآية إلى الأبكار من الإناث والذكور ومتى يحتمل وجود ( الكل ) ٢٥ مثل ذلك بعد النكاح على إثر خلوة الأزواج بهن والاطلاع على ما فيه المسبة الدائمة والعار اللازم له ثم كشف ذلك لجميع محارمها ثم خوف الانتشار به ظاهر وكيف يحتمل في مثل تلك الحال إلى ممكن من ذكر دون أن ينضم إلى زوجها ؟
فتأويل من وجه الآية إلى الأبكار خارج عن المعروف ثم المروي عن السنة ثم ( ما )٢٦ أجمع عليه أهل التأويل عمد صاحبه على هذا جهله بألا يجوز بيان نسخ حكم بينة الكتاب بالسنة ويحكم على الله تعالى وعلى رسوله بحجر هذا النوع.
وقوله عز وجل :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا ﴾ الآية ومعلوم أن عقوبة الزناة يتولاها الأئمة فكان الخطاب عليهم خرج ثم قد ثبتت٢٧ الفاحشة منهن ولم يأذن في إقامة عقوبتها حتى يستحضر أربعة فيشهدوا٢٨ بها. فعلى هذا أن ليس للأئمة تولي حد الزناة بعلمهم حتى يكون ثم شهود. وفي ذلك لزوم حق الستر إلى أقصى ما ينتهى إليه الفعلان من الزناة إذ ذلك أمر معلوم في ما يحل ألا يفعل إلا في أحوال الخلوات التي تعلم حقيقته ذلك بالولد يكون فأما من حيث الكون دونه فإنما هو غالب الظن فالذي لا يحل من ذلك أن يكون بحيث لا تعلم حقيقته أبدا. يدل ذلك جميع الأمور التي منها المباح والمحظور إذ المحظور منه أبعد من الظهور والعلم من المباح.
فعلى ذلك أمر هذا مع ما أيد ما جعل من هذا الرمي وجهين :
أحدهما : الزجر عن هتك هذا النوع من الستر حتى خرجت شهادة من رمى بذلك بما هتك ستر الله.
والثاني : فحش الشين بفاعل ذلك لزوم المسبة في صاحب ذلك وذلك معنى لزوم الشين، وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال : " من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من أبدى صفحة أقمنا عليه حد الله " ( الموطأ ٢/ ٨٢٥ ) فإذا بلغ العمد الذي حده ما ذكرت من العقوبة من نهاية الستر النهاية من الإعلان حتى ظهر ذلك للجماعة يفعل ما يشينه فعله ما ذكرت استحق ما ذكرت من العقوبة بجرأته على ذلك، وبقلة٢٩ حيائه حين أظهر الذي ذلك حقه الستر عقوبة ذلك الفعل، فألزم من إليه ذلك القيام به لله. ثم جعل الله في ذلك عقوبات مختلفة على اختلاف أوقات الفعل وأهله على ما علم من مصلحة الخلق بها وزجرهم وتفكيرهم بها. ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل أول عقوبة الزنى من نوع من الخلق ظاهرا يكسبون به عرض الدنيا في٣٠ ذلك في الإماء حتى قال تعالى :﴿ ولا تكرهوا فتاتيكم على البغاء ﴾ الآية ( النور ٣٣ ) وحتى كانوا يدعون الأنساب في أولاد الزنى من الإماء حتى بلغ ظهور ذلك إلى أن يمازح به الحرائر في الطرق تعاميا عن حالهن فنزل قوله سبحانه وتعالى :﴿ يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ﴾ ( الأحزاب ٥٩ ).
وإن كان هذا حالهم في ذلك الوقت فعليهم٣١ خوف مواقعة الزنى وكذلك لكثرة ما يرين٣٢ أو يسمعن وذلك ( في وجهين :
أحدهما ) ٣٣ : معنى يبعث من شرهت نفسه وقل٣٤ تفكره في أمر عاقبته مما ينزل به أو يشينه وقد ركبت هذه الشهوة في كل البشر فخفف الله عقوبته في الابتداء أن جعل في الحبس والإمساك في البيوت ثم صار ذلك إلى الضرب لما يخرج الناس من بيوتهم ويعظم٣٥ ذلك في أعينهم وجعل في الشتم به الحد ليعرفوا عظم موقعه عند الله وينتهوا٣٦ عن فعله.
وقد جعل في ذلك في بعض الأحوال الرجم وهي الحال التي يزول فيها كل وجوه العذر وترتفع جميع معاني الشبه لعظم أمره.
والثاني : أن السبب الباعث على ذلك قرب بعض ببعض ومخالطة بعض ببعض على عظم الشهوة فغلب عليهم الأمر واستعدتهم الشهوة حتى واقعوا ذلك.
ثم في الحبس ( وجوه :
أحدهما ) ٣٧ : الكف عن المعنى الذي يدعو إليه من الاختلاط وتلاقي الأبصار.
وا
١ في الأصل و م: كان..
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ من م في الأصل: وإلا..
٤ في الأصل و م: بوحي..
٥ في الأصل و م: وفيه..
٦ في الأصل و م: ما روي عن عسيف الرجل زنى بامرأة وقال انظر المسند ٤/١١٥..
٧ ساقطة من الأصل و م..
٨ في الأصل و م: إذا أحصن الرجل..
٩ في الأصل و م: اعترف..
١٠ في الأصل و م: يرجمهم..
١١ من م في الأصل: المهر..
١٢ في الأصل و م: لما..
١٣ ساقطة من الأصل و م..
١٤ ساقطة من الأصل و م..
١٥ ساقطة من الأصل و م..
١٦ ساقطة من الأصل و م..
١٧ في الأصل و م: الحر..
١٨ في الأصل و م: فيحبس..
١٩ في الأصل و م: يذكر..
٢٠ في الأصل و م: أو..
٢١ من م ساقطة من الأصل..
٢٢ في م الافتضاح..
٢٣ في الأصل و م: الناس..
٢٤ في الأصل و م: أربع..
٢٥ من م ساقطة من الأصل..
٢٦ ساقطة من الأصل و م..
٢٧ في الأصل و م: اثبت..
٢٨ في الأثل و م: فيشهدون..
٢٩ أدرج قبلها في الأصل و م: محله..
٣٠ من م في الأصل و في..
٣١ في الأصل و م: عليهم..
٣٢ في الأصل و م: يدين..
٣٣ ساقطة من الأصل و م..
٣٤ في الأصل و م: وقلة..
٣٥ في الأصل و م عظم..
٣٦ في الأصل و م: وانتهوا..
٣٧ في الأصل و م: وجهان أحدهما.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:الآيتان ١٥ و١٦ وقوله تعالى :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ﴾، ﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ﴾ قيل كان هذان الحكمان في أول الإسلام : الأول منهما للمرأة والثاني : للرجل وقيل : إن آية الأذى كانت في الرجل والمرأة، وآية الحبس كانت في حبس المرأة، ويحتمل أن تكون آية الأذى في البكر في الرجل والمرأة جميعا، وآية الحبس في الثيب في الرجل والمرأة، ويحتمل أن تكون آية الأذى في الرجال خاصة في ما يأتي الذكر ذكرا على ما كان من فعل قوم لوط وآية الحبس في الرجال والنساء جميعا.
فإن كانت١ آية الأذى في الرجال خاصة ففيها حجة لأبي حنيفة رضي الله عنه حين لم يوجب على من عمل قوم لوط الحد، ولكن أوجب التعزير والأذى هو منسوخ إن كان في هذا وإن كانت في الأول فهي منسوخة.
ثم اختلف بما به نسخ فقال قوم نسخ بقوله ﴿ الزانية والزاني فاجدلوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ ( النور ٢ ) لكن عندنا : هذا يجوز أن يجمع بين حكميهما فكيف يكون به النسخ ؟ ولكن نسخ عندنا بالخبر، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ) ٢ قال :" خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر والثيب بالثيب، البكر يجلد وينفى، والثيب يجلد ويرجم " ( مسلم ١٦٩٠ ) ففيه دليل حكم نسخ القرآن بالسنة، فإن قيل : في الآية دليل وعد النسخ بقوله :﴿ أو يجعل لهن سبيلا ﴾ فإنما صار منسوخا بما وعد الله في الآية من النسخ لا٣ بالسنة وقيل : ما من آية أو سنة كان من حكم الله النسخ إلا الوعد فيه النسخ، وإن لم يكن مذكورا لأن الله عز وجل لا يجعل الحكم في الشيء للأبد ثم ينسخ لأنه بدو، وذلك فعل البشر لا فعل الربوبية، فإذا كان ما ذكرنا فلا فرق بين أن ينسخه الوحي٤ يكون قرآنا يتلى ( والسنة فيها ) ٥ أخبار كثيرة روي أنه رجم ماعز إذ أقر بالزنى مرارا، ورجم أيضا غيره ( بما روي أن رجلا عسف آخر فزنى بامرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ٦ " سأقضي بينكما بكتاب الله تعالى " وقال ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ٧ " واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن هي اعترفت فارجمها " ( البخاري ٢٦٩٥ و٢٦٩٦ ).
وعن عمر رضي الله عنه قال :( خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. ألا وإن الرجم حق ( على من زنى، إذا أحصن الرجل والمرأة ) ٨ وقامت البينة أو اعترفا٩، وقد قرأناها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ).
وقال قوم : الرجم بين اليهود والنصارى كهو بين المسلمين كالجلد بالآية ولما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديا قيل : إنما رجم بحكم التوراة. إلا ترى أنه روي أنه دعا بالتوراة فأمرهم أن يقرؤوا عليه ف وضعوا أيديهم على الموضع الذي فيه ذكر الرجم فقرؤوا غيره. قال ابن سلام : إنهم كتموه يا رسول الله ثم قرأ هو : فأمر برجمه١٠ ولا شك أن القرآن نسخ حكم التوراة ذلك لم يقم عليهم الرجم. فإن قال قائل : إن الحد يقام على من عمل عمل قوم لوط بقوله تعالى :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ ( النور ٢ ) قيل : لا يحتمل وجوب الحد ذلك لأنه مختلف حكم من هذا في الحرمة ووجوب الرجم١١ وغير ذلك فلا يحتمل أن يعرف شيء بما١٢ يخالفه في جميع أحكامه وجميع الوجوه.
وقوله تعالى :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ في الآية دليل القياس لأنه ذكر الحكم في النساء ولم يذكر في الرجال ذلك الحكم وهما لا يختلفان في هذا الحكم لما يلزم المرأة في ذلك الفعل يلزم الرجل مثله دل ما ترك ذكره في المنصوص والانتزاع منه. وقال قوم : إن على الثيب الجلد والرجم جميعا ذهبوا في ذلك إلى ما روي عن عبادة ابن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه ) ١٣ قال :" خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر يجلد، والثيب بالثيب يجلد ويرجم " ( مسلم ١٦٩٠ أوجب الرجم على الثيب.
وأما عندنا فإنه لا يوجب مع الرجم الجلد لما روينا من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم ماعزا ولم يذكر أنه جلده وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ) ١٤ قال :" واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " ( ٢٦٩٥ و٢٦٩٦ ) لم يذكر هنالك جلد والأخبار كثيرة في هذا، وروي انه قال :" من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله الذي ستره عليه فإن من أبدى لنا صفحة أقمنا عليه حد الله " ( مالك في الموطأ ٢/ ٨٢٥ ).
ثم يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم :" والثيب يجلد ويرجم " في اختلاف الأحوال : يجلد في حال ويرجم في حال أو يجلد ثيب ويرجم آخر لأنه لا كل ثيب يرجم لأنه إذا كان ثيبا غير محصن لا يرجم دل أنه ما ذكرنا أو يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم " البكر بالبكر يجلد وينفى، والثيب بالثيب ( يجلد ويرجم )١٥ " ( مسلم ١٦٩٠ ) أي البكر مع البكر، والثيب مع الثيب، فيكون ثيب يجلد وثيب آخر يرجم.
ثم اختلف أهل العلم في نفي البكر قال قوم : النفي ثابت واجب وعندنا إن كان فهو منسوخ ودليل نسخه ما روي في خبر زيد بن خالد ( الجهني ) ١٦، وكان الرجل بكرا، يذكر أنه نفي، وما وري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه نفى رجلا فارتد ولحق بالروم وقال : لا أنفي بعد هذا أبدا وما روي أنه قال :( كفى بالنفي فتنة ). وإن كان فهو عقوبة وليس بحد كحبس الدعارة وغيره والدليل على أن النفي ليس بحد أن الله سبحانه وتعالى قال في الإماء :{ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصن من العذاب( النساء ٢٥ ).
والأمة لا تنفى، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال :" إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ثم إذا زنت فليجلدها ثم إذا زنت فليبعها ولو بضفر " ( البخاري ٢١٥٢ و٢١٥٤ ) أمر بجلدها ولم يأمر بالنفي ولو كان حدا لأمر به كما أمر بالجلد دل أنه ليس بحد في الحرة١٧ ولأنه أوجب على الإماء نصف ما اوجب على الحرائر ولا نصف للنفي دل أنه ليس بحد ولا يجب ذلك او إن كان فهو حبس وفي الحبس نفي فيحسبان١٨ أو ينفيان لينسيا ما أصاب لأن كل من رآهما يذكر فعلهما فينفيان لذلك لا أنه حد ولكن لينسيا ذلك ولا يذكر١٩.
وقوله تعالى أيضا :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ إلى قوله :﴿ فإن تابا وأصلحا ﴾ ( النساء ١٥ و١٦ ) يخرج على وجهين لو كانت الآيتان في الزنى.
أحدهما : أن يكون في جميع الإناث الحبس وفي الذكور الإيذاء ولذلك جميع من الجميع في الخبر الذي به النسخ فارتفع الحبس والأذى جميعا وذلك تأنيب الرجل به أزجر له، وحبس المرأة أقطع لوجوه الزنى.
والثاني :٢٠ ان تكون الآية الأولى في المحصنات على تضمن المحصنين بالمعنى والآية الثانية في الذكور والإناث ( على تضمن الإناث ) ٢١ بالمعنى لكن جرى الذكر على ما ظهر من فضل صيانة الأبكار في الإناث إما تدينا أو حياء افتضاح٢٢ أو بما الغالب عليهن الصون من المحارم والحفظ عن قرب الذكور ليس من شيء من ذلك في الذكور ولا في الثيبات من النساء٢٣ على أنه بعيد بلوغ النساء في قلة الحياء إلى أن يعلن حتى يشهده أربعة٢٤ والغالب عليهن ألا يخالطن هذا القدر من العدد.
ثم الدلالة على دخول الكل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا " ذكرهن على ما جرى به الذكر في القرآن ثم جمع في التفسير بين الكل ثبت أن الذكر قد يضمن الكل وذلك يبطل تأويل / ٨٤- أ/ من يصرف الآية إلى الأبكار من الإناث والذكور ومتى يحتمل وجود ( الكل ) ٢٥ مثل ذلك بعد النكاح على إثر خلوة الأزواج بهن والاطلاع على ما فيه المسبة الدائمة والعار اللازم له ثم كشف ذلك لجميع محارمها ثم خوف الانتشار به ظاهر وكيف يحتمل في مثل تلك الحال إلى ممكن من ذكر دون أن ينضم إلى زوجها ؟
فتأويل من وجه الآية إلى الأبكار خارج عن المعروف ثم المروي عن السنة ثم ( ما )٢٦ أجمع عليه أهل التأويل عمد صاحبه على هذا جهله بألا يجوز بيان نسخ حكم بينة الكتاب بالسنة ويحكم على الله تعالى وعلى رسوله بحجر هذا النوع.
وقوله عز وجل :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا ﴾ الآية ومعلوم أن عقوبة الزناة يتولاها الأئمة فكان الخطاب عليهم خرج ثم قد ثبتت٢٧ الفاحشة منهن ولم يأذن في إقامة عقوبتها حتى يستحضر أربعة فيشهدوا٢٨ بها. فعلى هذا أن ليس للأئمة تولي حد الزناة بعلمهم حتى يكون ثم شهود. وفي ذلك لزوم حق الستر إلى أقصى ما ينتهى إليه الفعلان من الزناة إذ ذلك أمر معلوم في ما يحل ألا يفعل إلا في أحوال الخلوات التي تعلم حقيقته ذلك بالولد يكون فأما من حيث الكون دونه فإنما هو غالب الظن فالذي لا يحل من ذلك أن يكون بحيث لا تعلم حقيقته أبدا. يدل ذلك جميع الأمور التي منها المباح والمحظور إذ المحظور منه أبعد من الظهور والعلم من المباح.
فعلى ذلك أمر هذا مع ما أيد ما جعل من هذا الرمي وجهين :
أحدهما : الزجر عن هتك هذا النوع من الستر حتى خرجت شهادة من رمى بذلك بما هتك ستر الله.
والثاني : فحش الشين بفاعل ذلك لزوم المسبة في صاحب ذلك وذلك معنى لزوم الشين، وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال :" من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من أبدى صفحة أقمنا عليه حد الله " ( الموطأ ٢/ ٨٢٥ ) فإذا بلغ العمد الذي حده ما ذكرت من العقوبة من نهاية الستر النهاية من الإعلان حتى ظهر ذلك للجماعة يفعل ما يشينه فعله ما ذكرت استحق ما ذكرت من العقوبة بجرأته على ذلك، وبقلة٢٩ حيائه حين أظهر الذي ذلك حقه الستر عقوبة ذلك الفعل، فألزم من إليه ذلك القيام به لله. ثم جعل الله في ذلك عقوبات مختلفة على اختلاف أوقات الفعل وأهله على ما علم من مصلحة الخلق بها وزجرهم وتفكيرهم بها. ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل أول عقوبة الزنى من نوع من الخلق ظاهرا يكسبون به عرض الدنيا في٣٠ ذلك في الإماء حتى قال تعالى :﴿ ولا تكرهوا فتاتيكم على البغاء ﴾ الآية ( النور ٣٣ ) وحتى كانوا يدعون الأنساب في أولاد الزنى من الإماء حتى بلغ ظهور ذلك إلى أن يمازح به الحرائر في الطرق تعاميا عن حالهن فنزل قوله سبحانه وتعالى :﴿ يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ﴾ ( الأحزاب ٥٩ ).
وإن كان هذا حالهم في ذلك الوقت فعليهم٣١ خوف مواقعة الزنى وكذلك لكثرة ما يرين٣٢ أو يسمعن وذلك ( في وجهين :
أحدهما ) ٣٣ : معنى يبعث من شرهت نفسه وقل٣٤ تفكره في أمر عاقبته مما ينزل به أو يشينه وقد ركبت هذه الشهوة في كل البشر فخفف الله عقوبته في الابتداء أن جعل في الحبس والإمساك في البيوت ثم صار ذلك إلى الضرب لما يخرج الناس من بيوتهم ويعظم٣٥ ذلك في أعينهم وجعل في الشتم به الحد ليعرفوا عظم موقعه عند الله وينتهوا٣٦ عن فعله.
وقد جعل في ذلك في بعض الأحوال الرجم وهي الحال التي يزول فيها كل وجوه العذر وترتفع جميع معاني الشبه لعظم أمره.
والثاني : أن السبب الباعث على ذلك قرب بعض ببعض ومخالطة بعض ببعض على عظم الشهوة فغلب عليهم الأمر واستعدتهم الشهوة حتى واقعوا ذلك.

ثم في الحبس ( وجوه :

أحدهما ) ٣٧ : الكف عن المعنى الذي يدعو إليه من الاختلاط وتلاقي الأبصار.
وا
١ في الأصل و م: كان..
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ من م في الأصل: وإلا..
٤ في الأصل و م: بوحي..
٥ في الأصل و م: وفيه..
٦ في الأصل و م: ما روي عن عسيف الرجل زنى بامرأة وقال انظر المسند ٤/١١٥..
٧ ساقطة من الأصل و م..
٨ في الأصل و م: إذا أحصن الرجل..
٩ في الأصل و م: اعترف..
١٠ في الأصل و م: يرجمهم..
١١ من م في الأصل: المهر..
١٢ في الأصل و م: لما..
١٣ ساقطة من الأصل و م..
١٤ ساقطة من الأصل و م..
١٥ ساقطة من الأصل و م..
١٦ ساقطة من الأصل و م..
١٧ في الأصل و م: الحر..
١٨ في الأصل و م: فيحبس..
١٩ في الأصل و م: يذكر..
٢٠ في الأصل و م: أو..
٢١ من م ساقطة من الأصل..
٢٢ في م الافتضاح..
٢٣ في الأصل و م: الناس..
٢٤ في الأصل و م: أربع..
٢٥ من م ساقطة من الأصل..
٢٦ ساقطة من الأصل و م..
٢٧ في الأصل و م: اثبت..
٢٨ في الأثل و م: فيشهدون..
٢٩ أدرج قبلها في الأصل و م: محله..
٣٠ من م في الأصل و في..
٣١ في الأصل و م: عليهم..
٣٢ في الأصل و م: يدين..
٣٣ ساقطة من الأصل و م..
٣٤ في الأصل و م: وقلة..
٣٥ في الأصل و م عظم..
٣٦ في الأصل و م: وانتهوا..
٣٧ في الأصل و م: وجهان أحدهما.

جرت السنة في الإماء بحدهن من غير ذكر الحبس، وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، والمذكور في الثيب يحتمل: يجلد في حال ويرجم في حال؛ إذ لا كل ثيب يجلد، وإن كان ثم نسخ بما ذكر من خبر ماعز وغيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآذُوهُمَا) قيل: فآذوهما، بالحد.
وقيل: فآذوهما بالتعيير (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا) كُفوا عن ذلك. وقيل: سبوهما، لكن ذا قبيح، والتعيير أقرب.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)
يحتمل قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ) كذا؛ أي: توفيق التوبة وهدايته على اللَّه - سبحانه وتعالى - إذا كانت نفسه ترغب فيها، وتميل إليها على اللَّه أن يوفقه على ذلك؛ إذا علم اللَّه منه أنه يتوب.
ويحتمل قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) سبحانه وتعالى أي: قبول التوبة على اللَّه - تعالى - إذا تاب ورجع عما كان فيه وارتكبه.
وفي قوله -أيضًا-: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) لمن ذكر، يحتمل قبولها بمعنى أن الذي
77
لا يُسَوِّفُ التوبة ولا ينتظر بها وقت المنع عن ركوب ما عنه يتوب والإياس من إمكان العود إلى ما عنه يتوب، فاللَّه يقبلها إذا كان ذلك دأبه وعادته.
وإن بلغ هو ذلك الضيق بأمر دفع إليه، أو كان يتوب من قريب من الذنب بألا يستخف به؛ فيترك الرجوع؛ لقلة مبالاته به، فلا يقبلها ممن هذا وصف توبته، وحال استخفافه بالذنب.
والثاني: أن يكون توفيق التوبة والهداية إليه ممن يفزعه ذنبه ويبعثه على الرجوع إلى اللَّه، والتعرض لرحمته وإحسانه، ولا يوفق من لا يبالي بالذي يذكر ولا يتضرع إليه.
وقيل: الأول في الصغائر، والثاني في الكبائر، والثالث في الكفر: بأن صاحب الصغيرة أرق قلبًا وأخص ذكرًا له ورجوعًا إلى ربه، وصاحب الكبيرة أقسى قلبًا من الأول وأظلم، فهو لا يندم إلا بعد شدة، وبعد طول المحنة وضيق القلب، فليس على اللَّه قبول توبة من يتوب في تلك الحال، ولا توبة من بأن منه ما يأمله بالذي عليه قبول ذلك، ولكن بفضله وبرحمته يقبل ويوفق له بما كان منه من الخيرات والحسنات التي هُن أسباب التقريب إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - والكافر لا يقبلها؛ إذ هو لا يتوب حتى يموت؛ فيستيقن بالعذاب، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن تكون هذه الأجرة في الكفار؛ فيكون فيهم من يظهر التوبة عند الضرورة والدفع إلى الحال التي يزول عنه وسع الإمكان، ويأنس من الإمهال؛ ليصل إلى ما كان له يذنب، فاللَّه لا يقبل توبته؛ إذ ليست في الحقيقة تَوْبَةُ مَمكَّنٍ، بل توبة مضطر، وتوبة دفع ما حل به، إذ هو وقت يشغل عن الاستدلال، وعن الوقوف على الأسباب من جهة التأمُّل والنظر، ولا يرى غير الذي أقبل عليه يظن أن له الخلاص بالذي يبدّل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)
78
هذا -أيضًا- يحتمل وجهين:
يحتمل جهل الفعل؛ فيقع فيه من غير قصد.
ويحتمل: قصد الفعل، والجهل بموقع الفعل.
والعمل بجهالة يخرَّج على وجوه: يكون عن غلبة: تغلب عليه شهوته؛ فيعمل ذلك العمل على طمع منه أنه سيتوب من بعد، ويصير رجلاً صالحًا؛ على ما فعل إخوة يوسف، حيث قالوا: (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) ثم سماهم جهلة بذلك في آية أخرى، حيث قال لهم: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ).
ويحتمل العمل بالجهالة: هو أن يعمل على طمع المغفرة، ويتكل على رحمة اللَّه وكرمه.
ويحتمل العمل بالجهالة: جهالة عقوبة عمله على ذلك.
وكذلك الخطأ والنسيان على وجهين: خطأ الفعل: وهو الذي ليس بصواب ولا رشد.
وخطأ القصد عمد الفعل: وهو الذي قصد أحدًا فأصاب غيره.
والنسيان على وجهين -أيضًا-:
نسيان ترك: وهو الذي يجوز أن يضاف إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - بحال؛ كذلك الجهالة، واللَّه أعلم.
والأصل في الشيء المنسي أنه متروك، فسمي المتروك من الرحمة والكرامة منسيًّا؛ فتجوز الإضافة إلى اللَّه - تعالى - من هذا الوجه.
وقيل: نزل قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ...) الآية - في المؤمنين.
وقوله:
79
الكافرين.
وقيل: إنهما جميعًا في المؤمنين، والثالثة في الكفار.
وقيل: إن الأولى في المؤمنين، والثانية في المنافقين، والثالثة: في الكفار.
وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن اللَّه - تعالى - يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
ورُوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ تَابَ قَبلَ أَنْ تُغَرغِرَ نَفْسُهُ وُيعَايِنَ المَلَائِكَةَ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُ ".
والأصل في هذا أن توبة الكافر تقبل إذا كان توبته توبة اختيار، وأمَّا إذا كانت توبته توبة اضطرار ودفع فإنها لا تقبل أبدًا؛ كقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) إذا كان إيمانه إيمان دفع واضطرار عند معاينة العذاب فإنه لا يقبل أبدًا، وهو -أيضًا- كإيمان فرعون، حيث قال: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ...) الآية، لم يقبل إيمانه؛ لأنه إيمان دفع واضطرار؛ فعلى ذلك كل إيمان كان إيمان دفع واضطرار فإنه لا يقبل أبدًا، وكقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ).
وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ...) توبة تشريط، فلم تقبل؛ لأنه لم يقطع القول فيه قطعا.
وقيل: في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا
80
حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) هم الذين يتوبون عند معاينتهم الموت؛ أخبر أنه لا يقبل توبتهم؛ لأنهم يتوبون توبة دفع واضطرار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) لا تقبل توبتهم، لأنهم يتوبون في الآخرة؛ دفع العذاب عن أنفسهم؛ كقوله تعالى: (مَآ أَشْرَكْنَا)، و (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ).
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (١٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان يجوز لهم أن يرثوا النساء طوعًا؛ لأنه إنما نهي أن يرثوهن كرهًا، فكان فيه دليل جواز وراثتهن طوعًا.
وأما عندنا: فإنه ليس فيه دليل جواز وراثتهن طوعًا، وإن كان النهي إنما كان في حال الكره؛ لأن الأصل عندنا: أن ليس في حظر الحكم في حال دليل إباحته في حال أخرى، ولا في إباحته في حال دليل حظره في حالة أخرى، ولا في حله في حال دليل حرمته في حال أخرى، ولا في حرمته في حال دليل حله في حال أخرى، دليل ذلك قوله - تعالى -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ)، ليس على أن لهم أن يقتلوا إذا لم يخشوا الإملاق، وقوله: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، ليس فيه أنه لا يحل له؛ إذا لم يؤت أجورهن، وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً).
والقصة في الآية ما قيل: إن الرجل إذا مات وترك امرأة، كان أولياؤه أحق بامرأته من ولي نفسها: إن شاءوا تزوجوها وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يتزوجوها؛ فنزلت الآية في ذلك.
وقيل -أيضًا-: كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل أقبل أقرب الناس منه فيلقي على امرأته ثوبًا فيحدث نكاحها طوعًا وكرهًا؛ فنزلت الآية في ذلك.
81
والآية عندنا خرجت مخرج بيان التحريم على ما كانوا يفعلون؛ دليل ذلك قوله - تعالى -: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) نهي الأبناء أن ينكحوا ما نكح آباؤهم من النساء؛ فدل أن النهي كان في الحالين جميعًا: في حال الكره والرضا، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا...) الآية، تحتمل حرمة وراثتهن أبدًا، وأن ذكره " كرهًا " لأوجه:
أحدها: أن ليس في ذكر الحرمة في وجه أو ذكر الحكم في حال دلالة تخصيص الحال؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ)، وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -. (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، أنهن يحللن وإن لم يؤتين أجورهن، وإذا لم يصر ذلك شرطا صار كأنه قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا)، واللَّه أعلم.
والثاني: أن تكون الوراثة أبدًا تكون كرهًا ويجب الميراث سواء من فيه وله أولاد إذا كان وجه الوراثة، فذكره ذلك وغير ذلك سواء.
والثالث: أنهم كانوا يتوارثون النكاح، وهو أمر لا يحتمل الانقسام، ولا عند الاشتراك بالاستمتاع، فكان ذلك على تراض منهم لواحد.
أو أن، يكون فيما كانت الوراثة ترجع إلى واحد؛ فيكون ذلك له بحق النكاح لا الميراث، فإذا حرم النكاح في حق من يرث من الذكور -وهم الآباء والأبناء- فبطل الميراث لو كان يجوز أن يورث.
ثم دلت هذه الآية في قطع وراثة منافع الأبضاع، وملك الأبضاع أدوم من ملك الإجارات؛ فيجب أن يكون قطع الإجارات أولى.
ودليل آخر على بطلان الوراثة: أن المرأة قد ترث الميراث؛ فتكون وراثة بعض نفسها، فبطل من حيث يراد إثباته.
وقوله: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) اختلف فيه.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو معطوف على ما تقدم، وهو ما ذكرنا من الوراثة، نهى أن
82
يعضلوهن؛ ليُذْهِبُوا ما آتوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة؛ قيل: لم يكن يومئذ عقوبة؛ إذا أتت المرأة بفاحشة سوى أخذ المهور منها، وكانوا يمسكونها على الوراثة، فإذا أتت بفاحشة أخذ ما آتاها، ثم يسرحها.
فَإِنْ قِيلَ: إنما نهاها عن الوراثة؛ لأن الولي إذا ورثها ورثت هي نفسها؛ فيبطل بذلك، فالنهي لذلك.
قيل: لو كان لذلك فالمرأة إذا كانت ممن لا ترث عن الزوج مملوكة يجيء أن يحل ذلك؛ إذ لا وراثة ثَمَّ، فإذا لم يجز دل أنها خرجت على بيان التحريم، واللَّه أعلم.
وقيل: في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) على الابتداء، ليست على الأول، نهي الزوج أن يأخذ منها ما آتاها من المهر إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.
ثم اختلف في قوله - تعالى -: الفاحشة.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الزنا، وهو ما ذكرنا.
وقال آخرون: الفاحشة - هاهنا - هو النشوز، أي: إذا نشزت فلا بأس أن يأخذ منها ما آتاها.
وقيل: هو ما ذكره - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)، لا تأخذوا منه شيئًا: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، نهى الأزواج أن يأخذوا منهن شيئًا إلا عندما يخافا ألا يقيما حدود اللَّه، فحينئذ أباح أخذ ما افتدت به، فعلى ذلك قوله: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)، وهو ما ذكرنا من النشوز وخوف ترك إقامة حدود اللَّه؛ فعند ذلك أباح له أخذ ما آتاها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) اختلف فيه:
قيل: هو كقوله - تعالى -: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)
83
وكقوله - تعالى -: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ).
وقيل: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ): في كلامها، وبرها، والإنفاق عليها، والإحسان إليها والاجتناب عما لا يليق بها من الشتم والإيذاء، وغير ذلك.
(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يحتمل: بالفضل، ويحتمل: كما لو فعل بك مثل ذلك لم تنكره، بل تعرفه وتقبله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ) قيل فيه بوجهين:
قيل: كرهتم صحبتهن من قبحهن ودميمتهن، أو سوء خلقهن، فصبرتم على ذلك (وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)
قيل: يهب لكم منهن أولادًا تقر بهم أعينكم، أو يعطي لكم في الآخرة ثوابًا جزيلاً بصحبتكم إياهن.
وقيل في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ) أي: كرهتم فراقهن، ويجعل الله
84
في الفراق خيرا كثيرًا؛ كقوله - تعالى -: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ).
* * *
قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٢١) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (٢٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) والقنطار: قيل: مائة رطل.
وقيل في حرف ابن مسعود: " قنطارا من الذهب ".
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن كرهت امرأتك أو أعجبتك غيرها؛ فطلقت هذه وتزوجت تلك، فأعط هذه مهرها وإن كان قنطارًا.
والقنطار: اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار.
وقيل: القنطار ألف ومائتا دينار، فهذا على التمثيل، ليس على التقدير، ووجه النهي والوعيد في ذلك - واللَّه أعلم - ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إِنَّ النسَاءَ عِنْدَكُم عَوَان، اتخَذْتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُن بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى " فوعد - عَزَّ وَجَلَّ - الأزواج في غير آي من القرآن عن أخذ مهور النساء وغيرها من الأموال؛ لضعفهن في أنفسهن، والرجال هم القوامون عليهن؛ لئلا يبسط الأزواج في أموالهن؛ إشفاقًا عليهن، أو لما إذا أخذ منها مهرها تبقى تلك المنفعة بلا بدل، وذلك زنا؛ وعلى هذا يجيء ألا يجوز له أن يخلطها؛ لأنه إذا أخذ منها مهرها بقيت له المنفعة بلا بدل، لكنه أجيز له ذلك؛ لأنه تقلب في الملك، وكل من تقلب في ملكه ببدل يأخذه جاز له ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا)
قيل: ظلمًا بغير حق.
وقيل: إذا أراد طلاقها لا يضارها بكذب لتفتدي منه مهرها.
(وَإِثْمًا مُبِينًا): ويحتمل أن يكون البهتان والإثم واحدًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ... (٢١)
وقيل: الإفضاء: هو الجماع. والأشبه أن يكون الإفضاء: الاجتماع؛ لأنه أضاف إليهما جميعًا، فهو بالاجتماع أشبه وإليه أقرب؛ فيجب المهر بالاجتماع والخلوة بها، والجماع فعل الزوج، يضاف إليه خاصة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)
قيل: عقدة النكاح.
وقيل: هو ما ذكرنا في قوله - تعالى -: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
وقيل: الميثاق الغليظ ما ذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُم إِنَّمَا اتخَذْتُمُوهُن بأمَانَةِ اللَّه، وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُن بِكَلمِة اللَّه، وإنَهُنَّ عِنْدَكُم عَوَان لَا يَمْلِكْنَ مِنْ أَمْرِهِنَّ شَيئًا ".
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يَآ أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لَكُم عَلَى نِسَائِكُم حَقا، وإنَّ لَهُنَّ عَلَيكُم حَقًّا، وإنَّ مِنْ حِقكُمْ عَلَيهِنَّ أَلا يُوطِئنَ فُرُشَكُم، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأحَدٍ تَكْرَهُونَهُ، وَلَا يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مبُيَنةٍ، فَإِنْ هُن فَعَلْنَ ذَلِكَ فَقَدْ أَحَلَّ اللهُ لَكُم أَنْ تَضْرِبُوهُن ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ - يعني: غير شائن - وَإِنَّ مِنْ حَقهِن عَلَيكُمُ الكُسوَةَ والنَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ ".
وقيل: إن رجلا سأل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ماذا يحل لنا من نسائنا؟ وما يحرم علينا منهن؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حَرْثُكَ، فَأْتِهِ أنى شِئْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الوَجْهَ، وَلَا تُقَبحْهُ، وَلَا تَهْجُرهَا إِلا فِي بَيتِهَا، وَأَطْعِمْهَا إِذَا أَكَلْتَ، وَاكْسُهَا إِذَا اكْتَسَيتَ ".
وقيل: الميثاق الغليظ: ما أقروا به من قول اللَّه: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ (٢٢) حرم - اللَّه تعالى - على الأبناء نكاح نساء الآباء، وذلك أنهم كانوا يعملون في الجاهلية ما قيل في القصة: أن أبا قيس توفي فعمد ابنه - يقال له: محصن - فتزوج امرأة أبيه، فنهى اللَّه - تعالى - عن ذلك، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ).
وقيل: إن رجلًا من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خرج سالاًّ سيفه؛ فقيل له: ما شأنك؟ فقال: إن رجلاً تزوج بامرأة أبيه، فهذا إذا تزوجها مستحِلًّا لها، فهو يكفر لذلك: كأن قصد قتله؛ وكذلك حرم اللَّه - سبحانه وتعالى - على الآباء نكاح نساء الأبناء بقوله - تعالى -: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا): أي: إنكم إذا انتهيتم عن ذلك في الائتناف يغفر لكم ما قد سلف، وإن كان فاحشة
وقيل: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) قبل: التحريم.
(إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) أي: صار فاحشة في الإسلام:
(وَمَقْتًا) قيل: بغضًا.
(وَسَاءَ سَبِيلًا) أي: بئس المسلك تزوج نساء الآباء.
ويحتمل أن تكون الآية في الطلاق؛ إذ كان الرجل يطلق امرأته ثم يندم على طلاقها، فيتزوجها ابنه، فيمقت ذلك الأب ويبغض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَاءَ سَبِيلًا): أي: بئس السبيل نكاح امرأة أبيه، حيث مقت أبيه وبئس مقت أبيه المسلك.
* * *
قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٣)
وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ) إلى آخره، يحتمل وجهين: يحتمل: أي: حرم عليكم الاستمتاع بأمهاتكم وبناتكم وأخواتكم... وما ذكر، والجماع بهن.
ويحتمل: حرمة النكاح، أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، فإن كان هذا أراد، فلا يحرم النكاح لنفس النكاح، ولكن يحرم النكاح؛ لما به يوصل إلى الاستمتاع بالنساء، وإليه يقصد؛ فدل أنه يحرم الجمع بين الأختين في الاستمتاع في ملك اليمين، ولا يحرم الجمع بينهما في العقد.
ثم ذكر الحرمة في الأمهات والبنات والأخوات، ولم يذكر في الجدات فهُنَّ محرمات وإن علون، ولم يذكر في بنات البنات، فهُنَّ محرمات وإن سفلن.
88
فعندنا: أن ذكر الحرمة في الأمهات والبنات ذكر في الجدات وإن علون، وفي بنات البنات وإن سفلن؛ لأنه ذكر الحرمة في العمات والخالات، والعمات من ولد الجد، والخالات من ولد الجدات، فإنما ذكرت في الأولاد الحرمة، ثبت حرمة الجدات والأجداد، وكذلك ذكر الحرمة في الأخوات وبنات الأخوات، فالحرمة في بنات الأخ والأخوات لحرمة في الأخوات والإخوة، فعلى ذلك ذكر في الأمهات ذكر الحرمة في البنات وبنات البنات، لما ذكرنا.
أو أن يقال: إن بنات البنات بنات وإن سفلن، فدخلن في ذكر الحرمة نصًّا، وكذلك أم الأم أم، وإن علت، فدخلت في الخطاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ)
ذكر الأمهات من الرضاعة والأخوات، ولم يذكر البنات، قال بشر: إنما لم يذكر البنات من الرضاعة؛ لأنه لا يمكن من الرضاعة البنات؛ لذلك لم يذكر، وذلك اختلاف بيننا وبينه في لبن الفحل، فعندنا لبن الفحل محرم، وعند بشر لا يحرم لبن الفحل، ذكر اللَّه - سبحانه وتعالى - الحرمة في النسب بيننا وبَيّنَ بيان إحاطة وحقيقة، وذكر الحرمة في الرضاع، وبين بيان كفاية لا بيان إحاطة؛ فإما أن تركه للاجتهاد والاستنباط من المذكور، وقد أجمعوا جميعًا أن بنات الإخوة والأخوات من الرضاع كالذكر في أولادها؛ فعلى ذلك يجب أن يكون ذكر الحرمة في الأمهات من الرضاعة ذكرًا في بناتها، أو ترك بيان ذلك للسنة: روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يَحْرُمُ مِنَ الرضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ "، وما روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: جاء عمِّي من الرضاعة، فاستأذن عليَّ، فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فجاء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسألته عن ذلك؟ فقال: " إنَه عَمُّكِ، فَأذَني لَهُ " فقلت: يا رسول اللَّه، إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل؟! فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنهُ عَمُّكِ، فَلْيلِجْ عَلَيكِ " فقالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: وذلك بعد أن ضرب علينا الحجاب.
89
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - سئل عن رجل له امرأتان، أو جارية وامرأة، فأرضعت هذه جارية وهذه غلامًا، هل يصلح للغلام أن يتزوج الجارية؟ فقال: لا؛ اللقاح واحد.
وعن عمرة، عن عائشة - رضي اللَّه عنها -: أنها أخبرتها أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان عندها، وأنها سمعت رجلا يستأذن في بيت حفصة - رضي اللَّه عنها - قالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: فقلت: يا رسول اللَّه، هذا رجل يستأذن في بيتك، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أُرَاهُ فُلَانًا " - لعم حفصة من الرضاعة - فقالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: يا رسول اللَّه، لو كان فلان حيا - لعمها من الرضاعة - دخل عليَّ؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " نَعَم؛ إِنَّ الرضَاعَةَ تُحَرمُ مَا تُحَرمُ الوِلَادَةُ ".
وعن علي - رضي اللَّه عنه - قال: لا تنكح من أرضعته امرأة أبيك، ولا امرأة أخيك، ولا امرأة ابنك.
وعن عائشة - رضي اللَّه عنها -: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء فاستأذن عليها -وهو عمها من الرضاعة- بعد أن نزل الحجاب، قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبرته بالذي صنعت، فأمرني بأن آذن له عليَّ.
وحجة أخرى من النظر: بأن اللَّه - تعالى - حرم الابنة على أبيها، وعلى جدها، والابنة حدثت عن ماء الأب بعينه، ولم تحدث عن ماء الجد، ولكن الجد سبب ماء الأب الذي حدثت عنه الابنة، قال: فاللبن -وإن كان حدوثه من الأم- فإن سبب كونه هو الأب؛ فيجب أن تحرم المرأة التي أرضعتها امرأته عليه؛ إذا كان سببًا لذلك اللبن، كما يحرم المرضع إذا كان سببًا على التي أرضعته.
ثم بقيت مسألتان:
إحداهما: في التقدير، والأخرى في الحد.
90
أما في التقدير: فعموم قوله - تعالى -: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) لم يخص قدرًا دون قدر.
وروي عن عليٍّ وعبد اللَّه قالا: قليل الرضاع وكثيره سواء.
وعن ابن عَبَّاسٍ كذلك.
وعن عبد اللَّه بن عمر قال: الرضعة الواحدة تحرم.
فَإِنْ قِيلَ: رُويَ عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: كان فيما نزل عشر رضعات، ثم صرن إلى خمسٍ، فتوفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو فيما يقرأ.
فَإِنْ قِيلَ: لسنا نجد في القرآن آية الناسخ ولا آية المنسوخ، ولا يجوز أن يقال من القرآن شيء؛ فلا نترك ما نجده ثابتًا في القرآن، محفوظًا برواية لعلها قد غلطت فيها.
ورُويَ عنها أنها قالت: يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم.
وروي عنها -أيضًا-، أنها قالت: لا تحرم المصَّة والمصَّتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان: فذكر ذلك لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: حكم اللَّه أولى وخير، أو كلام نحو هذا من حكمها.
وعن عمرو بن دينار قال: سألت ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - فذكر شيئًا من الرضاع، فقال: لا نعلم إلا أن اللَّه - تعالى - حرم الأختين من الرضاعة، قال: فقلت: إن أمير المؤمنين ابن الزبير يقول: لا تحرم المصَّة والمصَّتان قال: فقضاء اللَّه خير من
91
قضائك وقضاء أمير المؤمنين. مع ما يحتمل قوله: لا تحرم المصة والمصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان؛ لما لم يتحقق بالمصة والمصتين أن اللبن قد صار في جوف الصبي ووصل إليه؛ فلذلك لم يحرم به.
وأما المسألة في الحد: أن الرضاع في الكبر لا يحرم عندنا، وما روي في خبر عائشة - رضي اللَّه عنها - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها، فرأى عندها رجلا، فتغير وجه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " مَنْ هَذَا؟ " قالت: إنه عمي من الرضاعة، فقال: " انْظُري مَا الرضَاعَةُ؟ إِنما الرضَاعَةُ مَنْ المَجَاعَةِ ". وما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الرضَاعُ مَا أنْبتَ اللحْمَ، وَأَنْشَز العَظْمَ "، وما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الرضَاعُ مَا فَتَّقَ الأَمْعَاءَ " وفتق الأمعاء، إنما يكون في الصغر؛ لأن أمعاء الصبي تكون ضيفة لا تحتمل الطعام لضيقها، وأما فتقها باللبن على ما وصفه - عَزَّ وَجَلَّ - لبنا خالصا سائغا للشاربين، فإذا كان غذاؤه إنما يكون باللبن -للمعنى الذي وصفنا- كانت كفاية مجاعته به، وكان هذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنما الرضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ " وكذلك ما روي: " الرضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللحْمَ وَأَنْشَزَ العَظْمَ " وفي الكبر لا ينبت اللحم، ولا ينشز العظم.
وروى زاذان عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
92
يقول: " الجَزعَةُ تُحَرِّمُ كَمَا يُحَرِّمُ حَولَانِ كَامِلَانِ " فإن ثبت هذا فهو الأصل في ذلك، والمعتمد عليه، فإن عورض بما في خبر سالم، حيث قال لها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ تَحْرُمِي عَلَيهِ " قيل: هذا يحتمل وجهين:
يحتمل: أن يكون ذلك لسالم خاصة دون غيره من الناس، فإذا كان كذلك لا يقاس عليه غيره.
ويحتمل: أن يكون منسوخًا بما روينا من الأخبار المرفوعة والموقوفة بإيجاب الحرمة بالقليل منه والكثير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ...) الآية.
اجتمع أهل العلم في " الربيبة " على أنها لا تحرم على الرجل الذي كان تزوج أمها وطلقها قبل الدخول بها أو ماتت، وإنَّمَا تحرم عليه إذا دخل بها.
واختلف في أم المرأة إذا لم يدخل بالابنة حتى بانت منه:
قال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: هي حرام عليه، كان دخل بالأم أو لم يدخل بها.
وقال آخرون: شرط الدخول في آخر القصة راجع إلى الربيبة والأم جميعًا، فما لم
يدخل بواحدة منهما حل له أن يتزوج بالأخرى إذا فارقها، وهو القياس الظاهر في الكتاب في أمر الشرط والثنيا أن يكون الشرط فيهما جميعًا؛ لأنه قال - تعالى -: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) ذكر أمهات النساء وربائب النساء، ثم شرط الدخول بهن، فيجب أن يكون الشرط لاحقًا بهما جميعًا.
93
وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هي بمنزلة الربيبة.
وعن جابر قال: ينكح أمها إن شاء.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أفتى في امرأة تزوجها رجل فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت، قال: لا بأس أن يتزوج أمَّها، فلما أتى المدينة رجع، فأتاهم فنهاهم عن ذلك، فقيل: إنها ولدت أولادًا، فقال: ولو ولدت.
إلى هذا يذهبون أُولَئِكَ، وهو الظاهر من الآية.
واحتج بعض أصحابنا في ذلك أن الثنيا الملحق في آخر الكلام ربما يلحق الكل، على ما تقدم من الكلام، وربما يقع على ما يليه، فلما كان غير ملحق على الكل من المذكور، وقع على ما يليه.
فَإِنْ قِيلَ: يلحق على ما تقدم من الذكر ما يحتمل ليس على ما يحتمل؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ...) إلى قوله: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ)، لم يلحق الكل، ولا وقع على ما يليه خاصة، ولكنه لحق على ما احتمل عليه، فعلى ذلك في هذا لم يلحق الكل؛ لأنه لا يحتمل، ووقع على الأم والرّبيبة؛ لأنه يحتمل.
واحتج أصحابنا - رحمهم اللَّه أيضًا - أن الحرمة قد تثبت بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ...) إلى قوله - تعالى -: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) فلا تستحل بالشك، وفي الربيبة لم تثبت إلا بالشرط؛ فلا تحرم بالشك.
وقيل -أيضًا-: إن الدخول لو كان شرطًا في الأم والربيبة جميعًا لاكتفي بذكر نساء
94
الأمهات والربائب، فنقول: أمهات نسائكم من ربائبكم اللاتي دخلتم بهن، ولم يَحْتَجْ إلى أن يذكر (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) على ما اكتفى بذكر الحرمة في الأنساب والرضاع في الأصول عن الشعوب، فلما لم يكتف بذلك، دل أن الربائب مخصوصات بالشرط دون الأمهات، ومما يبين ذلك أن الربيبة لو لم تذكر لم يجز أن يبقى من الكلام: وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن ولو لم يذكر الأمهات، فبقي من الكلام: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) - كان كلامًا تامًّا؛ فدل ذلك على أن قوله - تعالى -: (مِنْ نِسَائِكُمُ) وإنما هو في الربائب دون الأمهات.
وأصله: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَيما رَجُلٍ تَزَوجَ امْرَأَة فَطَلقَهَا قَبلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوجَ ابْنَتَهَا. وَأَيمَا رَجُلٍ تَزَوجَ امْرَأَةً فَطَلقَهَا قَبلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوجَ أُمَّهَا ".
وعن ابن عَبَّاسٍ وعمران بن حصين في " أمهات نسائكم "، قالا: هي مبهمة.
وقال أكثر أهل العلم: إذا تزوج الرجل امرأة ودخل بها، لم يجز له أن يتزوج ابنتها، وإن لم تكن ربيبة وفي بيته وحجره، وهي في ذلك بمنزلتها لو كانت في حجره يربيها.
وأجمعوا جميعًا: أن الجمع بين المرأة وأمها وابنتها في الجماع في ملك اليمين حرام.
وكذلك رُويَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن ذلك؟ فقال: ما أحب ذلك.
فإن قال قائل: إن الخطاب - كما ذكرت - يدل على أن الشرط في الدخول بالأمهات إنما هو بسبب الربائب، فما تنكر أن يكون حكم الأمهات حكم الربائب كما كان حكم
95
حلائل الأبناء حكم نساء الآباء؟ قيل: لا يجوز أن يقاس المنصوصات بعضها على بعض، وإنما يقاس ما لا نص فيه على المنصوص؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
ثم يجب أن ننظر أي حكمة أوجبت تحريم الجمع بين المحارم بين محارم الرجال ومحارم النساء؟
وروي عن أنس قال: إن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يكرهون الجمع بين القرائب في النكاح، وقالوا: لأنه يورث الضغائن، أو كلام نحو هذا؛ فقيل له: يا أبا حمزة، من منهم؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان، رضي اللَّه عنهم.
وروي مرفوعًا أنه قال: لا ينكح كذا على كذا، ولا كذا على كذا، فإنهن يتقاطعن.
ونراه قال: " لَا تُنْكَحُ المَرأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا ".
وروي في بعضها أنه يوجب القطيعة.
وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كره الجمع بين ابنتي عم، وقال: لا أحرم، ولكن أكره؛ لأنه يوجب القطيعة. فلم يحرم؛ لأن صلة القرابة فيما بينهما ليست بمفترضة، والصلة بين المحارم مفترضة، فإذا كانت مفترضة فالجمع بينهما يحمل على القطيعة؛ فحرم، وعلى ذلك في نساء الآباء وحلائل الأبناء إذا فارق واحد من هَؤُلَاءِ امرأته فلعله يندم على ذلك؛ فيريد العود إليها، فإذا تزوجها أبوه أو ابنه، أورث ذلك فيما بينهما الضغائن والقطيعة؛ لذلك حرم، واللَّه أعلم.
وكذلك هذا المعنى في الابنة، إذا طلقها ثم تزوج بأمها، حملها ذلك على الضغينة فيما بينهما.
وأمَّا إذا تزوج الأم، ثم فارقها قبل أن يدخل بها، حل له أن يتزوج بابنتها؛ لأن الأم تُؤْثر ابنتها على نفسها في المتعارف؛ فلا يحمل ذلك على القطيعة، والابنة لا تؤثر أمها على نفسها، بل تؤثر نفسها على أمها، كذلك كان ما ذكر.
وأمَّا إذا دخل بالأم لم يحل له أن ينكح بالابنة؛ لأنه يذكر استمتاع هذه في استمتاع
96
هذه؛ فيكون جامعًا بينهما في الاستمتاع؛ لذلك حرم.
ثم اختلف في الجماع والدخول بها إذا كان من غير رشد؛ قال أصحابنا - رحمهم اللَّه - يحرم كما يحرم الحلال، ويمنع نكاح الربيبة كما يمنع الحلال.
وقال قوم: لا يحرم، ولا يمنع نكاح الربيبة، واستدلوا في ذلك بقول اللَّه - تعالى -: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ) لأن اللَّه - تعالى - حرم ربائب النساء إذا دخل بالأمهات، والمزني بها ليست بزوجة للزاني؛ فلا تحرم ابنتها، لكنه لا حجة لهم في ذلك؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - ذكر الدخول بهن، ولم يذكر النكاح، ولا خص الدخول في النكاح، بل ذكر الدخول، وهو على كل دخول، رشدا كان أو سفاحًا، والسفاح أحق في الحرمة من الحلال؛ إذ حكمه أغلظ وأشد؛ فعلى ذلك في إيجاب الحرمة من الحلال يجيء أن يكون أشد وأغلظ، ولو كان ذكر الدخول - هاهنا - في النكاح لم يكن فيه ما يمنع وجوب الحرمة إذا كان في غير النكاح؛ ألا ترى إلى قول اللَّه - تعالى -: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) والربيبة التي لا تكون في حجر الرجل مثلها في الحرمة، ولم يجعل قوله - تعالى -: (فِي حُجُورِكُمْ) خصوصًا فيها دون ما أشبهها، وكذلك يجوز ألا يجعل قوله: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) خصوصًا الدخول بالزوجات دون ما أشبههن - وهن الموطوءات - مع ما ذكرنا أن ليس في الآية ذكر نسائنا؛ لذلك لم يكن فيه دليل الحظر في غيره.
وبعد: فإنا قد ذكرنا فيما تقدم أن ليس في حظر شيء في حال حظره في غير تلك الحال، والحرمة من ذلك الاستمتاع أنه إذا استمتع بإحداهما لم يكن له الاستمتاع بالأخرى، ولا يحل أن يتزوج بالأخرى؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَلْعُون مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا " ومعلوم أنه لا ينظر إلى فرجهما في وقت واحد، وإنما ينظر في وقتين، فهو - واللَّه أعلم - إذا نظر إلى فرج إحداهما ثم نظر إلى فرج أخرى يذكر نظره في فرجها في وقت نظره في فرج هذه، فهو كالقاضي وطره فيهما، كذلك في الزنا كهو في النكاح، واللَّه أعلم.
على أنهم أجمعوا: أن من وطئ أمَةً له لم يكن له أن يتزوج ابنتها؛ فدل أن الدخول بها في النكاح وفي غير النكاح سواء، وأنه محرم، وما أجمعوا عليه -أيضًا- أنه إذا وطئ امرأة في النكاح الفاسد لشبهة حرمت ابنتها عليه، وهو وطء حرام؛ فدل هذا على أن
97
التحريم إنما يكون بالاستمتاع بها لا غير.
وروي -أيضًا- عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرجِ امْرَأَةٍ لَم تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا ".
وعن عمران بن حصين في رجل زنى بأم امرأته قال: حرمت عليه امرأته.
وعن عبد اللَّه قال: لا ينظر اللَّه في رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها.
إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا، رحمهم اللَّه.
وقوله - تعالى -: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ...) الآية. الأصل: أن اللَّه - سبحانه وتعالى - بين المحرمات في الأنساب بيان الإبلاغ، وفي غير الأنساب بيان الكفاية؛ إذ بين في الأنساب الحرمة في الطرفين: في اللواتي علون وسفلن: نحو الأمهات والبنات، ثم في اللواتي يتصلن بالآباء والأمهات: نحو العمات والخالات، ثم في اللواتي يشركن الطرفين بالاسم: كالأخوات.
وذكر في الرضاع من الأنفس أحد الطرفين، وفي الشعوب ما يشركن الطرفين؛ على الاكتفاء بذكر طرف من الأنفس عن الطرف الآخر، وبذكر المشتركات من الشعوب؛ اكتفاء عن ذكر المنفردات؛ فعلى ذلك أمر الأنفس في خطاب الحرمات، فلما ذكر في ذلك الأمهات والبنات جميعا على ما ذكر في الواحد فيما كان المذكور في نوعه بحق الكفاية من البيان، لا بحق الإبلاغ؛ دل أن ذلك لما أريد به التفريق في الأمرين وأيد ذلك خبر عبد اللَّه بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأقاويل جماعة الصحابة مع ما كان في ذلك إمكان شبهة محضة؛ إذ لو اقتصر على إبداء الآيةِ الحُرمَة بالعقد لا يزال ذلك بالشك، على أن وجه الاعتبار الاستواء في الحرمة قبل الدخول؛ لتكون حرمة الابنة على الأم في زوجها حرمة الأم عليها على ما عليهما أمر الابن من الأب في زوجته، لكن فرق من حيث إساءة الرجل في الاختيار إذا اختار الأم على الابنة إن علم، أو الغفلة إن لم يكن علم، وحق مثله الزجر عنه، والتوبة عن مثله، فجعل له مفارقتها لابنتها، وقد يعلم بذلك قبل الدخول، على أن الدخول مذكر له ما كان بها في حال الاستمتاع بها،
98
وقد حرم ذلك الجمع حرمة أيدية ما ينبغي أن يجعل بما يذكر، وسبيل الحظر بالقلب، واللَّه أعلم.
وليس أمر الابن والأب هذا؛ إذ إليهما في الابتداء الاختيار والإيثار، وكل يؤثر الذي له على الذي هو لغيره، وفي النساء إنما يجب بعد الخطاب، وليس منهن عرض، لذلك لم يعتبر حالهن على أن الأمهات في العرف يؤثرن لَذَّات بناتهن على لَذَّاتهن؛ فلا يلحقهن في الفراق لأجل البنات غضاضة، ويلحق للبنات، فلذلك فرق.
وأمَّا بعد الدخول فهو موجب الحرمة، لا من حيث الإيثار؛ إذ من جهة حرام أو حلال يوجب ذلك؛ فلذلك اختلف الأمر أن قال بشر: دل تخصيص ذكر الأصلاب في حلائل الأبناء على رفع حرمة الرضاع، أو على ألا يكون الابن إلا من الصلب، ونحن نقول: لا دلالة فيه على ما ذكرنا، لو استدل به على الكون كان أقرب؛ إذا خص ذكر الأصلاب ولو لم يكن الابن إلا من الصلب لكان القول بحلائل أبنائكم كافيًا عن ذكر الأصلاب، مع ما فيه وجوب الإلحاق بقوله: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ... "، ومعلوم أن الحرمة من الولادة تلحقه وإن لم يكن منه حقيقة الولادة بما كان سببًا له، فكذلك يصير مرضعًا لما كانت هي مرضعة، وإن لم يكن منه حقيقة الإرضاع؛ لما كان هو سبب لما به ورود اللبن، وأيد ذلك أمر حلائل أبناء الأبناء، بل حلائل أبناء البنات، وإن لم يكونوا للصلب؛ للاتصال به بالنسب على البعد عما ذكرنا أحق، واللَّه أعلم، مع ما يجوز أن يقال: صار الرضاع ولادًا في الحكم بالخبر؛ فيصير للصلب بالحكم نحو قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ).
ثم قد يعتبر فيهم الولاء في الحجاب؛ لما جاء: " إِنَّ الوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ "، ويصير ذو نسب ورحم في الحكم ما ذكر من الخبر، فمثله الأول، مع ما قد قيل: إن فائدة ذكر الصلب ألا تتحقق حرمة حلائل أبناء التبني بالأصلاب؛ ولذلك قال - واللَّه أعلم - (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ)، وقوله - تعالى -: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) إلى قوله - تعالى -: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ)؛ إذ يحتمل الجمع في العقد، والجمع في الملك، والجمع في الاستمتاع ويحتمل الجمع في جنس الاستمتاع.
99
ويحتمل ألا يرجع المراد إلى معنى من ذلك، ولكن يرجع إلى الكل، ثم كان الاستمتاع بهما مرة واحدة غير ممكن، فإن كانت فيه حرمة فهو لمعنى هنالك يوجد في حال الجمع، لا أن الخطاب يأخذه؛ إذ هو غير ممكن وجوده، ولا يتهيأ احتماله؛ ليقصد بالخطاب نحوه، ولكن من خاطب يجوز أن يخاطب بما يجعل فيه تحريمه وإن لم ينص عليه في الخطاب، ثم الملك المطلق أو العقد المطلق قد يوجدان غير محرمين نحو عقده به ملك ملك يمين؛ فثبت أن المقصود لو كان ملكا أو عقدًا فهو مقيد؛ نحو ملك النكاح، أو عقد ملك النكاح، وقد أجمع على دخول هذا في حق الخطاب؛ إذ قد أجمع على أن من جمع بين الأختين في النكاح أنه لا يصح، وأجمعوا أنه لو تزوج بعقدين: أن نكاح الثانية فاسد من غير أن كان جمع في العقد، بل في الملك لو ثبت العقد في الثانية، وإذا ثبتت الحرمة بهذا العقد والملك لم يكن لعقد ملك اليمين ولا تملكه أثبت أنها لمعنى في ذلك، لا لنفس ملك أو عقد.
وبعد: فإنهما في إيجاب الحل واحدة، ثبت أن ذلك ليس للحل نفسه، ولا للملك، ولا للعقد؛ إذ كل ذلك على الانفراد لا يعمل هذا العمل؛ فيجب أن يكون المعنى من ذلك الاستمتاع، والجمع في الفعل به غير ممكن؛ فثبت أنه لمعنى قد وصف الجمع بالاستمتاع وذلك على وجوه:
أحدها: عقد الاستمتاع، وهو عقد النكاح؛ إذ عقد ملك اليمين قد يوجد ولا يوجب حق الاستمتاع، وملك النكاح؛ إذ هو لا يخلو من أن يوجب ذلك الحق، ثم كان نفس الاستمتاع بحقه أحق من الأسباب الموجبة له، والعدة مما يوجب الاستمتاع نفسه؛ فهي أحق أن تكون شرطا للمنع، بل هي أولى؛ إذ قد يمنع الاستمتاع بملك اليمين، ولا يمنع لحل ولا لملك ولا لسبب، فإذا وجب المنع في النكاح لما هو سبب له فهو لأن يجب بحقيقته أحق، وإن شئت قلت: إن لم يتفرد الخلق لنوع من السبب دون أن يشاركه غيره من الأسباب لزم أن يكون حقيقة السبب مجهولا، لا يطلق ما قد يثبت الحرمة إلا بيقين، واللَّه أعلم.
وأيضا إن عقدة النكاح قد حرم عليه وعليها، لكن الذي حرم عليه في محارمها عليها في الكل.
100
ثم معلوم أن يملك الزوج فيها ما به يحل لغيره من الفراق حضرة فعله، فلما دخل عجز عن ذلك بما أحدث له فيها الاستمتاع بها حقًا بعد الفراق أبقاها على ما سبق من الوصل بلا فراق؛ فعلى ذلك ما فيه من الحق؛ إذ ذلك واجب بما فيه الشرك على أنها في بقية ملك له بنكاح عملت فيها بقية ملكه عمل صلة ملكه فمثله فيه، وقد ألحق بعض من أنكر حرمة الجمع في العدة بالوطء حرمة ما نزل منها من اللبن على احتمال درور دونه، ودون الولد بما كان هو سببا في ذلك كانت حرمة العدة أحق بذلك.
فالأصل: أن الحرمة قد ثبتت بالنكاح، فلما وقعت الفرقة أشكل زوالها؛ فلا يزال بالشك مع ما في الإزالة تعليق الحرمة بالحل أو بالملك خاصة، وقد بينا وجوبها لا لتلك الوجوه.
ثم الأصل في النكاح: أن المقصود منه الاستمتاع، وبحله يحل هو، وبحرمته يحرم؛ فيجب أن يكون هو الأصل للتحريم والتحليل، وعلى هذا يحرم كثير من الإماء في حق الاستمتاع بهن، وإن لم يحرم فيهن الملك، ويحرم بالاستمتاع في ذلك، وإن كان الملك لا يوجب الحرمة؛ فإذا ثبت أن الاستمتاع أحق في التحريم، والعدة حق الاستمتاع - أوجبها، فيجب أن تكون هي محرمة؛ لذلك لم يجز نكاح الأخت فيها مع ما كانت موجبة الحرمة فيها أكثر مما يوجب في ملك اليمين، ثم كان الاستمتاع بملك اليمين يحرم الاستمتاع بالأخت، فالعدة التي هي مجعولة لتأكيد الحرمات وقطع المجعول للحل خاصة أحق أن يمنع، واللَّه أعلم.
وعلى ما بينا إذا ثبت أن الاستمتاع هو الأصل في التحريم، سواء له وقع من وجه يحل أو لا فيهن الحرمة حرمة الأنفس، لا حرمة الجمع؛ إذ لا أثر يقع له جمع.
ثم الأصل في ذلك أن تعلق الحرمات بالمحرم من الأعيان أظهر منه بالمحللة منها، ثم كان الاستمتاع بالأعيان المحللة توجب حرمة الأمهات والبنات فهو في المحرم أحق مع ما لا يخلو أن تكون الحرمة لا تجب إلا فيما يحل، فيجب ألا يجب في النكاح الفاسد، ولا في وطء جارية بعد وطء الابن، أو الملك فيهما أيضا زائل بالنسب، فيجب ألا
101
تجب الحرمة فيما لا يكون منه نسب، أو في وقت لا يتمكن، أو بإيجاب الحقوق، فيجب ألا تجب في مماسة الأمة دون الفرج، أو للاستمتاع خاصة؛ فيجب استواء حال السفاح والنكاح.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو كناية عن الجماع.
لكنه عندنا: الدخول بها: هو أخذه يدها في إدخالها في موضع الخلوة والجماع، لا نفس الجماع، كما يقال: فلان دخل بفلان موضع كذا، لا يراد به عين الدخول به المعروف، وهو أخذ اليد والدخول فيه؛ لذلك قلنا بأنه إذا أدخلها في موضع وخلا بها، وجب كمال المهر بظاهر الآية، ووجبت الحرمة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) كنى به عن الجماع من حيث لا يكون الجماع إلا بالدخول بها مكانًا يسترهما، وإلا فحقيقة الدخول بآخر ليس بجماع، ولا يصلح القول به مطلقًا دون ذكر المكان، إلا في المرأة بما يعلم أنها لماذا يدخل؟ وفيم يدخل؟ فجائز أن يكون في الحرمة على حق الكناية، والمراد منه الجماع، وجائز على حقيقة الدخول بها مكانًا لذلك؛ إذ هو الظاهر، وهذا الثاني يكون بأخذ يدها أو شيء منها؛ ليكون هو الداخل بها لا هي، ووجوده لا يكون إلا للشهوة؛ فيكون هو المذكور للحرمة، فإذا لم يظهر حقيقة المراد يجب الاحتياط في إيجاب الحرمة من كل وجه، أو تحقيق هذا؛ إذ هو أظهر له، وله أدلة ثلاثة:
أحدها: ما روي: " مَلْعُونْ مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا " أنه أوجب اللعن بالنظر، فلولا أن نظر الأول قد حرم الثاني لم يلحقه به اللعن، ثم النظر دون اللمس في العبادات والأحكام، فاللمس أحق في إيجاب الحرمة.
والثاني: ما بينا أن علة الحرمة الاستمتاع، ومعلوم أن معناه في القبلة والمباشرة أعلى منه في السبب الذي يقضي به الاستمتاع، وهو النكاح، وقد أوجب له، فالقبلة أحق أن يوجب لها، وذلك كما أوجب بسبب الحدث -وهو النوم- حكمه، ثم لا يجب إلا في
102
حال دون حال، وقد يجب لنفس الحدث على كل حال، فمثله سبب الاستمتاع من حقيقته، واللَّه أعلم.
والثالث: أن كل أنواع الاستمتاع في الحرمة والحل متصل بالجماع، وبخاصة في حقوق الأملاك؛ فعلى ذلك في فسخ الأملاك وتحريمها، على أنه يبعد أن يكون المرء يستمتع بالمرأة عاما ثم يستمتع بها ولدها، وكذلك بابنتها دون الفرج، أو أن يكون من لا يقدر على الإيلاج لِعِنَّةٍ أو جبٍّ يرتفع عنه الحرمة أبدًا، فيشترى أمّا وابنة ويستمتع بهما أبدًا، وذلك بعيد؛ فيجب الحرمة من الوجه الذي ذكرت.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ).
يحتمل ذكر الصلب وجوهًا:
أحدها: يحتمل أن يكون ذكر الصلب؛ ليعلم أن الحرمة في حليلة الولد كهو في الولد الصلب، وكذلك الحرمة في حليلة ابن الرضاع كهي في حليلة ابن الصلب؛ على ما كانت في محارم الرضاع، وإن لم يذكر: نحو أن ذكر أمهات الرضاع وأخواته، ولم يذكر غيرها، ثم دخل ما دون ذلك في الحرمة؛ فعلى ذلك هذا.
وقال بشر: دل تخصيص الأصلاب على فسخ حرمة حليلة الابن عن الرضاعة؛ إذ لا يكون من الرضاع ابن.
قلنا: لو لم يكن من الرضاع ابن لم يكن لذكر الصلب للابن معنى ولا فائدة؛ دل أنه يكون من الرضاع ابن على ما يكون من النسب، وأن الحرمة من الرضاع كهي في النسب، وإن كانوا في الحقوق مختلفين: نحو العتاق، يعتق بعض على بعض، ويوجب لبعض في أموال بعض النفقة، وحقوق بمثلها لا توجب في محارم الرضاع، وذلك - واللَّه أعلم - أن الرضاع انتفاع، والنسب حدوث نفس بعضهم من بعض، فإذا كان كذلك لم يوجب الرضاع إلا حرمة الانتفاع خاصة، وهو الاستمتاع، وأمَّا النسب فهو كون الولد منه، وحدوث نفسه منه؛ فأوجب مع ذلك حقوقًا، ولأن في إقرار بعضهم في يد بعض -مماليك وعبيدًا- قهرًا وغلبة لم يوجب ذلك؛ فما لم يحصل لبعضهم قهر بعض، لذلك كان الجواب ما ذكر.
وقيل: إنه ذكر أبناء الأصلاب؛ وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تزوج امرأة زيد بن حارثة بعد ما
103
طلقها، وقد كان تبناه، فعابه المنافقون على ذلك، وقالوا: تزوج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - امرأة ابنه، فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)
يحتمل قوله - سبحانه وتعالى -: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وجوهًا:
يحتمل الجمع بينهما في العقد، وقد أجمعوا: أنه إذا لم يجمع بينهما بالعقد ولكنه تزوج إحداهما، ثم تزوج أخرى، لم يحل له نكاح الأخرى؛ دل أنه لم يرد به الجمع في العقد.
أو يحتمل الجمع في الملك، وقد أجمعوا -أيضًا-: أن له الجمع بينهما في ملك اليمين؛ فدل أنه إنما أراد الجمع بينهما في الاستمتاع، وإذا استمتع بإحداهما بنكاح، ثم فارقها، لم يحل له أن يتزوج أختها، والأولى في عدة منه من طلاق بائن؛ لأن الاستمتاع هو الذي حبسها عن الأزواج؛ فكان كالجمع بينهما في الاستمتاع، ولأن المعنى الذي به حرم الجمع في ملك النكاح، ذلك إذا كانت في عدة منه موجود، وهو خوف القطيعة فيما بينهما، واللَّه أعلم.
ولأن أكثر أحكام الزوجات قائم فيما بينهما: نحو الإسكان، والإنفاق عليها، وإلحاق الولد، وغير ذلك من الحقوق.
وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فلم تنقض عدتها حتى تزوج أختها، ففرق عليٌّ بينهما، وجعل لها الصداق بما استحل من فرجها، وقال: تكمل الأخرى عدتها، وهو خاطب.
وعن زيد بن ثابت أنه سئل عن رجل تحته أربع نسوة، فطلق إحداهن ثلاثًا، أيتزوج رابعة؟ فقال: لا، حتى تنقضي عدة التي طلق.
وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - مثله.
واختلف في الجمع بين الأختين من ملك اليمين: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل
104
عن المرأة وأختها من ملك اليمين، هل توطأ بعد الأخرى؛ قال: ما أحب أن أجيزهما جميعًا، ونهى عنه.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حنث في الأختين من ملك اليمين، فقال: حمل أحدكم ملك اليمين.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يحرم من جمع الإماء ما يحرم من جمع الحرائر إلا العدد.
وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أنه سئل عن رجل له أمتان أختان، وقع على إحداهما أيقع على الأخرى؟ قال: لا ما دامت في ملكه.
وأجمعوا -أيضًا- على أنه إن تزوج بامرأة فاشترى أختها لم يحل له أن يطأها؛ إلى هذا ذهب أصحابنا؛ رحمهم اللَّه.
ثم إذا طلق امرأته وانقضت عدتها أو ماتت، حل له أن يتزوج أختها، ولم يحل له أن يتزوج بأمها، وذلك - واللَّه أعلم - بأن الحرمة في الأخت في نفسها وليس في ولدها، والحرمة في الأم والابنة في أنفسهما، وفي ولدها، فإذا كانت الحرمة في الأخت من وجه، وفي الأم من وجهين، ففيما كانت الحرمة من وجه كانت حرمة الجمع لا حرمة تأبيد، وفيما كانت من وجهين حرمة جمع وحرمة تأبيد؛ لأنها تأدت إلى أولادها، وفي الأخت لم يتأد؛ لذلك اختلفا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)
يحتمل: إلا ما قد سلف قبل التحريم في الجاهلية، فإنهم إذا انتهوا عن ذلك في الإسلام، يغفر اللَّه لهم.
ويحتمل قوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) وإن كان محرمًا في ذلك الوقت فإنهم إذا انتهوا عن ذلك بعد الإسلام يغفر ذلك لهم، ويتجاوز عنهم، فهم كما ذكرنا في قوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً).
105
يحتمل: كان في ذلك الوقت فاحشة.
ويحتمل: كان فاحشة، أي: صار فاحشة في الإسلام.
* * *
قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٢٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) اختلف في تأويله:
قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " والمحصنات عن النساء إلا ما ملكت أيمانكم " قال: ذات الأزواج من المسلمين والمشركين.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذات الأزواج من المشركين.
وذهب عبد اللَّه في تأويل الآية إلى أن بيع الأمة طلاقها؛ فيحل للمشتري وطؤها، وأسر الكتابية والمشركة يحلها لمولاها؛ وإن كان لها زوج في دار الحرب.
وذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أن الآية نزلت في المشركات.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كل ذات زوج إتيانها زنا؛ إلا ما سبيت.
وروي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وقعت في سهمي يوم أوطاس جارية، فبينا أنا أسوقها إذ رفعت رأسها إلى الحل فقالت: ذلك زوجي؛ فأنزل اللَّه - سبحانه وتعالى -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...) الآية، قال أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فاستحللنا فروجهن بها.
بيّن أبو سعيد الخدري، في حديثه أن الآية نزلت في المشركات ذات الأزواج،
106
وكأن حديثه يقوي قول علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن وافقه.
وقيل -أيضًا- في تأويل الآية: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ) قال: والمحصنات من النساء حرام على الرجال إلا ما ملكت يمينك، قال: ملك يمينه امرأته.
وعن أبي قلابة قال: ما سبيتم من النساء، إذا سبيت المرأة ولها زوج من قومها، فلا بأس أن يطأها.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) قال: لا يحل له أن يتزوج فوق أربع نسوة وما زاد عليهن، فهو عليه حرام كأمه وابنته وأخته: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) الإماء فإنه على أربع، وأكثر من أربع.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي اللَّه عنه -: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) هن نساءكنَّ نُصيبهن، يهاجرن ولا يهاجر أزواجهن، فمنعناهن في هذه الآية، ثم أنزل اللَّه - عز وجل - في الممتحنة: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، حللن لنا بعد أن نتزوجهن، وفيه نهى عن الزنا وأباح التزويج، فجعلوا ملك اليمين التزويج.
وأصح التأويلين وأولاهما بالقبول ما روي عن عليٍّ أبن أبي طالب - رضي اللَّه عنه -،
107
وابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، وظاهر القرآن يدل على أن ذلك هو الحق؛ لأن اللَّه - تعالى - قد فَصل في غير هذا الموضع بين التزويج وملك اليمين، فجعل ملك اليمين الإماء؛ ألا ترى إلى قوله: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) وقال: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)، فهاتان الآيتان تدلان على أن قول اللَّه - سبحانه وتعالى - في آية المحصنات: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) على غير الأزواج، كما روي عن الجماعة من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - الذين ذكرناهم، ثم الكلام بين علي وابن مسعود - رضي اللَّه عنهما - ونحن نعلم أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوجب على الأمة إذا باعها مولاها ولها زوج - العدة؛ إذا كان قد دخل بها، وأنها عنده لا تحل لمولاها حنى تنقضي عدتها، فلم يجعلها حلالا للمولى الثاني بملكه إياها؛ فكان قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أشبه بظاهر الآية؛ لأنه تأول الآية على متزوجة تحل بالملك لمولاها في حال الملك من قول عبد اللَّه؛ إذ جعلها محرمة وإن كانت مملوكة حتى تمضي عدتها.
وفي ذلك وجه آخر: وهو أن اللَّه - تعالى - قال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وعند اللَّه يحرمها على البائع ويحلها للمشتري، ولم يخص اللَّه - تعالى - أحدًا من المالكين.
وروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حمل الآية على امرأة كافرة متزوجة سبيت، فأحلها اللَّه - تعالى -: هي لمالكها، فلم تعرف من حال المملوكة، هذا مع موافقة الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وظاهر الآية يدل على أن المأسورة ذات الزوج لا عدة عليها، وهو قوله - تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ...) إلى قوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، فأمر ألا يردهن إليهم وينكحهن، فلما جاز أن يتزوج الحرة إذا خرجت مسلمة ولا عدة عليها، حلت إذا سبيت فملكت قبل أن تعتد.
والثاني: إنها كانت حرة، فأبطل السبي حكم الحرية والزوجية، فكذلك يبطل حكم العدة.
هذا كله إذا سبيت ولم يكن معها زوجها، فأما إذا سبيت وزوجها معها، فإن الفرقة لا
108
تقع بينهما؛ لأنها لو بانت من زوجها بانت للرق، والرق لا يمنع ابتداء النكاح كيف يعمل في فسخ نكاح ثابت؟ ولكن اختلاف الدارين هو الموقع فيما بينهما الفرقة؛ لفوت الاجتماع بينهما، وإذا فات الاجتماع بين الزوجين والإياس عن الانتفاع وقعت الفرقة فيما بينهما، وهذا يبطل قول من يقول: إنه تقع الفرقة فيما بينهما للرق.
والثالث: أن العدة حق من حقوق الزوج؛ يبين ذلك قول اللَّه - سبحانه وتعالى -: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)، فلا يجوز أن يبقى للحربي على المسلمة الخارجة إلى دار الإسلام حق، فإذا لم تكن عليها العدة لها أن تتزوج، وسبيل الأمة المسبية مسألة الحرة المسلمة؛ لأن حكم الإسلام قد جرى عليها؛ فحلت للمولى وإن كان لها في دار الحرب زوج.
ومن الدليل -أيضًا- على أن المسبية ذات الزوج يحل تزوجها ووطؤها لمولاها: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تزوج صفية بنت حيي بن أخطب في رجوعه من خيبر قبل أن يصل إلى المدينة، ومعلوم أنه كان لها زوج كبير، وأن عدتها منه لو كانت واجبة لم تنقض في تلك المدة؛ فهذا يبين ألا عدة على مسبية من زوجها المقيم في دار الحرب، ولا على مسلمة إذا خرجت من دار الحرب، وأقام زوجها هنالك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ...) الآية.
قيل فيه بأوجه ثلاثة:
أحدها: في المسبية ذات الأزواج، وكذلك روي عن عليٍّ وأبي سعيد الخدري - رضي اللَّه عنهما - فيكون فيه أمران:
أحدهما: الحرمة على الأزواج.
والثاني: ارتفاع العدة؛ إذ هما حقان للحربي، وحقه في نفسه لا يمنع الاسترقاق، ولو كانت حُرة الاستمتاع فمثله في زوجته، لكن يدخل على هذا سبي الزوج معها أن الرق قد ثبت فيهما ولم يبطل النكاح؛ فيجاب لهذا بوجهين:
أحدهما: الاستحسان من حيث يلزم المولى حق الإنكاح بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ...) الآية، فلم يبطل عليه التجديد، وليس هذا في سبي الزوجة؛
109
فلا تعفف لها به، وهو في دار الحرب.
والثاني: أن يكون الزوج وحق الرق إنما يجب إذا أخرج المرء من يد نفسه، والمملوك قد يكون له يد في النكاح، فكأنها لم تخرج من يده إذا سبي معها، وإذا لم يسبيا لا يكون لمن في دار الحرب يد في دار الإسلام.
وفي حق الآية عبارة أخرى: أنها إذا سبيت دونه انقطعت عنها عصمة الزوج، وقد جعل اللَّه - تعالى - انقطاع عصمته بسبب حل غيره؛ لقوله - تعالى -: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ...) إلى قوله (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)، وقد جعل ذلك في الزوج سببًا لقطع عصمته بقوله - تعالى -: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)، وعصمة الزوجين عصمة مشتركة، أيهما خرج مسلمًا خرج لئلا يعود، وكذلك المختلف يختلف لئلا يخرج؛ فبطلت العصمة بينهما، وأحل التناكح، ولو خرجا معًا لا، فمثله أمر السبي.
وتأويل آخر: أن يكون قوله - تعالى -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ...) الآية إلى قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ...) الآية، على ألا يحل وراء الأربع إلا ملك يمين، وعلى هذا في غير ذات الأزواج، وقد روي مثله عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - ويكون في ذلك بيان ما كانت حرمته من حيث العدد، ويختص في النكاح، فإن كان النكاح وملك اليمين فيما كانت الحرمة من حيث المنكوحة يستوي من حيث كانت حرمة العدد بحيث العقد بما فيه من الحقوق التي لا يقوم لها إلا بشر قد عصم، وملك اليمين لا يجب فيه ذلك، وما كانت الحرمة بحيث نفس المرأة تستوي لاستواء الملكين في حق الحل والحرمة.
ووجه آخر: قيل: المحصنات: هن الحرائر، وما ملكت أيمانكم بالنكاح، فذهب من يقول بهذا إلى ما لو لم يذكر " أيمان "، ولكن قال: " المحصنات من النساء إلا ما ملكتم "؛ فيكون التحريم في غير النكاح، لكنه بعيد على المعهود من الكلام أنه لا يتكلم به إلا في ملك اليمين خاصة، ويجوز جعل الأمرين من الإماء على خطر وطء الزانيات على الموالي، واختيار المتعففات منهن لمكان الأولاد.
110
وقوله - تعالى -: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)
قيل: كتب اللَّه عليكم ما ذكر مما مر في هَؤُلَاءِ الإناث.
وقال الكسائي: نصب كتاب اللَّه على قوله: حرم كذا وأحل كذا، كتاب اللَّه عليكم؛ على الأمر؛ يقول: عليكم كتاب اللَّه، ودونكم كتاب اللَّه، اتبعوا كتاب اللَّه، في نحو هذا المعنى.
وقيل: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) يقول: هذا حرام اللَّه عليكم في الكتاب.
وقيل: هذا التحريم من النكاح قضاء اللَّه عليكم في الكتاب.
وقوله - جل وعز -: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) اختلف فيه:
قيل: (مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) أي: ما سوى ذلكم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه؛ دليله قوله: (وَيَكفرونَ بِمَا وَرَآءَهُ)، أي: سواه.
وقيل: (مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) أي: ما قبله وأمامه، وهو كقوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ)، وهو كان أمامهم.
وقيل: (وَرَاءَ ذَلِكُمْ) أي: بعد ذلك وخلفه، وهو ظاهر.
ومن قال سوى ذلك يقول: أحل لكم ما سوى ذلكم الذي حرم عليكم ما لم يسم لكم.
ومن قال (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ): أمام ذلك وقبله، وهو ما ذكر قبل هذه المحرمات: قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ).
111
ومن قال: (مَا وَرَاءَ): بعد، أي: ما بعد الأربعة الأصناف المحرمة: المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاعة، والمحرمات بالصهر، والمحرمات بالجمع، يقول: أحل لكم ما بعد هَؤُلَاءِ الأربعة الأصناف.
وقيل في قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ): هن المتعففات من الإماء (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) من الإماء المسافحات الزانيات، كأنه قال: فاستمتعوا بالمتعففات منهن ولا تستمتعوا بالزانيات؛ لأنهن يلبسن عليكم النسب، وهو كقوله - تعالى -: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا).
وقوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) بين اللَّه - تعالى - أن النكاح لا يكون إلا ببدل يكون مالًا؛ لأنه قال: (بِأَمْوَالِكُمْ).
وفي الآية دلالة -أيضًا- على أن ما يملك ولا يقع عليه اسم المال لا يَكْفِيَنَ مهرًا؛ لأنه قال: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) ولا يسمَّى الدانق والحبة: مالًا، ولو كانت الحبة مالًا كانت التمرة مالًا، فثبت بما وصفنا من دلالة الآية أن المهور لا تكون إلا من الأملاك.
فَإِنْ قِيلَ: روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: " قَدْ زَوجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ "، قيل: تأويله عندنا - واللَّه أعلم -: " بما معك من القرآن " أي: من أجل ما معك من القرآن، ولا يجوز أن تكون السورة مهرًا بدليل الكتاب؛ لأنها ليست بمال، وكذلك كل شيء ليس بمال ولا يكون له قيمة، فلا يجوز أن يكون مهرًا، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، يدل على أن السورة وما لا يتمول لا يكون مهرًا.
وروي عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تزوج على وزن نواة من
112
الذهب.
قلنا: وزن نواة من الذهب يكون دينارًا.
فَإِنْ قِيلَ: قد بين في الخبر قيمتها ثلاثة دراهم وثلث، لكن لا ندري من كان المقوم للنواة، ولا يجوز أن يجعل تقويم ذلك المقوم وتفسيره حجة على علمائنا حتى نعلم ذلك، مع ما قال قوم: إن النواة عشرة دراهم، وهو ما قال إبراهيم.
فَإِنْ قِيلَ: روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَعْطَى فِي نِكَاح مِلْءَ كَفهِ طَعَامًا أَوْ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ ".
وكذلك يقول أصحابنا - رحمهم اللَّه - ولكن يتم لها عشرة دراهم، ولم يقل النبي - - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ولا شيء عليه سوى ذلك مع ما يقول المخالف لنا إذا كان المهر مما لا يتمول لم يكن مهرًا، وملء الكف من الطعام لا يتمول، وإن جعل ذلك مهرًا فقد ترك أصله: أن ما لا يتمول فليس بمهر، فكذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " زَوجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " ولم يذكر أن ليس عليه سوى ذلك، وأهل العلم مجمعون على أن السورة لا تكون مهرًا.
ومن الحجة لعلمائنا ما روي عن جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَا مَهْرَ دُونَ عَشَرَةٍ ".
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم ".
وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنه - مثله.
113
على أن أهل العلم أجمعوا أن النكاح لا يكون إلا ببدل، وأنه خالف سائر الأملاك التي توهب ويتصدق بها بغير بدل، وكل يجعل لذلك حدا، وإن اختلفوا في ذلك المقدر والحد، وكل يقول -أيضًا-: إن التافه لا يكون مهرًا، فذهب أصحابنا أن الفروج لما لم تملك إلا ببدل، لم يجعل البدل إلا ما أجمعوا عليه، وهو عشرة دراهم؛ إذ كان النكاح مخصوصًا ألا يملك إلا ببدل دون غيره من الأملاك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)
قيل: متناكحين غير زانين بكل زانية.
وقيل: (بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ) أي: عفائف للفروج، وغير مسافحين في العلانية بالزنا؛ وكأنه أمر - عَزَّ وَجَلَّ - ابتغاء النكاح بالأموال، ونهي عن الاستمتاع بغير مال.
وقيل: المسافح الذي يزني بكل امرأة يجدها، والمسافِحَةُ كذلك تزني بكل أحد.
والمتخذات أخدان: هن اللاتي لا يزنين إلا بأخدانهن.
والسفاح من الفعل: ما ظهر وعلا.
مسألة في المتعة:
وقوله - تعالى -: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)
ذهب قوم إلى جواز المتعة بهذه الآية؛ يقولون: ذكر الاستمتاع بهن ولم يذكر
114
النكاح، وذكر الأجر بعد الاستمتاع، والمهر إنما يجب في النكاح بالعقد: يؤخذ الزوج أولا بالمهر ثم يستمتع بها؛ فهو بالمتعة والإجارة أشبه؛ كقوله - تعالى -: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، أمر بإيتاء " الأجرة إذا أرضعن فعلى ذلك: لما ذكر الاستمتاع بهن، وأمر بإيتاء الأجر لا المهر؛ دل أنها نزلت في المتعة.
وأمّا عندنا: فإنها نزلت في النكاح؛ دليله ما تقدم من الذكر، وهو قوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) نكاحًا، وقوله: (مُحْصِنِينَ) هو: متناكحين، (غَيْرَ مُسَافِحِينَ) هو غير زانين.
وقوله - تعالى -: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) كل ذلك يدل أنه في النكاح، فكذلك قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) في النكاح (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وقد سمى اللَّه المهر أجرًا؛ كقوله: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، وقال: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
وأما قولهم: ذكر إيتاء الأجر بعد الاستمتاع والمهر يجب بالنكاح - فهو على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم بهن؛ كقوله - تعالى -: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ)، أي: طلقوهن، -إذا طلقتم- لعدتهن، ونحو ذلك كثير.
وقال أبو بكر الأصم: دل قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) فآتوهن مهورهن كملا، وإذا لم يدخلوا بهن فالنصف بالآية الأخرى؛ فهذا فائدة ذكر الأجور والاستمتاع، وهو بالنكاح أشبه وأولى من المتعة؛ لما ذكرنا من تحريم الأجناس من المحرمات في أولها وإباحتها
115
في آخرها ما وراء ذلك، وبين -أيضًا- أن الاستمتاع هنا النكاح، وأن الأجر هو المهر؛ لما ذكرنا.
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رحم اللَّه عمر، ما كانت المتعة إلا رحمة رحم اللَّه بها أمة مُحَمَّد؛ فلولا نهيه عنها إيانا ما زنى إلا شقي، وكان يراها حرامًا حلالا.
قال: وكان يقول في حرف أُبي: " إلى أجل مسمى ".
وروي عنه أنه قال: إن الناس هذا قد أكثروا في المتعة، فقال: إنها لا تحل إلا لمن اضطر إليها؛ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير؛ فدل قوله: إنها بمنزلة الميتة على أنه رجع عن قوله الأول؛ فإن كانت المتعة في حال غير الضرورة حرامًا فهي في حال الضرورة حرام، وإنما أحل اللَّه المحرم في الضرورة إذا خاف الرجل على تلف نفسه، وليس في ترك الوطء خوف تلف نفسه.
وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله - تعالى -: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) قال: نسخها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ...) الآية.
هذا يدل على أنه رجع عن قوله الأول.
ومن الدليل على تحريمها قول اللَّه - سبحانه وتعالى -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، فحرم اللَّه - تعالى - من الجماع ما عدا النكاح وملك اليمين، والمتعة ليست بملك نكاح، ولا ملك يمين؛ فهي
116
داخلة في التحريم.
ومن الدليل على تحريمها ما روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية.
وعن سبرة الجهني، عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نهي عن متعة النساء يوم فتح مكة.
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية.
وفي خبر آخر أنه كان قائمًا بين الركن والمقام وهو يقول:: إِني كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُم فِي المُتْعَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيءْ فَلْيُفَارِقْهُ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آَتيتُمُوهُنَّ شَيئًا؛ فَإِن اللَّهَ - عَز وَجَلَّ - قَدْ حَرَّمَهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ ".
وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنه - قال: سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول في المتعة: لو تقدمت فيها لرجمت.
وعن عبد اللَّه قال: المتعة -متعة النساء- منسوخة، نسخها الطلاق، والصداق، والعدة، والمواريث، والحقوق التي تجب في النكاح.
117
وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها إذا ذكر لها المتعة قالت: واللَّه ما نجد في كتاب الله النكاح والاستسرار، ثم تتلو هذه الآية: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) الآية.
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما. فأنكر قوم على عمر - رضي اللَّه عنه - إقراره أنهما فعلا في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونهيه عنهما.
لكن الجواب في ذلك كحكم أنه علم بنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن متعة النساء، وما نزل فيها من نص القرآن؛ فكان وعيده لاحقًا بمن فعلها لعلمه بأنها منسوخة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) يحتمل الإجارة.
ويحتمل التسريح بالنكاح أنه إذا كان بعد الاستمتاع يؤتيهن كل المهر؛ لأنه ذكر المهر في النكاح، والبعض بعد الطلاق، فبين الكل في هذا، وأيد هذا التأويل ما كان عليه ذكر المحرمات والإحلال أنه كله بالنكاح، وكذلك على ذلك قوله - تعالى -: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا)، أن كله في النكاح لا في الإجارة وإن ذكر فيه الأجر كما ذكر للإماء، ولو كان بالإجارة فهو منسوخ بقوله: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ)، كان ذلك إجارة وصف أنه بغي، ونهوا عن ذلك.
وبقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)، ذكر أن مُبتَغي وراء ذلك باغٍ بهذا لو عرف بحكم الكتاب، فما ذكرته له ناسخ، ولو عرف بالإخبار، فكانت أخبار الإباحة رويت مقرونًا بها النهي، فمن رام الأخذ بطرف منها على الإغضاء عن الطرف الثاني أعطى خصمه الإغضاء عليه بالطرف الثاني والمنع عما قال به.
ثم امتناع الأمة عن العمل على ظهور الحاجة، ونفور الطباع عن قبول مثله من أحد في المتضدين؛ فاصبر على الحق.
ثم دل ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: نسخه الطلاق والعدة - أن الأول كان نكاحها يمضي بمضي المدة أبطله ارتفاع أحكام النكاح عنه.
118
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ).
في الآية دلالة أن الزيادة في المهر جائزة؛ لأن الفريضة هي التسمية.
فَإِنْ قِيلَ: قوله: (فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ) معناه قوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ...): هو أن تبذل المرأة من مهرها شيئًا للزوج، أو الزوج لها.
قيل: لو كان ذلك كذلك برضاها؛ يعني: رضا زوجها، وقال: (تَرَاضَيْتُمْ بِهِ) فجعل للزوج في الرضا نصيبًا، ومعناه - واللَّه أعلم - أن الزوج إذا زاد على المهر فذلك جائز، فهذا التراضي إنما يكون منهما جميعًا في الحالين، وذلك أصل الزيادة في المهر، والثمن في البيع، وأشباه ذلك.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يخطب أم سلمة ويقول: " إِنْ كَانَ إِيْمَانُكِ أَنْ أَزِيدَكِ فِي الصدَاقِ زِدْتُكِ، وَإِنْ أَزِدْكِ أَزِدِ النّسوَةَ ".
وروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: زدها، فهو أعظم للبركة.
وروي عن عثمان وعمار كذلك.
وقد دل الكتاب والسنة وقول الصحابة على جواز ذلك، فهو الحق، وعلى ذلك جمهور المسلمين في بياعاتهم وتجاراتهم.
ومن الدليل -أيضًا- على جواز الزيادة في الثمن والمهر وأنها تصير كأنها كانت مسماة في عقد البيع -: أن رجلا لو اشترى من رجل عبدًا بيعًا باتًّا، ثم إن أحدهما جعل لصاحبه الخيار يومًا فنقض البيع - أن نقضه جائز، ويصير ذلك كالخيار المشروط في أصل البيع، وكذلك رجل اشترى عبدًا بألف درهم حالَّة، ثم إن البائع أَخلَّ المشترى في الثمن
119
شهرًا - كان الأجل جائزا، ويصير كأنهما سميا الأجل في عقد البيع، فوجب أن تكون الزيادة بعد البيع في الثمن، كأنها كانت في عقد البيع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)، (عَلِيمًا)، فيما حرم وأحل، (حَكِيمًا) حيث وضع كل شيء موضعه.
* * *
قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم)
وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) فقال بعض أهل العلم: لا يجوز تزوج الأمة حتى يعجز عن نكاح الحرة، ويخشى مع ذلك العنت، فإذا اجتمع الأمران فحينئذ يجوز أن يتزوج الأمة، ولا يجوز أن يكون تأويل الآية في هذا؛ وذلك أن الإماء أعز وجودا اليوم من الحرائر، ويجد الرجل حرة يتزوجها بأدنى شيء ما لم يجد بمثله الأمة، إلا أن يقال: إن الإماء في ذلك الزمان أوجد، وإن الحرائر أعز، وإن مؤنة الإماء ومهورهن أقل، فخرج الخطاب على ذلك.
أو أنه لما نزل قوله - سبحانه وتعالى -: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، رغب السادات في تزويج الإماء بشيء يسير، فعند ذلك نزل قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا...) الآية، وإلا الأمر الظاهر ما ذكرنا أنهن أعز وجودًا من الحرائر وأكثر مؤنة، وأن الحرائر أهون وجودا، ومؤنتهن أقل.
أو أن تكون الآية في الإنفاق عليهن، ليس في ابتداء النكاح، وهو أن الرجل إذا تزوج حرة لزمه أن ينفق عليها شاء أو أبى، فإذا عجز عن الإنفاق عليها يطلقها ويتزوج بأمة؛ إذ نفقة الأمة على سيدها ونفقة الحرة عليه، فأمر أن يطلق الحرة التي نفقتها عليه ويتزوج أمة تكون نفقتها على سيدها، هذا أشبه - واللَّه أعلم - مما قاله أُولَئِكَ.
120
أو أن يقال: إنه أراد بالنكاح الوطء، لا العقد والتزويج على ما قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والنكاح اسم للوطء والتزويج جميعًا، قال اللَّه - تعالى -: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً)، وتأويله الوطء، فكذلك الأول، ومعنى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث حمل الآية على الوطء؛ لأنه قال لا يتزوج الأمة على الحرة. كأنه منعه من ذلك؛ لأنه قادر على وطء الحرة، ويتزوج الحرة على الأمة. يقول: يتزوج الأمة ولم يكن قادرًا على وطء الحرة؛ فجاز نكاحه.
أو إن كانت الآية في ابتداء النكاح والتزويج؛ على ما قالوا، فليس فيها حظر نكاح الإماء وبطلانه في حال الطول والقدرة؛ لأنه أباح نكاحهن في حال عدم الطول والقدرة، ومن أصلنا: أن ليس في إباحة الشيء وحله في حال - دلالة حظره ومنعه في حال أخرى؛ دليله: قوله: (أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، ليس فيه أنه لا يحل له إذا لم يؤت أجورهن، وقوله - تعالى -: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ليس فيه حظر الأربع وإن خاف ألا يعدل؛ فهذا يدل على أن حظر الشيء ومنعه في حال، لا يوجب الحظر في حال أخرى، وإباحة الشيء في حال وحله لا يوجب منعه وحرمته في حال أخرى، على أن المخالف لما لم يجعل الإيمان المذكور في الآية شرطًا لقوله - تعالى -: (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) فإذا لم يصر الإيمان شرطًا في حال نكاح الإماء، كيف صار الطول والقدرة شرطًا فيه؟! إذ من قوله أن ليس له أن ينكح الأمة إذا كان له طول نكاح المحصنة الكتابية، فلما لم يصر هذا شرطا في ذلك كيف صار الطول والعنت شرطا؟! وهذا يبطل قوله: أن ليس له أن ينكح أمة كتابية؛ لأنه يقول: لأن اللَّه - تعالى - شرط فيهن الإيمان بقوله: (مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) فإذا لم يصر الإيمان شرطًا في المحصنات كيف صار شرطًا في الإماء، وذلك كله عندنا ليس بشرط.
فإن قال قائل: إن قول اللَّه - تعالى -: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ...) كذا، ليس ذلك شرطا حتى لا يجوز غيره إذا كان له طول العتاق وقدرة الصوم ما ينكر أن يكون الأول بمثله.
121
قيل: صار ذلك شرطًا فيه؛ لأنه فرض لزمه بشريطة لم يكن له الخروج والتعدى إلى غيره، وأمَّا النكاح: فليس هو بفرض لزمه بوجود الطول والقدرة والعتاق، وما ذكر فرض لزمه بوجود الطول والقدرة عليه، ويجوز الطعام، لكن لم يسقط الفرض الذي لزمه عنه؛ لذلك صار شرطًا فيه، والأول لم يصر.
فإن قال: ما معنى الآية إذن؟ قيل: معنى الآية على الاختيار والأدب، أو على الإنفاق الذي ذكرنا، أو ألا يختار نكاح الأمة على نكاح الحرة إذا كان له طول الحرة؛ على ما جاء عن عمر - رضي اللَّه عنه - قال: أيما حر تزوج أمة فقد أرق نصفه، وأيما عبد تزوج حرة فقد أعتق نصفه. لا يختار نكاح الأمة وله إلى طول الحرة سبيل.
ويجيء أن يكون قوله: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) هو ألا يحمل على الزنا، ولكن يحمل على مخالطتهن الناس واسترقاق الأولاد، فإذا أمنه السيد عن استرقاق الولد، وعن ترك الاختلاط بالناس، فعند ذلك يتزوجها؛ إذ قلوب الناس لا تحتمل اختلاط أزواجهم بالناس واسترقاق الأولاد، فَحَمْلُ العنت على هذا أشبه من الزنا.
ومن الدليل -أيضًا- على ألا يعتبر الطول على التزوج على ما قالوا: إذا تزوج أمة ثم قدر على تزوج الحرة لم يفسد نكاح الأمة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - فعلى ذلك طوله في الابتداء على نكاح الحرة لا يمنع جواز نكاح الأمة، واللَّه أعلم.
على أن عدم الطول في الأصل لا يمنع نكاح الحرة؛ إذ المهر شيء يلزم الذمة، وعدم النفقة يمنع الإمساك عنده؛ فدل أن الآية لعدم نفقة الحرة أشبه وأقرب من عدم طول مهر الحرة في الابتداء؛ على ما ذكرنا.
والأصل: أن كل أمر يجوز بشرط الاضطرار؛ فإن ارتفاع الضرورة يمنع البقاء، فإذا لم يمنع بأن أنه لا على الحل بالضرورة، وعلى ذلك يختار لمن تحته حرة مفارقة الأمة؛ إذ بإمساكها رِقُّ الولد الذي يَقْبُحُ في العقل اختياره، ومخالطة الزوجة في الطبع نفار منه، فمثله في الابتداء - واللَّه أعلم - مع ما قال اللَّه - تعالى -: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وليس عن الذي فيه الضرورة شرط الصبر، ثم القول واحد فيهن بملك المال وهو غائب عنه يخشى العنت إلى أن يبلغ ذلك أنه لا يمنع النكاح، وجميع ما له الحرمة، يستوي غيبة ذلك وحضرته: كنكاح الأمة على الحرة، والأخت على الأخت، ونحو ذلك، مع ما لو
122
كانت خشية العنت تصير سببًا للحل في شيء لكان ملك الحرة التي هي عنه غائبة؛ إذ لم تصر الضرورة مبيحة، فإذن بأن أن الحرمة لنفس النكاح في الوجود والحل لعدمه لا للسبيل إلى ذلك وغير السبيل.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) إنما هو الضيق؛ كقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ)، أي: يضيق عليكم مخالطة الأيتام.
أو الإثم؛ كقوله - تعالى -: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، وكل رجل فيه وسع الاستمتاع فهو يخشى الإثم، فيجيء أن يباح له على كل حال، أو يرجع إلى الضيق؛ فيكون المقصود منه الإمساك دون العقد، واللَّه أعلم.
ثم خشية الزنا يحتمل أن يصير شرطًا للحل، وقد حصل له عقوبة، فيها أبلغ الزجر لمن عقل من: رجم أو حد، بل يفرض عليه اتقاء ذلك بكل وجوه الإمكان، ومعلوم أن اللَّه قد جعل عنه بغير النكاح سبيلا في الاستمتاع، أيضًا، وقد جاء -أيضًا- الأمر بالصيام بأنه له وجاء، فإنما خشية ذلك خشية حظر، لا حقيقة، فلم يجز أن يجعل عذرًا لرفع الحرمات ولقدر عليه بالمباح من الصيام.
القول في قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ) الآية، نقول - وباللَّه التوفيق -: تحتمل الآية وجهين:
أحدهما: طول عقد النكاح أمن ملك المهر. والثاني: طول إمساك الحرة؛ للاستمتاع من النفقة والكسوة والمسكن، وهذا الوجه أحق؛ لأوجه: أن طول عقد النكاح، مذكور -أيضًا- في نكاح الأمة، بقوله: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ومعلوم وجود الحرة بالمهر الذي يوصف في المعروف من المهور، بل لعل ذلك في الحرائر أوجد؛ إذ قد جاز نكاح الحرائر بالأشياء الضعيفة، ومعروف وجودهن في كل عصر بدون ما يوجد من مثله الإماء، فمحال أن يشترط في نكاح الإماء عدم ما لا يوجد السبيل إليه إلا بوجود
123
ذلك، أو ما هو أعظم في الوجود.
وأمَّا النفقة والمسكن فقد يكون بمال السيد دون أن يؤخذ به، وفي الحرة هي لا سبيل إليها إلا بمال الزوج، ففيهما بذكر الوجود، لا فيما يستوي الذكر فيه في المتلو.
ثم في الحاجة على ما عليه العرف فيه فضل، ولا قوة إلا باللَّه.
والوجه الثاني: ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا تُنْكَحُ الأَمَةُ عَلَى الحُرةِ " ولو كان يجوز نكاحها عند وجود طول الحرة، لم يكن للنهي عن ذلك بعد النكاح وجه؛ إذ ليس لذلك وجود؛ لما الطول يمنع وجوده.
والثالث: أن الذي به يجب النكاح ليس للوجود شرط فيه، والذي به الإمساك شرط؛ إذ قد يجوز بذمة من لا يملك شيئا ولا يمسك بمثله، ثبت أن ذلك في حق الإمساك.
وبعد: لو كان يمنع بالذي ذكر، لكان جوازه بحق الضرورة، وهذا مما لا يقع به الضرورة، ثبت أن ذلك في حق الإمساك.
ثم لو كان التأويل على النكاح لم يكن في ذلك تحريم النكاح على وجود طول الحرة؛ لخصال:
أحدها: أن ذلك يوجب أن يكون نكاح الإماء يجوز بحق الإبدال والاضطرار، وذلك لا يحتمل حق النكاح؛ لوجوه:
أحدها: أن طريق ذلك طريق إباحة ورخص، والفروج لا تحتمل الإباحات؛ بل الإباحة توجب حد المبيح وعقوبته، وتجعل كمبيح ما لا يملكه.
والثاني: أن الحرمات التي كانت في جميع النكاح كانت ظاهرة لم يرتفع شيء منها لحاجات وكذا نكاح الإماء لو كان من المحرمات، بل الحكم أن كل امرأة لا تحتمل النكاح فهي لا تحل بملك اليمين، فلو قلنا: إنه لا يحل نكاحها لذاتها لم يحل في ملك اليمين، فإذ حلَّت بأن ما ذكرت، وليس كالزيادة على الأربع؛ لأن تلك الحرمة لحق المنكوحة لا لمكان المرأة، وكذلك الأخت ونحو ذلك؛ دليل ذلك جواز ذلك لا بحق
124
الإبدال والاضطرار، إذا عدم نكاح غيره.
وبعد: فإنه لم يجعل في شيء من الحل والحرمة المال؛ بل قال - تعالى -: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا...) الآية؛ صير العدم شرط الترك، وله قد يفسخ، لا أنه شرط الإباحة، فكذلك أمر نكاح الإماء.
والثالث: إذ الأصل في إضافة الحل والحرمة إلى حال أنه لا يوجب ضد ذلك في غير تلك الحال؛ بل هو في غيرها موقوف على قيام الدليل من ذلك المضاف إليه أو غيره، لا أنه يوجب ذلك؛ دليل ذلك أمور النكاح؛ قال اللَّه - تعالى - لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، لا أنه لو لم يؤتهن الأجور لم يحللن، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ...) الآية؛ لأن الحد لا يجب لو لم يحصن، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) لا على جعل الإيمان شرطا، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، لأن الأمة لا تحل إذا لم يخف العدل في الحرائر، وغير ذلك مما يكثر؛ إذ ليس في إضافة الحل إلى حال قطعه عن غيره، فمثله أمر النكاح فيما نحن فيه.
125
ثم احتج بعضهم بالآيات التي فيها: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ)، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ)، لتوجيه ذلك الحق هاهنا وقد دخل جواب هذا فيما قلنا: إن الحكم في غيره موقوف على الدليل فيه منعنا لا بهذا، مع ما بينا دليل ما نحن فيه ليس بشرط؛ ألا ترى أنه ذكر شرط الإيمان في المحصنات؟! ومن لم يصر شرطًا وقد صار في الكفارات ونحو ذلك؛ فمثله ما نحن فيه.
ثم الفصل بين الأمرين يقع من وجوه:
أحدها: أن تلك بحق الإبدال والاضطرار؛ دليله: زوال حكمه عند الارتفاع وفي هذا إلا ألا يرتفع لنكاح الحرة؛ فلذلك اختلف الأمران، ولو جعلنا الأمر به في حال أو الإشارة بالحل إليها دليلًا على النهي عن ذلك كان نهيا عن نكاح الإماء في حال طول الحرائر؛ فلا يحتمل أن يكون النهي مبطلا للفعل لأوجه:
أحدها: أن المعنى الذي له يقع النهي كان معقولاً، وبمثله لا يحتمل الفساد، وذلك يخرج على وجهين:
أحدهما: أن يرق ولده.
والثاني: أن تخالط امرأته الرجال، وذلك بعض ما يشين الرجل.
ثم كان نكاح الزانية مع النهي عن ذلك يجوز، ومع الأمر بطلاقها ومعلوم أن ذلك أعظم في الشين؛ إذ قد ظهر به ما يخافه في المملوكة، ويصير ولده مشتوما بأمه ما هو أوخش في العقول من كل رق وعبودة ويقال له: يا ابن الزانية، وذلك -أيضًا- تلبيس النسب وشبهه، ثم لم يجب به الفساد؛ فأمر المملوكة بالأحرى.
وأيضا لم يختلف على نهي الحرمة عن نكاح العبيد، وله يفرق الأولياء، ويصرف حق نسب الآباء إلى الموالى؛ إذ معلوم أن الطعن عليهن في الخلاف قبح منه عليهم، ثم لم يمنع ذلك جواز النكاح؛ فمثله ما نحن فيه.
وأيضًا إن الحرمة على وجهين: حرمة لنفس المنكوحة أو الاستمتاع وحرمة لحق النكاح، وكل محرمة لذاتها فهي لا تحل بملك اليمين ولا بملك النكاح، وما كانت الحرمة بحيث النكاح تحل، فإذا كانت الأمة تحل بملك اليمين ثبت أن حرمتها ليست لنفسها ولا للاستمتاع فهي تحل بملك اليمين، بل حلها في الأصل بملك النكاح أحق؛ إذ
126
ليس إلا للاستمتاع، فإذا حلت به فبالأحرى أن تحل بالنكاح، ثم قد يحرم للنكاح أشخاص ألا يحر من للأموال بحال، فكذا ما نحن فيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ).
يحتمل وجهين:
يحتمل - واللَّه أعلم -: حقيقة إيمانكم، وأنتم لا تعلمون ذلك.
ويحتمل - واللَّه أعلم -: بإيمانكم، وغيره لا يعلم حقيقة ذلك.
وفيه لزوم العمل بالظاهر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
يحتمل: بعضكم من بعض في الدِّين.
ويحتمل: بعضكم من نسب بعض؛ فهذا يدل على أن بعضهم من دين بعض، ومن نسب بعض؛ فليس لبعض على بعض فضل من جهة الدِّين والنسب؛ إذ نسبهم ودينهم واحد، وليس للحرة على الأمة فضل من هذا الوجه.
وفي قوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)
قيل: إن قوله (أُحْصِنَّ) تزوجن، وقيل أسلمن.
فكيفما كان التأويل لم يصر الإحصان شرطا في لزوم ذلك العذاب؛ لأنها إذا كانت على غير هذا الوصف لزمها ذلك الحكم؛ دل أن وجوب ذلك الحكم في حال على وصف - لا يمنع وجوب الحكم في حال أخرى على غير الوصف الذي وصف في تلك الحال، وهذا بالمخالف لنا ألزم؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)، أن النهي وقع على جميع المشركات: كتابيات وغير كتابيات، ثم صار الكتابيات منسوخة بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
127
أُوتُوا الْكِتَابَ)، ثم قال: إذا كان له طول محصنة كتابية لم يحل له نكاح الأمة المؤمنة، وقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الأمة المؤمنة خير من مشركة، وهو يقول: بل المشركة خير من الأمة؛ فهذا يدل على اضطراره في قوله على مذهبنا ما قلنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية، على المشركات خاصة من غير الكتابيات عندنا؛ دليله: قوله - تعالى -: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ...)، ذكر المشركات وذكر الكتابيات؛ دل هذا أن المشركات في هذه الآية غير الكتابيات، وقد ذكرنا الوجه في ذلك في صدر السورة ما يغني عن ذكره في هذا الموضع.
فإن كان ما ذكرنا - حل له أن يتزوج كتابية محصنة كانت أو أمة، وقد أقمنا الدليل على أن ليس في ذكر الإيمان فيهن دليل جعله شرطًا في جواز نكاحهن؛ على ما لم يكن في ذكر الإيمان، في المحصنات من المؤمنات دليل جعل الإيمان فيهن شرطًا.
وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ)، أي: هو أعلم بحقيقة إيمانهن وأنتم لا تعلمون حقيقته، وإن كان أثبت لنا علم الظاهر بقوله - تعالى -: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)، أمرنا بالعمل بعلم الظاهر، لا بعلم الحقيقة بقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)؛ فهذا يدل على أن الإيمان هو عمل القلب، لا عمل اللسان؛ لأنه لو كان عمل اللسان لكان يعلم حقيقته كل أحد؛ فظهر أنه ما وصفنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) قيل فيه وجوه:
بعضكم من بعض في الولايات في الدِّين، كقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
وقيل: بعضهم من بعض في النسب؛ إذ كل منهم من أولاد آدم.
ويحتمل: بعضكم من بعض قبل الإسلام.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)
128
أي: بإذن ساداتهن؛ سفى السادات أهلا لهن؛ دل أنهن من أهلهم.
وفيه أن للمرأة أن تزوج نفسها إذا أذن لها وليها؛ الأن اللَّه - تعالى -، قال (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) فلو كان أهلهن هم الذين يُنكحونهن - لم يكن لطلب الإذن معنى.
وفيه أن للمرأة ولاية النكاح؛ لأنه قال: (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)، والمرأة إذا كانت لها جارية، لها أن تزوج من غيره، وهذا في النساء أولى لأن الرجل إذا كانت له جارية - يستمتع بها ولا يزوجها من غيره، والمرأة إذا كانت لها جارية هي التي احتاجت إلى تزويج جاريتها؛ لذلك كان في هذا أولى.
وفيه أن ليس للعبد ولا للأمة أن يتزوج إلا بإذن السيد، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَيمَا عَبدٍ تَزَوجَ بِغَيرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ ".
وقال بعض أهل العلم: قوله: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) إذا كن مؤمنات؛ على ما سبق من ذكر الإيمان بقوله: (مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ) لكن هذا وإن كان نهيًا عن نكاح الإماء إذا كن غير مؤمنات لم يدل ذلك على فساد نكاحهن إذا كن غير مؤمنات؛ ألا ترى أن النساء نُهِينَ عن تزويج أنفسهن من العبيد، وذلك مما يشينهن، ثم لم يمنع ذلك النهي عن التزويج منهم؛ فعلى ذلك لا يمنع شرط الإيمان فيهن والنهي عن نكاحهن - فساد النكاح ولا بطلانه، وكذلك الرجل نهي أن يتزوج كتابية حرة وهو واجد الحرة المؤمنة. ثم مع ما نهى عن نكاحها - إذا فعل ذلك جاز النكاح، فعلى ذلك الأول.
وكذلك قوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ)، ذكر الصلاح فيهم، ثم إذا كانوا على غير ذلك الوصف جاز؛ فكذلك الأول.
وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)
ذكر الإحصان فيهن، ثم لم يصر الإحصان فيهن شرطًا في جواز النكاح؛ لأنهن إذا كن
129
غير محصنات يجوز نكاحهن؛ فعلى ذلك الأول، ولو كان الطَّوْل والقدرة مما يمنع جواز نكاح الإماء -وجواز نكاح الإماء بمعنى البدل- لكان إذا تزوج أمة ولم يكن له طول على نكاح الحرة في ذلك الوقت، ثم كان الطول على نكاح الحرة - يجيء أن يفسد النكاح؛ لأنه إذا منع الابتداء يمنع القرار في ملكه؛ فإذا لم يمنع دل أنه ليس على حكم البدل؛ إذ الأبدال ألا قرار لها ولا ثبات، عند وجود الأصول؛ دل أنه ليس عنه؛ ولكن على الاختيار والتأديب ألا يختار نكاح الإماء على الحرائر والمسافحات على المحصنات، ولا يختار المشركات على المؤمنات.
فَإِنْ قِيلَ: إنكم تمنعون من نكاح الأمة على الحرة، ثم لا تفسخون نكاح الأمة إذا كانت عنده أمة فتزوج حرة.
قيل له: إنما يمنع عن نكاح الأمة على الحرة لحق حرمة الجمع: كالجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، فأما إذا لم يكن ثَمَّ جمع لا يمنع، وهذا ليس بجمع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)
بإذن أهلهن على ما ذكر الإذن في النكاح بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ).
ويحتمل -أيضًا- أن يؤتى أجرها وإن لم يأذن له مولاها، إذا كانت الجارية ممن يحفظ مال سيدها ويتعاهده؛ إذ الناس يشترون المماليك لحفظ أموالهم وصون أملاكهم، نحو ما جاء من الوعيد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّكُم رَاعٍ، وَكُلُّكُم مَشئُولٌ عَنْ رَعيتهِ، حَتى العَبد عَنْ مَالِ سَيدِهِ ".
فإذا كان ما وصفنا - لا بأس بأن يدفع الأجر والمهر إليها إذا كانت هي ممن تحفظ ماله وتصونه.
ثم من الناس من استدل بقوله: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) على حقيقة الملك للمماليك، ويبيح لهم التمتع بالجواري، وبقوله - تعالى أيضًا -: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ
130
عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، لو لم يملكوهم حقيقة الملك - لم يكن لوعد الغنى لهم معنى؛ لأنه لا يقع لهم الغنى أبدا، وكانوا لا يملكون؛ دل أنهم يملكون حقيقة الملك وأما عندنا فإنهم لا يملكون حقيقة الملك؛ استدلالا بقوله - تعالى -: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ)، أخبر أن ليس لهم فيما رزقهم شركاء مما ملكت أيمانهم؛ دل أنهم لا يملكون حقيقة الملك.
فإن قالوا: أليس يملكون التمتع في النكاح إذا ملكوا ما منع -أيضًا- أن يملكوا رقاب الأشياء إذا ملكوا؟
قيل: إن السادات لا يملكون من المماليك رقبة ما يتمتع به بالأسر؛ ألا ترى أن السيدة لا تملك من عبدها التمتع به؛ دل أن ملك ذلك للعبد خاصة؛ لذلك ملك ملك التمتع في النكاح.
وأمَّا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، بغناء ساداتهم؛ إذ مقدار ما يطعمون ويشربون مما جعل لهم الانتفاع به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ما ذكرنا من الإذن من أهلهن، أو لما جعل النهي حفظ الأموال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِالْمَعْرُوفِ)
قيل: مهر غير مهر البغي، وقيل: هو المعلوم.
وقوله - تعالى -: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)
وقد ذكرناه فيما تقدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا أُحْصِنَّ)
قيل: فإذا أسلمن.
وقيل: (فَإِذَا أُحْصِنَّ): فإذا تزوجن.
ويحتمل: (فَإِذَا أُحْصِنَّ): فإذا بلغن مبلغ النساء.
وقيل: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) أي: عففن، وتأويله - واللَّه أعلم -: ما ذكره في أول
131
الآية.
وقوله: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)، أنهن إذا تركن للتعفف، ولم يكرههن على البغي - فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب؛ فهن الحرائر؛ لأن عذاب المتزوجة إذا دخل بها زوجها - الرجمُ، ولا نصف للرجم، وإنما حد الأمة الجلد؛ فلا يجوز أن يكون المحصنات في هذا الموضع ذات الأزواج؛ لأن عذاب ذات الأزواج الرجم، ولا نصف له؛ دل أنه أراد بالإحصان: الإسلام.
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسعيد بن جبير، وجماعة من أهل العلم: أن لا حد على الأمة حتى تتزوج.
وأما عندنا: فإن عليها الحد؛ لما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بجلد الأمة إذا زنت وإن لم تنزوج؛ فذلك حجة لقول من قال: إحصانها إسلامها، وهو ما رُويَ عن أبي هريرة، وزيد بن خالد، وشبل - رضوان اللَّه عليهم - قالوا: كنا عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسأله رجل عن الأمة تزني قبل أن تحصن؟ قال: " اجْلِدْهَا؛ فَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدْهَا... " ثم قال في الثالثة أو الرابعة: " فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ ".
هذ الخبر يدل على أن الأمة إذا زنت تجلد وإن لم تتزوج.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ)
أي: وإن تصبروا ولا تتزوجوا الإماء فهو خير لكم؛ لأن أولادكم يصيرون عبيذا؛ فهذا يدل اعى أن قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) - كله على الاختيار، ليس على الحكم ألا يختار، ولا على أنه إذا فعل لا يجوز.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
يحتمل وجهين:
132
يحتمل: (غَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ حيث كفر عنكم ما ارتكبتم في الدنيا بالعذاب الذي يقام عليكم، ولم يجعل عذابكم في الآخرة؛ إذ عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، وذلك من رحمته.
ويحتمل: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) من رحمته أن يجعل الحدود في الدنيا زواجر عن العود إلى ارتكاب مثله من الأفعال.
* * *
قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)
يحتمل قوله: يريد اللَّه أن يبين لكم ما تؤتون وما تنفقون، وما لكم وما عليكم، ويبين ما به صلاحكم ومعاشكم في أمر دينكم ودنياكم، لكن حقيقة المراد بالآية: إما أن يكون أراد جميع ما ذكر، أو معنى خاصا مما احتمله الكلام، وليس لنا القطع على ما أراد به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
يحتمل وجوهًا:
أي: يبين لكم سبيل الذين من قبلكم، أي: سبيل الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأهل الهدى والطاعة منهم؛ ليعلموا ما عملوا هم وينتهوا عما انتهوا، وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ): سبل الذين من قبلكم.
ويحتمل: قوله: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: أمر الرسالة والنبوة؛ ليهديكم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو رسول؛ إذ أمر الرسالة والنبوة ليس ببديع، قد كان في الأمم السالفة رسل وأنبياء - عليهم السلام - فأمر رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته ليس ببديع ولا حادث؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ).
ويحتمل قوله: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: يبين لكم أن كيف كان سنته في الذبن خلوا من قبل في إهلاك من عاند اللَّه ورسوله، واستئصال من استأصلهم بتكذيب
133
الرسل والأنبياء - عليهم السلام - والخلاف لهم؛ كقوله - تعالى -: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ)، وقوله - تعالى -: (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ).
وقيل: (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) شرائع الذين من قبلكم من المحرمات والمحللات: من أهل التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائر الكتب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتوُبَ عَليكُم)
أي: يريد أن يتوب عليكم.
وفي قوله - تعالى -أيضًا-: (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يحتمل: يهديكم تلك السنن، أي: يبينها لكم أنها كانت ماذا؟
ويحتمل: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) بمعنى: جعل تلك السنن هداية لكم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلِكُمْ) يحتمل: سنته وسيرته في الذين من قبلكم؛ لتعتبروا بها.
ويحتمل: سنتهم التي لزموها، وسيرتهم التي سلكوها بما لها من العواقب؛ لتتعظوا بها، واللَّه أعلم بحقيقة ما انصرف إليه مراد الآية، لكن فيما احتمله، فهاهنا موعظة بيناها فيه، وعلى ذلك معنى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) يحتمل: كل ما به لنا نفع، أو كل ما بنا إليه حاجة، أو كل ما علينا القيام به، أو يرجع ذلك إلى الخاص مما يريد بالآية الإخبار عنه، وأن الذي علينا النظر فيما قد يفضل البيان عنه، وفيما أنبأنا عن سنته فيمن تقدمنا مما نرجو به الهداية والشفاء؛ للقيام بما علينا في ذلك من الحق دون الشهادة عليه - جل ثناؤه - بالمراد فيها في مخرج الكناية دون التصريح من الموعود.
وقوله - تعالى -: (لِيُبَيِّنَ) وأن يبين في مفهوم الخطاب فيما جرى به الذكر في هذه الآية واحد؛ إذ لو كان ذكر " أن " لسبق إلى الفهم غير الذي سبق في هذا على حق العباد من التفاهم، واللَّه أعلم.
ثم كان معلومًا فيما أراد بقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ) أنه لو لم يبين ما أراد بهذا الوعد ولم يهد - أنه كان يلحقه الخلف في الوعد؛ فعلى ذلك فيمن قال: يريد اللَّه أن يتوب عليكم، ويريد اللَّه أن يخفف عنكم: لو لم يكن يخفف ويتوب على من أريد بقوله: يتوب ويخفف عنكم - يلحقه الخلف في الوعد، ثم يخالف وصف كافر في حال
134
أنه ممن تاب اللَّه عليه؛ ثبت أنه لم يدخل في قوله - سبحانه وتعالى -: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)
فإذا ثبت أنه لم يدخل فيه وجب فيه أمران:
أحدهما: أن الإرادة ليست بأمر؛ إذ قد أمر الكافر بالتوبة.
والثاني: أن كل من لم يتب فهو ممن لم يرد اللَّه أن يتوب عليه، وهو في قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ)، على أن اللَّه - تعالى - قال في المؤمنين: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)، وقال في الكفار: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)، على التفريق بين الذي في علمه أن يختم مؤمنا، ومن في علمه أن يختم كافرا، على أن إرادة الهداية مع إرادة ألا يجعل له الحظ في الآخرة على الموعود - خلف، وإرادة من لا تدبير له في فعله، ولا يتصل به فعله - تمنٍّ في متعارف الأمر وتشهٍّ، ولا يجوز أن يضاف إلى اللَّه - تعالى - الإرادة من هذا الوجه؛ فكان له حق الإرادة وهي التي يوصف بها من فعله الاختيار ثبت أن لله - تعالى - في فعل العباد فعلا: بحيث فعله يوصف بالإرادة، وفي ذلك وجوب القول بخلق أفعال العباد.
أو أن يكون المراد من تلك الإرادة - إذا لم تحتمل التمني، ولا الأمر - أن تكون الإرادة التي تنفي القهر والغلبة؛ فيلزم إذا ثبت نفي القهر - الوصفُ بالإرادة، وثبت أنه مريد لكل فعل نفي عنه القهر في وجوده، وباللَّه التوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ)
بما يؤتي وينفي، عليم بما به معاشكم وصلاحكم، وما به فسادكم وفساد معاشكم، ونحوه.
(حَكِيمٌ)
وضع كل شيء موضعه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ... (٢٧)
135
قالت المعتزلة: قد أراد اللَّه - تعالى - توبة من لا يتوب؛ فيقال لهم: ما التوبة
136
عندكم؟ أليس عندكم التوبة: التجاوز والدعاء؟ فإذا وعد أن يتوب ولم يفعل - فهل ترك ذلك لا بعجز أو ذلك إلا لعجز أو بداء به، أو ذلك الوصف له بالعجز أو الجهل، فنعوذ باللَّه من الزيغ عن الحق، والسرف في القول.
وأما تأويله عندنا: واللَّه يريد أن يتوب عليكم في الذي علمه أنهم يتوبون، أو كان ذلك إخبارًا عن قوم أراد اللَّه أن يتوب عليهم فتابوا.
وقال قوم: قوله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي: يأمر أن يتوبوا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ) الآية.
أي: من اختار الدنيا على الدِّين، والأولى على الآخرة؛ لهوى يتبعه، وشهوة تغلبه، لا لتقصير من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن البيان؛ بل لتركهم النظر والتأمل بالعواقب غلبت عليهم شهواتهم، واتبعوا أهواء أنفسهم: إما رياسة طلبوها، وإما سعة في الدنيا بغوها؛ فذلك الذي يمنعهم عن النظر في العاقبة، والتأمل في الآخرة؛ لذلك مالوا ميلا عظيمًا، وخسروا خسرانًا مبينًا، وضلوا ضلالاً بعيدًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ... (٢٨) يحتمل هذا: أنه خفف علينا، ولم يحمل ما حمل على الأمم السالفة من الإصر والشدائد والأثقال والمشقات، مما جعل
توبتهم قتلَ بعضهم بعضًا، وجعل توبتنا الندامة بالقلب، والرجوع عما ارتكبوا.
أو أن يقال: خفف عنا؛ حيث لم يستأصلنا، ولم يهلكنا بالخلاف له وترك الطاعة، على ما استأصل أُولَئِكَ وأهلكهم.
ويحتمل التخفيف عنا -أيضًا-: وهو ما خفف علينا من إقامة العبادات والطاعات، من نحو: الحج، والجهاد، وغيره، حتى جعل القيام بذلك أخف على الإنسان وأيسر من قيامه بأخف العبادات أوالطاعات، وأيسرها، وذلك من تخفيف اللَّه علينا وتيسيره؛ فضلا منه ورحمة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)
يحتمل: أن يكون أراد به الكافر؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا)، وكقوله - تعالى -: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا)، وقد قيل: كل موضع ذكر فيه الإنسان فهو في كافر من ضعفه يضيق صدره، ويمل نفسه بطول الترك في النعم حتى يضجر فيها.
ويحتمل: أنه أراد به الكافر والمسلم، ووضعُه في ابتداء حاله أنه كان ضعيفًا؛ كقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ).
ويحتمل وصفه بالضعف له؛ لأنه ضعيف في نفسه، يمل من الطاعات والعبادات التي جعل اللَّه عليه، ليس كالملائكة؛ حيث وصفهم أنهم لا يفترون ولايستحسرون، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)، ولا كذلك بنو آدم.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ
138
تَكُونَ تِجَارَةً)
الظاهر في الثنيا أنه من غير جنس المستثنى؛ لأنه استثنى التجارة عن تراضٍ من أكل المال بالباطل بينهم، وأكل المال بالباطل ليس من جنس التجارة، ولا التجارة من نوع أكل المال بالباطل، والثنيا في الأصل جعل تحصيل المراد في المجمل من اللفظ؛ فإذا لم يكن من نوعه كيف جاز؟! لكنه يحتمل - واللَّه أعلم - أن يكون على الابتداء والائتناف؛ كأنه قال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولكن كلوا بتجارة عن تراض منكم؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، استثنى السلام، والسلام ليس من جنس اللغو، لكن معناه ما ذكرنا: لا يسمعون فيها لغوًا، ولكن يسمعون فيها سلامًا.
ويحتمل أن يكون في الثنيا بيان تخصيص المراد في المطلق من الكلام؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ)، دل استثناؤه آل لوط على أنه أراد بقوم مجرمين قوم لوط خاصة؛ لأنه قد كان في قوم إبراهيم - عليه السلام - وفي غيرهم أقوام مجرمين؛ دل الثنيا على مراد الخصوص؛ فعلى ذلك يدل استثناؤه التجارة عن تراض منهم - على أنه أراد بأكل المال بالباطل تجارة عن غير تراض، وإن كان -في الحقيقة- يصير مال هذا بمال هذا، وهو أن يأخذ مال غيره فيتلفه؛ فيلزمه بدله؛ فيصير ما عوض من بدله بما أتلفه قصاصًا؛ فهو -في الحقيقة- تجارة.
أو يحتمل: أن يكون أكل المال بالباطل بينهم ما لا يجوز ولا يطيب؛ لأن حرف البين لا يستعمل إلا فيما كان البدل من الجانبين؛ فإذا كان ما وصفنا محتملا - كان الثنيا من ذلك من وجه يطيب، ومن وجه لا يجوز ولا يطيب.
وفيه دليل: أن التجارة هي جعل الشيء له ببدل، وترك الشيء بالشيء؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى)، ذكر الشرى ولم يكن منهم إلا ترك الهدى بالكفر، ثم سمى ذلك تجارة بقوله - تعالى -: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ).
وفيه دلالة: أن البيع يتم بوقوع التراضي بين المتبايعين، وليس كما قال قوم: لا يتم البيع وإن تراضيا على ذلك حتى يتفرقا عن المكان؛ فكانوا تاركين - عندنا - لظاهر هذه الآية، فإن احتجوا بالخبر الذي روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الْمُتَبَايِعَانِ بِالخيَارِ مَا لَم
139
يتَفْرَّقَا " - لكن معناه عندنا: أن يقول الرجل للرجل: بعتك عبدي بكذا، فلصاحبه أن يقول: قبلت البيع، ما دام في مجلسه.
أو يحتمل: أن يكون إذا قال: بعتك، كان له الرجوع قبل أن يقول الآخر: قبلت.
على أن قوله - عليه السلام -: " مَا لَم يتَفْرَّقَا "، لا يوجب أن يكون تفرقًا عن المكان وتفرق الأبدان؛ ألا ترى أن اللَّه - سبحانه وتعالى - قال: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)، ولا يفهم المعنى من ذلك تفرق المكان والأبدان؛ ولكن وقع ذلك على القول والطلاق.
على أن في الآية بيان تمام البيع بوجود التراضي بقوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ). ومما يدل على ذلك -أيضًا-: قوله - تعالى -: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)، فلو كان البيع لا يتم بالتراضي؛ فمتى يشهد: قبل التفرق أو بعد التفرق؟ إن أشهد قبل التفرق، فهل المقر صادق في أن لصاحبه عليه الثمن أو كاذب؟ إذ كان البيع لم يتم، وما ينفعه الإشهاد إن كان للمقر أن يبطل إقراره برد السلعة.
وإن كان إنما يشهد بعد التفرق فقد يجوز أن يتلف المال بالتفرق قبل الإشهاد؛ فأين التحصين الذي أمر اللَّه تعالى؟!
ومما يدل على تأويلنا في الخبر: ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الْبَيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرقَا مِنَ بَيعِهِمَا، أَوْ يَكُونُ بَيّنَهُمَا خِيَارٌ "، وما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الْبَيعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرقَا، وَلَا يَحِل لِأَحَدٍ أَنْ يُعَجلَ فِرَاقَهُ خشية أَنْ يَستَقيلَهُ ".
وقوله: " يستقيله " يدل على أن ليس له أن يرده إلا بأن يقيله صاحبه؛ ويدل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَالَم يَتَفْرقَا مِنْ بَيعِهِمَا " - على أن التفرق هو الفراغ من عقد البيع لا غيره.
ومما يدل على أن الخيار ليس بواجب: قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن البيع عن صفقة أو خيار؛ فكان موافقًا لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: دل قوله - تعالى -:
(لَا تَأكُلُوا...) إلى قوله: (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) - على الإذن في الأكل إذا وجدت التجارة عن تراض من الناس، والتجارة معروفة عند جميع من له عقل، ومعروف أن تفرق
140
المتعاقدين بعد الفراغ من العقد لم يعرف -فيما هو عند الخلق- تجارة، ولكن التفرق بانقضاء ما له الاجتماع والفراغ منه بما ليس من معاقدة العقلاء الوقوف في مكان بلا حاجة؛ فليس التفرق مما يحتمل أن يظنه حكيم أو سفيه من التجارة، وقد أذن في الأكل، والأكل عبارة عن الأخذ وأكل أنواع المنافع بالباطل؛ فثبت أن قد ملك بالفراغ عن التجارة بغير الرضا، وأيد ذلك قوله: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) والتبايع الذي عليه الإشهاد هو التعاقد، لا التفرق، ومن البعيد أن يكلفوا الإشهاد على التبايع قبل وجوب الواجب من الحق الذي عليه الإشهاد؛ فثبت بذلك وجوب ما جعل البائع بوجوبه دون التفرق؛ وإذن ثبت الذي ذكرنا من أحكام القرآن مع الكفاية بالأمر الذي لا يجوز شذوذ حق لا يسلم عنه بشر عن علم جميع البشر، وكل أهل التبايع به يتعارفون الحق بينهم بالفراغ من العقود، ولا يجوز شذوذ العلم بحق ذلك محله؛ فيكون اتفاق الخلق على الجهل بالاعتقاد في أمر يعرفه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أئمة الهدى، لا ينتهون عن ذلك، واللَّه أعلم.
فإذا لزم ذا الولاء المروي من الخيار: أن كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، حمل الخبر على ما فيه بعض العلم بحق القرآن، وما عليه أمر الخلق على اتساع لغير ذلك الوجه، بل لعله بغيره أولى، ثم يخرج على وجوه:
على إضمار: حُقَّ على المتبايعين أن يكونا كذلك في حق الجعل، لا في حق العبادة عن واجب؛ دليله رواية عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه عنه - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " البَيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَم يتَفْرقَا ".
أو لا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه؛ خشية أن يستقيله؛ ثبت أن المعنى بالخيار في حق الجعل لو طلب - كالفسخ في الاستقالة، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يريد به: ما داما في التبايع؛ دليل ذلك احتمال اللفظ في قوله - سبحانه -: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)، والإشهاد على التبايع، والتبايع هو فعل اثنين، وقد ثبت منهما مع الفراغ - الإشهاد على التبايع، وهذا أحق بوجوه:
141
أحدها: حق اللغة أنه اسم التفاعل، وهو اسم لفعلهما؛ فيستحقان ذلك في وقت كونهما فيه: كالتضارب، والتقاتل، ونحو ذلك، وبعد الفراغ التسمية تكون بحق الحكاية دون تحقيق الفعل.
والثاني: بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " البَيعَانِ بِالْخِيارِ مَا لَمْ يَتَفَرقَا مِنْ بَيْعِهِمَا، وَبَيْعُهُمَا مَعْرُوفْ "، واللَّه أعلم.
والثالث: متفق القول من أهل العقل على رؤية وجوب البيع دون التفرق عن المكان، واللَّه أعلم.
والرابع: أن يجعل ذلك الحد لإصلاح البياعات أنهما ما لم يتفرقا يملكان الاصطلاح، وإذا تفرقا لا، وهو أولى؛ إذ قد جعل التفرق التام شرطًا للفساد ومنع الإصلاح، وقد كان في بعض العقود مما يصلح بالقبض؛ فهو على الوجود قبل التفرق، ثم لا يصلح إذا وجد التفرق؛ فمثله مما كان الصلاح بالقول في الإصلاح؛ وعلى ذلك إذا قال أحد للآخر: اختر - انقطع خياره لو كان تفرقا من القول، وليس فيه زيادة على ما في قوله: بعت منك، في حق الإصلاح؛ فثبت أن التفرق لقطع الإصلاح، لا للإصلاح - واللَّه أعلم -
قوله: إن للناس عرفًا في التبايع من وجهين:
أحدهما: في التعاقد.
والثاني: في التقابض؛ فيكون المعنى من الخبر فيما البيع عن تقابض، وهو بيع المداومة إذا ترك كل واحد منهما الآخر يفارقه على ما سلم وقبض كان ذلك بينهما، وجاز ذلك -أيضًا- بحق الآية في الإباحة عن تراض، واسم التجارة قد يقع على تبادل ليس فيه قول البيع؛ كقوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ)، وذلك مع قوله - سبحانه وتعالى -: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، وفي ذلك أن البيع الموقوف إذا أجيز يباح الأكل؛ لما كان وقت الأكل قد وجدت التجارة عن تراض، وفي ذلك دليل وجوب خيار الرؤية؛ إذ قد جعل الرضا سببًا، وهو بما يجهل غير محق، وإنَّمَا يعلم بالرؤية.
وفيه أنه بالقبض يمضي حق العقد؛ إذ التجارة للأكل، ولا يوصل إليه إلا بالقبض، فإذا فات، فات ما له التجارة؛ فيبطل، واللَّه أعلم.
وفي قوله -أيضًا-: " تبايعا " وإن كان اسما لفعل اثنين، فلما يتصل صحة كلام كل
142
واحد منهما إذا كان الآخو حاضرا؛ فكأنهما اشتركا في صحته؛ فصارا به متبايعين، نحو قوله: حتى يتفرقا، والتفرق اسم لفعل اثنين، لكن أحدهما إذا فارق مكان البيع والآخر لم يفارقه - فقد وجد حق التفرق من أن ليس أحدهما بجنب الآخر؛ فكأنهما اشتركا في التفرق وإن لم يوجد الفعل من أحدهما، واللَّه أعلم.
وقوله - جل وعز -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)
يحتمل وجهين:
أي: لا يقتل بعضكم بعضًا؛ فإنه إذا قتل آخر يقتل به؛ فكأنه هو الذي قتل نفسه؛ إذ لولا قتله إياه وإلا لم يقتل به.
والثاني: أنه أضاف القتل إلى أنفسهم؛ لأنهم كلهم كنفس واحدة؛ إذ كلهم من جنس واحد، ومن جوهر واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)
أي: من رحمته: أن جعل لكم فيما بينكم القصاص، وأخذ النفس بالنفس، والمال بالمال، وفي ذلك حياة أنفسكم، وإبقاء أموالكم.
ومن رحمته -أيضًا-: أن جعلكم من جوهر واحد؛ إذ كل ذي جوهر يألف بجوهره، ويسكن إليه، واللَّه أعلم.
ومن رحمته: أرسل إليكم الرسل، وأنزل عليكم الكتب، وأوضح لكم السبل.
ومن رحمته: أن أمهل لكم، وستر عليكم، ودعاكم إلى المتاب.
ومن رحمته: دفع عنكم الآفات، وأوسع لكم الرزق، وبالمؤمنين خاصة برحمته اهتدوا، وسلموا عن كل داء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا... (٣٠) عدوانًا لمجاوزته حدود اللَّه، وظلمًا على صاحبه. والعدوان هو التعدي والمجاوزة عن حدود اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ).
ويحتمل قوله: (وظلمًا) على نفسه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ)، وقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، وقوله - تعالى -: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).
وهذا الوعيد - واللَّه أعلم - لما يفعل ذلك مستخفا بحدود اللَّه واستحلالا منه لذلك؛ وإلا لو كان ذلك على غير وجه الاستخفاف بها والاستحلال لها - لم يستوجب هذا الوعيد؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) إنما جاء هذا في قتلى العمد، ثم أبقى الأخوة فيما بينهما، وأخبر أن ذلك تخفيف منه ورحمة، وفيما كان الفعل منه فعل الاستخفاف والاستحلال لا يجوز أن يكون فيه منه رحمة، ويخلد في النار؛ وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)، إذا قتله مستحلا له مستخفا بتحريم اللَّه إياه؛ فاستوجب هذا الوعيد، وأما من فعل على غير الاستحلال والاستخفاف بحدوده فالحكم فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - تعالى، أيضًا -: (عُدْوَانًا وَظُلْمًا) يحتمل: الاستحلال؛ دليله قوله - عز وجل -: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) ثم قال - عز وحل -: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، وقال: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) فأبقى الأخوة التي كانت بقوله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؛ فثبت أن الأيمان بعدُ باق فأبقى له الرحمة والأخوة، وهاهنا زال؛ لذلك افترقت الآيتان.
والثاني: أنه وعد اختلافهم، ولم يذكر الخلود، وجائز تعذيبه في الحكمة والتنازع في الخلود لا غير.
والأصل في هذا ونحوه: أنه لم يتنازع أن يكون فعله الذي فيه الوعيد إن كان ثَمَّ خلود، فهو الذي يزيل عنه اسم الإيمان، ويبطل عنه حق فعله، وإنما التنازع في إبقاء اسم الإيمان في لزوم الوعيد؛ فهي فيمن لم يبق له الاسم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ... (٣١)
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كبائر الشرك؛ لأن كبائر الشرك أنواع، منها: الإشراك باللَّه، ومنها جحود الأنبياء صلى اللَّه عليهم وسلم، ومنها: الجحود ببعض الرسل، عليهم السلام، ومنها: جحود العبادات، واستحلال المحرمات، وتحريم المحللات، وغير ذلك، وكل ذلك
144
شرك باللَّه.
فقيل أراد بالكبائر كبائر الشرك، فإذا اجتنب كبائر الشرك صارت ما دونها موعودا لها المغفرة بالمشيئة بقوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وعد المغفرة لما دون الشرك، وقرنها بمشيئته؛ فهو في مشيئة اللَّه - تعالى -: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وباللَّه التوفيق.
وقيل: أراد بالكبائر كبائر الإسلام.
ثم يحتمل وجهين بعد هذا:
يحتمل: أن تكون الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر.
ويحتمل: أن تكون الصغائر مغفورة بالحسنات؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، والتكفير إنما يكون بالحسنات؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، أخبر أن من السيئات ما يذهبها الحسنات.
ويحتمل: أن يكون التكفير لها جميعًا وإن لم تجتنب؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)؛ ألا ترى أنه روي عن أنس - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " شَفَاعَتِي نَائِلَة لِأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتي ".
وروي عن عليٍّ أبن أبي طالب، - رضي اللَّه عنه - أنه سمع امرأة تدعو: اللَّهُمَّ
145
اجعلني من أهل شفاعة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " مَهْ! فَقُولي: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الفَائِزِينَ؛ فَإِنَ شَفَاعَةَ مُحَمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الكَبَائِرِ " ثم قرأ: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ...) الآية.
ثم اختلف في كيفية الكبائر وماهيتها:
فقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أوجب الحد فهو كبيرة: من نحو الزنا، والسرقة، والقذف، وغير ذلك.
وقال آخرون: الإشراك باللَّه، وقتل النفس التي حرم اللَّه بغير حقها، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقول البهتان، والفرار من الزحف.
وروي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن ذلك؛ فقال: " من أول السور إلى هنا من المحرمات، فهو من الكبائر.
146
وروي أنه قيل لابن عَبَّاسٍ: إن عبد اللَّه بن عمر، يقول: الكبائر تسع. فقال، ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: هن إلى التسعين أقرب، ولكن لا كبيرة مع توبة، ولا صغيرة مع إصرار.
وروي عن الحسن قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا تَقُولُونَ فِي الزنَا وَالسرِقَةِ وَشُربِ الْخَمْرِ؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: " هُنَّ فَوَاحِشُ، وَفِيهِنَّ عُقُوبَة " ثم قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا أُنْبَئُكُم بِأكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: " الْإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ " قال: وكان متكئًا فجلس، ثم قال: " أَلَا وَقَوْلُ الزورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُورِ " قاله ثلاثًا.
وقوله - تعالى -: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)
ذكر تكفير السيئات إذا اجتنب الكبائر، ولم يذكر الحكم إذا لم يجتنبها؛ فليس فيه أنه إذا لم يجتنب لا يكفر، فهو في مشيئة اللَّه: إن شاء [غفر] (١)، وإن شاء عذَّب؛ على ما ذكرنا: أن وجوب الحكم لا يوجب إيجاب ذلك الحكم في حال أخرى، حظرًا كان أو إحلالا، واللَّه أعلم.
(١) في الكتاب المطبوع هكذا [كفر] ولعل الصواب ما أثبتاه يؤيده ما بعده (عذَّب)، أو تكون [كفَّر] بتشديد الفاء. واللَّه أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).
147
ويقرأ في بعض القراءات: (إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه) (١) فإن ثبت هذا فهو يدل على التأويل الذي ذكرنا آنفًا: أنه أراد بالكبائر كبائر الشرك، واللَّه أعلم.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)
قيل: الجنة.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٣٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) الآية.
قيل: لا يتمنى الرجل مال أخيه، ولا امرأته، ولا داره، ولا شيئا من الذي له؛ ولكن ليقل: اللهُمَّ ارزقني، تذكر النوع الذي رغبت؛ فاللَّه واجد ذلك، وهو الواسع العليم.
وقيل: هو كذلك في التوراة.
وقيل: إن أم سلمة قالت: يا رسول اللَّه، يغزو الرجال ولا نغزو، ويذكر الرجال ولا نذكر؛ فنزلت الآية: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ) إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ).
ويحتمل: أن يكون هذا التمني في الديانة وفي الدنيا:
أما في الديانة: هو أن يتمنى أحد أن يكون قدره مثل قدر آخر عند الناس من العلم، والزهد، وغير ذلك؛ فنهي أن يتمنى ذلك؛ إذ لم يبلغ هو ذلك المبلغ إلا باحتمال المكاره
148
والمشقة والجهد.
وفي الدنيوية: هو أن يتمنى مال: أخيه، وزوجته، وخدمه.
ويحتمل: أن يكون معنى التمني: ما ذكر في خبر أم سلمة؛ لأن في ذلك الكفران بنعم اللَّه؛ لأن النساء -وإن لم يُجْعَل عليهن القتال وغيره من الخيرات- رفع عنهن بعض المؤُنات؛ ففي التمني الكفرانُ بتلك النعم التي أنعم اللَّه - تعالى - عليهن.
وفي قوله -أيضًا-: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ)، أي: الذي فضل اللَّه بعضكم على بعض؛ فهو - واللَّه أعلم - لما فيه السخط بحكمه، يريد الصرف إليه، أو لما فيه أنه إنما قصر فضله على ما رأى وألا يسع فضله له وللذي فضله، ولما النظر إلى ما أكرم به غيره بحق التمني -يلهى عن نعم اللَّه- تعالى عليه، أو لما يخرج ذلك مخرج العداوة، وحق نعم اللَّه على كل أحد - أن يُعرف التعظيم له، وكذلك قيل: فضلت على غيرك؛ لترحمه وتتفضل عليه؛ للتعظيم، والتمني أوخش من الحسد؛ لأن الحسد هو إرادة الصرف عنه، وفي التمني ذلك وإرادة الفضل له به عليه.
(وَاسْأَلُوا اللَّهَ) - سبحانه وتعالى - (مِنْ فَضْلِهِ)، وكان فضله في الحقيقة هو ما له ألا يبذل، وذلك يخرج على فضل في الدِّين، أو فضل في الخلق والمروءة، فأما فيما يرجع إلى نعم الدنيا مما لا يسثعمله في أحد ذينك الوجهين - فهو في الظاهر نعمة، وفي الحقيقة بلية ومحنة؛ قال اللَّه - سبحانه وتعالى -: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ)، الآية، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ...).
وجائز أن تكون الآية في النهي، مع ما مكنوا من النعم ووفقوا للخيرات:
فإن كان لما وفقوا للخيرات - فحق ذلك أن يشكر لله؛ بما أكرم به من حسنات، ويرغب في التوفيق لمثله.
وإن كان في أمر النعم - فحقه أن يعينه بالدعاء؛ لتكون النعمة له نعمة، لا بلية
149
ونقمة، وترغب فيما يقربك إلى اللَّه في عاقبة.
وقد ذكرنا أن أم سلمة تمنت بعض ما يقوم به الرجال من العبادات: نحو الجهاد وأشكاله؛ فنزل النهي عن ذلك، والترغيب في فضله في نوع ما تحتمل هي من الخيرات، دون الذي يفضل عليهن بالرفع عنهن، واللَّه أعلم.
وفي قوله -أيضًا-: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ...) الآية - يحتمل أن يكون على ما خاطب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقوله - تعالى -: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ...)، الآية؛ فأخبر أن الذي أُعطي - لم يعط للكرامة؛ ولكن ليفتنهم به، والعقل يأبى الرغبة فيما يفتن به دون ما يكرم به، ثم بيَّن الذي هو أولى بالمشتهي من التمني، فقال: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) فرغب فيما له، وأمر بالسؤال من فضله؛ إذ لا يكون كسبه له إلا بفضله: كقوله - سبحانه وتعالى -: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا)، ثم قال اللَّه - عز وجل -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)، [فبين أن كسبه عليه إلا بفضل الله]، وبين أن الأولى به الإقبال على ما له عاقبته، والتضرع إلى اللَّه - تعالى - بالإكرام دون الذي عليه في ذلك؛ خوف المقت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)
مِثْلَهُ؛ فإن فضله واسع، ولا يتمنى مال أخيه وداره.
أو اسألوا اللَّه - تعالى - العبادة، ولا تتمن ألا يكون لأخيك ذلك، ويكون لك، ثم أخبر أن ما يكون للرجال إنما يكون بالاكتساب، وما يكون للنساء يكون بالاكتساب، يكون لكل ما اكتسب من الأجر وغيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ (٣٣)
احتمل هذا - واللَّه أعلم - أن يكون معطوفًا، مردودًا إلى قوله - سبحانه وتعالى -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ) الآية، ذكر - هاهنا - ما يرث الرجال والنساء من الوالدين والأقربين، ولم يذكر ما يرث الوالدان من الأولاد والأقربون بعضهم من بعض: من نحو العم، وابن العم، وغيرهم من القرابات؛ فذكر - هاهنا - ليعلم أن للمولى من الميراث مما ترك الوالدان والأقربون ما لأُولَئِكَ من الوالدين والأقربين إذا لم يكن أُولَئِكَ أن جعل لهَؤُلَاءِ ما جعل لأُولَئِكَ، ولم يذكر -أيضًا- ما للوالدين من
150
الأولاد في قوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ...) الآية، ولكن ذكر في آية الوصية في قوله - تعالى -: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ)، ذكر الوصية للوالدين والأقربين؛ ولم يذكر للأولاد - واللَّه أعلم - أن الرجل قد يؤثر ولده على نفسه، وعلى غيرهم من الأقرباء، ولا كذلك الولد للوالد؛ فذكر الوصية للوالدين والأقربين لهذا المعنى؛ ليصل إليهم المعروف، وأمّا الأولاد فإنهم لا يؤثرون عليهم غيرهم؛ لذلك لم يذكرهم، واللَّه أعلم.
وقيل في قوله: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا) أي: بينا، فيكون فيها بيان ما في الأولى من المواريث.
ثم قيل في الموالي: إنهم هم العصبة، وقيل: هم أولياء الأب، أو الأخ، أو ابن الأخ، وغيرهم من العصبة.
وقيل: هي الورثة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، وكله واحد.
وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَنا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ، مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَمَالُهُ لَمَوالي العَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً أَوْ ضيَاعًا فَأَنا وَليُّهُ؛ فَلَا دُعَاءَ لَهُ ".
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلْحِقُوا المَالَ بِالْفَرَائِضِ،
151
فَمَا أبْقَتِ السهَامُ فَلأِوْلَى رَجُل ذَكَرٍ ".
وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " مَا أَحْرَزَ الوَالِدُ أَوْ الَوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ ".
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب: إذا كانت العصبة بعضهم أقرب بأم - فهم أحق بالمال.
وأجمع أهل العلم على أن أهل السهام إذا استوفوا سهامهم وبقي من المال شيء - أنه لعصبة الميت، وهم الرجال من قرابته من قبل أبيه ومواليه، وأنه لا يكون أحد من النساء عصبة إلا الأخوات من الأب والأم، أو من الأب مع البنات، والمرأة المعتقة؛ فإن هاتين عصبة، وأجمعوا أن كل من اتصلت قرابته من قبل النساء بالميت فليس بعصبة، وأن المرأة إذا أعتقت عبدًا أو أمة فإنها عصبة المعتق بعد موت أمه، إلا ابن مسعود - رضي الله عنه - فإنه يجعل لذوي الأرحام دون الموالي.
وأجمعوا أنه إذا اجتمع عصبتان فأقربهما أولى، وأقرب العصبة الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأب، ثم الجد وإن علا، والأخ من الأب والأم، ثم الأخ من الأب، ثم ابن الأخ من الأب والأم، ثم ابن الأخ من الأب، ثم العم من الأب والأم، ثم العم من الأب، ثم ابن العم من الأب والأم، ثم ابن العم من الأب، ثم مولى النعمة، ثم ابن مولى النعمة وإن سفل، فهَؤُلَاءِ كلهم عصبة الميت، وأقربهم أولاهم بما فضل من المال عن أصحاب السهام المذكور سهامهم، هو - واللَّه أعلم - موافق لما ذكرنا من دليل الآية والسنة، وما تواتر من الروايات عن الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين.
وفي قوله: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ)، يحتمل: ولكل من
152
الموالي جعلنا؛ على إضمار " نصيب " أو " حق " فيما ترك الوالدان والأقربون؛ فيكون تأويله قوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ)، فيكونون هم مواليه بحق الميراث على تأويل أنهم أولى بما تركوا، وعلى مثله قوله: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)، ووليه من يلحقه في ملكه؛ يفسره قوله - تعالى -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ)، وجميع آيات المواريث، إلا أنه لم يذكر للوالدين في هذه الجملة ولا للزوجين، ولا يدخلون في اسم القرابة، ولا في اسم الأولاد وقد جاء بالإيجاب لهم الكتاب وأجمعت عليه الأمة على غير دعوى النسخ فيه من أحد؛ ليعلم أن التخصيص بالذكر فالحق لا يقطع حق غير، لكنه يكون الأمر موقوفًا على وجود دليله، واللَّه أعلم.
على أن في الإيجاب للأقربين وللموالي كفاية عن ذكر من ذكر؛ إذ بهم تكون كل القرابة، وبالتناكح يكون النسل، وهو المجعول لذلك، وكذلك لا يسقط حق هَؤُلَاءِ بحال ولا يحجبون عن الكل بأحد، وقد جرى ذكر حقهم فيما نسخته هذه الآية من الوصية، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله - تعالى -: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) مَنْ يرجع الموالى إلى الذين ورثوه من تركة الأبوين والأقربين يجيز أن قد تجري المواريث فيما قد ورث نحو ما تجري فيما لم يكن ورث مرة؛ فرجع ذا إلى غير أولاد الأول وأقرباء الأول، أو أن يكون المقصود فيما ترك الوالدان والأقربون بما ذكر في أيهم نصيبًا مفروضًا أن يكون هذا فيما ترك الوالدان والأقربون مع أصحاب الفرائض؛ فتكون هذه الآية في بيان حق العصبات؛ إذ لم يذكر لهم دون أن يكون معهم أصحاب الفرائض يرثون بحق السهام، لا بحق الفضول؛ فتكون عمل الآيات في المواريث ثلاث:
أحدها: في أصحاب الفرائض، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا).
والثاني: حق في العصبات، وهو قوله - تعالى -: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ...) الآية.
والثالث: في حق ذوي الأرحام، وهو قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ...)
153
ثم ألحق بهَؤُلَاءِ في حجاب الأبعدين - أهلَ العقد بقوله - عز وجل -: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) وإنما ذكر ذلك فيما يترك الميت، ولا وجه للعون والرفد منه أو النصر، مع ما ذكر نصيبهم في التركة، كما ذكر لأصحاب الفرائض، وعلى ذلك المرفوع لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيمن أسلم على يدي آخر أنه أحق الناس محياه ومماته، وكذلك روي عن عمر وعلي وعبد اللَّه مع ما كانت المواريث بهذا من قبل، فنسخ بقوله - تعالى -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)، فإذا ارتفع ذلك ذهب التناسخ فوجب لهم؛ إذ بيت المال يرث بولاية الإيمان جملة، ولهذا تلك الولاية وولاية أخرى؛ فهو أحق، واللَّه أعلم. ويخلف هَؤُلَاءِ من له رحم كما خلف ولاء العتاقة بما تقدم من النعمة بالإعتاق - حق العصبة من ذي النسب بقوله - عليه السلام -: " الولاء لحمة كلحمة النسب ".
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ).
قيل: هو من الأيمان كان حلفٌ في الجاهلية يقول الرجل لآخر: ترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك، وتنصرني وأنصرك. ويتحالفان على ذلك.
وقد قرئ بالألف " عاقدت " فهو من المحالفة.
ثم روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا حِلْفَ فِي الإسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَلَفٍ فِي الجَاهِليةِ لمْ يَزِدهُ الإسْلَامُ إِلَّا شِدةٌ "
154
وقيل: هو من ضرب اليمين في اليمين، وهو المبايعة؛ كان الرجل يعاقد الرجل ويبايعه في الجاهلية، فيموت؛ فيرثه.
وقيل: إن أبا بكر - رضي اللَّه عنه - عاقد رجلا، فمات؛ فورثه؛ ولذلك خص المماليك بالذكر بهذا من قوله - تعالى -: (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) لأنهم يشترون للخدمة، والمرء إذا خدم نفسه إنما يخدمها بيمينه، فإذا كان تأويل الآية ما ذكروا، فهو منسوخ بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) وبما روينا من الخبر من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا حِلْفَ فِي الإسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَلَفٍ فِي الجَاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " ويحتمل أن تكون الآية فيمن أسلم على يدي آخر ووالاه؛ على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْل الكُفْرِ عَلَى يَدَي رَجُلٍ مِنَ الْمُسلِمِينَ فَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ ".
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا سأل عن رجل أسلم على يد رجل ويواليه؟ قال: هو مولاه؛ فإن أبى فلبيت المال.
وروي عن مسروق قال: أتيت عبد اللَّه فقلت: إن رجلا كان عاملا علينا فخرج إلى الجبل، فمات، وترك ثلاثمائة درهم؟ فقال عبد اللَّه: هل ترك وارثًا أو لأحد منكم عليه عقد ولاء؟ قلت: لا؛ فجعل ماله لبيت المال. وكذا يقول أصحابنا - رحمهم اللَّه -: من مات وترك وارثًا فماله لوارثه، وإن لم يكن له وارث فللذي أسلم على يديه ووالاه؛ لما روينا من الخبر: " هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ "، وقوله: " محياه " في العقل، و " مماته " في الميراث، وما روينا عن الصحابة، رضوان اللَّه عليهم أجمعين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) قيل: هي الوصية إلى
155
تمام الثلث؛ لأن الميراث قد نسخ بالآية التي في الأحزاب بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) ثم قال: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا)، فهي الوصية إلى تمام الثلث؛ فإذا كانت الآية في الذي أسلم على يديه ووالاه وعاقده فهو ليس بمنسوخ.
وقيل: (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من النصر والمعونة والمشورة، ولا ميراث.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا)
بما ذكر من الشرط والوفاء به، وباللَّه التوفيق.
* * *
قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (٣٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)
قال أهل التأويل: الآية نزلت في الأزواج؛ دليله قوله - تعالى -: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) والأزواج هم المأخوذون بنفقة أزواجهم، وفيه دليل وجوب نفقة المرأة على زوجها، وعلى ذلك إجماع أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم في قوله - تعالى -: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) - دليل ألا يجوز النكاح إلا بالولي، حيث أخبر أنهم القوامون عليهن دونهن.
قيل له: إن كانت الآية في الأزواج وفي الأولياء على ما ذكرت ففيه دليل جواز النكاح بغير ولي لا بطلانه، وذلك قوله - تعالى -: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ
156
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أخبر أنه فضل بعضهم على بعض، وذلك التفضيل تفضيل خلقة، وهو أن جعل الرجال من أهل المكاسب والتجارات، والقيام بأنواع الحرف، والتقلب في البلدان والمدائن، والنساء ليس كذلك؛ بل جعلهن ضعفاء عاجزات عن القيام بالمكاسب والحرف والتقلب في حاجاتهن؛ فالرجال هم القوامون عليهن. وَالُونَ أمورهن، وقاضون حوائجهن، قائمون على ذلك، ففرض على الرجال القيام بمصالحهن كما ذكرنا مع ما فرض ذلك على الرجال، يجوز إذا ولين بأنفسهن وقمن بحوائجهن من البياعات، والأشرية، وغير ذلك؛ فعلى ذلك النكاح، وإن كان الرجال هم القوَّام عليهن، فإنهن إذا ولين ذلك بأنفسهن وقمن - جاز ذلك كما جاز غيره، وكذا ما أمر الأولياء بالتزويج في قوله - تعالى -: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ...) الآية، ونهاهم عن العضل عن النكاح بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ...) الآية؛ لأن ذلك حق عليهم أن يفعلوا حتى يلين ذلك بأنفسهن؛ إذ لا بد من حضور مشهد الرجال ومجلسهم ليشهدوا على ذلك، فذلك على الأولياء القيام به.
وكهذا ما جعل نفقتهن إذا لم يكن لهن مال على محارمهن؛ لأنهن لا يقمن بالمكاسب وأنواع الحرف والتجارات، والرجال يقومون، فجعل مؤنتهن عليهم؛ لضعفهن وعجزهن عن القيام بالمكاسب خلقة؛ ولهذا ما لم يجعل للذكور من المحارم بعضهم
157
على بعض النفقة؛ لما يقومون بالمكاسب؛ فإذا صار زَمِنًا وعجز عن المكاسب جعل نفقته على محارمه؛ لأنه صار في الخلقة كالمرأة، واللَّه أعلم.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) قال: أمراء عليهن أن تطيعه فيما أمر اللَّه به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهلها، حافظة لماله، وفضله عليها بنفقته وسعته.
وقيل: نزلت الآية في رجل لطم امرأته لطمة في وجهها؛ فنشزت عن فراش زوجها، واستعدت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول اللَّه، لطمني زوجي فلان لطمة، وهذا أثر يده في وجهي؛ فقال لها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اقْتَصِّي مِنْهُ "، وكان القصاص بينهم يومئذٍ بين الرجال والنساء في اللطمة والشجة والضربة، ثم أبصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جبريل - عليه السلام - ينزل؛ فقال لها: " كُفي حَتى أَنْظُرَ مَا جَاءَ بِهِ جِبرِيْلُ فِي أَمْرِكِ "، فأتاه بهذه الآية: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي: المسلّطون على آداب النساء في الحق.
وقيل: تفضيلهم عليهن بالعقل والميراث، وفي الفيء، واللَّه أعلم.
ثم قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللهُ أَمْرًا، وَالذِي أَرَادَ اللهُ خَيرٌ مِمَّا أَرَدْنَا ".
وقيل في قوله - تعالى -: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ): بما ساقوا من المهر
158
والنفقة.
استدل الشافعي - رحمه اللَّه - بقوله - تعالى -: ، (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ...) الآية، على أن النكاح لا يجوز إلا بالولي، فصرف تأويل الآية إليهم، وفيها: (وَبِمَا أَنفَقُوا) فيلزم الأولياء النفقة، وهو لا يقول به.
وبعد: فإن الآية لو كانت في الأولياء فهو في كل أمر لهن إليهم حاجة؛ فيخرج ذلك مخرج الحق لهن في أن يتولوا لهن العقود كلها، ويقوموا في كفايتهن وكفالتهن، لا أنهن لو قمن بأنفسهن يبطل فعلهن؛ فمثله أمر النكاح.
وأهل التأويل يحملون الآية على الأزواج، ومن تدبر الآية علم أنها فيما قال أهل التأويل دون الذي ذهب إليه الشافعي، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ).
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (قَانِتَاتٌ) يعني: مطيعات، والقانت: هو المطيع.
ويحتمل: مطيعات لله تعالى:
ويحتمل: مطيعات للأزواج.
ويحتمل: (قَانِتَاتٌ) أي: قائمات بأداء ما فرض اللَّه عليهن من حقوقه وحقوق أز وا جهن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ).
قيل: حافظات لما استودعهن اللَّه من حقه، وحافظات للغيب لغيب أزواجهن.
وقيل: حافظات لأنفسهن -لغيبة أزواجهن- في فروجهن.
ويحتمل: (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) أي: لله في أموره ونواهيه، والقيام بحقوقه، وقانتات
159
وحافظات هو تفسير صالحات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)
اختلف في تلاوته وتأويله؛ في حرف بعضهم بالنصب (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) وتأويله: بحفظ اللَّه، لكنه نصب لسقوط حرف الخفض، ومن رفعه جعل تأويله: بما استحفظهن اللَّه تعالى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ).
قال بعض أهل الأدب: سمي العلم خوفًا؛ لأنه اضطر في العلم.
وقال آخر -وهو الفراء-: الخائف: الظان؛ لأنه يرجو ويخاف.
وأما الأصل في أنه سمي العلم خوفا؛ لغلبة شدة الخوف؛ فيعمل عمل العلم بالشيء على غير حقيقته؛ لأنه يعرف بالاجتهاد، وبأكثر الرأي والظن، وهكذا كل ما كان سبيل معرفته الاجتهاد - فإن غالب الظن وأكبر الرأي يعمل عمل اليقين في الحكم ديان لم يكن هنالك حقيقة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى -: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)، وألزمنا العمل بظاهر علمنا وإن لم نصل إلى حقيقة إيمانهن؛ فعلى ذلك إذا علم منها النشوز علم أكثر الظن وأغلبه يعمل عمل الذي ذكر في الآية من العظة وغيرها؛ لأن قوله - تعالى -: (تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) ليس على وجود النشوز منها للحال حقيقة؛ ولكن على غالب الظن؛ لأنها إذا كانت ناشزة كيف يعظها؛ وكيف يهجرها ويضربها؛ فدل أنه على غالب العلم؛ أولا ترى أنه من أكره على أن ينطق بكلام الكفر بقتل أو ضرب يخاف منه التلف - كان في حل وسعة أن ينطق به بعد أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان، وذلك إنما يعلم علم غالب الظن، وأكبر الرأي لا يعلم علم حقيقة، ثم أبيح له أن يعمل عمل حقيقة العلم؛ فكذلك الأول - واللَّه أعلم - نهى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - المرأة عن عصيان زوجها، وأمرها بطاعته في نفسها، كما أمره أن يحسن عشرتها، وهذا هو - والله أعلم - هو الحق الذي ذكره اللَّه - تعالى - في سورة البقرة مجملا بقوله - تعالى -: (وَلَهُنَّ
160
مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وفسر الحق عليهن في هذه السورة وهو أن تطيعه في نفسها، وتحفظ غيبته؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا).
وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " حَق الزوجِ عَلَى امْرَأَتِهِ إنْ دَعَاهَا وَهِي عَلَى قَتَبٍ أَنْ تُطِيعَهُ ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعِظُوهُنَّ)
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: عظوهن بكتاب اللَّه (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي رجعن إلى الفراش والطاعة، وإلا فاهجروهن، والهجران ألا يجامعها، ولا يضاجعها على فراشه، ويوليها الظهر، فإن قبلت وإلا فقد أذن اللَّه لك أن تضربها ضربًا غير مبرِّح، ولا تكسر لها عظمًا، فإن قبلت وإلا فقد حل لك منها الفداء.
ويحتمل قوله - تعالى -: (فَعِظُوهُنَّ): يقول لها: كوني من الصالحات، ومن القانتات، ومن الحافظاتْ، ولا تكوني من كذا، على الرفق واللين؛ فإن هي تركت ذلك وإلا فاهجرها، والهجران يحتمل وجهين:
يحتمل التخويف على الاعتزال منها، وترك المضاجعة والجماع.
ويحتمل: أن يهجرها ولا يجامعها، لا على التخويف من ترك ذلك؛ فإن هي تركت ذلك وإلا ضربها عند ذلك الضرب الذي ذكرنا غير مبرِّح، ولا شائن، واللَّه أعلم.
على الترتيب: يعظها أولا بما ذكرنا من الرفق بها واللين لعلها تطيعه وتترك ذلك، ثم إذا لم تطعه خوفها بالهجران؛ فلعل قلبها لا يحتمل الهجران وترك المضاجعة؛ فتطيعه؛ فإن هي أبت ذلك حينئذ هجرها، ولم يجامعها ولا يضاجعها؛ فإن هي أطاعته وإلا عند ذلك ضربها؛ فإن هي أطاعته وإلا فعند ذلك يرفعان إلى الحاكم، وهذا يجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يعظه على الرفق واللين أولا، ولا يغلظه في القول؛ فإن هو قبل ذلك وإلا عند ذلك غلظ القول به؛ فإن قبل ذلك وإلا بسط يده فيه على ما أمر اللَّه - سبحانه وتعالى - الأزواج أن تعامل النساء من العظة، ثم الهجران، ثم الضرب، ثم الرفع إلى الحكمين.
161
وروي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللهِ "؛ فترك الناس ضربهن، فجاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: واللَّه لقد دبر النساء يا رسول اللَّه؛ فأمر بضربهن، قال: فأطاف بآل مُحَمَّد النساء كثيرًا يشتكين أزواجهن، فلما أصبح رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَقَدْ أَطَافَ الليلَةَ بآلِ مُحَمدٍ سَبعُونَ امْرَأَةً يَشْتَكِينَ الضربَ، واللهَ مَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خَيَارَكُمْ "، وقال: " خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهْلِهِ، وَأنا خَيرُكُم لِأَهْلي " وقال: " أَحْسَنُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأهْلِهِ ".
قال: والموعظة كلام يلين القلوب القاسية، ويرغب الطبائع النافرة؛ فيكون ذلك تذكير عواقب الأمور ومبادئ الأحوال، واللَّه أعلم.
وعلى ذلك يعظها زوجها بأن يذكرها نعم الربِّ - جل جلاله - وما جعل من الحق عليها، وما وعد في ذلك وأوعد.
162
ففي هذه الآيات دلالة لزوم الاجتهاد وتكليف ما لا يوصل إلى معرفة المكلف به إلا بالتدبر والعرض على الأمور المعتادة أو الأسباب المعقولة في جعلها أسبابًا للمصلحة، وسبلا للوقوف على ما في أصول تلك النوازل من الحكمة، ولا قوة إلا باللَّه.
ثم جعل تأديبهن إلى الأزواج، لا إلى الأئمة؛ إذ عقوبة الأئمة تكون بالضرب أو الحبس وما يلحقها من المكروه فيما له أمر بالتأديب مع ما في ذلك من الستر، ويكون الغالب منه ما لا يجد لسبيل الإظهار عند الحاكم، ويكون في أوقات تضيق عن احتمال ذلك، ويكون ذلك أصلا لتأديب كل كافلِ أحدٍ من الأيتام والصغائر، وغير ذلك، والله أعلم.
والأصل: أن اللَّه - تعالى - قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، فجعل التأديب من الوجه الذي فيه حفظ المجعول لنا - آية، ورعاية ما جعل بينهم من المودة والرحمة، والمنازعات والخصومات إلى الحكام يقطع تلك؛ فجعل لهم من ذلك قدر ما لا يقطع مثله من التأديب المعنى المجعول بينهم؛ ولذلك لم تأذن بالضرب المبرح، ولا أذن إلا عند انقطاع الحيل التي جعلت للألفة والمحبة، على أن في خفيف ذلك إظهار الإشفاق على ما اعترض من خوف انقطاع المودة والرحمة، وإبداء العتاب الذي هو آية النصح والرحمة؛ إذ ذلك مما يخاف في ترك ذلك تمام ما قد افتتح من السر والشفقة، واللَّه أعلم.
وقيل في قوله - تعالى -: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ): بما ساقوا من المهر والنفقة.
وقوله - تعالى -: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ)
163
يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يهجرها في حال مضاجعته إياها في ألا يكلمها، لا أن يترك مضاجعتها؛ إذ المضاجعة حق بينهما عليه في تركها ما عليها، لا يؤذيها بما يضر حقه ونفسه، والله أعلم.
ويحتمل قوله: أي اهجروهن عن المضاجع ومضاجعة أخرى في حقها؛ فيكون حقها عليه في حال الموافقة وحفظ حدود اللَّه بينهما، لا في حال التضييع، واللَّه أعلم.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يهجرها في ألا يجامعها، ولا يضاجعها على فراشه، ويوليها الظهر، لكنه على هذا يشتركان في التأديب؛ لأنه به يؤدب نفسه في ذلك إلى حاجته، لكن المعنى من ذلك ألا يجامعها لوقت علمه بشهوتها وحاجتها، وإنما ينظر شهوته دونها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا)
إن أطعنكم، أي: لا تطلبوا عليهن عللا.
وقيل: لا تكلفوهن الحبَّ، وإنما جعل اللَّه الموعظة والهجران والضرر في المضاجع.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: فإن أطاعته فلا سبيل له عليها.
ثم الضرب هو ما ذكرنا أنه يضربها ضربًا غير مبرح، وهو ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " عَلِّقْ سَوْطَكَ - أَوْ ضَعْ حَيثُ يَرَاهُ أَهْلُكَ، وَلَا تَضْرِبْهَا بِهِ "، قيل: وبم نضرب؟ قال: بنعليك ضربًا غير مبرح، يعني: غير مؤثر ولا شائن.
164
ويروى في خبر آخر: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَإِنَّ لَكُم عَلَيهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فِرَاشَكُم أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّح، وَلَهُنَّ عَلَيكُم رِزْقُهُن وَكُسوَتُهُن بِالْمَعْرُوفِ ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) هذا - واللَّه أعلم - تذكير من اللَّه عباده، وأمر منه إياهم: أنه مع علوه وسلطانه وعظمته وجلاله وقدرته، لا يؤاخذنا بأول عصيان نعصيه، ولا بأول عثرة نعثرها، مع قدرته على الأخذ على ذلك وإهلاكه إياهم، فأنتم لا تؤاخذوهن -أيضًا- بأول معصية يعصين فيكم، واللَّه أعلم.
ويحتمل: ذكر هذه الآية وهو كذلك؛ ليذكر علوه وكبره؛ فيحفظ حده فيما جعل له من التأديب، ويذكر قدرته عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا (٣٥)
165
كأن هذه المخاطبة - واللَّه أعلم - لغير الأزواج؛ لأنه قال: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) ولو كانت المخاطبة في ذلك للأزواج، لقال: فإن " خافا شقاق بينهما "، أو " إن خفتم شقاق بينكم ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ) الآية، خاطب بذلك الأزواج؛ لأنه قال: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) وذلك إلى الزوج؛ إذ للزوج إذا خاف نشوز امرأته أن يعظها أولا، فإن قبلت وإلا فبعد ذلك هجرها، ثم يضربها إن لم تقبل ذلك؛ فإن لم ينفع ذلك كله فبعد ذلك رفع الأمر إلى الحاكم أو الإمام فوجه الحكمين.
وروي نحو ذلك عن عليٍّ بن أبي طالب - رضي اللَّه عنه - قال: يُبعَثُ الحكمان: حكمٌ من أهله وحكمٌ من أهلها، فيقول الحكم من أهلها: يا فلان، ما تنقم من زوجتك؟ فإذا قال: أنقم منها كذا وكذا، يقول: أرأيت إن نزعت عما تكره إلى ما تحب هل أنت تتقي اللَّه وتعاشرها بما يحق عليك من نفقتها وكسوتها؟ فإذا قال: نعم، قال الحكم من أهله: يا فلانة، ما تنقمين من زوجك؟ فإذا قالت: أنقم منه كذا وكذا، فيقول: مثل ذلك؛ فإن قالت: نعم، جمع اللَّه بينهما بالحكمين، بهما يجمع اللَّه، وبهما يفرق.
ثم اختلف في الحكمين: هل يفرقان بينهما؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يفرقان بينهما إن شاءا، وإن شاءا جمعاهما.
وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، فقيل لنا: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما.
وأما عندنا: فإنهما لا يفرقان إلا برضا الزوجين؛ دليلنا ما روي أن رجلا وامرأته أتيا عليًّا - رضي اللَّه عنه - مع كل واحد منهما فئام من الناس؛ فقال علي - رضي الله عنه - ما شأن هذين؟ قالوا: بينهما شقاق، قال علي - رضي اللَّه عنه -: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، إن يريدا إصلاحًا يوفق اللَّه بينهما، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا
166
فرقتما، قالت المرأة: رضيت بكتاب اللَّه، قال الرجل: أما الفرقة فلا؛ فقال على - رضي اللَّه عنه -: كذبت، واللَّه لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت.
أخبر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن فرقة الحكمين إنما تجب برضا الزوجين، فلو كانت فرقتهما تجوز بغير رضا الزوجين - لم ينظر إلى سخط الزوج في الفرقة، ولقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للحكمين: فرقا إن رأيتما ذلك، كره الزوج أو رضي.
وفي قوله -أيضًا- (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) أي: علمتم؛ إذ حق ذلك أن يجتهد في الحال بينهما فيعلم على الغالب، وللغالب حق العلم في الأعمال، وحق الريب في الشهادة، فذكر باسم الخوف على ما فيه من علم العمل، على أن في ظاهر الآية التفرق في المنزل حتى يبعث عن أهل كل واحد منهما ولو كانا في منزل واحد، فحقه أن يجمع بين الحكمين، لا أن يبعثا بذلك؛ يدل على ظهور الخلاف والشقاق، واللَّه أعلم.
قال: وأمر الحكمين بالإصلاح بين الزوجين، وهو الأمر الذي أمر بين جميع المؤمنين من قوله: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، وقوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، الآية، وقوله: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ) الآية، وذلك في حق التأليف وما به تمام الأخوة بقوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، لا بما يضر به أهله، ويوجب التفريق بينهم والتباغض، وعلى ذلك أمر الحكمين في النكاح، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا): هما الحكمان.
وعن مجاهد مثله.
وقال آخرون: قوله: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا): هما الزوجان.
وفي الآية دليل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (إِنْ يُرِيدَا
167
إِصْلَاحًا) وليس فيها دليل أن فرقتهما جائزة بشيء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).
يدل على أن الخلع إليهما دون الحكمين، وكان الحكمين يُوَجَّهَانِ؛ ليعرف مَنِ الظالم من الزوجين؟ يُستَظْهَرُ بهما على الظالم؛ لأن كل واحد منهما إذا شكى بين الناس من صاحبه - لا يعرف الظالم منهما من غير الظالم، فإن كان الزوج هو الظالم أُخِذَ على يده، وقيل: لا يحل لك أن تفعل هذا لتختلع منك، وأُمِرَ بالإنفاق عليها، وإن كانت هي الظالمة وكانت في غير منزله ناشزة - لم يؤمر بالإنفاق عليها، وقيل له: قد حلت الفدية، وكان في أخذها معذورًا بما ظهر للحكمين من نشوز المرأة، واللَّه الموفق.
وفي قوله -أيضًا-: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا) لا يخلو من أمرين: إما أن يريد به الزوجين، أو الحكمين.
ثم الإصلاح يكون مرة بالجمع، ومرة بالتفريق؛ فعلى الجمع تأويل التوفيق: الجمع بينهما، وعلى إرادة التفريق تأويله: التوفيق للإصلاح، وعلى التوفيق للإصلاح يدخل فيه الأمران، وفي ذلك أن الفرقة والاجتماع إليهما؛ إذ عليهما إرادة الإصلاح، وانصرف معنى الآية إلى الزوجين، وأيد ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا...)، إلى قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا...) الآية.
ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ...) الآية.
فعلى ما ظهر منه النشوز صرف أمر التفرق إلى الزوجين، وكذلك قوله - تعالى -: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ...) إلى قوله - تعالى -: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، فاشركهما في الابتداء الذي به الفراق، أو يريد به الحكمين؛ فيكون ذلك على الترغيب في طلب الإصلاح بينهما، وعلى إيثار العدل والصواب؛ كقوله تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ...)، وقوله - تعالى -: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ...) الآية، فإذا أرادا الإصلاح يوفق اللَّه بينهما، له
168
وجهان:
أي: بين الزوجين ببركة قيام الحكمين للَّهِ وابتغائهما الصلاح بينهما؛ فيوفق الزوجين لما له النكاح من: السكن، والرحمة، والمودة، والعفة.
ويحتمل: (يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا): بين الحكمين في إصابة ما أرادا من الإصلاح. ثم العلم بإرادتهما الإصلاح لا يعلمه إلا اللَّه؛ فلا يحتمل أن يوجب لهما في الحكم التفريق، والذي جوابه وعد التوفيق لم يبين، فلذلك لم يكن لهما حق التفريق، إنما إليهما إعلام ما اتفقا عليه، ثم هما عملا لهما وعليهما، فيكون لهما الرضا بما رأيا وغير الرضا، وأصله وجهان:
أحدهما: أنه استوجبا القيام بالتولية والتراضي من الزوجين أو بمن يخاف الشقاق بينهما: فإن قاما ببعث الناس، فقاما ببعث من لا يملك الفراق، فلا يستوجبان بهم ذلك، وإن قاما ببعث الزوجين فرضاؤهما بعثهما في ذلك لم يكن لهما غير الذي كان فيه الرضاء عليهما، واللَّه أعلم.
والثاني: أنهما بعثا للعلم بالسبب الذي حملهما على الشقاق، ولعل السبب منهما؛ فلا يحتمل أن يلزمانه الطلاق بلا ذنب منه، فَيُمَكَّنُ به كل امرأة تريد مفارقة الزوج وإغرامه المهر، وإذا لم يحتمل ذلك لم يحتمل أن يكون لهما حق التفريق بهذا البعث مع ما بعثا لدفع الشقاق الهائج بينهما والرد إلى الصلاح الذي له كان النكاح، على أنه يمكن الأخذ على يدي الظالم منهما، والقهر على العود إلى ما فيه الصلاح بالتأديب - لم يجز أن يلزما الفراق وإن كرهاه، واللَّه أعلم.
ثم الأصل: أنهما بالغان لا يلزمان النكاح إذا كرها ورأي القوم الصلاح إلى التناكح، على احتمال وجود الولايات في الأنكحة كانا ألا يلزما الطلاق إذا كرها على امتناعه عن وجوب الولايات به لغير الزوجين - أحرى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) مَنْ الظَالِمُ منهما؟ ومَنِ المظلومُ؟
169
وقيل: (عَلِيمًا خَبِيرًا) بنصيحتهما لهما، عليمًا بما أَسَرتِ المرأة إلى حكمها، والزوج إلى حكمه، خبيرًا بما اطلع كل واحد من الحكمين من صاحبه على ما أفشى به إليه أصدقه أم لم يصدقه؟ واللَّه أعلم.
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " فأتوا حكمة من أهله وحكمة من أهلها ".
* * *
قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (٣٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ)
قيل: وَحِّدُوا اللَّه.
وقيل: أطيعوا اللَّه. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم
(وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)
يحتمل: النهي عن الإشراك في العبادة والطاعة.
ويحتمل: النهي عن الإشراك في الربوبية والألوهية.
ويحتمل: النهي عن الإشراك في سلطانه، وغير ذلك؛ كل ذلك إشراك باللَّه، وباللَّه العصمة.
قال بعض أهل اللغة: العبادة هي الطاعة التي معها الخضوع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: التوحيد، وأصلها: أن يجعل العبد نفسه لله عبدًا، لا يشرك فيها غيره من هوى أو ما كان من وجوه الإشراك.
ثم له وجهان:
أحدهما: في الاعتقاد.
والثاني: في الاستعمال، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
أمر اللَّه - تعالى - بالإحسان إلى الوالدين، وأمر بالإحسان إلى ذي القربى،
170
واليتامى، والمساكين... إلى آخر ما ذكر، لكن المعنى الذي به أمر بالإحسان إلى هَؤُلَاءِ الأصناف والفرق مختلف: أما إحسان الوالدين:
تَشَكُو لهما بما أحسنا إليه وربياه صغيرًا؛ كقوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ...) وقوله - تعالى -: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ...) الآية (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) يذكر حال صغره وضعفه أن كيف ربياه، ويشكر لهما على ذلك، ويحسن إليهما كما أحسنا إليه وربياه صغيرًا، وقال اللَّه، - عَزَّ وَجَلَّ -أيضًا-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا)، فإحسان الوالدين جزاء وتشكر لما أنعما هما عليه، وذلك يكون من جانب الولد؛ لأن مثله لا يلزم الوالدين لولده، وذلك فرض على الولد، حتى عد عقوق الوالدين من الكبائر؛ روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ باللَّهَ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ".
والواجب على الرجل أن يطيع والديه وكل واحد منهما؛ إلا أن يأمراه بمعصية، أو ينهياه عن أداء فريضة، أو تأخيرها عن وقتها، فإن طاعتهما - حينئذٍ - معصية لله، ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، أمره بمصاحبتهما بالمعروف إلا أن يأمراه بمعصية؛ ولهذا قال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محاربًا؛ إلا أن يضطره الأب إلى ذلك؛ لأنه قال: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فمن المعروف في الدنيا ألا يقتله، ولا يشهر عليه السلاح.
وقالوا أيضا: إن مات أحدهما تولى دفنه، وذلك من حسن الصحبة والمعروف.
روي أن أبا طالب لما مات قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعليٍّ: " اذْهَبْ فَوَارِهِ ".
ثم في هذه الآية تسوية بين الوالدين فيما أمر له من الإحسان إليهما، ولم يجعل للأب فضلا في ذلك على الأم؛ فذلك يدل على أن إسلام كل واحد من الأبوين إسلام للصغير؛ إذ كان الإجماع قائمًا في أن إسلام الأب إسلام لولده الصغار، وكذلك قول
171
رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " غَيرَ أنَّ أَبَويْهِ يُهَوِّدَانِهِ وُينَصِّرَانِهِ ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِذِي الْقُرْبَى)
أمر بالإحسان إلى ذي القربي، ومعنى الأمر به - واللَّه أعلم - صلة يصل بعضهم بعضًا، وذلك من جانبين ما يلزم هذا أن يحسن إلى هذا لزم الآخر أن يحسن إليه، وذلك إبقاء للمودة فيما بينهم والمحبة، وذلك فرض -أيضًا- أن يصل بعضهم بعضا؛ لأن صلة القرابة فريضة.
والأمر بالإحسان إلى اليتامى يحتمل وجهين:
يحتمل: لما ليس لهم والد يقوم بكفايتهم على ما يقوم له والده، وأمر بذلك؛ لما يبر الرجل ولد آخر لمكان والديه، فإذا مات والده يمتنع عن ذلك، فأمر أن يحسنوا إليه بعد موت والده على ما كانوا يحسنون في حياته؛ لأنه في ذلك الوقت أحوج إليه؛ إذ لا شفقة لأحد عليه، وشفقة والده معدومة، واللَّه أعلم.
ومعنى الأمر بالإحسان إلى المساكين يحتمل أيضا وجهين:
يحتمل: شكر اللَّه على ما مَنَّ عليهم وأنعم بالإفضال على أُولَئِكَ؛ إذ لم يسبق منهم إلى اللَّه معنى يستوجبون ذلك دونهم، أمر بالإحسان إليهم؛ شكرًا لما أنعم عليهم وأحسن إليهم.
والثاني: أنهم من جوهرهم وجنسهم في الخلقة؛ يحتاجون إلى ما يحتاج هَؤُلَاءِ من المأكل، والمشرب، والملبس، وغير ذلك، يأمرهم بالإحسان إليهم؛ شفقة منهم لهم؛ ليتقووا على أداء ما فرض اللَّه عليهم؛ إذ هم مثلهم في الخلقة والجوهر، واللَّه أعلم.
وهذا الإحسان في اليتامى والمساكين من جانب ليس من جانبين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَابْنِ السَّبِيلِ)
أمر اللَّه بالإحسان إلى ابن السبيل؛ للوجهين اللذين وصفتهما في المساكين، واللَّه أعلم.
وقيل في اليتامى: إنه أمر الأوصياء بالقيام على ما لهم وحفظهم؛ رحمة لهم، وباللين لهم.
وقوله: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى)
172
وهم ذوو قرابة، وله حقان: حق الجوار، وحق الرحم، كذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الجِيرَانُ ثَلَاثَة: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِد، وَجَار لَهُ حَقَّانِ، وَجَار لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: فَأما الذِي لَهُ حُقُوق ثَلَاثَة: حَق القَرَابَةِ، وَحَق الإسْلَامِ، وَحَق الجِوَارِ، وَالَّذِى لَهُ حَقَّانِ: حَق الإسْلَامِ، وحَق الجِوَارِ، وَالذِي لَهُ حَق وَاحِدْ هُوَ حَق الجِوَارِ خَاصَّةً ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْجَارِ الْجُنُبِ)
خص اللَّه - سبحانه وتعالى - الْجَارِ الْجُنُبِ دون غيره من الجيران غير الملازقين، وكان ذلك دليلًا على أن الحقوق التي تلزم بالجوار إنما تلزم في الجيران الملازقين؛ لأنهم الجيران بالملك، يمس ملك بعضهم بعضًا، ويلصق به؛ كما في الرحم يمس أنفس بعضهم لبعض، ولهذا قال أبو حنيفة - رضي اللَّه عنه -: إنه إذا أوصى لجيرانه، فالوصية للملازقين دون غيرهم؛ لأنهم هم الذين يلزم لبعضهم على بعض حقوق يقومون بأدائها في حال حياتهم، فإذا ماتوا فأوصوا إنما أوصوا بأداء ما كان بينهم، وكذلك قال في الوصية لذوي قرابته؛ إنها لقرابته الذين يفرض عليهم صلتهم إذا كانوا أحياء، فإذا مات فأوصى فإنما يوصي بأداء ما كان يؤدي في حال حياته، وذلك مما عليه الأداء؛ وفيه دليل على أن الشفعة الواجبة للجار إنما تكون للجار الجنب الملازق دون غيره من
173
الجيران، وقد ذكر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حق الجار، وأمر بمسامحته.
وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا زَالَ جِبرِيلُ يُوصِيني بالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنهُ سَيُوَرِّثُهُ " وفي بعض الأخبار: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ "، وفي بعضها: " مَا آمَنَ مَنْ أَمْسَى شَبعَانًا وَجَارهُ جَائِعٌ ".
وإذا بيع بجنبه دارٌ أو أرضٌ، فله أن يأخذها بالشفعة؛ لما روي عن عمرو بن
174
الشريد، عن أبي رافع، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ " وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللَّه، أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار؟ قال: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ مَا كَانَ ".
وعن رافع بن خديج قال: عَرَضَ عَلَيَّ سَعدٌ بيتًا له، فقال: خذه؛ فإني قد أعطيت به أكثر مما تعطيني؛ ولكنك أحق به؛ لأني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ ".
وعن أبي الزبير، عن جابر - رضي اللَّه عنه -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة بالجوار.
وعنه -أيضًا- قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الجَارُ أَحَق بِسَقبةِ جَارِهِ إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا واحدًا يَنْتَظِرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ". وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " يُنْتَظَرُ بِهَا وإنْ كَانَ غَائِبًا " يدل على أنه لا ينتظر بها أكثر من ذلك؛ وفي ذلك دليل على أن الشفيع إن أمسك عن طلب الشفعة، وقد علم بالبيع - بطلت شفعته، ومما يدل على ذلك -أيضًا- أن الشفعة إنما جعلت للجار - واللَّه أعلم - بما يخاف عليه من سوء جوار المشتري، والضرر الذي عسى أن يلحقه منه، فلو جعلنا الشفيع على شفعته أبدًا لم يؤمن أن يبني المشترى في الدار، وينفق فيها نفقة عظيمة، ثم يجيء الشفيع فيطلب الشفعة؛ فيقال للمشتري: سلم الدار وارفع بناءك، وفي ذلك ضرر عليه بيِّن.
175
وعن علي وعبد اللَّه قالا: قضى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة بالجوار.
وعن شريح قال: كتب إليَّ عمر - رضي اللَّه عنه -: أن اقض للجار بالشفعة.
وإلى هذا ذهب أصحابنا - رحمهم اللَّه - في إيجاب الشفعة للجار.
وأنكر قوم أن تكون الشفعة إلا فيما لم يقسم من الدور والأرضين، واحتجوا في ذلك بما روي عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة قالا: " قضى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة ".
وكذلك روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمثله.
لكن تأويل الحديث عندنا - واللَّه أعلم -: أن قوله: " قضى بالشفعة فيما لم يقسم " قول الراوي؛ لأنه لم يحك عنه أنه قال: لا شفعة فيما قسم، فيحتمل أن يكون علم ذلك فحكاه، ولم يعلم بما روأه الآخرون بإيجاب الشفعة فيما قد قسم.
وأمَّا قوله: " فإذا وقعت الحدود، فلا شفعة "، فليس فيه بيان حكاية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقد يجوز أن يكون ذلك من الراوي، أو أن قال ذلك إنما قال في القسمة، لا شفعة في القسمة عندنا.
ثم قد جعل اللَّه - تعالى - للجيران بعضهم على بعض حقوقًا باتصال أملاكهم، حتى قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ فَلْيَستَأذِنْ جَارَهُ " فإذا أراد البائع اختيار الجار الذي لا حق له على الجار الذي له حق، جعل له إبطال ذلك؛ إذ ليس غرضه من البيع إلا الثمن؛ وهو وقد يوجد ذلك من الجار؛ ولهذا ما توجب الشفعة في الهبات والصدقات مما يجوز أن يقصد بها أسبابا وأحوالا لا يوجد ذلك في الجار، وأما البيع فالمقصود فيه الثمن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)
والْجُنُبِ: البعيد، بيّن - واللَّه أعلم - ليعلم أن الحق الذي ذكر للجار من الإحسان إليه ليس هو بحق القرابة، بل هو بحق الجوار، فأمر بالإحسان إلى من له جوار بالملك نحو ما أمر بالإحسان إلى من له جوار بالنسب، ثم كان الحق قد يفترض بجوار النسب بمال مع ما كانت الصلة مفروضة فيمن مس ملكُهُ ملكَهُ في الملك وجوبه فيما وقع التَّمَاسُّ بالبدن
176
في البدن.
على أن الآية فيما أمر بالإحسان إلى جميع من ذكر قد يصير ذلك حقا يلزم بحال، فمثله حق الجوار، وذلك لا يعرف غير حق الشفعة، وقد جاءت به الآثار، وثوارث المسلمون في ذلك الطلب والاحتيال في الصرف والمنع؛ فبان أن الحق به ظاهر لا يحتمل الخفاء، مع ما لا يشك من القوام عن ذلك إلا وعنده حظ من العلم فيه لا يوجد مثله بشيء من الحقوق في غير أملاك المحقين، هذا البيان والظهور ثبت أن أمره كان معروفًا في الأمة حتى جرى به التوارث.
ثم هذا النوع من العلم لا يحتمل انتشاره ونيله بالرأي؛ فصار كسنة ظاهرة، لها حق التواتر مع ما يستغنى عن روايته، واللَّه أعلم.
ثم اعلم أن الناس على اختلافهم متفقون على وجوب حق الشفعة بحق الشرك فيما يحتمل القسمة، وأما أن يجب بحق القسمة، فيجب ذلك في كل محتمل القسمة، وذلك مما يأباه الجميع، أو يجب بما جعل من حق الجوار الذي جاء به الكتاب، وجرت به السنة، أو بما جعل من تأذي بعض الجيران ببعض، والأمر بالمعروف في الخلق من الاستخبار عن أحوال الجيران قبل تأمل الدور وتفاوت القيم باختلاف الجيران بما في ذلك من المؤن والمضار، وأي هذين كان فالشفعة واجبة بالجوار؛ لأنهما أمران لا يسلم عنهما على ثبات الجوار؛ فيجب به الشفعة مع ما أمكن الجمع بين الآثار بما لا يحتمل تسمية الشريك جارًا من حيث الشرك لوجهين:
أحدهما: قوله - تعالى -: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ)، لم يجعل الأرض من حيث الأرض متجاورة حتى أثبت لها القطع؛ فأوجب بالقطع التجاور مع ما كان الجوار في اللغة اسمًا للتقارب والالتصاق، لا لتداخل معروف، ذلك عند من تأبى نفسه مكابرة المعارف.
والوجه الآخر: ما لا يسمي الشركاء في عين العرصات جيرانًا، ثبت أن ذلك ليس من
177
أسماء الشرك؛ فلا وجه لصرف الخبر باسم الجوار إلى الشرك مع ما قد جاء ما يقطع من السؤال عن أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار أنه قال: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ... ".
ومما جاء: " الجَارُ أَحَق بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبَا " إذا كان طريقهما واحدًا؛ فيجب بما ذكرت صرفه عن الشريك إلى وجه يوافق خبر الجار، وله أوجه ثلاثة:
أحدها: أن قوله: " قضى بالشفعة لشريك لم يقسم " غير مقابل لخبر الجوار؛ إذ هو أحق في القولين:
وما روي من القول: " إِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ " فقد يحتمل أن يكون خبرًا عن هذا الفعل ألا شفعة في صرف الطريق وإظهار الحدود؛ إذ القسمة في معنى البيع في الأمور حتى منع الاقتسام في كل ما لا يحتمل التفاضل إلا بما يجوز به، فقيل: لا شفعة في هذا، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يكون إذا كان هذا فلا شفعة لهم مع من لم تقع بينهم الحدود، ولا صرفت بينهم الطرق، واللَّه أعلم.
والثالث: إذا وقعت الحدود فتباينت، وصرفت الطرق فتباعدت؛ إذ فيما لم يتباينا ثم حد ليس واحد من الأمرين، وإذا احتمل خبر الشرك ما ذكرنا، ثبت أمر الشفعة بالجوار والشرك جميعًا على الترتيب، ولا قوة إلا باللَّه.
ولو كان الجنب اسمه لبعيد الجيران بالنسب استحق بما كان الذي به الجوار يلتصقان، ويكون كل واحد منهما بجنب الآخر؛ إذ لا يسمى كل بعيد به، ففيه وجهان:
أحدهما: الحق بالاتصال.
والثاني: بيان ما به يكون الجوار، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) اختلف فيه:
قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هي المرأة.
وقال عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه عنه - كذلك أيضًا هي المرأة.
178
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: هو الرفيق في السفر، وكذلك قول مجاهد.
فإن كان الصاحب بالجنب هو المرأة، فالأمر بالإحسان من جانب، وإن كان هو الرفيق في السفر فمن جانبين، ما يلزم هذا يلزم الآخر مثله بحق المصاحبة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) يحتمل الأمر وجهين:
بالإحسان إلى المماليك شكرًا لما أنعم عليهم مما جعل لهم من الخولة من جوهرهم وأمثالهم في الخلقة أذلاء تحت أيديهم يستخدمونهم ويستعملونهم في حوائجهم.
أو لما هم أمثالهم في الحاجة من المطعم، والمشرب، والملبس، وهم مقهورون في أيديهم، وقد يترك الرجل النظر لمن هو مقهور في يده؛ أمر بالنظر إليهم، واللَّه أعلم.
وقد جاءت الآثار في ذلك عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت عامة وصية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ".
وعن جابر بن عبد اللَّه قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوصي بالمملوك خيرًا، ويقول: " وَأَطْعِمُوهُم مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُم مِمَّا تَلْبَسُونَ ".
وعن علي - رضي اللَّه عنه - قال سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيماننا.
179
وعن أم سلمة - رضي اللَّه عنها - قالت: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في مرضه: " الصلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم " فجعل يتكلم وما يقبض بها لسانه.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لِلْمَملُوكِ طَعَامُهُ وَكسوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ ".
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان آخر وصية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين حضرته الوفاة: الصلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكم "، ثم جعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يغرغر بها في صدره، ولا يفصح بها لسانه.
وعن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول في المماليك: " هُم إِخْوَانُكُم، وَلَكِن اللهَ خَوَّلَهُم إِياكُم، فَأطْعِمُوهُم مِما تَأكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُم مما تَلْبَسُونَ ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) الآية.
قيل: المختال: هو المتكبر.
وقيل: هو من الخداع.
وقيل: هو الذي يمشي مرحًا؛ وهو واحد، يتكبر على عبادة اللَّه - تعالى - أو يتكبر على عباد اللَّه - تعالى - ويخدعهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)؛ لأنه لا يحب الاختيال، وكذا في كل ما ذكر: لا يحب ذا ويحب ذا؛ كقوله: (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) والتائبين، ولا يحب الظالمين؛ لأنه يحب الطهارة والتوبة، ولا يحب الظلم ولا الكفر، فإذا لم يحب هذا، لم يحب فاعله لفعله وإذا أحب هذا، أحب فاعله لفعله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ... (٣٧)
180
يحتمل أن تكون الآية تفسيرًا لما تقدم من قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) ووصف لهم؛ إذ لا يتكلم بمثله إلا عن تَقَدُّمِهِ.
ويحتمل على الابتداء؛ كقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ...) الآية.
ثم يحتمل وجوهًا:
يحتمل قوله: يبخلون بما عندهم من الأموال، ويأمرون الناس به، وهكذا دأب كل بخيل أنه يبخل ويأمر به غيره.
ويحتمل: يبخلون بما عندهم من العلوم والأحكام، لم يُعَلِّمُوا غيرهم، ويأمرون الناس بذلك.
ويحتمل قوله: يبخلون بإظهار نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويأمرون الناس به؛ ألا ترى أنه قال: (وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي: يكتمون نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته.
ويحتمل قوله: (وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي: يكتمون، من العلوم والحكمة.
ويحتمل: ما ذكرنا: أنهم يكتمون ويبخلون بما آتاهم اللَّه من فضله من الأموال، ولا ينفقونها، وفي ترك الإنفاق والتصدق كتمان ما أنعم اللَّه عليهم، وعلى ذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ أَتَاهُ اللهُ نِعْمَة فَلْتُرَى عَلَيهِ " لعله أراد بقوله: " تُرَى عَلَيهِ " أن ينفقها على نفسه ويتصدق بها ويلبسها.
وجائز أن يكون أراد - واللَّه أعلم - الإنفاق والتصدق على غيرهم، فعلى ذلك كتمان ما آتاهم اللَّه من الأموال إذا تركوا الإنفاق على غيرهم؛ لأن من كانت له الأموال لا يترك الإنفاق على نفسه.
181
وقيل في قوله: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) نزلت في كعب بن الأشرف كتم نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكتب إلى الرؤساء من اليهود في الآفاق يأمرهم بكتمانه.
وأيضًا، في قوله: (يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ): أي: بما أنعم اللَّه عليهم من الأموال، أو بما بين لهم من صفات الرسول - عليه أفضل الصلوات - أو بما أمروا به من العبادات، حملهم على الكفر أحد هذه الأوجه الثلاثة؛ أو كانوا استحلوا أحدها، فكفروا بذلك، لزمهم الذي ذكر في القرآن، واللَّه أعلم.
وكتمانهم يرجع إلى كتمان النعت والحقوق والعبادات في أنفسهم؛ لئلا يعرفوا بالعدول عليهم عما في كتبهم، وذلك تحريفهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)
ظاهر، قد ذكرناه في غير موضع.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (٣٨) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (٣٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ...) الآية: أي، سرا وقيل: إنها نزلت في المنافقين: كانوا ينفقون مراءاة، ويصلون مراءاة كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بذلك، وكانوا لا يؤمنون باللَّه ولا باليوم الآخر سرًّا.
وقيل: إنها نزلت في الذين يسعون في معاداة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويخرجون معه ينفقون أموالهم مراءاة للناس، يطلبون بذلك الرياسة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا)
يحتمل أن يكون هذا في الدنيا كقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ...) الآية
ويحتمل في الآخرة؛ كقوله - تعالى -: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)، فهذا - واللَّه أعلم - لأن كلّا منهم كان يقبح الشيطان ويأنف عنه، ويحشن الملائكة ويحمدهم، حتى ضرب مثل القبح من الأشياء بالشياطين؛ كقوله: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)، وضرب مثل الحسن بالملائكة، وذلك لمعرفتهم بقبح الشياطين وحسن الملائكة؛ وذلك إنما عرفوا بالخبر؛ لأنهم لم يعاينوا ملكا عرفوا حسنه بالمعاينة، ولا شاهدوا شيطانًا عرفوا قبحه بالمشاهدة، ولكنهم عرفوا ذلك بالخبر؛ ففيه دليل إثبات النبوة؛ لأنهم ما عرفوا ذلك إلا بهم، دل استقباح الجميع الشياطين واستنكارهم، واستحسانهم الملائكة واستعظامهم من غير أن شهدوا من أحد من الفريقين - على قبول الأخبار؛ إذ عن الألسن نطقوا به؛ وعلى إثبات الرسالة؛ إذ هم جاءوا بالآثار عمن شهدهم وأنشأهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ... (٣٩) هذا - واللَّه أعلم - صلة قوله: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وفمعنى قوله: فماذا عليهم لو آمنوا باللَّه واليوم الآخر - واللَّه أعلم - وذلك أنهم كانوا ينفقون مراءاة طلب الرياسة وإبقائها؛ فقال: لو آمنوا باللَّه واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم اللَّه تبقى لهم تلك الرياسة، ويكون لهم الذكر؛ بل لو آمنوا كان ذلك في الإيمان أكثر ذكرًا، وأعظم قدرًا ومنزلة؛ ألا ترى أنه من أسلم منهم من الأئمة من نحو ابن سلام وغيره كان لهم ذكر في الإسلام وبعد موتهم من غير حاجة وقعت بهم إليهم في حق شرائع الإسلام، ومن مات منهم على الكفر لم يذكر أبدًا، فأخبر اللَّه - سبحانه وتعالى - أن ليس في الإيمان باللَّه واتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذهاب شيء مما يخافون ذهابه من الرياسة والمنافع التي يطمعون في وصولها إليهم، وغير ذلك؛ حيث قالوا: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)، فقال: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي: لم يكن مما خافوا باتباع الهدى قليلًا ولا كثيرًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) يحتمل وجهين:
يحتمل: أنه كان على علم منه بما يفعلون من فعل الكفر والشر ونحوه من خلق إبليس، لا عن جهل ولا غفلة، ليس كصنيع ملوك الأرض أنهم إذا فعلوا فعلا ثم استقبل الخلاف فإنما يكون ذلك لفعله منهم وجهل بالعواقب، فاللَّه - سبحانه وتعالى - كان لم يزل عالمًا بهم، لكنه تركهم على ذلك لما لا يلحقه الضرر بالعصيان، ولا النفع بالطاعة، بل حاصل الضرر والنفع يرجع إليهم.
والثاني: يخرج مخرج التحذير لهم والتنبيه؛ لأن من علم أن آخر يعلم بصنيعه كان أحذر وأخوف ممن يعلم أنه ليس عليه حافظ ولا رقيب، وعلى هذا يخرج قوله: (كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، ليكونوا على حذر من ذلك.
وقيل: (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) أنهم لن يؤمنوا.
وفي قوله -أيضًا-: (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) أي: أنشأهم على العلم بما يفعلون؛ يبين أنه أنشأهم؛ ليعلم الخلائق أن مخالفتهم إياه لا تضره؛ إذ كل من يضره الخلاف لا يتولى ابتداءه إلا على الغفلة ببعضه من الضرر يلحقه بالخلاف.
والثاني: على التحذير وقت الفعل بتذكير المراقب عليه على ما عليه الأمر المعتاد من الانتهاء عن أمور تهواها النفس بالمراقب عليه.
ويحتمل: كان على إرادة نفي حدثية العلم، أو أخبر بعلمه بفعلهم وما لهم من الجزاء، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) وقوله - تعالى -: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) و (نَقِيرًا)، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
ذكر هذا - واللَّه أعلم - لئلا يظن جاهل إذا رأي ألم الأطفال والصغار وما يحل بهم أن ذلك ظلم منه لهم، لكن ذلك - واللَّه أعلم - ليعلم أن الصحة والسلامة إفضال من اللَّه -
184
تعالى - لهم، لا لحق ألهم عليه في، ذلك؛ إذ له أن يخلق كيف شاء: صحيحًا، وسقيمًا، ثم من ظلم آخر في الشاهد إنما يظلم لإحدى خلتين:
إما لجهل بالعدل والحق، وإما لحاجة تمسه يدفع ذلك عن نفسه، فيحمله على الظلم، فاللَّه - سبحانه وتعالى - غني بذاته، عالم، لم يزل يتعالى عن أن تمسه حاجة؛ أو يخفى عليه شيء مع ما كان معنى الظلم في الشاهد هو التنازل مما ليس له بغير إذن من له وكل الخلائق من كل الوجوه له؛ فلا معنى ثَمَّ للظلم.
ثم قيل في الذرة: إنها نملة، وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " مثقال نملة ".
وقيل: مثقال حبة، وهو على التمثيل، ليس على التحقيق، ذكر لصغر جثته أنه لا يظلم ذلك المقدار، فكيف ما فوق ذلك؟!، لا أن مثله يحتمل أن يكون، لكن لو كان فهو بتكوينه، وباللَّه التوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)
هذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: من ارتكب كبيرة يخلد في النار ومعه حسنات كثيرة، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) وهي الجنة، وهذا لسوء ظنهم باللَّه، وإياسهم من رحمته.
عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِنَّ اللَّه - تعالى - لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حسَنَة يُثابُ عَلَيهَا إِمَّا رِزْقٌ فِي الدنْيَا، وَإِمَّا جَزَاءٌ فِي الآخِرَةِ ".
وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يَقُولُ اللهُ - تَعَالَى -: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرةٍ مِنْ إِحْسَانٍ " قال أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
185
فمن شك في ذلك فليقرأ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ... (٤١)
يقول: بالنبي، يعني: بنبيها وجئنا بك يا مُحَمَّد على هَؤُلَاءِ شهيدًا عليهم، يعني: على أمته، شهيدًا بالتصديق لهم؛ لأنهم يشهدون على الأمم للرسل أنهم بلغوا ما أرسلوا به لما هو دليل صدقهم، وقامت براهينهم بالرسالة صارت شهادة على هَؤُلَاءِ؛ أي: لهَؤُلَاءِ؛ على هذا التأويل؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، أي: لها ويحتمل عليهم لو كذبوا وزلوا.
وقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) يعني: نبيها، (وَجِئْنَا بِكَ) يا محمد على أمتك شهيدًا على تبليغ الرسالة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ... (٤٢) قيل فيه بوجوه:
إذا ميز اللَّه أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، قال للوحش والطير والسباع: " كُوِني تُرَابًا "؛ فتكون ترابًا، فعند ذلك يتمنون أن يكونوا ترابًا مثل الوحش فسويت بهم الأرض.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يجحد أهل الشرك يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين، فينطق اللَّه - تعالى - جوارحهم؛ فتشهد عليهم؛ فيودون أنهم كانوا ترابًا؛ كقوله: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)، وقوله - تعالى -: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)؛ فذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) ليتنا لم نبعث
الآية ٤٢ وقوله تعالى :﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ﴾ قيل : فيه بوجوه : إذا ميز الله أصحاب الوحش ﴿ تسوى بهم الأرض ﴾
وعن ابن عباس رضي الله عنه يجحد أهل الشرك يوم القيامة أنهم كانوا مشركين فينطق الله تعالى جوارهم فتشهد عليهم، فيودون لو ١كانوا ترابا كقوله تعالى :﴿ يا ليتنا كانت القاضية ﴾ ( الحاقة ٢٧ ) فلذلك قوله سبحانه وتعالى :﴿ لو تسوى بهم الأرض ﴾ ليتنا لم نبعث ولم نحي ويقرأ٢ تسوى وتسوى وتسوى وتسوى ونسوي، وفي حرف حفصة/ لو تسوي بهم الأرض.
و قوله تعالى :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ وقيل : لما أنطق الله تعالى جوارهم وشهدك عليهم حين أنكروا ﴿ أنهم كانوا ) ٣ مشركين بقوله تعالى :{ إلا ان قالوا والله ربنا ما كنا مشرطين ﴾ ( الأنعام ٢٣ ) لم يستطيعوا أن يكتموا الله حديثا. ويحتمل على الاستئناف ﴿ ولا يكتمون حديثا ﴾ ويحتمل أن يكونوا يودون في الآخرة ويتمنون أن لم يكونوا كتموا في الدنيا حديثا.
١ في الأصل و م: أنهم..
٢ انظر حجة القراءات (٢٠٣)..
٣ في الأصل و م: ان يكونوا..
ولم نحيا، ويقرأ " تُسَوَّى " و " تَسَوَّى " " وتَسَّوى "، و " [وتُسْوَى "، و " تستوى "، و " تُسْوَى] " (١) وفي حرف حفصة: " لو تستوى بهم الأرض ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا).
قيل: لما أنطق اللَّه - تعالى - جوارحهم وشهدت عليهم حين أنكروا أن يكونوا مشركين بقوله - تعالى -: (إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) - لم يستطيعوا أن يكتموا اللَّه حديثًا.
ويحتمل: على الاستئناف: لا يكتمون اللَّه حديثًا.
ويحتمل: أن يكونوا يودّوا في الآخرة ويتمنوا أن لم يكونوا كتموا في الدنيا حديثًا.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (٤٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)
واختلف في قوله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) قيل: لا تدنوا مكان الصلاة وأنتم سكارى، وكذلك الجنب لا يدنو مكان الصلاة؛ وهو قول عن ابن مسعود، رضي اللَّه عنه.
(١) قال السمين:
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم «تُسَوَّى» بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي: تَسَوَّى بفتحِها والتخفيفِ، ونافع وابن عامر بالتثقيل. فأما القراءة الأولى فمعناها: أنهم يَوَدُّون أن اللَّه تعالى يُسَوِّي بهم الأرض: إمَّا على أن الأرض تنشق وتبتلعهم، وتكون الباء بمعنى «على»، وإمَّا على أنهم يَوَدُّون أن لو صاروا تراباً كالبهائم، والأصل: يَوَّدون أن اللَّه يُسَوِّيهم بالأرض، فَقُلِب إلى هذا كقولهم: «أدخلت القَلَنْسوة في رأسي»، وإمَّا على أنهم يودُّون لو يُدْفَنون فيها، وهو كمعنى القولِ الأول، وقيل: لو تُعْدَلُ بهم الأرض أي: يُؤْخَذُ ما عليها منهم فديةً.
وأمَّا القراءة الثانية فأصلُها «تَتَسَوَّى» بتاءين، فحذفت إحداهما. وفي الثالثة حُذِفت أحداهما. ومعنى القراءتين ظاهرِ مِمَّا تقدَّم، فإن الأقوال الجارية في القراءةِ الأولى جاريةٌ في القراءتين الأُخْرَيَيْن، غايةُ ما في الباب أنه نَسَب الفعلَ إلى الأرض ظاهراً. اهـ (الدر المصون ٣/ ٦٨٦).
187
وقيل: قوله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) نهي عن الصلاة في حال السكر؛ روي أن رجلًا صنع طعامًا فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وسعد بن أبي وقاص، فأكلوا، وسقاهم خمرًا، وذلك قبل أن تحرم؛ فحضرت صلاة المغرب، فأمهم رجل منهم فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون)، بطرح اللاءات؛ فنزل قوله - تعالى -: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى).
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَا يُصَلِّيَنَ أَحَدُكُم وَهُوَ لَا يَعْقِلُ صَلَاتَهُ ".
وفي الآية دلالة: أن في الصلاة قولاً فرضًا، نهي عن قربانها في حال السكر؛ مخافة تركه، أو نهي عن قربانها في حال السكر؛ خوفا أن يدخل فيها قولا ليس منها؛ وفي ذلك دليل فساد الصلاة بالكلام عمدًا كان أو خطأ؛ لأن السكران لا يفعل ذلك على العمد، ولكن على الخطأ، والأصل في هذا: أنه لم ينهه عن فعل الصلاة في حال السكر لنفس الصلاة، ولكن فيه نهي عن السكر، وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا صَلَاةَ للْعَبدِ الَآبِقِ، وَلَا لِلْمَرأَةِ الناشِزَةِ " ليس النهي فيه عن الصلاة، ولكن النهي عن الإباق والنشوز نفسه، وهكذا كل عبادة نهي عنها بأسباب تتقدم، فالنهي إنما يكون عن تلك الأسباب، لا عن العبادة التي أمر بها؛ لأن الإباق والنشوز والسكر ليسوا بالذي يعملون في إسقاط ذلك الفرض وتلك العبادة.
وفي الآية دلالة أن السكران مخاطب بقوله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) نهي
188
عن قربان الصلاة في حال السكر، فالنهي إنما وقع في حال السكر، فإذا كان مخاطبًا عمل طلاقه ونفذت عقوده؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)، فلو لم يكن عليهم ذكر في حال السكر لم يكن ليصدهم عن ذكر اللَّه معنى ولا ذكر عليهم، دل أنه مخاطب، ولهذا ما قال أبو يوسف - رحمه اللَّه -: إنه إذا ارتد عن الإسلام يكون ارتداده ارتدادًا؛ ولما نفذ طلاقه وسائر عقوده وفسوخه، فعلى ذلك الارتداد.
وعلى قول أبي حنيفة - رحمه اللَّه - لا يصير مرتدًّا؛ استحسانًا، ليس كسائر العقود والفسوخ؛ لأن سائر العقود يتعلق جوازها باللسان، وإن كان رضا القلب شرطًا فيها، وأما الإيمان والكفر فإنما يكون بالقلب، وإن كانت العبادة باللسان تكون شرطًا فيما بين الخلق، فإذا كان كذلك فإذا سكر يُذْهِبُ السكرُ القلبَ؛ فجعل كأنه لم ينطق به، وإما كان سائر العقود تعلقها باللسان، فإذا نطق به جاز، واللَّه أعلم.
ثم اختلف في قوله - تعالى -: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ...)
منهم من حمل على مكان الصلاة؛ إذ الصلاة فعل، والفعل لا يقرب.
ومنهم من حمل على الفعل؛ أي: لا تصلوا.
وأي الوجهين أريد به فالآخر داخل فيه؛ لأنه إذا نهي عن حضور مكانها لحرمته فهي أعلى في الحرمة، وأحق في المنع؛ وأيد ذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) والعلم بالقول يحتاج إليه في حق الفعل؛ لئلا يترك المفروض من الذكر فيفسد، أو يدخل المحرم فيه فيفسد، وفي ذلك دلالة أحد الوجهين، وفي حق العموم الوجهان جميعًا، وهو على الخطأ يقول؛ فثبت أن الخطأ من القول في الصلاة مفسدًا؛ إذ لو كان لا يفسد لم يكن سوى النهي، وفي التأخير نهي أيضًا، واللَّه أعلم.
ولو أريد به الصلاة فإنما المكان لأجلها، فلا وجه للحضور دون إمكان الفعل للفعل،
189
واللَّه أعلم.
وعلى ذلك أمر الجنب، واستثناء عابري السبيل؛ ليكون على فعل الصلاة بالتيمم؛ فيكون في الآية دلالة التيمم للجنب، أو المكان فيباح الدخول فيه على العبور فيه بالتيمم أيضًا، فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه؛ إذ كان فيه بالتيمم، واللَّه أعلم.
وإذا أبيح للجنب على المنع عن دخول المسجد إلا بالتيمم؛ فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة، فله الصلاة به لعذر، واللَّه أعلم.
ثم في المروي دلالة عمن أَمَّ في المغرب بـ (قُل يَا أَيُّهَا الكافرون) على طرح اللاءات في حال السكر حتى نزل قوله - تعالى -: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) - أن كلام الكفر في حال السكر لا يكفر صاحبه؛ إذ خاطبهم باسم الإيمان؛ فلذلك لم يكن عند أبي حنيفة - رحمه اللَّه - كافرًا، على أن المخطئ لما يجري على لسانه كلمة الكفر لا يصير كافرًا في الحكم، والسكران يجري على لسانه على الخطأ؛ دليله ما لا يذكره، وما كان من عقد القلب فهو لا ينسى، وبخاصة المذاهب كلها يختار عن فكر الأسباب، وعن اختيار الأحق من الأمور عنده إما لحجة، أو شبهة، أو شهوة، من نحو الإلف بالتقليد، وحسن الظن، والذي يكون على ما ذكرت لا يحتمل السهو عنه حتى لا يخطر بباله لو أراد بدعوة عن قريب ثبت أنه كان عن خطأ، وقد جاء برفع الخطأ.
وأصله: أن اللسان معبر عن الاعتقاد في أمر الدِّين، وبخاصة في الكفر الذي يكون بالقلب خاصة بلا استعمال اللسان؛ فإذا كان مخطئا فهو أمر اللسان دون القلب الذي اللسان عنه معبر، ومن عبر الكفر باللسان ووصفه لا يكفر إلا بأن يكون يُعَبّرُ عن نفسه أنه اعتقده، فلذلك كان على ما بينا، على أنه قد يجري بتلاوة القرآن على اللسان بالغلط ما يكفر عليه بالتعمد؛ فلا يجوز أن يجعل تلاوته للتعظيم، والإيمان به كفرًا، ثبت بذلك رفع حكم الكفر عمن أخطأ في إجرائه على اللسان، فمثله السكران؛ إذ هو مخطيء، واللَّه أعلم.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله - تعالى -: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ):
عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: هو أن يكون مسافرًا ولا يجد
190
الماء فيتيمم.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: هو المسافر.
وقيل: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) نهي الجنب أن يدخل المسجد ومكان الصلاة إلا عابري سبيل، إلا مجتازًا.
ومن تأول الآية على المرور في المسجد فهو غير بعيد؛ يقول: إنما كره للجنب أن يستوطن المسجد، فأما المار لأمر يعرض له، فقد رخص له؛ ألا ترى أن الجنب رخص له أن يقرأ بعض الآية، ولا يجوز أن يتمها، فمروره في المساجد إذا لم يجلس فيه كقراءته بعض الآية إذا لم يتمها، وعلى ذلك أمر الجنب.
واستثناء عابري السبيل يكون على فعل الصلاة بالتيمم؛ فيكون في الآية دلالة التيمم للجنب، أو المكان؛ فيباح الدخول فيه على العبور فيه بالتيمم أيضًا؛ فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه إذا كان منه بالتيمم، واللَّه أعلم.
وإذا أبيح للجنب دخول المسجد بالتيمم؛ فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة، فله الصلاة به لعذر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) الآية.
أباح اللَّه - تعالى - للمريض المقيم أن يتيمم، والآية ذكرت المرض عامَّا، وأجمعوا أن المريض الذي لا يخاف أن يضر به الماء لا يتيمم، وإنما أجازوا أن يتيمم إذا خاف ضرر
191
الماء إن هو توضأ به؛ فدل أن اللَّه - تعالى - لما أباح للمريض التيمم لم يبح باسم المرض، ولكنه لمعنى في المرض؛ دليله ما ذكر أنه لم يبح لكل مريض، وإنما أبيح لمريض دون مريض.
وفيه دليل لقول أبي حنيفة - رضي اللَّه عنه - حيث أباح للمقيم الجنب التيمم إذا خاف على نفسه الهلاك؛ ألا ترى أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أباح للسفر التيمم، ولم يبحه باسم السفر، ولكنه أباح لمعنى فيه: وهو إذا كان بمكان إعذار والماء؛ ألا ترى أنه لا يباح له التيمم في الأمصار، وإن كان اسم السفر موجودًا؛ لعدم معنى السفر؛ فعلى ذلك إباحة التيمم للمريض إباحة لمعنى في المرض؛ ألا ترى أنه ذكر مجيئه من الغائط، والغائط هو المكان المطمئن الذي يقضي فيه الحاجة، ولا كل من جاء من ذلك المكان يلزمه الوضوء والتيمم؛ دل أنه لمعنى فيه، فعلى ذلك الأول.
وروي أن جريحًا غسل فمات، فبلغ الخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " قَتَلَوهُ، فَإِنَّمَا يَكْفِيهِم كَفٌّ مِنْ تُرَابٍ "، وكذلك غسل محدود فمات، فقال: " قَتَلوه، إِنَّمَا يَكْفِيهِ كَفٌّ مِنْ تُرَابٍ " ونحو هذا، فإذا ثبت أن المراد من المرض والسفر والغائط المعنى الذي فيه لا لعين المرض والسفر والغائط؛ لما ذكرنا؛ دل أن كل مريض يباح له التيمم، وإنما يباح لمريض دون مريض، وكذلك لم يبح لكل أسفر وإنما يباح، لسفر دون سفر، ومكان دون مكان، وهو المكان الذي يعدم الماء فيه ويفقد.
فعلى ذلك المراد من قوله: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)
192
عين اللمس وهو الجماع، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والجماع - نكاح، ولكن اللَّه - تعالى - كنى.
وعن الحسن، وعبيد بن عمير، وعطاء، قالوا: الملامسة: الجماع.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في ذكر المرض والسفر والغائط والملامسة إذا كان المراد من ذكرها غيرها؟
قيل: الحكمة في ذكرها هو أن المرض في أغلب أحواله يُعْجِزُ المرءَ عن إصابة الماء، وكذلك السفر في أغلب أحواله يُعْجِز صاحبَهُ عن الماء، فخرج الذكر على أغلب الأحوال، وكذلك من جاء من الغائط؛ الأغلب أنه إنما يجيء عن قضاء الحاجة؛ لأنهم كانوا لا يخرجون إلا لقضاء الحاجة، وكذلك الملامسة من الزوجين، الأغلب فيها قضاء الوطر والحاجة، فعلى الأغلب خرج الذكر وإن احتمل غيره، وهذا يدل على أن الاحتجاج بالظواهر والعموم بحق المخرج باطل؛ لما لا يجوز لأحد أن يحتج بظاهر هذه الآية أن يقول: على كل مريض، أو على كل مسافر إلا كذا.
ثم اللمس إن أريد به الجماع، فهو ممكن لوجهين:
أحدهما: البلية بالقبلة، واللمس باليدين من الزوجين ظاهرًا لا يحتمل ألَّا يعرف به الرسول والأئمة من فعل العوام، فلو كان الوصف فيه لازمًا لا يحتمل ترك إظهار البيان حتى يلزم أكثر الأمة المنكر في فعل الصلاة، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يكون الأمر بالمعروف في كل لمس ومس جرى الذكر به بين الذكور والإناث فهو بحق الكناية عن الجماع، وكذلك سائر الحروف المحتملة للكناية عنه؛ من نحو: المباشرة، والغشيان، ونحو ذلك، وبه قال كل من أجاز التيمم للجنب في حق الصلاة من الصحابة - رضوان اللَّه تعالى عليهم - واللَّه أعلم.
193
وإن أريد به غير الجماع مما قد يحتمل وجوهًا، فهو لا يجمع الكل، ولكن يرجع إلى خاص، وهو الذي في الغالب أن يكون ثم خروج وإن لم يكن، وهي المباشرة الفاحشة؛ دليله ذكر المرض والسفر على غير اقتران الحكم بنفسه؛ إذ هو اسمان لوجوه، فانصرفا إلى غاية ما له وقعت الرخصة من العجز والعدم، فمثله أمر الوضوء في الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)
قيل: التيمم: القصد؛ يقال: تيممت الصعيد وأممته، لغتان.
وقوله: (فَتَيَمَّمُوا): تعمدوا صعيدًا طيبًا، فإذا كان التيمم القصد والتعمد إلى الصعيد - لم يجز إلا بالنية؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بالقصد إليه والتعمد، وذلك أمر بالنية؛ لأن القصد نية.
وفي حرف حفصة وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " فأموا صعيدًا طيبًا " أي: اقصدوا قصده، والصعيد، قيل: هو وجه الأرض، وسمي: صعيدًا؛ لما يصعد عليها.
وقيل: الصعيد هو الأرض التي تنبت؛ ألا تري أنه رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " جُعِلَتْ لي الأَرْضُ مَسجِدًا وَطَهُورًا، إِلا السَّبَخَةَ وَالمَقْبَرَةَ " وقيل: إنها ملعونة؛ ولهذا قال أبو يوسف - رحمه اللَّه -: إن التيمم لا يجوز من الأرض السبخة؛ لأنها ليست
194
بطيب، والطيب ما ينبت، وأما أبو حنيفة - رضي اللَّه عنه - فإنه قال: الطيب: هو الطاهر الحلال، له أن يتيمم به إذا عدم الماء، الطيب: اسم ما أحل في كل نوع، من المقصود فيه، والمقصود في التيمم التطهر، فهو الطهور والطاهر، وأيده الخبر الذي ذكر من جعل الأرض طهورًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)
الأمر يقع بمسح الأيدي على الذراعين دون الكفين؛ دليله أمر الوضوء أنه يُغْسَلُ الذراعان وقت غسلهما بلا غسل كفين؛ إذ قد تقدم غسلهما، فالذراعان دخلتا في المسح بذكر اليد، وكذلك في الوضوء؛ لأن الكفين يغسلان قبل غسل الوجه، فالأمر بغسل اليد يقع على الذراعين وما وراء ذلك.
وعن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي الجهيم قال: أقبل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من غائط أو بول، فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ السلام، فضرب باليد الحائط ضربة فمسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها يديه إلى المرفقين، ثم رد السلام.
وهكذا يقول أصحابنا - رحمهم اللَّه - بالضربتين: ضربة للوجه، وضربة للذراعين.
الأصل: أنه إذا قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في الوضوء: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ): أنه في وقت الأمر يفعل الغسل إلى المرافق غير مخاطب بغسل الكفين على حق غسل الذراع؛ إذ
195
قد أمضى غسل فرضها، من قبل؛ فصارت الآية كأنها في غسل الذراع بالأمر بغسل اليد، وعرف بذلك غسل الكف لا بها، فمثله أمر التيمم؛ فصارت الآية كأنها في حق الذراع، ودخل الكف في ذلك بالخبر على أن أمر الطهارة فيما أضيفت إلى عضو أو بدن لم يحد لم يدخل كالمضاف إليه في الاشتراك بقضاء حقهما، نحو الجنابة، والوجه، والرأس، فكذلك أمر اليد في التيمم، لكن قصر عن التمام، بدلالة بيان السنة وعموم الفتيا، وما لا يشك في قضاء حكم الوضوء، وليس هو في بعض اليد فلا يجعل فيما ليس هو فيه بدله؛ إذ حقه التقصير عن كمال وظيفة الأصل، لا الزيادة عليه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا)
لما مضى من الذنوب
(غَفُورًا) لما يستقبل.
والعفو: الصفح والمحو، والغفر: الستر، هو يعفو عنه، ويستر على صاحبه.
أو يعفو من التجاوز؛ فيختلف اللفظ على إرادة معنى واحد.
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا) يقول: أعطوا حظًّا من علم الكتاب، وهم علماؤهم، يشترون الضلالة بعلم الكتاب.
ويحتمل: يشترون الضلالة بالهدى، وكذلك قيل في حرف حفصة على ما ذكر في
غير هذه الآية: (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى)، وذلك أنهم كانوا آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث، فلما لم يبعث على هواهم، كفروا به؛ كقوله - تعالى -: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ).
ويحتمل: يشترون ضلالة غيرهم بالتحريف، والرشاء، ونحو ذلك؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، وقوله: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا).
(أَلَمْ تَرَ) حرف التعجب عن أمر قد بلغه؛ فيخرج مخرج التذكير، أو لم يبلغه؛ فيخرج مخرج التعليم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) يحتمل وجهين:
(وَيُرِيدُونَ) أي: يتمنون أن تضلوا السبيل؛ لتدوم لهم الرياسة والسياسة؛ إذ كانت لهم الرياسة على من كان على دينهم، ولم يكن لهم ذلك على من لم يكن على دينهم؛ فتمنوا أن يكونوا على دينهم؛ لتكون لهم الرياسة عليهم.
وقيل: (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي: يأمرونهم ويدعونهم إلى دينهم؛ لما ذكرنا من طلب المنافع، وإبقاء الرياسة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ... (٤٥)
كأنهم - واللَّه أعلم - يطلبون موالاة المؤمنين، ويظهرون لهم الموافقة، فنهي اللَّه - تعالى - المؤمنين عن موالاتهم؛ كقوله - تعالى -: (لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا)...)، إلى قوله - سبحانه وتعالى -: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ...) الآية، فأخبر اللَّه - تعالى - المؤمنين أنه أعلم بأعدائكم منكم.
ويحتمل أن يكون المؤمنون استنصروهم، واستعانوا بهم في أمر، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم أعداؤكم، وهو أعلم بهم منكم.
ثم قال: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا)
أي: كفى به وَلِيًّا ومعينًا، وكفي به ناصرًا.
ويحتمل قوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) مما أعطاكم من أعطاكم؛ أي: لا ولي أفضل من اللَّه - تعالى - ولا ناصرًا أفضل منه، منه البراهين والحجج، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ... (٤٦) وفي حرف ابن
197
مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا)، (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) على الاستئناف، والابتداء خبر، وفي حرف غيره: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) - معناه واللَّه أعلم: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من الذين هادوا، لا ذكر للنصارى في ذلك.
وفي حرف ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - ذكر النصارى في الذين أوتوا نصيبًا.
وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " من الذين هادوا من يحرف الكلم عن مواضعه ".
ثم تحريف الكلم يحتمل وجهين:
يحتمل: تغيير المعاني وتبديل التأويل على جهالهم؛ كقوله - تعالى -: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ...) الآية.
ويحتمل: تغيير اللفظ والكتابة نفسها؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)
قيل: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ)
قيل: اسمع قولنا غير مسمع، أي: غير مجيب.
وقيل: اسمع قولنا غير مسمع لا سمعت؛ على السب.
وقوله: (وَعَصَيْنَا)
الإسرار به منهم أظهره اللَّه - تعالى - عليهم؛ ليكون آية للرسالة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَاعِنَا)
قيل: يقولون لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: راعنا سمعك.
198
وقيل: (وَرَاعِنَا): أرعنا حقوقنا؛ وهو من الرعاية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي: تحريفًا، والتحريف ما ذكرنا؛ كقوله - تعالى -: (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ...) الآية.
وقيل في قوله - تعالى -: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي: اسمع يا مُحَمَّد منا قولنا غير مسمع منك قولك، ولا مقبول ما تقول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) أي: لو قالوا: سمعنا قولك، وأطعنا أمرك، وانظرنا فلا تعجل علينا ننظر.
وقيل في قوله: (وَانْظُرْنَا): أفهمنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)
مما قالوا: سمعنا قولك وعصينا أمرك، لكان خيرًا لهم في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: فدوام الرياسة التي خافوا فوتها لو أطاعوه واتبعوه؛ إذ قد مَن آمن منهم وأطاعوا نبيه فلم تذهب عنهم الرياسة والذكر في الدنيا؛ بل ازداد لهم شرفًا وذكرًا في الحياة وبعد الممات، وأمَّا في الآخرة فثواب دائم غير زائل أبدًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأقوَمَ)
أي: أعدل وأصوب لما ذكرنا.
(وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ)
واللعن: هو الطرد، طردهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من رحمته ودينه، لما علم منهم أنهم لا يؤمنون باختيارهم الكفر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا)
قيل: والقليل من أسلم؛ من نحو ابن سلام وأصحابه وغيرهم.
وقيل: قوله - تعالى -: (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) منهم، أو لا يؤمنون إلا بالقليل من
199
الآية ٤٦ وقوله تعالى :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه ﴿ وكفى بالله نصيرا ﴾ و ﴿ من الذين هادوا ﴾ على الاستئناف والابتداء خبر. وفي حرف غيره ﴿ من الذين هادوا ﴾ معناه، والله أعلم ﴿ الم تر إلى الذين أوتوا نصيبا كمن الكتاب ﴾ ﴿ من الذين هادوا ﴾ لا ذكر للنصارى في ذلك. في حرف ابن مسعود رضي الله عنه ذكر النصارى في الأصل وفي ﴿ الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ في حرف حفصة رضي الله عنها ﴿ من الذين هادوا ﴾ من يحرف ﴿ الكلام عن مواضعه ﴾
ثم تحريف الكلام يحتمل وجهين : يحتمل تغيير المعاني وتبديل التأويل على جهالهم كقوله تعالى :﴿ وإن منهم لفريقا يلون ألسنتهم ﴾ الآية ( آل عمران ٧٨ ) ويحتمل تغيير اللفظ والكتابة سبحانه وتعالى ﴿ فويل للذين يكتبون بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ﴾ ( البقرة ٧٩ ).
وقوله تعالى :﴿ ويقولون سمعنا وعصينا ﴾ قيل :﴿ سمعنا ﴾ قولك ﴿ وعصينا ﴾ أمرك.
وقوله تعالى :﴿ واسمع غير مسمع ﴾ قيل : اسمع قولنا ﴿ غير مسمع ﴾ أي غير مجيب. وقيل :﴿ واسمع غير مسمع ﴾ لا سمعت على السب وقولهم١ ﴿ وعصينا ﴾ الإسراء منهم أظهره الله تعالى ليكون آية الرسالة.
وقوله تعالى :﴿ وراعينا ﴾ قيل :{ يقولون لمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وراعينا ﴾ سمعك وقيل :﴿ وراعيا ﴾ حقوقنا وهو من الرعاية.
وقوله تعالى :﴿ ليا بألسنتهم ﴾ أي تحريفا والتحريف ما ذكرنا كقوله تعالى :﴿ يلون ألسنتهم بالكتاب ﴾ الآية ( آل عمران ٧٨ ) وقيل في قوله تعالى :﴿ واسمع غير م سمع ﴾ أي اسمع يا محمد منا قولنا غير مسمع منك وقولك، ولا مقبول ما نقول.
وقوله تعالى :﴿ ولو أنهم قالوا سمعنا وانظرنا لكان خيرا لهم ﴾ أي لو قالوا : سمعنا قولك وأطعنا أمرك، وانظرنا، فلا تعجل علينا، تنظر. . وقيل في قوله :﴿ وانظرنا ﴾ أفهمنا.
وقوله تعالى :﴿ لكان خيرا لهم ﴾ ( مما قالوا أي ) ٢ سمعنا قولك وعصينا أمرك لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فدوام الرئاسة التي خافوا فواتها لو أطاعوه، واتبعوه آمن ( أي آمن لهم لو أطاعوه ) ٣ تنبيه فلم تذهب عنهم الرئاسة والذكر في الدنيا بل زادهم٤ شرفا وذكرا في الحياة وبعد الممات. وأما في الآخرة فثواب دائم غير زائل أ بدا.
وقوله تعالى :﴿ وأقوم ﴾ أي أعدل وأصوب لما ذكرنا ﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم ﴾ واللعن الطرد، طردهم الله عز وجل من رحمته ودينه ملا عم منهم ( أنهم ) ٥ لا يؤمنون باختيارهم الكفر.
وقوله تعالى :﴿ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ قيل : والقليل من نحو ابن سلام وأصحابه ٦، وقيل : قوله تعالى :﴿ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ أي لا يؤمنون إلا بقليل من الكتب والأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى :﴿ نؤمن ببعض ونكفر ببعض ﴾( النساء : ١٥٠ ).
١ في الأصل: وقولنا..
٢ في الأصل: مما قالوا في م: أي..
٣ في الأصل و م: إذ آمن منهم وأطاعوه..
٤ في الأصل و م: ازداد لهم..
٥ ساقطة من الأصل و م..
٦ أدرج بعدها في الأصل وم: وهم..
الكتب والأنبياء، عليهم السلام؛ كقوله - تعالى -: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ).
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٤٧) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) دلت هذه الآية أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ ولا ممن أوتوا الكتاب؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) أي: موافقا لما معكم وليس عند المجوس كتاب حتى يكون المنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مصدقًا لما معهم.
ثم قوله: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) أي: موافقًا لما معكم، وإنَّمَا كان موافقًا لما معهم بالمعاني المدرجة فيه والأحكام، لا بالنظم واللسان؛ لأنه معلوم أن ما معهم من الكتاب مخالف للقرآن نظمًا ولسانًا، وكذلك سائر كتب اللَّه - تعالى - موافق بعضها بعضًا معاني وأحكامًا، وإن كانت مختلفة في النظم واللسان؛ دل أنها من عند اللَّه - تعالى - نزلت؛ إذ لو كانت من عند غير اللَّه كانت مختلفة؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، ففيه دليل لقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث أجاز الصلاة بالقراءة الفارسية؛ لأن تغير النظم واختلاف اللسان لم يوجب تغير المعاني واختلاف الأحكام، حيث أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه موافق لما معهم، وهو في اللسان والنظم مختلف، والمعنى موافق.
200
ثم يحتمل قوله: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) بصفته، ونعته، ونبوته، ومبعثه، وزمانه، فيه فيما معكم، لا يخالف في شيء من ذلك.
ويحتمل: أنه هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي آمنتم به قبل أن يبعث، فكيف كفرتم باللَّه؟! واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا...) الآية.
قيل: لما نزلت هذه لآية قدم عبد اللَّه بن سلام على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأسلم، وقال: يا رسول اللَّه، ما كنت أرى أني أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي.
وقيل: طمسها: أن تعمى أبصارها، وردها على أدبارها.
وقيل: طمس الوجوه: أن تعمى، وترد عن بصرتها، وذلك أنهم كانوا مؤمنين بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مستيقنين بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نبي اللَّه، يجدونه في كتبهم، يقول: حققوا إيمانكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبكتابه من قبل أن نضلكم عن هداكم؛ فتصيروا ضُلَّالًا؛ فلا تعلمون ما كنتم تعملون.
ويحتمل أن تكون الآية خرجت على الوعيد، وهي على التمثيل، لا على التحقيق.
ويحتمل: على التحقيق؛ كقوله - تعالى -: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) ويحتمل أن يكون هذا في الآخرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا) يحتمل الحقيقة؛ فيرجع إلى يوم القيامة، فيذهب عنه جميع محاسن الوجه.
أو نطمس وجوه الحق عنه بمعاندته، فيبصر الحق بغير صورته والباطل بغير صورته بعد أن كانوا رأوا كل شيء بصورته في كتبهم المنزلة، واللَّه أعلم.
أو نطمس وجوههم عند أتباعهم الذين لأجلهم غيروا وحرفوا بما يطلعهم على خيانتهم، ويظهر لهم تبديلهم، وقد فعل بحمد اللَّه تعالى.
وقد يحتمل الوعيد: أن يفعل بهم إن لم يؤمنوا حقيقة ذلك؛ كفعله بأصحاب السبت، تغير الجوهر، ثم لعل أُولَئِكَ قد أسلموا، أو نزل بهم ولم يذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)
201
أي: كان بأمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مفعولا، كما يقال: الجنة رحمة اللَّه، والمطر رحمة اللَّه، أي: برحمة اللَّه، فعلى ذلك معنى قوله - سبحانه -: (أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) أي: بأمر الله كان مفعولا.
ويحتمل قوله: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)، أي: عذاب اللَّه نازلا بهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (٤٨)
أجمع الناس أن اللَّه، يغفر الذنوب كلها: الشرك وما دونه إذا انتهى وتاب بقوله - تعالى -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) دل أن إطماع المغفرة لما دون الشرك لمن لم ينته عنه.
وقال الخوارج: الكبائر كلها إشراك باللَّه، فمن ارتكبها دخل تحت قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)، والمسألة بيننا وبينهم في ذلك، فيقال لهم: المعنى الذي صار به مشركا عندكم بارتكابه الكبيرة ذلك المعنى موجود في ارتكابه الصغائر؛ فيجيء أن يكون كافرًا، فإذا لم يصر بذلك كافرًا لم يصر بارتكابه الكبائر كافرًا.
وقالت المعتزلة: صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر.
وقال أبو بكر الأصم: ظهر الوعيد في الكبائر، وشرط المغفرة لما دون الشرك بقوله - تعالى -: (لِمَنْ يَشَاءُ) فهو للصغائر؛ كقوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) أخبر أن من السيئات ما يكفر، ومنها ما لا يكفر، فهو للصغائر.
وأمَّا عندنا: فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أطمع المؤمنين المغفرة ما دون الشرك، ولو كان لا يجوز في العقل المغفرة لكان لا يطمع؛ لأنه لا يجوز أن يطمع ما لا يجوز في العقل، فإذا أطمع دل أنه يجوز في العقل المغفرة لما دون الشرك، ثم له المشيئة: إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم.
وأما إطماع المغفرة في الشرك: فإنه لا يجوز في العقل؛ لأن من اعتقد دينا إنما يعتقده
202
للأبد، وليس كل من ارتكب ذنبًا يرتكبه للأبد؛ بل إنما يرتكبه لقضاء شهوة تغلبه، فهو يندم على إثره؛ لذلك قلنا: يجوز في العقل إطماع المغفرة لما دون الشرك، ولا يجوز للشرك، وباللَّه التوفيق.
ووجه آخر: أن الوعيد الذي ذكرته يحتمل الاستحلال، والاستخفاف بالأمر والنهي، فلا يتزل بما أطمع بهذه الآية من المغفرة؛ فيزال الطمع والرجاء بالوعيد المتوجه وجهين أو يوقف فيهم؛ فأما القطع في أحد الوجهين بالمحتمل ومنع القطع بالآخر للاحتمال فهو تحكم، ولا قوة إلا باللَّه.
ووجه آخر: أن الآية في التفصيل بين المحتمل للغفران والذي لا يحتمل، فإذا صرفت إلى الصغائر فيبطل تخصيص اسم الشرك، ويلتبس على السامع محله، وليس أمر الوعيد فيما جاء بموضع التفصيل، بل الذي جاء بحق التفصيل ذكر الغفران بالتكفير، والتكفير يكون مقابلة الجزاء من حسنات أو عقوبات؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ...) الآية، واللَّه الموفق.
ووجه آخر: قال اللَّه،- عَزَّ وَجَلَّ -: (لِمَنْ يَشَاءُ) وهذا كناية عن الأنفس المغفورات، لا عن الآثام التي تغفر، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس، وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم، وفيما جاء عامًّا؛ فبان لا صرف في ذلك، فهو أولى، واللَّه الموفق.
وبعد، فإنه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (لِمَنْ يَشَاءُ) والصغائر عندكم مغفورة بالحكمة لا بالوعد، والآية في التعريف، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله - تعالى - أيضًا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فمعلوم: أنه فيما يلزمه حتى يختم به، لا فيما يتوب عنه؛ أيد ذلك قوله: (إِن يَنتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ...) الآية، وغير واحدة من الآيات التي جاءت في الكفرة لما آمنوا، واللَّه أعلم؛ فصار كأنه قال: لا يغفر أن يشرك به إذا لم يتب عنه، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن لم يتب منه، فلو كان شيئًا مما دونه لا يحتمل في الحكمة المغفرة لضمه إلى الممتنع عن الاحتمال، لا أن ألحقه بالمحتمل له فيما كان معلومًا أن القصد فيه إلى بيان ما فيه الرجاء والإياس، وأيد ذلك
203
قوله - تعالى -: (لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، فلو كان يلزم الإياس لما دونه ليجب الوصف له بالكفر؛ إذ الإياس لهم بالكفر وفي تحقيقه تحقيقُهُ، فأي الوجهين لزم تبعه الآخر في حق الإياس، لا في وجود فعله؛ إذ قد يوجد فعل الرجاء في الكفرة، ثبت أن ذلك في الحكم والتحقيق، لا في وجود الفعل، وباللَّه التوفيق.
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ)
قيل: هم اليهود، جاءوا بأبنائهم أطفالا، فقالوا: يا مُحَمَّد، هل على أولادنا هَؤُلَاءِ من ذنب؟ قال: " لا "، قالوا: فوالذي يُحْلَفُ به ما نحن إلا كهيئهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كُفِّرَ عنا بالليل، وما عملنا بالليل إلا كُفِّرَ عنا بالنهار، فذلك التزكية منهم.
وقيل: تزكيتهم أنفسهم بقولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، لا ذنوب لنا.
ويحتمل: أن تكون تزكيتهم أنفسهم ما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، وكان أكثر الأنبياء - عليهم السلام - إنما بعثوا من بني إسرائيل، وكانوا يزكون أنفسهم بذلك، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم كانوا مفضلين على غيرهم، لكن لما فضل غيرهم عليهم صار أُولَئِكَ المفضلون دونهم وذلك، قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) يفضل من يشاء، أو يبرئ من يشاء من الذنوب.
ثم التزكية تذم؛ أن يزكي أحد نفسه؛ لأن التزكية هي التنزيه من العيوب كلها والذنوب، وذلك مما لا يسلم أحد منها، ولا يبرأ، ولا يستحق مخلوق، وذلك معنى النهي: (فَلَا
204
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ)، إذ تخرج التزكية مخرج التكبر، وذلك لجهله بنفسه لما لا يرى غيره شكل نفسه ولا مثله فيتكبر عليه، ولو عرف أنه مثله وشكله ما تكبر على أحد قط، ولا زكي نفسه.
وقول الرجل: أنا مؤمن، ليس ذلك منه تزكية، إنما هو إخبار عن شيء أكرم به، والتزكية هي التي يرى ذلك من نفسه.
وقوله -أيضًا-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) ليس في إظهار الإيمان تزكية؛ لما لا يخلو من أن تظهر لمن أبى مشاركتك فيه، فعليك الإظهار بحق الدعوة إليه؛ لتدعوه إلى ما تدين به، أو هو يشاركك فيه، والتزكية -في الحقيقة- فيما يوجب تقديمك، وليس في هذا.
وأيضًا: إن القول بالإيمان ليس بمقدر عن معنى العبادة، أو سبب فيه علو من حيث ذلك، إنما هو خبر عن أمر هو في اللغة تصديق، والتصديق بأمر هو كذلك ليس بالذي يعد في الرتب، بل على كل ذلك، ولا أحد إلا وقد يؤمن بأشياء ويصدق، فليس في القول به منقبة، وكذلك ما من أحد إلا وعليه التكذيب بأمور، فلا بالتكذيب في الإطلاق لوم، ولا بالتصديق بالإطلاق مدح؛ إذ كل في ذلك، لكن الذم في تكذيب يكذب به، فيكون من حيث كذبك ذممت، ثم تتفاوت على تفاوت درجات الكذب.
ثم التصديق لو كان ثم مدح فهو بصدقه أيضًا، ولا أحد يخرج الصدق كله؛ فيصير المرء بوصفه نفسه صادقًا في شيء تزكية ومدحًا، ولا قوة إلا باللَّه.
على أن للإيمان حدًّا، وكل عبادة ذات حد، فلا امتداح ممن قد أداها بالإخبار عن الأداء، وبخاصة الفرائض منها، نحو من يقول: قد صليت الظهر، أو أديت زكاة مالي،
205
أو حججت، أو نحو ذلك، وفيما يقول: هو بر، أو تقى، أو حبيب اللَّه - تعالى - أو نحو ذلك مما يرجع ذلك إلى ما لا يعرف حده من الخيرات، فهو بذلك يرتفع على الأمثال، ويفتخر عليهم، فيما لو كان صادقًا كان في ذلك منه إغفال عن حق ذلك، ولو كان كاذبًا كان ذلك جائزًا فيه، ممقوتًا بالكذب، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الفتيل: ما فتلت بين أصبعيك.
والنقير: ما يكون وسط النواة.
وقيل: النقير والقطمير: قشر النواة.
وقيل: الفتيل -أيضًا-: ما يكون وسط النواة.
وقيل: النقير: الذي يكون في ظهر النواة، وهو على التمثيل.
وقيل في حرف حفصة: (ألم تر إلى الذين قالوا إنا نزكي أنفسنا بل اللَّه يزكي من يشاء).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (٥٠) الآية ظاهرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلٍَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ... (٥١)
قيل: أعطوا حظًّا من الكتاب، وهم علماؤهم.
(يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) اختلف فيه:
قيل: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن.
وقيل: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: الجبت: الشيطان بكلام الحبشة،
الآية ٥١
وقوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ قيل : أعطوا حظا من الكتاب، وهم علماؤهم ﴿ يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ اختلف فيه ؛ قيل الجبث الشيطان، والطاغوت الكاهن، وقيل : الجبث السحر، والطاغوت الكاهن، والطاغوت الشيطان. وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]١ قال :( الجبت الشيطان بكلام الحبشة، والطاغوت كهان العرب ) وقيل : الجبت الكاهن، والطاغوت الشيطان. وقيل : الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف ؛ يخبر عز وجل عن سفههم ٢بإيمانهم بهؤلاء وحسدهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ويحذر المؤمنين عن صنيعهم ؛ لأن هؤلاء كانوا علماءهم مؤمنين بالجبت والطاغوت ﴿ ويقولون للذين كفروا هؤلاء من الذين آمنوا سبيلا ﴾.
قيل في القصة : إن هؤلاء أتوا مكة لحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أجله، ففعلوا، فدخل أبو سفيان في مثل عدتهم، فكانوا بين أستار الكعبة، فتحالفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين :[ لتكن كلمتنا ]٣واحدة، ولا نخذل بعضنا، ففعلوا. ثم قال أبو سفيان : ويحكم يا معشر اليهود أينا أقرب إلى الهدى وإلى الحق ؟ أنحن أم محمد وأصحابه ؟ فإنا نعمر هذا المسجد، ونحجب هذه الكعبة، ونسقي الحجاج، ونفادي الأسير، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه ؟ قالت اليهود : لا بل أنتم، فذلك قوله تعالى :﴿ ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ﴾.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ من م، في الأصل: سفهم..
٣ في الأصل: لتكون كلمتنا، في م: لتكون كلمتنا..
والطاغوت: كهان العرب.
وقيل: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان.
وقيل: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف.
يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم بإيمانهم بهَؤُلَاءِ وحسدهم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ويحذر المؤمنين من صنيعهم؛ لأن هَؤُلَاءِ كانوا علماءهم مؤمنين بالجبت أوالطاغوت، (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا).
قيل في القصة: إن هَؤُلَاءِ أتوا مكة؛ ليحالفوا قريشًا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أجله، ففعلوا، فدخل أبو سفيان البيت في مثل عدتهم، فكانوا بين أستار الكعبة، فتحالفوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى أصحابه - رضي الله عنهم -: لتكونن كلمتنا واحدة ولا يخذل بعضنا بعضا، ففعلوا، ثم قال أبو سفيان: ويحكم يا معشر اليهود، أينا أقرب إلى الهدى وإلى الحق، أنحن أم مُحَمَّد وأصحابه؟ فإنا نعمر هذا المسجد، ونحجب هذه الكعبة، ونسقي الحاج، ونفادي الأسير، أفنحن أفضل أم مُحَمَّد وأصحابه؟ قالت اليهود: لا، بل أنتم؛ فذلك قوله - تعالى -: (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا).
وفي حرف حفصة: (ويقولون للذين أشركوا هَؤُلَاءِ أهدى من الذين آمنوا سبيلا).
ثم قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢)
واللعن يكون على وجوه:
اللعن: هو العذاب.
وقيل: (لَعَنَهُمُ اللَّه): عذبهم اللَّه.
واللعين: هو الممنوع عن الإحسان والإفضال.
وقيل: هو الطريد، أي: طردوا من رحمة اللَّه وإفضاله وإحسانه.
قال: الطاغوت: هو اسم اشتق من الطغيان: كالرحموت والرهبوت، من الرحمة والرهبة، ونحو ذلك، سمي به كل من انتهي في الطغيان غايته، حتى استحل أن يُعْبَدَ هو دون اللَّه، فهو طاغوت، وعلى ذلك تأويل قوله - تعالى -: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) أي: بعبادة كل من عبد دون اللًه.
وقيل: هم مردة أهل الكتاب.
وقيل: هو الشيطان.
وقيل: الصنم، وذلك كله يرجع إلى ما ذكرت.
وقيل في ذلك: كاهن، وقد سمي جبتًا.
وقيل في الجبت: السحر، فإن كان الجبت السحر فهو على ما قال: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ... ) الآيات، وأي شيء مما ذكرت قد كانوا آمنوا بذلك، فعيرهم اللَّه - تعالى - وسَفَّهَ أحلامهم بالإيمان بمن ذكرت، ومظاهرتهم على ما لهم من الأتباع [على رسول رب العزة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد علمهم بموافقته - عليه السلام -] (١) رُسُلهُم وتصديقه بكتبهم؛ وعلمهم بعدول أُولَئِكَ عن هذه الرتبة؛ بغيا وحسدًا، وكان في إظهار ذلك عليهم بيان الرسالة، وإعلام أتباعهم تحريفهم كتب الرسل، وإبداء ما في قلوبهم من الحسد؛ لتزول الشبهة عن الأتباع، وتظهر المعاندة في المتبوعين، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣) اختلف فيه:
قيل: لو كان لهم نصيب من الملك فإذن لا يؤتون الناس نقيرًا من بخلهم، وقلة خيرهم.
(١) هكذا في الكتاب المطبوع [على رسول اللَّه رب والعزة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد علمهم بموافقته - عليه السلام -] ولابد من حذف لفظ الجلالة أو جملة (رب العزة). واللَّه أعلم.
وقيل: لهم نصيب من الملك من الشرف والأموال والرياسة فيما بينهم، لكن ألا يأتون الناس، نقيرًا، فكيف يتبعونهم؟!.
وقيل: قوله - سبحانه -: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ)
أي: ليس لهم نصيب من الملك فكيف يؤتون الناس شيئًا؟! إنما الملك لله - عز وجل - هو الذي يؤتى الملك من يشاء؛ كقوله - تعالى -: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ....) الآية، إنما يستفاد ذلك باللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا بأحد دونه، واللَّه - تعالى - أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (٥٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
يقول: بل يحسدون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما آتاه اللَّه من فضله من الكتاب والنبوة؛ يقول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ردا عليهم: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، فلم يحسدوه، فكيف يحسدون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما آتاه اللَّه - تعالى - من الكتاب والنبوة، وهو من أولاد إبراهيم، عليه السلام؟! فهذا - واللَّه أعلم - معناه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا)
قيل: أراد الملائكة والجنود.
وقيل: هو ملك سليمان بن داود، وداود كان من آل إبراهيم، عليه السلام.
209
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) يعني: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - (عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني: من كثرة النساء، لكن ذلك ليس بحسد، إنما هو طعن طعنوه، وعيب عابوه؛ لأن الحسد هو أن يرى لآخر شيئًا ليس له؛ فيتمنى أن يكون ذلك له دونه، وقد كان لهم نساء، لكنه إن كان ذلك فهو طعن طعنوه، وعيب عابوه على كثرة النساء، ويقولون: لو كان نبيًّا لشغلته النبوة عن النساء، ويقولون: يحرم على الناس أكثر من أربع، ويتزوج تسعًا وعشرًا؛ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ردَّا عليهم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ...) وكان لداود تسع وتسعون امرأة، وما قيل -أيضًا- إن لسليمان - عليه السلام - ثلاثمائة سرية وسبعمائة حرائر.
إن ثبت ذلك: فكثرة النساء له لا تمنع ثبوت الرسالة والنبوة، وإنما تمنع كثرة النساء لأحد شيئين:
إما لخوف الجور، وإما للعجز عن القيام بإيفاء حقهن.
فالأنبياء - عليهم السلام - يؤمن ناحيتهم الجور، وكانوا يقومون بإيفاء حقهن مع ما كان قيام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة لتسع أو لعشر من النساء من آيات النبوة؛ لأنه كان معروفًا بالعبادة لله ليلًا، وبالصيام له نهارًا، وتحمل الجوع وأنواع المشقة تباعًا، ومعلوم في الخلق أن من كان هذا سبيله لم يقدر على وفاء حق امرأة واحدة؛ فضلًا أن يقوم لإيفاء حق العشر وأكثر؛ فدل أنه باللَّه قدر على ذلك، وعلى ذلك قيام داود - عليه السلام - لمائة من النساء، وقيام سليمان - عليه السلام - لألف منهن، فذلك من آيات النبوة؛ لما ذكرنا: أنه ليس في وسع أحد سواهم القيام بذلك.
210
وكذلك في قيام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لإظهار هذا الدِّين من غير اتباع كان له، أو ملك، أو فضل سعة - دليل أنه كان بنصر اللَّه أظهر، ويعوذه به جميع هذا الخلق على دينه.
وفي قوله -أيضًا-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ...) الآية تحتمل وجهين:
أحدهما: المحاجة: أن كيف يحسدون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأتباعه من آل إبراهيم وأولاده بما خصهم به من فضله، ولم يزل ذلك في آل إبراهيم، ولم يكونوا حسدوهم.
وعلى هذا قوله - تعالى -: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) أي: بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو بكتابه الذي أنزل عليه.
والثاني: أن يكون على التصبير على أذاهم الذي كان منهم بالحسد مما كان هذا فيمن تقدمه من آل إبراهيم، ومن فضله، ومن الحساد لهم في ذلك، والمؤذين لهم، فصبروا، ولم يكافئوهم؛ نحو قوله - تعالى -: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ): أي: بإبراهيم - عليه السلام - أو بما أنزل إليه، أو آله، واللَّه أعلم.
الأصل في اختلاف التأويل الآية واحدة فيما يجب في ذلك من الحق أنه على أقسام:
أحدها: أنه يتسع الكل.
ويحتمل: دخول الكل في المراد.
ويحتمل: إرادة البعض؛ فإن كان ذلك مما يجب العمل به يلزم طلب الدليل على الموقع للمراد، فإن وجد من طريق الإحاطة شهد عليه بالمراد، وإن لم يوجد عمل به على حسب الإذن في العمل به بالاجتهاد من غير الشهادة عليه أنه المقصود لا غير، واللَّه أعلم.
وإن كان ذلك مما لا يجب العمل به وإنما حقه الشهادة، يشهد به على ما هو في الحكمة وجوب تلك الشهادة من غير أن يقضي على الآية بقصد ذلك إذا كانت بحيث تتسع له ولغيره؛ نحو القول بأنه سميع عليم على إثر أمورهم من أدلة الخصوص، لو
211
كانت تحتمل الخصوص، وفي الحكمة أنه سامع كل صوت، وعليم بكل شيء، فبه يشهد، ولا يقال في ذلك: إنه أراد ذا من الخاص، نحو قوله - تعالى -: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، قال قوم: لا يقع الطلاق حتى يوقع؛ لأنه ذكر أنه سميع ولو أوقع الطلاق بغير قول، لم يكن لذكر السميع في هذا الموضع فائدة.
وقال قوم: (سَمِيعٌ) لإيلائه؛ إذ هو قسم ينطق به، (عَلِيمٌ) لعزمه، وقد ذكر (سَمِيعٌ عَلِيمٌ)؛ فيجب توجيه كل حرف إلى وجه، ليفيد حقيقة ذلك في هذا الموضع، ولو كان لا يقع دون القول لكان كل أمره مسموعًا؛ ليلتقي القول بأنه سميع عن القول بأنه عليم.
وفي جملة العقد من طريق الحكمة أنه سميع بكل صوت، عليم بكل شيء، لكن في النوازل يتوجه وجهين لا يجب القطع عليه في الإرادة إلا أن يجيء ما يوجب الإحاطة، وقد عمل به الخلق على الاختلاف، واللَّه أعلم.
ووجه آخر من التأويل: أنه يحتمل وجوهًا لا يسع للكل في حق العمل أو في حق الشهادة، لكنها لأحد الحقين، فإن كان ذلك في حق العمل يجب طلب دليله، ويكون الدليل على وجهين:
أحدهما: أن يوجب على حق العمل والشهادة جميعًا.
والآخر: أن يوجب على حق العمل خاصة، وقد بينا ذلك.
وإن كان في حق الشهادة فيجب الوقف في تحقيق المراد، والتسليم لله حتى يظهر، وذلك في حق إضافة الاستواء إلى اللَّه - تعالى - على العرش، والقول بالرؤية من حيث يثبت ما به يرى على الإشارة إليه، لا بالإحاطة، ونحو ذلك من الأمور، واللَّه أعلم.
ووجه آخر: أن يكون احتمال وجوهها إنما يكون بمقدمات، فيختلف على اختلاف تلك المقدمات، فلا يجوز تأويل تلك إلا بمعرفة المقدمة، إذا لم يكن فيها غير معرفة الموقع من المقدمة؛ نحو قوله - تعالى -: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)، لم يكن لأحد تأويل واحد من الوجهين حتى يعلم بالسمع أنه فيم كان مشغولا.
وقوله - تعالى -: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)، لم يكن لأحد طلب مراد قائله أو تأويل مراده، ولا يظفر به إلا بالوحي، ولا قوة إلا باللَّه.
212
والقول في حقه إلى أن يتبين ما كان في حق الشهادة، فلازم الوقف فيه حتى يظهر، وما كان في حق العمل، فإن كان في نوع ما يحتمل الاحتياط فحقه القيام به حتى يظهر دليل التوسيع، ودليل التوسيع على الوجهين اللذين ذكرت، وإن كان فيما لا يحتمل الاحتياط فحقه التوقف حتى يظهر واللَّه أعلم.
ولا يخلو شيء إلا أحد الوجهين به حاجة من دليل يكون له.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)
أي: غير الجلود النضيجة؛ كقوله - تعالى -: (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)، أي: تجدد ما قد فني، وكذلك أعيد ما قد كان من الجلود قبل النضج جديدًا في رأي العين من حيث صار الأول نضيجًا، لا أن كان هذا غير الأول، بل هو الأول غير نضيج؛ إذ ذلك نعت الأول، وتعذيب ما كان ارتكب المعصية؛ لأن التعذيب -في الحقيقة- على غير الذي أثم فيه.
وقال قائلون: الجلود والعظام ونحو ذلك لم تكن عصت ولا أطاعت، بل استعملت قهرًا وجبرًا، لا أنها عملت طوعًا، لكن الذي به عملت والذي استعملها في الجسد به يتلذذ ويتألم، فهو المعذب والمثاب بما صدر من الجسد؛ ألا ترى أن أجساد أهل الجنة تزداد الحسن والجمال، وجعل لأهلها حدا لا يزداد ولا ينتقص، وأجساد أهل النار مشوهة قبيحة؛ ليكون لهم في التقبيح عقوبة، وللأول بالتحسين ثواب، فكانت فيها أحوال للجزاء لم تكن للأعمال، فثبت أن المثاب والمعاقب ما ذكرت، لكنه يتألم ويتلذذ، فجعلت على ما بها تمام اللذة والألم من الأجساد لا على إعادة أنفس تلك الأجساد، بل على التجديد، كما ذكره في القرآن، وكذلك المقطوع على بعض الأعضاء في حال الكفر إذا أسلم يبعث سليمًا، لا كذلك، ومثله في حال الإسلام لو أريد لم يرفع عنه ألم ذلك؛ فدل الذي ذكرت على حق تجدد الثاني على ما شاء اللَّه والذي به كان المأثم والبر على ما قد كان، واللَّه أعلم.
وللمذهب الأول أن الجزاء هو لما يختم عليه؛ إذ لو كان إسلام لتمنى لنفسه أحسن الأحوال، وأسلم البنية ليستعملها بالخير، فأوجب ذلك إبطال جميع السيئات كانت بجوارح ذهبت أو بقيت، وكذلك من اختار الكفر فقد آثره، واختار أن يكون على ذلك،
213
وإن سلمت جوارحه وتمت فلزمه حكم احتياط جميع ما تقدم بكل فائت منه وباق، وفي الأول استوجب جعل جميع ما تقدم منه بالفائت والباقي حسنات لما ندم عن الكل بكل الجوارح، فلحق حكم تبديل السيئات بالحسنات في الكل؛ فيكون على حكم إعادة الأولى بحق التجديد في المعنى - واللَّه أعلم - نحو قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، وقوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ...) الآية.
وفي الإعادة كقوله - تعالى -: (من يُعِيدُنَا....) الآية، وقوله - عز وجل -: (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...) الآية، وغير ذلك من آيات البعث، واللَّه أعلم.
وقال قائلون: الواجب من العقوبة للكفر، وغيره بحكم التبع له، وكذلك الثواب الواجب منه للإيمان، ولغيره بحكم التبع، بل به قام، والأول به سقطت عنه مشيئة العفو، فصار الذي به الجزاء خاصًّا، وغيره بحكم التبع يزداد وينتقص؛ فعلى ذلك أمر الجزاء والتجديد والإعادة، وكل ذلك للذي هو بحق التبع، والاتباع في الشاهد بتجدد أعين الأفعال، ولا يدوم، والاعتقاد في الأمرين يدوم، فعلى ذلك أمر الجزاء ولذلك، واللَّه الموفق.
ولهذا الوجه ما يبطل الخلود لما سوى الكفر؛ إذ في ذلك إبطال الجزاء الدائم من حيث الأفعال، وإدامة الجزاء المنقطع من حيث الأفعال، فيكون فيه زيادة في العقوبة على المثل، واللَّه يقول: (فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، واللَّه الموفق.
ثم اختلف في المبعوث أنه يبعث بجسده أو يبعث الروحاني منه، سمته بعض الفلاسفة نفسًا، وبعضهم جوهرًا روحانيًّا، وبعضهم بسيطًا، فإن كل جسد فيه روحاني في حياته ومنافعه؛ وجسده له كالمانع عن جميع ما يحتمل من الأمور؛ إذ الجوهر الروحاني لطيف، ينفذ في الأشياء، ويتخلل إلا بالحابس، يبين ذلك أمر النائم أن النفس تخرج لقوله - تعالى -: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)، أو هي مما يسكن الجوارح وينقطع عنها هم الجسدية يرجع إلى حصة جوهره فيرأها تطوف في البلاد النائية،
214
وفي الأمكنة العلوية، حتى لا تصفها أرض ولا سماء تأتي بالأخبار عنها كأنها شاهدة، أما ما كان ذلك عملها بالجوهر حيث يكون من النفاذ إذا لم تحبس، أو هي بالجوهر تخرج فتعمل ذلك وهي تسمع وتبصر وتعقل في المنام كأنها بالجسد كذلك؛ فدل أن العمل في حال اليقظة وما له الجزاء لها، فعلى ذلك أمر الجزاء، وعلى ذلك جميع الجواهر التي بها الأغذية والحياة ليست بأعين تلك الأشياء، ولكن بما جعل في سريتها من الروحاني، وهي القوى التي تظهر في البدن إلى كل أجزاء البدن، فتقوى وتصح فيه بحياة روحه، وتزول عنه الآفات، وكذلك عن السمع والبصر والعقل حل شيء ثم تلقي فعله؛ فعلى ذلك أمر المعاد من الجزاء فهو على ذلك، وكذلك الثواب يكون من كل موعود مما يعرف في الشاهد بجسده ويرجع إلى السرية التي هي روح لذلك فيكون هو الثواب؛ لما هو بحكم روح في الجسد؛ ألا ترى أنه لا يبقى في الآخرة بالأكل الأجساد التي تلقى، وهي الأثقال التي تفضل في الجسد، ويخرج عنها جميع ما فيها من الأقوية والروح، فثبت أن الأمر يرجع إلى ما ذكرت، وهذا معنى قوله - عليه السلام -: " مَا لَا عَينٌ رَأَتْ، وَلَا أذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " لأن ذلك الجوهر لا تراه العين، ولا تسمعه الأذن في الشاهد، ولا يخطر على القلب، وتكون لذة ذلك روحانيًّا، لا هذه لذة الحياة بحياتها السمع والبصر، وكل باطن في الجواهر ولذة الأجساد إنما يكون باللهاة في الطعم، وبالعين في اللون، وهذا النوع، فيذهب هذا، ويكون الأول، وعلى ذلك تذهب العبادات الجسدانية، وتبقى الروحانية من الحمد، والثناء، والتعظيم، والهيبة، والمعرفة، ونحو ذلك يبقى أبدًا، بل يزداد؛ لما يذهب عنها الحواجب من الجسداني، وعلى ذلك يبطل تقدير الرؤية، وإبطاله مما عليه أمر الشاهد لذهاب ما به كونها في الشاهد، ورجوع الأمر إلى ما يحاط به على سقوط الحواجب، واللَّه أعلم.
اختلف من ذكرت في أمر البعث:
215
فمنهم من لا يرى على ما في الجسد من الروحاني فناء، والبعث هو إسقاط الأجساد وخروج ما فيها من الروحاني بصورها.
ومنهم من يقول: تفنى وتعاد على حالها، ومعلوم أن ذكر الجديد لا يحتمل بلا ذهاب الأصل، وذكر الإعادة بلا فوته، وقال: (مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وجعل إنشاء الأولى دلالة للأخرى، وليس ثَمَّ أخرى، بل هي الأولى، والأولى هي -على ما يزعمون- غير معروفة عند المنكرين؛ فيحتج عليهم بها، بل يجب أن يعرفوا الأولى أولا، ثم يساعدوا على نفي البعث، ويلزموا الإظهار.
والدهرية ومنكري البعث يقولون في جميع العالم بالظهور بعد الكون، وبالكون في الأصول بالقوة، ثم الظهور بالفعل، فكيف ينكرون البعث ليحتج عليهم بالخلق الأول؟! واللَّه أعلم.
وقال قوم بالبعث بالأجساد على ما كانت، لكنها كانت في الدنيا منشأة للفناء، مشتمل عليها آثار الفناء، ويحيط بها أعلام الهلاك، ومن آفات كلها وسواتر تحجبن عن أعمال لطائف الجواهر، وعن إدرإك الروحانيين، وإلا فهي كما وصفهم إلله - تعالى - أنه خلقهم في أحسن تقويم، وكرمهم بأقوم جوهر، وأكمل أسر، وأنقى خلقة، فإذا وقعت عليهم الآفات، وأعيدوا للبقاء؛ فيزول عنهم جميع الظلمات التي هن حواجب وسواتر لهم على الإحاطة بحقائق الأضياء وبواطنها، وعلى شكلهم تنشأ الأجساد المجعولة أجزاء لهم، فيلحقون بجميع اللطائف جسدا بما فيها من الجوهر الروحاني وتصير هذه في اللطف كذلك الجوهر، وهي لما تنقل إلى ألطف من ذلك، وأنور لهم كالأرواح؛
216
فيفضلون على الروحانيين بأجساد فيها معانيها من اللطافة، والنفاذ في الأمور التي هي كالروحانيين في التمثيل وما فيهم حق الروحانيين ألطف من ذلك بارتفاع آثار الفناء عنها، وخروجها من أن يعمل فيها الفساد، وعلى ذلك أجساد الجزاء، فإنها تخرج عن الآفات، وتمنع عن الفساد، وتصير أجسادها في الطيب والضياء كالروحاني، وما فيها من الروحاني يبقى فيها على كل حال لا يفنى، والأصل فيه أن الجزاء بحق الشهوات واللذات، لا بحق الأغذية وحياة أجساد المستنفعين بها، فتكون هي بجسدها وسريتها واحدة، وبقاء الأجساد لها أحق من بقاء الروحاني في هذا العالم من طريق الاعتبار؛ لأن الذي له حق الروحاني في الشاهد به البقاء والغذاء والحياة لا يدفع بها الآفات العارضة في الأرواح من جهة القوالب التي تضعف وتقوى، وفي الآخرة لا تعرض الآفات التي يحتاج فيها إلى الأغذية، وإنَّمَا ينال عنها الشهوات واللذات، وإنما يكون ذلك من حق الأجساد في الشاهد؛ لذلك كانت أحق أن تكون في الآخرة، ثم هذا القول أوفق بما جاء به من حجج السمع وما عليه الاعتبار.
فأما حجج السمع: فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ...) الآية، وقال: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا...) الآية وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية، وغير ذلك مما حاج به منكري البعث، والإشكال كان لهم في الأجساد، وفيها جرت المحاجاة؛ لذلك كانت هي أولى في الاعتبار مع ما كانت الأشياء اللطيفة التي لا تمس ولا تحس في التجديد لم يكن بحيث احتمال الإنكار لوجودهم في كل حال؛ نحو العقول تذهب بأسباب ثم تعود، وكذلك العلوم والسمع والبصر، ونحو ذلك، ثم الحسيات اللطائف: نحو الليل، والنهار، والنور، والظلمة، والظل، ونحو ذلك يرون الفناء والعود في كل حين لا ينكرون هذا النوع؛ ليحاجوا بالذي ذكر وبهذا؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق، واللَّه أعلم.
والاعتبار أن اللَّه - سبحانه وتعالى - أنشأ هذا الخلق على ما يتلذذون ويتألمون؛ ليكون ذلك علمًا للترغيب والترهيب بالموعود، وما يحل من الآفات وأضدادها في الروحاني في
217
الآية ٥٥
على هذا قوله تعالى :﴿ فمنهم من آمن به ﴾ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بكتابه [ الذي ] ١ أنزل عليه.
والثاني : أن يكون على التبصير على أذاهم الذي كان منهم بالحسد. فقد ٢ كان هذا في من تقدمه من آل إبراهيم٣ ومن الحساد لهم في ذلك والمؤمنين لهم، فصبروا، ولم يكافئوهم، نحو قوله تعالى :﴿ فمنهم من آمن به ﴾ بإبراهيم عليه السلام، أو بما أنزل عليه أو آله، والله أعلم.
الأصل في اختلاف التأويل، والآية واحدة في ما يجب في ذلك من الحق، أنه على أقسام :
أحدها : أنه يتسع الكل.
[ والثاني ] ٤ : يحتمل دخول الكل في المراد.
و[ الثالث ] ٥ : يحتمل إرادة البعض. فإن كان ذلك مما يجب العمل به يلزم طلب الدليل على الموقع للمراد ؛ فإن وجد من طريق الإحاطة [ فقد ] ٦ شهد عليه بالمراد، وإن لم يوجد[ يعمل ] ٧ به على حسب الإذن في العمل به بالاجتهاد من غير الشهادة عليه أنه المقصود لا غير، والله أعلم.
وإن ذلك مما لا يجب العمل به، وإن حقه الشهادة يشهد به على ما هو في الحكمة وجوب تلك الشهادة من عير أن يقضى على الآية بقصد ذلك إذا كانت بحيث تتسع له ولغيره، نحو القول :﴿ إنه سميع عليم ﴾( الأعراف : ٢٠٠ )على إثر [ أمورلهم ] ٨ من أدلة الخصوص، لو كانت تحتمل الخصوص.
وفي الحكمة أنه سامع كل صوت وعليم بكل شيء ؛ فيه يشهد. ولا يقال في ذلك : إنه أراد أن [ يكون ]٩ من الخاص نحو قوله تعالى :﴿ وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ﴾ ( البقرة : ٢٧٧ ). قال قوم : لا يقع الطلاق حتى يوقع لأنه ذكر أنه﴿ سميع ﴾ ولو أوقع الطلاق بغير قول لم يكن لذكر السميع في هذه المواضع ١٠ فائدة. وقال قوم﴿ سميع ﴾لإيلائه، إذ١١ هو قسم ينطق به﴿ عليم ﴾ بعزمه. وقد ذكر﴿ سميع عليم ﴾ فيجب توجيه كل حرف ليفيد حقيقته، ذلك في هذه المواضع. ولو كان لا يقع دون قول لكان كل أمر [ سميعا فيلتقي ]١٢ القول بأنه﴿ سميع ﴾عن القول بأنه﴿ عليم ﴾.
وفي جملة القصد١٣ من طريق الحكمة أنه سميع الحكمة أنه سميع بكل صوت، ﴿ عليم ﴾ بكل شيء. لكن في النوازل يتوجه وجهين :[ أحدهما :] ١٤ لا يجب القطع عليه في الإرادة إلا أن يجب الإحاطة، وقد عمل به الخلق على الاختلاف، والله أعلم.
ووجه آخر : من التأويل أنه يحتمل وجوها لا يسع للكل في حق العمل وفي حق الشهادة، لكنها لأحد الحقين. فإن كان ذلك في حق العمل يجب طلب دليله.
ويكون الدليل على وجهين :
أحدهما : أن يوجب على حق العمل والشهادة جميعا، والآخر أن يوجب [ على ] ١٥ حق العمل خاصة، وقد بينا ذلك. وإن كان في حق الشهادة فيجب الوقف في تحقيق المراد والتسليم لله حتى يظهر ؛ وذلك في حق إضافة الاستواء إلى الله تعالى على العرش والقول بالرؤية من حيث ما به يرى على الإشارة إليه /٩٨-ب/ لا بالإحاطة ونحو ذلك من الأمور، والله أعلم.
ووجه آخر أن يكون احتمال وجوهها إنما يكون بمقدمات، فتختلف على اختلاف تلك المقدمات، فلا يجوز تأويل تلك إلا بمعرفة المقدمة إذا لم تكن فيها غير معروفة الموقع من المقدمة نحو قوله تعالى :﴿ فإذا فرغت فانصب ﴾ ( الشرح : ٧ ) لم يكن لأحد تأويل واحد من الوجهين حتى يعلم بالسمع أنه فيم كان مشغولا ؟ وقوله تعالى :﴿ فلينظر أيها أزكى طعاما ﴾ ( الكهف : ١٩ ) لم يكن لأحد طلب مراد قائله أو تأويل مراده، ولا يظفر به إلا بالوحي، ولا قوة إلا بالله.
والقول في حقه إلى أن يتبين ما كان في حق الشهادة فلازم الوقف فيه حتى يظهر. وما كان في حق العمل ؛ فإن كان في نوع ما يحتمل الاحتياط فحقه القيام به حتى يظهر دليل التوسع على الوجهين اللذين ذكرت. وإن كان في ما لا يحتمل الاحتياط فحقه التوقف حتى يظهر، والله أعلم. ولا يخلو شيء إلا أحد الوجهين به حاجة من دليل يكون له.
وقوله تعالى :﴿ بدلناهم جلودا غيرها ﴾ أي غير جلود النضيجة كقوله تعالى :﴿ أئنا لفي خلق جديد ﴾ ( الرعد : ٥ ) أي نجدد ما قد فني. وكذلك أعيد ما قد كان من الجلود قبل النضج جديدا في رأي العين من حيث صار الأول نضيجا لا أن كان هذا غير الأول ؛ بل هو الأول غير نضيج، إن ذلك بعث١٦ الأول وتعذيب ما كان ارتكب المعصية لأن التعذيب في الحقيقة على غير الذي أثم فيه.
وقال قائلون : الجلود والعظام ونحو ذلك لم تكن عصيت، ولا أطاعت بل استعملت قهرا وجبرا، لا أنها عملت طوعا، لكن الذي به عملت والذي استعملها في الجسد، به يتلذذ، ويتألم، فهو المعذب والمثاب بما صدر من الجسد.
ألا ترى أن أجساد الجنة تزداد [ حسنا وجمالا، وجعل لأصلها ] ١٧ حد لا يزداد، ولا ينتقص، وأجساد أهل النار مشوهة قبيحة ليكون لهم في التقبيح عقوبة، وللأول بالتحسين ثواب، فكانت فيها أحوال للجزاء لم تكن للأعمال ؟ فثبت أن المثاب والمعاقب ما ذكرت، ويتلذذ، فجعلت على ما بها اللذة والألم من الأجساد لا على إعادة أنفس تلك الأجساد بل على التجديد كما ذكره القرآن.
وكذلك المقطوع بعض الأعضاء في حال الكفر إذا أسلم يبعث سليما لا كذلك، ومثله في حال الإسلام، لو أريد لم يرفع عنه ألم ذلك. فدل الذي ذكرت على حق تجدد١٨ والثاني : على ما شاء الله، والذي به كان المأثم والبر على ما قد كان، والله أعلم.
وللمذهب الأول الجزاء أن الجزاء هو لما يختم عليه، إذ ١٩ لو كان أسلم ٢٠ لتمنى لنفسه أحسن الأحوال، وأسلم النية ٢١ ليستعملها بالخير، فأوجب ذلك إبطال جميع السيئات، كانت بجوارح ذهبت، أو بقيت.
وكذلك من اختار٢٢ الكفر فقد آثره، واختار أن يكون على ذلك وإن سلمت جوارحه، وتمت، يلزمه٢٣ حكم احتياط جميع ما تقدم بكل فائت وباق.
وفي الأول استوجب جعل ما تقدم منه بالفائت والباقي حسنات لما ندم عن الكل بكل الجوارح، فلحق حكم تبديل السيئات بالحسنات في الكل، فيكون على حكم إعادة الأول بحق التجديد في المعنى، والله أعلم، نحو قوله تعالى :﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم ﴾ ( آل عمران : ٢٢ ) وقوله تعالى :﴿ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ﴾ الآية ( الفرقان : ٧٠ )، وفي الإعادة كقوله تعالى :﴿ من يعيدنا ﴾ الآية ( الإسراء : ٥١ ) وقوله تعالى :﴿ أئنا لفي خلق جديد ﴾ الآية ( الرعد : ٥ ) وغير ذلك من آيات البعث، والله أعلم.
وقال القائلون : الواجب من العقوبة للكفر ٢٤ وغيره بحكم التبع له، وكذلك الثواب الواجب عنه للإيمان ولغيره بحكم التبع، بل به قام، والأول به سقطت مشيئة العفو، فصار الذي به الجزاء خاصا، وغيره بحكم التبع يزداد، وينتقص. فعلى ذلك أمر الجزاء والتجديد والإعادة، وكل ذلك للذي هو بحق التبع والأتباع في الشاهد تتجدد عين الأفعال، ولا تدوم، [ والاعتقاد في الأمرين يدوم على } ٢٥ ذلك، والله الموفق.
ولهذا الوجه ما يبطل الجلود لما سوي الكفر ؛ إذ في إبطال الجزاء الدائم من حيث الأفعال، وإدامة الجزاء المنقطع من حيث الأفعال. فيكون فيه زيادة في العقوبة على المثل، والله يقول :﴿ فلا يجزي إلا مثلها ﴾( الأنعام : ١٦٠وغافر ٤٠ ) والله الموفق.
ثم اختلف في المبعوث أنه يبعث بجسده، أو يبعث[ البعث ] ٢٦ الروحاني، منه سيمة بعض الفلاسفة نفيا، وبعضهم جوهرا روحانيا، وبعضهم بسيطا. فإن كان جسد، فيه روحاني في حياته، ومنافعه وجسده له كالمنافع عن جميع ما يحتمل من الأحوال ٢٧ ؛ إذ الجوهر الروحاني لطيف، ينفذ في الأشياء، ويتخلل إلا بالحابس، بين ذلك أمر النائم أن النفس تخرج لقوله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ ( الزمر : ٤٢ )أو هي مما تسكن الجوارح، وينقطع عنها هم الجسد، به ترجع إلى الحقيقة ٢٨ جوهره، فيراها تطوف في البلاد النائية وفي الأمكنة العلوية حتى لا تضعها أرض ولا سماء، تأتي بالأخبار عنها كأنها شاهدة.
أما ما كان ذلك عملها بالجوهر حيث يكون من النفاذ إن لم تحبس، أو هي بالجوهر تخرج، فيعمل ذلك وهي تسمع، ويتبصر، وتعقل في المنام، كأنها الجسد كانت ٢٩. فدل أن العمل في حال اليقظة، وماله الجزاء لها. فعلى ذلك أمر الجزاء، وعلى ذلك جميع الجواهر التي بها الأغذية. والحياة ليست بأعين تلك الأشياء، ولكن ما جعل [ الله ] ٣٠ في سريتها من الروحاني، وهي القوى التي تظهر في البدن إلى كل أجزاء البدن، فتقوى، وتصح فيه بحياة روحه، وتزول عنه الآفات. وكذلك عن السمع والبصر حل شيء ثم تلقاء نقله. فعلى ذلك أمر المعاد من الجزاء، فهو على ذلك.
وكذلك الثواب يكون من كل موعود مما يعرف في الشاهد بجسده يرجع الرؤية التي هي روح في الجسد. ألا ترى أنه لا تبقى في الآخرة بكل الأجساد التي تلقى، وهي الأثقال التي تفضل في الجسد، ويخرج عنها جميع ما فيها من الأقوية والروح ؟ فثبت أن الأمر يرجع إلى ما ذكرت. وهذا معنى قوله عليه السلام :" ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب البشر " ( البخاري : ٣٢٤٤ ) لأن ذلك الجوهر لا تراه العين، ولا تسمعه الأذن في الشاهد، ولا يخطر على القلب، وتكون لذة ذلك روحانية ٣١، لا [ مثل ] ٣٢ هذه لذة الحياة، بحياتها السمع والبصر، وكل باطن في الجوهر. ولذة الأجساد إنما تكون باللهاة في الطعم وبالعين في اللون، وهذا النوع : يذهب هذا، ويكون الأول.
وعلى ذلك تذهب العبادات الجسدانية، وتبقى الروحانية من الحمد والثناء والتعظيم والهيبة والمعرفة، ونحو ذلك يبقى أيدا. بل يزداد لما يذهب عنها الحواجب من الجسداني.
وعلى ذلك يبطل تقدير الرؤية، وإبطاله مما عليه أمر الشاهد لذهاب ما به كونها في الشاهد. ورجوع الأمر إلى ما يحاط به على سقوط الحواجب، والله أعلم.
اختلف من ذكرت في أمر البعث ؛ فمنهم من لايرى على إحياء في الجسد من الروحاني فناء. والبعث هو إسقاط الأجساد وخروج ما فيها من الروحاني بصورها.
ومنهم من يقول : تفنى، وتعاد على حالها. ومعلوم أن ذكر الجديد لا يحتمل بلا ذهاب الأصل، وذكر الإعادة بلا فوته. وقال تعالى :﴿ فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ﴾ ( الإسراء : ٥١ ) وجعل النشأة الأولى دلالة لأخرى. وليس ثم أخرى، بل هي الأولى. والأولى هي على ما تزعمون غير معروفة عند المنكرين. فتحتج عليهم بها، بل يجب أن يعرفوا الأولى أولا، ثم يساعدوا /٩٩-أ/ على نفي البعث، ويلزموا ٣٣ الإظهار.
والدهرية ومنكرو٣٤ البعث يقولون في جميع العالم بالظهور بعد الكون وبالكون في الأصول بالقوة ثم الظهور بالفعل. فكيف ينكرون البعث لنحتج عليهم بالخلق الأول ؟ والله أعلم.
وقال قوم بالبعث بالأجساد على ما كانت، لكنها كانت في الدنيا منشأة للفناء، مشتمل عليها آثار الفناء، ويحيط[ بها من ] ٣٥ أعلام الهلاك ومن آفات كلها سوائر٣٦ تحجبن عن أعمال لطائف الجوهر وعن إدراك الروحانيين. وإلا فهي كما وصفهم الله تعالى أنهم خلقهم﴿ في أحسن تقويم ﴾ ( التين : ٤ ) وكرمهم بأقوم جوهر وأكمل ٣٧ سر وأنقى خلقه.
فإذا وقعت عليهم الآفات، وأعيدوا للبقاء، تزول ٣٨ عنهم جميع الظلمات التي هي حواجب وسواتر لهم على الإحاطة بحقائق الأشياء وبواطنها. وعلى شكلهم تنشأ الأجساد المجعولة جزاء لهم، فيلحقون بجميع اللطائف أجسادا٣٩ بما فيها من الجواهر الروحانية ؛ فتصير هذه في اللطف،
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل وم: فما..
٣ أدرج بعدها في الأصل وم: ومن فضله..
٤ في الأصل وم: و..
٥ في الأصل وم: و..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: عمل..
٨ في الأصل وم: أمورهم..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ في الأصل وم: الموضع..
١١ من م: في الأصل: إن..
١٢ في الأصل: سميع ليلتقي، في م: سميع فيلتقي..
١٣ في الأصل وم: العقد..
١٤ ساقطة من الأصل وم..
١٥ ساقطة من الأصل وم..
١٦ في الأصل وم: نعت..
١٧ في الأصل وم: الحسن والجمال وجعله لأهله..
١٨ في الأصل وم: تجد..
١٩ من م، في الأصل..
٢٠ في الأصل وم: إسلام..
٢١ في الأصل وم: البينة..
٢٢ من م، الأصل: اختيار..
٢٣ في الأصل وم: فلزمه..
٢٤ من م، في الأصل: لكفر..
٢٥ في م: والاعتقاد في الأمرين يدوم فعلى، ساقطة من الأصل..
٢٦ ساقطة من الأصل وم..
٢٧ في الأصل وم: الأموال..
٢٨ في الأصل وم: حصة..
٢٩ في الأصل وم: كذلك..
٣٠ ساقطة من الأصل وم..
٣١ في الأصل وم: روحانيا..
٣٢ ساقطة من الأصل وم..
٣٣ في الأصل وم: ويلزمون..
٣٤ في الأصل وم: ومنكري..
٣٥ ساقطة من الأصل وم..
٣٦ في الأصل وم: وسواتر..
٣٧ الواو ساقطة من الأصل وم..
٣٨ في الأصل وم: فتزول..
٣٩ في الأصل وم: جسدا..
الجسد يكون له سرور وحزن، لا يتألم ويتلذذ، وقد جرى الوعد بالمؤلم والملذ.
وكذلك حكمة خلق الجسد على ذلك بما يحقق العلم بالمرغب والمرهب من الموعود، على أن السرور والغموم ليسا بحيث يرغب فيهما أو يزهد إلا من حيث يألم الجسد ويتلذذ، بل كل يكون فيه الأمران؛ ليسر ويحزن؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق من طريق التقدير على ما جرى به حق السمع والعقل، واللَّه أعلم بحقيقة ذلك، وبيده الملك، يكرم من شاء بما شاء؛ فضلًا منه، ويهين من شاء؛ بما شاء عدلًا منه، والله الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ)
بما أنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من اليهود (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ)
قال: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) يعني: بالكتاب الذي أعطى إبراهيم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ): عن الكتاب، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقيل: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) يعني: إبراهيم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) يعني: عن إبراهيم، عليه السلام.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا)
كأن جهنم - واللَّه أعلم - معظم النار وجميع دركاتها، والسعير هو التهابها ووقودها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤).
ويحتمل قوله: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) أي: عذابًا، واللَّه أعلم.
(وَكَفَى بِجَهَنَّمَ) أي: بالتهاب جهنم التهابًا؛ إذ السعير: الالتهاب، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (٥٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا)
يحتمل الآيات: أعلام الدِّين وآثاره.
218
ويحتمل الآيات: آيات الربوبية له.
ويحتمل الآيات: أعلام رسالة الرسول عفًيِلى؛ فيكون الكفر بها كفرًا باللَّه.
وقوله - تعالى -: (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا)
قيل: (نُصْلِيهِمْ): ندخلهم، وقيل: (نُصْلِيهِمْ): نشويهم؛ يقال: شاة مصلية، أي: مشوية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا):
كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها، أي: جددنا لهم جلودًا غيرها؛ ليزدادوا التهابًا وإيقادًا من غير أن يسكن ألم العذاب، فهو من حيث التجديد غير؛ لأن الأولى قد احترقت ونضجت، ومن حيث العين نفسها هي الأولى، ألا ترى ما يقال: تبدل فلان، فإنما يقال من حيث تغيره من لون إلى لون، لا أن كانت تحولت نفسه وتبدل من حال إلى حال؛ فعلى ذلك قوله: (بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) هي من حيث العين أنها تلك بعينها واحد، وعلى ذلك البعث بعد الموت، والإنشاء هو من حيث التجديد غير، حيث تفانوا وذهبت آثارهم، ومن حيث الإعادة إلى الحالة الأولى هم بأنفسهم ليسوا بغير، وعلى ذلك قد سمي البعث خلقًا جديدًا، وإن كان بعث الأولى في المعنى.
ثم تكلموا في قوله - تعالى -: (بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) قالوا: كيف كان أن يعذب جلودًا لا مأثم فيها، وإنَّمَا المأثم في الجلود التي احترقت ونضجت، وقالوا: أيدنا فيمن قطع يده وهو كافر، ثم أسلم، فمات على الإسلام، ما حال اليد المقطوعة، تعذب في النار، أو تكون مع النفس في الجنة؟ وفيمن قطعت يده وهو مسلم، ثم كفر، فمات على كفره، تلحق النفس أو تكون في الجنة؟
فالجواب لهذا كله: أن الجوارح والأعضاء ليست تعمل ما تعمل بالاختيار والطوع، ولكنها كالمكرهات والمقهورات في العمل؛ ألا ترى أن الإكراه عليها يوجب تحويل الفعل منها إلى المكره، فيجعل كأن المكره هو الذي قد فعل ذلك في حق الضمان؛ فهذا يدل أن هذه الجوارح كالمكرهات والمقهورات لحقت النفس حيث كانت.
ثم معلوم: أن من أسلم في آخر عمره يتمنى سلامة جوارحه التي كانت ذهبت عنه؛
219
ليعمل بها في طلب مرضاة ربه - تعالى - وكذلك من كفر بعد الإسلام يتمنى سلامة جوارحه؛ ليستعملها فيما اختار من الدِّين، فإذا كان كذلك لحقت النفس حيث كانت في طاعتها ومعصيتها.
وقالت فرقة من الملحدة: إن الثواب في الآخرة لا يكون لهذه النفس التي تأكل، وتشرب، وتعمل كل ما تعمل، ولكن إنما يكون للروحاني الذي جوهرها جوهر النور، لكن هذه النفس ممتحنة في الدنيا بالأكل والشرب، مشوبة بالآفات والعيوب، فإذا صفت عن الآفات، ونزهت عن العيوب التي بها امتحنت - صارت أهلًا للثواب العظيم، ومحلًا للجزاء الجزيل، وباللَّه العصمة والنجاة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ)
أما ذوق الطعام والشراب يكون بالفم؛ ليعرف طعمه ولذته، وأما ذوق العذاب فإنما يكون بكل جارحة منه؛ ليجد ألم ذلك في جميع الجوارح، واللَّه أعلم.
والذوق في العرف جُعِلَ ليعرف الطعم، يلقب به كل شيء يعرف؛ يقال: لفلان ذوق في أمر كذا: أي بصر ومعرفة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)
قيل: العزيز: هو ما يتعزز وجوده في الشاهد.
وقيل: هو عزيز لا يعجز، فهو عزيز لما لا يوجد في الأفهام، ولا يدرك بالأوهام.
وقيل: العزيز: المنتقم، وقد ذكرناه في غير موضع.
وقوله - عز وجل -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ (٥٧) من الآفات والعيوب، لسن كأزواج الدنيا ونسائها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)
لا تنسخه الشمس، ولا أذى فيه؛ لأن الشمس فيها منافع للناس وأذى، وكذلك القمر فيه أذى، وإن كان فيه منافع، والظلمة كذلك فيها منافع وأذى، وأما الظل نفسه فليس فيه أذى على كل حال، فإن كان فهو للزمان، لا للظل بنفسه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يدخلهم الظل الذي ليس فيه أذى الشمس، ولا أذى الظلمة، ولا أذى الزمان، ليس كظل الدنيا
مشوبًا بأذى غيره، واللَّه أعلم.
وذلك تأويل الظليل أن يظله عن جميع المؤذيات، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (٥٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)
قيل: لما فتح اللَّه مكة على يدي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا رسول اللَّه، لو جعلت السقاية والحجابة فينا؛ فأخذ مفاتيح الكعبة من ولد شيبة فدفعها إلى العباس؛ فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية؛ فأخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مفاتيح الكعبة فردها إلى ولد شيبة، ثم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَم، إِن اللهَ - تَعَالَى - أَحَبَّ أَنْ يرزأ ولا يرزأ شيئًا ".
وقيل: إنها نزلت في الأمراء في الفيء الذين استأمنهم على جمعها وقسمتها، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمتها.
والآية يجب أن تكون نازلة في كل أمانة اؤتمن المرء فيها، من نحو ما كان فيما كان بينه وبين ربه، وما كان فيها بين الخلق.
أما ما كان فيما بينه وبين ربه، من نحو العبادات التي أمر المرء بأدائها، ومن نحو تعليم العلم الذي رزقه اللَّه - تعالى - كقوله - سبحانه وتعالى -: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...) الآية، وكقوله - تعالى -: (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْ...) الآية، وكقوله - تعالى -: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) كل ذلك أمانة تدخل في قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، وكذلك كل أمانة يؤتمن المرء عليها تدخل في ذلك.
ذكر أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَيهَا، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ".
221
ومن قال: نزلت في الأمراء، استدل بقوله - تعالى -: (أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)؛ لأن الحكم إلى الأمراء.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) قال: هي مبهمة، المؤمن والكافر سواء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ)
من الحكومة بالعدل، وأداء الأمانات إلى أهلها.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)
يحتمل: مجيبًا لمن دعا له وسأل؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، يجيب لمن استجاب له، وأدى الأمانة.
ويحتمل: (سَمِيعًا بَصِيرًا) أي: لا يخفى عليه شيء.
واختلف أهل العلم في العارية إذا ضاعت:
222
قال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: لا شيء عليه.
وقال غيرهم: عليه الضمان.
ولأصحابنا - رحمهم اللَّه - في ذلك عدة حجج:
أحدها: أن المستعير إن لبس القميص، أو ركب الدابة، أو حمل عليها ما أذن له في حمله عليها، وأصابها في ذلك نقصان في قيمتها -فلا شيء عليه، فإذا لم يكن عليه ضمان فيما وقع بها من الضرر والنقص بفعله، ولبسه، وركوبه- فلا يجب عليه ضمان ما هلك منها بغير فعله.
والثاني: ما روي عن ابن الحنفية، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: العارية ليس بتبعة، ولا مضمونة، إنما هي معروف، إلا أن يخالف فيضمن.
وروي عن الحسن قال: إذا خالف صاحب العارية ضمن.
واحتج من خالف أصحابنا في ذلك بحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " عَلَى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتى تَرُدَّهُ " فالحديث يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يقال: معناه على اليد أن ترد ما أخذت إذا كان قائمًا عليها رده؛ ألا ترى أن الوديعة لا تضمن إذا تلفت، وعليه أن يردها إذا كانت قائمة، فالعارية مثلها.
223
والثاني: أن يحتمل معنى ذلك في الغصب وأشباهه؛ فعلى الغاصب أن يرده قائما أو تالفًا، ولا يدخل في عموم الخبر العارية؛ ألا ترى أن الوديعة لم تدخل فيها، وإن كان فيه أخذ.
واحتجوا أيضًا - بحديث صفوان: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان يوم حنين درعًا، فقال: أغصب يا مُحَمَّد؟ فقال: " بَل عَارِية مَضْمُونَة ".
وروي في خبر آخر: أن صفوان هرب من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يريد حنينًا، فقال: " يَا صَفْوَانُ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ سِلَاح؟ " قال: عارية أو غصبًا؟ قال: " بَلْ عَارِيةٌ " فأعاره، ولم يذكر فيه الضمان، فهو عندنا -إن ثبت خبر صفوان-: مضمونة الرد على المستعير، ورد العارية ليس كالوديعة؛ لأن الوديعة ما لم يطلب صاحبها لم ترد.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يؤيد قولنا، وهو قوله: " العَارِيةُ مُؤَداة ".
224
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، فمن ولي أمرًا أو حكمًا فيما بين الناس فقد ولي الأمانة، يجب أن يؤديها إلى أهلها، وعلى ذلك جاءت الآثار:
روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَا مِنْ أَحَدٍ يَكُونُ عَلَى شَيءٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ -قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ- فَلَا يَعْدِلُ فِيهِم إِلا أَكَبَّهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي النَّارِ ".
وفي خبر آخر: " أَيُّمَا امْرِئٍ وَليَ مِنْ أَمْرِ الناسِ شَيئًا ثُمَّ لَم يُحِطْهُم مِثْلَ مَا يَحُوطُ بِهِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ لَم يُرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ".
وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِليَّ وَأَقْرَبِهِم مَجْلِسًا مِني يَوْمَ القِيَامَةِ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وإن أَبْغَضَ النَّاسِ إِليَّ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَشَدَّهُم عَذَابًا: إِمَامٌ جَائرٌ ".
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)
فَإِنْ قِيلَ: كيف خص اللَّه - تعالى - المؤمنين بالخطاب بالطاعة له وطاعة الرسول والأمر بها يعم المؤمن والكافر جميعًا؟.
قيل فيه بوجوه ثلاثة:
225
أحدها: أن من عادة الملوك أنهم إذا خاطبوا بشيء إنما يخاطبون أهل الشرف والمجد، ومن كان أسمع لخطابهم، وأعظم لقولهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) وقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا)، يخاطبون أبدًا أهل الشرف والمجد، ومن هو أقبل لقولهم، وأطوع لأمرطم؛ فعلى ذلك خاطب اللَّه - تعالى - المؤمنين وأمرهم أن يطيعوه ويطيعوا رسوله، وإن كان الخطاب بذلك يعمهم.
والثاني: يحتمل أن يكون الخطاب بذلك للمؤمنين خاصة؛ لأن الكافر إنما يخاطب باعتقاد الطاعة له أولا، فإن أجاب إلى ذلك فعند ذلك يخاطب بغيره، والمؤمن قد اعتقد طاعة ربه، وطاعة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لذلك خرج الخطاب منه للمؤمنين خاصة، واللَّه أعلم.
ويحتمل: أن يكون تخصيص الخطاب للمؤمنين؛ لما أمر بطاعه أولي الأمر؛ ليعلم أنه إنما أمر بطاعة أولي الأمر إذا كانوا مؤمنين، واللَّه أعلم.
ثم فيه دلالة جواز الطاعة لغير اللَّه؛ لأن كل من عمل بأمر آخر فقد أطاعه، هو الائتمار للآمر.
وأما العبادة فهي إخلاص الشيء بكليته لله - عَزَّ وَجَلَّ - حقيقة؛ إذ الأشياء كلها لله بكليتها حقيقة، ليست لأحد سواه؛ لذلك لم يجز أن يعبد غير اللَّه - تعالى - وقد يجوز أن يطاع غيره؛ لما ذكرنا أن الطاعة هي الائتمار بالأمر، وليس العبادة؛ لذلك افترقا.
ثم طاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تكون طاعة لله؛ لأنه بأمره يطاع، وفي طاعتهم له طاعته.
ثم قيل: قوله - تعالى -: (أَطِيعُوا اللَّهَ) في فرائضه، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في سنته.
وقيل: (أَطِيعُوا اللَّهَ) فيما أمركم ونهاكم في كتابه، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أمركم ونهاكم في سنته.
226
ثم اختلف في أولي الأمر:
قيل هم الأمراء على السرايا.
وقيل: هم العلماء والفقهاء.
وقيل: هم أهل الخير.
ويحتمل: أولي الأمر: الذين يُوَلَّوْنَ السرايا.
فكيفما ما كان ومن كان، ففيه الدلالة ألا يولى إلا من له العلم والبصر في ذلك، أمراء السرايا كانوا أو غيرهم؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بطاعتهم، ولا يؤمر بطاعة أحد إلا بعلم وبصر يكون له في ذلك.
والآية التي تقدمت، وهو قوله - تعالى -: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) يدل على أن أولي الأمر الأمراء؛ لأنه - تعالى - أمر الحكام في الآية الأولى بالعدل، وأمر الرعية بالسمع لهم والطاعة فيما يحكمون ويأمرون، واللَّه أعلم. ألا ترى أنه روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا َأَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإنْ أُمِّرَ عَلَيكُم حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا مَا أَقَامَ فِيكُم كِتَابَ اللهَ ".
227
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَى الْمَرءِ الْمُسْلِمِ السمعُ وَالطاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعصِيةٍ، فَمَنْ أُمِرَ بِمَعصِيَةٍ فَلَا سَمعَ عَلَيهِ وَلَا طَاعَةَ ".
وبعد: هذه الآية والتي تليها تدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء، وهو قوله - تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، والتنازع يكون بين العلماء؛ فكأنه - واللَّه أعلم - أمر في آية أولي الأمر بطاعتهم، وأمر أولي الفقه برد ما يختلفون فيه إلى كتاب اللَّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
والآية تحتمل المعنيين - واللَّه أعلم -: أن على العامة طاعة أمرائهم في أحكامهم، وعليهم اتباع علمائهم في فتواهم؛ يبين ذلك قول اللَّه - تعالى -: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ...) الآية، فلو لم يجب على قومهم قبول قول علمائهم ما وجب عليهم إنذار قومهم.
وفي هذه الآية دليل على إبطال قول الرافضة في الإمامة؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فليس يخلو أولو الأمر من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون الأمراء، أو الفقهاء، أو الإمام الذي تدعيه الرافضة، فإن كان المعنى في أولي الأمر: الفقهاء أو الأمراء، ففيه إبطال قول الرافضة: إنه الإمام الذي يصفونه، ومحال أن يكون ذلك هو الإمام الذي يذكرونه؛ لأنه قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، وذلك الإمام عندهم طاعته مفترضة، وهم بين أظهر المتنازعين عندهم، ومخالفته كفر في مذهبهم، فلو كان ذلك كذلك، لقال - واللَّه أعلم -: " فردوه إلى الإمام؛ فإن من خالفه فقد كفر "، ولكنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر برد المتنازع إلى كتاب اللَّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فدل على أن قول أحد لا يقوم في الحجة مقام قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) قيل: (إِلَى اللَّهِ)، أي: إلى كتاب اللَّه، أو إلى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كان حيًّا، فلما مات، فإلى سنته.
228
واستدل قوم بهذه الآية على إبطال الاجتهاد، وترك القول إلا بما يوجد في كتاب اللَّه - تعالى - أو في سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، نصًّا، ويقولون: فَنَكِلُ أمره إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - ورسوله - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - وليس ذلك عندنا.
والآية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يحمل تأويلها على أن التنازع إذا كان في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وجب أن يرد إليه - عليه الصلاة والسلام - ويُسأل عن ذلك، ولا يُستعمل في الحادثة الاجتهاد ولا النظر.
فأما ما كان من التنازع بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: فإن حكم الحادثة يطلب في كتاب اللَّه، أو في سنة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو في إجماع المسلمين، فإن وجد الحكم في أحدهم بينا وإلا قيل بالاجتهاد.
والوجه الثاني: أن يكون المجتهد إذا ما اجتهد فيه إلى كتاب اللَّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيقول: وجدت في الكتاب أو في السنة كذا وكذا، وهذه الحادثة تشبه هذا الحكم، فحكمها حكمه، ويكون رادًّا لحكم الحادثة إلى كتاب اللَّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو شبهها بما وجده من الحكم فيهما.
وإذا كان ما وصفنا من تأويل الآية محتملًا؛ فلا حجة لهم علينا في ذلك، واللَّه المستعان.
وفي الآية دلالة جعل الإجماع حجة، وهو قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...) الآية، أنه إنما أمر بالرد إلى اللَّه والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند التنازع؛ لم يأمر عند الإجماع؛ دل أنه إذا كان ثَمَّ إجماع لا تنازع فيه، لم يجب الرد إلى ما أودع في الكتاب وفي السنة.
وفي الآية دلالة أنه يدرك بالطلب المودع فيه؛ لأنه لو لم يدرك، أو ليس ذلك فيه، لم
229
يكن للرد إلى ذلك معنى؛ ألا ترى أنه قال اللَّه - سبحانه وتعالى -: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، فإنما يستنبط ما فيه؛ فدل أن حكم الحوادث، مذكور في هذين: في الكتاب، والسنة؛ إذ لو لم يكن الفرج عند النظر والطلب، لكان لا يفيد الأمر بالرد إليهما معنى.
ثم لا توجد نصوص في كل ما يتلى، ثبت أنه مطلوب، وهو يدل على لزوم البحث في استخراج المودع من المنصوص، واللَّه أعلم.
وفي قوله -أيضًا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...) الآية - تخصيص المؤمنين على اشتراك الجميع في اللزوم؛ يخرج على أوجه:
أحدها: على مخاطبة الأشراف والنجباء، وعلى ذلك أمر الملوك في الأمور، يريدون اشتراك الرعية وأهل المملكة في ذلك؛ كقوله - سبحانه -: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ)، وقال سليمان - عليه السلام -: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ)، وقال فرعون للملأ: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ...)، ونحو ذلك، فمثله الذي نحن فيه، واللَّه أعلم.
والثاني: أنهم مما قد عرفوا الأمور والمناهي؛ فقيل لهم: (أَطِيعُوا اللَّهَ) وما ذكر، واعلموا أنهم فيمن أمروا به ونهوا عنه، ولم يكن من الكفرة علم بالذي يوجهون الأمر إليهم؛ فلذلك خص من ذكر، واللَّه أعلم.
والثالث: أن الكفرة قد أنكرت المعبود والرسول، فجرى الخطاب فيمن ثبتت لهم المعرفة بذلك، مع ما يحتمل: أن يكون هذا الخطاب في الشرائع، وهي غير لازمة للكفرة؛ فلذلك كان على ما ذكرت.
والرابع: ما أدخل في الخطاب أولي الأمر منا، ولا يلزمهم طاعتهم؛ لذلك خص المؤمنين، وكان المقصود بالآية بيان طاعة أولي الأمر منا، وإلا كانت طاعة اللَّه - تعالى - وطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما كان إيمانهم قد ثبت، ولكن جمعت طاعة من ذكر؛ ليعلم أن قد يكون بطاعة أولي الأمر طاعة اللَّه، واللَّه الموفق.
230
ومما يبين الذي ذكرت أن كل من عرف الإله، عرف أن عليه طاعته بما عرف اسمه الذي سمت العرب كل معبود: إلهًا، فمن عرف منهم الإله عرف أنه معبود، ثم من عرف ما له عنده من الأيادي، وعليه من النعم علم أن عليه شكره وطاعته به.
ثم من عرف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، عرف أن طاعته هي طاعة اللَّه؛ لأنه إليه يدعو، وعن أمره ونهيه يأمر وينهى؛ إذ هو رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منه إلى الخلق، وليس من عرف اللَّه وعرف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعرف أن عليه طاعة أولي الأمر بما لم يرو عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فبين اللَّه - تعالى - ذلك في هذه الآية؛ ليعلموا أن طاعتهم هي طاعة اللَّه وطاعة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك هو الدليل على جعل الإجماع حجة، وأن متبعهم هو مطيع للَّهِ - تعالى - إذ صير اللَّه - تعالى - طاعتهم طاعته، وهم في ذلك الإجماع.
وعلى ما ذكرت من شأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخرج قوله - تعالى -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...)، وقوله - تعالى -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ) الآية، صير الواجد حرجًا مما قضى واجدًا حرجًا من قضاء اللَّه - تعالى - في نفي حكم الإيمان؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ، أي: ليكون عليهم طاعته بأمر اللَّه - تعالى - إذ هي طاعة اللَّه أولا؛ لتكون طاعته طاعة اللَّه بإذنه وبأمره، واللَّه الموفق.
ثم اختلف في أولي الأمر، ومعلوم أنهم هم الذين إليهم يرجع تدبير أمور الدِّين، وعن آرائهم يصْدرُ وهم الذين تضمنتهم آية أرجو أن يكون فيها الكفاية في تعريف المقصود بها، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، فجعل أولي الأمر مَنْ عندهم علم الاستنباط، وشهد لهم بالعلم فيما رد إليهم؛ فثبت أنهم الفقهاء المعروفون بالاستنباط ورعاية أمور الدِّين، وفي هذا -أيضًا- دلالة على إصابتهم فيما أجمعوا عليه؛ إذ شهد لهم في الجملة بالعلم؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ...) الآية، وقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا...) الآية.
ثم كانت الشهادات والأمر والنهي للعلماء بهما؛ ثبت أن الأمر في ذلك ينصرف إلى العلماء، وأنهم إذا اجتمعوا على شيء بالأمر أو بالنهي، يكون إجماعًا؛ لأن ذلك كذلك عند اللَّه - تعالى - وتجوز شهادتهم على جميع العوام ومن تأخرهم، ومن ذلك في الأمور
231
التي تجري بها البلية والعمل بها في العامة، مما لا يحتمل خفاء مثله، على ما ذكرت من الخاص أن ذلك كان عند أُولَئِكَ الخاص على ذلك؛ إذا لم يغيروا ولا شهدوا في ذلك بغيره، وأمراء السرايا لو كانوا أهل البصر في الأمر مع العلم بالشرع والفتيا يلزم فيهم ذلك؛ لأنهم صيروا في الباب أهل الأمر.
وأيد الأول أنهم العلماء -: قوله - تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) ومعلوم أن على العوام لذي الإشكال والحاجة الرد إلى أولي الأمر بما ذكرت من الآية، فثبت أن هذا في تنازع العلماء، وهو يوضح إبطال قول الروافض في جعل أولي الأمر إمامهم، وإبطال قول من يجعل أولي الأمر كل أمير أو نحوه، وإنَّمَا هم العلماء في كل نوع، حتى يمكن فيهم التنازع، وإمامهم واحد لا معنى للتنازع فيهم، والتنازع إنما بكون عن تدبر وبحث ونظر، ولا معنى في ذلك للعوام الذين لا يعرفون الأصول والفروع، واللَّه الموفق.
ثم اختلف في تأويل قوله - تعالى -: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ):
فقال قوم: كأنه قيل: كِلُوا الأمر فيه إلى اللَّه - تعالى - والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا تجتهدوا فيه؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)، تعالى، ولأن الاختلاف كان على تأويل الكتاب والسنة، فكيف يطلب من بعد فيهما، وبعد الطلب حدث التنازع؟!.
وقال قوم: الاختلاف يقع في التأويل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) إلى ظاهر ذلك، ولا تتأولوا فتختلفوا؛ إذ الأول كان على التأويل.
وقال قوم: هذا كان في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يظهر في ذلك نص الحكم والحق في ذلك؛ فيكون الأمر الذي يتنازع فيه أولو الأمر لم يجز لأحد العمل إلا بالبيان، ولهم وجه الوصول إلى البيان في الحقيقة، فأمروا بذلك مع ما كان يجوز أن يكون التنازع في وقت لم يفرغ من بيان جميع ما بالخلق إليه حاجة بالكفاية؛ إذ كان ذلك الوقت وقت حدوث الشرائع، ووقت احتمال التناسخ وتبديل الأحكام، فإن وقع التنازع بين المجتهدين فلهم مع إشكال التنازع شبهة احتمال أن أصله لم ينزل، وأن الذي يتضمن حكمه من المنصوص لم يبلغهم في ذلك، فيجب في ذلك الرد إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - بالرد إلى
232
رسوله مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وأما بعده فقد فرغ من جميع أصول الحوادث التي يعلم اللَّه - سبحانه وتعالى - أنها تقع بيان كفاية؛ إذ لو لم يبين ذلك القدر لبقي تنازع لا ارتفاع له، ولا يجوز الحكم، ولكان لا يعلم الحادث الذي له أصل يطلب أولاً، وفي ذلك تمكين المعنى الذي يخرج إلى الرسالة مع ما قد تكلم جميع الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - ومن بعدهم إلى اليوم في الحوادث من غير أن يظهر يهن أحد قول بأن هذا هو ما لم ينزل له الأصل، فصار ذلك إجماعًا في بيان أصول كل حادث؛ فيجب طلبه في الأصول، واللَّه أعلم.
والأصل: أنه فيما يوكل إلى أحد يوكل إلى من يعلم الحكم ويملك إظهاره، فلو كان للتنازع يجب الرد إلى اللَّه - تعالى - وترك الحكم في ذلك بالاجتهاد؛ فإذًا يبطل أن يكون في الرد إليه علم بحكمه إلا للوقت الذي لا يحتاج إلى الحكم؛ وهو يوم القيامة؛ على أنه معلوم لو كان يرده إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكان لا يدعهم على ما هم عليه من التنازع الذي هو أصل كل شين وفساد؛ فعلى ذلك فيما يرد إلى اللَّه، سبحانه وتعالى.
وإذا علم - عَزَّ وَجَلَّ - بجميع النوازل وبجميع ما بالخلق إليه حاجة فصارت النوازل كلها مردودات إليه؛ فيجب أن يكون حكم فيها؛ إذ قال اللَّه، - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحُكمُهُ إلَى اللَّهِ)، تعالى، وإذا لم يحكم فيها لم يصر الحكم إليه، بل لا حكم فيه إلى اللَّه - تعالى - فلما وجب بالذي ذكرت أن يكون ذلك مما تضمنه البيان - لزم الاجتهاد.
ثم لو كان الحق عند التنازع الظاهر دون أن يطلب -على أصح التأويلات- دليل، لكان لا يجوز التنازع أن يقع؛ لأن الظاهر قد كان في أيديهم وهو حجة لا يحتمل أن يتركه أحد إلا بالدليل لو كان حجة، وكان قد قام الدليل على لزوم العدول عن الظاهر بتأويل جميع أولي الأمر في ذلك؛ فثبت أن دليل ذلك مطلوب يوجد، ويتفقون عليه إذا أنصفوا، وأنعموا النظر، وأعرضوا عن حسن الظن، ففريق من الأئمة على أن الذي يقوله هَؤُلَاءِ يقتضي أحكام الحوادث كلها بيقين؛ فثبت أن أحكامهم مودعات في المنصوص؛ فصرن متعلقات بالمعاني، لا بالظواهر.
ثم الأصل: أن العمل بالظواهر في محتمل المعاني ومختلف التأويلات مما فيه التنازع
233
في الأمة، وللتنازع أمر بالرد؛ فبعيد أن يرد إلى ما لم يثبت صحته، بل في الظاهر وجه في ظاهر الاسم باللسان، والظاهر من التفاهم في المعتاد؛ نحو القول بأن اغسلوا وجوهكم، أنه بأي شيء غسل يستحق اسم الغسل في اللغة، لكن لما يغسل به عادة في الاستعمال إلى ذلك ينصرف الخطاب، ويصير الظاهر في المعتاد به أولى من الظاهر في اللسان، ويكون في ذلك منع الذي ذكر حتى يوضحه دليل، أو يعلم أنه المعتاد؛ فيكون ذلك دليلًا، واللَّه أعلم.
ثم لا يحتمل التنازع فيما فيه المعتاد من التفاهم والعدول عنه إلا بدليل؛ فيجب القول لمن عدل إن كان عنده دليل؛ فيكون بما يوجب العمل منع، واللَّه أعلم.
ثم قيل في قوله - تعالى -: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بأوجه ثلاثة:
(أَطِيعُوا اللَّهَ) - تعالى - فيما أمر، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما بلغ، وأطيعوا اللَّه فيما فرض، والرسول فيما سَنَّ، وأطيعوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيما أنزل ونص، والرسول فيما بَيَّنَ.
والأصل في معهود اللسان: أن الطاعة تكون في الائتمار، فرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مطاع في جميع ما أمر، لازم طاعته في ذلك وأمره -إذا ثبت أنه أمره- هو أمر اللَّه - تعالى - وطاعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - طاعة اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وله يجب به ظهور الخصوص والعموم والتناسخ جميعًا، وبه تبين الفرض والأدب وكل نوع، وما يظهر، فباللَّه - تعالى - ظهر على لسانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: كتابًا كان، أو تنزيلا كان، أو تأويلاً، فالتقسيم بين الذي لله - عَزَّ وَجَلَّ - والذي لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوجب الشبهة، وَتَوَهُّم الاختلاف، جل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يبعث رسولا يخالفه، وباللَّه المعونة والتوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: ذلك الرد خير إلى ما ذكر.
ويحتمل: (ذَلِكَ خَيْرٌ) أي: الائتلاف فيما أمكن فيه خير من الاختلاف وأحمد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: عاقبة.
234
وقيل: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: خبرًا.
وفي حرف حفصة: " ذلك خير وأحسن ثوابًا ".
وعن ابن عَبَّاسٍ: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) قال: القرآن أحسن تأويلا.
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (٦٢) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (٦٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ...) الآية.
ذكر في القصة: أن رجلين تنازعا: أحدهما منافق، والآخر يهودي، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف، وقال اليهودي: اذهب بنا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فاختصما إلى نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقضى لليهودي على المنافق، فلما خرجا قال المنافق: انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب نختصم إليه، فأقبل معه اليهودي إلى عمر - رضي اللَّه عنه - فقال اليهودي: يا عمر، إنا اختصمنا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقضى لي عليه، فزعم أنه لا يرضى بقضائه، وهو يزعم أنه يرضى بقضائك، فاقض بيننا، فقال عمر - رضي اللَّه عنه - للمنافق: كذلك؟ قال: نعم، فقال: رويدكما أخرج إليكما، فدخل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج فضرب به عنق المنافق، فأنزل اللَّه - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)
والطاغوت، قيل: هو كعب بن الأشرف.
وقيل: (الطَّاغُوتِ): هو اسم الكاهن.
وقيل: (الطَّاغُوتِ): الكافر.
والطاغوت: هو كل معبود دون اللَّه - تعالى - وعلى هذا التأويل خرج قوله - سبحانه وتعالى -: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ...) أي: جاء أهل النفاق يحلفون باللَّه: أنه لم يرد بالتحاكم إلى ذلك إلا إحسانًا وتوفيقًا.
وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أن قوله - سبحانه وتعالى -: (يُرِيدُونَ أن يَتَحَاكمُوَا) قصدوا أن يتحاكموا ولم يتحاكموا بعد، فأخبرهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بذلك؛ فعلموا أنه إنما علم ذلك باللَّه، لكنهم لشدة تعنتهم وتمردهم لم يتبعوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أي: أمروا أن يكفروا بالطاغوت؛ كقوله - تعالى -: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) أي: يزين لهم الشيطان ليضلوا ضلالاً بعيدًا؛ أي: لا يعودون إلى الهدى أبدًا، فيه إخبار أنهم يموتون على ذلك، فكذلك كان، وهو في موضع الإياس عن الهدى.
وقيل: بعيدا عن الحق.
وقيل: طويلا، وهو واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ... (٦١)
أي: إذا قيل لهم: تعالوا إلى حكم ما أنزل اللَّه في كتابه، وإلى الرسول، وإلى أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسنته - (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)
والصدود: هو الإعراض في اللغة، والصد: الصرف.
وقال الكسائي: يقرأ: " يَصِدُّونَ " بكسر الصاد، و " يَصُدُّونَ " بضم الصاد.
وفي حرف حفصة: " وإذا دعوت الكافرين والمنافقين إلى ما أنزل اللَّه رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (٦٢)
يحتمل هذا ما ذكر في القصة الأولى: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قتل ذلك الرجل المنافق جاء المنافقون إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحلفون باللَّه ما أراد ذلك الرجل إلا (إِحْسَانًا) أي: تخفيفا وتيسيرًا عليك؛ ليرفع عنك المؤنة، (وَتَوْفِيقًا) إلى الخير والصواب.
وقيل: نزلت في المنافقين في بناء مسجد ضرار؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى).
ويحتمل قوله - تعالى -: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) الآية) في كل مصيبة تصيبهم، وكل نكبة تلحقهم أن كانوا يأتون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيعتذرون كما (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ...) الآية؛ لأنهم كانوا يميلون إلى حيثما كانوا يطمعون من المنافع من الغنيمة وغيرها، إن رأوا النكبة والدبرة على المؤمنين مالوا إلى هَؤُلَاءِ، ويظهرون الموافقة لهم؛ طمعًا منهم، ويقولون: إنا معكم، وإن كانت النكبة والدبرة على الكافرين يظهرون الموافقة لهم؛ كقوله - تعالى -: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، هذا كان دأبهم وعادتهم أبدًا.
وقوله - تعالى -: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) قيل فيه بوجوه:
قيل: إلا تخفيفًا وتيسيرًا عليك.
وقيل: قالوا: تحاكمنا إليه على أنه إن وفق، وإلا رجعنا إليك.
وفيه دلالة بطلان تحكيم الكافر والتحاكم إليه، وذلك حجة لأصحابنا - رحمهم اللَّه - واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ... (٦٣) من النفاق والخلاف غير ما حلفوا، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)، ولا تعاقبهم في هذه المرة، (وَقُلْ لَهُمْ): إن فعلتم مثل هذا ثانية عاقبتكم.
ويحتمل: أن يكون على الوعيد، أي: لا تعاقبهم؛ فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو معاقبهم.
وقوله - تعالى -: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)
قيل: أي: تخفيفًا وتيسيرًا عليك، على أنه إن وفق للصواب وإلا رجعنا إليك؛ إحسانًا وتوفيقًا؛ لما لعل التحاكم إليهم يحملهم على الرجوع إلى دين الإسلام.
وقيل: (إِحْسَانًا): يحسنون إلينا ويبروننا بفضول أموالهم.
وقيل: (وَتَوْفِيقًا): بفضول أموالهم.
وقيل: (وَتَوْفِيقًا): أي: صوابًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)
قيل: أوعدهم وعيدًا؛ حتى إذا عادوا إلى مثله يعاقبون.
وقيل: ألزمهم الحجة في ذلك وأبلغها إليهم؛ حتى إذا عادوا عاقبتهم.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (٦٤) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ...) الآية.
يحتمل قوله - تعالى -: (بِإِذْنِ اللَّهِ) وجوهًا:
قيل: (لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بمشيئة اللَّه.
وقيل: (لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بأمر اللَّه.
وقيل: (لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بعلم اللَّه.
ومن قال: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، بمشيئة اللَّه؛ أي: من أطاع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما يطيعه بمشيئته، وكذلك من عصاه إنما يعصيه بمشيئته، من أطاعه أو عصاه فإنما ذلك كله بمشيئة اللَّه.
ومن تأول: (إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) العلم، يقول: إنه يعلم من يطيعه ومن يعصيه، أي: كل ذلك إنما يكون بعلمه، لا عن غفلة منه وسهو، كصنيع ملوك الأرض أن ما يستقبلهم من العصيان والخلاف إنما يستقبلهم الغفلة، منهم وسهو بالعواقب، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - إذا بعث رسلا بعث على علم منه بالطاعة لهم وبالمعصية، لكنه
239
بعثهم لما لا ينفعه طاعة أحد؛ ولا يضره معصية أحد، فإنما ضر ذلك عليهم، ونفعه لهم.
ثم قالت المعتزلة في قوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ): أخبر أنه ما أرسل الرسل إلا لتطاع، ومن الرسل من لم يطع؛ كيف لا تبينتم أن من الفعل ما قد أراد - عَزَّ وَجَلَّ - أن يفعل، وأن يكون، ولكن لم يكن على ما أخبر أنه ما أرسل من رسول إلا ليطاع.
ثم من قد كان من الرسل ولم يطع.
قيل: هو ما ذكر في آخره: (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بمشيئة اللَّه، فمن شاء من الرسل أن يطاع فقد أطيع، ومن شاء ألا يطاع، فلم يطع، وكذلك من علم أنه يطاع فأرسله ليطاع فأطيع، ومن علم أنه لا يطاع فلم يطع، ومن أرسل أن يطاع بأمر ليكون عليه الأمر فذلك مستقيم، ومن أرسل ليطاع بالأمر فلا يجوز ألا يطاع.
وقوله -أيضًا-: (لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)
قيل فيه: بأمر اللَّه، وقد مرّ بيانه.
وقيل: ليطاع بمشيئة اللَّه؛ فيطيعه كل من شاء اللَّه.
وقيل: بعلم اللَّه، فهو فيمن يعلم أنه يطيعه؛ إذ لا يجوز أن يعلم الطاعة ممن لا يكون.
والمعتزلة في هذا: أنه أخبر أنه أرسل ليطاع، ولم يطعه الكل ما يبعد أن يكون أراد ليطاع وإن كان لا يطيعه الكل.
فقلنا: إذا قال: (لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، والإذن يتوجه إلى ما ذكرت؛ فعلى ما ذكرت كان ليطاع ممن يطيعه لا غير؛ فحصل الأمر على الدعوى، وهو كقوله - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ومعلوم أن الصغار منهم لا يعبدون، فخرج الخبر إلى الخصوص بالوجود، لا أن كان في كل أمر؛ فعلى ذلك أمر الإرادة فيمن وجد، لا أنه في كل على أنه فيه بعلم، وهو يرجع إلى بعض دون الكل، فمثله الإذن على إرادة المشيئة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)
أي: علموا أن حاصل ظلمهم راجع إليهم؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير
240
موضعه، وهم وضعوا أنفسهم في غير موضعها، فإذا لم يعرفوا أنفسهم لم يعرفوا خالقها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ)
أي: جاءوك مسلمين، تائبين عن التحاكم إلى غيرك، راضين بقضائك، نادمين على ما كان منهم، (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) أي: تشفع لهم الرسول، (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) أي: قابلا لتوبتهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ... (٦٥)
قيل: قوله: (فَلَا) صلة، وكذلك في كل قسم أقسم به؛ كقوله تعالى: (لَآ أُقسِمُ بِهَذَا البلَدِ)، (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)، ونحوه، كله صلة، كأنه قال: أقسم وربك لا يؤمنون.
وقيل: قوله: (فَلَا وَرَبِّكَ) ليس هو على الصلة، ولكن يقال ذلك على نفي ما تقدم من الكلام وإنكاره؛ كقول الرجل: لا واللَّه، هو ابتداء الكلام، ولكن على نفي ما تقدم من الكلام، فعلى ذلك هذا.
وفيه دلالة تفضيل رسولنا، مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيره من البشر؛ لأن الإضافة إذا خرجت إلى واحد تخرج مخرج التعظيم لذلك الواحد، والتخصيص له، وإذا كانت إلى
241
جماعة تعظيمًا له؛ كقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)، وقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ونحوه.
وقوله - تعالى -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) كان
رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حاكمًا وإن لم يحكموه، ليس معناه - واللَّه أعلم -: (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي: حتى يرضوا بحكمك وقضائك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)
أي: اختلفوا بينهم وتنازعوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ)
قيل ضيقًا.
وقيل: شكا مما قضيت بينهم أنه حق.
وقيل: إثمًا.
ثم في الآية دلالة أن الإيمان يكون بالقلب؛ لأنه قال - تعالى -: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي: في قلوبهم؛ ألا ترى أنه قال اللَّه - تعالى - في آية أخرى: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)، ذكر ضيق الصدر، وذكر ضيق الأنفس، وهو واحد؛ ألا ترى أنه قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -، في آية أخرى: (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)، فهذه الآيات ترد على الكرامية قولهم؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) وهم يقولون: بل يؤمنون، فيقال لهم: أنتم أعلم أم اللَّه؟!.
ثم قيل: إن الآية نزلت في اليهودي والمنافق اللذين تنازعا، فتحاكما إلى الطاغوت.
242
وقيل: نزلت في شأن رجل من الأنصار والزبير بن العوام كان بينهما تشاجر في الماء، فارتفعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال للزبير: " اسْقِ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ "، فغضب ذلك الرجل؛ فنزلت الآية (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ....) الآية.
ولا ندري كيف كانت القصة؟ وفيم كانت؟.
ثم روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في بعض الأخبار أنه قال: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ، وَمَالِهِ، وَالنَّاسِ جَمِيعًا ".
وقيل في قوله - تعالى -: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي: في قلوبهم (حَرَجًا) أي: شكًّا (مِمَّا قَضَيْتَ) أنه هو الحق (وَيُسَلِّمُوا) ولقضائك لهم وعليهم (تَسْلِيمًا).
وفي قوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ) قيل: تأويله: أنه ما أرسل رسولا في الأمم السالفة إلا ليطيعوه، فكيف تركتم أنتم طاعة الرسول الذي أرسل إليكم.
وقوله - تعالى -: (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) ما أرسل اللَّه رسولا إلا وقد أمرهم أن يطيعوه، لكن منهم من قد أطاعه، ومنهم من لم يطع.
* * *
قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ
243
مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ...) الآية.
قال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو كانت علينا نزلت يا رسول اللَّه، لبدأت بنفسي وأهل بيتي، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ذَاكَ لفَضْلِ يَقِينِكَ عَلَى يَقِينِ النَّاسِ، وَإِيمَانِكَ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ ".
وعن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال رجل من الأنصار: واللَّه، لو كانت علينا لقتلنا أنفسنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لَلْإِيمَانُ أَثْبَت فِي صُدُورِ الرجَالِ مِنَ الأَنْصَارِ مِنَ الجِبَالِ الرَّوَاسِي ".
وقيل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ...) الآية: هم يهود [يعني والعرب] (١) كما أمر أصحاب موسى، عليه السلام.
وقيل: قال عمر - رضي اللَّه عنه - ونفر معه: واللَّه لو فعل ربنا لفعلنا، فالحمد للَّهِ الذي لم يجعل بنا ذلك، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَلْإيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الجِبَال الرَّوَاسِي ".
(١) في المطبوع هكذا [تغنا العرب]. والتصويب من الدر المنثور كما أشار إليه محقق الكتاب. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ (١٨) إلى آخر الآية، في