تفسير سورة النساء

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة النساء من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة النساء
الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾
. وقال النحاس : مكية. وقال النقاش : نزلت عند الهجرة منمكة إلى المدينة انتهى. ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة. وفي البخاري : آخر آية نزلت
﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ ﴾
ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب، ونبه تعالى بقوله :
﴿ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ ﴾ على المجازاة. و أخبر أنَّ بعضهم من بعض في أصل التوالد، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل، وتفرَّع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدمالاختلاف، ولينبه بذلك على أنّ أصل الجنس الإنساني كان عابداً لله مفرده بالتوحيد والتقوى، طائعاً له، فكذلك ينبغي أن تكونفروعه التي نشأت منه. فنادى تعالى : دعاء عامًّا للناس، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر، وجعل سبباً للتقوى تذكاره تعالىإياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة. ومن كان قادراً على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفعوالضر فهو جدير بأنْ يتقي. ونبه بقوله : من نفس واحدة، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناسإلى بعض، وألف له دون غيره، ليتألف بذلك عباده على تقواه. والظاهر في الناس : العموم، لأن الألف واللام فيه تفيده، وللأمر بالتقوى وللعلة، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان. وقيل : المراد بالناس أهل مكة، كان صاحب هذا القول ينظر إلىقوله :
﴿ تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ﴾
لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك. يقول : أنشدك بالله وبالرحم. وقيل : المراد المؤمنون نظراً إلىقوله :
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾
وقوله :«المسلم أخو المسلم» والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرةفقط، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية، لأنهم غير عارفين بالله، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا نحو :﴿ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾

سورة النّساء
[سورة النساء (٤) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
488
الرَّقِيبُ: فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْبًا وَرُقُوبًا وَرِقْبَانًا، أَحَدَّ النَّظَرَ إِلَى أَمْرٍ لِيَتَحَقَّقَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَيَقْتَرِنُ بِهِ الْحِفْظُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّذِي يَرْقُبُ خُرُوجَ السَّهْمِ: رَقِيبٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ:
كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَبَاءِ أَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ وَالرَّقِيبُ: السَّهْمُ الثَّالِثُ مِنَ السَّبْعَةِ الَّتِي لَهَا أَنْصِبَاءُ. وَالرَّقِيبُ: ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالْمَرْقَبُ: الْمَكَانُ الْعَالِي الْمُشْرِفُ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الرَّقِيبُ. وَالِارْتِقَابُ: الِانْتِظَارُ.
الْحُوبُ: الْإِثْمُ. يُقَالُ: حَابَ يَحُوبُ حَوْبًا وَحُوبًا وَحَابًا وَحُؤُوبًا وَحِيَابَةً. قَالَ:
الْمُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ.
فَلَا يُدْخِلَنِّي الدَّهْرُ قَبْرَكَ حُوبُ فَإِنَّكَ تَلْقَاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَإِنْ تُهَاجِرِينَ تَكْفُفَاهُ غِرَايَتَهُ لَقَدْ خَطَيَا وَحَابَا
وَقِيلَ: الْحَوْبُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمَصْدَرُ وَبِضَمِّهَا الِاسْمُ، وَتَحَوَّبَ الرَّجُلُ أَلْقَى الْحُوبَ عَنْ نَفْسِهِ كَتَحَنَّثَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَرَّجَ. وَفُلَانٌ يَتَحَوَّبُ مِنْ كَذَا يَتَوَقَّعُ. وَأَصْلُ الْحُوبِ: الزَّجْرُ لِلْإِبِلِ، فَسُمِّيَ الْإِثْمُ حُوبًا لِأَنَّهُ يُزْجَرُ عَنْهُ، وَبِهِ الْحَوْبَةُ الْحَاجَةُ، وَمِنْهُ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْكَ أَرْفَعُ حَوْبَتِي. وَيُقَالُ: أَلْحَقَ اللَّهُ بِهِ الْحَوْبَةَ أَيِ الْمَسْكَنَةَ وَالْحَاجَةَ.
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ: مَعْدُولَةٌ عَنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. وَلَا يُرَادُ بِالْمَعْدُولِ عَنْهُ التَّوْكِيدُ، إِنَّمَا يُرَادُ بِذَلِكَ تَكْرَارُ الْعَدَدِ إِلَى غَايَةِ الْمَعْدُودِ. كَقَوْلِهِ: وَنَفَرُوا بَعِيرًا بَعِيرًا، وَفَصَّلْتُ الْحِسَابَ لَكَ بَابًا بَابًا، وَيُتَحَتَّمُ مَنْعُ صَرْفِهَا لِهَذَا الْعَدْلِ. وَالْوَصْفِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ وَأَبِي عَمْرٍو، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تُصْرَفَ، وَمَنْعُ الصَّرْفِ عِنْدَهُ أَوْلَى.
وَعِلَّةُ الْمَنْعِ عِنْدَهُ الْعَدْلُ وَالتَّعْرِيفُ بِنِيَّةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَامْتَنَعَ عِنْدَهُ إِضَافَتُهَا لِأَنَّهَا فِي نِيَّةِ
489
الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَامْتَنَعَ ظُهُورُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ لِأَنَّهَا فِي نِيَّةِ الْإِضَافَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ مِنْ تَأْلِيفِنَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا مُنِعَتِ الصَّرْفَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعَدْلَيْنِ: عَدْلِهَا عَنْ صِيغَتِهَا، وَعَدْلِهَا عَنْ تَكْرِيرِهَا. وَهِيَ نَكِرَاتٌ تَعَرَّفْنَ بِلَامِ التَّعْرِيفِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْكِحُ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثَ وَالرُّبَاعَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنِ امْتِنَاعِ الصرف لما فيها من الْعَدْلَيْنِ: عَدْلِهَا عَنْ صِيغَتِهَا، وَعَدْلِهَا عَنْ تَكَرُّرِهَا، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، بَلِ الْمَذَاهِبُ فِي عِلَّةِ مَنْعِ الصَّرْفِ الْمَنْقُولَةُ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ. وَالثَّانِي: مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الْفَرَّاءِ.
وَالثَّالِثُ: مَا نُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ وَهُوَ لِأَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنِ اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وَأَرْبَعَةٍ أَرْبَعَةٍ، وَأَنَّهُ عَدْلٌ عَنِ التَّأْنِيثِ. وَالرَّابِعُ: مَا نَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَانِعَةَ مِنَ الصَّرْفِ هِيَ تَكْرَارُ الْعَدْلِ فِيهِ، لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ اثْنَيْنِ وَعَدَلَ عَنْ مَعْنَاهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعٍ تُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْأَعْدَادُ غَيْرُ الْمَعْدُولَةِ تَقُولُ: جَاءَنِي اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ، وَلَا يَجُوزُ: جَاءَنِي مَثْنَى وَثُلَاثٌ حَتَّى يَتَقَدَّمَ قَبْلَهُ جَمْعٌ، لِأَنَّ هَذَا الْبَابَ جُعِلَ بَيَانًا لِتَرْتِيبِ الْفِعْلِ. فَإِذَا قَالَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ مَثْنَى، أَفَادَ أَنَّ تَرْتِيبَ مَجِيئِهِمْ وَقَعَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. فَأَمَّا الْأَعْدَادُ غَيْرُ الْمَعْدُولَةِ فَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهَا الْإِخْبَارُ عَنْ مِقْدَارِ المعدودون غَيْرِهِ. فَقَدْ بَانَ بِمَا ذَكَرْنَا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تَقُومَ الْعِلَّةُ مَقَامَ الْعِلَّتَيْنِ لِإِيجَابِهِمَا حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ انْتَهَى مَا قُرِّرَ بِهِ هَذَا الْمَذْهَبُ.
وَقَدْ رَدَّ النَّاسُ عَلَى الزَّجَّاجِ قَوْلَهُ: أَنَّهُ عَدْلٌ عَنِ التَّأْنِيثِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، والزمخشري لَمْ يَسْلُكْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعِلَلِ الْمَنْقُولَةِ، فَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَهُ سَلَفٌ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ تَبِعَهُ، وَإِلَّا فَيَكُونُ مِمَّا انْفَرَدَ بِمَقَالَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُعَرَّفْنَ بِلَامِ التَّعْرِيفِ، يُقَالُ:
فُلَانٌ يَنْكِحُ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثَ وَالرُّبَاعَ، فَهُوَ مُعْتَرَضٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زَعْمُهُ أَنَّهَا تُعَرَّفُ بِلَامِ التَّعْرِيفِ، وَهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، بَلْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا نَكِرَاتٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَثَّلَ بِهَا، وَقَدْ وَلِيَتِ الْعَوَامِلَ فِي قَوْلِهِ: فُلَانٌ يَنْكِحُ الْمَثْنَى، وَلَا يَلِي الْعَوَامِلَ، إِنَّمَا يَتَقَدَّمُهَا مَا يَلِي الْعَوَامِلَ، وَلَا تَقَعُ إِلَّا خَبَرًا كَمَا
جَاءَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى».
أَوْ حَالًا نَحْوَ: مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى «١» أَوْ صِفَةً نَحْوَ: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «٢» وقوله:
(١) سورة النساء: ٤/ ٣.
(٢) سورة فاطر: ٣٥/ ١.
490
ذئاب يبغي النَّاسَ مَثْنَى وَمَوْحَدَا وَقَدْ تَجِيءُ مُضَافَةً قَلِيلًا نَحْوَ، قَوْلِ الْآخَرِ:
بِمَثْنَى الزِّقَاقِ الْمُتْرَعَاتِ وَبِالْجُزُرْ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تَلِي الْعَوَامِلَ عَلَى قِلَّةٍ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
ضَرَبْتُ خُمَاسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ أَدَارَ سُدَاسَ أَنْ لَا يَسْتَقِيمَا
وَمِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْمَعْدُولِ أَنَّهُ لَا يُؤَنَّثُ، فَلَا تَقُولُ: مَثْنَاةٌ، وَلَا ثُلَاثَةٌ، وَلَا رُبَاعَةٌ، بَلْ يَجْرِي بِغَيْرِ تَاءٍ عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ.
عَالَ: يَعُولُ عَوْلًا وَعِيَالَةً، مَالَ. وَمِيزَانُ فُلَانٍ عَائِلٌ.
وَعَالَ الْحَاكِمُ فِي حُكْمِهِ جَارَ،
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعُولُ كَثُرَ عِيَالُهُ. وَيُقَالُ: عَالَ يَعِيلُ افْتَقَرَ وَصَارَ عَالَةً. وَعَالَ الرَّجُلُ عياله يعولهم ما نهم وَمِنْهُ:
«ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ»
وَالْعَوْلُ فِي الْفَرِيضَةِ مُجَاوَزَتُهُ لِحَدِّ السِّهَامِ الْمُسَمَّاةِ. وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي عَالَ: أَنَّهَا تَكُونُ لَازِمَةً وَمُتَعَدِّيَةً. فَاللَّازِمَةُ بِمَعْنَى: مَالَ، وَجَارَ، وَكَثُرَ عِيَالُهُ، وَتَفَاقَمَ، وَهَذَا مُضَارِعُهُ يَعُولُ.
وَعَالَ الرَّجُلُ افْتَقَرَ، وَعَالَ فِي الْأَرْضِ ذَهَبَ فِيهَا، وَهَذَا مُضَارِعُهُ يَعِيلُ. وَالْمُتَعَدِّيَةُ بِمَعْنَى أثقل، ومان من المئونة. وَغَلَبَ مِنْهُ أُعِيلَ صَبْرِي وَأُعْجِزَ. وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَعْجَزَ فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، تَقُولُ: عَالَنِي الشَّيْءُ يعيلي عَيْلًا وَمَعِيلًا أَعْجَزَنِي، وَبَاقِي الْمُتَعَدِّي مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ.
الصَّدُقَةُ عَلَى وَزْنِ سَمُرَةٍ الْمَهْرُ، وَقَدْ تَسْكُنُ الدَّالُ، وَضَمُّهَا وَفَتْحُ الصَّادِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَيُقَالُ: صَدْقَةٌ بِوَزْنِ غَرْفَةٍ. وَتُضَمُّ دَالُهُ فَيُقَالُ: صَدُقَةٌ وَأَصْدَقَهَا أَمْهَرَهَا.
النِّحْلَةُ: الْعَطِيَّةُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. وَالنِّحْلَةُ الشِّرْعَةُ، وَنِحْلَةُ الْإِسْلَامِ خَيْرُ النِّحَلِ. وَفُلَانٌ يَنْحَلُ بِكَذَا أَيْ يَدِينُ بِهِ.
هَنِيئًا مَرِيئًا: صِفَتَانِ مِنْ هَنُؤَ الطَّعَامُ وَمَرُؤَ، إِذَا كَانَ سَائِغًا لَا تَنْغِيصَ فِيهِ. وَيُقَالُ: هَنَا يَهْنَا بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَهَنَّأَنِي الطَّعَامُ وَمَرَّأَنِي، فَإِذَا لَمْ تَذْكُرْ هَنَّأَنِي قُلْتَ: أَمْرَأَنِي رُبَاعِيًّا، وَاسْتُعْمِلَ مَعَ هَنَّأَنِي ثُلَاثِيًّا لِلْإِتْبَاعِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَنِيئًا مَرِيئًا صِفَتَانِ نَصَبُوهُمَا نَصْبَ الْمَصَادِرِ الْمَدْعُوِّ
491
بِهَا بِالْفِعْلِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ إِظْهَارُهُ الْمُخْتَزَلِ، لِلدَّلَالَةِ الَّتِي فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ ذَلِكَ هَنِيئًا مَرِيئًا انْتَهَى. وَقَالَ كُثَيِّرٌ:
هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِعِزَّةٍ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
قِيلَ: وَاشْتِقَاقُ الْهَنِيءِ مِنْ هِنَاءِ الْبَعِيرِ، وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ مِنَ الْجَرَبِ، وَيُوضَعُ فِي عَقْرِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
مُتَبَذِّلٌ تَبْدُو مَحَاسِنُهُ يَضَعُ الْهِنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقَبِ
وَالْمَرِيءُ مَا يُسَاغُ فِي الْحَلْقِ، وَمِنْهُ قِيلٌ لِمَجْرَى الطَّعَامِ فِي الْحُلْقُومِ إِلَى فَمِ الْمَعِدَةِ:
الْمَرِيءُ. آنَسَ كَذَا أَحَسَّ بِهِ وَشَعَرَ. قَالَ:
آنَسْتُ شَاةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّاصُ عصرا وقددنا الْإِمْسَاءُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَدَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلِمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَبْصَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
عَرَفَ. وَهِيَ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. السَّدِيدُ مِنَ الْقَوْلِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْحَقِّ مِنْهُ:
أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ فَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي
الْمَعْنَى: لَمَّا وَافَقَ الْأَغْرَاضَ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا. صَلَى بِالنَّارِ تَسَخَّنَ بِهَا، وَصَلَيْتُهُ أَدْنَيْتُهُ مِنْهَا. التَّسْعِيرُ: الْجَمْرُ الْمُشْتَعِلُ مِنْ سَعَّرْتُ النَّارَ أَوْقَدْتُهَا، وَمِنْهُ مِسْعَرُ حَرْبٍ.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «١». وَقَالَ النَّحَّاسُ: مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ عِنْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ انْتَهَى. وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهَا مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ:
آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «٢».
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ «٣» عَلَى الْمُجَازَاةِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي أَصْلِ التَّوَالُدِ، نَبَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى إِيجَادِ الْأَصْلِ، وَتَفَرُّعِ الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْهُ لِيَحُثَّ عَلَى التَّوَافُقِ وَالتَّوَادِّ وَالتَّعَاطُفِ وعدم
(١) سورة النساء: ٤/ ٥٨.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٧٦.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ١٩٥.
492
الِاخْتِلَافِ، وَلِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُفْرِدَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّقْوَى، طَائِعًا لَهُ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فُرُوعُهُ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهُ. فَنَادَى تَعَالَى: دُعَاءً عَامًّا لِلنَّاسِ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ مِلَاكُ الْأَمْرِ، وَجَعَلَ سَبَبًا لِلتَّقْوَى تَذْكَارَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُ أَوْجَدَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِيجَادِ الْغَرِيبِ الصُّنْعِ وَإِعْدَامِ هَذِهِ الْأَشْكَالِ وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَّقَى. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى مَا هُوَ مَرْكُوزٌ فِي الطِّبَاعِ مِنْ مَيْلِ بَعْضِ الْأَجْنَاسِ إِلَى بَعْضٍ، وَإِلْفِهِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، لِيَتَأَلَّفَ بِذَلِكَ عِبَادَهُ عَلَى تَقْوَاهُ. وَالظَّاهِرُ فِي النَّاسِ: الْعُمُومُ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ تُفِيدُهُ، وَلِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَلِلْعِلَّةِ، إِذْ لَيْسَا مَخْصُوصَيْنِ بَلْ هُمَا عَامَّانِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ مَكَّةَ، كَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَنْظُرُ إِلَى قوله: تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ «١» لِأَنَّ الْعَرَبَ هُمُ الَّذِينَ يَتَسَاءَلُونَ بِذَلِكَ. يَقُولُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «٢»
وَقَوْلِهِ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ»
وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ إِذَا كان الخطاب والنداء بيا أيها النَّاسُ وَكَانَ لِلْكَفَرَةِ فَقَطْ، أَوْ لَهُمْ مَعَ غَيْرِهِمْ أَعْقَبَ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِاللَّهِ، فَنُبِّهُوا عَلَى الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ لِأَنْ يَعْرِفُوا نَحْوَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ «٣» يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «٤» وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ أُعْقِبَ بِذِكْرِ النِّعَمِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ.
قِيلَ: وَجَعَلَ هَذَا الْمَطْلَعَ مَطْلَعًا لِسُورَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: هَذِهِ وَهِيَ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِيَةُ: سُورَةُ الْحَجِّ، وَهِيَ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي. وَعَلَّلَ هُنَا الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَهُنَاكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ. وَبَدَأَ بِالْمَبْدَأِ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى أَنَّهَا تَقْوَى عَامَّةٌ فِيمَا يُتَّقَى مِنْ مُوجِبِ الْعِقَابِ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ بِاجْتِنَابِ مَا جَاءَ فِيهِ الْوَعِيدُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالتَّقْوَى تَقْوَى خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يَتَّقُوهُ فِيمَا يَتَّصِلُ بِحِفْظِ الْحُقُوقِ بَيْنَهُمْ، فَلَا يَقْطَعُوا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَصْلُهُ. فَقِيلَ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي وَصَلَ بَيْنَكُمْ بِأَنْ جَعَلَكُمْ صِنْوَانًا مُفَرَّعَةً مِنْ أَرُومَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا يَجِبُ لِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلِبَعْضٍ، فَحَافِظُوا عَلَيْهِ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُطَابِقٌ لِمَعَانِي السُّورَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى الطَّاعَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْخَشْيَةُ. وقيل: اجتناب
(١) سورة النساء: ٤/ ١.
(٢) سورة الحجرات: ٤٩/ ١٠.
(٣) سورة فاطر: ٣٥/ ٥. [.....]
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٢١.
493
الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ آدَمُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاحِدَةٍ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ لَفْظِ النَّفْسِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَاحِدٍ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، إِذِ الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ، أَوْ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، فَجَاءَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَى تَذْكِيرِ النَّفْسِ. وَمَعْنَى الْخَلْقِ هُنَا:
الِاخْتِرَاعُ بِطَرِيقِ التَّفْرِيعِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِلَى عِرْقِ الثَّرَى وَشَجَتْ عروقي وهذا الموت يسلبني شَبَابِي
قَالَ: فِي رَيِّ الظَّمْآنِ، وَدَلَّتِ الْإِضَافَةُ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ الرَّاجِعُ إِلَى التَّوَالُدِ وَالتَّعَاقُبِ وَالتَّتَابُعِ. وَعَلَى أَنَّا لَسْنَا فِيهِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الدَّهْرِيَّةِ، وَإِلَّا لَقَالَ: أَخْرَجَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَأَضَافَ خَلْقَنَا إِلَى آدَمَ، وَإِنْ لَمْ نَكُنْ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ كُنَّا مِنْ نُطْفَةٍ وَاحِدَةٍ حَصَلَتْ بِمَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَلَكِنَّهُ الْأَصْلُ انْتَهَى. وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ السَّمْعُ.
وَلَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا مَا قَرَأَ كِتَابًا، كَانَ مَعْنَى خَلَقَكُمْ دَلِيلًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ انْتَهَى.
وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الْمُفَاخَرَةِ وَالْكِبْرِ، لِتَعْرِيفِهِ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَدَلَالَةٌ عَلَى الْمَعَادِ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِخْرَاجِ أَشْخَاصٍ مُخْتَلِفِينَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَقُدْرَتُهُ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بطريق الأولى. وزوجها: هِيَ حَوَّاءُ. وَظَاهِرٌ مِنْهَا ابْتِدَاءُ خَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ أَصْلُهَا الَّذِي اخْتُرِعَتْ وَأُنْشِئَتْ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، والسدّي. وقتادة قَالُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَحْشًا فِي الْجَنَّةِ وَحْدَهُ، ثُمَّ نَامَ فَانْتَزَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدَ أَضْلَاعِهِ الْقُصْرَى مِنْ شِمَالِهِ. وقيل: من يمينه، فحلق مِنْهَا حَوَّاءَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُعَضِّدُ هَذَا الْقَوْلَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا».
انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لِاضْطِرَابِ أَخْلَاقِهِنَّ، وَكَوْنِهِنَّ لَا يَثْبُتْنَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، أَيْ: صَعْبَاتُ الْمِرَاسِ، فَهِيَ كَالضِّلْعِ الْعَوْجَاءِ كَمَا جَاءَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ:
إِنَّ الْمَرْأَةَ، فَأَتَى بِالْجِنْسِ وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ حَوَّاءَ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ:
وَخَلَقَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا قَالَهُ: ابْنُ بَحْرٍ وَأَبُو مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «١» ورَسُولًا مِنْهُمْ «٢». قَالَ الْقَاضِي: الْأَوَّلُ أَقْوَى، إِذْ لَوْ كَانَتْ حَوَّاءُ مَخْلُوقَةً ابْتِدَاءً لَكَانَ
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ١١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٢٩.
494
النَّاسُ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسَيْنِ لَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ وَقَعَ بِآدَمَ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَلَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ حَوَّاءَ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا حَذْفَ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا، لَيْسَ عَائِدًا عَلَى نَفْسٍ، بَلْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى الطِّينَةِ الَّتِي فُصِلَتْ عَنْ طِينَةِ آدَمَ. وَخُلِقَتْ مِنْهَا حَوَّاءُ أَيْ: أَنَّهَا خُلِقَتْ مِمَّا خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ. وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تقدم: أنها خلقت وآدم فِي الْجَنَّةِ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: قَبْلَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ وَبِهِ قَالَ:
كعب الأحبار ووهب، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَجَاءَتِ الْوَاوُ فِي عَطْفِ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَى أَحَدِ مَحَامِلِهَا، مِنْ أَنَّ خَلْقَ حَوَّاءَ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ النَّاسِ. إِذِ الْوَاوِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبٍ زَمَانِيٍّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصِّلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخَلْقِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُهَا وَاقِعًا بَعْدَ خَلْقِ حَوَّاءَ، لِأَجْلِ أَنَّهُمُ الْمُنَادَوْنَ الْمَأْمُورُونَ بِتَقْوَى رَبِّهِمْ. فَكَانَ ذِكْرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِمْ أَوَّلًا آكَدَ، وَنَظِيرُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «١» وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقَهُمْ تَأَخَّرَ عَنْ خَلْقِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا هُمُ الْمَأْمُورِينَ بِالْعِبَادَةِ وَالْمُنَادَيْنَ لِأَجْلِهَا، اعْتَنَى بِذِكْرِ التَّنْبِيهِ عَلَى إِنْشَائِهِمْ أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ إِنْشَاءَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. وَقَدْ تَكَلَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي إِقْرَارِ مَا عُطِفَ بِالْوَاوِ مُتَأَخِّرًا عَنْ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، فَقَدَّرَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مَحْذُوفًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَعْطُوفِ فِي الزَّمَانِ، فَقَالَ: يُعْطَفُ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَنْشَأَهَا أَوِ ابْتَدَأَهَا وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: شُعَبُكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا، وَهِيَ أَنَّهُ أَنْشَأَهَا مِنْ تُرَابٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهَا. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ مَسَاغِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْعَرَبِيَّةُ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: يُعْطَفُ عَلَى خَلَقَكُمْ. وَيَكُونُ الخطاب فِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ آدَمَ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ الْمُفَرَّعِ مِنْهُ، وَخَلَقَ مِنْهَا أُمَّكُمْ حَوَّاءَ انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ وَاحِدَةٍ التَّقْدِيرُ مِنْ نَفْسٍ وَحَدَتْ، أَيِ انْفَرَدَتْ. وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، فَيَكُونُ نَظِيرَ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ «٢» وَتَقُولُ الْعَرَبُ: وَحَدَ يَحِدُ وَحْدًا وَوَحْدَةً، بِمَعْنَى انْفَرَدَ.
وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ عَنَى بِالنَّفْسِ الرُّوحَ الْمَذْكُورَةَ فِيمَا قِيلَ أَنَّهُ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَامِ بِكَذَا وَكَذَا سَنَةً»
وَعَنَى بِزَوْجِهَا الْبَدَنَ، وعنى
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١.
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ١٩.
495
بِالْخَلْقِ التَّرْكِيبَ. وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «١» وَقَوْلِهِ:
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ «٢» وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي النَّبَاتِ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّرْكِيبِ. وَبَدَأَ بِذِكْرِ الزَّوْجَيْنِ وَالْأَزْوَاجِ فِي الْأَشْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ تَرْكِيبٍ، وَالْوَاحِدُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى نَقْصِهَا وَكَمَالِهَا، لِكَوْنِهَا بَعْضَهُ.
وَبَثَّ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ، وَزَوْجِهَا أَيْ: نَشَرَ وَفَرَّقَ فِي الْوُجُودِ. وَيُقَالُ: أَبَثُّ اللَّهُ الْخَلْقَ رُبَاعِيًّا، وَبَثَّ ثُلَاثِيًّا، وَهُوَ الْوَارِدُ فِي الْقُرْآنِ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً. قِيلَ: نَكَّرَ لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ الشُّيُوعِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِالشُّيُوعِ حَتَّى صَرَّحَ بِالْكَثْرَةِ وَقَدَّمَ الرِّجَالِ لِفَضْلِهِمْ عَلَى النِّسَاءِ، وَخَصَّ رِجَالًا بِذِكْرِ الْوَصْفِ بِالْكَثْرَةِ، فَقِيلَ: حَذَفَ وَصْفَ الثَّانِي لِدَلَالَةِ وَصْفِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَنِسَاءً كَثِيرَةً. وَقِيلَ: لَا يُقَدَّرُ الْوَصْفُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ صَحِيحًا، لِأَنَّهُ نَبَّهَ بِخُصُوصِيَّةِ الرِّجَالِ بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ، عَلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِهِمُ الِاشْتِهَارُ وَالْخُرُوجُ وَالْبُرُوزُ، وَاللَّائِقَ بِحَالِ النِّسَاءِ الْخُمُولُ وَالِاخْتِفَاءُ. وَفِي تَنْوِيعِ مَا خَلَقَ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ إِلَى رِجَالٍ وَنِسَاءٍ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْخُنْثَى، إِذْ حَصَرَ مَا خَلَقَ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، فَإِنْ وُجِدَ مَا ظَاهِرُهُ الْإِشْكَالُ فَلَا بُدَّ مِنْ صَيْرُورَتِهِ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ. وقرىء: وخالق منها زوجها، وبات عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تقديره وَهُوَ خَالِقٌ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ. وَقِيلَ:
لِاخْتِلَافِ التَّعْلِيلِ وَذَكَرَ أَوَّلًا: الرَّبَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَثَانِيًا: اللَّهَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْقَهْرِ وَالْهَيْبَةِ. بَنَى أَوَّلًا عَلَى التَّرْغِيبِ، وَثَانِيًا عَلَى التَّرْهِيبِ. كَقَوْلِهِ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً «٣» ويَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً «٤» كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ رَبُّكَ أَحْسَنَ إِلَيْكَ فَاتَّقِ مُخَالَفَتَهُ، فَإِنْ لَمْ تَتَّقِهِ لِذَلِكَ فَاتَّقِهِ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ: تَسَّاءَلُونَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَأَصْلُهُ تَتَسَاءَلُونَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حَذَفُوا التَّاءَ الثَّانِيَةَ تَخْفِيفًا، وَهَذِهِ تَاءُ تَتَفَاعَلُونَ تُدْغَمُ فِي لُغَةٍ وَتُحْذَفُ فِي أُخْرَى لِاجْتِمَاعِ حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْمُتَقَارِبَةُ خُفِّفَتْ بِالْحَذْفِ وَالْإِدْغَامِ وَالْإِبْدَالِ، كَمَا قَالُوا: طَسْتٌ فَأَبْدَلُوا مِنَ السِّينِ الْوَاحِدَةِ تَاءً، إِذِ الْأَصْلُ طَسٌّ. قَالَ العجاج:
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٤٩.
(٢) سورة يس: ٣٦/ ٣٦.
(٣) سورة السجدة: ٣٢/ ١٦.
(٤) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٠.
496
لَوْ عَرَضَتْ لِأَسْقُفِيٍّ قَسِّ أَشْعَثَ فِي هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ
حَنَّ إِلَيْهَا كَحَنِينِ الطَّسِّ
انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: حَذَفُوا التَّاءَ الثَّانِيَةَ فَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَذَهَبَ هِشَامُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ الْكُوفِيُّ: إِلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَةَ هِيَ الْأُولَى، وَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ ذُكِرَتْ دَلَائِلُهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهَذِهِ تَاءُ تَتَفَاعَلُونَ تُدْغَمُ فِي لُغَةٍ وَتُحْذَفُ فِي أُخْرَى، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى الْإِثْبَاتِ، إِذْ يَجُوزُ الْإِثْبَاتُ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِدْغَامُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَصْلِ، إِذْ لَمْ يَذْهَبِ الْحَرْفُ إِلَّا بِأَنْ أُبْدِلَ مِنْهُ مُمَاثِلُ مَا بَعْدَهُ وَأُدْغِمَ. وَالْحَذْفُ، لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ اخْتِصَاصُ الْإِدْغَامِ والحذف بتتفاعلون، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَمَّا الْإِدْغَامُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ، بَلْ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ وَالْمُضَارِعِ وَالْمَاضِي وَاسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرِ. وَأَمَّا الْحَذْفُ فَيَخْتَصُّ بِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ التَّاءُ مِنَ الْمُضَارِعِ، فَقَوْلُهُ: لِاجْتِمَاعِ حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ ظَاهِرُهُ تَعْلِيلُ الْحَذْفِ فَقَطْ لِقُرْبِهِ، أَوْ تَعْلِيلُ الْحَذْفِ وَالْإِدْغَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَمَّا إِنْ كَانَ تَعْلِيلًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْحَذْفُ عِلَّةُ اجْتِمَاعٍ مُتَمَاثِلَةٌ لَا مُتَقَارِبَةٌ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ تَعْلِيلًا لَهُمَا فَيَصِحُّ الْإِدْغَامُ لَا الْحَذْفُ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ: إِذَا اجْتَمَعَتِ الْمُتَقَارِبَةُ فَكَذَا، فَلَا يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ لَازِمٌ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ التَّخْفِيفُ بِكَذَا، فَكَمْ وُجِدَ مِنِ اجْتِمَاعِ مُتَقَارِبَةٍ لَمْ يُخَفَّفْ لَا بِحَذْفٍ وَلَا إِدْغَامٍ وَلَا بَدَلٍ. وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ بِطَسْتٍ فِي طَسٍّ فَلَيْسَ الْبَدَلُ هُنَا لِاجْتِمَاعٍ، بَلْ هَذَا مِنِ اجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ كَقَوْلِهِمْ فِي لِصٍّ لَصْتٌ.
وَمَعْنَى يَتَسَاءَلُونَ بِهِ: أَيْ يَتَعَاطَوْنَ بِهِ السُّؤَالَ، فَيَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. أَوْ يَقُولُ:
أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَفْعَلَ، وَظَاهِرُ تَفَاعَلَ الِاشْتِرَاكُ أَيْ: تَسْأَلُهُ بِاللَّهِ، وَيَسْأَلُكَ بِاللَّهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَاهُ تَسْأَلُونَ بِهِ حُقُوقَكُمْ وَتَجْعَلُونَهُ مُعَظَّمًا لَهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: تَسْأَلُونَ بِهِ مضارع سأل الثلاثي. وقرى: تَسَلُونَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السِّينِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَعْنَى تَسَاءَلُونَ بِهِ أَيْ تَتَعَاطَفُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: تَتَعَاقَدُونَ وَتَتَعَاهَدُونَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَتَطَلَّبُونَ بِهِ حُقُوقَكُمْ وَالْأَرْحَامَ. قَرَأَ جُمْهُورُ: السَّبْعَةِ بِنَصْبِ الْمِيمِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِجَرِّهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَالْأَعْمَشِ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: بِضَمِّهَا، فَأَمَّا النَّصْبُ فَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَقَطْعَ الْأَرْحَامِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ.
497
وَالْجَامِعُ بَيْنَ تَقْوَى اللَّهِ وَتَقْوَى الْأَرْحَامِ هَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَى التَّقَوَيَيْنِ، لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ بِالْتِزَامِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَاتِّقَاءَ الْأَرْحَامِ بِأَنْ تُوصَلَ وَلَا تُقْطَعَ فِيمَا يَفْضُلُ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَبِالْحَمْلِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْقَاضِي: كَيْفَ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةُ؟ وَنَقُولُ أَيْضًا إِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيِ اتَّقَوُا مُخَالَفَةَ اللَّهِ. وَفِي عَطْفِ الْأَرْحَامِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِ قَطْعِ الرَّحِمِ، وَانْظُرْ إِلَى قَوْلُهُ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى «١» كَيْفَ قَرَنَ ذَلِكَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَبِرُّ؟ قَالَ: أَمَّكَ وَفِيهِ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»
وَقَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ مَنْ أَضَلَّهُ: مِنَ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ «٢». وَقِيلَ: النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ بِهِ كَمَا تَقُولُ: مَرَرَتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرًا. لَمَّا لَمْ يُشَارِكْهُ فِي الْإِتْبَاعِ عَلَى اللَّفْظِ أُتْبِعَ عَلَى مَوْضِعِهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: تَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ. أَمَّا الرَّفْعُ فَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَرْحَامُ أَهْلٌ أَنْ تُوصَلَ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَرْحَامُ مِمَّا يُتَّقَى، أَوْ مِمَّا يُتَسَاءَلُ بِهِ، وَتَقْدِيرُهُ أَحْسَنُ مِنْ تَقْدِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ، إِذْ قَدَّرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ السَّابِقُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ قَدَّرَ مِنَ الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْجَرُّ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، وَعَلَى هَذَا فَسَّرَهَا الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَبِالْأَرْحَامِ. وَكَانُوا يَتَنَاشَدُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالرَّحِمِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ يَعْنِي: الْجَرَّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ. قَالَ: لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلَ مُتَّصِلٌ كَاسْمِهِ، وَالْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَانَا فِي قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِهِ وَزَيْدٍ، وَهَذَا غُلَامُهُ وَزَيْدٍ شَدِيدِي الِاتِّصَالِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الِاتِّصَالُ لِتَكَرُّرِهِ اشْتَبَهَ الْعَطْفُ عَلَى بَعْضِ الْكَلِمَةِ فَلَمْ يُجَرَّ، وَوَجَبَ تَكْرِيرُ الْعَامِلِ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِهِ وَبِزَيْدٍ، وَهَذَا غُلَامُهُ وَغُلَامُ زَيْدٍ. أَلَا تَرَى إِلَى صِحَّةِ رَأَيْتُكَ وَزَيْدًا، وَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو لَمَّا لَمْ يَقْوَ الِاتِّصَالُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ؟ وَقَدْ تَمَحَّلَ لِصِحَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْجَارِّ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ القراءة عند رؤساء نحويين الْبَصْرَةِ لَا تَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُعْطَفَ ظَاهِرٌ عَلَى مُضْمَرٍ مَخْفُوضٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ عَنِ المازني: لأن المعطوف
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٧.
498
وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ شَرِيكَانِ، يَحِلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلَّ صَاحِبِهِ. فَكَمَا لَا يَجُوزُ مررت بزيدوك، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِكَ وَزَيْدٍ. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَهِيَ عِنْدَهُ قَبِيحَةٌ لَا تَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كما قال:
فاليوم قدبت تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
وَكَمَا قَالَ:
تُعَلَّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَفُّ غَوْطٌ تَعَانَفُ
وَاسْتَسْهَلَهَا بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَتَعْلِيلُ الْمَازِنِيِّ مُعْتَرَضٌ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: رَأَيْتُكَ وَزَيْدًا، ولا يجوز رأيت زيداوك، فَكَانَ الْقِيَاسُ رَأَيْتُكَ وَزَيْدًا، أَنْ لَا يَجُوزَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: الْمُضْمَرُ الْمَخْفُوضُ لَا يَنْفَصِلُ، فَهُوَ كَحَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَةِ، وَلَا يُعْطَفُ عَلَى حَرْفٍ.
وَيَرُدُّ عِنْدِي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمَعْنَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذِكْرَ الْأَرْحَامِ مِمَّا تَسَاءَلَ بِهِ لَا مَعْنَى لَهُ فِي الْحَضِّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْأَرْحَامَ يُتَسَاءَلُ بِهَا، وَهَذَا تَفْرِيقٌ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ. وَغَضٌّ مِنْ فَصَاحَتِهِ، وَإِنَّمَا الْفَصَاحَةُ فِي أَنْ تَكُونَ فِي ذِكْرِ الْأَرْحَامِ فَائِدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِي ذِكْرِهَا عَلَى ذَلِكَ تَقْدِيرَ التَّسَاؤُلِ بِهَا وَالْقَسَمِ بِحُرْمَتِهَا، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَرُدُّ ذَلِكَ فِي
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ فِي وَالْأَرْحَامَ وَاوُ الْقَسَمِ لَا وَاوُ الْعَطْفِ، وَالْمُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ هِيَ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ. وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى مَا جَاءَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَهَبُوا إِلَى تَخْرِيجِ ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِغَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، وَذَهَابًا إِلَى أَنَّ فِي الْقَسَمِ بِهَا تَنْبِيهًا عَلَى صِلَتِهَا وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول يَأْبَاهُ نَظْمُ الْكَلَامِ وَسِرُّهُ انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَتَبِعَهُمْ فِيهِ الزمخشري وابن عطية: من امْتِنَاعِ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَمِنِ اعْتِلَالِهِمْ لِذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلِ الصَّحِيحُ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ. وَقَدْ أَطَلْنَا الِاحْتِجَاجَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ «١». وَذَكَرْنَا ثُبُوتَ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ نَثْرِهَا وَنَظْمِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هنا.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١٧.
499
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَيَرُدُّ عِنْدِي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمَعْنَى وَجْهَانِ، فَجَسَارَةٌ قَبِيحَةٌ مِنْهُ لَا تَلِيقُ بِحَالِهِ وَلَا بِطَهَارَةِ لِسَانِهِ. إِذْ عَمَدَ إِلَى قِرَاءَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ، وَاتَّصَلَتْ بِأَكَابِرِ قُرَّاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وزيد بن ثابت. وَأَقْرَأِ الصَّحَابَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَمَدَ إِلَى رَدِّهَا بِشَيْءٍ خَطَرَ لَهُ فِي ذِهْنِهِ، وَجَسَارَتُهُ هَذِهِ لَا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَطْعَنُ فِي نَقْلِ الْقُرَّاءِ وَقِرَاءَتِهِمْ، وحمزة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخَذَ الْقُرْآنَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مهران الأعمش، وحمدان بن أعين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، وَلَمْ يَقْرَأْ حَمْزَةُ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا بِأَثَرٍ. وَكَانَ حَمْزَةُ صَالِحًا وَرِعًا ثِقَةً فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَأَحْكَمَ الْقِرَاءَةَ وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَمَّ النَّاسَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ مِنْ نُظَرَائِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَمِنْ تَلَامِيذِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِمَامُ الْكُوفَةِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ أَبُو الْحَسَنِ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ: غَلَبَ حَمْزَةُ النَّاسَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْفَرَائِضِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا وَأَطَلْتُ فِيهِ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عمر عَلَى كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَيُسِيءَ ظَنًّا بِهَا وَبِقَارِئِهَا، فَيُقَارِبَ أَنْ يَقَعَ فِي الْكُفْرِ بِالطَّعْنِ فِي ذَلِكَ. وَلَسْنَا مُتَعَبَّدِينَ بِقَوْلِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ، فَكَمْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْكُوفِيِّينَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَنْقُلْهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَكَمْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْبَصْرِيِّينَ لَمْ يَنْقُلْهُ الْكُوفِيُّونَ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ اسْتِبْحَارٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، لَا أَصْحَابُ الْكَنَانِيسِ الْمُشْتَغِلُونَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْعُلُومِ الْآخِذُونَ عَنِ الصُّحُفِ دُونَ الشُّيُوخِ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً لَا يُرَادُ بكان تَقْيِيدُ الْخَبَرِ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي الْمُنْقَطِعِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُ كَانَ ذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى عَلَى الدَّيْمُومَةِ فَهُوَ تَعَالَى رَقِيبٌ فِي الْمَاضِي وَغَيْرِهِ عَلَيْنَا، وَالرَّقِيبُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
هُنَا هُوَ الْعَلِيمُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُرَاعٍ لَكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْءٌ فَاتَّقُوهُ وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لِابْنِ أَخٍ لَهُ يَتِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ طَلَبَ الْمَالِ فَمَنَعَهُ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الْأَرْحَامَ أَتْبَعَ بِالْأَيْتَامِ، لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِحَيْثُ لَا كَافِلَ لَهُمْ، فَفَارَقَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ لَهُ رَحِمٌ مَاسَّةٌ. وَظَاهِرُهُ الْأَمْرُ بِإِعْطَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ.
وَالْيُتْمُ فِي بَنِي آدَمَ: فَقْدُ الْأَبِ، وَهُوَ جَمْعٌ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ. وَيَنْقَطِعُ هَذَا الِاسْمُ
500
شَرْعًا بِالْبُلُوغِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَجَازٍ، إِمَّا فِي الْيَتَامَى لِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْبَالِغِينَ اعْتِبَارًا وَتَسْمِيَةً بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ شَرْعًا قَبْلَ الْبُلُوغِ مِنِ اسْمِ الْيُتْمِ، فَيَكُونُ الْأَوْلِيَاءُ قَدْ أُمِرُوا بِأَنْ لَا تُؤَخَّرَ الْأَمْوَالُ عَنْ حَدِّ الْبُلُوغِ، وَلَا يُمْطَلُوا إِنْ أُونِسَ مِنْهُمُ الرُّشْدُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَجَازُ فِي أُوتُوا، وَيَكُونَ مَعْنَى إيتاؤهم الْأَمْوَالَ: الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَأَنْ لَا يَطْمَعَ فِيهَا الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَوْصِيَاءُ، وَيَكُفُّوا عَنْهَا أَيْدِيَهُمُ الْخَاطِئَةَ. وَعَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْخِطَابُ لِمَنْ لَهُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ شَرْعًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْخِطَابُ لِمَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ لَا يَرِثَ الصَّغِيرُ مِنَ الْأَوْلَادِ مَعَ الْكَبِيرِ، فَقِيلَ لَهُمْ: وَرِّثُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا تَتْرُكُوا أَيُّهَا الْكِبَارُ حُظُوظَكُمْ حَلَالًا طَيِّبًا حَرَامًا خَبِيثًا، فَيَجِيءُ فِعْلُكُمْ ذَلِكَ تَبَدُّلًا. وَقِيلَ: كَانَ الْوَلِيُّ يَرْبَحُ عَلَى يَتِيمِهِ فَتَسْتَنْفِدُ تِلْكَ الْأَرْبَاحُ مَالَ الْيَتِيمِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى السَّفِيهِ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ: لِأَنَّ وَآتُوا الْيَتَامَى مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ سَفِيهًا وَغَيْرَهُ، أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَا، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ السِّنِّ الْمَذْكُورِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى أَنَّ إِينَاسَ الرُّشْدِ قَبْلَ بُلُوغِ هَذَا السِّنِّ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ هَذَا السِّنِّ، فَوَجَبَ إِجْرَاءُ الْأَمْرِ بَعْدَ هَذَا السِّنِّ عَلَى حُكْمِ ظَاهِرِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَخُصِّصَتْ بِقَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ بَعْضُهُمْ يُبَدِّلُ الشَّاةَ السَّمِينَةَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِالْهَزِيلَةِ مِنْ مَالِهِ، وَالدِّرْهَمَ الطَّيِّبَ بِالزَّيْفِ مِنْ مَالِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: الْمَعْنَى وَلَا تَتَعَجَّلُوا أَكْلَ الْخَبِيثِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَتَدَعُوا انْتِظَارَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ خَبِيثًا وَتَدَعُوا أَمْوَالَكُمْ طَيِّبًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَأْخُذُوا مَالَ الْيَتِيمِ وَهُوَ خَبِيثٌ لِيُؤْخَذَ مِنْكُمُ الْمَالُ الَّذِي لَكُمْ وَهُوَ طَيِّبٌ. وَقِيلَ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا فتكون هي نار تَأْكُلُونَهَا وَتَتْرُكُونَ الْمَوْعُودَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ إِبْقَاءِ الْخَبَائِثِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَقِيلَ: لَا تَسْتَبْدِلُوا الْأَمْرَ الْخَبِيثَ وَهُوَ: اخْتِزَالُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِالْأَمْرِ الطَّيِّبِ وَهُوَ: حِفْظُهَا وَالتَّوَرُّعُ مِنْهَا. وَتَفَعَّلَ هُنَا بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ كَتَعَجَّلَ، وَتَأَخَّرَ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ وَاسْتَأْخَرَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ وَصْفَانِ فِي الْأَجْرَامِ الْمُتَبَدِّلَةِ وَالْمُتَبَدَّلِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ فَيَكُونَانِ بِمَعْنَى الْكَرِيهِ الْمُتَنَاوَلِ وَاللَّذِيذِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ فَيَكُونَانِ بِمَعْنَى الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ. أَمَّا أَنْ يَكُونَا وَصْفَيْنِ لِاخْتِزَالِ الْأَمْوَالِ وَحِفْظِهَا فَفِيهِ بُعْدٌ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ مَا بِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَلَا تَبَدَّلُوا بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ.
501
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ لَمَّا نُهُوا عَنِ اسْتِبْدَالِ الْخَبِيثِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِالطَّيِّبِ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، ارْتَقَى فِي النَّهْيِ إِلَى مَا هُوَ أَفْظَعُ مِنَ الِاسْتِبْدَالِ وَهُوَ: أَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَنُهُوا عَنْهُ. وَمَعْنَى إِلَى أَمْوَالِكُمْ: قِيلَ مَعَ أَمْوَالِكُمْ، وَقِيلَ: إِلَى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ التَّقْدِيرُ:
مَضْمُومَةً إِلَى أَمْوَالِكُمْ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بتأكلوا عَلَى مَعْنَى التَّضْمِينِ أَيْ: وَلَا تَضُمُّوا أَمْوَالَهُمْ فِي الأكل إلى موالكم. وَحِكْمَةُ: إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِغَيْرِ حَقٍّ، أَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى غِنَى الْأَوْلِيَاءِ. كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ مَعَ كَوْنِكُمْ ذَوِي مَالٍ أَيْ: مَعَ غِنَاكُمْ، لِأَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِلْوَلِيِّ إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ. وَهَذَا نَصَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْأَكْلِ، وَفِي حُكْمِهِ التَّمَوُّلُ عَلَى جَمِيعِ وُجُوهِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ نَاهِيَةٌ عَنِ الْخَلْطِ فِي الْإِنْفَاقِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَخْلِطُ نَفَقَتَهَا بِنَفَقَةِ أَيْتَامِهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «١». وَقَالَ الْحَسَنُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا.
قَالَ: تَأَوَّلَ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيَ عَنِ الْخَلْطِ، فَاجْتَنَبُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، فَخَفَّفَ عَنْهُمْ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ. وَحَسَّنَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: وَحَقِيقَتُهُ وَلَا تَضُمُّوهَا إِلَيْهَا فِي الْإِنْفَاقِ حَتَّى لَا تُفَرِّقُوا بَيْنَ أَمْوَالِكُمْ وَأَمْوَالِهِمْ قِلَّةَ مُبَالَاةٍ بِمَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ، وَتَسْوِيَةً بَيْنِهِ وَبَيْنَ الْحَلَالِ. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلُ مَالِ الْيَتَامَى وَحْدَهُ وَمَعَ أَمْوَالِهِمْ، فَلِمَ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِهِ مَعَهَا؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ مَالٍ حَلَالٍ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَطْمَعُونَ فِيهَا، كَانَ الْقُبْحُ أَبْلَغَ وَالذَّمُّ أَحَقَّ. وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَنَعَى عَلَيْهِمْ فِعْلَهُمْ وَسَمَّعَ بِهِمْ لِيَكُونَ أَزْجَرَ لَهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى أَمْوَالِكُمْ لَيْسَ قَيْدًا لِلِاحْتِرَازِ، إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِتَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ، وَلِأَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ الْوَاقِعِ، فَيَكُونَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: أَضْعافاً مُضاعَفَةً «٢» وَإِنْ كَانَ الرِّبَا عَلَى سَائِرِ أَحْوَالِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ نَحْنُ يَكُونُ ذَلِكَ قَيْدًا لِلِاحْتِرَازِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ فَقِيرًا جَازَ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ لِمَنْ كَانَ غَنِيًّا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ «٣».
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٠.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٣٠. [.....]
(٣) سورة النساء: ٤/ ٦.
502
إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَالْحَسَنُ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ وَغَيْرِهِمْ، وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: إِنَّهُ كَانَ حَابًا كَبِيرًا، وَكُلُّهَا مَصَادِرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: الْحُوبُ الْإِثْمُ. وَقِيلَ: الظُّلْمُ. وَقِيلَ: الْوَحْشَةُ. وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَكْلِ. وَقِيلَ: عَلَى التَّبَدُّلِ. وَعَوْدُهُ عَلَى الْأَكْلِ أَقْرَبُ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِمَا.
كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
أي كأن ذلك وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي أَوْلِيَاءِ الْيَتَامَى الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ جَمَالُ وَلِيَّاتِهِمْ فَيُرِيدُونَ أَنْ يَبْخَسُوهُمْ فِي الْمَهْرِ لمكان ولايتهم عليهن. فقيل لَهُمْ: أَقْسِطُوا فِي مُهُورِهِنَّ، فَمَنْ خَافَ أَنْ لَا يُقْسِطَ فَلْيَتَزَوَّجْ مَا طَابَ لَهُ مِنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ اللَّوَاتِي يُمَاكَسْنَ فِي حُقُوقِهِنَّ. وَقَالَهُ أَيْضًا رَبِيعَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ يَتَزَوَّجُ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الْعَشَرَةَ وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ، فَإِذَا ضَاقَ مَالُهُ مَالَ عَلَى مَالِ يَتِيمِهِ فَيَتَزَوَّجُ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ خِفْتُمْ عَجْزَ أَمْوَالِكُمْ حَتَّى تَجُورُوا فِي الْيَتَامَى فَاقْتَصِرُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَحَرَّجُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَلَا تَتَحَرَّجُ فِي الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، يَتَزَوَّجُونَ الْعَشَرَةَ فَأَكْثَرَ، فَنَزَلَتْ في ذلك أي: كما تخافون أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَكَذَلِكَ فَتَحَرَّجُوا فِي النِّسَاءِ، وَانْكِحُوا عَلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي يَبْعُدُ الْجَوْرُ عَنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
إِنَّمَا الْآيَةُ تَحْذِيرٌ مِنَ الزِّنَا وزجر عنه، أي كَمَا تَتَحَرَّجُونَ فِي مَالِ الْيَتَامَى فَكَذَلِكَ تَحَرَّجُوا مِنَ الزِّنَا، وَانْكِحُوا عَلَى مَا حُدَّ لَكُمْ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْأَوَّلِ لَا يَخْتَصُّ الْيَتَامَى بِإِنَاثٍ وَلَا ذُكُورٍ، وَعَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْإِنَاثِ كَأَنَّهُ قِيلَ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي نِكَاحِ يَتَامَى النِّسَاءِ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ غَيْرِهِنَّ، لَمَّا أُمِرُوا بِأَنْ يُؤْتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَنُهُوا عَنِ الِاسْتِبْدَالِ الْمَذْكُورِ، وَعَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، كَانَ فِي ذَلِكَ مَزِيدُ اعْتِنَاءٍ بِالْيَتَامَى وَاحْتِرَازٌ مِنْ ظُلْمِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا «١» فَخُوطِبَ أَوْلِيَاءُ يَتَامَى النِّسَاءِ أَوِ النَّاسُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى أَيْ: فِي نِكَاحِ يَتَامَى النِّسَاءِ، فَانْكِحُوا غَيْرَهُنَّ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ المعنى في
(١) سورة النساء: ٤/ ١٠.
503
نِكَاحِ الْيَتَامَى. فَالْيَتَامَى إِنْ كَانَ أُرِيدُ بِهِ الْيُتْمُ الشَّرْعِيُّ فَيَنْطَلِقُ عَلَى الصَّغِيرَاتِ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَيْسَتْ يَتِيمَةً، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَحُطَّ عَنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا جَازَ لَهَا. خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ إِذْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْيُتْمَ اللُّغَوِيَّ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْبَالِغَاتُ، وَالْبَالِغَةُ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا رَضِيَتْ، فَأَيُّ مَعْنًى لِلْعُدُولِ إِلَى نِكَاحِ غَيْرِهَا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُدُولَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَسْتَضْعِفُهَا وَيَسْتَوْلِي عَلَى مَالِهَا وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْيَتَامَى هُنَا الْبَالِغَاتِ فَلَا حُجَّةَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ. وَمَعْنَى: خِفْتُمْ حَذِرْتُمْ، وَهُوَ عَلَى مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ الْخَوْفَ هُوَ الْحَذَرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى خِفْتُمْ هُنَا أَيْقَنْتُمْ، وَخَافَ تَكُونُ بِمَعْنَى أَيْقَنَ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَقُلْتُ لَهُمْ خافوا بألفي مدحج وَمَا قَالَهُ لَا يَصِحُّ، لَا يَثْبُتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ خَافَ بِمَعْنَى أَيْقَنَ، وَإِنَّمَا خَافَ مِنْ أَفْعَالِ التَّوَقُّعِ، وَقَدْ يَمِيلُ فِيهِ الظَّنُّ إِلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ الْبَيْتُ: فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مدحج. هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَشْهَرُ مِنْ خَافُوا. قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَوْفُ يُقَالُ فِيمَا فِيهِ رَجَاءٌ مَا، وَلِهَذَا لَا يُقَالُ: خِفْتُ أَنْ لَا أَقْدِرُ عَلَى بُلُوغِ السَّمَاءِ، أَوْ نَسْفِ الْجِبَالِ انْتَهَى.
وَمَعْنَى أن لا تقسطوا أي: أن لا تَعْدِلُوا. أَيْ: وَإِنْ خِفْتُمُ الْجَوْرَ وَأَقْسَطَ: بِمَعْنَى عَدَلَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ تَقْسِطُوا بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ قَسَطَ، وَالْمَشْهُورُ فِي قَسَطَ أَنَّهُ بِمَعْنَى جَارَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُقَالُ قَسَطَ بِمَعْنَى أَقْسَطَ أَيْ عَدَلَ. فَإِنْ حُمِلَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى مَشْهُورِ اللُّغَةِ كَانَتْ لَا زَائِدَةً، أَيْ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تُقْسِطُوا أَيْ: أَنْ تَجُورُوا لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَتِمُّ إِلَّا بِاعْتِقَادِ زِيَادَتِهَا. وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى أَنْ تُقْسِطُوا بِمَعْنَى تُقْسِطُوا، كَانَتْ لِلنَّفْيِ كَمَا فِي تُقْسِطُوا.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ مَنْ طَابَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا طَابَ. فَقِيلَ: مَا بِمَعْنَى مَنْ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يُجَوِّزُ وُقُوعُ مَا عَلَى آحَادِ الْعُقَلَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بما عَنِ النِّسَاءِ، لِأَنَّ إِنَاثَ الْعُقَلَاءِ لِنُقْصَانِ عُقُولِهِنَّ يَجْرِينَ مَجْرَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَقِيلَ: ما واقعة على النوع، أَيْ: فَانْكِحُوا النَّوْعَ الَّذِي طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَا تَقَعُ عَلَى أَنْوَاعِ مَنْ يَعْقِلُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: مَا لِتَعْمِيمِ الْجِنْسِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ
504
الْقَوْلُ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ مُقَدَّرٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْمَعْنَى: فَانْكِحُوا النِّكَاحَ الَّذِي طَابَ لَكُمْ. وَقِيلَ: مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أَيْ: فَانْكِحُوا جِنْسًا أَوْ عَدَدًا يَطِيبُ لَكُمْ. وَقِيلَ: مَا ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: مُدَّةَ طِيبِ النِّكَاحِ لَكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَفْعُولَةٌ بِقَوْلِهِ:
فَانْكِحُوا، وَأَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَعْنَاهُ: مِنَ الْبَالِغَاتِ. ومن فِيهِ إِمَّا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي مَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُثْبِتُ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى، وَإِمَّا لِلتَّبْعِيضِ وَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنًا مِنَ النِّسَاءِ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً أَوْ ظَرْفِيَّةً، فَمَفْعُولُ فَانْكِحُوا هُوَ مِنَ النِّسَاءِ، كَمَا تَقُولُ: أَكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ، وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ: شَيْئًا مِنَ الرَّغِيفِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ فَانْكِحُوا مَثْنَى، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْدُولَ مِنَ الْعَدَدِ لَا يَلِي الْعَوَامِلَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْمُفْرَدَاتِ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْأَعْمَشُ طَابَ بِالْإِمَالَةِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ طِيبَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْإِمَالَةِ. وَظَاهِرُ فَانْكِحُوا الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا الْأَمْرِ وَبِغَيْرِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُوَ نَدْبٌ لِقَوْمٍ، وَإِبَاحَةٌ لِآخَرِينَ بِحَسَبِ قَرَائِنِ الْمَرْءِ، وَالنِّكَاحُ فِي الْجُمْلَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى مَا طَابَ: أَيْ مَا حَلَّ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ كَثِيرٌ قَالَهُ:
الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ. وَقِيلَ: مَا اسْتَطَابَتْهُ النَّفْسُ وَمَالَ إِلَيْهِ الْقَلْبُ. قَالُوا: وَلَا يَتَنَاوَلُ قَوْلُهُ فَانْكِحُوا الْعَبِيدَ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ عَامًّا فِي الْأَعْدَادِ كُلِّهَا، خَصَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ. فَظَاهِرُ هَذَا التَّخْصِيصِ تَقْسِيمُ الْمَنْكُوحَاتِ إِلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَتَزَوَّجَ اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَزَوَّجَ خَمْسَةً خَمْسَةً، وَلَا مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْدَادِ. وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: أُقَسِّمُ الدَّرَاهِمَ بَيْنَ الزَّيْدَيْنِ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَقَعَ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ دُونَ غَيْرِهِ. فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ أَحَدًا مِنَ الْمَقْسُومِ عَلَيْهِمْ خَمْسَةً خَمْسَةً، وَلَا يَسُوغُ دُخُولُ أَوْ هُنَا مَكَانَ الْوَاوِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَنْكِحُونَ كُلُّهُمْ إِلَّا عَلَى أَحَدِ أَنْوَاعِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا بَعْضَهُ عَلَى تَثْنِيَةٍ وَبَعْضَهُ عَلَى تَثْلِيثٍ وَبَعْضَهُ عَلَى تَرْبِيعٍ، لِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ. وَالْوَاوُ تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَيَأْخُذُ النَّاكِحُونَ مَنْ أَرَادُوا نِكَاحَهَا عَلَى طريق الجميع إن شاؤوا مُخْتَلِفِينَ فِي تِلْكَ الْأَعْدَادِ، وإن شاؤوا مُتَّفِقِينَ فِيهَا مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ مَا زَادَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشِّيعَةِ: إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ النِّكَاحُ بِلَا عَدَدٍ، كَمَا يَجُوزُ التَّسَرِّي بِلَا عَدَدٍ. وَلَيْسَتِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَوْقِيتٍ فِي الْعَدَدِ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ كَقَوْلِكَ: تَنَاوَلْ مَا أَحْبَبْتَ وَاحِدًا
505
وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثًا. وَذِكْرُ بَعْضِ مُقْتَضَى الْعُمُومِ جَاءَ عَلَى طَرِيقِ التَّبْيِينِ، وَلَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ تِسْعٍ، لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الْجَمْعَ. فَمَعْنَى: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا وَذَلِكَ تِسْعٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ تِسْعٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْدَادَ وَكَوْنَهَا عُطِفَتْ بِالْوَاوِ تَدُلُّ عَلَى نكاح جواز ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مِنْهَا مَعْدُولٌ عَنْ مُكَرَّرٍ مَرَّتَيْنِ، وَإِذَا جُمِعَتْ تِلْكَ الْمُكَرَّرَاتُ كَانَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ.
وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ اسْتِدْلَالًا وَإِبْطَالًا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ الْخِلَافِيَّةِ.
وَأَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ النِّكَاحُ مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ إِلَّا لِمَنْ خَافَ الْجَوْرَ فِي الْيَتَامَى لِأَجْلِ تَعْلِيقِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَخَفْ فَمَفْهُومُ الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ مِنِ اخْتِصَاصِ الْإِبَاحَةِ بِمَنْ خَافَ الْجَوْرَ. أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يجف الْجَوْرَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا كَمَنْ خَافَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ جَوَابٌ لِمَنْ خَافَ ذَلِكَ، وَحُكْمُهَا أَعَمُّ.
وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: وَرُبَعَ سَاقِطَةَ الألف، كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِهِ: وَحَلَيَانًا بَرَدًا يُرِيدُ بَارِدًا. وَإِذَا أَعْرَبْنَا مَا مِنْ مَا طَابَ مَفْعُولَةً وَتَكُونُ مَوْصُولَةً، فَانْتِصَابُ مَثْنَى وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الْحَالِ مِنْهَا، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَالٌ مِنَ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَوْضِعُهَا مِنَ الْإِعْرَابِ نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَا طَابَ، وَهِيَ نَكِرَاتٌ لَا تَتَصَرَّفُ لِأَنَّهَا مَعْدُولَةٌ وَصِفَةٌ انْتَهَى. وَهُمَا إِعْرَابَانِ ضَعِيفَانِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ هُوَ ما طاب، ومن النِّسَاءِ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّبْيِينِ وَلَيْسَ مُحَدَّثًا عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ الْحَالُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْحَالِ تَقْيِيدُ الْمَنْكُوحَاتِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْبَدَلُ هُوَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فيلزم من ذلك أن يُبَاشِرَهَا الْعَامِلُ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَنَّهَا لَا يُبَاشِرُهَا الْعَامِلُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا نَكِرَةٌ وَصِفَةٌ، وَمَا كَانَ نَكِرَةً وَصِفَةً فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَ تَابِعًا لِنَكِرَةٍ كَانَ صِفَةً لَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «١» وَمَا وَقَعَ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ وَقَعَ حالا للمعرفة. وما طَابَ مَعْرِفَةٌ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى حَالًا.
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي أن لا تَعْدِلُوا بَيْنَ ثِنْتَيْنِ إِنْ نَكَحْتُمُوهُمَا، أَوْ بَيْنَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ إِنْ نَكَحْتُمُوهُنَّ فِي الْقَسْمِ أَوِ النَّفَقَةِ أو الكسوة، فاختاروا
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ١.
506
واحدة. أو ما ملكت أَيْمَانُكُمْ هَذَا إِنْ حَمَلْنَا فَانْكِحُوا عَلَى تَزَوَّجُوا، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَطْءِ قَدَّرْنَا الْفِعْلَ النَّاصِبَ لِقَوْلِهِ: فَوَاحِدَةً. فَانْكِحُوا وَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا عَلَى أَحَدِ التَّخْرِيجَيْنِ فِيهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَانْكِحُوا أَيْ تَزَوَّجُوا وَاحِدَةً، أوطئوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَلَمْ يُقَيِّدْ مَمْلُوكَاتِ الْيَمِينِ بِعَدَدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَطَأَ مَا شَاءَ مِنْهُنَّ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ لَا فِي الْقَسْمِ وَلَا فِي النَّفَقَةِ وَلَا فِي الْكُسْوَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ هُرْمُزَ: فَوَاحِدَةٌ بِالرَّفْعِ. وَوَجَّهَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ أَيْ: فَوَاحِدَةٌ كَافِيَةٌ. وَوَجَّهَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْخَبَرِ أَيْ: فَالْمَقْنَعُ، أَوْ فَحَسْبُكُمْ وَاحِدَةٌ، أَوْ مَا ملكت أيمانكم. وأو هُنَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ: إِمَّا عَلَى التَّخْيِيرِ، وَإِمَّا عَلَى الْإِبَاحَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: فَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يُرِيدُ بِهِ الْإِمَاءَ، وَالْمَعْنَى: عَلَى هَذَا إِنْ خَافَ أَنْ لَا يَعْدِلَ فِي عِشْرَةِ وَاحِدَةٍ فَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَوْ مَنْ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَأَسْنَدَ الْمِلْكَ إِلَى الْيَمِينِ لِأَنَّهَا صِفَةُ مَدْحٍ، وَالْيَمِينُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَحَاسِنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ فِي
قَوْلِهِ: «حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالَهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»
وَهِيَ الْمُعَاهِدَةُ وَالْمُتَلَقِّيَةُ لِرَايَاتِ الْمَجْدِ، وَالْمَأْمُورُ فِي تَنَاوُلِ الْمَأْكُولِ بِالْأَكْلِ بِهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهَا.
وَهَذَانِ شَرْطَانِ مُسْتَقِلَّانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَوَابٌ مُسْتَقِلٌّ، فأول الشرطين: وإن ختفم أن لا تُقْسِطُوا، وَجَوَابُهُ: فَانْكِحُوا. صَرَفَ مَنْ خَافَ مِنَ الْجَوْرِ فِي نِكَاحِ الْيَتَامَى إِلَى نِكَاحِ الْبَالِغَاتِ مِنْهُنَّ وَمِنْ غَيْرِهِنَّ وَذَكَرَ تِلْكَ الْأَعْدَادَ. وَثَانِي الشَّرْطَيْنِ قَوْلُهُ: فَإِنْ خفتم أن لا تَعْدِلُوا وَجَوَابُهُ: فَوَاحِدَةً، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ صَرَفَ مَنْ خَافَ مِنَ الْجَوْرِ فِي نِكَاحِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْعَدَدِ إِلَى نِكَاحِ وَاحِدَةٍ، أَوْ تَسَرٍّ بِمَا مَلَكَ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ بِالْمُكَلَّفِ وَالرِّفْقِ بِهِ، وَالتَّعَطُّفِ عَلَى النِّسَاءِ وَالنَّظَرِ لَهُنَّ.
وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ اشْتَمَلَتْ عَلَى شَرْطٍ وَاحِدٍ، وَجُمْلَةِ اعْتِرَاضٍ. فَالشَّرْطُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا، وَجَوَابُهُ: فَوَاحِدَةً. وَجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِ قَوْلُهُ:
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، وَكَرَّرَ الشَّرْطَ بقوله: فإن خفتم أن لا تَعْدِلُوا. لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ بِالِاعْتِرَاضِ إِذْ مَعْنَاهُ: كَمَا جَاءَ فِي فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا بَعْدَ قَوْلِهِ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذْ طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ لَمَّا وَجَوَابِهَا فَأُعِيدَتْ. وَكَذَلِكَ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ «١» بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ «٢» إِذْ طَالَ الْفَصْلُ بِمَا بَعْدَهُ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٨.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٨.
507
بَيْنَ: لَا تَحْسَبَنَّ، وَبَيْنَ بِمَفَازَةٍ، فَأُعِيدَتِ الْجُمْلَةُ، وَصَارَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، أَنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا فَانْكِحُوا وَاحِدَةً. قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْعَدْلَ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ «١» انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ. وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، فَإِنَّ أَبَا عَلِيٍّ كَانَ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ بِمَكَانٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ إِفْسَادُ نَظْمِ الْقُرْآنِ التَّرْكِيبِيِّ، وَبُطْلَانٌ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ: لِأَنَّهُ إِذَا أَنْتَجَ مِنَ الْآيَتَيْنِ هَذِهِ وَقَوْلِهِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا بِمَا نَتَجَ مِنَ الدَّلَالَةِ، اقْتَضَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَ وَاحِدَةٍ، أَوْ يَتَسَرَّى بِمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ. وَيَبْقَى هَذَا الْفَصْلُ بِالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَبَيْنَ جَوَابِهِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ لَهُ عَلَى زَعْمِهِ. وَالْعَدْلُ الْمَنْفِيُّ اسْتِطَاعَتُهُ غَيْرُ هَذَا الْعَدْلِ الْمَنْفِيِّ هُنَا، ذَاكَ عَدْلٌ فِي مَيْلِ الْقَلْبِ وَقَدْ رُفِعَ الْحَرَجُ فِيهِ عَنِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا عَدْلٌ فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ. وَلِذَلِكَ نُفِيَتْ هُنَاكَ اسْتِطَاعَتُهُ، وَعُلِّقَ هُنَا عَلَى خَوْفِ انْتِفَائِهِ، لِأَنَّ الْخَوْفَ فِيهِ رَجَاءٌ وَظَنٌّ غَالِبًا. وَانْتَزَعَ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ:
فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنِّكَاحِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ عَكَسَ. وَوَجْهُ انْتِزَاعِهِ ذَلِكَ وَاسْتِدْلَالِهِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَ تَزَوُّجِ الْوَاحِدَةِ وَالتَّسَرِّي، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُشْعِرٌ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَالْحِكْمَةُ سُكُونُ النَّفْسِ بِالْأَزْوَاجِ، وَتَحْصِينُ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْبَيْتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالطَّرِيقَيْنِ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسَرِّي، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْمُتَسَاوِيَيْنِ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى الْمُسَاوِي الثَّانِي لَا مَحَالَةَ.
ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا الْإِشَارَةُ إِلَى اخْتِيَارِ الْحُرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَالْأَمَةِ. أَدْنَى مِنَ الدُّنُوِّ أَيْ: أَقْرَبُ أَنْ لَا تَعُولُوا، أَيْ: أَنْ لَا تَمِيلُوا عَنِ الْحَقِّ. قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، والربيع بْنُ أَنَسٍ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَضِلُّوا. وَقَالَ النَّخَعِيُّ:
لَا تَخُونُوا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ. وَقَدْ رُدَّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ وَالرَّازِيُّ مَا مَعْنَاهُ: غَلِطَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْإِمَاءِ فِي الْعِيَالِ كَصَاحِبِ الْأَزْوَاجِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ كَثْرَةَ السَّرَارِي، وَفِي ذَلِكَ تَكْثِيرُ الْعِيَالِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى أن لا يَكْثُرُوا؟ وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: قال: أولا أن لا تعدلوا يجب أَنْ يَكُونَ ضِدُّ الْعَدْلِ هُوَ الْجَوْرَ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَيَقْتَضِي أَيْضًا الرَّدَّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فتفسير الشافعي
(١) سورة النساء: ٤/ ١٢٩.
508
تَعُولُوا بِتُعِيلُوا. وَقَالُوا: يُقَالُ أَعَالَ يُعِيلُ إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ، فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ لَا مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، فَقَدِ اخْتَلَفَا فِي الْمَادَّةِ، فَلَيْسَ مَعْنَى تَعُولُوا تُعِيلُوا. وَقَالَ الرَّازِيُّ أَيْضًا عَنِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ خَالَفَ الْمُفَسِّرِينَ. وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ قَدْ قَالَ بِمَقَالَتِهِ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ زَيْدٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ تَعُولُوا بِتُعِيلُوا فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَعُولُوا وَتُعِيلُوا مِنْ مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُمَا يَجْمَعُهُمَا اشْتِقَاقٌ وَاحِدٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظَانِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَلَا يَجْمَعُهُمَا اشْتِقَاقٌ وَاحِدٌ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: دُمْتُ وَدَشِيرُ، وَسِبْطٌ وَسِبْطَةٌ، فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَقَدْ نَقَلَ عَالَ الرَّجُلُ يَعُولُ، أَيْ كَثُرَ عِيَالُهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ.
وَنَقَلَهُ أَيْضًا الْكِسَائِيُّ قَالَ: وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: عَالَ يَعُولُ، وَأَعَالَ يُعِيلُ كَثُرَ عِيَالُهُ، وَنَقَلَهَا أَيْضًا أَبُو عَمْرٍو الدُّورِيُّ الْمُقْرِي وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ غَيْرَ مُدَافَعٍ قَالَ: هِيَ لُغَةُ حِمْيَرَ.
وَأَنْشَدَ أَبُو عَمْرٍو حُجَّةً لَهَا:
وَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْخُذُ كُلَّ حَيٍّ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ أَمْشَى وَعَالَا
أَمَشَى كَثُرَتْ ماشيته، وعال كثير عِيَالُهُ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ وَتَفْسِيرَهُ تَعُولُوا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ عَلَى أَنْ جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِكَ: عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ يَعُولُهُمْ. وَقَالَ: لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ حَوَّلَ تُعِيلُوا إِلَى تَعُولُوا، وَأَثْنَى عَلَى الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَى كَعْبًا وَأَطْوَلَ بَاعًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا.
قَالَ: وَلَكِنَّ لِلْعُلَمَاءِ طُرُقًا وَأَسَالِيبَ، فَسَلَكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ طَرِيقَةَ الْكِنَايَاتِ.
وَأَمَّا مَا رَدَّ بِهِ ابْنُ دَاوُدَ وَالرَّازِيُّ وَالزَّجَّاجُ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا الْقَدْحُ يُشِيرُ إِلَى قَدْحِ الزَّجَّاجِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ السَّرَارِيَ إِنَّمَا هِيَ مَالٌ يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا الْعِيَالُ الْقَادِحُ الْحَرَائِرُ ذَوَاتُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَرَضُ بِالتَّزَوُّجِ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ، بِخِلَافِ التَّسَرِّي. وَلِذَلِكَ جَازَ الْعَزْلُ عَنِ السَّرَارِي بِغَيْرِ إِذْنِهِنَّ، فَكَانَ التَّسَرِّي مَظِنَّةً لِقِلَّةِ الْوَلَدِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى التَّزَوُّجِ، وَالْوَاحِدَةُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى تَزَوُّجِ الْأَرْبَعِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِذَا كَثُرَتِ الْجَوَارِي فَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُنَّ الْكَسْبَ فَيُنْفِقْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ وَعَلَى مَوْلَاهُنَّ أَيْضًا، وَتَقِلُّ الْعِيَالُ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ حُرَّةً فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنْ لَا تَعُولُوا بِمَعْنَى أَنْ لَا تَفْتَقِرُوا، وَلَا يُرِيدُ أَنْ تَعُولُوا مِنْ مَادَّةِ تُعِيلُوا مَنْ عَالَ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ، إِنَّمَا يُرِيدُ أَيْضًا
509
الْكِنَايَةَ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ يَتَسَبَّبُ عَنْهَا الْفَقْرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ اخْتِيَارَ الْحُرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الْأَمَةِ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاءِ الْجَوْرِ، إِذْ هُوَ الْمَحْذُورُ الْمُعَلَّقُ عَلَى خَوْفِهِ الِاخْتِيَارُ الْمَذْكُورُ. أَيْ:
عَبَّرَ عَنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعُولُوا بِأَنْ لَا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ يَنْشَأُ عَنْهُ الْجَوْرُ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ أَنْ لَا تَعِيلُوا بِفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ لَا تَفْتَقِرُوا مِنَ الْعَيْلَةِ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً «١» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ وَلَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وَقَرَأَ طَاوُسُ: أَنْ لَا تُعِيلُوا مِنْ أَعَالَ الرَّجُلُ إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُعَضِّدُ تَفْسِيرَ الشَّافِعِيِّ مِنْ حَيْثُ المعنى الذي قصده. وأن تَتَعَلَّقُ بِأَدْنَى وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: أدنى إلى أن لا تَعُولُوا. وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ يَتَعَدَّى هُوَ إِلَيْهِ. تَقُولُ: دَنَوْتُ إِلَى كَذَا فَلِذَلِكَ كَانَ التَّقْدِيرُ أَدْنَى إِلَى أَنْ تَعُولُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ الْمَحْذُوفُ لَامَ الْجَرِّ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: دَنَوْتُ لِكَذَا.
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً الظَّاهِرُ: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ قَبْلَهُ لَهُمْ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. قِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ بِلَا مَهْرٍ يَقُولُ: أَرِثُكِ وَتَرِثِينِي فَتَقُولُ: نَعَمْ. فَأُمِرُوا أَنْ يُسْرِعُوا إِعْطَاءَ الْمُهُورِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ، وَكَانَتْ عَادَةُ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنْ يَأْكُلَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ مَهْرَهَا، فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ.
قَالَهُ: أَبُو صَالِحٍ، وَاخْتَارَهُ: الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ تَرْكُ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُتَشَاغِرُونَ مِنْ تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ بِأُخْرَى، وَأُمِرُوا بِضَرْبِ الْمُهُورِ قَالَهُ: حَضْرَمِيٌّ، وَالْأَمْرُ بِإِيتَاءِ النِّسَاءِ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّوَرَ كُلَّهَا.
وَالصَّدُقَاتُ الْمُهُورُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زيد وقتادة: نِحْلَةً فَرِيضَةً.
وَقِيلَ: عَطِيَّةَ تمليك قاله الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: شِرْعَةً وَدِينًا قَالَهُ: ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالنِّحْلَةُ أَخَصُّ مِنَ الْهِبَةِ، إِذْ كُلُّ هِبَةٍ نِحْلَةٌ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَسُمِّيَ الصَّدَاقُ نِحْلَةً مِنْ حَيْثُ لَا يَجِبُ فِي مُقَابَلَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَمَتُّعٍ دُونَ عِوَضٍ مَالِيٍّ. وَمَنْ قَالَ: النِّحْلَةُ الْفَرِيضَةُ نَظَرَ إِلَى حُكْمِ الْآيَةِ، لَا إِلَى مَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَالِاشْتِقَاقِ، وَالْآيَةُ اقْتَضَتْ إِتْيَانَهُنَّ الصَّدَاقَ انْتَهَى.
وَدَلَّ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى التَّحَرُّجِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمُهُورِ النِّسَاءِ كَمَا دَلَّ الأمر في:
(١) سورة التوبة: ٩/ ٢٨.
510
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ «١»، وَأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي التَّحْرِيمِ. وَلَمَّا أَذِنَ فِي نِكَاحِ الْأَرْبَعِ أَمَرَ الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلِيَاءَ بِاجْتِنَابِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صَدُقَاتِهِنَّ جَمْعُ صَدُقَةٍ، عَلَى وزن سمرة. وقرأ قتادة وَغَيْرُهُ: بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَضَمِّ الصَّادِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَمُوسَى بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَفَيَّاضُ بْنُ غَزَوَانَ وَغَيْرُهُمْ: بِضَمِّهَا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: صَدُقَتَهِنَّ بِضَمِّهَا وَالْإِفْرَادِ، وَانْتَصَبَ نِحْلَةً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، لِأَنَّ مَعْنَى: وَآتُوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا. وقيل: بانحلوهن مُضْمَرَةً. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، إِمَّا عَنِ الْفَاعِلِينَ أَيْ نَاحِلِينَ، وَإِمَّا مِنَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي أَيْ: مَنْحُولَاتٍ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ بِمَعْنَى شَرَعَ، أَيْ: أَنْحَلَ اللَّهُ ذَلِكَ نِحْلَةً، أَيْ شَرَعَهُ شِرْعَةً وَدِينًا. وَقِيلَ: إِذَا كَانَ بِمَعْنَى شِرْعَةٍ فَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الصَّدُقَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّدَاقِ لِلْمَرْأَةِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ: أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ صَدَاقٌ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِمِقْدَارِ الصَّدَاقِ، وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ هُنَا، وَمَحَلُّ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ هُوَ كُتُبُ الْفِقْهِ.
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً الْخِطَابُ فِيهِ الْخِلَافُ: أَهْوَ لِلْأَزْوَاجِ؟ أَوْ لِلْأَوْلِيَاءِ؟ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي: وَآتُوا النِّسَاءَ. وَقَالَ حَضْرَمِيٌّ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قَوْمًا تَحَرَّجُوا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ مِمَّا دَفَعُوا إِلَى الزَّوْجَاتِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، عَائِدٌ عَلَى الصَّدَاقِ قَالَهُ: عِكْرِمَةٌ. إِذْ لَوْ وَقَعَ مَكَانَ صَدُقَاتِهِنَّ لَكَانَ جَائِزًا وَصَارَ شَبِيهًا بِقَوْلِهِمْ: هُوَ أَحْسَنُ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلُهُ لِصَلَاحِيَّةِ، هُوَ أَحْسَنُ فَتًى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ لِيَنْصَرِفَ إِلَى الصَّدَاقِ الْوَاحِدِ، فَيَكُونَ مُتَنَاوِلًا بَعْضَهُ. فَلَوْ أَنَّثَ لَتَنَاوَلَ ظَاهِرُهُ هِبَةَ الصَّدَاقِ كُلِّهِ، لِأَنَّ بَعْضَ الصَّدَقَاتِ وَاحِدٌ مِنْهَا فَصَاعِدًا انْتَهَى. وَأَقُولُ: حَسُنَ تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ، لِأَنَّ مَعْنَى: فَإِنْ طِبْنَ، فَإِنْ طَابَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ مِنْهُ أَيْ: مِنْ صَدَاقِهَا، وَهُوَ نَظِيرُ: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «٢» أَيْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ مُتَّكَأً. وَقِيلَ:
يَعُودُ عَلَى صَدُقَاتِهِنَّ مَسْلُوكًا بِهِ مَسْلَكَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُشَارُ بِهِ إِلَى مَجْمُوعٍ كقوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ «٣».
(١) سورة النساء: ٤/ ٢.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٣١.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ١٥.
511
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ. وَقِيلَ: لِرُؤْبَةَ كَيْفَ قُلْتَ: كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ. فَقَالَ: أَرَدْتُ كَانَ ذَاكَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ صَدُقَاتِهِنَّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْإِيتَاءِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ:
وَآتُوا، قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورَانِ بقوله: طبن، ومنه فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِشَيْءٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَظَاهِرُ مِنِ التَّبْعِيضُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا تَهَبُهُ يَكُونُ بَعْضًا مِنَ الصَّدَاقِ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهَا لَهُ إِلَّا بِالْيَسِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ تَتَضَمَّنُ الْجِنْسَ هَاهُنَا. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَهَبَ الْمَهْرَ كُلَّهُ، وَلَوْ وَقَعَتْ عَلَى التَّبْعِيضِ لَمَا جَازَ ذَلِكَ.
وَانْتَصَبَ نَفَسًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنَ التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ. وَإِذَا جَاءَ التَّمْيِيزُ بَعْدَ جَمْعٍ وَكَانَ مُنْتَصِبًا عَنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى، أَوْ مُخَالِفًا فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا طَابَقَهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ نَحْوُ: كَرُمَ الزَّيْدُونَ رِجَالًا، كَمَا يُطَابِقُ لَوْ كَانَ خَبَرًا، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا، فإما أن يكون مفردا لمدلول أَوْ مُخْتَلِفَهُ، إِنْ كَانَ مفردا لمدلول لَزِمَ إِفْرَادُ اللَّفْظِ الدَّالِّ كَقَوْلِكَ فِي أَبْنَاءِ رَجُلٍ وَاحِدٍ: كَرُمَ بَنُو فُلَانٍ أَصْلًا وَأَبًا. وَكَقَوْلِكَ: زَكَا الأتقياء منقبا، وَجَادَ الْأَذْكِيَاءُ وَعْيًا. وَذَلِكَ إِذَا لَمْ تَقْصِدْ بِالْمَصْدَرِ اخْتِلَافَ الْأَنْوَاعِ لِاخْتِلَافِ مَحَالِّهِ. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفَ الْمَدْلُولِ، فَإِمَّا أَنْ يَلْبَسَ أَفْرَادُهُ لَوْ أُفْرِدَ، أَوْ لَا يَلْبَسَ. فَإِنْ أَلْبَسَ وَجَبَتِ الْمُطَابَقَةُ نَحْوُ: كَرُمَ الزَّيْدُونَ آبَاءً، أَيْ: كَرُمَ آبَاءُ الزَّيْدِينَ. وَلَوْ قُلْتَ: كَرُمَ الزَّيْدُونَ أَبًا، لَأَوْهَمَ أَنَّ أَبَاهُمْ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ بِالْكَرَمِ. وَإِنْ لَمْ يَلْبَسْ جَازَ الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ. وَالْإِفْرَادُ أَوْلَى، كَقَوْلِهِ:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ لِكُلٍّ نَفْسًا، وَأَنَّهُنَّ لَسْنَ مُشْتَرِكَاتٍ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَقَرَّ الزَّيْدُونَ عَيْنًا، وَيَجُوزُ أَنْفُسًا وَأَعْيُنًا. وَحَسَّنَ الْإِفْرَادَ أَيْضًا فِي الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ مُحَسِّنِ تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ وَإِفْرَادِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنْ طَابَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: أَرَادَ بِالنَّفْسِ الْهَوَى. وَالْهَوَى مَصْدَرٌ، وَالْمَصَادِرُ لَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ: فَكُلُوهُ، وَهُوَ أَمْرُ إِبَاحَةٍ. وَالْمَعْنَى: فَانْتَفِعُوا بِهِ. وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الِانْتِفَاعِ.
وَهَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ: شَافِيًا سَائِغًا. وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: هَنِيئًا لَا إِثْمَ فِيهِ، مريئا لأداء فِيهِ.
وَقِيلَ: هَنِيئًا لَذِيذًا، مَرِيئًا مَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ. وَقِيلَ: هَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ مَا لَا تَنْغِيصَ فِيهِ. وَقِيلَ: مَا
512
سَاغَ فِي مَجْرَاهُ وَلَا غَصَّ بِهِ مَنْ تَحَسَّاهُ. وَقِيلَ: هَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ: حَلَالًا طَيِّبًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ: هَنِيًّا مَرِيًّا دُونَ هَمْزَةٍ، أَبْدَلُوا الْهَمْزَةِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ يَاءً، وَأَدْغَمُوا فِيهَا يَاءَ الْمَدِّ. وَانْتِصَابُ هَنِيئًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَكُلُوهُ أَكْلًا هَنِيئًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، هَكَذَا أَعْرَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمُفْرَدَاتِ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى ذَلِكَ. فَعَلَى مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ يَكُونُ هَنِيئًا مَرِيئًا مِنْ جُمْلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ قَوْلِهِ: فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي هَنِيئًا: أَنَّهَا حَالٌ قَائِمَةٌ مقام الفعل النَّاصِبِ لَهَا. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ فُلَانًا أَصَابَ خَيْرًا فَقُلْتَ هَنِيئًا لَهُ، ذَلِكَ فَالْأَصْلُ ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ هَنِيئًا فَحُذِفَ ثَبَتَ، وَأُقِيمَ هَنِيئًا مَقَامَهُ. وَاخْتَلَفُوا إِذْ ذَاكَ فِيمَا يَرْتَفِعُ بِهِ ذَلِكَ. فَذَهَبَ السِّيرَافِيُّ إِلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُخْتَزَلِ الَّذِي هُوَ ثَبَتَ، وهنيئا حَالٌ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي هَنِيئًا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا قُلْتَ: هَنِيئًا وَلَمْ تَقُلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلِ اقْتَصَرْتَ عَلَى قَوْلِكَ: هَنِيئًا، فَفِيهِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ يَعُودُ عَلَى ذِي الْحَالِ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ الَّذِي اسْتَتَرَ فِي ثَبَتَ الْمَحْذُوفَةِ. وَذَهَبَ الْفَارِسِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: هَنِيئًا لَهُ، ذَلِكَ مَرْفُوعٌ بِهَنِيئًا الْقَائِمِ مَقَامَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّهُ صَارَ عِوَضًا مِنْهُ، فَعَمِلَ عَمَلَهُ. كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، رَفَعَ الْمَجْرُورُ الضَّمِيرَ الَّذِي كَانَ مَرْفُوعًا بِمُسْتَقِرٍّ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ مِنْهُ. وَلَا يَكُونُ فِي هَنِيئًا ضَمِيرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ رَفَعَ الظَّاهِرَ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَإِذَا قُلْتَ: هَنِيئًا فَفِيهِ ضَمِيرٌ فَاعِلٌ بِهَا، وَهُوَ الضَّمِيرُ فَاعِلًا لَثَبَتَ، وَيَكُونُ هَنِيئًا قَدْ قَامَ مَقَامَ الْفِعْلِ الْمُخْتَزَلِ مُفَرَّعًا مِنَ الْفِعْلِ. وَإِذَا قُلْتَ: هَنِيئًا مَرِيئًا، فَاخْتَلَفُوا فِي نَصْبِ مَرِيءٍ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِكَ هَنِيئًا، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْحَوْفِيُّ.
وَذَهَبَ الْفَارِسِيُّ: إِلَى أَنَّ انْتِصَابَهُ انْتِصَابُ قَوْلِكَ هَنِيئًا، فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: ثَبَتَ مَرِيئًا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أن يكون صفة لهنيئا، مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَنِيئًا لَمَّا كَانَ عِوَضًا مِنَ الْفِعْلِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْفِعْلِ الَّذِي نَابَ مَنَابَهُ، وَالْفِعْلُ لَا يُوصَفُ، فَكَذَلِكَ لَا يُوصَفُ هُوَ. وَقَدْ أَلَمَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالَهُ النُّحَاةُ فِي هَنِيئًا لَكِنَّهُ حَرَّفَهُ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ أَنَّ انْتِصَابَهُ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَكُلُوهُ أَيْ: كُلُوهُ وَهُوَ هَنِيءٌ مَرِيءٌ. قَالَ: وَقَدْ يُوقَفُ عَلَى فَكُلُوهُ، وَيُبْتَدَأُ هَنِيئًا مَرِيئًا عَلَى الدُّعَاءِ، وَعَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ أُقِيمَتَا مَقَامَ الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَنِئًا مَرِئًا انْتَهَى. وَتَحْرِيفُهُ أَنَّهُ جَعَلَهُمَا أَقِيمَا مَقَامَ الْمَصْدَرِ، فَانْتِصَابُهُمَا عَلَى هَذَا انْتِصَابُ الْمَصْدَرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ هَنَأً مَرَأً، فَصَارَ كَقَوْلِكَ: سَقْيًا وَرَعْيًا، أَيْ: هَنَاءَةً
513
وَمَرَاءَةً. وَالنُّحَاةُ يَجْعَلُونَ انْتِصَابَ هَنِيئًا عَلَى الْحَالِ، وَانْتِصَابَ مَرِيئًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ. إِمَّا عَلَى الْحَالِ، وَإِمَّا عَلَى الْوَصْفِ. وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا حَرَّفَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَصِحَّةِ قَوْلِ النُّحَاةِ ارْتِفَاعُ الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ بَعْدَ هَنِيئًا مَرِيئًا، وَلَوْ كَانَا يَنْتَصِبَانِ انْتِصَابَ الْمَصَادِرِ.
والمراد بها: الدعاء لما أَجَازَ ذَلِكَ فِيهَا تَقُولُ: سَقْيًا لَكَ وَرَعْيًا، وَلَا يَجُوزُ سَقْيًا اللَّهُ لَكَ، وَلَا رَعْيًا اللَّهُ لَكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي فِعْلِهِ فَتَقُولُ: سَقَاكَ اللَّهُ وَرَعَاكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ رَفْعِ الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ بَعْدَهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِعِزَّةٍ مِنْ أَعْرَاضِنَا ما استحلت
فما: مَرْفُوعٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَنِيءٍ أَوْ مَرِيءٍ. أَوْ بثبت الْمَحْذُوفَةِ عَلَى اخْتِلَافِ السِّيرَافِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ عَلَى طَرِيقِ الْإِعْمَالِ. وَجَازَ الْإِعْمَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا رَابِطُ عَطْفٍ، لِكَوْنِ مَرِيئًا لَا يُسْتَعْمَلُ إلا تابعا لهنيئا، فَصَارَا كَأَنَّهُمَا مُرْتَبِطَانِ لِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ لَوْ قُلْتَ: قَامَ خَرَجَ زَيْدٌ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِعْمَالِ إِلَّا عَلَى نِيَّةِ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّ مَرِيئًا يُسْتَعْمَلُ وَحْدَهُ غَيْرَ تَابِعٍ لهنيئا، وَلَا يَحْفَظُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وهنيئا مَرِيئًا اسْمَا فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ جَاءَا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، كَالصَّهِيلِ وَالْهَدِيرِ، وَلَيْسَا مِنْ بَابِ مَا يَطَّرِدُ فِيهِ فَعِيلٌ فِي الْمَصْدَرِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا شَيْئًا مِنْ صَدَاقِهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهَا غَيْرَ مُضْطَرَّةٍ إِلَى ذَلِكَ بِإِلْحَاحٍ أَوْ شَكَاسَةِ خُلُقٍ، أَوْ سُوءِ مُعَاشَرَةٍ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهَا وَيَتَمَلَّكَهُ وَيَنْتَفِعَ بِهِ. وَلَمْ يُوَقَّتْ هَذَا التَّبَرُّعُ بِوَقْتٍ، وَلَا اسْتِثْنَاءٍ فِيهِ رُجُوعٌ. وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ:
إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهَا مَا لَمْ تَلِدْ، أَوْ تُقِمْ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا سَنَةً، فَلَوْ رَجَعَتْ بَعْدَ الْهِبَةِ فَقَالَ شُرَيْحٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: لَهَا أَنْ تَرْجِعَ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ. كَتَبَ عُمَرُ إِلَى قُضَاتِهِ:
أَنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْطَتْ زَوْجَهَا ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَلَهَا ذَلِكَ. قَالَ شُرَيْحٌ: لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا لَمَا رَجَعَتْ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَالَ تَعَالَى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً «١» وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي تَعْلِيقِ الْقَبُولِ عَلَى طيب النفس ذون لَفْظَةِ الْهِبَةِ أَوِ الْإِسْمَاحِ، دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِي الْأَخْذِ، وَإِعْلَامٌ أَنَّ الْمُرَاعَى هُوَ طِيبُ نَفْسِهَا بِالْمَوْهُوبِ. وَفِي قَوْلِهِ: هَنِيئًا مَرِيئًا مُبَالَغَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْقَبُولِ وَزَوَالِ التَّبِعَةِ.
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٠.
514
وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ فِي وَلَدِ الرَّجُلِ الصِّغَارِ وَامْرَأَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: فِي الْمَحْجُورِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ فِي كُلِّ مَنْ اقْتَضَى الصِّفَةَ الَّتِي شَرَطَ اللَّهُ مِنَ السَّفَهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
وَيُضْعِفُ قول مجاهد أنها في النِّسَاءِ، كَوْنُهَا جَمْعَ سَفِيهَةٍ، وَالْعَرَبُ إِنَّمَا تَجْمَعُ فَعِيلَةً عَلَى فَعَائِلَ أَوْ فَعِيلَاتٍ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَنَقَلُوا أَنَّ الْعَرَبَ جَمَعَتْ سَفِيهَةً عَلَى سُفَهَاءَ، فَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ قَالَتْهُ الْعَرَبُ لِلْمُؤَنَّثِ، فَلَا يَضْعُفُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَإِنْ كَانَ جَمْعُ فَعَيْلَةٍ الصِّفَةِ لِلْمُؤَنَّثِ نَادِرًا لَكِنَّهُ قَدْ نُقِلَ فِي هَذَا اللَّفْظِ خُصُوصًا. وَتَخْصِيصُ ابْنِ عَطِيَّةَ جَمْعَ فَعِيلَةٍ بِفَعَائِلَ أَوْ فَعَيْلَاتٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ يَطَّرِدُ فِيهِ فِعَالٌ كَظَرِيفَةٍ وَظِرَافٍ، وَكَرِيمَةٍ وَكِرَامٍ، وَيُوَافِقُ فِي ذَلِكَ الْمُذَكَّرَ. وَإِطْلَاقُهُ فَعِيلَةً دُونَ أَنْ يَخُصَّهَا بِأَنْ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ نَحْوُ: قَتِيلَةٍ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فَعِيلَةً لَا تُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ.
وَقِيلَ: عَنَى بِالسُّفَهَاءِ الْوَارِثِينَ الَّذِينَ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَسَفَّهُونَ فِي اسْتِعْمَالِ مَا تَنَالُهُ أَيْدِيهِمْ، فَنَهَى عَنْ جَمْعِ الْمَالِ الَّذِي تَرِثُهُ السُّفَهَاءُ. وَالسُّفَهَاءُ: هُمُ الْمُبَذِّرُونَ الْأَمْوَالَ بِالْإِنْفَاقِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَلَا يَدَ لَهُمْ بِإِصْلَاحِهَا وَتَثْمِيرِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ:
أَمْوَالَكُمْ أَنَّ الْمَالَ مُضَافٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: وَلَا تُؤْتُوا. قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: نَهَى أَنْ يُدْفَعَ إِلَى السَّفِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَإِذَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ هَذَا فَأَنْ لَا يُؤْتَى شَيْئًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِالنَّهْيِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ. قِيلَ: يَكُونُ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَرْأَةِ جَائِزَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَوْصَى عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهَا لَا تَكُونُ وَصِيًّا.
قَالَ: وَلَوْ فَعَلَ حُوِّلَتْ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ.
قِيلَ: وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا الْجَاهِلُ بِأَحْكَامِ الْبَيْعِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ فَلَا يَتَّجِرْ فِي أَسْوَاقِنَا، وَالْكُفَّارُ». وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، أَوْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ يُضَارِبَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يُرِيدُ أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ، وَأَضَافَهَا إِلَى الْمُخَاطِبِينَ تَغْبِيطًا بِالْأَمْوَالِ، أَيْ: هِيَ لَهُمْ إِذَا احْتَاجُوهَا كَأَمْوَالِكُمُ الَّتِي تَقِي أَعْرَاضَكُمْ وَتَصُونُكُمْ وَتُعَظِّمُ أَقْدَارَكُمْ. وَمِنْ مِثْلِ هَذَا: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «١» وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوَّلًا قَالَ: وَالْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَأَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا من جنس
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٩.
515
مَا يُقِيمُ بِهِ النَّاسُ مَعَائِشَهُمْ. كَمَا قَالَ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ «١»، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى قَوْلُهُ:
وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ «٢».
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: اللَّاتِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الَّتِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَمْوَالُ جَمْعٌ لَا يَعْقِلُ، فَالْأَصْوَبُ فِيهِ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ انْتَهَى. وَاللَّاتِي جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى لِلَّتِي، فَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ لَا يُوصَفُ بِهِ الْإِمَاءُ وَصْفَ مُفْرَدِهِ بِالَّتِي، وَالْمُذَكَّرُ لَا يُوصَفُ بِالَّتِي سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا أَوْ غَيْرَ عَاقِلٍ، فَكَانَ قِيَاسُ جَمْعِهِ أَنْ لَا يُوصَفُ بِجَمْعِ الَّتِي الَّذِي هُوَ اللَّاتِي. وَالْوَصْفُ بِالَّتِي يَجْرِي مَجْرَى الْوَصْفِ بِغَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَلْحَقُهَا التَّاءُ لِلْمُؤَنَّثِ. فَإِذَا كَانَ لَنَا جَمْعٌ لَا يَعْقِلُ فَيَجُوزُ أَنْ يَجْرِيَ الْوَصْفُ عَلَيْهِ كَجَرَيَانِهِ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْرِيَ الْوَصْفُ عَلَيْهِ كَجَرَيَانِهِ عَلَى جَمْعِ الْمُؤَنَّثَاتِ فَتَقُولُ: عِنْدِي جُذُوعٌ مُنْكَسِرَةٌ، كَمَا تَقُولُ: امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ، وَجُذُوعٌ مُنْكَسِرَاتٌ. كَمَا تَقُولُ: نِسَاءٌ صَالِحَاتٌ جَرَى الْوَصْفُ فِي ذَلِكَ مَجْرَى الْفِعْلِ.
وَالْأَوْلَى فِي الْكَلَامِ مُعَامَلَتُهُ مُعَامَلَةَ مَا جَرَى عَلَى الْوَاحِدَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ لِلْكَثْرَةِ. فَإِذَا كَانَ جَمْعَ قِلَّةٍ، فَالْأَوْلَى عَكْسُ هَذَا الْحُكْمِ: فَأَجْذَاعٌ مُنْكَسِرَاتٌ أَوْلَى مِنْ أَجْذَاعٍ مُنْكَسِرَةٍ، وَهَذَا فِيمَا وُجِدَ لَهُ الْجَمْعَانِ: جَمْعُ الْقِلَّةِ، وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ. أَمَّا مَا لَا يُجْمَعُ إِلَّا عَلَى أَحَدِهِمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عَلَى حَسَبِ مَا تُطْلِقُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ. وَإِذَا تقرر هذا أنتج أَنَّ الَّتِي أَوْلَى مِنَ اللَّاتِي، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِجَمْعٍ لَا يَعْقِلُ. وَلَمْ يُجْمَعُ مَالٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ الْقِلَّةُ لِجَرَيَانِ الْوَصْفِ بِهِ مَجْرَى الْوَصْفِ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَلْحَقُهَا التَّاءُ لِلْمُؤَنَّثِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ أَصْوَبَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ فِي النِّسَاءِ: اللَّاتِي، أَكْثَرَ مِمَّا تَقُولُ الَّتِي. وَفِي الْأَمْوَالِ تَقُولُ الَّتِي أَكْثَرَ مِمَّا تَقُولُ اللَّاتِي، وَكِلَاهُمَا فِي كِلَيْهِمَا جائز. وقرىء شاذا للواتي، وَهُوَ أَيْضًا فِي الْمَعْنَى جَمْعُ الَّتِي.
وَمَعْنَى قِيَامًا تَقُومُونَ بِهَا وَتَنْتَعِشُونَ بِهَا، وَلَوْ ضَيَّعْتُمُوهَا لَتَلِفَتْ أَحْوَالُكُمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: جَعَلَهَا اللَّهُ قِيَامًا لِأَنَّهُ يُقَامُ بِهَا الْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَإِكْمَالُ الْبِرِّ، وَبِهَا فِكَاكُ الرِّقَابِ مِنْ رِقٍّ وَمِنَ النَّارِ، وَكَانَ السَّلَفُ تَقُولُ: الْمَالُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ، وَلَأَنْ أَتْرُكَ مَا يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إِلَى النَّاسِ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَكَانَتْ لَهُ بِضَاعَةٌ يُقَلِّبُهَا: لو لاها لَتَمَنْدَلَ أَيْ: بَنُو الْعَبَّاسِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: اتَّجِرُوا فَإِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ إِذَا احْتَاجَ أَحَدُكُمْ كَانَ أَوَّلُ مَا يأكل
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٥. [.....]
516
دِينَهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: قِيَمًا، وَجُمْهُورُ السَّبْعَةِ: قياما، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قِوَامًا بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: قَوَامًا بِفَتْحِهَا. وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وقرىء شَاذًّا:
قِوَمًا. فَأَمَّا قِيَمًا فَمُقَدَّرٌ كَالْقِيَامِ، وَالْقِيَامِ قَالَهُ: الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ، وَلَيْسَ مَقْصُورًا مِنْ قِيَامٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَقْصُورٌ مِنْهُ. قَالُوا: وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ كَمَا حُذِفَتْ فِي خِيَمٍ وَأَصْلُهُ خِيَامٌ، أَوْ جَمْعُ قِيمَةٍ كَدِيَمٍ جَمْعِ دِيمَةٍ قَالَهُ: الْبَصْرِيُّونَ غَيْرَ الْأَخْفَشِ. وَرَدَّهُ أَبُو عَلِيٍّ: بِأَنَّهُ وُصِفَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: دِيناً قِيَماً «١» وَالْقِيَمُ لَا يُوصَفُ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِيَامِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الثَّبَاتُ وَالدَّوَامُ. وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَمَا أُعِلَّ كَمَا لَمْ يُعِلُّوا حِوَلًا وَعِوَضًا، لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ مِثَالِ الْفِعْلِ، لَا سِيَّمَا الثُّلَاثِيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ اتَّبَعَ فِعْلَهُ فِي الْإِعْلَالِ فَأُعِلَّ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِيَامِ، فَكَمَا أُعِلَّ الْقِيَامُ أُعِلَّ هُوَ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ: قِيَمًا وَقِوَمًا، قَالَ:
وَالْقِيَاسُ تَصْحِيحُ الْوَاوِ، وَإِنَّمَا اعْتَلَّتْ عَلَى وَجْهِ الشُّذُوذِ كَقَوْلِهِمْ: تِيرَةٌ، وَقَوْلِ بَنِي ضَبَّةَ:
طِيَالٌ فِي جميع طَوِيلٍ، وَقَوْلِ الْجَمِيعِ: جِيَادٌ فِي جَمْعِ جَوَادٍ. وَإِذَا أَعَلُّوا دِيَمًا لِاعْتِلَالِ دِيمَةٍ، فَإِنَّ إِعْلَالَ الْمَصْدَرِ لِاعْتِلَالِ فِعْلِهِ أَوْلَى. أَلَا تَرَى إِلَى صِحَّةِ الْجَمْعِ مَعَ اعْتِلَالِ مُفْرَدِهِ فِي مَعِيشَةٍ وَمَعَائِشَ، وَمَقَامَةٍ وَمَقَاوِمَ، وَلَمْ يُصَحِّحُوا مَصْدَرًا أَعَلُّوا فِعْلَهُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ هُنَا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قِيمَةٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُهُ دِينًا قِيَمًا. وَأَمَّا قِيَامٌ فَظَاهِرٌ فِيهِ الْمَصْدَرُ، وَأَمَّا قِوَامٌ فَقِيلَ: مَصْدَرُ قَاوَمَ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ غَيْرُ مَصْدَرٍ، وَهُوَ مَا يُقَامُ بِهِ كَقَوْلِكَ: هُوَ مِلَاكُ الْأَمْرِ لِمَا يُمْلَكُ بِهِ. وَأَمَّا قِوَامٌ فَخَطَأٌ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ: الْقِوَامُ امْتِدَادُ الْقَامَةِ، وَجَوَّزَهُ الْكِسَائِيُّ.
وَقَالَ: هُوَ فِي مَعْنَى الْقَوَامِ، يَعْنِي أَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: الْقِوَامُ الْقَامَةُ، وَالْمَعْنَى: الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبَ بَقَاءِ قَامَاتِكُمْ.
وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ أَيْ: أَطْعِمُوهُمْ وَاجْعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا. قِيلَ: مَعْنَاهُ فِيمَنْ يَلْزَمُ الرَّجُلَ نَفَقَتُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَبَنِيهِ الصِّغَارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَعْمِدْ إِلَى هَلَاكِ الشَّيْءِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَكَ مَعِيشَةً فَتُعْطِيَهُ امْرَأَتَكَ أَوْ بَنِيَكَ ثُمَّ تُنْظَرَ إِلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَمْسِكْ ذَلِكَ وَأَصْلِحْهُ، وَكُنْ أَنْتَ تُنْفِقُ عَلَيْهِمْ في رزقهم وكسوتهم ومؤونتهم. وَقِيلَ: فِي الْمَحْجُورِينَ، وَهُوَ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا مَنْ هُمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: اجْعَلُوهَا مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ تَتَّجِرُوا فِيهَا وَتَرْبَحُوا، حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ، فَلَا يَأْكُلُهَا الْإِنْفَاقُ. قِيلَ: وَقَالَ فِيهَا: وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا تَنْبِيهًا عَلَى مَا
قَالَهُ عَلَيْهِ
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٦١.
517
السَّلَامُ: «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى التِّجَارَةَ لَا تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ»
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضَلَاتِهَا الْمُكْتَسَبَةِ. وَقِيلَ فِي: بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ مِنْهَا.
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً الْمَعْرُوفُ: مَا تَأْلَفُهُ النُّفُوسُ وَتَأْنَسُ إِلَيْهِ وَيَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الْمَحْجُورِينَ، فَمِنَ الْمَعْرُوفِ وَعْدُهُمُ الْوَعْدَ الْحَسَنَ بِأَنَّكُمْ إِذَا رَشَدْتُمْ سَلَّمَنَا إِلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعطاء، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا رَبِحْتُ أَعْطَيْتُكَ، وَإِذَا غَنِمْتُ فِي غَزَاتِي، جَعَلْتُ لَكَ حَظًّا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ النِّسَاءَ وَالْبَنِينَ الْأَصَاغِرَ وَالسُّفَهَاءَ الْأَجَانِبَ، فَتَدْعُو لَهُمْ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، وَحَاطَكُمْ، وَشِبْهُهُ قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الرَّدُّ الْجَمِيلُ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى بِقَوْلِهِ:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ «١» وَأَمَرَ ثَانِيًا بِإِيتَاءِ أَمْوَالِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ «٢» وَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. أَنَّ ذَلِكَ الْإِيتَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِغَيْرِ السَّفِيهِ، وَخَصَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ، وَقَيَّدَ الْإِطْلَاقَ الَّذِي فِي الْأَمْرِ بِالْإِيتَاءِ.
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ قِيلَ: تُوُفِّيَ رِفَاعَةُ وَتَرَكَ ابْنَهُ ثَابِتًا صَغِيرًا فَسَأَلَ: إِنَّ ابْنَ أَخِي فِي حِجْرِي، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْ مَالِهِ، وَمَتَى أَدْفَعُ إِلَيْهِ مَالَهُ؟ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: تُوُفِّيَ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، وَيُقَالُ: أَوْسُ بْنُ سُوَيْدٍ عَنْ زَوْجَتِهِ أُمِّ كَجَّةَ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ وَابْنَيْ عَمِّ سويد. وقيل: قتادة وَعَرْفَجَةُ فَأَخَذَا مَالَهُ وَلَمْ يُعْطِيَا الْمَرْأَةَ وَلَا الْبَنَاتِ شَيْئًا. وَقِيلَ: الْمَانِعُ إِرْثَهُنَّ هُوَ عَمُّ بَنِيهَا وَاسْمُهُ: ثَعْلَبَةُ.
وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الْبَنَاتِ وَلَا الِابْنَ الصَّغِيرَ الذَّكَرَ، فَشَكَتْهُمَا أُمُّ كَجَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَدُهَا لَا يَرْكَبُ فَرَسًا، وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا، وَلَا يُنْكِي عَدُوًّا فَقَالَ: «انْصَرِفُوا حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ» فَنَزَلَتْ.
وَابْتِلَاءُ الْيَتَامَى اخْتِبَارُهُمْ فِي عُقُولِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ، ومقاتل، وسفيان. أَوْ فِي عُقُولِهِمْ وَدِينِهِمْ وَحِفْظِهِمْ لِأَمْوَالِهِمْ وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِمْ فِيهَا. ذَكَرَهُ: الثَّعْلَبِيُّ. وَكَيْفِيَّةُ اخْتِبَارِ الصَّغِيرِ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ نَزْرٌ يَسِيرٌ مِنَ الْمَالِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَالْوَصِيُّ يُرَاعِي حَالَهُ فِيهِ لِئَلَّا يُتْلِفَهُ.
وَاخْتِبَارُ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهَا أَمْرُ الْبَيْتِ وَالنَّظَرُ فِي الِاسْتِغْزَالِ دَفْعًا وَأُجْرَةً وَاسْتِيفَاءً.
وَاخْتِلَافُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِحَالِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَبِمَا يُعَانِيهِ مِنَ الْأَشْغَالِ وَالصَّنَائِعِ، فَإِذَا أَنِسَ منه الرشد بعد البلوغ وَالِاخْتِبَارِ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ يَعْقُبُ الدَّفْعَ.
(١) سورة النساء: ٤/ ١.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٤.
518
وَالْإِشْهَادُ الْإِينَاسُ الْمَشْرُوطُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِينَاسِ وَالِاخْتِبَارِ الْمَذْكُورَيْنِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَنَةٌ وَتُدَاوِلُهُ الْفُصُولُ الْأَرْبَعُ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِسِنِّ الْبُلُوغِ، وَلَا بِمَاذَا يَكُونُ. وَتَكَلَّمَ فِيهَا هُنَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْكَلَامُ فِي الْبُلُوغِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ بَقِيَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ دَائِمًا، وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْمَالُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُنْتَظَرُ بِهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِبْدَادِ الْوَصِيِّ بِالدَّفْعِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَيُثْبِتَ عِنْدَهُ رُشْدَهُ، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ يَأْمَنُهُ الْحَاكِمُ. وَظَاهِرُ عُمُومِ الْيَتَامَى انْدِرَاجُ الْبَنَاتِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُنَّ حُكْمَ الْبَنِينَ فِي ذَلِكَ. فَقِيلَ: يُعْتَبَرُ رُشْدُهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ بِالْبُلُوغِ. وَقِيلَ: الْمُدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ. وَقِيلَ: سَنَةٌ. وَقِيلَ: سَبْعَةٌ فِي ذَاتِ الْأَبِ، وَعَامٌ وَاحِدٌ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي لَا وَصِيَّ لَهَا.
وحتى هُنَا غَايَةٌ لِلِابْتِلَاءِ، وَدَخَلَتْ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ: إِذَا، وَجَوَابُهُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ، وَجَوَابُهُ وجواب إن آنستم: فَادْفَعُوا. وَإِينَاسُ الرُّشْدِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى بُلُوغِ النِّكَاحِ، فَيَلْزَمُ أن يكون بعده. وحتى إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الشَّرْطِ لَا تَكُونُ عَامِلَةً، بَلْ هِيَ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَهَا الْجُمَلُ كَقَوْلِهِ:
وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ وَقَوْلِهِ:
وَحَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ دُرَسْتَوَيْهِ إِلَى أَنَّ الجملة في موضع جر، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ عَامِلَةٍ أَلْبَتَّةَ. وَفِي قَوْلِهِ: بَلَغُوا النِّكَاحَ تَقْدِيرٌ مَحْذُوفٌ وَهُوَ: بَلَغُوا حَدَّ النِّكَاحِ أَوْ وَقْتَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى آنَسْتُمْ عَرَفْتُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: رَأَيْتُمْ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَدْتُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلِمْتُمْ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَإِنْ أَحَسْتُمْ، يُرِيدُ أَحْسَسْتُمْ. فَحَذَفَ عَيْنَ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا الْحَذْفُ شُذُوذٌ لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ. وَحَكَى غَيْرُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّهَا لُغَةُ سُلَيْمٍ، وَأَنَّهَا تَطَّرِدُ فِي عَيْنِ كُلِّ فِعْلٍ مُضَاعَفٍ اتَّصَلَ بِتَاءِ الضَّمِيرِ أَوْ نُونِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأبو السمال وعيسى الثقفي: رشدا بفتحتين. وقرىء شَاذًّا: رُشُدًا بِضَمَّتَيْنِ، وَنَكَّرَ رُشْدًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَوْعٌ
519
مِنَ الرُّشْدِ، وَطَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ مِنْ مَخِيلَتِهِ، وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ تَمَامُ الرُّشْدِ. قَالَ ابن عطية ومالك:
يَرَى الشَّرْطَيْنِ: الْبُلُوغَ وَالرُّشْدَ، وَحِينَئِذٍ يُدْفَعُ الْمَالُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَرَى أَنْ يُدْفَعَ الْمَالُ بِالشَّرْطِ الْوَاحِدِ مَا لَمْ يُحْفَظْ لَهُ سَفَهٌ، كَمَا أُبِيحَتِ التَّسْرِيَةُ بِالشَّرْطِ الْوَاحِدِ. وَكِتَابُ اللَّهِ قَدْ قَيَّدَهَا بِعَدَمِ الطَّوَلِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ. وَالتَّمْثِيلُ عِنْدِي فِي دَفْعِ الْمَالِ بِتَوَالِي الشَّرْطَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُلُوغَ لَمْ تَسُقْهُ الْآيَةُ سَبَبًا فِي الشَّرْطِ، وَلَكِنَّهَا حَالَةُ الْغَالِبِ عَلَى بَنِي آدَمَ أَنْ تَلْتَئِمَ عُقُولُهُمْ فِيهَا، فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ شَرْطُ الرُّشْدِ إِلَّا فِيهِ. فَقَالَ: إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى الشَّرْطِ وَهُوَ: الرُّشْدُ حِينَئِذٍ. وَفَصَاحَةُ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ بالبلوغ جاء بإذا، والمشروط جاء بإن الَّتِي هِيَ قَاعِدَةُ حُرُوفِ الشرط. وإذا لَيْسَتْ بِحَرْفِ شَرْطٍ لِحُصُولِ مَا بَعْدَهَا، وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ أَنْ يُجَازَى بِهَا فِي الشِّعْرِ. وَقَالَ: فَعَلُوا ذَلِكَ مُضْطَرِّينَ، وَإِنَّمَا جُوزِيَ بِهَا لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، وَلِأَنَّهَا يَلِيهَا الْفِعْلُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا.
وَاحْتَجَّ الْخَلِيلُ عَلَى مَنْعِ شَرْطِيَّتِهَا بِحُصُولِ مَا بَعْدَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَجِيئُكَ إِذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ، وَلَا تَقُولُ: إِنِ احْمَرَّ الْبُسْرُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ إِذَا ظَرْفٌ مُجَرَّدٌ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِكَلَامِ النَّحْوِيِّينَ. بَلِ النَّحْوِيُّونَ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ إِذَا ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ غَالِبًا، وَإِنْ صَرَّحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَدَاةَ شَرْطٍ فَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَجْزِمُ كَأَدَوَاتِ الشَّرْطِ، لَا نَفَى كَوْنَهَا تَأْتِي لِلشَّرْطِ. وَكَيْفَ تَقُولُ ذَلِكَ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهَا أَنَّهَا تَكُونُ شَرْطًا؟ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ إِلَى حُكْمِ مَنْ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَدُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّفَهِ، أَيَعُودُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ مَالِكٌ: يَعُودُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعُودُ، وَالْقَوْلَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِالْأَكْلِ عَنِ الْأَخْذِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَعْظَمُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَأْخُوذِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ. نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَإِتْلَافِهَا بِسُوءِ التَّصَرُّفِ، وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ وَشَرْطَهُ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى بُلُوغِ النِّكَاحِ. وَهُوَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ: وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا، فَيَلْزَمُ مِنْهُ مَشَقَّةٌ عَلَى مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَتَّضِحُ خَطَأُ مَنْ جَعَلَ وَلَا تَأْكُلُوهَا عَطْفًا عَلَى فَادْفَعُوا، وَلَيْسَ تَقْيِيدُ النَّهْيِ بِأَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِمَّا يُبِيحُ الْأَكْلَ بِدُونِهِمَا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ. وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَالسَّرَفُ الْخَطَأُ فِي مَوَاضِعِ الْإِنْفَاقِ. قَالَ:
520
أَيْ: لَيْسَ يُخْطِئُونَ مَوَاضِعَ الْعَطَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وَمُبَادَرَةُ كِبَرِهِمْ أَنَّ الْوَصِيَّ يَسْتَغْنِمُ مَالَ مَحْجُورِهِ فَيَأْكُلُ وَيَقُولُ: أُبَادِرُ كِبَرَهُ لِئَلَّا يَرْشُدَ وَيَأْخُذَ مَالَهُ.
وَانْتَصَبَ إِسْرَافًا وَبِدَارًا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مُسْرِفِينَ وَمُبَادِرِينَ. وَالْبِدَارُ مَصْدَرُ بَادَرَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. لِأَنَّ الْيَتِيمَ مُبَادِرٌ إِلَى الْكِبَرِ، وَالْوَلِيُّ مُبَادِرٌ إِلَى أَخْذِ مَالِهِ، فَكَأَنَّهُمَا مُسْتَبِقَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ، وَأُجِيزَ أَنْ يَنْتَصِبَا عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: لإسرافكم ومبادرتكم. وإن يَكْبَرُوا مَفْعُولٌ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ: كِبَرُكُمْ كَقَوْلِهِ: أَوْ إِطْعَامٌ يَتِيمًا «١» وَفِي إِعْمَالِ الْمَصْدَرِ الْمُنَوَّنِ خِلَافٌ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرُوا، فَيَكُونُ أَنْ يَكْبَرُوا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَمَفْعُولُ بِدَارًا مَحْذُوفٌ.
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَقْسِيمٌ لِحَالِ الْوَصِيِّ عَلَى الْيَتِيمِ، فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالِاسْتِعْفَافِ عَنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَاقْتِنَاعِهِ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْغِنَى، وَأَبَاحَ لَهُ الْأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا، بِحَيْثُ يَأْخُذُ قُوتًا مُحْتَاطًا فِي تَقْدِيرِهِ.
وَظَاهِرُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ أَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ مَا أَخَذَ مِمَّا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ بِمَا لَا يَكُونُ رَفِيعًا مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا يَقْضِي إِذَا أيسر قاله: ابراهيم، وعطاء، والحسن، وقتادة، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفُقَهَاءُ. وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وعبيدة، والشعبي، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: يَقْضِي إِذَا أَيْسَرَ، وَلَا يَسْتَلِفُ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو العالية، والحسن، والشعبي: إِنَّمَا يَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا شَرِبَ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَكَلَ مِنَ التَّمْرِ، بِمَا يَهْنَأُ الجرباء ويليط الحوض، ويجد التَّمْرَ وَمَا أَشْبَهَهُ. فَأَمَّا أَعْيَانُ الْأَمْوَالِ وَأُصُولُهَا فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَخْذُهَا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَعْرُوفُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَجْرٌ بِقَدْرِ عَمَلِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَفَصَّلَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ وَصِيَّ أَبٍ فَلَهُ الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ وَصِيَّ حَاكِمٍ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْمَالِ بِوَجْهٍ، وَأُجْرَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَفَصَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ وَصِيُّ الْيَتِيمِ مُقِيمًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْتَنِي شَيْئًا. وَفَصَّلَ الشَّعْبِيُّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مُضْطَرًّا بِحَالِ مَنْ
(١) سورة النساء: ٤/ ٦.
521
يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَكَلَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَرَدَّ إِذَا وَجَدَ، وَإِلَّا فَلَا يَأْكُلْ لَا سَفَرًا وَلَا حَضَرًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْإِبَاحَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «١». وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَعَلَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «٢» فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيُّ أَيْضًا: هَذَا الْأَمْرُ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْغَنِيَّ يَسْتَعْفِفُ بِغِنَاهُ، وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَيَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَيَقُومُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالِهِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى مَالِ يَتِيمِهِ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلْكَيَا الطَّبَرِيُّ.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مَالُ الْيَتِيمِ كَثِيرًا يَحْتَاجُ إِلَى قِيَامٍ كَثِيرٍ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَشْغَلُ الْوَلِيَّ عَنْ مَصَالِحِ نَفْسِهِ وَمُهِمَّاتِهِ فُرِضَ لَهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ أَجْرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشْغَلُهُ فَلَا يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ شُرْبُ قَلِيلِ اللَّبَنِ، وَأَكْلُ قَلِيلِ الطَّعَامِ وَالسَّمْنِ، غَيْرَ مضربه وَلَا مُسْتَكْثِرٍ مِنْهُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَالْمُسَامَحَةُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ رَبِيعَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: هَذَا تَقْسِيمٌ لِحَالِ الْيَتِيمِ، لَا لِحَالِ الْوَصِيِّ. وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَنِيًّا فَلْيَعِفَّ بِمَالِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَقِيرًا فَلْيُقْتِرْ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَالِاقْتِصَادِ. وَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْعَيْنِ، وَيُرَادُ بِهِ الْغَيْرُ. خُوطِبَ الْيَتَامَى بِالِاسْتِعْفَافِ وَالْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمُرَادُ الْأَوْلِيَاءُ. لِأَنَّ الْيَتَامَى لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ: إِنْ كَانَ الْيَتِيمُ غَنِيًّا فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِ نَفَقَةَ مُتَعَفِّفٍ مُقْتَصِدٍ لِئَلَّا يَذْهَبَ مَالُهُ بِالتَّوَسُّعِ فِي نَفَقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيُنْفِقْ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَالِهِ لِئَلَّا يَذْهَبَ فَيَبْقَى كَلًّا مُضْعَفًا.
فَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُلَخَّصُهَا: هَلْ تَقْسِيمٌ فِي الْوَلِيِّ أَوِ الصَّبِيِّ قَوْلَانِ: فَإِذَا كَانَ فِي الْوَلِيِّ فَهَلِ الْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ مَالِ الصَّبِيِّ؟ قَوْلَانِ. وَإِذَا كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَالِ الصَّبِيِّ، هَلْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا، فَهَلْ يَكُونُ تَفْصِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَكْلِ أَوِ الْمَأْكُولِ؟ قَوْلَانِ. فَإِذَا كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَكْلِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِوَلِيِّ الْأَبِ، أَوْ بِالْمُسَافِرِ، أَوْ بِالْمُضْطَرِّ، أَوْ بِالْمُشْتَغِلِ بِذَلِكَ عَنْ مُهِمَّاتِ نَفْسِهِ؟ أَقْوَالٌ. وَإِذَا كَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْكُولِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِالتَّافِهِ أَمْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ؟ قَوْلَانِ. وَإِذَا تَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، فَهَلْ يَكُونُ أُجْرَةً أَمْ لَا؟
قَوْلَانِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أُجْرَةً فَأَخَذَ، فَهَلْ يَتَرَتَّبُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يَجِبُ قَضَاؤُهُ إِذَا أَيْسَرَ أَمْ لَا؟
قَوْلَانِ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَلَفْظَةُ فَلْيَسْتَعْفِفْ أَبْلَغُ مِنْ فَلْيَعِفَّ، لِأَنَّ فِيهِ طَلَبَ زيادة العفة.
(١) سورة النساء: ٤/ ١٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٨٨.
522
فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ لِحَسْمِ مَادَّةِ النِّزَاعِ، وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الضَّمَانِ وَالْغُرْمِ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْكَارِ الْيَتِيمِ، وَطَيَّبَ خَاطِرَ الْيَتِيمِ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَانْتِظَامِهِ فِي سِلْكِ مَنْ يُعَامَلُ وَيُعَامِلُ. وَإِذَا لَمْ يَشْهَدْ فَادَّعَى عَلَيْهِ صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ. وَالشَّافِعِيِّ: لَا يُصَدَّقُ إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ. فَكَانَ فِي الْإِشْهَادِ الِاحْتِرَازُ مِنْ تَوَجُّهِ الْحَلِفِ الْمُفْضِي إِلَى التُّهْمَةِ، أَوْ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ إِذْ لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ نَدْبٌ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَهِيَ الْمَأْمُورُ بِدَفْعِهَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «١» وَقَالَ عَمْرُو بْنُ جُبَيْرٍ: هَذَا الْإِشْهَادُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى دَفْعِ الْوَلِيِّ مَا اسْتَقْرَضَهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ حَالَةَ فَقْرِهِ إِذَا أَيْسَرَ. وَقِيلَ: فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَكَلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، الْمَعْنَى: أَقْرَضْتُمْ أَوْ أَكَلْتُمْ فَأَشْهِدُوا إِذَا غَرِمْتُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِذَا أَنْفَقْتُمْ شَيْئًا عَلَى الْمَوْلَى عَلَيْهِ فَأَشْهِدُوا، حَتَّى لَوْ وَقَعَ خِلَافٌ أَمْكَنَ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ مَالًا قُبِضَ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ بِإِشْهَادٍ لَا يُبْرَأُ مِنْهُ إِلَّا بِإِشْهَادٍ عَلَى دَفْعِهِ.
وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أَيْ كَافِيًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْكُمْ. وَمَعْنَاهُ: مُحْسِبًا مِنْ أَحْسَبَنِي كَذَا، أَيْ كَفَانِي، قَالَهُ: الْأَعْمَشُ وَالطَّبَرِيُّ. فَيَكُونُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، أَوْ مُحَاسِبًا، أَوْ حَاسِبًا لِأَعْمَالِكُمْ يُجَازِيكُمْ بِهَا، فَعَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِجَاحِدِ الْحَقِّ.
وَحَسِيبٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ، كَجَلِيسٍ وَخَلِيطٍ، أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، حُوِّلَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحُسْبَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: مَعْنَى حَسِيبًا شَهِيدًا.
وَفِي كَفَى خِلَافٌ: أَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ، أَمْ فِعْلٌ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فِعْلٌ، وَفَاعِلُهُ اسْمُ اللَّهِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ مُضْمَرٌ وَهُوَ ضَمِيرُ الِاكْتِفَاءِ، أَيْ: كَفَى هُوَ، أَيِ الِاكْتِفَاءُ بِاللَّهِ، وَالْبَاءُ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، فَيَكُونُ بِاللَّهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِالْفَاعِلِ. وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُسَوَّغُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، حَيْثُ يُجِيزُونَ إِعْمَالَ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ كَإِعْمَالِ ظَاهِرِهِ. وَإِنْ عَنَى بِالْإِضْمَارِ الْحَذْفَ فَفِيهِ إِعْمَالُ الْمَصْدَرِ وهو موصول، وإبقاء معموله وَهُوَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ، أَعْنِي:
حَذْفَ الْفَاعِلِ وَحَذْفَ الْمَصْدَرِ. وَانْتَصَبَ حَسِيبًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِصَلَاحِيَّةِ دُخُولِ من عليه. وقيل:
(١) سورة النساء: ٤/ ٦.
523
على الحال. وكفى هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ وَهُوَ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وَكَفَاكُمُ اللَّهُ حَسِيبًا. وَتَأْتِي بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، فَتُعَدِّيهِ إِلَى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «١» لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً قِيلَ:
سَبَبُ نُزُولِهَا هُوَ خَبَرُ أُمِّ كَجَّةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ، قاله: عكرمة وقتادة وَابْنُ زَيْدٍ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: كَانَ الْيُونَانُ يُعْطُونَ جَمِيعَ الْمَالِ لِلْبَنَاتِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَعْجَزُ عَنِ الْكَسْبِ، وَالْمَرْأَةُ تَعْجَزُ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ لَا يُعْطُونَ الْبَنَاتِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. وَالْمَعْنِيُّ: بِالرِّجَالِ الذُّكُورُ، وَبِالنِّسَاءِ الْإِنَاثُ كَقَوْلِهِ:
وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً «٢».
وَأَبْهَمَ فِي قوله: نصيب، ومما تَرَكَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لنصيب. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ نَصِيبٌ فَهُوَ مِنْ تَمَامِهِ. وَالْوَالِدَانِ: يَعْنِي وَالِدَيِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهُمَا أَبَوَاهُمْ، وَسُمِّيَ الْأَبُ وَالِدًا، لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، وَمِنَ الْوَالِدَةِ. وَلِلِاشْتِرَاكِ جَاءَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّاءِ كَقَوْلِهِ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها «٣» وَجُمِعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ قِيَاسًا كَقَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ «٤» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
بِحَيْثُ يَعْتَشُّ الْغُرَابُ الْبَائِضُ لِأَنَّ الْبَيْضَ مِنَ الْأُنْثَى وَالذَّكَرِ انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَادَ بِالْغُرَابِ هُنَا الذَّكَرُ، لِأَنَّ لَفْظَ الْغُرَابِ يَنْطَلِقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلَيْسَ مِمَّا فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَنَّثِهِ بِالتَّاءِ. فَهُوَ كَالرُّعُوبِ يَنْطَلِقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلَا يُرَجِّحُ كَوْنَهُ ذَكَرًا وَصْفُهُ بِالْبَائِضِ، وَهُوَ وَصْفُ مُذَكَّرٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يكون ذكر حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ، إِذْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةُ تَأْنِيثٍ كَمَا أُنِّثَ الْمُذَكَّرُ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِهِ: وَعَنْتَرَةُ الْفَلْحَاءُ. وفي قوله: أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى.
وَالْأَقْرَبُونَ: هُمُ الْمُتَوَارِثُونَ مِنْ ذَوِي الْقَرَابَاتِ. وَقَدْ أَبْهَمَ فِي لَفْظِ الْأَقْرَبُونَ كَمَا أَبْهَمَ فِي النَّصِيبِ، وَعَيَّنَ الْوَارِثَ وَالْمِقْدَارَ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ، هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ الْأَخِيرِ، أُعِيدَ مَعَهُ حَرْفُ الْجَرِّ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ الْأَخِيرِ. وَاكْتَفَى بِذِكْرِهِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مُرَادٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يضطرّ إلى
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٧.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٣.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٣.
524
ذِكْرِهِ لِأَنَّ الْبَدَلَ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَوْضِيحُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ الْعُمُومُ فِي الْمَتْرُوكِ. وَهَذَا الْبَدَلُ فِيهِ ذِكْرُ نَوْعَيِ الْمَتْرُوكِ مِنَ الْقِلَّةِ أَوِ الْكَثْرَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِمَّا قَلَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي تَرَكَ، أَيْ:
مِمَّا تَرَكَهُ مُسْتَقِرًّا مِمَّا قَلَّ.
وَمَعْنَى نَصِيبًا مَفْرُوضًا: أَيْ حَظًّا مَقْطُوعًا بِهِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَحُوزُوهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَمَكِّيٌّ: نَصِيبًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، الْمَعْنَى: لِهَؤُلَاءِ أَنْصِبَاءُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هُنَا فِي حَالِ الْفَرْضِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمَصْدَرِ، وَلِذَلِكَ وَحَّدَهُ كَقَوْلِكَ لَهُ: عَلَيَّ كَذَا حَقًّا لَازِمًا، وَنَحْوُهُ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ «١» وَلَوْ كَانَ اسْمًا صَحِيحًا لَمْ يُنْصَبْ، لَا تَقُولُ:
لَكَ عَلَيَّ حَقٌّ دِرْهَمًا انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، كَأَنَّهُ قِسْمَةٌ مَفْرُوضَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوًا مِنْ كَلَامِ الزَّجَّاجِ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ اسْمٌ نُصِبَ كَمَا يُنْصَبُ الْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تقدبره:
فَرْضًا. وَلِذَلِكَ جَازَ نَصْبُهُ كَمَا تَقُولُ لَهُ: عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا حَقًّا وَاجِبًا، وَلَوْلَا مَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي فِيهِ مَا جَازَ فِي الاسم الَّذِي لَيْسَ بِمَصْدَرٍ هَذَا النَّصْبَ، وَلَكِنْ حَقُّهُ الرَّفْعُ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلَامِ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ، وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ لِأَنَّ الِانْتِصَابَ عَلَى الْحَالِ مُبَايِنٌ لِلِانْتِصَابِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ مُخَالِفٌ له. وقال الزمخشري: ونصيبا مَفْرُوضًا نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِمَعْنَى أَعْنِي: نَصِيبًا مَفْرُوضًا مَقْطُوعًا وَاجِبًا انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى بِالِاخْتِصَاصِ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِكَوْنِهِ نَكِرَةً، وَالْمَنْصُوبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَكِرَةً. وَقِيلَ: انْتَصَبَ نَصْبَ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ أَيْ نَصِيبُهُ نَصِيبًا.
وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ النَّكِرَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ. وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: جَعَلْتُهُ أَوْ، أَوْجَبْتُ لَهُمْ نَصِيبًا. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي قَلَّ أَوْ كَثُرَ.
وَاسْتُدِلَّ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِسْمَةِ فِي الْحُقُوقِ الْمُتَمَيِّزَةِ إِذَا أَمْكَنَتْ وَطَلَبَ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِلَا خِلَافٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي قِسْمَةِ الْمَتْرُوكِ عَلَى الْفَرَائِضِ، إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ بِغَيْرِهِ عَلَى حاله كالحمام والرحا والبئر وَالدَّارِ الَّتِي تَبْطُلُ مَنَافِعُهَا بِافْتِرَاقِ السِّهَامِ. فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: تُقَسَّمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا تُقَسَّمُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَاسْتُدِلَّ بِهَا أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ تَوْرِيثِ الأخ للميت مع
(١) سورة النساء: ٤/ ١١.
525
الْبِنْتِ، فَإِذَا أَخَذَتِ النِّصْفَ أَخَذَ الْبَاقِيَ. وَاخْتُلِفَ فِي ابْنَيْ عَمِّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ،
فَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ: لِلْأَخِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ
، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وقال عمر وعبد الله وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ: الْمَالُ لِلْأَخِ مِنَ الْأُمِّ.
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ يقسمونها عند ما يَحْضُرُ الْمَوْتُ فِي وَصِيَّةٍ، وَجِهَاتٍ يَخْتَارُونَهَا، وَيَحْضُرُهُمْ مِنَ الْقَرَابَاتِ مَحْجُوبٌ عَنِ الْإِرْثِ، فَيُوصُونَ لِلْأَجَانِبِ وَيَتْرُكُونَ الْمَحْجُوبِينَ فَيُحْرَمُونَ الْإِرْثَ وَالْوَصِيَّةَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَرْبَابِ الْفَرَائِضِ يَحْضُرُهُمْ أَيْضًا مَحْجُوبٌ، فَأُمِرُوا أَنْ يَرْضَخُوا لَهُمْ مِمَّا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَبِهِ قَالَ: عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ قَالُوا: كَانَتْ قِسْمَةً جَعَلَهَا اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَظٍّ حَظَّهُ، وَجَعَلَ الْوَصِيَّةَ لِلَّذِينَ يُحْرَمُونَ وَلَا يَرِثُونَ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ أَمَرَ اللَّهُ مَنِ اسْتَحَقَّ إِرْثًا، وَحَضَرَ الْقِسْمَةَ قَرِيبٌ أَوْ يَتِيمٌ أَوْ مِسْكِينٌ لَا يَرِثُ، أَنْ لَا يُحْرَمُوا إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا، وَأَنْ يُعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَأَمَرَ بِهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ يَقْسِمُونَ لَهُمْ مِنَ الْعَيْنِ الْوَرِقَ وَالْفِضَّةَ، فَإِذَا قَسَّمُوا الْأَرَضِينَ وَالرَّقِيقَ قَالُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا: بُورِكَ فِيكُمْ. وَفَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبي بَكْرٍ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا لَا يَتَصَرَّفُ، هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْوَلِيُّ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِيبَ مَا قَبْلَهَا أَنَّهَا فِي الْوَارِثِينَ لَا فِي الْمُحْتَضَرِينَ الْمُوصِينَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْقِسْمَةِ أَنَّهَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقَسَمِ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «١».
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقِسْمَةِ الْمَقْسُومُ. وَقِيلَ: الْقِسْمَةُ الِاسْمُ مِنَ الِاقْتِسَامِ لَا مِنَ الْقَسْمِ، كَالْخِيرَةِ مِنَ الِاخْتِيَارِ. وَلَا يَكَادُ الْفُصَحَاءُ يَقُولُونَ قَسَمْتُ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً، وَرَوَى ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ. وَقِسْمَتُكَ مَا أَخَذْتَهُ مِنَ الْأَقْسَامِ، وَالْجَمْعُ قِسَمٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْقَسْمُ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ مِنَ الْجُزْءِ، وَيُقَالُ: قَاسَمْتُ فُلَانًا الْمَالَ وَتَقَاسَمْنَاهُ وَاقْتَسَمْنَاهُ، وَالْقَسْمُ الَّذِي يُقَاسِمُكَ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ، الْوُجُوبُ. وَبِهِ قَالَ جماعة منهم: مجاهد، وعطاء، وَالزُّهْرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ: هُوَ نَدْبٌ. وَفِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ إضافة
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٢٢.
526
الرِّزْقِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «١» وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْوَرَثَةِ وَاجِبًا فَنَسَخَتْهُ آيَةُ الْمِيرَاثِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَالِ الْمَقْسُومِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقِسْمَةُ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ وَهِيَ الْمَصْدَرُ تَدُلُّ عَلَى مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ الْمَالُ. وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ. وَمَنْ قَالَ: الْقِسْمَةُ الْمَقْسُومُ، أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى الْقِسْمَةِ عَلَى مَعْنَى التَّذْكِيرِ، إِذِ الْمُرَادُ الْمَقْسُومُ. وَقَدَّمَ الْيَتَامَى عَلَى الْمَسَاكِينِ لِأَنَّ ضَعْفَهُمْ أَكْثَرُ، وَحَاجَتُهُمْ أَشَدُّ، فَوَضْعُ الصَّدَقَاتِ فِيهِمْ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ لِلْأَجْرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ الْمَقْسُومِ، وَرَأَى عُبَيْدَةُ وَابْنُ سِيرِينَ: أَنَّ الرِّزْقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُصْنَعَ لَهُمْ طَعَامٌ يَأْكُلُونَهُ، وَفَعَلَا ذَلِكَ وَذَبَحَا شَاةً مِنَ التَّرِكَةِ، وَقُسِّمَ عِنْدَ عُبَيْدَةَ مَالٌ لِيَتِيمٍ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً وَذَبَحَهَا، وَقَالَ عُبَيْدَةُ: لَوْلَا هَذِهِ لَكَانَتْ مِنْ مَالِي. وَقَوْلُهُ: مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ، وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ. إِذْ لَوْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ لَبَيَّنَ اللَّهُ قَدْرَ ذَلِكَ الْحَقِّ، كَمَا بَيَّنَ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. وَعَلَى هَذَا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ كِبَارًا، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فَلَيْسَ إِلَّا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَقُولُوا لَهُمْ، عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي: فارزقوهم، وهم: أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ فِي فَارْزُقُوهُمْ عَائِدٌ عَلَى أُولِي الْقُرْبَى الْمُوصَى لَهُمْ، وَفِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. أَمَرَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ. وَقِيلَ أَيْضًا بِتَفْرِيقِ الضَّمِيرِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى الَّذِينَ يَرِثُونَ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ. فَقَوْلُهُ: فَارْزُقُوهُمْ رَاجِعٌ إِلَى أُولِي الْقُرْبَى. وَقَوْلُهُ: لَهُمْ، رَاجِعٌ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وَمَا قِيلَ مِنْ تَفْرِيقِ الضَّمِيرِ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَالْمَقُولُ الْمَعْرُوفُ فَسَّرَهُ هُنَا ابْنُ جُبَيْرٍ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: هَذَا الْمَالُ لِقَوْمٍ غُيَّبٍ أَوْ لِيَتَامَى صِغَارٍ، وَلَيْسَ لَكُمْ فِيهِ حَقٌّ. وَقِيلَ: الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالرِّزْقِ وَالْغِنَى. وَقِيلَ: هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ مَا أَرْضَخُوهُمْ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: الْعِدَةُ الْحَسَنَةُ بِأَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ أَيْتَامٌ صِغَارٌ، فَإِذَا بَلَغُوا أَمَرْنَاهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا حَقَّكُمْ قَالَهُ: عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ:
الْمَعْرُوفُ مَا يُؤْنَسُ بِهِ مِنْ دُعَاءٍ وَغَيْرِهِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ يَجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ. وَقِيلَ: إِمَّا أَنْ يُعْطُوا وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لهم قول معروف.
(١) سورة الجمعة: ٦٢/ ١١. [.....]
527
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِخَشْيَةِ اللَّهِ وَاتِّقَائِهِ. وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مَنْ يَنْظُرُ فِي حَالِ ذَرِّيَّةٍ ضِعَافٍ لِتَنْبِيهِهِ على ذلك بِكَوْنِهِ هُوَ يَتْرُكُ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وُلَاةُ الْأَيْتَامِ، وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالَّذِي يَنْهَى الْمُحْتَضِرَ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ وَيَحْسُنُ لَهُ الْإِمْسَاكُ عَلَى قَرَابَتِهِ وَأَوْلَادِهِ. وَبِهِ فَسَّرَ مِقْسَمٌ وَحَضْرَمِيٌّ، وَالَّذِي يَأْمُرُ الْمُحْتَضِرَ بِالْوَصِيَّةِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَيُذَكِّرُهُ بِأَنْ يُقَدِّمَ لِنَفْسِهِ، وَقَصْدُهُ إِيذَاءُ وَرَثَتِهِ بِذَلِكَ. وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُرَادُ جَمِيعُ النَّاسِ أُمِرُوا بِاتِّقَاءِ اللَّهِ فِي الْأَيْتَامِ وَأَوْلَادِ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي حِجْرِهِمْ. وَأَنَّ يُسَدِّدُوا لَهُمُ الْقَوْلَ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُفْعَلَ بِأَوْلَادِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ بِمَا قَبْلَهُ، وَأَنْ يَكُونَ آمِرًا لِلْوَرَثَةِ بِالشَّفَقَةِ عَلَى الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْقِسْمَةَ مِنْ ضُعَفَاءِ أَقَارِبِهِمْ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَنْ يَتَصَوَّرَ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَوْلَادَهُمْ بَقُوا خَلْفَهُمْ ضَائِعِينَ مُحْتَاجِينَ، هَلْ كَانُوا يَخَافُونَ عَلَيْهِمُ الْحِرْمَانَ وَالْخَشْيَةَ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا. قَالَ الْقَاضِي: الْأَلْيَقُ بِمَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَيْتَامِ، فَجَعَلَ تَعَالَى آخِرَ مَا دَعَاهُمْ بِهِ إِلَى حِفْظِ مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ عَلَى حَالِ أَنْفُسِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إِذَا تَصَوَّرُوهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَقْوَى الْبَوَاعِثِ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِيهِ.
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ فِي: وَلِيَخْشَ، وَفِي: فَلِيَتَّقُوا، وَلِيَقُولُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْإِسْكَانِ. وَمَفْعُولُ وَلْيَخْشَ مَحْذُوفٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ الْجَلَالَةِ أَيِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَذْفُ عَلَى طَرِيقِ الْإِعْمَالِ، أَعْمَلَ فَلْيَتَّقُوا. وَحَذَفَ مَعْمُولَ الْأَوَّلِ، إِذْ هُوَ مَنْصُوبٌ يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ اقْتِصَارًا، فَكَانَ حَذْفُهُ اخْتِصَارًا أَجْوَزَ، وَيَصِيرُ نَحْوَ قَوْلِكَ: أَكْرَمْتُ فَبَرَرْتُ زَيْدًا. وَصِلَةُ الَّذِينَ الْجُمْلَةُ مِنْ لَوْ وَجَوَابِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ لَوْ تَرَكُوا لَخَانُوا. وَيَجُوزُ حَذْفُ اللَّامِ فِي جَوَابِ لَوْ تَقُولُ:
لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَقَامَ عَمْرٌو، وَلَوْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا خَلْفَهُمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا وَذَلِكَ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ، خَافُوا عَلَيْهِمُ الضَّيَاعَ بَعْدَهُمْ لِذَهَابِ كَافِلِهِمْ وَكَاسِبِهِمْ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
أعطوا هنيدة تجدوها ثَمَانِيَةٌ مَا فِي عَطَائِهِمْ مَنٌّ وَلَا سَرَفُ
528
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَوْ تَرَكُوا، لَوْ يَمْتَنِعُ بِهَا الشَّيْءُ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، وخافوا جَوَابُ لَوِ انْتَهَى.
فَظَاهِرُ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ لَوْ هنا هي الَّتِي تَكُونُ تَعْلِيقًا فِي الْمَاضِي، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا سِيبَوَيْهِ: بِأَنَّهَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ يَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ. وَيُعَبِّرُ غَيْرُهُ عَنْهَا بِأَنَّهَا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ. وَذَهَبَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ: إِلَى أَنَّ لَوْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ بِمَعْنَى إِنْ فَتَقْلِبُ الْمَاضِيَ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ إِنْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ. قَالَ: وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ لَوْ هَذِهِ مُضَارِعٌ لَكَانَ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى كَمَا يَكُونُ بَعْدَ إِنْ قَالَ الشَّاعِرُ:
لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إِلَيَّ حُبًّا بَنَاتِي إِنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
أُحَاذِرُ أَنْ يَرِثْنَ الْبُؤْسَ بَعْدِي وَأَنْ يَشْرَبْنَ رَنْقًا بَعْدَ صَافِ
لَا يُلْفِكَ الراجيك إِلَّا مُظْهِرًا خُلُقَ الْكَرِيمِ وَلَوْ تَكُونُ عَدِيمَا
وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا تَوَهَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أُمِرُوا بِالْخَشْيَةِ، وَالْأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ، وَمُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ هُوَ مَوْصُولٌ، لَمْ يَصْلُحْ أَنْ تَكُونَ الصِّلَةُ مَاضِيَةً عَلَى تَقْدِيرِ دَالَّةٍ عَلَى الْعَدَمِ الَّذِي يُنَافِي امْتِثَالَ الْأَمْرِ. وَحَسُنَ مَكَانَ لَوْ لَفْظُ إِنْ فَقَالَ: إِنَّهَا تَعْلِيقٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّهَا بِمَعْنَى إِنْ. وَكَأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ عَرَضَ لَهُ هَذَا التَّوَهُّمُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: مَعْنَاهُ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ شَارَفُوا أَنْ يُتْرَكُوا، فَلَمْ تَدْخُلْ لَوْ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ، بَلْ أُدْخِلَتْ عَلَى شَارَفُوا الَّذِي هُوَ مَاضٍ أُسْنِدَ لِلْمَوْصُولِ حَالَةَ الْأَمْرِ. وَهَذَا الَّذِي تَوَهَّمُوهُ لَا يَلْزَمُ فِي الصِّلَةِ إِلَّا إِنْ كَانَتِ الصِّلَةُ مَاضِيَةً فِي الْمَعْنَى، وَاقِعَةً بِالْفِعْلِ. إِذْ مَعْنَى: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ، أَيْ مَاتُوا فَتَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ التَّأْوِيلُ فِي لَوْ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: إِنْ إِذْ لَا يُجَامَعُ الْأَمْرُ بِإِيقَاعِ فِعْلِ مَنْ مَاتَ بِالْفِعْلِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَاضِيًا عَلَى تَقْدِيرٍ يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ صِلَةً، وَأَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْمَوْصُولِ الْفِعْلَ الْمُسْتَقْبَلَ نَحْوُ قَوْلِكَ: لِيَزُرْنَا الَّذِي لَوْ مَاتَ أَمْسِ بَكَيْنَاهُ. وَأَصْلُ لَوْ أَنْ تَكُونَ تَعْلِيقًا فِي الْمَاضِي، وَلَا يُذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى: أَنْ، إِلَّا إِذَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَةٌ كَالْبَيْتِ الْمُتَقَدِّمِ. لِأَنَّ جَوَابَ لَوْ فِيهِ مَحْذُوفٌ مُسْتَقْبَلٌ لِاسْتِقْبَالِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
لَا يُلْفِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
قَوْمٌ إِذَا حاربوا شدّة مَآزِرَهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بانت بِأَطْهَارِ
لِدُخُولِ مَا بَعْدَهَا في حيز إذا، وإذا لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو، لتبادر إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ فِي الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ. ومن خلفهم متعلق بتركوا. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ذُرِّيَّةً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضِعَافًا جَمْعُ ضَعِيفٍ، كَظَرِيفٍ وَظِرَافٍ. وَأَمَالَ فَتْحَةَ الْعَيْنِ حَمْزَةُ،
529
وَجَمْعُهُ عَلَى فِعَالٍ قِيَاسٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: ضُعُفًا بِضَمَّتَيْنِ، وَتَنْوِينِ الْفَاءِ. وَقَرَأَتْ عائشة والسلمي وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ أَيْضًا: ضُعَفَاءَ بِضَمِّ الضَّادِ وَالْمَدِّ، كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ، وهو أيضا قياس. وقرىء ضعافى وضعافى بِالْإِمَالَةِ، نَحْوَ سُكَارَى وَسَكَارَى.
وَأَمَالَ حَمْزَةُ خَافُوا لِلْكَسْرَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فِي نَحْوِ: خِفْتُ. وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ حَيْثُ بَدَأَ أَوَّلًا بِالْخَشْيَةِ الَّتِي مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَهِيَ الِاحْتِرَازُ مِنَ الشَّيْءِ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَهِيَ الْحَامِلَةُ عَلَى التَّقْوَى، ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ثَانِيًا وَهِيَ مُتَسَبِّبَةٌ عَنِ الْخَشْيَةِ، إِذْ هِيَ جَعْلُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فِي وِقَايَةٍ مِمَّا يَخْشَاهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْفِعْلِ النَّاشِئِ عَنِ التَّقْوَى النَّاشِئَةِ عَنِ الْخَشْيَةِ. وَلَا يُرَادُ تَخْصِيصُ الْقَوْلِ السَّدِيدِ فَقَطْ، بَلِ الْمَعْنَى عَلَى الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ السَّدِيدَيْنِ. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ لِسُهُولَةِ ذَلِكَ عَلَى الْإِنْسَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَقَلُّ مَا يُسْلَكُ هُوَ الْقَوْلُ السَّدِيدُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُونَ لِلَّذِينَ يُفَرِّقُونَ الْمَالَ زِدْ فُلَانًا وَأَعْطِ فُلَانًا. وَقِيلَ: هُوَ الْأَمْرُ بِإِخْرَاجِ الثُّلُثِ فَقَطْ. وَقِيلَ: هُوَ تَلْقِينُ الْمُحْتَضِرِ الشَّهَادَةَ.
وَقِيلَ: الصِّدْقُ فِي الشَّهَادَةِ. وَقِيلَ: الْمُوَافِقُ لِلْحَقِّ. وَقِيلَ: لِلْعَدْلِ. وَقِيلَ: لِلْقَصْدِ. وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ.
وَالسَّدَادُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَأَصْلُ السَّدِّ إِزَالَةُ الِاخْتِلَالِ. وَالسَّدِيدُ يُقَالُ فِي مَعْنَى الْفَاعِلِ، وَفِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَرَجُلٌ سَدِيدٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، فَإِنَّهُ يُسَدَّدُ مِنْ قِبَلِ مَتْبُوعِهِ، وَيُسَدِّدُ لِتَابِعِهِ.
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَلَا يُوَرِّثُونَهُمْ وَلَا النِّسَاءَ، قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: فِي حَنْظَلَةَ بْنِ الشَّمَرْدَلِ، وَلِيَ يَتِيمًا فَأَكَلَ مَالَهُ. وَقِيلَ: فِي زَيْدِ بْنِ زَيْدٍ الْغَطَفَانِيِّ وَلِيَ مَالَ ابْنِ أَخِيهِ فَأَكَلَهُ، قَالَهُ: مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: نَزَلَتْ فِي الْأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مَا لَمْ يُبَحْ لَهُمْ، وَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ أَكْلٍ بظلم وإن لَمْ يَكُنْ وَصِيًّا وَانْتِصَابُ ظُلْمًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَخَبَرُ أَنَّ هِيَ الْجُمْلَةُ من قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وقوع الجملة المصدرة بأن خبرا، لأن وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ.
وَحَسَّنَ ذلك هنا تباعدهما يكون اسْمِ إِنَّ مَوْصُولًا، فَطَالَ الْكَلَامُ بِذِكْرِ صِلَتِهِ. وَفِي بُطُونِهِمْ: مَعْنَاهُ مِلْءُ بُطُونِهِمْ يُقَالُ: أَكَلَ فِي بَطْنِهِ، وَفِي بَعْضِ بَطْنِهِ. كَمَا قَالَ:
530
وَالظَّاهِرُ: تَعَلُّقُ فِي بُطُونِهِمْ بيأكلون، وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: نَارًا. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: فِي بُطُونِهِمْ عَلَى نَقْصِهِمْ، وَوَصْفِهِمْ بِالشَّرَهِ فِي الْأَكْلِ، وَالتَّهَافُتِ فِي نَيْلِ الْحَرَامِ بِسَبَبِ الْبَطْنِ. وَأَيْنَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ؟! تَرَاهُ خَمِيصَ الْبَطْنِ وَالزَّادُ حَاضِرُ وَقَوْلِ الشَّنْفَرَى:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
وَإِنْ مُدَّتِ الْأَيْدِي إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: نَارًا أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ نَارًا حَقِيقَةً.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ قَوْمًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ، وَقَدْ وُكِلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ ثُمَّ يُجْعَلُ في أفواههم صحرا مِنْ نَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا وَبِأَكْلِهِمُ النَّارَ حَقِيقَةً»
قَالَتْ طَائِفَةٌ:
وَقِيلَ: هُوَ مُجَازٌ، لَمَّا كَانَ أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ يَجُرُّ إِلَى النَّارِ وَالتَّعْذِيبِ، بِهَا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَكْلِ فِي الْبَطْنِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْحَامِلِ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ وَهُوَ الْبَطْنُ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِالْمَالِ لِأَجْلِهَا، إِذْ مَآلُ مَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَى الِاضْمِحْلَالِ وَالذَّهَابِ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ. وَلِذَلِكَ
قَالَ: «مَا مَلَأَ الْإِنْسَانُ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسَيَصْلَوْنَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ. وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ مُشَدَّدَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. والصلا مِنَ: التَّسَخُّنِ بِقُرْبِ النَّارِ، وَالْإِحْرَاقُ إِتْلَافُ الشَّيْءِ بِالنَّارِ.
وعبر بالصلا بِالنَّارِ عَنِ الْعَذَابِ الدَّائِمِ بِهَا، إِذِ النَّارُ لَا تُذْهِبُ ذَوَاتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ كَمَا قَالَ:
كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «١» وَهَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ عَلَى هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ. وَجَاءَ يَأْكُلُونَ بِالْمُضَارِعِ دُونَ سين الاستقبال، وسيصلون بِالسِّينِ، فَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ لِلنَّارِ حَقِيقَةً فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَاسْتَغْنَى عَنْ تَقْيِيدِهِ بِالسِّينِ بِعَطْفِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَلَيْسَ بِمُسْتَقْبَلٍ، إِذِ الْمَعْنَى: يَأْكُلُونَ مَا يَجُرُّ إِلَى النَّارِ وَيَكُونُ سَبَبًا إِلَى الْعَذَابِ بِهَا. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ نَارٍ مُطْلَقًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا، قُيِّدَ فِي قَوْلِهِ سَعِيرًا، إِذْ هُوَ الْجَمْرُ الْمُتَّقِدُ.
وتضمنت هذه الآيات من ضُرُوبِ الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ. الطِّبَاقَ في: واحدة وزوجها،
(١) سورة النساء: ٤/ ٥٦.
531
وفي غنيا وفقيرا، وَفِي: قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَالتَّكْرَارَ فِي: اتَّقُوا، وَفِي: خلق، وفي: خفتم، وأن لا تقسطوا، وأن لَا تَعْدِلُوا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَفِي الْيَتَامَى، وَفِي النِّسَاءِ، وَفِي فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَفِي نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَفِي قوله:
وليخش، وخافوا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمَا مُتَرَادِفَيْنِ، وَإِطْلَاقَ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ فِي: وَلَا تَأْكُلُوا وَشِبْهِهِ لِأَنَّ الْأَخْذَ سَبَبٌ لِلْأَكْلِ. وَتَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي: وَآتُوا الْيَتَامَى، سَمَّاهُمْ يَتَامَى بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَالتَّأْكِيدَ بِالْإِتْبَاعِ فِي: هَنِيئًا مَرِيئًا وَتَسْمِيَةَ الشيء باسم ما يؤول إِلَيْهِ فِي: نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ، وَفِي نَارًا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أنها حَقِيقَةٌ. وَالتَّجْنِيسَ الْمُمَاثِلَ فِي: فَادْفَعُوا فَإِذَا دَفَعْتُمْ، وَالْمُغَايِرَ فِي: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا.
وَالزِّيَادَةَ لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى فِي: فَلْيَسْتَعْفِفْ. وَإِطْلَاقَ كُلٍّ عَلَى بَعْضٍ فِي: الْأَقْرَبُونَ، إِذِ الْمُرَادُ أَرْبَابُ الْفَرَائِضِ. وَإِقَامَةَ الظَّرْفِ الْمَكَانِيِّ مَقَامَ الزماني في: من خَلْفِهِمْ، أَيْ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِمْ. وَالِاخْتِصَاصَ فِي: بُطُونِهِمْ، خَصَّهَا دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لِلْمَأْكُولَاتِ. وَالتَّعْرِيضَ فِي: فِي بُطُونِهِمْ، عَرَّضَ بِذِكْرِ البطون لخستهم وَسُقُوطِ هِمَمِهِمْ وَالْعَرَبُ تَذُمُّ بِذَلِكَ قَالَ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
وَتَأْكِيدَ الْحَقِيقَةِ بِمَا يَرْفَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ بِقَوْلِهِ: فِي بُطُونِهِمْ. رُفِعَ الْمَجَازُ الْعَارِضُ فِي قَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً «١» وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ فَيَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ تَرْشِيحِ الْمَجَازِ، وَنَظِيرُ كَوْنِهِ رَافِعًا لِلْمَجَازِ قَوْلُهُ:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «٢»، وَقَوْلُهُ: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ «٣». وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١ الى ١٤]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
(١) سورة الحجرات: ٤٩/ ١٢.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٣٨.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٧٩.
532
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِمَا أُبْهِمَ فِي قَوْلِهِ: نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ «١» فِي الْمِقْدَارِ وَالْأَقْرَبِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَقَادِيرَ وَمَنْ يَرِثُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، وَبَدَأَ بِالْأَوْلَادِ وَإِرْثِهِمْ مِنْ وَالِدَيْهِمْ، كَمَا بَدَأَ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ بِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ إِجْمَالٌ أَيْضًا بَيَّنَهُ بَعْدُ. وَبَدَأَ بِقَوْلِهِ:
لِلذَّكَرِ، وَتَبَيَّنَ مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِهِ. وَكَانَ تَقْدِيمُ الذَّكَرِ أَدَلَّ عَلَى فَضْلِهِ مِنْ ذِكْرِ بَيَانِ نَقْصِ الْأُنْثَى عَنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ، فَكَفَاهُمْ إِنْ ضُوعِفَ لَهُمْ نَصِيبُ الْإِنَاثِ فَلَا يُحْرَمْنَ إِذْ هُنَّ يُدْلِينَ بِمَا يُدْلُونَ بِهِ مِنَ الْوَلَدِيَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَمُضْمَنُ أَكْثَرِ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَزَلَتْ تَبْيِينًا لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي جَابِرٍ إِذْ مَرِضَ، فعاده الرسول فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟
وَقِيلَ: كَانَ الْإِرْثُ لِلْوَلَدِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنُسِخَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. قِيلَ: مَعْنَى يُوصِيكُمْ يَأْمُرُكُمْ. كَقَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ «٢» وعدل
(١) سورة النساء: ٤/ ٧.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٥١.
533
إِلَى لَفْظِ الْإِيصَاءِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَدَلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ، وَطَلَبِ حُصُولِهِ سُرْعَةً، وَقِيلَ: يَعْهَدُ إِلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً «١» وَقِيلَ: يُبَيِّنُ لَكُمْ فِي أَوْلَادِكُمْ مَقَادِيرَ مَا أَثْبَتَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ للرّجال وأولوا الْأَرْحَامِ «٢» وَقِيلَ: يَفْرِضُ لَكُمْ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.
وَالْخِطَابُ فِي: يُوصِيكُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي أَوْلَادِكُمْ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. أَيْ:
فِي أَوْلَادِ مَوْتَاكُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ الْحَيُّ بِقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ فِي أَوْلَادِهِ وَيُفْرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ المعنى بيوصيكم يُبَيِّنُ جَازَ أَنْ يُخَاطِبَ الْحَيَّ، وَلَا يَحْتَاجَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَالْأَوْلَادُ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ مَنْ قَامَ بِهِ مَانِعُ الْإِرْثِ، فَأَمَّا الرِّقُّ فَمَانِعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَكَذَلِكَ، إِلَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعَاذٌ مِنْ: أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ. وَأَمَّا الْقَتْلُ فَإِنْ قَتَلَ أَبَاهُ لَمْ يَرِثْ، وَكَذَا إِذَا قَتَلَ جَدَّهُ وَأَخَاهُ أَوْ عَمَّهُ، لَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ، هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وعطاء، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا يَرِثُ مِنَ الْمَالِ، وَلَا مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا. وَاسْتَثْنَى النَّخَعِيُّ مِنْ عُمُومِ أَوْلَادِكُمُ الْأَسِيرَ، فَقَالَ: لَا يَرِثُ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ يَرِثُ، فَإِنْ جُهِلَتْ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَفْقُودِ. وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْعُمُومِ الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْجَنِينُ فَإِنْ خَرَجَ مَيْتًا لَمْ يَرِثْ، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا فَقَالَ الْقَاسِمُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وقتادة، والشعبي، والزهري، ومالك، وَالشَّافِعِيُّ: يَسْتَهِلُّ صَارِخًا، وَلَوْ عَطَسَ أَوْ تَحَرَّكَ أَوْ صَاحَ أَوْ رَضَعَ أَوْ كَانَ فِيهِ نَفَسٌ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ وَالشَّافِعِيُّ:
إِذَا عُرِفَتْ حَيَاتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَيِّ فِي الْإِرْثِ. وَأَمَّا الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَرِثُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قِسْمَةِ الْمَالِ الَّذِي لَهُ فِيهِ سَهْمٌ. وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الْخُنْثَى فَدَاخِلٌ فِي عُمُومِ أَوْلَادِكُمْ، وَلَا خِلَافَ فِي تَوْرِيثِهِ، وَالْخِلَافُ فِيمَا يَرِثُ وَفِيمَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ خُنْثَى، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الْمَفْقُودُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرِثُ فِي حَالِ فَقْدِهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوقَفُ نَصِيبُهُ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ: وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ وَالسَّفِيهُ فَيَرِثُونَ إِجْمَاعًا، وَالْوَلَدُ حَقِيقَةٌ فِي وَلَدِ الصُّلْبِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي وَلَدِ الِابْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَجَازٌ. إِذْ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً بِطْرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوِ التَّوَاطُؤِ لَشَارَكَ وَلَدَ الصلب مطلقا،
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ١٣.
(٢) إشارة إلى الآية ٧ من سورة النساء.
534
وَالْحُكْمُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ، أَوْ عِنْدَ وُجُودِ مَنْ لَا يَأْخُذُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ مِنْهُمْ.
وَهَذَا الْبَحْثُ جَارٍ فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ اسْمُ الْأَبِ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ هَذَا الِاتِّفَاقُ. وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْوَلَدِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَدْخُلُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَدْخُلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ وَلَدُ صُلْبٍ.
وللذكر: إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ أَيْ: لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ، أَوْ تَنُوبُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَنِ الضَّمِيرِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ التَّقْدِيرُ لِذَكَرِهِمْ. ومثل: صِفَةٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ حَظٌّ مِثْلُ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَعْمَلْ يُوصِيكُمُ فِي مِثْلُ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْقَبُولِ فِي حِكَايَةِ الْجُمَلِ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيوصيكم. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: ارْتَفَعَ مِثْلُ عَلَى حَذْفِ أَنْ تَقْدِيرُهُ: أَنْ لِلذَّكَرِ. وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ حَالَةُ اجْتِمَاعِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ فَلَهُ سَهْمَانِ، كَمَا أَنَّ لَهُمَا سَهْمَيْنِ. وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ الِابْنُ فَيَأْخُذُ الْمَالَ أَوِ الْبِنْتَانِ، فَسَيَأْتِي حُكْمُ ذَلِكَ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلنَّصِّ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: نَصِيبُ الذَّكَرِ هُنَا هُوَ الثُّلُثَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبَ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا كَانَ نَصِيبُهَا مَعَ الذَّكَرِ الثلث، فلا أن يَكُونَ نَصِيبُهَا مَعَ أُنْثَى الثُّلُثَ أَوْلَى، لِأَنَّ الذَّكَرَ أَقْوَى مِنَ الْأُنْثَى. وَقِيلَ: حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ حَظِّ الْأُنْثَى، وَإِلَّا لَزِمَ حَظُّ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَى، وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَظُّهُمَا الثُّلُثَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. فَهَذِهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ.
وَوَجْهٌ رَابِعٌ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ، وَذَكَرَ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ. وَفِي آخِرِ السُّورَةِ ذَكَرَ حُكْمَ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ، وَحُكْمَ الْأُخْتَيْنِ، وَلَمْ يُذْكَرْ حُكْمُ الْأَخَوَاتِ، فَصَارَتِ الْآيَتَانِ مُجْمَلَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ، مُبَيَّنَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ.
فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْأُخْتَيْنِ الثُّلْثَيْنِ، كَانَتِ الْبِنْتَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ. وَلَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْبَنَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، وَجَبَ أَنْ لَا يُزَادَ نَصِيبُ الْأَخَوَاتِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْبِنْتَ لَمَّا كَانَتْ أَشَدَّ اتِّصَالًا بِالْمَيِّتِ امْتَنَعَ جَعْلُ الْأَضْعَفِ زَائِدًا عَلَى الْأَقْوَى. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ لِلذَّكَرِ إِذَا لَمْ يكن مَعَهُ أُنْثَى، لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ مَا لِلْأُنْثَيَيْنِ. وَقَدْ جَعَلَ لِلْأُنْثَى النِّصْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذَكَرٌ
535
بِقُولِهِ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ «١» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلذَّكَرِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ مِثْلَيْ ذَلِكَ وَمِثْلَا النِّصْفِ، هُوَ الْكُلُّ انْتَهَى.
وَقَرَأَ الحسن واب أَبِي عَبْلَةَ: يُوَصِّيكُمْ بِالتَّشْدِيدِ. قرأ الْحَسَنُ وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ والأعرج: ثلثا وثلث وَالرُّبْعَ وَالسُّدْسَ وَالثُّمْنَ بِإِسْكَانِ الْوَسَطِ، وَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ، وَهِيَ لغة الحجاز وبني أَسَدٍ، قَالَهُ: النَّحَّاسُ مِنَ الثُّلْثِ إِلَى الْعُشْرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ هِيَ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالسُّكُونَ تَخْفِيفٌ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي شَأْنِ أَوْلَادِكُمُ الْوَارِثِينَ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ حَظٌّ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ حَالَةَ اجْتِمَاعِهِمْ مِمَّا تَرَكَ الموروثون إِنِ انْفَرَدَ بِالْإِرْثِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ذُو فَرْضٍ كَانَ مَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ لَهُمَا، وَالْفُرُوضُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ سِتَّةٌ: النِّصْفُ، وَالرُّبُعُ، وَالثُّمُنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ.
فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ ظَاهِرُ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثِّنْتَيْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ يَرِثْنَ الثُّلُثَيْنِ مِمَّا تَرَكَ مَوْرُوثُهُمَا، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ انْحِصَارُ الْوَارِثِ فِيهِنَّ.
وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْأَوْلَادِ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَقَصَدَ هُنَا بَيَانَ حُكْمِ الْإِنَاثِ، أَخْلَصَ الضَّمِيرَ لِلتَّأْنِيثِ. إِذِ الْإِنَاثُ أَحَدُ قِسْمَيْ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الْأَوْلَادُ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، وَكَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي أَوْلادِكُمْ «٢» فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: فِي أَوْلادِكُمْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ قَدْ عَادَ عَلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ الْعَاقِلِ الْمُذَكَّرِ بِالنُّونِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَنْ أَضْلَلْنَ كَمَا يَعُودُ عَلَى الْإِنَاثِ كَقَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ «٣» فَلَأَنْ يَعُودَ عَلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ الْعَاقِلِ الْجَامِعِ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ الَّذِي هُوَ الْمُؤَنَّثُ أَوْلَى، وَاسْمُ كَانَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى أَحَدِ قِسْمَيِ الْأَوْلَادِ، وَالْخَبَرُ نِسَاءً بِصِفَتِهِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا تَسْتَقِلُّ فَائِدَةُ الْأَخْبَارِ بِقَوْلِهِ: نِسَاءً وَحْدَهُ، وَهِيَ صِفَةٌ لِلتَّأْكِيدِ تَرْفَعُ أَنْ يُرَادَ بِالْجَمْعِ قَبْلَهُمَا طَرِيقُ الْمَجَازِ، إِذْ قَدْ يُطْلَقُ الْجَمْعُ وَيُرَادُ بِهِ التثنية. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ نساء خبرا ثانيا، لكان، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِهِ فَائِدَةُ الْإِسْنَادِ. وَلَوْ سَكَتَ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً لَكَانَ نَظِيرَ، إِنْ كَانَ الزَّيْدُونَ رِجَالًا، وَهَذَا لَيْسَ بِكَلَامٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: التَّقْدِيرُ وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكَاتُ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْبَنَاتُ أَوِ الْمَوْلُودَاتُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ فِي كن وكانت مبهمين، ويكون نساء وواحدة تَفْسِيرًا لَهُمَا عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ؟ (قُلْتُ) : لَا أبعد ذلك انتهى.
(١) سورة النساء: ٤/ ١١.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١١.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٣.
536
وَنَعْنِي بِالْإِبْهَامِ أَنَّهُمَا لَا يَعُودَانِ عَلَى مُفَسِّرٍ مُتَقَدِّمٍ، بَلْ يَكُونُ مُفَسِّرُهُمَا هُوَ الْمَنْصُوبَ بَعْدَهُمَا، وَهَذَا الَّذِي لَمْ يُبْعِدْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ بَعِيدٌ، أَوْ مَمْنُوعٌ أَلْبَتَّةَ. لِأَنَّ كَانَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَكُونُ فَاعِلُهَا مُضْمَرًا يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ مِنَ الْأَفْعَالِ بِنِعْمَ وَبِئْسَ وَمَا حُمِلَ عَلَيْهِمَا، وَفِي بَابِ التَّنَازُعِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَمَعْنَى فَوْقَ اثْنَتَيْنِ: أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْنِ بَالِغَاتٍ مَا بَلَغْنَ مِنَ الْعَدَدِ، فَلَيْسَ لَهُنَّ إِلَّا الثُّلُثَانِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، اثْنَتَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا، وَأَنَّ قُوَّةَ الْكَلَامِ تَقْتَضِي ذلك كابن عَطِيَّةَ، أَوْ أَنَّ فَوْقَ زَائِدَةٌ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ فَوْقَ قَدْ زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ «١» فَلَا يُحْتَاجُ فِي رَدِّ مَا زَعَمَ إِلَى حُجَّةٍ لِوُضُوحِ فَسَادِهِ. وَذَكَرُوا أَنَّ حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ الثُّلُثَانِ كَالْبَنَاتِ. قَالُوا: وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ يَرَى لَهُمَا النِّصْفَ إِذَا انْفَرَدَا كَحَالِهِمَا إِذَا اجْتَمَعَا مَعَ الذَّكَرِ، وَمَا احْتَجُّوا بِهِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ أَوْسِ بْنِ ثابت: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ»
وَبَنَاتُ الِابْنِ أَوِ الْأَخَوَاتُ الْأَشِقَّاءُ أَوْ لِأَبٍ كَبَنَاتِ الصُّلْبِ فِي الثُّلُثَيْنِ إِذَا انْفَرَدْنَ عَنْ مَنْ يَحْجُبُهُنَّ.
وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَاحِدَةً بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَيْ: وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيِ الْبِنْتُ فَذَّةً لَيْسَ مَعَهَا أُخْرَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَاحِدَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ وواحدة الْفَاعِلُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: النُّصْفُ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا فِي فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ «٢» فِي الْبَقَرَةِ.
وَبِنْتُ الِابْنُ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِنْتَ صُلْبٍ، وَالْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوْ لِأَبٍ، وَالزَّوْجُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ وَلَدٌ، وَلَا وَلَدُ ابْنٍ كَبِنْتِ الصُّلْبِ لِكُلٍّ مِنْهُمُ النِّصْفُ.
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ لَمَّا ذَكَرَ الْفُرُوعَ وَمِقْدَارَ مَا يَرِثُونَ أَخَذَ فِي ذِكْرِ الْأُصُولِ وَمِقْدَارِ مَا يَرِثُونَ، فَذَكَرَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَرِثُ مِنْهُ أَبَوَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ السُّدُسَ إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، وَأَبَوَاهُ هُمَا: أَبُوهُ وَأُمُّهُ. وَغَلَبَ لَفْظُ الْأَبِ فِي التَّثْنِيَةِ كَمَا قِيلَ:
الْقَمَرَانِ، فَغَلَبَ الْقَمَرُ لِتَذْكِيرِهِ عَلَى الشَّمْسِ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ لَا تُقَاسُ. وَشَمَلَ قَوْلُهُ: وَلَهُ وَلَدٌ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ فَرْضَ الْأَبِ السُّدُسُ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَيَّ وَلَدٍ كَانَ، وَبَاقِي الْمَالِ لِلْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى أخذ السدس فرضا،
(١) سورة الأنفال: ٨/ ١٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٧.
537
وَالْبَاقِي تَعْصِيبًا. وَتَعَلَّقَتِ الرَّوَافِضُ بِظَاهِرِ لَفْظِ وَلَدٌ فَقَالُوا: السُّدُسُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ، وَالْبَاقِي لِلْبِنْتِ أَوِ الِابْنِ، إِذِ الْوَلَدُ يَقَعُ عَلَى: الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْجَدِّ، وَبَنَاتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ، وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ مَعَ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْوَاحِدَةِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، وَالْجَدَّاتِ كَالْأَبِ مَعَ الْبِنْتِ فِي السُّدُسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَرِثُ جَدَّةُ أَبِي الْأَبِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا تَرِثُ أُمُّ الْأُمِّ.
وَالضَّمِيرُ فِي لِأَبَوَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي تَرَكَ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْمَيِّتِ الدَّالُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ وسياقه. ولكل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ مِنْ أَبَوَيْهِ، وَيُفِيدُ مَعْنَى التَّفْصِيلِ. وَتَبْيِينِ أَنَّ السُّدُسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ، إِذْ لَوْلَا هَذَا الْبَدَلُ لَكَانَ الظَّاهِرُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي السُّدُسِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وَآكَدُ مِنْ قَوْلِكَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ، إِذْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمَا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْإِظْهَارِ، وَمَرَّةً بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَيْهِمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والسدس مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ لِأَبَوَيْهِ، وَالْبَدَلُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: السُّدُسُ رُفِعَ بالابتداء، ولكل واحد منهما الخبر، ولكل بدل من الأبوين، ومنهما نعت لواحد. وَهَذَا الْبَدَلُ هُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَلِذَلِكَ أَتَى بِالضَّمِيرِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ بَدَلُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لِجَوَازِ أَبَوَاكَ يَصْنَعَانِ كَذَا، وَامْتِنَاعِ أَبَوَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْنَعَانِ كَذَا. بَلْ تَقُولُ: يَصْنَعُ كَذَا. وَفِي قول الزمخشري: والسدس مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لِأَبَوَيْهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْخَبَرُ لَهُ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، كَمَا مَثَّلْنَاهُ فِي قَوْلِكَ: أَبَوَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْنَعُ كَذَا، إِذَا أَعْرَبْنَا كُلًّا بَدَلًا. وَكَمَا تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا عَيْنَهُ حَسَنَةٌ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِذَا وَقَعَ الْبَدَلُ خَبَرًا فَلَا يَكُونُ الْمُبْدَلُ مِنْهُ هُوَ الْخَبَرَ، وَاسْتَغْنَى عَنْ جَعْلِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ خَبَرًا بِالْبَدَلِ كَمَا اسْتَغْنَى عَنِ الْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ إِنَّ وَهُوَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْبَدَلِ. وَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ: وَلِأَبَوَيْهِ السدسان لا وهم التَّنْصِيفَ أَوِ التَّرْجِيحَ فِي الْمِقْدَارِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ، فَكَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ الْقُرْآنِيُّ فِي غَايَةِ النَّصِّيَّةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ:
وَلِأَبَوَيْهِ، أَنَّهُمَا اللَّذَانِ وَلَدَا الْمَيِّتَ قَرِيبًا لَا جَدَّاهُ، وَلَا مَنْ عَلَا مِنَ الْأَجْدَادِ. وَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْلَادِكُمْ، يَتَنَاوَلُ مَنْ سَفَلَ مِنَ الْأَبْنَاءِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ لَفْظٌ مُثَنًّى لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَلَا الْجَمْعَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فِي أولادكم. وفيما قالوه: نظروهما عِنْدِي سَوَاءٌ فِي الدَّلَالَةِ، إِنْ نُظِرَ إِلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْأَبْنَاءَ الَّذِينَ وَلَدَهُمُ الْأَبَوَانِ قَرِيبًا، لَا مَنْ سَفَلَ كَالْأَبَوَيْنِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَنْ وَلَدَاهُ قَرِيبًا، لَا مَنْ عَلَا. أَوْ إِلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَجَازِهِ، فَيَشْتَرِكُ اللَّفْظَانِ فِي ذَلِكَ، فَيَنْطَلِقُ الْأَبَوَانِ عَلَى مَنْ وَلَدَاهُ قَرِيبًا. وَمَنْ عَلَا كَمَا يَنْطَلِقُ الْأَوْلَادُ عَلَى مَنْ وَلَدَاهُمْ قَرِيبًا وَمَنْ سَفَلَ يُبَيِّنُ حَمْلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ ابْنَ الِابْنِ
538
لا يرث مع الِابْنَ، وَأَنَّ الْجَدَّةَ لَا يُفْرَضُ لَهَا الثُّلُثُ بِإِجْمَاعٍ، فَلَمْ يُنَزَّلِ ابْنُ الِابْنِ مَنْزِلَةَ الِابْنِ مَعَ وُجُودِهِ، وَلَا الْجَدَّةُ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ: إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ «١» وورثه أَبَوَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا انْفَرَدَا بِمِيرَاثِهِ لَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ، لَا وَلَدٌ وَلَا غَيْرُهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ حُكْمًا لَهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ. فَإِذَا خَلُصَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ، فَذِكْرُ الْقِسْمِ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، لِزَيْدٍ مِنْهُ الثُّلُثُ، فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ بَاقِيَهُ وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِعَمْرٍو.
فَلَوْ كَانَ مَعَهُمَا زَوْجٌ كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَهُوَ: الثُّلُثُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَبِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ مَعَ الزَّوْجِ، وَالنِّصْفُ لِلزَّوْجِ، وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، فَيَكُونُ مَعْنَى: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ مَعَ غَيْرِ وَلَدٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ. إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا انْفَرَدَا بِالْإِرْثِ، فَيَتَقَاسَمَانِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَبَ أَقْوَى فِي الْإِرْثِ مِنَ الْأُمِّ، إِذْ يَضْعُفُ نصيبه على نصيبها إذ انْفَرَدَا بِالْإِرْثِ، وَيَرِثُ بِالْفَرْضِ وَبِالتَّعْصِيبِ وَبِهِمَا. وَفِي قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ: يَكُونُ لَهَا مَعَ الزَّوْجِ وَالْأَبِ مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ، فَتَصِيرُ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ، وَتَصِيرُ الْأُنْثَى لَهَا مِثْلَا حَظِّ الذَّكَرِ، وَلَا دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ.
وَفِي إِقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الْأَبِ خِلَافٌ. فَمَنْ قَالَ: أَنَّهُ أَبٌ وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَةَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ. وَقَالَ بِمَقَالَتِهِ بَعْدَ وفاته: أبي ومعاذ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عبد الله، وعائشة، وعطاء، وطاووس، والحسن، وقتادة، وأبو حنيفة، وإسحاق، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَذَهَبَ عَلِيٌّ، وزيد، وَابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَى تَوْرِيثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنَ الثُّلُثِ مَعَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ، إِلَّا مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْقَصُ مَعَهُمْ مِنَ السُّدُسِ شَيْئًا فِي قَوْلِ: زَيْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ: مَالِكٍ، والأوزاعي، والشافعي، ومحمد، وَأَبِي يُوسُفَ. كَانَ عَلِيٌّ يُشْرِكُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ فِي السُّدُسِ، وَلَا يُنْقِصُهُ مِنَ السُّدُسِ شَيْئًا مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يُسْقِطُ بَنِي الْإِخْوَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ، إِلَّا مَا
رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ علي: أنه أجرى بين الْإِخْوَةِ فِي الْمُقَاسَمَةِ مَجْرَى الإخوة.
(١) سورة النساء: ٤/ ١١. [.....]
539
وَأَمَّا أُمُّ الْأُمِّ فَتُسَمَّى أُمًّا مَجَازًا، لَكِنْ لَا يُفْرَضُ لَهَا الثُّلُثُ إِجْمَاعًا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمٌّ، وَعَلَى أَنَّ الْأُمَّ تَحْجُبُ أُمَّهَا وَأُمَّ الْأَبِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَحْجُبُ أُمَّ الْأُمِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ وَابْنَتِهَا. فَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ: أَنَّهَا لَا تَرِثُ وَابْنَتُهَا حَيَّةٌ، وَبِهِ قال: الأوزاعي، والثوري، ومالك، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أيضا، وعمرو ابن مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَجَابِرٍ: أَنَّهَا تَرِثُ مَعَهَا.
وَقَالَ به: شريك، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ: كَمَا أَنَّ الْجَدَّ لَا يَحْجُبُهُ إِلَّا الْأَبُ، كَذَلِكَ الْجَدَّةُ لَا يَحْجُبُهَا إِلَّا الْأُمُّ.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: فَلِإِمِّهِ هُنَا مَوْضِعَيْنِ، وَفِي الْقَصَصِ فِي أُمِّها «١» وَفِي الزُّخْرُفِ: فِي أُمِّ الْكِتابِ «٢» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، لِمُنَاسَبَةِ الْكَسْرَةِ وَالْيَاءِ. وَكَذَا قَرَأَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ «٣» فِي النَّحْلِ وَالزَّمَرِ وَالنَّجْمِ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ «٤» فِي النُّورِ. وَزَادَ حَمْزَةُ: فِي هَذِهِ كَسْرَ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ الْهَمْزَةِ وَهَذَا فِي الدرج. فإذا ابتدأ بضم الْهَمْزَةَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ دَرَجًا وَابْتِدَاءً. وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ كَسْرَ الْهَمْزَةِ مِنْ أُمٍّ بَعْدَ الْيَاءِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ. وَذَكَرَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: أَنَّهَا لُغَةٌ هوازن وهذيل.
فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، الْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ أب وأم وإخوة، كان نصيب الأم السدس، وحطها الإخوة مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَصَارَ الْأَبُ يَأْخُذُ خَمْسَةَ الْأَسْدَاسِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ يَأْخُذُونَ مَا حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ وَهُوَ السُّدُسُ، وَلَا يَأْخُذُهُ الْأَبُ. وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ الْأَبَ يَأْخُذُهُ لَا الْإِخْوَةَ، لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. قال قتادة: وَإِنَّمَا أَخَذَهُ الْأَبُ دُونَهُمْ لِأَنَّهُ يَمُونُهُمْ وَيَلِي نِكَاحَهُمْ وَالنَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ. وَظَاهِرُ لَفْظِ إِخْوَةٌ اخْتِصَاصُهُ بِالْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، لِأَنَّ إِخْوَةٌ جَمْعُ أَخٍ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ فَقَالُوا: الْإِخْوَةُ تَحْجُبُ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ دُونَ الْأَخَوَاتِ، وَعِنْدَنَا يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ. فَإِذَنْ يَصِيرُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِخْوَةٌ، مُطْلَقَ الْأُخُوَّةِ، أَيْ: أَشِقَّاءُ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ، ذكورا أو إناثا، أو الصِّنْفَيْنِ. وَظَاهِرُ لَفْظِ إِخْوَةٌ، الْجَمْعُ. وَأَنَّ الَّذِينَ يَحُطُّونَ الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَخَوَاتُ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ لَا يُحَطَّانِ كَمَا لَا يُحَطُّ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَخَوَيْنِ حُكْمُهُمَا فِي الْحَطِّ حُكْمُ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا.
وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ: هَلِ الْجَمْعُ أَقَلُّهُ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ؟ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا في أصول
(١) سورة القصص: ٢٨/ ١٠، ١٢.
(٢) سورة الزخرف: ٤٣/ ٤.
(٣) سورة النحل: ١٦/ ٧٨، وسورة الزمر: ٣٩/ ٦.
(٤) سورة النور: ٢٤/ ٦١.
540
الْفِقْهِ، وَالْبَحْثُ فِيهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَلْيَقُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِخْوَةُ تُفِيدُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بِغَيْرِ كَمِّيَّةٍ، وَالتَّثْنِيَةُ كَالتَّثْلِيثِ وَالتَّرْبِيعِ فِي إِفَادَةِ الْكَمِّيَّةِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَدَلَّ بِالْإِخْوَةِ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَلَا نُسَلِّمُ لَهُ دَعْوَى أَنَّ الْإِخْوَةَ تُفِيدُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، بَلْ تُفِيدُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الَّتِي بَعْدَ التَّثْنِيَةِ بِغَيْرِ كَمِّيَّةٍ فِيمَا بَعْدَ التَّثْنِيَةِ، فَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ دَعَوَاهُ إِلَى دَلِيلٍ. وَظَاهِرُ إِخْوَةٌ الْإِطْلَاقُ، فَيَتَنَاوَلُ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ فَيَحْجُبُونَ كَمَا قُلْنَا قَبْلُ. وَذَهَبَ الرَّوَافِضُ: إِلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ، لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْجُبُوهَا وَيَجْعَلُوهُ لِغَيْرِهَا فَيَصِيرُونَ ضَارِّينَ لَهَا نَافِعِينَ لِغَيْرِهَا. وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْبِنْتَ تَقْلِبُ حَقَّ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ، لِأَنَّهَا إِذَا حُرِمَتِ الثُّلُثَ بِالْإِخْوَةِ وَانْتَقَلَتْ إِلَى السُّدُسِ فَلَأَنْ تُحْرَمَ بِالْبِنْتِ أَوْلَى.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ الْمَعْنَى: أَنَّ قِسْمَةَ الْمَالِ بَيْنَ مَنْ ذُكِرَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ بِوَصِيَّةٍ، أَوْ بِدَيْنٍ. وَلَيْسَ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ بِالتَّرِكَةِ سَوَاءً، إِذْ لَوْ هَلَكَ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْءٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ذَهَبَ مِنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ جَمِيعًا، وَيَبْقَى الْبَاقِي بَيْنَهُمْ بِالشَّرِكَةِ، وَلَا يَسْقُطُ مِنَ الدَّيْنِ شَيْءٌ بِهَلَاكِ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ. وَتَفْصِيلُ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا ذَكَرُوا أَنَّهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ وَصِيَّةٍ مِنْ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، بَلْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِنَقْصِ الْمَالِ. وَيُبَيِّنُ أَيْضًا ذَلِكَ قَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ «١»، الْآيَةَ. إِذْ لَوْ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَكَانَ هَذَا الْجَوَازُ نَاسِخًا لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ دَلَّ الْخَبَرُ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَقَدِ اسْتَحَبُّوا النُّقْصَانَ عَنْهُ هَذَا إِذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَّا فِي الثُّلُثِ. وَقَالَ شَرِيكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ:
يَجُوزُ بِجَمِيعِ مَالِهِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ مُعَلَّلٌ بِوُجُودِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ وَأَجَازَ لِظَاهِرِ إِطْلَاقِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ إِذَا فُقِدَ مُوجِبُ تَخْصِيصِ الْبَعْضِ جَازَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: من بعد وصية يوصي بِهَا أَوْ دَيْنٍ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ لِآدَمِيٍّ وَلَا وَصِيَّةٌ، يَكُونُ جَمِيعُ مَالِهِ لِوَرَثَتِهِ وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٌ لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ إِلَّا أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ. وَالْوَصِيَّةُ مَنْدُوبٌ إليها، وقد كانت
(١) سورة النساء: ٤/ ٧.
541
وَاجِبَةً قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ فَنُسِخَتْ. وَادَّعَى قَوْمٌ وُجُوبَهَا. وَتَتَعَلَّقُ مِنْ بِمَحْذُوفٍ أَيْ:
يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ، كَمَا فَصَّلَ من بعد وصية، ويوصي في موضع الصفة، وبها متعلق بيوصي، وَهُوَ مُضَارِعٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي. وَالْمَعْنَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا. وَمَعْنَى: أَوْ دَيْنٍ، لَزِمَهُ. وَقَدَّمَ الْوَصِيَّةَ عَلَى الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَدَاءُ الدَّيْنِ هُوَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِإِجْمَاعٍ اهْتِمَامًا بِهَا وَبَعْثًا عَلَى إِخْرَاجِهَا، إِذْ كَانَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ شَاقًّا عَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا مَظِنَّةً لِلتَّفْرِيطِ فِيهَا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ. فَإِنَّ نَفْسَ الْوَارِثِ مُوَطَّنَةٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَلِذَلِكَ سَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّيْنِ بِلَفْظِ: أَوْ، فِي الْوُجُوبِ. أَوْ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا فِي الشَّرْعِ مَحْضُوضٌ عَلَيْهَا، فَصَارَتْ لِلْمُؤْمِنِ كَالْأَمْرِ اللَّازِمِ لَهُ. وَالدَّيْنُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وقد لا يكون، فبدىء بِمَا كَانَ وُقُوعُهُ كَاللَّازِمِ، وَأُخِّرَ مَا لَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ. وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ كَانَ العطف بأو، إِذْ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ رَاتِبٌ لَازِمٌ لَهُ، لَكَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ حَظُّ مَسَاكِينَ وَضِعَافٍ، وَالدَّيْنَ حَظُّ غَرِيمٍ يَطْلُبُهُ بِقُوَّةٍ. وَلَهُ فِيهِ مَقَالٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى أَوْ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهَا الْإِبَاحَةُ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا قُدِّمَ عَلَى قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ، أَوِ ابْنَ سيرين انتهى.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ مَا وَجَبَ بِالْوَصِيَّةِ أَوِ الدَّيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ مَا وَجَبَ بِهَا سَابِقٌ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمَا أَسْبَقُ مَا يُخْرَجُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، إِذِ الْأَسْبَقُ هُوَ مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ مِنْ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَحَمْلِهِ وَوَضْعِهِ فِي قَبْرِهِ، أَوْ ما يحتاج إليه من ذَلِكَ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَأَبُو بَكْرٍ: يُوصَى فِيهِمَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَتَابَعَهُمْ حَفْصٌ عَلَى الثَّانِي فَقَطْ، وَقَرَأَهُمَا الْبَاقُونَ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: هُوَ فِي الْآخِرَةِ لَا يَدْرُونَ أَيُّ الْوَالِدَيْنِ أَرْفَعُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ لِيَشْفَعَ فِي وَلَدِهِ، وَكَذَا الْوَلَدُ فِي وَالِدَيْهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: إِذَا اضْطُرَّ إِلَى إِنْفَاقِهِمْ لِلْفَاقَةِ.
وَنَحَا إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ، وَقَدْ يُنْفِقُونَ دُونَ اضْطِرَارٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْمِيرَاثِ وَالشَّفَاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ:
أَسْرَعُ مَوْتًا فَيَرِثُهُ الْآخَرُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: أَيْ فَاقْسِمُوا الْمِيرَاثَ عَلَى مَا بَيَّنَ لَكُمْ مَنْ يَعْلَمُ النَّفْعَ وَالْمَصْلَحَةَ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَنْتُمْ ذَلِكَ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. قَالَ: مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ الْفَرَائِضَ عَلَى مَا هُوَ عِنْدَهُ حِكْمَةً، وَلَوْ وَكَلَ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ لَمْ تَعْلَمُوا أَيُّهُمْ
542
أَنْفَعُ لَكُمْ، فَتَضَعُونَ الْأَمْوَالَ عَلَى غَيْرِ حِكْمَةٍ، وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً «١» حكما أَيْ عَلِيمٌ بِمَا يَصْلُحُ لِخَلْقِهِ، حَكِيمٌ فِيمَا فَرَضَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَعْرِيضٌ لِلْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَتَأْنِيسٌ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُوَرِّثُونَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ.
وَقِيلَ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي مَوْتِ الْمَوْرُوثِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا الْأَبُ بِالْحِفْظِ وَالتَّرْبِيَةِ، أَوِ الْأَوْلَادُ بِالطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالشَّفَقَةِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي يَعْلَى، قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ يَتَفَاوَتُونَ فِي النَّفْعِ، حَتَّى لَا يُدْرَى أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَفْعًا، لِأَنَّ الْأَوْلَادَ يَنْتَفِعُونَ فِي صِغَرِهِمْ بِالْآبَاءِ، وَالْآبَاءَ يَنْتَفِعُونَ فِي كِبَرِهِمْ بِالْأَبْنَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مُعَلِّقًا هَذِهِ الْجُمْلَةَ: بِالْوَصِيَّةِ، وَأَنَّهَا جَاءَتْ تَرْغِيبًا فِيهَا وَتَأْكِيدًا. قَالَ: لَا تَدْرُونَ مَنْ أَنْفَعُ لَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ، أَمَنْ أَوْصَى مِنْهُمْ أَمْ مَنْ لَمْ يُوصِ يَعْنِي:
أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِبَعْضِ مَالِهِ فَعَرَّضَكُمْ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ بِإِمْضَاءِ وَصِيَّتِهِ، فَهُوَ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، وَأَحْضَرُ جَدْوَى مِمَّنْ تَرَكَ الْوَصِيَّةَ فَوَفَّرَ عَلَيْكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَجَعَلَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ أَقْرَبَ وَأَحْضَرَ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا ذَهَابًا إِلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ عَرَضَ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ عَاجِلًا قَرِيبًا فِي الصُّورَةِ إِلَّا أَنَّهُ فَانٍ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَبْعَدُ الْأَقْصَى، وَثَوَابُ الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ آجِلًا إِلَّا أَنَّهُ بَاقٍ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَقْرَبُ الْأَدْنَى انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ خِطَابُهُ. وَالْوَصِيَّةُ فِي الْآيَةِ لَمْ يَأْتِ ذِكْرُهَا لِمَشْرُوعِيَّتِهَا وَأَحْكَامِهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقِسْمَةَ تَكُونُ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا وَإِخْرَاجِ الدَّيْنِ، فَلَيْسَتْ مِمَّا يَحْدُثُ عَنْهَا، وَتُفَسَّرُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِهَا. وَلَكِنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُ الِابْنِ وَالْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ، فَكَانَ حُكْمُ الِابْنِ إِذَا مَاتَ الْأَبُ عَنْهُ وَعَنْ أُنْثَى، أَنْ يَرِثَ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَكَانَ حُكْمُ الْأَبَوَيْنِ إِذَا مَاتَ الِابْنُ عَنْهُمَا وَعَنْ وَلَدٍ أَنْ يَرِثَ كُلٌّ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَكَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الْوَالِدِ أَوْفَرَ مِنْ نَصِيبِ الِابْنِ، إِذْ ذَاكَ لِمَا لَهُ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالتَّرْبِيَةِ مِنْ نَشْئِهِ إِلَى اكْتِسَابِهِ الْمَالَ إِلَى مَوْتِهِ، مَعَ مَا أُمِرَ بِهِ الِابْنُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ بِرِّ أَبِيهِ. أَوْ يَكُونُ نَصِيبُهُ مِثْلَ نَصِيبِ ابْنِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِجْرَاءً لِلْأَصْلِ مَجْرَى الْفَرْعِ فِي الْإِرْثِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ قِسْمَتَهُ هِيَ الْقِسْمَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا وَشَرَعَهَا، وَأَنَّ الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ الَّذِينَ شُرِعَ فِي مِيرَاثِهِمْ مَا شُرِعَ لَا نَدْرِي نَحْنُ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَفْعًا، بَلْ عِلْمُ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِعِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ. فَالَّذِي شَرَعَهُ هُوَ الْحَقُّ لَا مَا يَخْطُرُ بِعُقُولِنَا نَحْنُ، فَإِذَا كَانَ عِلْمُ ذَلِكَ عَازِبًا عَنَّا فَلَا نَخُوضُ فِيمَا لَا نَعْلَمُهُ، إِذْ هِيَ أَوْضَاعٌ مِنَ الشَّارِعِ لَا نَعْلَمُ نَحْنُ عِلَلَهَا ولا
(١) سورة النساء: ٤/ ١١.
543
نُدْرِكُهَا، بَلْ يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَجَمِيعُ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي كَوْنِهَا لَا تُعْقَلُ عِلَلُهَا هِيَ مِثْلُ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ سَوَاءٌ.
قَالُوا: وَارْتَفَعَ أَيُّهُمْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ أَقْرَبُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لتدرون، وتدرون من أفعال القلوب. وأيهم اسْتِفْهَامٌ تَعَلَّقَ عَنِ الْعَمَلِ فِي لَفْظِهِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي غَيْرِ الِاسْتِثْبَاتِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَيَجُوزُ فِيهِ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرُوهُ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ أَيُّهُمْ مَوْصُولَةً مَبْنِيَّةً عَلَى الضم، وهي مفعول بتدرون، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هُمْ أَقْرَبُ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ «١» وَقَدِ اجْتَمَعَ شَرْطُ جَوَازِ بِنَائِهَا وَهُوَ أَنَّهَا مُضَافَةٌ لَفْظًا مَحْذُوفٌ صَدْرُ صِلَتِهَا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ انْتَصَبَ فَرِيضَةً انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ مَعْنَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ يَفْرِضُ اللَّهُ لَكُمْ. وَقَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ هِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ لَيْسَتْ مَصْدَرًا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، حَكِيمًا فِيمَا فَرَضَ، وَقَسَّمَ مِنَ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَانَ إِذَا جَاءَتْ فِي نِسْبَةِ الْخَبَرِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا التَّامَّةُ وَانْتَصَبَ عَلِيمًا عَلَى الْحَالِ فقوله: ضعيف، أو أنهار زَائِدَةٌ فَقَوْلُهُ: خَطَأٌ.
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِيرَاثَ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ، وَمِيرَاثَ الْأُصُولِ مِنَ الْفُرُوعِ، أَخَذَ فِي ذِكْرِ مِيرَاثِ الْمُتَّصِلِينَ بِالسَّبَبِ لَا بِالنَّسَبِ وَهُوَ لِلزَّوْجِيَّةِ هُنَا، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ التَّوَارُثُ بِسَبَبِ الْوَلَاءِ. وَالتَّوَارُثُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الشَّرْعِ هُوَ بِالنَّسَبِ، وَالسَّبَبِ الشَّامِلِ لِلزَّوْجِيَّةِ وَالْوَلَاءِ. وَكَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يُتَوَارَثُ بِالْمُوَالَاةِ وَالْخَلَفِ وَالْهِجْرَةِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَقُدِّمَ ذِكْرُ مِيرَاثِ سَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الْكَلَالَةِ وَإِنْ كَانَ بِالنَّسَبِ، لِتَوَاشُجِ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَاتِّصَالِهِمَا، وَاسْتِغْنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِعِشْرَةِ صَاحِبِهِ دُونَ عِشْرَةِ الكلالة، وبدىء بِخِطَابِ الرِّجَالِ لِمَا لَهُمْ مِنَ الدَّرَجَاتِ عَلَى النِّسَاءِ. وَلِمَا كَانَ الذَّكَرُ مِنَ الْأَوْلَادِ حَظُّهُ مَعَ الْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، جُعِلَ فِي سَبَبِ التَّزَوُّجِ الذِّكْرُ لَهُ مِثْلَا حَظِّ الْأُنْثَى. وَمَعْنَى: كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ أَيْ: مِنْكُمْ أَيُّهَا الْوَارِثُونَ، أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَالْوَلَدُ: هُنَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنْ وَلَدَتْهُ لِبَطْنِهَا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَاحِدًا كَانَ أو أكثر، وحكم بين الذُّكُورِ مِنْهَا وَإِنْ سَفَلُوا حُكْمُ الْوَلَدِ لِلْبَطْنِ، فِي أَنَّ فَرْضَ الزَّوْجِ مِنْهَا الرُّبُعُ مَعَ وُجُودِهِ بِإِجْمَاعٍ.
(١) سورة مريم: ١٩/ ٦٩.
544
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ الْوَلَدُ هُنَا كَالْوَلَدِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ. وَالرُّبُعُ وَالثُّمُنُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَاتُ إِنْ وُجِدْنَ، وَتَنْفَرِدُ بِهِ الْوَاحِدَةُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُمَا يُعْطَيَانِ فَرْضَهُمَا الْمَذْكُورَ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعَوْلَ يَلْحَقُ فَرْضَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، كَمَا يَلْحَقُ سَائِرَ الْفَرَائِضِ الْمُسَمَّاةِ.
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ الْكَلَالَةُ: خُلُوُّ الْمَيِّتِ عن الوالد والوالد قاله: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وسليم بن عبيد، وقتادة، والحكم، وابن زيد، والسبيعي. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هِيَ الْخُلُوُّ مِنَ الْوَلَدِ فَقَطْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ثُمَّ رَجَعَا عَنْهُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْإِخْوَةِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ: إِنَّهُمْ يَحُطُّونَ الْأُمَّ وَيَأْخُذُونَ مَا يَحُطُّونَهُ. وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ:
إِذْ وَرِثَهُمْ بِأَنَّ الْفَرِيضَةَ كَلَالَةً أَنْ يُعْطِيَهُمُ الثُّلُثَ بِالنَّصِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ: الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، هِيَ الْخُلُوُّ مِنَ الْوَلَدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا إن الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، لِأَنَّ مَنْ بَقِيَ وَالِدُهُ أَوْ وَلَدُهُ فَهُوَ مَوْرُوثٌ بِنَسَبٍ لَا بِتَكَلُّلٍ. وَأَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ الْآنَ عَلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ لَا يَرِثُونَ مَعَ ابْنٍ وَلَا أَبٍ، وَعَلَى هَذَا مَضَتِ الْأَعْصَارُ وَالْأَمْصَارُ انْتَهَى.
وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا. فَقِيلَ: مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ، فَكَأَنَّهُ يَصِيرُ الْمِيرَاثُ إِلَى الْوَارِثِ مِنْ بَعْدِ إِعْيَاءٍ. قَالَ الأعشى:
فيا ليت لَا أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ وَلَا مِنْ وَجًى حَتَّى نُلَاقِيَ مُحَمَّدًا
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَلَالَةُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكَلَالِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْقُوَّةِ مِنَ الْإِعْيَاءِ. فَاسْتُعِيرَتْ لِلْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، لِأَنَّهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى قَرَابَتِهَا كَالَّةٌ ضَعِيفَةٌ. انْتَهَى. وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مَنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ أَحَاطَ بِهِ. وَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا فَقَدِ انْقَطَعَ طَرَفَاهُ، وَهُمَا عَمُودَا نَسَبِهِ، وَبَقِيَ مَوْرُوثُهُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ أَيْ: يُحِيطُ بِهِ مِنْ نَوَاحِيهِ كَالْإِكْلِيلِ. وَمِنْهُ رَوْضٌ مُكَلَّلٌ بِالزَّهْرِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا يَرِثُهُ أَبٌ وَلَا أُمٌّ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْكَلَالَةَ الْمَيِّتُ الَّذِي لَا والد لَهُ وَلَا مَوْلُودَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ صاحب الْعَيْنِ، وَأَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ، وَابْنِ عَرَفَةَ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، والعتبي، وَأَبِي عُبَيْدَةَ. وَغَلِطَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي ذِكْرِ الْأَخِ
545
مَعَ الْأَبِ وَالْوَلَدِ. وَقُطْرُبٌ فِي قَوْلِهِ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِمَنْ عَدَا الْأَبَوَيْنِ وَالْأَخِ، وَسُمِّي مَا عَدَا الْأَبَ وَالْوَلَدَ كَلَالَةً، لِأَنَّهُ بِذَهَابِ طَرَفَيْهِ تَكَلَّلَهُ الْوَرَثَةُ وَطَافُوا بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي جَابِرٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَ نُزُولِهَا ابْنٌ وَلَا أَبٌ، لِأَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَصَارَتْ قِصَّةُ جَابِرٍ بَيَانًا لِمُرَادِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْكَلَالَةُ فِي الْآيَةِ فَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الْمَالُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْكَلَالَةُ الْوَرَثَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّاغِبِ قَالَ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِكُلِّ وَارِثٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْمَرْءُ يَجْمَعُ لِلْغِنَى وَلِلْكَلَالَةِ مَا يسيم
وقال عمرو ابن عَبَّاسٍ: الْكَلَالَةُ الْمَيِّتُ الْمَوْرُوثُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْوَرَثَةُ بِجُمْلَتِهَا كُلُّهُمْ كَلَالَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُورَثُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، مِنْ أُورِثَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مَنْ أَوْرَثَ أَيْضًا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا. مِنْ وَرَّثَ. فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَمَعْنَى الْكَلَالَةِ أَنَّهُ الْمَيِّتُ أَوِ الوارث، فانتصاب الكلالة عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن فِي يُورَثُ. وَإِذَا وَقَعَ عَلَى الْوَارِثِ احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ: ذَا كَلَالَةٍ، لِأَنَّ الْكَلَالَةَ إِذْ ذَاكَ لَيْسَتْ نَفْسَ الضَّمِيرِ فِي يُورَثُ. وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَالَةِ الْقَرَابَةَ، فَانْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ: يُورَثُ لِأَجْلِ الْكَلَالَةِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْكَلَالَةُ هِيَ الْمَيِّتَ فَانْتِصَابُهَا عَلَى الْحَالِ، وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ، التَّقْدِيرُ: يُورِثُ وَارِثَهُ مَالَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ كَلَالَةً. وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهَا الْوَارِثَ فَانْتِصَابُ الْكَلَالَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ به بيورث، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: يُورَثُ كَلَالَةً مَالُهُ أَوِ الْقَرَابَةُ، فَعَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ فِي كَانَ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، فَيَكُونَ يُورَثُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْخَبَرِ. وَتَامَّةً فَتَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ. وَيَجُوزُ إِذَا كَانَتْ نَاقِصَةً وَالْكَلَالَةُ بِمَعْنَى الْمَيِّتِ، أَنْ يَكُونَ يُورَثُ صِفَةً، وَيَنْتَصِبُ كَلَالَةً عَلَى خَبَرِ كَانَ، أَوْ بِمَعْنَى الْوَارِثِ. فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ مَوْرُوثٌ ذَا كَلَالَةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْكَلَالَةُ الْمَالُ، فَيَنْتَصِبُ كَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، سَوَاءٌ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْفَاعِلِ أَوْ لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَلَالَةُ الْوِرَاثَةُ، وَيَنْتَصِبُ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وِرَاثَةً كَلَالَةً.
وَقَدْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمُلَخَّصُ مَا قِيلَ فِيهَا: أَنَّهَا الْوَارِثُ، أَوِ الْمَيِّتُ الْمَوْرُوثُ، أَوِ الْمَالُ الْمَوْرُوثُ، أَوِ الْوِرَاثَةُ، أَوِ الْقَرَابَةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُورَثُ أَيْ: يُورَثُ مِنْهُ،
546
فَيَكُونُ هُوَ الْمَوْرُوثَ لَا الْوَارِثَ. وَيُوَضِّحُهُ قِرَاءَةُ مَنْ كَسَرَ الرَّاءَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَإِنْ جَعَلْتَ يُورَثُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَوْرَثَ فَمَا وَجْهُهُ؟ (قُلْتُ) : الرَّجُلُ حِينَئِذٍ هُوَ الْوَارِثُ لَا الْمَوْرُوثُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى مَنْ يَرْجِعُ حِينَئِذٍ؟ (قُلْتُ) : إِلَى الرَّجُلِ وَإِلَى أَخِيهِ وَأُخْتِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِلَيْهِمَا (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا أَفَادَ اسْتِوَاءَهُمَا فِي حِيَازَةِ السُّدُسِ مِنْ غَيْرِ مُفَاضَلَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَهَلْ تَبْقَى هَذِهِ الْفَائِدَةُ قَائِمَةً فِي هَذَا الْوَجْهِ؟ [قُلْتُ] : نَعَمْ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: السُّدُسُ لَهُ، أَوْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْأَخِ أَوِ الْأُخْتِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَقَدْ سَوَّيْتَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُلَخَّصُ مَا قَالَ:
أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنْ كَانَ أَحَدُ اللَّذَيْنِ يُورِثُهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ لَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ مِنْ أَخٍ أَوْ أخت، فلكل واحد منهما السدس. وعطف وامرأة عَلَى رَجُلٌ، وَحَذَفَ مِنْهَا مَا قَيَّدَ بِهِ الرَّجُلَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: أَوِ امرة تُورَثُ كَلَالَةً. وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ الْعَطْفِ لَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْمَعْطُوفِ بِقَيْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالضَّمِيرُ فِي: وَلَهُ، عَائِدٌ عَلَى الرَّجُلِ نَظِيرُ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «١» فِي كَوْنِهِ عَادَ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَعْطُوفِ تَقُولُ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ قَامَتْ، نَقَلَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ هَذَا الْحُكْمِ. وَزَادَ الْفَرَّاءُ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ: أَنْ يُسْنَدَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا رَدَّدَتْ بَيْنَ اسمين بأو، أَنْ تُعِيدَ الضَّمِيرَ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَإِلَى أَحَدِهِمَا أَيَّهَمَا شِئْتَ. تَقُولُ: مَنْ كَانَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلْيَصِلْهُ. وَإِنْ شِئْتَ فَلْيَصِلْهَا انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «٢» وَقَدْ تَأَوَّلَهُ مَنْ مَنَعَ الْوَجْهَ. وَأَصْلُ أُخْتٍ أَخَوَةٍ عَلَى وَزْنِ شَرَرَةٍ، كَمَا أَنَّ بِنْتًا أَصْلُهُ بَنَيَةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي ابْنٍ، أَهُوَ الْمَحْذُوفُ مِنْهُ وَاوٌ أَوْ يَاءٌ؟ قِيلَ: فَلَمَّا حُذِفَتْ لَامُ الْكَلِمَةِ وَتَاءُ التَّأْنِيثِ، وَأَلْحَقُوا الْكَلِمَةَ بِقُفْلٍ وَجِذْعٍ بِزِيَادَةِ التَّاءِ آخِرَهُمَا قَالَ الْفَرَّاءُ: ضُمَّ أَوَّلُ أُخْتٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ وَاوٌ، وَكُسِرَ أَوَّلُ بِنْتٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ يَاءٌ انْتَهَى. وَدَلَّتْ هَذِهِ التَّاءُ الَّتِي لِلْإِلْحَاقِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ مِنَ التَّأْنِيثِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ الْإِطْلَاقُ، إِذِ الْأُخُوَّةُ تكون بين الأحفاد وَالْأَعْيَانِ وَأَوْلَادِ الْعَلَّاتِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنَ الْأُمِّ. وَقِرَاءَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: وَلَهُ أخ أو أخت من أُمٍّ، وَاخْتِلَافُ الْحُكْمَيْنِ هُنَا، وَفِي آخِرِ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَحْكُومِ لَهُ، إِذْ هُنَا الِابْنَانِ أَوِ الْإِخْوَةُ يَشْتَرِكُونَ فِي الثُّلُثِ فَقَطْ ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ. وَهُنَاكَ يَحُوزُونَ المال للذكر
(١) سورة الجمعة: ٦٢/ ١١.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٣٥.
547
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْبِنْتَانِ لَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى أَخٌ أَوْ أُخْتٌ. وَعَلَى مَا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعُودُ عَلَى أَحَدِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَأَحَدِ أَخٍ وَأُخْتٍ، وَلَوْ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَشِقَّاءَ فَلَهُ النِّصْفُ وَلَهُمَا السُّدُسُ، وَلَهُمُ الْبَاقِي أو لأم فَلَهُمُ الثُّلُثُ. أَوْ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَشِقَّاءَ فَهَذِهِ الْحَمَّادِيَّةُ. فَهَلْ يَشْتَرِكُ الْجَمِيعُ فِي الثُّلُثِ، أَمْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْأَخَوَانِ لِأُمٍّ؟ قَوْلَانِ، قَالَ بِالتَّشْرِيكِ عُمَرُ فِي آخِرِ قَضَائِهِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ بِالِانْفِرَادِ: عَلِيٌّ وأبو موسى، وأبي، وَابْنُ عَبَّاسٍ.
فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَخٍ أَوْ أُخْتٍ، أَيْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِأَنَّ لَهُ السُّدُسَ هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ فَهُوَ وَاحِدٌ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَى الِاثْنَيْنِ بِأَنَّ لَهُمَا جَمِيعًا السُّدُسَ، فَتَصِحُّ الْأَكْثَرِيَّةُ فِيمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ وَهُوَ ذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى هُنَا بِأَكْثَرَ يَعْنِي: فَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ أَيْ: عَلَى الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى، لِتَنَافِي مَعْنَى كَثِيرٍ وَوَاحِدٍ، إِذِ الْوَاحِدُ لَا كَثْرَةَ فِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ: فإن كانوا، وفهم شُرَكَاءُ غَلَبَ ضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِالْوَاوِ وَبِلَفْظِ، فَهُمْ هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا قُرِّرَتْ فِيهِ الْأَحْكَامُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ أَخًا أَوْ أُخْتًا، أَيْ أَحَدَ هَذَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ أَوْ أَكْثَرُ اشْتَرَكُوا فِي الثُّلُثِ، أَمَّا إِذَا تَرَكَ اثْنَيْنِ مِنْ أَخٍ أَوْ أُخْتٍ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَةِ.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ الضَّمِيرُ فِي يُوصَى عَائِدٌ عَلَى رَجُلٌ، كَمَا عَادَ عَلَيْهِ فِي: وَلَهُ أَخٌ. وَيُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الْمَوْرُوثُ لَا الْوَارِثُ، لِأَنَّ الَّذِي يُوصِي أَوْ يَكُونُ عَلَيْهِ الدَّيْنُ هُوَ الْمَوْرُوثَ لَا الْوَارِثَ. وَمَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ:
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ «١» أَنَّهُ هُوَ الْوَارِثُ لَا الْمَوْرُوثُ، جَعَلَ الْفَاعِلَ فِي يُوصَى عَائِدًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ المعنى من الْوَارِثِ. كَمَا دَلَّ الْمَعْنَى عَلَى الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ «٢» لِأَنَّهُ عُلِمَ أَنَّ الْمُوصِيَ وَالتَّارِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا الْمَوْرُوثَ، لَا الْوَارِثَ. وَالْمُرَادُ: غَيْرُ مُضَارٍّ، وَرَثَتَهُ بِوَصِيَّتِهِ أَوْ دَيْنِهِ. وَوُجُوهُ الْمُضَارَّةِ كَثِيرَةٌ: كَأَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ لِوَارِثِهِ، أَوْ بِالثُّلُثِ، أَوْ يُحَابِيَ بِهِ، أَوْ يَهَبَهُ، أَوْ يَصْرِفَهُ إِلَى وُجُوهِ الْقُرْبِ مِنْ عِتْقٍ وَشِبْهِهِ فِرَارًا عَنْ وَارِثٍ مُحْتَاجٍ، أَوْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ لَيْسَ عَلَيْهِ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَا دَامَ فِي الثُّلُثِ لَا يُعَدُّ مُضَارًّا، وَيَنْبَغِي اعْتِبَارُ هَذَا الْقَيْدِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ فِيمَا تَقَدَّمَ من ذكر قوله:
(١) سورة النساء: ٤/ ١٢.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١١.
548
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها «١» وتُوصُونَ ويُوصِينَ «٢» ويكون قَدْ حُذِفَ مِمَّا سَبَقَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْتَصُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى انْتِفَاءُ الضَّرَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ.
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ ضَارَّ فِي وَصِيَّتِهِ أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي وَادِي جَهَنَّمَ».
وَقَالَ قتادة: نَهَى اللَّهُ عَنِ الضِّرَارِ فِي الْحَيَاةِ وَعِنْدَ الْمَمَاتِ.
قَالُوا: وَانْتِصَابُ غَيْرَ مُضَارٍّ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي يُوصَى، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا يُوصَى. وَلَا يَجُوزُ مَا قَالُوهُ، لِأَنَّ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ دَيْنٍ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ دَيْنٍ، مَعْطُوفٌ عَلَى وَصِيَّةٍ الْمَوْصُوفَةِ بِالْعَامِلِ فِي الْحَالِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ مِنَ الْأَعْرَابِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا غَيْرَ مُضَارٍّ أَوْ دَيْنٍ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يُوصَى بِفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَّ لَمْ يُذْكَرْ لِأَنَّهُ مَحْذُوفٌ قَامَ مَقَامَهُ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ الْحَالِ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ. لَوْ قُلْتَ: تُرْسَلُ الرِّيَاحُ مُبَشِّرًا بِهَا بِكَسْرِ الشِّينِ، لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرًا بِهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَدَّرُ لَهُ نَاصِبٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ عَامًّا لِمَعْنَى مَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْمَالِ بِالْوَصِيَّةِ أَوِ الدَّيْنِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَلْزَمُ ذَلِكَ مَالَهُ أَوْ يُوجِبُهُ فِيهِ غَيْرَ مُضَارٍّ بِوَرَثَتِهِ بِذَلِكَ الْإِلْزَامِ أَوِ الْإِيجَابِ. وَقِيلَ: يُضْمَرُ يُوصِي لِدَلَالَةِ يُوصَى عَلَيْهِ، كَقِرَاءَةِ يُسَبَّحُ بِفَتْحِ الْبَاءِ. وَقَالَ رِجَالٌ: أَيْ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. وَانْتِصَابُ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَصِيَّةً، كَمَا انْتَصَبَ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ «٣».
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ يُوصِيكُمُ. وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ «٤» أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ «٥» وَجَوَّزَ هُوَ والزمخشري نصب وصية بمضار عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ، لِأَنَّ الْمُضَارَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا تَقَعُ بِالْوَرَثَةِ لَا بِالْوَصِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَرَثَةُ قَدْ وَصَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ صَارَ الضَّرَرُ الْوَاقِعُ بِالْوَرَثَةِ كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْوَصِيَّةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّخْرِيجَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ غَيْرَ مُضَارِّ وَصِيَّةٍ، فَخَفَضَ وَصِيَّةً بِإِضَافَةِ مُضَارٍّ إِلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ الْمَعْنَى: يَا سارقا في الليلة،
(١) سورة النساء: ٤/ ١١.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٢.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١١. [.....]
(٤) سورة النساء: ٤/ ١١.
(٥) سورة النساء: ٤/ ١٢.
549
لَكِنَّهُ اتَّسَعَ فِي الْفِعْلِ فَعَدَّاهُ إِلَى الظَّرْفِ تَعْدِيَتَهُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ، وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي هَذَا غَيْرَ مُضَارٍّ فِي: وَصِيَّةٍ مِنَ اللَّهِ، فَاتَّسَعَ وَعَدَّى اسْمَ الْفَاعِلِ إِلَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَسَاطَةٍ فِي تَعْدِيَتِهِ لِلْمَفْعُولِ بِهِ.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ عَلِيمٌ بِمَنْ جَارَ أَوْ عَدَلَ، حَلِيمٌ عَنِ الْجَائِرِ لَا يُعَاجِلُهُ بِالْعُقُوبَةِ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ أَيْ: أَنَّ الْجَائِرَ وَإِنْ لَمْ يُعَاجِلْهُ اللَّهُ بِالْعُقُوبَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ حَلِيمٌ هُوَ أَنْ لَا يؤاخذه بِالذَّنْبِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ يَدُلُّ عَلَى الصَّفْحِ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ. وَحَسُنَ ذَلِكَ هُنَا لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ، وَدَلَّ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمَوْرُوثُ فِي مُضَارَّتِهِ بِوَرَثَتِهِ فِي وَصِيَّتِهِ وَدَيْنِهِ، وَأَنَّ ذِكْرَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مُجَازَاتِهِ عَلَى مُضَارَّتِهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّفْحِ عَمَّنْ شَاءَ، وَذَلِكَ عَلَى عَادَةِ أَكْثَرِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِقَابِ، إِلَّا وَيُرْدِفُ بِمَا دَلَّ عَلَى الْعَفْوِ. وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْمِيرَاثِ، وَسَبَبُ الْمِيرَاثِ هُوَ الِاتِّصَالُ بِالْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَهُوَ النَّسَبُ أَوِ الزَّوْجِيَّةُ، أَوْ بِوَاسِطَةٍ فَهُوَ الْكَلَالَةُ.
فَتَقَدَّمَ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ ذَاتِيٌّ، وَالثَّانِي عَرَضٌ، وَأَخَّرَ الْكَلَالَةَ عَنْهُمَا لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ لَا يَعْرِضُ لَهُمَا سُقُوطٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِكَوْنِ اتِّصَالِهِمَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلِأَكْثَرِيَّةِ الْمُخَالَطَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قِيلَ: الْإِشَارَةُ بتلك إِلَى الْقِسْمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْمَوَارِيثِ. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ فِي أَحْوَالِ الْيَتَامَى وَالزَّوْجَاتِ وَالْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الشَّرَائِعَ حُدُودًا، لِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَعَدُّوهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حُدُودُ اللَّهِ طَاعَتُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: شُرُوطُهُ. وَقِيلَ: فَرَائِضُهُ. وَقِيلَ: سُنَنُهُ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لَمَّا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى حُدُودِهِ الَّتِي حَدَّهَا قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى عَامِلٍ بِهَا مُطِيعٍ، وَإِلَى غَيْرِ عَامِلٍ بِهَا عَاصٍ. وَبَدَأَ بِالْمُطِيعِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ تَعَالَى الطَّاعَةُ، إِذِ السُّورَةُ مُفْتَتَحَةٌ بِخِطَابِ النَّاسِ عَامَّةً، ثُمَّ أَرْدَفَ بِخِطَابِ مَنْ يَتَّصِفُ بِالْإِيمَانِ إِلَى آخِرِ الْمَوَارِيثِ، وَلِأَنَّ قِسْمَ الْخَيْرِ يَنْبَغِي أَنْ يُبْتَدَأَ بِهِ وَأَنْ يُعْتَنَى بِتَقْدِيمِهِ. وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: يطع، ويدخله، فَأَفْرَدَ ثُمَّ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: خَالِدِينَ. وَانْتِصَابُ خَالِدِينَ
550
عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُدْخِلْهُ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي يُدْخِلْهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَمَعَ خَالِدِينَ عَلَى مَعْنَى مَنْ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ الْإِفْرَادُ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ، وَعَكْسُ هَذَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ تَقَدُّمِ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ جَائِزٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَفِي مُرَاعَاةِ الْحَمْلَيْنِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ الْمُطَوَّلَةِ. وَقَالَ الزمخشري: وانتصب خالدين وخالدا عَلَى الْحَالِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صفتين لجنات ونارا؟ (قُلْتُ) : لَا، لِأَنَّهُمَا جَرَيَا عَلَى غَيْرِ مَنْ هُمَا لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الضَّمِيرِ وَهُوَ قَوْلُكَ: خَالِدِينَ هُمْ فِيهَا، وَخَالِدًا هُوَ: فِيهَا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ فُرِّعَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى إِبْرَازِ الضَّمِيرِ إِذَا لَمْ يُلْبِسْ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ في الآية الزجاج والتبريزي أَخَذَ بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: نُدْخِلْهُ هُنَا، وَفِي: نُدْخِلْهُ نَارًا بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْيَاءِ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الرَّاغِبُ: وَوَصْفُ الفوز بالعظم اعتبار يفوز الدُّنْيَا الْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «١» وَالصَّغِيرُ وَالْقَلِيلُ فِي وَصْفِهِمَا مُتَقَارِبَانِ.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ مُرَاعِي الْحُدُودِ ذَكَرَ عِقَابَ مَنْ يَتَعَدَّاهَا، وَغَلَّظَ فِي قِسْمِ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْعِصْيَانِ بَلْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ، وَنَاسَبَ الْخَتْمَ بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ الْمُتَعَدِّيَ لِلْحُدُودِ بَرَزَ فِي صُورَةِ مَنِ اغْتَرَّ وَتَجَاسَرَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقِلُّ الْمُبَالَاةُ بِالشَّدَائِدِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا الْهَوَانُ، وَلِهَذَا قَالُوا: الْمَنِيَّةُ وَلَا الدَّنِيَّةُ. قِيلَ: وَأَفْرَدَ خَالِدًا هُنَا، وَجَمَعَ فِي خَالِدِينَ فِيهَا، لِأَنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ أَهْلُ الشَّفَاعَةِ، وَإِذَا شَفَعَ فِي غَيْرِهِ دَخَلَهَا، وَالْعَاصِي لَا يَدْخُلُ النَّارَ بِهِ غَيْرَهُ، فَبَقِيَ وَحِيدًا انْتَهَى.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ: التَّفْصِيلَ فِي: الْوَارِثِ وَالْأَنْصِبَاءِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ الْآيَةَ. وَالْعُدُولَ مِنْ صِيغَةِ: يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ إِلَى يُوصِيكُمُ، لِمَا فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْحِرْصِ عَلَى اتِّبَاعِهَا. وَالطِّبَاقَ فِي: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَفِي:
مَنْ يُطِعْ وَمَنْ يَعْصِ، وَإِعَادَةَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ أَيْ: تَرَكَ الْمَوْرُوثُ. وَالتَّكْرَارَ فِي: لَفْظِ كَانَ، وَفِي فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ، وفي:
(١) سورة النساء: ٤/ ٧٧.
551
ولدا، وأبواه، وفي: من يعد وصية يوصي بها أو دَيْنٍ، وَفِي: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ، وَفِي:
حُدُودُ اللَّهِ، وَفِي: اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَتَلْوِينَ الْخِطَابِ فِي: مَنْ قَرَأَ نُدْخِلْهُ بِالنُّونِ. وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ.
[سُورَةُ النساء (٤) : الآيات ١٥ الى ٢٨]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
552
الْعِشْرَةُ: الصُّحْبَةُ وَالْمُخَالَطَةُ. يُقَالُ: عَاشَرُوا، وَتَعَاشَرُوا، وَاعْتَشَرُوا. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْشَارِ الْجُذُورِ، لِأَنَّهَا مُقَاسَمَةٌ وَمُخَالَطَةٌ. الْإِفْضَاءُ إِلَى الشَّيْءِ: الْوُصُولُ إِلَى فَضَاءٍ مِنْهُ، أَيْ سَعَةٍ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ. وَفِي مَثَلِ النَّاسِ فَوْضَى فُضِّيَ أَيْ: مُخْتَلِطُونَ، يُبَاشِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَيُقَالُ: فَضَا يَفْضُو فَضَاءً إِذَا اتَّسَعَ، فَأَلِفُ أَفْضَى مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ أَصْلُهَا وَاوٌ. الْمَقْتُ: الْبُغْضُ
553
الْمَقْرُونُ بِاسْتِحْقَارٍ حَصَلَ بِسَبَبِ أَمْرٍ قَبِيحٍ ارْتَكَبَهُ صَاحِبُهُ. الْعَمَّةُ: أُخْتُ الْأَبِ. الْخَالَةُ:
أُخْتُ الْأُمِّ، وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، دَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَخْوَالٌ فِي جَمْعِ الْخَالِ، وَرَجُلٌ مُخْوِلٌ كَرِيمُ الْأَخْوَالِ. الرَّبِيبَةُ: بِنْتُ زَوْجِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ. الْحَِجْرُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا: مُقَدَّمُ ثَوْبِ الْإِنْسَانِ وَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْهُ فِي حَالِ اللُّبْسِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ اللَّفْظَةُ فِي السَّيْرِ وَالْحِفْظِ، لِأَنَّ اللَّابِسَ إِنَّمَا يَحْفَظُ طِفْلًا، وَمَا أَشْبَهَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الثَّوْبِ، وَجَمْعُهُ حُجُورٌ.
الْحَلِيلَةُ: الزَّوْجَةُ، وَالْحَلِيلُ الزَّوْجُ قَالَ:
أَغْشَى فَتَاةَ الْحَيِّ عِنْدَ حَلِيلِهَا وَإِذَا غَزَا فِي الْجَيْشِ لَا أَغْشَاهَا
سُمِّيَتْ حَلِيلَةً لِأَنَّهَا تَحِلُّ مَعَ الزَّوْجِ حَيْثُ حَلَّ، فَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ. وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهَا مِنْ لَفْظِ الْحَلَالِ، فَهِيَ حَلِيلَةٌ بِمَعْنَى مُحَلَّلَةٍ. وَقِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحُلُّ إِزَارَ صَاحِبِهِ. الصُّلْبُ: الظَّهْرُ، وَصَلُبَ صَلَابَةً قَوِيَ وَاشْتَدَّ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ فِي كِتَابِ لُغَاتِ الْقُرْآنِ لَهُ: أَنَّ الصُّلْبَ وَهُوَ الظَّهْرُ، عَلَى وَزْنِ قُفْلٍ هُوَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ويقول فيه تميم وأسد: الصَّلَبُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ. قَالَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُهُمْ:
وَصَلَبٌ مِثْلُ الْعِنَانِ الْمُؤْدَمِ قَالَ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ بَنِي أَسَدٍ
إذا أقوم أشتكي صَلَبِي
الْمُحْصَنَةُ: الْمَرْأَةُ الْعَفِيفَةُ. يُقَالُ: أُحْصِنَتْ فَهِيَ مُحْصَنٌ، وَحَصُنَتْ فَهِيَ حَصَانٌ عَفَّتْ عَنِ الرِّيبَةِ وَمَنَعَتْ نَفْسَهَا مِنْهَا. وَقَالَ شَمِرٌ: يُقَالُ امْرَأَةٌ حَصَانٌ، وَحَاصِنٌ. قَالَ:
وَحَاصِنٍ مِنْ حَاصِنَاتٍ مُلْسِ مِنَ الْأَذَى وَمِنْ فِرَاقِ الْوَقْسِ
وَمَصْدَرُ حَصُنَتْ حَصْنٌ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: حَصَانَةٌ. وَيُقَالُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَحْصَنَ وَأَسْهَبَ وَأَبْعَجَ، مُفْعَلٌ بِفَتْحِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ، وَهُوَ شُذُوذٌ نَقَلَهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ. وَأَصْلُ الْإِحْصَانِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلدِّرْعِ وَلِلْمَدِينَةِ: حَصِينَةٌ وَالْحِصْنُ وَفَرَسٌ حَصَانٌ. الْمُسَافَحَةُ وَالسِّفَاحُ: الزِّنَا، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّفْحِ وَهُوَ الصَّبُّ، يَسْفَحُ كُلٌّ مِنَ الزَّانِيَيْنِ نُطْفَتَهُ. الْخِدْنُ وَالْخَدِينُ: الصَّاحِبُ. الطَّوْلُ: الْفَضْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: طَالَ عَلَيْهِ يَطُولُ طَوْلًا فَضَلَ عَلَيْهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَالزَّجَّاجُ: الطَّوْلُ الْقُدْرَةُ. انْتَهَى. وَيُقَالُ لَهُ: عَلَيْهِ طَوْلٌ أَيْ زِيَادَةٌ وَفَضْلٌ، وَقَدْ طَالَهُ طَوْلًا فَهُوَ طَائِلٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَقَدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِيَ أَنَّنِي بَغِيضٌ إِلَى كُلِّ امْرِئٍ غَيْرِ طَائِلٍ
وَمِنْهُ الطُّولُ فِي الْجِسْمِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْقِصَرَ قُصُورٌ فِيهِ وَنُقْصَانٌ. الْفَتَاةُ الْحَدِيثَةُ السِّنِّ وَالْفَتَاءُ الْحَدَاثَةُ. قَالَ: فَقَدْ ذَهَبَ الْمُرُوءَةُ وَالْفَتَاءُ. وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ
554
الْجَوَالِيقِيُّ: الْمُتَفَتِّيَةُ وَالْفَتَاةُ الْمُرَاهِقَةُ، وَالْفَتَى الرَّفِيقُ، وَمِنْهُ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ «١» وَالْفَتَى: الْعَبْدُ. وَمِنْهُ:
«لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَلَا أَمَتِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي».
الْمَيْلُ:
الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِوَاءِ. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي النِّسَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِالْفَاحِشَةِ هُنَا: الْمُسَاحَقَةُ، جَعَلَ حَدَّهُنَّ الْحَبْسَ إِلَى أَنْ يَمُتْنَ أَوْ يَتَزَوَّجْنَ. قَالَ:
ونزلت وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ «٢» فِي أَهْلِ اللِّوَاطِ. وَالَّتِي فِي النُّورِ: فِي الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي «٣» وَخَالَفَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَبَنَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى أَصْلٍ لَهُ: وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النِّسَاءِ فَذَكَرَ إِيتَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ وَتَوْرِيثَهُنَّ، وَقَدْ كُنَّ لَا يُوَرَّثْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ذَكَرَ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إِحْسَانٌ إِلَيْهِنَّ، إِذْ هُوَ نَظَرٌ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِنَّ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ من الإحسان إليهن أن لا تُقَامَ عَلَيْهِنَّ الْحُدُودُ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِنَّ فِي أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ.
وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُدُودَهُ وَأَشَارَ بِتِلْكَ إِلَى جَمِيعِ مَا وَقَعَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَوْضِعِ الْإِشَارَةِ، فَكَانَ فِي مَبْدَأِ السُّورَةِ التَّحَصُّنُ بِالتَّزْوِيجِ، وَإِبَاحَةُ مَا أَبَاحَ مِنْ نِكَاحِ أَرْبَعٍ لِمَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ، اسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى حُكْمِ مَنْ خَالَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ النِّكَاحِ مِنَ الزَّوَانِي، وَأَفْرَدَهُنَّ بِالذِّكْرِ أَوَّلًا، لِأَنَّهُنَّ عَلَى مَا قِيلَ أَدْخَلُ فِي بَابِ الشَّهْوَةِ مِنَ الرِّجَالِ، ثُمَّ ذَكَرَهُنَّ ثَانِيًا مَعَ الرِّجَالِ الزَّانِينَ في قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَصَارَ ذِكْرُ النِّسَاءِ الزَّوَانِي مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْإِفْرَادِ، وَمَرَّةً بِالشُّمُولِ.
وَاللَّاتِي جَمْعٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلَّتِي، وَلَهَا جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ أغربها: اللاآت، وَإِعْرَابُهَا إِعْرَابُ الْهِنْدَاتِ.
وَمَعْنَى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ: يَجِئْنَ وَيَغْشَيْنَ. وَالْفَاحِشَةُ هُنَا الزِّنَا بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَتَبِعَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسَاحَقَةُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأُطْلِقَ عَلَى الزِّنَا اسْمُ الْفَاحِشَةِ لِزِيَادَتِهَا فِي الْقُبْحِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِحِ. قِيلَ: فَإِنْ قِيلَ: الْقَتْلُ وَالْكُفْرُ أَكْبَرُ مِنَ الزِّنَا، قِيلَ: الْقُوَى الْمُدَبِّرَةُ لِلْبَدَنِ ثَلَاثٌ: النَّاطِقَةُ وَفَسَادُهَا بِالْكُفْرِ
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٦٠.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٦.
(٣) سورة النور: ٢٤/ ٢.
555
وَالْبِدْعَةِ وَشِبْهِهِمَا، وَالْغَضَبِيَّةُ وَفَسَادُهَا بِالْقَتْلِ وَالْغَضَبِ وَشِبْهِهِمَا، وَشَهْوَانِيَّةٌ وَفَسَادُهَا بِالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسِّحْرِ وَهِيَ: أَخَسُّ هَذِهِ الْقُوَى، فَفَسَادُهَا أَخَسُّ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، فَلِهَذَا خَصَّ هَذَا الْعَمَلَ بِالْفَاحِشَةِ. وَحُجَّةُ أَبِي مُسْلِمٍ فِي أَنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ السِّحَاقُ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ وَفِي الرِّجَالِ: وَالَّذانِ ومنكم وَظَاهِرُهُ التَّخْصِيصُ، وَبِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيهِ نَسْخٌ، وَبِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ التَّكْرَارُ. وَلِأَنَّ تَفْسِيرَ السَّبِيلِ بِالرَّجْمِ أَوِ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الزِّنَا، يَكُونُ عَلَيْهِنَّ لَا لَهُنَّ، وَعَلَى قَوْلِنَا: يَكُونُ السَّبِيلُ تَيَسُّرَ الشَّهْوَةِ لَهُنَّ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ. وَرَدُّوا عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِأَنَّ مَا قَالَهُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فَكَانَ بَاطِلًا. وَأَجَابَ: بِأَنَّهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، فَلَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا وَتَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ:
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا «الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الزُّنَاةِ.
وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ اللُّوطِيَّةِ وَلَمْ يَتَمَسَّكْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ فِيهِمْ. وَأَجَابَ بِأَنَّ مَطْلُوبَ الصَّحَابَةِ: هَلْ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى اللُّوطِيِّ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ؟ فَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ. انْتَهَى. مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ، وَمَا رُدَّ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَا أَجَابَ بِهِ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ اللَّاتِي مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ، وَهُوَ عَامٌّ أُحْصِنَتْ أَوْ لَمْ تُحْصَنْ. وَأَنَّ وَاللَّذَانِ مُخْتَصٌّ بِالذُّكُورِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ. فَعُقُوبَةُ النِّسَاءِ الْحَبْسُ، وَعُقُوبَةُ الرِّجَالِ الْأَذَى. وَيَكُونُ هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَآيَةُ النُّورِ قَدِ اسْتَوْفَتْ أَصْنَافَ الزُّنَاةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الظَّاهِرَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسَائِكُمْ وَقَوْلُهُ:
مِنْكُمْ، لَا يُقَالُ: إِنَّ السِّحَاقَ وَاللِّوَاطَ لَمْ يَكُونَا مَعْرُوفَيْنِ فِي الْعَرَبِ وَلَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ، لَكِنَّهُ كَانَ قَلِيلًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
مَلَكُ النَّهَارِ وَأَنْتِ اللَّيْلَ مُومِسَةٌ مَاءَ الرِّجَالِ عَلَى فَخْذَيْكِ كَالْقُرُسِ
وَقَالَ الرَّاجِزُ:
يَا عَجَبًا لِسَاحِقَاتِ الورس الجاعلات المكس فوق المكس
وقرأ عبد الله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ بِالْفَاحِشَةِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسَائِكُمْ اخْتُلِفَ، هَلِ الْمُرَادُ الزَّوْجَاتُ أَوِ الْحَرَائِرُ أَوِ الْمُؤْمِنَاتُ أَوِ الثَّيِّبَاتُ دُونَ الْأَبْكَارِ؟ لِأَنَّ لَفْظَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ فِي الْعُرْفِ بِالثَّيِّبِ، أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ مِنْ نِسَائِكُمْ إِضَافَةٌ فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْكَافِرَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ ينسب وَلَا يَلْحَقُهَا هَذَا الْحُكَمُ
556
انْتَهَى. وَظَاهِرُ اسْتِعْمَالِ النِّسَاءِ مُضَافَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الزَّوْجَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ «١» وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ «٢» وَكَوْنِ الْمُرَادِ الزَّوْجَاتِ وَأَنَّ الْآيَةَ فِيهِمْ، هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَأَمَرَ تَعَالَى بِاسْتِشْهَادِ أَرْبَعَةٍ تَغْلِيظًا عَلَى الْمُدَّعِي، وَسَتْرًا لِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ:
يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاهِدَانِ. وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِنَّ، أَيْ عَلَى إِتْيَانِهِنَّ الْفَاحِشَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِشْهَادُ لِمُعَايَنَةِ الزِّنَا. وَإِنْ تَعَمَّدَ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الزِّنَا.
وَإِعْرَابُ اللَّاتِي مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ فَاسْتَشْهِدُوا. وَجَازَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ مَوْصُولٌ بِفِعْلٍ مُسْتَحِقٍّ بِهِ الْخَبَرَ، وَهُوَ مُسْتَوْفٍ شُرُوطَ مَا تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ، فَأُجْرِيَ الْمَوْصُولُ لِذَلِكَ مَجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ. وَإِذْ قَدْ أُجْرِيَ مَجْرَاهُ بِدُخُولِ الْفَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ فَاسْتَشْهِدُوا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، لِأَنَّ فَاسْتَشْهِدُوا لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُفَسَّرَ هَكَذَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَجَازَ قَوْمٌ النَّصْبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اقْصِدُوا اللَّاتِي. وَقِيلَ: خَبَرُ اللَّاتِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ اللَّاتِي يَأْتِينَ، كَقَوْلِ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ «٣» وَفِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي «٤» وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ سِيبَوَيْهِ. وَيَتَعَلَّقُ مِنْ نِسَائِكُمْ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: يَأْتِينَ، تَقْدِيرُهُ: كَائِنَاتٍ مِنْ نسائكم. ومنكم يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَشْهِدُوا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ فَيَكُونُ صِفَةً لأربعة، أَيْ: كَائِنِينَ مِنْكُمْ.
فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَيْ: فَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ عَلَيْهِنَّ. وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْأَمْرِ: أَهُمُ الْأَزْوَاجُ أُمِرُوا بِذَلِكَ إِذَا بَدَتْ مِنَ الزَّوْجَةِ فَاحِشَةُ الزِّنَا، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ عُقُوبَةً لَهُنَّ وَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ جَرِيمَتِهِنَّ؟ أَمِ الْأَوْلِيَاءُ إِذَا بَدَتْ مِمَّنْ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ وِلَايَةٌ وَنَظَرٌ يُحْبَسْنَ حَتَّى يَمُتْنَ؟ أَوْ أولوا الْأَمْرِ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ إِذْ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْحُدُودَ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَوَاحِشِ؟ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ إِلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ لَهُنَّ، وَأَنَّ حدهن كان ذلك
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٦.
(٢) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٣٨.
(٤) سورة النور: ٢٤/ ٢.
557
حَتَّى نُسِخَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ. وَالْحَبْسُ فِي الْبَيْتِ آلَمُ وَأَوْجَعُ مِنَ الضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَخْذُ الْمَهْرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، لِأَنَّ أَلَمَ الْحَبْسِ مُسْتَمِرٌّ، وَأَلَمَ الضَّرْبِ يَذْهَبُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُنِعْنَ مِنَ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُتْنَ عُقُوبَةً لَهُنَّ حِينَ طَلَبْنَ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ بِحَدٍّ بَلْ هُوَ إِمْسَاكٌ لَهُنَّ بَعْدَ أَنْ يَحُدَّهُنَّ الْإِمَامُ صِيَانَةً لَهُنَّ أَنْ يَقَعْنَ فِي مِثْلِ مَا جَرَى لَهُنَّ بِسَبَبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ حَدًّا. وَإِذَا كَانَ يَتَوَفَّى بِمَعْنَى يُمِيتُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، وَهُنَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِالتَّوَفِّي الْأَخْذَ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: حَتَّى يَأْخُذَهُنَّ الْمَوْتُ. وَالسَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُنَّ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ. فَقِيلَ:
هُوَ النِّكَاحُ الْمُحَصِّنُ لَهُنَّ الْمُغْنِي عَنِ السِّفَاحِ، وَهَذَا عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ لِلْأُمَرَاءِ أَوِ الْقُضَاةِ، دُونَ الْأَزْوَاجِ. وَقِيلَ: السَّبِيلُ هُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنَا مِنَ الْحَدِّ، وَهُوَ
«الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ»
رَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ. وَثَبَتَ تَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِهَذَا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَحَدِيثُ عُبَادَةَ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا لِأَنَّهُ الْجَلْدُ، بَلْ هُوَ مُبَيِّنٌ لِمُجْمَلٍ فِي هَذِهِ الآية إذ غيا إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَهُوَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ آيَةِ الْجَلْدِ.
وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ طَعْنُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ، بِدَعْوَاهُ أَنَّ آيَةَ الْحَبْسِ مَنْسُوخَةٌ، بِحَدِيثِ عُبَادَةَ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَالسُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، خِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، بَلِ الْبَيَانُ وَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى مِنِ ادِّعَاءِ نَسْخٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ آيَةَ الْحَبْسِ مَنْسُوخَةٌ بِالْحَدِيثِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ، وَآيَةَ الْجَلْدِ مَنْسُوخَةٌ بآية الرجم.
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما تَقَدَّمَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهَا فِي اللِّوَاطَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ ظَاهِرُ التَّثْنِيَةِ. وَظَاهِرُ مِنْكُمْ إِذْ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ لِلذُّكُورِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا فِي الزُّنَاةِ الذكور والإناث. واللذان أُرِيدَ بِهِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ، وَغَلَبَ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، وَتَرَتَّبَ الْأَذَى عَلَى إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى إِتْيَانِهَا. وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ: شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ. وَالْأَمْرُ بِالْأَذَى يدل عَلَى مُطْلَقِ الْأَذَى بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ بِهِمَا.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ، وَضَرْبُ النِّعَالِ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ
558
وَالسُّدِّيُّ: هُوَ التَّعْبِيرُ وَالتَّوْبِيخُ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِالْفِعْلِ دُونَ الْقَوْلِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ السَّبُّ وَالْجَفَا دُونَ تَعْيِيرٍ. وَقِيلَ: الْأَذَى الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ: الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَفَعَلَهُ فِي الْهَمْدَانِيَّةِ: جَلَدَهَا ثُمَّ رَجَمَهَا.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا الْعُمُومُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْبِكْرَيْنِ، وَأَمَّا الْأُولَى فَفِي النِّسَاءِ الْمُزَوَّجَاتِ، وَيَدْخُلُ مَعَهُنَّ فِي ذَلِكَ مَنْ أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ بِالْمَعْنَى. وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ بِآيَةِ الْجَلْدِ، إِلَّا فِي تَفْسِيرِ عَلِيٍّ الْأَذَى فَلَا نَسْخَ، وَإِلَّا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَذَى بِالتَّعْيِيرِ مَعَ الْجَلْدِ بَاقٍ فَلَا نَسْخَ عِنْدَهُ، إِذْ لَا تَعَارُضَ، بَلْ يُجْمَعَانِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا حُمِلَتِ الْآيَتَانِ عَلَى الزِّنَا تَكُونُ الْأُولَى قَدْ دَلَّتْ عَلَى حَبْسِ الزَّوَانِي، وَالثَّانِيَةُ عَلَى إِيذَائِهَا وَإِيذَائِهِ، فَيَكُونُ الْإِيذَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَالْحَبْسُ مُخْتَصٌّ بِالْمَرْأَةِ فَيُجْمَعُ عَلَيْهَا الْحَبْسُ وَالْإِيذَاءُ، هَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَقِيلَ: جُعِلَتْ عُقُوبَةُ الْمَرْأَةِ الْحَبْسَ لِتَنْقَطِعَ مَادَّةُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَعُقُوبَةُ الرَّجُلِ الْإِيذَاءَ، وَلَمْ يُجْعَلِ الْحَبْسَ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْبُرُوزِ وَالِاكْتِسَابِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ: مِنْ أَنَّ الْأُولَى فِي الثَّيِّبِ وَالثَّانِيَةَ فِي الْبِكْرِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الْعُقُوبَتَيْنِ، فَلَيْسَ الْإِيذَاءُ مُشْتَرَكًا. وَذَهَبَ الْحَسَنُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ نَزَلَ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ «١» يَعْنِي إِنْ لَمْ يَتُبْنَ وَأَصْرَرْنَ فَأَمْسِكُوهُنَّ إِلَى إِيضَاحِ حَالِهِنَّ، وَهَذَا قَوْلٌ يُوجِبُ فَسَادَ التَّرْتِيبِ، فَهُوَ بَعِيدٌ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَظْهَرُ لِلتَّكْرَارِ فَوَائِدُ. وَعَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ: لَا تَكْرَارَ، وَكَذَلِكَ لَا تَكْرَارَ عَلَى قَوْلِ: مُجَاهِدٍ وَأَبِي مُسْلِمٍ.
وَإِعْرَابُ وَاللَّذَانِ كَإِعْرَابِ وَاللَّاتِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاللَّذَانِ بِتَخْفِيفِ النُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِالتَّشْدِيدِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ عِلَّةَ حَذْفِ الْيَاءِ، وَعِلَّةَ تَشْدِيدِ النُّونِ، وَمَوْضُوعُ ذَلِكَ عِلْمُ النحو. وقرأ عبد الله: وَالَّذِينَ يَفْعَلُونَهُ مِنْكُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ مُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَمُتَدَافِعَةٌ مَعَ مَا بَعْدَهَا. إِذْ هَذَا جَمْعٌ، وَضَمِيرُ جَمْعٍ وَمَا بَعْدَهُمَا ضَمِيرُ تَثْنِيَةٍ، لَكِنَّهُ يُتَكَلَّفُ لَهُ تَأْوِيلٌ: بِأَنَّ الَّذِينَ جُمِعَ تَحْتَهُ صِنْفَا الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فَعَادَ الضَّمِيرُ بَعْدَهُ مُثَنًّى بِاعْتِبَارِ الصِّنْفَيْنِ، كَمَا عَادَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا عَلَى الْمُثَنَّى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُثَنَّى تَحْتَهُمَا أَفْرَادٌ كَثِيرَةٌ هِيَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «٢»
(١) سورة النساء: ٤/ ١٥.
(٢) سورة الحجرات: ٤٩/ ٩.
559
وهذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «١» وَالْأَوْلَى اعْتِقَادُ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْنِيَةِ الْعُمُومُ فِي الزناة. وقرىء وَاللَّذَأَنِّ بِالْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ لَمَّا شَدَّدَ النُّونَ الْتَقَى سَاكِنَانِ، فَفَرَّ الْقَارِئُ مِنِ الْتِقَائِهِمَا إِلَى إِبْدَالِ الْأَلِفِ هَمْزَةً تَشْبِيهًا لَهَا بِأَلِفِ فَاعِلٍ الْمُدْغَمِ عَيْنُهُ فِي لامه، كما قرىء: وَلَا الضَّالِّينَ «٢» وَلا جَانٌّ «٣» وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ فِي الْفَاتِحَةِ.
فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أَيْ: إِنْ تَابَا عَنِ الْفَاحِشَةِ وَأَصْلَحَا عَمَلَهُمَا فَاتْرُكُوا أَذَاهُمَا. وَالْمَعْنَى: أَعْرِضُوا عَنْ أَذَاهُمَا. وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قُوَّةِ اللَّفْظِ غَضٌّ مِنَ الزُّنَاةِ وَإِنْ تَابُوا، لِأَنَّ تَرْكَهُمْ إِنَّمَا هُوَ إِعْرَاضٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «٤» وَلَيْسَ هَذَا الْإِعْرَاضُ فِي الْآيَتَيْنِ أَمْرًا بِهِجْرَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُتَارَكَةُ مُعْرِضٍ، وَفِي ذَلِكَ احْتِقَارٌ لَهُمْ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً أَيْ رَجَّاعًا بِعِبَادِهِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، رَحِيمًا لَهُمْ بِتَرْكِ أَذَاهُمْ إِذَا تَابُوا.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِنَّمَا وَفِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْحَصْرِ، أَهْوَ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعِ، أَوِ الِاسْتِعْمَالِ؟ أَمْ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَيْهِ؟ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا قَبُولُ التَّوْبَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، فَتَكُونُ عَلَى بَاقِيَةً عَلَى بَابِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي إِنَّمَا الْقَبُولُ وَالْغُفْرَانُ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، فَأَمَّا مَا ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ عَلَى نَفْسِهِ كَتَخْلِيدِ الْكُفَّارِ وَقَبُولِ الْإِيمَانِ مِنَ الْكَافِرِ بِشَرْطِهِ فَذَلِكَ وَاقِعٌ قَطْعًا، وَأَمَّا قَبُولُ التَّوْبَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ عَقْلًا وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فَتَظَافَرَتْ ظَوَاهِرُ الْآيِ وَالسُّنَّةِ عَلَى قَبُولِ اللَّهِ التَّوْبَةَ، وَأَفَادَتِ الْقَطْعَ بِذَلِكَ. وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ: إِلَى أَنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ إِنَّمَا تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ لا القطع بقبول
(١) سورة الحج: ٢٢/ ١٩.
(٢) سورة الفاتحة: ١/ ٧. [.....]
(٣) سورة الرحمن: ٥٥/ ٣٩.
(٤) سورة الأعراف: ٧/ ١٩٩.
560
التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ فَرْضٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَتَصِحُّ وَإِنْ نَقَضَهَا فِي ثَانِي حَالٍ بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ وَمِنْ ذَنْبٍ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَنْبٍ غَيْرِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى السُّنَّةِ، إِذْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ تَائِبًا مَنْ أَقَامَ عَلَى ذَنْبٍ. وَقِيلَ: عَلَى بِمَعْنَى عِنْدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
بِمَعْنَى مِنْ، وَالسُّوءُ يَعُمُّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي غَيْرُهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ.
وَمَوْضِعُ بِجَهَالَةٍ حَالٌ، أَيْ: جَاهِلِينَ ذَوِي سَفَهٍ وَقِلَّةِ تَحْصِيلٍ، إِذِ ارْتِكَابُ السُّوءِ، لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَلَبَةِ الْهَوَى لِلْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ يَدْعُو إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْهَوَى وَالشَّهْوَةُ يَدْعُوَانِ إِلَى الْمُخَالَفَةِ، فَكُلُّ عَاصٍ جَاهِلٌ بِهَذَا التَّفْسِيرِ. وَلَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ هُنَا التَّعَمُّدَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الضَّحَّاكُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ: عَلَى أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الذَّنْبَ وَتَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَأَجْمَعَ أَصْحَابُ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ هِيَ بِجَهَالَةٍ عَمْدًا كَانَتْ أَوْ جَهْلًا.
وقال الْكَلْبِيُّ: بِجَهَالَةٍ أَيْ لَا يَجْهَلُ كَوْنَهَا مَعْصِيَةً، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ كُنْهَ الْعُقُوبَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
أُمُورُ الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ، يَعْنِي مَا اخْتَصَّ بِهَا وَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَهَالَتُهُ مِنْ حَيْثُ آثَرَ اللَّذَّةَ الْفَانِيَةَ عَلَى اللَّذَّةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْحَظَّ الْعَاجِلَ عَلَى الْآجِلِ. وَقِيلَ: الْجَهَالَةُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَعَلَهُ غَيْرَ مُصِرٍّ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْجَاهِلَ الَّذِي لَا يَتَعَمَّدُ الشيء. وقال الماتريدي: جَهْلُ الْفِعْلِ الْوُقُوعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَفْوَ عَنِ الْخَطَأِ، وَيُحْتَمَلُ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالْجَهْلُ بِمَوْقِعِهِ أَيْ: أَنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ فِي الْحُرْمَةِ: أَيُّ: قَدْرٍ هِيَ فَيَرْتَكِبُهُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِحَالِهِ، لَا قَصْدَ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَالتَّهَاوُنِ بِهِ. وَالْعَمَلُ بِالْجَهَالَةِ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَلَبَةِ شَهْوَةٍ، فَيَعْمَلُ لِغَرَضِ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ عَلَى طَمَعِ أَنَّهُ سَيَتُوبُ مِنْ بَعْدُ وَيَصِيرُ صَالِحًا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى طَمَعِ الْمَغْفِرَةِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى رَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ. وَقَدْ تَكُونُ الْجَهَالَةُ جَهَالَةَ عُقُوبَةٍ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى مِنْ قَرِيبٍ: أَيْ مِنْ زَمَانٍ قَرِيبٍ. وَالْقُرْبُ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَانِ الْمَعْصِيَةِ، وَهِيَ بَقِيَّةُ مُدَّةِ حَيَاتِهِ إِلَى أَنْ يُغَرْغِرَ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَانِ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ. فَإِذَا كَانَتْ تَوْبَتُهُ تُقْبَلُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَبُولُهَا قَبْلَهُ أَجْدَرُ، وَقَدْ بَيَّنَ غَايَةَ مَنْعِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا بِحُضُورِ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ يُحِيطَ السُّوءُ بِحَسَنَاتِهِ، أَيْ قَبْلَ أَنْ تَكْثُرَ سَيِّئَاتُهُ وَتَزِيدَ عَلَى حَسَنَاتِهِ، فَيَبْقَى كَأَنَّهُ بِلَا حَسَنَاتٍ. وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ تَتَرَاكَمَ ظُلُمَاتُ قَلْبِهِ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ، وَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ الْمُحِيطِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ لِلْمَلَائِكَةِ وَالسَّوْقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: قَبْلَ الْمَرَضِ وَالْمَوْتِ. فَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَحْسَنَ أَوْقَاتِ التَّوْبَةِ، وَذَكَرَ مَنْ قَبْلَهُ آخِرَ وَقْتِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ
561
بِهِ سُلْطَانُ الْمَوْتِ،
وَرَوَى أَبُو أَيُّوبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»
وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ حِينَ أَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ: وَعِزَّتِكَ لَا أُفَارِقُ ابْنَ آدَمَ مَا دَامَ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابَ التَّوْبَةِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ.
قِيلَ: وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ قَرِيبَةً لِأَنَّ الْأَجَلَ آتٍ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عُمُرِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ طَالَتْ فَهِيَ قَلِيلَةٌ قَرِيبَةٌ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَوَقَّعُ كُلَّ لَحْظَةٍ نُزُولَ الْمَوْتِ بِهِ، وَمَا هَذِهِ حَالُهُ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُرْبِ.
وَارْتِفَاعُ التَّوْبَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ هو على الله، وللذين مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ لِلَّذِينَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فِي هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الظَّرْفُ، وَالِاسْتِقْرَارُ أَيْ ثَابِتَةً لِلَّذِينَ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هذا التَّكَلُّفِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ لِلَّذِينَ، وَيَتَعَلَّقُ عَلَى اللَّهِ بِمَحْذُوفٍ، وَيَكُونُ حَالًا مِنْ مَحْذُوفٍ أَيْضًا وَالتَّقْدِيرُ:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ إِذَا كَانَتْ، أَوْ إِذْ كَانَتْ عَلَى اللَّهِ. فَإِذَا وَإِذْ ظَرْفَانِ الْعَامِلُ فِيهِمَا لِلَّذِينَ، لِأَنَّ الظَّرْفَ يَعْمَلُ فِيهِ الْمَعْنَى وَإِنَّ تَقَدَّمَ عليه. وكان تَامَّةٌ، وَصَاحِبُ الْحَالِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ لِكَانَ. قَالَ:
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى اللَّهِ حَالًا يَعْمَلُ فِيهَا لِلَّذِينَ، لِأَنَّهُ عَامِلٌ مَعْنَوِيٌّ، وَالْحَالُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُمْ: هَذَا بُسْرًا أَطْيَبُ مِنْهُ رُطَبًا انْتَهَى. وَهُوَ وَجْهٌ مُتَكَلِّفٌ فِي الْإِعْرَابِ، غَيْرُ مُتَّضِحٍ فِي الْمَعْنَى، وبجهالة فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: مَصْحُوبِينَ بِجَهَالَةٍ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ بَاءَ السَّبَبِ أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ هُوَ الْجَهَالَةُ، إِذْ لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُتَذَكِّرِينَ لَهُ حَالَةَ إِتْيَانِ الْمَعْصِيَةِ مَا عَمِلُوهَا
كَقَوْلِهِ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
لِأَنَّ الْعَقْلَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَغْلُوبًا أو مسلوبا. ومن فِي قَوْلِهِ:
مِنْ قَرِيبٍ، تتعلق بيتوبون، وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ بَعْضَ زَمَانٍ قَرِيبٍ، فَفِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ أَتَى بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ تَائِبٌ مِنْ قَرِيبٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ يبتدىء التَّوْبَةَ مِنْ زَمَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَعْصِيَةِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْإِصْرَارِ. وَمَفْهُومُ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ: أَنَّهُ لَوْ تَابَ مِنْ زَمَانٍ بَعِيدٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ مَنْ خُصَّ بِكَرَامَةِ خَتْمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَى اللَّهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الآية بعلى، فِي قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ. وَقَوْلِهِ: يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْعُودِينَ بِكَلِمَةِ عَسَى فِي قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ «١».
(١) سورة التوبة: ٩/ ١٠٢.
562
وَدُخُولُ مِنِ الِابْتِدَائِيَّةِ عَلَى الزَّمَانِ لَا يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ هُنَا وَهُوَ زَمَانٌ، وَقَامَتِ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ قَرِيبٍ مَقَامَهُ، لَيْسَ مَقِيسًا. لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ وَهِيَ الْقَرِيبُ لَيْسَتْ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجُوزُ حَذْفُهَا بِقِيَاسٍ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، فَلَمْ يُلْفَظْ بِمَوْصُوفِهَا كَالْأَبْطَحِ، وَالْأَبْرَقِ، وَلَا مُخْتَصَّةً بِجِنْسِ الْمَوْصُوفِ نَحْوَ: مَرَرْتُ بِمُهَنْدِسٍ، وَلَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْصُوفِهَا نَحْوُ: اسْقِنِي مَاءً وَلَوْ بَارِدًا، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ مِمَّا كَانَ الْوَصْفُ فِيهِ اسْمًا وَحُذِفَ فِيهِ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ فَلَيْسَ بِقِيَاسٍ.
فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ عَلَى الله لمن ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ يَتَعَطَّفُ عَلَيْهِمْ وَيَرْحَمُهُمْ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقَا التَّوْبَةِ بِاخْتِلَافِ الْمَجْرُورِ. لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَلَى اللَّهِ، وَالثَّانِي عَلَيْهِمْ، فَفَسَّرَ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ. وَلَمَّا ضَمَّنَ يَتُوبُ مَعْنَى مَا يُعَدَّى بِعَلَى عَدَّاهُ بِعَلَى، كَأَنَّهُ قَالَ: يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ. وَفِي عَلَى الْأُولَى رُوعِيَ فِيهَا الْمُضَافُ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ قَبُولٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لَهُمْ؟ (قُلْتُ) : قوله: إنما التوبة على اللَّهِ إِعْلَامٌ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بَعْضُ الطَّاعَاتِ. وَقَوْلُهُ: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، عِدَةٌ بِأَنَّهُ يَفِي بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ الْغُفْرَانَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، كَمَا بعد الْعَبْدَ الْوَفَاءَ بِالْوَاجِبِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مُشِيرٌ إِلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ قَبُولُهَا لُزُومَ إِحْسَانٍ لا استحقاق، ويتوب عَلَيْهِمْ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ. أَوْ يَكُونُ الْأُولَى بِمَعْنَى الْهِدَايَةِ إِلَى التَّوْبَةِ والإرشاد، ويتوب عَلَيْهِمْ بِمَعْنَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
أَيْ عَلِيمًا بِمَنْ يُطِيعُ وَيَعْصِي، حَكِيمًا أَيْ: يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَيَقْبَلُ تَوْبَةَ مَنْ أَنَابَ إِلَيْهِ.
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ نَفَى تَعَالَى أَنْ يَكُونَ التَّوْبَةُ لِلْعَاصِي الصَّائِرِ فِي حَيِّزِ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَلَا لِلَّذِي وَافَى عَلَى الْكُفْرِ. فَالْأَوَّلُ: كَفِرْعَوْنَ إِذْ لَمْ يَنْفَعْهُ إِيمَانُهُ وَهُوَ فِي غَمْرَةِ الْمَاءِ وَالْغَرَقِ، وَكَالَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «١» وَحُضُورُ الْمَوْتِ أَوَّلُ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، فَكَمَا أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ التَّوْبَةُ في
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٨٥.
563
الْآخِرَةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَّى بَيْنَ الَّذِينَ سَوَّفُوا تَوْبَتَهُمْ إِلَى حَضْرَةِ الْمَوْتِ، وَبَيْنَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ، لِأَنَّ حَضْرَةَ الْمَوْتِ إلى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ. فَكَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ عَلَى الْكُفْرِ قَدْ فَاتَتْهُ التَّوْبَةُ عَلَى الْيَقِينِ، فَكَذَلِكَ الْمُسَوِّفُ إِلَى حَضْرَةِ الْمَوْتِ، لِمُجَاوَزَةِ كُلِّ وَاحِدٍ منهما. أو أنّ التَّكْلِيفِ وَالِاخْتِيَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا، فَإِذَا صَارَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ ضَرُورِيًّا سَقَطَ التَّكْلِيفُ. وَأَهْلُ الْآخِرَةِ لِأَجْلِ مُشَاهَدَتِهِمْ أَهْوَالَهَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ بِالضَّرُورَةِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ التَّكْلِيفُ. وَكَذَلِكَ الْحَالَةُ الَّتِي يَحْصُلُ عِنْدَهَا الْعِلْمُ بِاللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ. وَالَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّ الْقُرْبَ مِنَ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَكَلَّفَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْمَوْتِ لَا تُخِلُّ بِالتَّكْلِيفِ، وَلِأَنَّ الشَّدَائِدَ الَّتِي تَلَقَّاهَا عِنْدَ قُرْبِ الْمَوْتِ لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِمَّا تَلَقَّاهَا بِالْقُولَنْجِ وَالطَّلْقِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ، فَكَذَلِكَ تِلْكَ. وَلِأَنَّهُ عِنْدَ الْقُرْبِ يَصِيرُ مُضْطَرًّا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْقَبُولِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَعَدَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَبِعَدْلِهِ أَخْبَرَ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْمَقْبُولَ مَرْدُودًا، وَالْمَرْدُودَ مقبولا، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «١» وَقَدْ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي دَعْوَاهُمْ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ بِالْعِلْمِ بِاللَّهِ إِذَا صَارَ ضَرُورَةً، وَفِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ مُشَاهَدَةَ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ يُوجِبُ العلم بالله على سبيل الِاضْطِرَارِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ: نَزَلَتْ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَسَخَهَا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «٢» فَحَتَمَ أَنْ لَا يَغْفِرُ لِلْكَافِرِينَ، وَأَرْجَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَشِيئَتِهِ. وَطُعِنَ عَلَى ابْنِ زَيْدٍ: بِأَنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا تُنْسَخُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ تَقْرِيرَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، فَيَجُوزُ نَسْخُ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ادِّعَاءِ نَسْخٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ أَنَّ مَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ مَقْبُولَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُغْفَرُ لَهُ، فَيُحْتَاجُ أَنْ يُنْسَخَ بِقَوْلِهِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ مغايرون لقوله: للذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ أَنْ يَكُونَا غَيْرَيْنِ، وللتأكيد بلا الْمُشْعِرَةِ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ تَقُولُ: هَذَا لَيْسَ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو بَلْ لِأَحَدِهِمَا، وَلَيْسَ هَذَا لِزَيْدٍ وَلَا لِعَمْرٍو، فَيَنْتَفِي عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: بَلْ لأحدهما، وإذا
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٣.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٤٨.
564
تَقَرَّرَ هَذَا اتَّضَحَ ضَعْفُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَنِ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، أَهُمُ الْفُسَّاقُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، أَمِ الْكُفَّارُ؟ (قُلْتُ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُفَّارُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَهُمْ كُفَّارٌ، وَأَنْ يُرَادَ الْفُسَّاقُ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الزَّانِيَيْنِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمَا إِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَهُمْ كُفَّارٌ وَارِدًا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ كَقَوْلِهِ:
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «١»
وَقَوْلِهِ: «فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا»
، مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُصَدِّقًا وَمَاتَ وَهُوَ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ حَالُهُ قَرِيبَةٌ مِنْ حَالِ الْكَافِرِ، لِأَنَّهُ لَا يَجْتَرِي عَلَى ذَلِكَ إِلَّا قَلْبٌ مُصْمَتٌ انتهى لامه. وَهُوَ فِي غَايَةِ الِاضْطِرَابِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ سَوَّفُوا التَّوْبَةَ إِلَى حُضُورِ الْمَوْتِ، وَالثَّانِي: الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهَا أُرِيدَ بِهَا أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ. إِمَّا الْكُفَّارُ فَقَطْ وَهُمُ الَّذِينَ وُصِفُوا عِنْدَهُ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَيَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَعَلَّلَ هَذَا الْوَجْهَ بِقَوْلِهِ: لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَهُمْ كُفَّارٌ، فَجَعَلَ هَذِهِ الْحَالَ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ هُمُ الْكُفَّارُ، وَإِمَّا الْفُسَّاقُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَهُمْ كُفَّارٌ لَا يُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ حَقِيقَةً، وَلَا أَنَّهُمْ يُوَافُونَ عَلَى الْكُفْرِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ عِنْدَهُ: فَقَدْ خَالَفَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ صَدْرَ تَفْسِيرِهِ الْآيَةَ، أَوَّلًا وَكُلُّ ذَلِكَ انْتِصَارٌ لِمَذْهَبِهِ حَتَّى يُرَتِّبَ الْعَذَابَ: إِمَّا لِلْكَافِرِ، وَإِمَّا لِلْفَاسِقِ، فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ قَوَانِينِ النَّحْوِ، وَالْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ كُفَّارٌ، لَيْسَ ظَاهِرُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَيْدٌ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ، وَظَاهِرُهُ الْمُوَافَاةُ عَلَى الْكُفْرِ حَقِيقَةً. وَكَمَا أَنَّهُ شَرَطَ فِي انْتِفَاءِ قَبُولِ تَوْبَةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ إِيقَاعَهَا فِي حَالِ حُضُورِ الْمَوْتِ، كَذَلِكَ شَرَطَ فِي ذَلِكَ كُفْرَهُمْ حَالَةَ الْمَوْتِ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ التغاير والزمخشري كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ. وَجَاءَ يَعْمَلُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى عَمَلِ السَّيِّئَاتِ إِلَى أَنْ يَحْضُرَهُمُ الْمَوْتُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: قَالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، هُوَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، فَلَا تقبل توبتهم لأنها توبة دَفْعٍ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ تُبْتُ الْآنَ تَوْبَةٌ شَرِيطِيَّةٌ فَلَمْ تُقْبَلْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِهَا. وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ ظَاهِرُهُ النَّفْيُ لِوُجُودِهَا، وَالْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ أَيْ: أَنَّ تَوْبَتَهُمْ وَإِنْ وُجِدَتْ فَلَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، وُقُوعُ الْمَوْتِ حَقِيقَةً. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ تَابُوا فِي الْآخِرَةِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ مَاتُوا مُلْتَبِسِينَ بِالْكُفْرِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٩٧.
565
بِقَوْلِهِ: يَمُوتُونَ، يَقْرُبُونَ مِنَ الْمَوْتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ «١» أَيْ عَلَامَاتُهُ.
فَكَمَا أَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ.
أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الصِّنْفَيْنِ، وَيَكُونَانِ قَدْ شُرِكَا فِي إِعْدَادِ الْعَذَابِ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ عَذَابُ أَحَدِهِمَا مُنْقَطِعًا وَالْآخَرُ خَالِدًا. وَيَكُونُ ذَلِكَ وَعِيدًا لِلْعَاصِي الَّذِي لَمْ يَتُبْ إِلَّا عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ حَيْثُ شَرَّكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي وَافَى عَلَى الْكُفْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ إِشَارَةً إِلَى الصِّنْفِ الْأَخِيرِ إِذْ هُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمِيرِ، فَيُشَارُ بِهِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرِ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَيَكُونُ إِعْدَادُ الْعَذَابِ مُرَتَّبًا عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، إِذِ الْكُفْرُ هُوَ مَقْطَعُ الرَّجَاءِ مِنْ عَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى. وَظَاهِرُ الْإِعْدَادِ أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ فِي الْوَعِيدِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «٢» فِي الْوَعْدِ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَائِنَانِ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى. وَتَلَطَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي دَسِّهِ الِاعْتِزَالَ هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ قَرَّرَ أَوَّلَ كَلَامِهِ بِأَنَّ مَنْ نَفَى عنهم التوبة صفنان، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا عَقِيبَهُ، وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، كَمَا أَنَّ الْوَعْدَ لِلَّذِينَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ مِنَ الصِّنْفِ الْمَذْكُورِ، قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعُصَاةَ الَّذِينَ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ وَعِيدُهُمْ كَائِنٌ مَعَ وَعِيدِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَمَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ إِشَارَةً إِلَى الَّذِينَ يُوَافُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَيُرَجِّحُ ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَ الْكَافِرِ أَقْبَحُ مِنْ فِعْلِ الْفَاسِقِ، لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ مَقْطُوعًا بِهِ لِلْفَاسِقِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ لِلْفَاسِقِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ وُقُوعُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، إِذْ يَجُوزُ الْعِقَابُ وَيَجُوزُ الْعَفْوُ. وَفَائِدَةُ وُرُودِهِ حُصُولُ التَّخْوِيفِ لِلْفَاسِقِ. وَكُلُّ وَعِيدٍ لِلْفُسَّاقِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «٣» وَهَذِهِ هِيَ الْآيَةُ الْمُحْكَمَةُ الَّتِي يُرْجَعُ إِلَيْهَا.
وَذَهَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ «٤» فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ، وَاخْتَارَهُ الْمَرْوَزِيُّ. قَالَ: فَرَّقَ بِالْعَطْفِ، ودل على أنّ
(١) سورة النساء: ٤/ ١٨.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٧.
(٣) سورة النساء: ٤/ ٤٨.
(٤) سورة النساء: ٤/ ١٨.
566
الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْمُنَافِقُونَ. كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا «١» لِأَنَّ الْمُنَافِقَ كَانَ مُخَالِفًا لِلْكَافِرِ بِظَاهِرِهِ فِي الدُّنْيَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا فِي عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتُوبُونَ حَالَ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ مُنْدَرِجُونَ فِي قَوْلِهِ:
وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ «٢» فَهُمْ قِسْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ لَا قَسِيمَ لَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ فِي الصَّغَائِرِ، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ فِي الْكَبَائِرِ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فِي الْكُفْرِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو مِجْلَزٍ: كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ مِنْ أَهْلِهَا، إن شاؤوا تَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمْ، أَوْ زَوَّجُوهَا غَيْرَهُمْ، أَوْ مَنَعُوهَا. وَكَانَ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا يَتَزَوَّجُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْأَنْصَارِ لَازِمًا، وَفِي قُرَيْشٍ مُبَاحًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ الِابْنُ الْأَكْبَرُ أَحَقَّ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدَهَا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنْ سَبَقَ الْوَلِيُّ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهَا، أَوْ سَبَقَتْهُ إِلَى أَهْلِهَا كَانَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا لِلْأَوْلِيَاءِ نُهُوا أَنْ يَرِثُوا النِّسَاءَ الْمُخَلَّفَاتِ عَنِ الْمَوْتَى كَمَا يُورَثُ الْمَالُ. وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْوِرَاثَةِ فِي حَالِ الطَّوْعِ وَالْكَرَاهَةِ، لَا جَوَازُهَا فِي حَالِ الطَّوْعِ اسْتِدْلَالًا بِالْآيَةِ، فَخَرَجَ هَذَا الْكُرْهُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مَجْبُورَاتٍ عَلَى ذَلِكَ إِذْ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ أَوْلِيَاءِ نَفْسِهَا. وَقِيلَ: هُوَ إِمْسَاكُهُنَّ دُونَ تَزْوِيجٍ حَتَّى يَمُتْنَ فَيَرِثُونَ أَمْوَالَهُنَّ، أَوْ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَةٌ لَهَا مَالٌ فَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ مُحَافَظَةً عَلَى مَالِهَا، فَيَتَزَوَّجُهَا كُرْهًا لِأَجْلِهِ. أَوْ تَحْتَهُ عَجُوزٌ ذَاتُ مَالٍ، وَيَتُوقُ إِلَى شَابَّةٍ فَيُمْسِكُ الْعَجُوزَ لِمَالِهَا، وَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَالِهَا، أَوْ تَمُوتَ فَيَرِثَ مَالَهَا. وَالْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَمَا قَبْلَهُ يَكُونُ الْمَوْرُوثُ مَالَهُنَّ، لَا هُنَّ. وَانْتَصَبَ كَرْهًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النِّسَاءِ، فَيُقَدَّرُ بَاسِمِ فَاعِلٍ أَيْ: كَارِهَاتٍ، أَوْ بِاسْمِ مَفْعُولٍ أَيْ: مُكْرَهَاتٍ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ الْكَافِ، حيث وقع وحمزة والكسائي بضمها، وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي التَّوْبَةِ، وَبِضَمِّهَا فِي الْأَحْقَافِ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا لُغَتَانِ: كَالصَّمْتِ وَالصُّمْتِ قَالَهُ: الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عَلِيٍّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَتْحُ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ، وَالضَّمُّ مِنْ فِعْلِكَ تَفْعَلُهُ كَارِهًا لَهُ مِنْ غَيْرِ مُكْرِهٍ كَالْأَشْيَاءِ الَّتِي فِيهَا مَشَقَّةٌ وَتَعَبٌ، وَقَالَهُ: أَبُو عَمْرِو بن
(١) سورة الحديد: ٥٧/ ١٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٨.
567
الْعَلَاءِ وَابْنُ قُتَيْبَةَ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ «١» في البقرة.
وقرىء: لَا تَحِلُّ لَكُمْ بِالتَّاءِ عَلَى تَقْدِيرِ لَا تَحِلُّ لَكُمُ الْوِرَاثَةُ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا «٢» أَيْ إِلَّا مَقَالَتَهُمْ، وَانْتِصَابُ النِّسَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ إِمَّا لِكَوْنِهِنَّ هُنَّ أَنْفُسِهِنِّ الْمَوْرُوثَاتِ، وَإِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: أَمْوَالَ النِّسَاءِ.
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ أَيْ لَا تَحْبِسُوهُنَّ وَلَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ.
وَظَاهِرُ هَذَا الْخِطَابِ أَنَّهُ لِلْأَزْوَاجِ لِقَوْلِهِ: بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي أَعْطَاهَا الصَّدَاقَ. وَكَانَ يَكْرَهُ صُحْبَةَ زَوْجَتِهِ وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ، فَيَحْبِسُهَا وَيَضْرِبُهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ قَالَهُ:
ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ. أَوْ يَنْكِحُ الشَّرِيفَةَ فَلَا تُوَافِقُهُ، فَيُفَارِقَهَا عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا خُطِبَتْ وَأَرْضَتْهُ أَذِنَ لَهَا، وَإِلَّا عَضَلَهَا قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ. أَوْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ مَنْعَ الْمُطَلَّقَةِ مِنَ الزَّوْجِ ثَلَاثًا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ كَمَا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً «٣» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا «٤» فلقوا فِي هَذَا الْخِطَابِ، ثُمَّ أُفْرِدَ كُلٌّ فِي النَّهْيِ بِمَا يُنَاسِبُهُ، فَخُوطِبَ الْأَوْلِيَاءُ بِقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا، وَخُوطِبَ الْأَزْوَاجُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، فَعَادَ كُلُّ خِطَابٍ إِلَى مَنْ يُنَاسِبُهُ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعَضْلِ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ «٥» والباء في ببعض مَا آتَيْتُمُوهُنَّ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: لِتُذْهِبُوا بَعْضَ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ: لِتَذْهَبُوا مَصْحُوبِينَ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى الِانْقِطَاعِ فِيهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ. وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ظَرْفِ زَمَانٍ عَامٍّ، أَوْ مِنْ عِلَّةٍ. كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا وَقْتَ أَنْ يَأْتِينَ. أَوْ لَا تَعْضُلُوهُنَّ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِأَنَّ يَأْتِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِلْأَزْوَاجِ إِذْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ حَبْسُهَا حَتَّى يَذْهَبَ بِمَالِهَا إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلزَّوْجِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ.
وَالْفَاحِشَةُ هُنَا الزِّنَا قَالَهُ: أَبُو قُلَابَةَ وَالْحَسَنُ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا زَنَتِ الْبِكْرُ جُلِدَتْ مِائَةً وَنُفِيَتْ سَنَةً، وَرَدَّتْ إِلَى زَوْجِهَا مَا أَخَذَتْ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: إِذَا زنت امرأة الرجل
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١٦. [.....]
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٢٣.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١٩.
(٤) سورة النساء: ٤/ ١٩.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٢.
568
فَلَا بَأْسَ أَنْ يُضَارَّهَا وَيَشُقَّ عَلَيْهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَخُذُوا مُهُورَهُنَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثُمَّ نُسِخَ بِالْحُدُودِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو قِلَابَةَ:
لَا يَحِلُّ الْخُلْعُ حَتَّى يُوجَدَ رَجُلٌ عَلَى بطنها. وقال قتادة: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا ضِرَارًا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ، يَعْنِي: وَإِنْ زَنَتْ. وقال ابن عباس وعائشة وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ: الْفَاحِشَةُ هُنَا النُّشُوزُ، فَإِذَا نَشَزَتْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ قوم: الفاحشة البذاء بِاللِّسَانِ وَسُوءُ الْعِشْرَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَهَذَا فِي مَعْنَى النُّشُوزِ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُوءُ الْعِشْرَةِ مِنْ جهتهن، فَيَجُوزُ أَخْذُ مَالِهِنَّ عَلَى سَبِيلِ الْخُلْعِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قراءة أبي: إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ عَلَيْكُمْ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ وَعَاشِرُوهُنَّ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُخَالِفَتَانِ لِمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَكَذَا ذَكَرَ الدَّانِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ. وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ وَالْإِيضَاحِ، لَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قُرْآنٌ. وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ مَا أَعْطَاهَا رُكُونًا لِقَوْلِهِ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ «١» وَقَالَ مَالِكٌ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ النَّاشِزِ جَمِيعَ مَا تَمْلِكُهُ. وَظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْعَضْلِ لَهُ لِيَذْهَبَ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا لِأَكْلِهِ، وَلَا مَا لَمْ يُعْطِهَا مِنْ مَالِهِ إِذَا أَتَتْ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بكر:
مُبَيِّنَةٍ هُنَا، وَفِي الْأَحْزَابِ، وَالطَّلَاقِ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ أَيْ يُبَيِّنُهَا مَنْ يَدَّعِيهَا وَيُوَضِّحُهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْكَسْرِ أَيْ: بَيِّنَةٍ فِي نَفْسِهَا ظَاهِرَةٍ. وَهِيَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَيَّنَ، وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ بِمَعْنَى بَانَ أَيْ ظَهَرَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، أَنْ لَا نَهْيَ، فَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ بِهَا، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً طَلَبِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ. فَإِنْ قُلْنَا: شَرْطُ عَطْفِ الْجُمَلِ الْمُنَاسَبَةُ، فَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ تِلْكَ الْخَبَرِيَّةَ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى النَّهْيِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا فَإِنَّهُ غَيْرُ حَلَالٍ لَكُمْ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَطْفِ الْمُنَاسَبَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، فَظَاهِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون تَعْضُلُوهُنَّ نَصْبًا عَطْفًا عَلَى تَرِثُوا، فَتَكُونُ الْوَاوُ مُشْرِكَةً عَاطِفَةً فِعْلًا عَلَى فِعْلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَا أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُقَوِّي احْتِمَالَ النَّصْبِ، وَأَنَّ الْعَضْلَ مِمَّا لَا يَحِلُّ بِالنَّصِّ. وَعَلَى تَأْوِيلِ الْجَزْمِ هِيَ نَهْيٌ مُعَوِّضٌ لِطَلَبِ الْقَرَائِنِ فِي التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ، وَاحْتِمَالُ النَّصْبِ أَقْوَى انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَجْوِيزِ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا عَطَفْتَ فِعْلًا مَنْفِيًّا بِلَا عَلَى مُثْبَتٍ وَكَانَا مَنْصُوبَيْنِ، فَإِنَّ النَّاصِبَ لَا يُقَدَّرُ إِلَّا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ، لَا بَعْدَ لَا. فَإِذَا قُلْتَ: أُرِيدُ أَنْ أَتُوبَ وَلَا أَدْخُلَ النَّارَ، فَالتَّقْدِيرُ: أُرِيدُ أَنْ أَتُوبَ وَأَنْ لَا أَدْخُلَ النَّارَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُطْلَبُ الْأَوَّلُ عَلَى سَبِيلِ الثُّبُوتِ، وَالثَّانِي على سبيل
(١) سورة النساء: ٤/ ١٩.
569
النَّفْيِ. فَالْمَعْنَى: أُرِيدُ التَّوْبَةَ وَانْتِفَاءَ دُخُولِي النَّارَ. فَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الْمُتَعَاطِفَيْنِ مَنْفِيًّا، فَكَذَلِكَ وَلَوْ قَدَّرْتَ هَذَا التَّقْدِيرَ فِي الْآيَةِ لَمْ يَصِحَّ لَوْ قُلْتَ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ لَا تَعْضُلُوهُنَّ لَمْ يَصِحَّ، إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ لَا زَائِدَةً لَا نَافِيَةً، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَأَمَّا أَنْ تُقَدِّرَ أَنْ بَعْدَ لَا النَّافِيَةِ فَلَا يَصِحُّ. وَإِذَا قَدَّرْتَ أَنْ بَعْدَ لَا كَانَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ، لَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ، فَالْتَبَسَ عَلَى ابْنِ عَطِيَّةَ الْعَطْفَانِ، وَظَنَّ أَنَّهُ بِصَلَاحِيَّةِ تَقْدِيرِ أَنْ بَعْدَ لَا يَكُونُ مِنْ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ:
لَا أُرِيدُ أَنْ يَقُومَ وَأَنْ لَا يَخْرُجَ، وَقَوْلِكَ: لَا أُرِيدُ أَنْ يَقُومَ وَلَا أَنْ يَخْرُجَ، فَفِي الْأَوَّلِ: نَفْيُ إِرَادَةِ وُجُودِ قِيَامِهِ وَإِرَادَةِ انْتِفَاءِ خُرُوجِهِ، فَقَدْ أَرَادَ خُرُوجَهُ. وَفِي الثَّانِيَةِ نَفْيُ إِرَادَةِ وُجُودِ قِيَامِهِ، وَوُجُودِ خُرُوجِهِ، فَلَا يُرِيدُ لَا الْقِيَامَ وَلَا الْخُرُوجَ. وَهَذَا فِي فَهْمِهِ بَعْضُ غُمُوضٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَمَرَّنْ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ..
وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ هَذَا أَمْرٌ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ التَّلَبُّسَ بِالْمُعَاشَرَةِ غَالِبًا إِنَّمَا هُوَ لِلْأَزْوَاجِ، وَكَانُوا يُسِيئُونَ مُعَاشَرَةَ النِّسَاءِ، وَبِالْمَعْرُوفِ هُوَ النَّصَفَةُ فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْإِجْمَالُ فِي الْقَوْلِ. وَيُقَالُ: الْمَرْأَةُ تَسْمَنُ مِنْ أُذُنِهَا.
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً أَدَّبَ تَعَالَى عِبَادَهُ بِهَذَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَحْمِلْكُمُ الْكَرَاهَةُ عَلَى سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، فَإِنَّ كَرَاهَةَ الْأَنْفُسِ لِلشَّيْءِ لَا تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْخَيْرِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «١» وَلَعَلَّ مَا كَرِهَتِ النَّفْسُ يَكُونُ أَصْلَحَ فِي الدِّينِ وَأَحْمَدَ فِي الْعَاقِبَةِ، وَمَا أَحَبَّتْهُ يَكُونُ بِضِدِّ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَتْ عَسَى فِعْلًا جَامِدًا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَاءُ الْجَوَابِ، وَعَسَى هُنَا تَامَّةٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى اسْمٍ وَخَبَرٍ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى شَيْءٍ أَيْ: وَيَجْعَلُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ. (وَقِيلَ) : عَائِدٌ عَلَى الْكُرْهِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْفِعْلِ. (وَقِيلَ) : عَائِدٌ عَلَى الصَّبْرِ. وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْخَيْرَ بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ. وَانْظُرْ إِلَى فَصَاحَةِ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا، حَيْثُ عَلَّقَ الْكَرَاهَةَ بِلَفْظِ شَيْءٍ الشَّامِلِ شُمُولَ الْبَدَلِ، ولم يعلق الكراهة بضميرهن، فَكَانَ يَكُونُ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوهُنَّ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْحَثُّ عَلَى إِمْسَاكِهِنَّ وَعَلَى صُحْبَتِهِنَّ، وَإِنْ كَرِهَ الْإِنْسَانُ مِنْهُنَّ شَيْئًا مِنْ أَخْلَاقِهِنَّ. وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ. (وقيل) : معنى الآية:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١٦.
570
وَيَجْعَلُ اللَّهُ فِي فِرَاقِكُمْ لَهُنَّ خَيْرًا كَثِيرًا لَكُمْ وَلَهُنَّ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ «١» قَالَهُ الْأَصَمُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا.
وَقَلَّ أَنْ تَرَى مُتَعَاشِرَيْنِ يَرْضَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ خُلُقِ الْآخَرِ، وَيُقَالُ: مَا تَعَاشَرَ اثْنَانِ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا يَتَغَاضَى عَنِ الْآخَرِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَا يفزك مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ».
وَأَنْشَدُوا فِي هَذَا الْمَعْنَى:
وَمَنْ لَا يُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهُوَ عَاتِبُ
وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً لَمَّا أَذِنَ فِي مُضَارَّتِهِنَّ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ لِيَذْهَبَ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا، بَنَى تَحْرِيمَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ حَالِ الْفَاحِشَةِ، وَأَقَامَ الْإِرَادَةَ مَقَامَ الْفِعْلِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنِ اسْتَبْدَلْتُمْ. أو حذف معطوف أَيْ: وَاسْتَبْدَلْتُمْ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَآتَيْتُمْ أَنَّ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ: وَقَدْ آتَيْتُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ. وَالِاسْتِبْدَالُ وَضْعُ الشَّيْءِ مَكَانَ الشَّيْءِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنِ اخْتِيَارِكُمْ فَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا عَلَى جَوَازِ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ بِذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي خَاطَبَتْ عُمَرَ حِينَ خَطَبَ وَقَالَ: «أَلَا لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ نِسَائِكُمْ». وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَدُلُّ عَلَى الْمُغَالَاةِ، لِأَنَّهُ تَمْثِيلٌ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ كَأَنَّهُ: قِيلَ وَآتَيْتُمْ هَذَا الْقَدْرَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا يُؤْتِيهِ أَحَدٌ، وَهَذَا شَبِيهٌ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَسْجِدًا لَا يَكُونُ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّغَرِ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن أمهر مأتين وَجَاءَ يَسْتَعِينُ فِي مَهْرِهِ وغضب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنَّكُمْ تَقْطَعُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ الْحَرَّةِ»
وَقَالَ محمد بن عمر الرازي: لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْمُغَالَاةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتَيْتُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِيتَاءِ الْقِنْطَارِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ شَرْطًا لِشَيْءٍ آخَرَ كُونُ ذَلِكَ الشَّرْطِ فِي نَفْسِهِ جَائِزَ الْوُقُوعِ
كَقَوْلِهِ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ»
انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ، خِطَابًا لِجَمَاعَةٍ كَانَ مُتَعَلِّقُ الِاسْتِبْدَالِ أَزْوَاجًا مَكَانَ أَزْوَاجٍ، وَاكْتَفَى بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ لِدَلَالَةِ جَمْعِ الْمُسْتَبْدَلِينَ، إِذْ لَا يُوهِمُ اشْتِرَاطُ الْمُخَاطَبِينَ فِي زَوْجٍ وَاحِدَةٍ مَكَانَ زَوْجٍ واحدة، ولا إرادة معنى الجماع عَادَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إحداهن
(١) سورة النساء: ٤/ ١٣٠.
571
جَمْعًا وَالَّتِي نَهَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْهَا هِيَ الْمُسْتَبْدَلُ مكانها، لا الْمُسْتَبْدَلَةَ. إِذْ تِلْكَ هِيَ الَّتِي أَعْطَاهَا الْمَالَ، لَا الَّتِي أَرَادَ اسْتِحْدَاثَهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ «١» وَقَالَ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتَيْتُمُ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَأَتَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ إِحْدَاهُنَّ، أَيْ إِحْدَى الْأَزْوَاجِ قِنْطَارًا، وَلَمْ يَقُلْ: وَآتَيْتُمُوهُنَّ قِنْطَارًا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْجَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ آتَوُا الْأَزْوَاجَ قِنْطَارًا. وَالْمُرَادُ: آتَى كُلُّ وَاحِدٍ زَوْجَتَهُ قِنْطَارًا.
فَدَلَّ لَفْظُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: آتَيْتُمْ، الْمُرَادُ مِنْهُ كُلٍّ وَاحِدٌ وَاحِدٌ، كَمَا دَلَّ لَفْظُ:
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِبْدَالُ أَزْوَاجٍ مَكَانَ أَزْوَاجٍ، فَأُرِيدَ بِالْمُفْرَدِ هُنَا الْجَمْعُ لِدَلَالَةِ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ. وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْتُمْ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ لِدَلَالَةِ إِحْدَاهُنَّ، وَهِيَ مُفْرَدَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا مِنْ لَطِيفِ الْبَلَاغَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِأَوْجَزَ مِنْ هَذَا وَلَا أَفْصَحَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قِنْطَارٍ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ «٢» وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى قِنْطَارٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِوَصْلِ أَلِفِ إِحْدَاهُنَّ، كما قرىء: إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ بِوَصْلِ الْأَلِفِ، حُذِفَتْ عَلَى جِهَةِ التَّحْقِيقِ كَمَا قَالَ:
وَتَسْمَعُ مِنْ تَحْتِ الْعَجَاجِ لَهَا ازْمَلَا وَقَالَ:
إِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعَا وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا تَحْرِيمُ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا إِذَا كَانَ استبدل مَكَانِهَا بِإِرَادَتِهِ. قَالُوا: وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ «٣» قَالُوا:
وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. وَيُجْرَى هَذَا الْمَجْرَى الْمُخْتَلِعَةُ لِأَنَّهَا طَابَتْ نَفْسُهَا أَنْ تَدْفَعَ لِلزَّوْجِ مَا افْتَدَتْ بِهِ. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزْنِيُّ: لَا تَأْخُذْ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ شَيْئًا لِقَوْلِهِ: فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا وَآيَةُ الْبَقَرَةِ مَنْسُوخَةٌ بِهَذَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا، وَالنَّهْيُ بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ مَا آتَاهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ.
أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي آتَاهَا مَهْرًا فَقَطْ، بَلِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ صَارَ بَيْنَهُمَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَالِامْتِزَاجِ مَا لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا آتَاهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الخطاب عموما في
(١) سورة النساء: ٤/ ٢١.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٤.
(٣) سورة النساء: ٤/ ٤.
572
جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ الِاسْمُ، وَيَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ خَاصٍّ فِيهِ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ خُصُوصَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مِنْهُ تَسْلِيمٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ، أَيِ الْمَهْرَ. وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَفَ امْرَأَتَهُ نَفَقَتَهَا لِمُدَّةٍ ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، لَا يَرْجِعُ فِي مِيرَاثِهَا بِشَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ، أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى بَعْدَ مَوْتِهَا مُسْتَبْدِلًا بِهَا مَكَانَ الْأُولَى. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ قَدْ تَنَاوَلَ هَذِهِ الْحَالَةَ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ عُدِمَ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُسْتَبْدِلَ يَتْرُكُ هَذَا وَيَأْخُذُ آخَرَ بَدَلًا مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يَتْرُكُهُ وَيَأْخُذُ بَدَلَهُ آخَرَ؟ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا إِنْ أَرَادَ الِاسْتِبْدَالَ، وَآخِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ بِتَعْلِيلِهِ بِالْإِفْضَاءِ عَلَى الْعُمُومِ، فِي حَالَةِ الِاسْتِبْدَالِ وَغَيْرِهَا. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِيهَا أَنَّهُ لِمَكَانِ الِاسْتِبْدَالِ وَقِيَامِ غَيْرِهَا مَقَامَهَا، لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا وَيُعْطِيَهُ الثَّانِيَةَ، وَهِيَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْمُفَارِقَةِ.
فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الَّتِي اسْتَبْدَلَ مَكَانَهَا لَمْ يبح له أحد شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا، مَعَ سُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ بَضْعِهَا، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُبَاحَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ وَاسْتِبَاحَةِ بَضْعِهَا، وَكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْهَا بِنَفْسِهِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَأَبُو جَعْفَرٍ: شَيًّا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَنْوِينِهَا، حَذَفَ الْهَمْزَةَ وَأَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الْيَاءِ.
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أَصْلُ الْبُهْتَانِ: الْكَذِبُ الَّذِي يُوَاجِهُ بِهِ الْإِنْسَانُ صَاحِبَهُ عَلَى جِهَةِ الْمُكَابَرَةِ فَيُبْهَتُ الْمَكْذُوبُ عَلَيْهِ. أَيْ: يَتَحَيَّرُ ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ بَاطِلٍ يُتَحَيَّرُ مِنْ بُطْلَانِهِ بُهْتَانًا. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، أَيْ: أَتَفْعُلُونَ هَذَا مَعَ ظُهُورِ قُبْحِهِ؟ وَسُمِّيَ بُهْتَانًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا تَطْلِيقَ امْرَأَةٍ رَمَوْهَا بِفَاحِشَةٍ حَتَّى تَخَافَ وَتَفْتَدِيَ مِنْهُ مَهْرَهَا، فَجَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى الْأَمْرِ الْغَالِبِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بُهْتَانًا لِأَنَّهُ كَانَ فَرَضَ لَهَا الْمَهْرَ، وَاسْتِرْدَادُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ أَفْرِضْهُ، وَهَذَا بُهْتَانٌ. وَانْتَصَبَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، التَّقْدِيرُ: بَاهِتِينَ وَآثِمِينَ. أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ التَّقْدِيرُ: مُبْهِتًا مُحَيِّرًا لِشُنْعَتِهِ وَقُبْحِ الْأُحْدُوثَةِ، أَوْ مَفْعُولَيْنِ مِنْ أَجْلِهِمَا أَيْ: أَتَأْخُذُونَهُ لِبُهْتَانِكُمْ وَإِثْمِكُمْ؟ قَالَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضًا كَقَوْلِكَ: قَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ جَبْنًا.
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْضًا، أَنْكَرَ أَوَّلًا الْأَخْذَ، وَنَبَّهَ عَلَى امْتِنَاعِ الْأَخْذِ بِكَوْنِهِ بُهْتَانًا وَإِثْمًا. وَأَنْكَرَ ثَانِيًا حَالَةَ الْأَخْذِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ
573
مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُجَامَعَ حَالَ الْإِفْضَاءِ، لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ وَهُوَ الْمُبَاشَرَةُ وَالدُّنُوُّ الَّذِي مَا بَعْدَهُ دُنُوٌّ، يَقْتَضِي أَنْ لَا يُؤْخَذُ مَعَهُ شَيْءٌ مِمَّا أَعْطَاهُ الزَّوْجُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْإِفْضَاءِ أَخْذَ النِّسَاءِ الْمِيثَاقَ الْغَلِيظَ مِنَ الْأَزْوَاجِ. وَالْإِفْضَاءُ: الْجِمَاعُ قَالَهُ، ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، ومجاهد، والسدي.
وقال عمر، وعلي، وناس من الصحابة، والكلبي، وَالْفَرَّاءُ: هِيَ الْخَلْوَةُ وَالْمِيثَاقُ
، هُوَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «١» قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالسُّدِّيُّ، وقتادة. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ يُقَالُ لِلنَّاكِحِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ: عَلَيْكُمْ لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ لَتُسَرِّحَنَّ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ:
الْمِيثَاقُ كَلِمَةُ اللَّهِ الَّتِي اسْتَحْلَلْتُمْ بِهَا فُرُوجَهُنَّ، وَهِيَ قَوْلُ الرَّجُلِ: نَكَحْتُ وَمَلَكْتُ النِّكَاحَ وَنَحْوُهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمِيثَاقُ الْوَلَدُ، إِذْ بِهِ تَتَأَكَّدُ أَسْبَابُ الْحُرْمَةِ وَتَقْوَى دَوَاعِي الْأُلْفَةِ. وَقِيلَ: مَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ مِنْ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنَ الصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةَ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ حَقُّ الصُّحْبَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَخَذْنَ بِهِ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا، أَيْ بِإِفْضَاءِ بَعْضِكُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَوَصَفَهُ بِالْغِلَظِ لِقُوَّتِهِ وَعِظَمِهِ، فَقَدْ قَالُوا: صُحْبَةُ عِشْرِينَ يَوْمًا قَرَابَةٌ، فَكَيْفَ بِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِاتِّحَادِ وَالِامْتِزَاجِ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً «٢» وَقَدْ ذَكَرُوا قِصَصًا مَضْمُونُهَا: أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ كَانَ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةَ أَبِيهِ، وَسَمَّوْا جَمَاعَةً تَزَوَّجُوا زَوْجَاتِ آبَائِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ آبَائِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي النِّكَاحِ: أَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، أَمْ فِي الْعَقْدِ، أَمْ مُشْتَرَكٌ؟ قَالُوا: وَلَمْ يَأْتِ النِّكَاحُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ إِلَّا فِي فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ «٣» وَهَذَا الْحَصْرُ مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «٤». وَاخْتُلِفَ فِي مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ. فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهَا مَفْعُولُهُ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى النَّوْعِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «٥» أَيْ:
وَلَا تَنْكِحُوا النَّوْعَ الَّذِي نَكَحَ آبَاؤُكُمْ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَا تَقَعُ عَلَى أنواع من
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٩.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٩.
(٣) سورة النساء: ٤/ ٢٥.
(٤) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٩. [.....]
(٥) سورة النساء: ٤/ ٣.
574
يَعْقِلُ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ وُقُوعَهَا عَلَى آحَادِ مَنْ يَعْقِلُ. أَمَّا مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَّضِحُ حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَعَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ مِنْ إِطْلَاقِ مَا عَلَى مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ تَلَقَّتِ الصَّحَابَةُ الْآيَةَ وَاسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ حَلَائِلَ الْآبَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا يَحْرُمُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا أَبُوكَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ.
وَقَالَ قَوْمٌ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ آبَائِكُمْ أَيْ: مِثْلَ نِكَاحِ آبَائِكُمُ الْفَاسِدِ، أَوِ الْحَرَامِ الَّذِي كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَالشِّغَارِ وَغَيْرِهِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ ضَرْبَ الْأَمِيرِ أَيْ: مِثْلَ ضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَيُبَيِّنُ كَوْنَهُ حَرَامًا أَوْ فَاسِدًا قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «١» وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ وَلَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ اللَّاتِي نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ مَا مِنْ. وَحَمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ النِّكَاحِ هُنَا عَلَى الْوَطْءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرِثُونَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي جَمَاعَةٍ: الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، لَا مَا كَانَ مِنْهُمْ بِالزِّنَا انْتَهَى.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُنْقَطِعٌ، إِذْ لَا يُجَامِعُ الِاسْتِقْبَالُ الْمَاضِيَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُهُمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّ مُتَعَاطِيَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ آثِمٌ، وَتَطَرَّقَ الْوَهْمُ إِلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ قَبْلُ النَّهْيِ مَا حُكْمُهُ. فَقِيلَ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أَيْ: لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ، فَلَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّهْيُ فَلَا إِثْمَ فِيهِ. وَلَمَّا حَمَلَ ابْنُ زَيْدٍ النِّكَاحَ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، حَمَلَ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، عَلَى مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الزِّنَا، فَقَالَ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الزِّنَا بِالنِّسَاءِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَكُمْ زَوَاجُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَعْقِدُوا عَلَى مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ زِنَاهُمْ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَتَزَوَّجُوهُمْ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. وَقِيلَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَطِئَهَا أَبُوهُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنَ الْأَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلِابْنِ تَزَوُّجُهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، إِذْ مَا قَدْ سَلَفَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ، إِذِ المراد: ما
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٢.
575
وَطِئَ آبَاؤُكُمْ. وَمَا وَطِئَ يَشْمَلُ الْمَوْطُوءَةَ بِزِنًا وَغَيْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا وَطِئَ آبَاؤُكُمْ إِلَّا الَّتِي تَقَدَّمَ هُوَ أَيْ: وَطْؤُهَا بِزِنًا مِنْ آبَائِكُمْ فَانْكِحُوهُنَّ. وَمَنْ جَعَلَ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ مَصْدَرِيَّةً كَمَا قَرَّرْنَاهُ، قَالَ: الْمَعْنَى إِلَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْكُمْ مِنْ تِلْكَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فَمُبَاحٌ لَكُمُ الْإِقَامَةُ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، إِذَا كَانَ مِمَّا تَقَرَّرَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ اسْتَثْنَى ما قد سلف من مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ؟ (قُلْتُ) : كَمَا اسْتَثْنَى غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ. يَعْنِي: إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ فَانْكِحُوهُ، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَالْغَرَضُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِهِ وَسَدُّ الطَّرِيقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ، كَمَا يُعَلَّقُ بالمحال فِي التَّأْبِيدِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُّ، وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وقال الأخفش المعنى: فإنكم تُعَذَّبُونَ بِهِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، فَقَدْ وَضَعَهُ اللَّهُ عَنْكُمْ.
وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، وَهَذَا جَهْلٌ بِعِلْمِ النَّحْوِ، وَعِلْمِ الْمَعَانِي. أَمَّا مِنْ حَيْثُ عِلْمِ النَّحْوِ فَمَا كَانَ فِي حَيِّزِ إِنَّ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَثْنَى لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هُوَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهَا بِالِاتِّصَالِ أَوِ الِانْقِطَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا خِلَافٌ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ فَاحِشَةٌ وَمَقْتٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَاضِي، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى هُوَ فَاحِشَةٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، إِلَّا مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي فَلَيْسَ بِفَاحِشَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي كَلَامٍ عَرَبِيٍّ لِتَهَافَتِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ نَكَحَهَا أَبُو الرَّجُلِ بِعَقْدٍ أَوْ مِلْكٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَهَا بِعَقْدٍ أَوْ مِلْكٍ، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِعَقْدٍ أَوْ مِلْكٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا نِكَاحٌ أَوْ سِفَاحٌ، وَالسِّفَاحُ هُوَ الزِّنَا، وَالنِّكَاحُ هُوَ الْمُبَاحُ، وَأَشَارَ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا أَيْ أَنَّ نِكَاحَ الْأَبْنَاءِ نِسَاءَ آبَائِهِمْ هُوَ فَاحِشَةٌ أَيْ:
بَالِغَةٌ فِي الْقُبْحِ. وَمَقْتٌ: أَيْ يَمْقُتُ اللَّهُ فَاعِلَهُ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. أَوْ تَمْقُتُهُ الْعَرَبُ أَيْ: مُبْغَضٌ مُحْتَقَرٌ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ نَاسٌ مِنْ ذوي المروءات فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَمْقُتُونَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الْوَلَدَ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ زَوْجِ الْوَالِدِ الْمَقْتِيَّ، نِسْبَةً إِلَى الْمَقْتِ. وَمَنْ فَسَّرَ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِالزِّنَا جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُ عائد عَلَيْهِ أَيْ: أَنَّ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ زِنَا الآباء كان فاحشة، وكان يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا بِمَعْنَى لَمْ يَزَلْ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ فَاحِشَةً، بَلْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْفُحْشِ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَالْفُحْشُ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ.
576
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ زَائِدَةٌ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بِوُجُودِ الْخَبَرِ، إِذِ الزَّائِدَةُ لَا خَبَرَ لَهَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ كَانَ لَا يُرَادُ بِهَا تَقْيِيدُ الْخَبَرِ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي فَقَطْ، فَجَعَلَهَا زَائِدَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَسَاءَ سَبِيلًا هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ، كَمَا يُبَالَغُ بِبِئْسَ. فَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّهُ، فَإِنَّهَا لَا تَجْرِي عَلَيْهَا أحكام بئس. وان الضَّمِيرُ فِيهَا مُبْهَمًا كَمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَتَفْسِيرُهُ سَبِيلًا، وَيَكُونُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ إِذْ ذَاكَ مَحْذُوفًا التَّقْدِيرُ: وَبِئْسَ سَبِيلًا سَبِيلُ هَذَا النِّكَاحِ، كَمَا جَاءَ بِئْسَ الشَّرَابُ أَيْ: ذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي كَالْمُهْلِ. وَبَالَغَ فِي ذَمِّ هَذِهِ السَّبِيلِ، إِذْ هِيَ سَبِيلٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: لَقِيتُ خَالِي وَمَعَهُ الرَّايَةُ فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ لَمَّا تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ امْرَأَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ وَلَيْسَتْ أُمَّهُ، كَانَ تَحْرِيمُ أُمِّهِ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُجْمَلِ، بَلْ هَذَا مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: حُرِّمَ عَلَيْكَ الْخَمْرُ، إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ شُرْبُهَا.
وَحُرِّمَتْ عَلَيْكَ الْمَيْتَةُ أَيْ: أَكْلُهَا. وَهَذَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَالْمَعْنَى: نِكَاحُ أُمَّهَاتِكُمْ. وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ «١».
وَقَالَ محمد بن عمر الرازي: فِيهَا عِنْدِي بَحْثٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ بِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ بِأَنَّ الْمُحَرِّمَ هُوَ اللَّهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ حُرِّمَتْ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْبِيدِ، إِذْ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى الْمُؤَبَّدِ وَالْمُؤَقَّتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ عَلَيْكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ، فَيَخْتَصُّ بِالْحَاضِرِينَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ حُرِّمَتْ مَاضٍ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْحَالَ وَالْمُسْتَقْبَلَ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُحَرِّمُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ جَمِيعَ أُمَّهَاتِهِمْ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ حُرِّمَتْ يُشْعِرُ ظَاهِرُهُ بِسَبْقِ الْحِلِّ، إِذْ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا قِيلَ: حُرِّمَتْ. وَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَهَذِهِ الْبُحُوثُ الَّتِي ذَكَرَهَا لَا تَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا طَائِلَ فِيهَا، إِذْ مِنَ الْبَوَاعِثِ عَلَى حَذْفِ الْفَاعِلِ الْعِلْمُ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَرِّمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. أَلَا تَرَى إِلَى آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً «٢» وقال بعد:
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٢.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢٣.
577
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ «١» عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ بَنَاهُ لِلْفَاعِلِ. وَمَتَى جَاءَ التَّحْرِيمُ مِنَ اللَّهِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا التَّأْبِيدُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَالَةُ إِبَاحَةٍ نَصَّ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ «٢» وَأَمَّا أَنَّهُ صِيغَةُ مَاضٍ فَيَخُصُّهُ فَالْأَفْعَالُ الَّتِي جَاءَتْ يُسْتَفَادُ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَإِنَّهَا لَا تَخُصُّهُ، فَإِنَّهَا نَظِيرُ أَقْسَمْتُ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ إِقْسَامٌ فِي زَمَانٍ مَاضٍ. فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا قَبْلَ وُرُودِ الْفِعْلِ فَفَائِدَتُهُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَفَائِدَتُهُ إِنْشَاءُ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَتَجْدِيدُهُ. وَأَمَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُحَرِّمُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ جَمِيعَ أُمَّهَاتِهِمْ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَلَا مَفْهُومٍ مِنَ اللَّفْظِ. لِأَنَّ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ عَامٌّ يُقَابِلُهُ عَامٌّ، وَمَدْلُولُ الْعُمُومِ أَنَّ تُقَابِلَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ. أَمَّا أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِيَّةِ فَلَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَلَالَةَ الْعَامِّ. فَإِنَّمَا الْمَفْهُومُ: حُرِّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كُلُّ وَاحِدَةٍ، وَاحِدَةٍ مِنْ أُمِّ نَفْسِهِ. وَالْمَعْنَى: حُرِّمَ عَلَى هَذَا أُمُّهُ. وَعَلَى هَذَا أُمُّهُ وَالْأُمُّ الْمُحَرَّمَةُ شَرْعًا هِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ رَجَعَ نَسَبُكَ إِلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ جِهَةِ أَبِيكَ، أَوْ مِنْ جِهَةِ أُمِّكَ.
وَلَفْظُ الْأُمِّ حَقِيقَةٌ فِي الَّتِي ولدتك نفسه. وَدَلَالَةُ لَفْظِ الْأُمِّ عَلَى الجدّة إن كان بالتواطىء أَوْ بِالِاشْتِرَاكِ، وَجَازَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ، كَانَ حَقِيقَةً، وَتَنَاوَلَهَا النَّصُّ. وَإِنْ كَانَ بِالْمَجَازِ وَجَازَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَيُسْتَفَادُ تَحْرِيمُ الْجَدَّاتِ مِنَ الْإِجْمَاعِ أَوْ مِنْ نَصٍّ آخَرَ.
وَحُرْمَةُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ كَانَتْ مِنْ زَمَانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ هَذَا التَّحْرِيمِ: أَنَّ الْوَطْءَ إِذْلَالٌ وَامْتِهَانٌ، فَصِينَتِ الْأُمَّهَاتُ عَنْهُ، إِذْ إِنْعَامُ الْأُمِّ عَلَى الْوَلَدِ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ.
وَالْبِنْتُ الْمُحَرَّمَةُ كُلُّ أُنْثَى رَجَعَ نَسَبُهَا إِلَيْكَ بِالْوِلَادَةِ بِدَرَجَةٍ أَوْ دَرَجَاتٍ بِإِنَاثٍ أَوْ ذُكُورٍ، وَبِنْتُ الْبِنْتِ هَلْ تُسَمَّى بِنْتًا حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا الْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْجَدَّةِ، وَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ مَنْ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهُوَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ تَمَجَّسَ، ذَكَرَ ذَلِكَ: النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فِي كِتَابِ الْمَثَالِبِ.
وَأَخَواتُكُمْ الْأُخْتُ الْمُحَرَّمَةُ كُلُّ مَنْ جَمْعَكَ وَإِيَّاهَا صُلْبٌ أَوْ بَطْنٌ.
وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ الْعَمَّةُ: أُخْتُ الْأَبِ، وَالْخَالَةُ: أُخْتُ الْأُمِّ. وَخَصَّ تَحْرِيمَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ دُونَ أَوْلَادِهِنَّ. وَتَحْرُمُ عَمَّةُ الْأَبِ وَخَالَتُهُ وَعَمَّةُ الْأُمِّ وَخَالَتُهَا، وَعَمَّةُ
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٤.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٧٣.
578
العمة. وأما خَالَةِ الْعَمَّةِ فَإِنْ كَانَتِ الْعَمَّةُ أُخْتَ أَبٍ لِأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَلَا تَحِلُّ خَالَةُ الْعَمَّةِ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْجَدَّةِ. وَإِنْ كَانَتِ الْعَمَّةُ إِنَّمَا هِيَ أُخْتُ أَبٍ لِأَبٍ فَقَطْ، فَخَالَتُهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ بَنِي أَخِيهَا تَحِلُّ لِلرِّجَالِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النِّسَاءِ. وَأَمَّا عَمَّةُ الْخَالَةِ فَإِنْ كَانَتِ الْخَالَةُ أُخْتَ أُمٍّ لِأَبٍ فَلَا تَحِلُّ عَمَّةُ الْخَالَةِ، لِأَنَّهَا أُخْتُ جَدٍّ. وَإِنْ كَانَتِ الْخَالَةُ أُخْتَ أُمٍّ لِأُمٍّ فَقَطْ فَعَمَّتُهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ بَنِي أُخْتِهَا.
وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ تَحْرُمُ بَنَاتُهُمَا وَإِنْ سَفُلْنَ. وَأُفْرِدَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَلَمْ يَأْتِ جَمْعًا، لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْجَمْعُ، فَكَانَ لَفْظُ الْإِفْرَادِ أَخَفَّ، وَأُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ الْمُنْتَظِمُ فِي الدَّلَالَةِ الْوَاحِدَةِ وَغَيْرُهُ. فَهَؤُلَاءِ سَبْعٌ مِنَ النَّسَبِ تَحْرِيمُهُنَّ مُؤَبَّدٌ. وَأَمَّا اللَّوَاتِي صِرْنَ مُحَرَّمَاتٍ بِسَبَبٍ طَارِئٍ فَذَكَرَهُنَّ فِي الْقُرْآنِ سَبْعًا وَهُنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَسَمَّى الْمُرْضِعَاتِ أُمَّهَاتٍ لِأَجْلِ الْحُرْمَةِ، كَمَا سَمَّى أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا سَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا وَالْمُرْضِعَةَ مَعَ الرَّاضِعِ أُخْتًا، نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِجْرَاءِ الرَّضَاعِ مَجْرَى النَّسَبِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَرُمَ بِسَبَبِ النَّسَبِ سَبْعٌ: اثْنَتَانِ هُمَا الْمُنْتَسِبَتَانِ بِطَرِيقِ الْوِلَادَةِ وَهُمَا: الْأُمُّ وَالْبِنْتُ. وَخَمْسٌ بِطَرِيقِ الْأُخُوَّةِ وَهُنَّ: الْأُخْتُ، وَالْعَمَّةُ، وَالْخَالَةُ، وَبِنْتُ الْأَخِ، وَبِنْتُ الْأُخْتِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الرَّضَاعَ ذَكَرَ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ صُورَةً تَنْبِيهًا عَلَى الْبَاقِي، فَذَكَرَ مِنْ قِسْمِ قَرَابَةِ الْأَوْلَادِ الْأُمَّهَاتِ، وَمِنْ قِسْمِ قرابة الإخوة والأخوات، وَنَبَّهَ بِهَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي بَابِ الرَّضَاعِ كَالْحَالِ فِي بَابِ النسب. ثم أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَّدَ هَذَا بِصَرِيحِ
قَوْلِهِ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»
فَصَارَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ مُطَابِقًا لِمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ. فَزَوْجُ الْمُرْضِعَةِ أَبُوهُ، وَأَبَوَاهُ جَدَّاهُ، وَأُخْتُهُ عَمَّتُهُ. وَكُلُّ وَلَدٍ وُلِدَ لَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَبَعْدَهُ فَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ لِأَبِيهِ، وَأُمُّ الْمُرْضِعَةِ جَدَّتُهُ، وَأُخْتُهَا خَالَتُهُ. وَكُلُّ مَنْ وُلِدَ لَهَا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ فَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. وَأَمَّا وَلَدُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ لِأُمِّهِ.
وَقَالُوا: تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ كَتَحْرِيمِ النَّسَبِ إِلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنَ النَّسَبِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنَ الرَّضَاعِ. لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّسَبِ وَطْؤُهُ أُمَّهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الرَّضَاعِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أَخِيهِ مِنَ النَّسَبِ، وَيَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ. لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي النَّسَبِ وَطْءُ الْأَبِ إِيَّاهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الرَّضَاعِ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ إِطْلَاقُ الرَّضَاعِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ إِلَى سِنِّ الرَّاضِعِ،
579
وَلَا عَدَدَ الرَّضَعَاتِ. وَلَا لِلَبَنِ الْفَحْلِ، وَلَا لِإِرْضَاعِ الرَّجُلِ لَبَنَ نَفْسِهِ لِلصَّبِيِّ، أَوْ إِيجَارِهِ بِهِ، أَوْ تَسْعِيطِهِ بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اللَّاتِي أرضعنكم. وقرأ عبد الله: اللَّايِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: الَّتِي. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: مِنَ الرِّضَاعَةِ بِكَسْرِ الرَّاءِ.
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى الْعُمُومِ. فَسَوَاءٌ عَقَدَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَدْخُلْ، أَمْ دَخَلَ بِهَا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهُمَا: أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا. وَأَنَّهَا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيبَةِ.
وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي تَحْرِيمِهَا أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَلِيٌّ، وَبِهِ أَخَذَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. فَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ وَفَارَقَ أُمَّهَا بَعْدَ الدُّخُولِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. قَالُوا: حَرَّمَ اللَّهُ الرَّبِيبَةَ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ. الثَّانِي: الدُّخُولُ بِالْأُمِّ. فَإِذَا فُقِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ لَمْ يُوجَدِ التَّحْرِيمُ.
وَاحْتَجُّوا
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»
فَشَرَطَ الْحَجْرَ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِضَافَتُهُنَّ إِلَى الْحُجُورِ حَمْلًا عَلَى أَغْلَبِ مَا يَكُونُ الرَّبَائِبُ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْحِجْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: فِي حُجُورِكُمْ؟ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ التَّعْلِيلُ لِلتَّحْرِيمِ، وَأَنَّهُنَّ لِاحْتِضَانِكُمْ لَهُنَّ، أَوْ لِكَوْنِهِنَّ بِصَدَدِ احْتِضَانِكُمْ. وَفِي حُكْمِ التَّقَلُّبِ فِي حُجُورِكُمْ إِذَا دَخَلْتُمْ بِأُمَّهَاتِهِنَّ، وَتَمَكَّنَ حُكْمُ الزَّوَاجِ بِدُخُولِكُمْ جَرَتْ أَوْلَادُهُنَّ مَجْرَى أَوْلَادِكُمْ، كَأَنَّكُمْ فِي الْعَقْدِ عَلَى بَنَاتِهِنَّ عَاقِدُونَ عَلَى بَنَاتِكُمْ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ.
مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَرَبَائِبُكُمْ فَقَطْ.
وَاللَّاتِي: صفة لنسائكم المجرور بمن، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ اللاتي وصفا لنسائكم مِنْ قَوْلِهِ:
وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ، ونسائكم المجرور بمن، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمَنْعُوتَيْنِ قَدِ اخْتَلَفَ: هَذَا مَجْرُورٌ بِمِنْ، وَذَاكَ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ. وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِسَائِكُمُ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ يَنْتَظِمُ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبِكُمْ، لِاخْتِلَافِ مَدْلُولِ حَرْفِ الْجَرِّ إِذْ ذَاكَ، لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ:
وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ يكون من نسائكم لبيان النِّسَاءِ، وَتَمْيِيزُ الْمَدْخُولِ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، يكون من نسائكم لبيان ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا ابْنِي مِنْ فُلَانَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ
580
أُعَلِّقَهُ بِالنِّسَاءِ وَالرَّبَائِبِ، وَأَجْعَلَ مِنْ لِلِاتِّصَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ «١»، فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، مَا أَنَا مِنْ دَدٍّ وَلَا الدَّدُّ مِنِّي. وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ مُتَّصِلَاتٌ بِالنِّسَاءِ، لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُهُنَّ. كَمَا أَنَّ الرَّبَائِبَ مُتَّصِلَاتٌ بِأُمَّهَاتِهِنَّ، لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُهُنَّ انْتَهَى. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مِنْ مَعَانِي مَنِ الِاتِّصَالَ. وَأَمَّا مَا شَبَّهَ بِهِ مِنَ الْآيَةِ وَالشِّعْرِ وَالْحَدِيثِ، فَمُتَأَوَّلٌ: وَإِذَا جَعَلْنَا مِنْ نِسَائِكُمُ مُتَعَلِّقًا بِالنِّسَاءِ، وَالرَّبَائِبِ كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِكُلٍّ مِنَ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبِ. فأما تركيبه مع لربائب فَفِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْحُسْنِ، وَهُوَ نَظْمُ الْآيَةِ. وَأَمَّا تَرْكِيبُهُ مَعَ قَوْلِهِ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ:
وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَهَذَا تَرْكِيبٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ، لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ فِي إِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ نِسَائِكُمْ. وَالدُّخُولُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ لِقَوْلِهِمْ: بَنَى عَلَيْهَا، وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ.
وَالْبَاءُ: لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى: اللَّاتِي أَدْخَلْتُمُوهُنَّ السِّتْرَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ، وَابْنُ دِينَارٍ. فَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ الْجِمَاعِ، جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا. وقال عطاء، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث: إِذَا مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا، وَحَرُمَتْ عَلَى الْأَبِ وَالِابْنِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا بِشَهْوَةٍ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يُحَرِّمُ النَّظَرُ حَتَّى تَلْمِسَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُحَرِّمُ النَّظَرُ إِلَى شَعَرِهَا، أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهَا بِلَذَّةٍ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يُحَرِّمُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُحَرِّمُ إِذَا كَانَ تَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِهَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّهْوَةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: إِذَا نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ فَلَا يَنْكِحُ أُمَّهَا وَلَا ابْنَتَهَا، وَعَدَّوْا هَذَا الْحُكْمَ إِلَى الْإِمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا مَلَكَ الْأَمَةَ وَغَمَزَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ كَشَفَهَا، أَوْ قَبَّلَهَا، لَا تَحِلُّ لِوَلَدِهِ بِحَالٍ. وَأَمَرَ مَسْرُوقٌ أَنْ تُبَاعَ جَارِيَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُصِبْ مِنْهَا إِلَّا مَا يُحَرِّمُهَا عَلَى وَلَدِي مِنَ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ. وَجَرَّدَ عُمَرُ أَمَةً خَلَا بِهَا فَاسْتَوْهَبَهَا ابْنٌ لَهُ فَقَالَ:
لَا تَحِلُّ لَكَ.
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَيْ: فِي نِكَاحِ الرَّبَائِبِ. وَلَيْسَ جَوَازُ نِكَاحِ الرَّبَائِبِ مَوْقُوفًا عَلَى انْتِفَاءِ مُطْلَقِ الدُّخُولِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، وَفَارَقْتُمُوهُنَّ بِطَلَاقٍ مِنْكُمْ إِيَّاهُنَّ، أو موت منهن.
(١) سورة التوبة: ٩/ ٦٧.
581
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ عَلَى الْأَبْنَاءِ، وَمَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْأَبْنَاءُ عَلَى الْآبَاءِ كَانَ مَعَ الْعَقْدِ وَطْءٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَالْحَلِيلَةُ: اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ. وَلَمَّا عَلَّقَ حُكْمَ التَّحْرِيمِ بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ الْوَطْءِ، اقْتَضَى تَحْرِيمَهُنَّ بِالْعَقْدِ دُونَ شَرْطِ الْوَطْءِ. وَجَاءَ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَهُوَ وَصْفٌ لِقَوْلِهِ: أَبْنَائِكُمْ، بِرَفْعِ الْمَجَازِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ أَبْنَائِكُمْ إِذْ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى مَنِ اتَّخَذَتْهُ الْعَرَبُ ابْنًا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَتَبَنَّتْهُ ابْنًا، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، إِلَى أَنْ نَزَلَ: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ «١» الْآيَةَ وَكَمَا قَالَتِ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي سَالِمٍ: إِنَّا كُنَّا نَرَاهُ ابْنًا. وَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةَ وَهِيَ بِنْتُ عَمَّتِهِ، أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ فَارَقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ مِنَ الرَّضَاعِ فِي التَّحْرِيمِ كَحَلِيلَةِ الِابْنِ مِنَ الصُّلْبِ، اسْتِنَادًا إِلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالزَّوْجَاتِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الشِّرَاءِ لِلْجَارِيَةِ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَى أَبِيهِ وَلَا ابْنِهِ، فَلَوْ لَمَسَهَا أَوْ قَبَّلَهَا حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ، لَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي مُجَرَّدِ النَّظَرِ بِشَهْوَةٍ.
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَنْ تَجْمَعُوا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِعَطْفِهِ عَلَى مَرْفُوعٍ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَوْجَيْنِ، أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّزْوِيجِ، فَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْعَقْدِ عَلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدَانِ مَعًا، أَمْ مُرَتَّبًا. وَاخْتَلَفُوا فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا: فَرُوِيَ عَنْ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، ومجاهد فِي آخَرِينَ مِنَ التَّابِعِينَ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ الْعِدَّةَ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إِذَا كَانَتْ مِنَ الثَّلَاثِ وَهُوَ قَوْلُ: أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. وَرُوِيَ عَنْ عروة، والقاسم، وخلاس: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ، وَهُوَ قَوْلُ: مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ. وَاخْتُلِفَ عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. وَالْجَوَازُ ظَاهِرُ الْآيَةِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا. وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا خِلَافَ فِي شِرَائِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي مِلْكِهِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الوطء:
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٠.
582
فذهب عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، والزبير، وابن عمر، وعمار وَزَيْدٌ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَهَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ أَوِ التَّحْرِيمِ؟ فَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ:
الْكَرَاهَةَ. وَذَكَرَ عَنْ إِسْحَاقَ: التَّحْرِيمَ وَكَانَ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَمِيرِ أَبِي زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصٍ مِلْكُ أَفْرِيقِيَّةَ قَدْ سَأَلَ أَحَدَ شُيُوخِنَا الَّذِينَ لَقِينَاهُمْ بِتُونِسَ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْعَابِدُ الْمُنْقَطِعُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَالِصٍ الْإِشْبِيلِيُّ: أَلَا تَرَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْوَطْءِ؟ فَأَجَابَهُ بِالْمَنْعِ، وَكَانَ غَيْرُهُ قَدْ أَفْتَاهُ بِالْجَوَازِ.
وَاسْتَدَلَّ شَيْخُنَا عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: إِبَاحَةُ ذَلِكَ. وَإِذَا انْدَرَجَ أَيْضًا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ بِتَزَوُّجٍ وَمِلْكِ يَمِينٍ، فَيَكُونُ قَدْ تَزَوَّجَ وَاحِدَةً، وَمَلَكَ أُخْتَهَا. وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْفُرُوعِ هُنَا، وَمَوْضِعُ ذَلِكَ كُتُبُ الْفِقْهِ.
إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ استثناء مُنْقَطِعٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأَخِيرِ، وَهُوَ: أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ، وَوَقَعَ. وَأَزَالَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ حُكْمَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهُ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّهُ وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ قَوْلُهُ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، فَلَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتَيْنِ، بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَيُطَلِّقُ الْوَاحِدَةَ، وَيُمْسِكُ الْأُخْرَى كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيثِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلِمِيِّ: أَنَّهُ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْ إِحْدَاهُمَا وَأَمْسِكِ الْأُخْرَى»
وَظَاهِرُ حَدِيثِ فَيْرُوزٍ: التَّخْيِيرُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى وَقْتِ الْعَقْدِ، وَهُوَ مذهب مالك، ومحمد، والليث، وَذَهَبَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يوسف، والثوري إِلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ مَنْ سَبَقَ نِكَاحُهَا، فَإِنْ كَانَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ كَانَ مُبَاحًا، هَذَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمَعَ بَيْنَ أُمِّ يُوسُفَ وَأُخْتِهَا. وَيَضْعُفُ هَذَا لِبُعْدِ صِحَّةِ إِسْنَادِ قِصَّةِ يَعْقُوبَ فِي ذَلِكَ، وَكَوْنِ هَذَا التَّحْرِيمِ مُتَعَلِّقًا بِشَرْعِنَا نَحْنُ، لَا يَظْهَرُ مِنْهُ ذِكْرُ عَفْوٍ عَنْهُ فِيمَا فَعَلَ غَيْرُنَا.
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الْإِحْصَانُ: التَّزَوُّجُ، أَوِ الْحُرِّيَّةُ، أَوِ الْإِسْلَامُ، أَوِ الْعِفَّةُ. وَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي تَصَرَّفَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْقُرْآنِ، وَيُفَسَّرُ كُلُّ مَكَانٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْهَا.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسَ، فَلَقَوْا عَدُوًّا وَأَصَابُوا سَبْيًا لَهُنَّ أَزْوَاجٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَتَأَثَّمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
583
غِشْيَانِهِنَّ، فَنَزَلَتْ.
فَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْمُزَوَّجَاتُ. وَالْمُسْتَثْنَى هُوَ السَّبَايَا، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ مَنْ لَهَا زَوْجٌ فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: أَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ عباس، وأبو قلابة، ومكحول، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَذَاتُ حَلِيلٍ أَنَكَحَتْهَا رِمَاحُنَا حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ
وَقِيلَ: الْمُحْصَنَاتُ الْمُزَوَّجَاتُ، وَالْمُسْتَثْنَى هُنَّ الْإِمَاءُ، فَتَحْرُمُ الْمُزَوَّجَاتُ إِلَّا مَا مُلِكَ مِنْهُنَّ بِشِرَاءٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ إِرْثٍ. فَإِنَّ مَالِكَهَا أَحَقُّ بِبُضْعِهَا مِنَ الزَّوْجِ، وَبَيْعِهَا، وَهِبَتِهَا، وَالصَّدَقَةِ بِهَا وَإِرْثُهَا طَلَاقٌ لَهَا. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عبد الله، وأبي جَابِرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وسعيد، وَالْحَسَنُ. وَذَهَبَ عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وعبيدة، وطاووس، وابن جبير، وعطاء: إِلَى أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ هُنَّ الْعَفَائِفُ، وَأُرِيدَ بِهِ كُلُّ النِّسَاءِ حَرَامٌ، وَالشَّرَائِعِ كُلُّهَا تَقْتَضِي ذَلِكَ. وَالْمُسْتَثْنَى مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِنِكَاحٍ أَوْ بِمِلْكٍ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَحْتَ مِلْكِ الْيَمِينِ. وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْمَعْنَى تَحْرِيمَ الزِّنَا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي الْمُحْصَنَاتِ أَنَّهُنَّ الْحَرَائِرُ؟ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ بِنِكَاحٍ إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَإِنْ كَانَ أُرِيدُ بِهِ الْإِمَاءُ كَانَ مُنْقَطِعًا. قِيلَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْإِحْصَانِ إِنْ تَعَلَّقَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَعَانِيهِ الْأَرْبَعَةُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُ الْإِحْصَانِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ:
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ. وَعَرْفِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِمَاءُ، وَيَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى مَا صَحَّ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَاتِ الْإِحْصَانِ. وَكُلُّ مَا صَحَّ مِلْكُهَا مِلْكَ يَمِينٍ حَلَّتْ لِمَالِكِهَا مِنْ مَسْبِيَّةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ مُزَوَّجَةٍ.
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ فِي فَتْحِ الصَّادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سِوَى هَذَا فَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِ الصَّادِ، سَوَاءٌ كَانَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، أَمْ نَكِرَةً. وَقَرَأَ بَاقِيهِمْ وَعَلْقَمَةُ: بِالْفَتْحِ، كَهَذَا الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ: وَالْمُحْصُنَاتُ بِضَمِّ الصَّادِ اتِّبَاعًا لِضَمَّةِ الْمِيمِ، كَمَا قَالُوا: مُنْتُنٌ، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِالْحَاجِزِ لِأَنَّهُ سَاكِنٌ، فَهُوَ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: فَائِدَةُ قَوْلِهِ: مِنَ النِّسَاءِ، أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ تَقَعُ عَلَى الْأَنْفُسِ فَقَوْلُهُ:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ «١» لَوْ أُرِيدَ بِهِ النِّسَاءُ خَاصَّةً، لَمَا حُدَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حَدَّهُ بِهَذَا النَّصِّ.
كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ انْتَصَبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ وَهُوَ فِعْلٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ
(١) سورة النور: ٢٤/ ٤.
584
من قوله: حرمت عليكم. وَكَأَنَّهُ قِيلَ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ كِتَابًا. وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «١» كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، فَقَدْ أَبْعَدَ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكِسَائِيُّ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي بَابِ الإعراب الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ مُسْتَدِلًّا بِهَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ تَقْدِيرُ ذَلِكَ عِنْدَهُ: عَلَيْكُمْ كِتَابَ اللَّهِ أَيِ: الْزَمُوا كِتَابَ اللَّهِ. لَا يَتِمُّ دَلِيلُهُ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَيُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ ومحمد بن السميفع الْيَمَانِيِّ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا رَافِعًا مَا بَعْدَهُ، أَيْ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ السميفع أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ:
كُتُبُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ جَمْعًا وَرَفْعًا أَيْ: هَذِهِ كُتُبُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيْ: فَرَائِضُهُ وَلَازِمَاتُهُ.
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَحَلَّ مَا سِوَى مَنْ ذَكَرَ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ الْعُمُومُ. وَبِهَذَا الظَّاهِرِ اسْتَدَلَّتِ الْخَوَارِجُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الشِّيعَةِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَعَلَى خَالَتِهَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ أَطَالَ الِاسْتِدْلَالَ فِي ذَلِكَ أَبُو جعفر الطاوسي أَحَدُ عُلَمَاءِ الشِّيعَةِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ فِي كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَمُلَخَّصُ مَا قَالَ: أَنَّهُ لَا يُعَارَضُ الْقُرْآنُ بِخَبَرِ آحَادٍ. وَهُوَ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا»
بَلْ إِذَا وَرَدَ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرِضَ عَلَى الْقُرْآنِ، فَإِنْ وَافَقَهُ قُبِلَ، وَإِلَّا رُدَّ. وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُعَارِضِ الْقُرْآنَ، غَايَةُ مَا فيه أنه تَخْصِيصُ عُمُومٍ، وَمُعْظَمُ الْعُمُومَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ لا بد فيها من التَّخْصِيصَاتِ، وَلَيْسَ الْحَدِيثُ خَبَرَ آحَادٍ بَلْ هُوَ مُسْتَفِيضٌ، رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَوَاهُ: عَلِيٌّ، وَابْنُ عباس، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وعائشة. حَتَّى ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ مَنْ ذُكِرَ لِشُذُوذِهِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا التَّخْصِيصُ نَسْخًا لِلْعُمُومِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. وَقَدْ خَصَّصَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْعُمُومَ بِالْأَقَارِبِ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ مِنْ أَقَارِبِكُمْ، فَهِيَ حَلَالٌ لَكُمْ تَزْوِيجُهُنَّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ، وخصه قتادة بِالْإِمَاءِ:
أَيْ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلكم من الْإِمَاءِ. وَأَبْعَدَ عُبَيْدَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي رَدِّ ذَلِكَ إِلَى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَالْمَعْنَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا دُونَ الْخَمْسِ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ. وَقَالَ
(١) سورة النساء: ٤/ ٣.
585
السُّدِّيُّ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ يَعْنِي النِّكَاحَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ إِلَّا مَا خَصَّتْهُ السُّنَّةُ الْمُسْتَفِيضَةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِ عَمِّهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ عَمَّتِهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ خَالِهَا، أَوْ بِنْتِ خَالَتِهَا. وَقَدْ رُوِيَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ: إِسْحَاقَ بْنِ طلحة، وعكرمة، وقتادة، وعطاء. وَقَدْ نَكَحَ حَسَنُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِنْتَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَبِنْتَ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، فَجَمَعَ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍّ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ هَذَا، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا، أَبْطَلَ هَذَا النِّكَاحَ وَهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي جُمْلَةِ مَا أُبِيحَ بِالنِّكَاحِ، غَيْرَ خَارِجَتَيْنِ مِنْهُ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمَّةٍ وَابْنَتَيْ خَالَةٍ انْتَهَى. وَانْدَرَجَ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ زَنَا بِامْرَأَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا لِأَجْلِ زِنَاهُ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ إِذَا زَنَا بِأُمِّهَا أَوْ بِابْنَتِهَا. وَلَوْ زَنَا بِامْرَأَةٍ ثُمَّ أَرَادَ نِكَاحَ أُمِّهَا أَوِ ابْنَتِهَا لَمْ يَحْرُمَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بن حصين والشعبي، وعطاء، والحسن، وسفيان، وأحمد، وإسحاق، أَنَّهُمَا يَحْرُمَانِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ. وَيَنْدَرِجُ أَيْضًا تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ: أنه لو عبت رَجُلٌ بِرَجُلٍ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَلَا ابْنَتُهُ، وَبِهِ قَالَ: مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ قَالُوا: لَا يُحَرِّمُ النِّكَاحَ الْعَبَثُ بالرجال. وقال الثَّوْرِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: هُوَ مِثْلُ وَطْءِ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ فِي تَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ، فَمَنْ حَرُمَ بِهَذَا مِنَ النِّسَاءِ حَرُمَ مِنَ الرِّجَالِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي غُلَامَيْنِ: يَعْبَثُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَتُولَدُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ جَارِيَةٌ قَالَ: لَا يَتَزَوَّجُهَا الْفَاعِلُ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: وَأُحِلَّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ «١». وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: وَأَحَلَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَيْضًا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ. وَلَا فَرْقَ فِي الْعَطْفِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَوْ لِلْمَفْعُولِ. وَلَا يُشْتَرَطُ الْمُنَاسِبَةُ وَلَا يُخْتَارُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ لِقِيَامِ الْمَفْعُولِ مَقَامَهُ، وَالْفَاعِلُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الْمَبْنِيُّ لِلْفَاعِلِ، فَكَيْفَ إِذَا اتَّحَدَ كَهَذَا، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمَحْذُوفَ فِي حُرِّمَتْ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْفَاعِلُ الْمُضْمَرُ فِي: أَحَلَّ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : علام عطف قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ؟ (قُلْتُ) : على الفعل
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٣.
586
الْمُضْمَرِ الَّذِي نَصَبَ كِتَابَ اللَّهِ: أَيْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْيَمَانِيِّ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَأَحَلَّ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ قَرَأَ وَأُحِلَّ لَكُمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، فَقَدْ عَطَفَهُ عَلَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَفَرَّقَ فِي الْعَطْفِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَمَا اخْتَارَهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ غَيْرُ مُخْتَارٍ. لِأَنَّ انْتِصَابَ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا هُوَ انْتِصَابُ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ، فَالْعَامِلُ فِيهِ وَهُوَ كَتَبَ، إِنَّمَا هُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ، فَلَمْ يُؤْتَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْسِيسِ لِلْحُكْمِ، إِنَّمَا التَّأْسِيسُ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ، وَهَذِهِ جِيءَ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ لِتِلْكَ الْجُمْلَةِ الْمُؤَسَّسَةِ وَمَا كَانَ سَبِيلُهُ هَكَذَا فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمُؤَسِّسَةُ لِلْحُكْمِ، إِنَّمَا يُنَاسِبُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى جُمْلَةٍ مُؤَسِّسَةٍ مِثْلِهَا، لَا سِيَّمَا وَالْجُمْلَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ: إِذْ إِحْدَاهُمَا لِلتَّحْرِيمِ، وَالْأُخْرَى لِلتَّحْلِيلِ، فَنَاسَبَ أَنَّ يَعْطِفَ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ. وَقَدْ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَأُحِلَّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِيهِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَمَفْعُولُ أُحِلُّ هُوَ:
مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْوَرَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَهُوَ وَرَاءَ أُولَئِكَ بِهَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَيْ: مَا سِوَى ذَلِكُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَا دُونَ ذَلِكُمْ، أَيْ: مَا بَعْدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حُرِّمَتْ. وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ بَعْضُهَا يُقَرِّبُ مِنْ بَعْضٍ.
وَمَوْضِعُ أَنْ تَبْتَغُوا نَصْبٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، وَيَشْمَلُ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ النِّكَاحَ وَالشِّرَاءَ. وَقِيلَ: الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ هُوَ عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ تَبْتَغُوا مَفْعُولٌ لَهُ، بِمَعْنَى: بين لكم ما يحل مِمَّا يَحْرُمُ، إِرَادَةَ أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاؤُكُمْ بِأَمْوَالِكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ لِئَلَّا تُضَيِّعُوا أَمْوَالَكُمْ وَتُفْقِرُوا أَنْفُسَكُمْ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ، فَتَخْسَرُوا دُنْيَاكُمْ وَدِينَكُمْ، وَلَا مَفْسَدَةَ أَعْظَمُ مِمَّا يَجْمَعُ بَيْنَ الْخُسْرَانَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَانْظُرْ إِلَى جَعْجَعَةِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَكَثْرَتِهَا، وَتَحْمِيلِ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ بِاللَّفْظِ الْمُعَقَّدِ، وَدَسِّ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ فِي غُضُونِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الطَّوِيلَةِ دَسًّا خَفِيًّا إِذْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ بمعنى بين لكم ما يَحِلُّ. وَجُعِلَ قَوْلُهُ: أَنْ تَبْتَغُوا عَلَى حَذْفِ مُضَافَيْنِ: أَيْ إِرَادَةَ أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاؤُكُمْ، أَيْ: إِرَادَةُ كَوْنِ ابْتِغَائِكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ. وَفُسِّرَ الْأَمْوَالُ بَعْدُ بِالْمُهُورِ، وَمَا يَخْرُجُ فِي الْمَنَاكِحِ، فَتَضَمَّنَ تَفْسِيرُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَكُمْ مَا يَحِلُّ لِإِرَادَتِهِ كَوْنَ ابْتِغَائِكُمْ بِالْمُهُورِ، فَاخْتَصَّتْ إِرَادَتُهُ بِالْحَلَالِ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ
587
دُونَ السِّفَاحِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا الَّذِي فَهِمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَحَلَّ لَنَا ابْتِغَاءَ مَا سِوَى الْمُحَرَّمَاتِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا بِأَمْوَالِنَا حَالَةَ الْإِحْصَانِ، لَا حَالَةَ السِّفَاحِ. وَعَلَى هَذَا الظَّاهِرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ: أَنْ تَبْتَغُوا مَفْعُولًا لَهُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَفْعُولِ لَهُ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْفَاعِلِ فِي الْعَامِلِ وَالْمَفْعُولِ لَهُ. لِأَنَّ الْفَاعِلَ بِقَوْلِهِ: وَأُحِلَّ، هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْفَاعِلُ فِي: أَنْ تَبْتَغُوا، هُوَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ، فَقَدِ اخْتَلَفَا.
وَلَمَّا أَحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنْ كَانَ أَحَسَّ بِهَذَا، جَعَلَ أَنْ تَبْتَغُوا عَلَى حَذْفِ إِرَادَةٍ حَتَّى يَتَّحِدَ الْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ، وَفِي الْمَفْعُولِ لَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ أَنْ تَبْتَغُوا مَفْعُولًا لَهُ إِلَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَإِقَامَتِهِ مَقَامَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ دَاعٍ إِلَى ذَلِكَ. وَمَفْعُولُ تَبْتَغُوا مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا، إِذْ هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنْ تَبْتَغُوهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيْنَ مَفْعُولُ تَبْتَغُوا؟ (قُلْتُ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا وَهُوَ: النِّسَاءُ، وَأَجُودُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ. وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْ تُخْرِجُوا أَمْوَالَكُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ: إِذَا كَانَ مُقَدَّرًا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مَفْعُولًا لَهُ غَايَرَ بَيْنَ مُتَعَلِّقِ الْمَفْعُولِ لَهُ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِ الْمَعْلُولِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَجُودُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْ تُخْرِجُوا أَمْوَالَكُمْ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، لِأَنَّ مَدْلُولَ تَبْتَغُوا لَيْسَ مَدْلُولَ تُخْرِجُوا، وَلِأَنَّ تَعَدِّي تَبْتَغُوا إِلَى الْأَمْوَالِ بِالْبَاءِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ الْمَفْعُولِ بِهِ الصَّرِيحِ، كَمَا هُوَ فِي تُخْرِجُوا، وَهَذَا كُلُّهُ تَكَلُّفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: بِأَمْوَالِكُمْ، أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُسَمَّى مَالًا وَإِنْ قَلَّ وَهُوَ قَوْلُ: أَبِي سعيد، والحسن، وابن المسيب، وعطاء، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وربيعة قَالُوا: يَجُوزُ النِّكَاحُ عَلَى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ.
وَقِيلَ: لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَرُوِيَ عَنْ عليّ
، والشعبي، والنخعي، فِي آخَرِينَ مِنَ التَّابِعِينَ. وَهُوَ قَوْلُ: أَبِي حَنِيفَةَ، وأبي يوسف، وزفر، والحسن، ومحمد بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَقَلُّ الْمَهْرِ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةٌ دَرَاهِمَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: من كَانَ لَهُ دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمَانِ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ مَالٌ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: بِأَمْوَالِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَنْفَعَةً، لَا تَعْلِيمَ قُرْآنٍ وَلَا غَيْرَهُ، وَقَدْ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ خِدْمَتَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ. وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الشَّافِعِيُّ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ: مَالِكٌ وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَحُجَجُهُمْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي كُتُبِ أحكام القرآن.
588
والإحصان: العفة، وَتُحْصِينُ النَّفْسَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ. وَانْتَصَبَ مُحْصِنِينَ على الحال، وغير مُسَافِحِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَا يُجَامِعُ السِّفَاحَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ «١» وَالْمُسَافِحُونَ هُمُ الزَّانُونَ الْمُبْتَذِلُونَ، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِحَاتُ هُنَّ الزَّوَانِي الْمُبْتَذِلَاتُ اللَّوَاتِي هُنَّ سُوقٌ لِلزِّنَا. وَمُتَّخِذُو الْأَخْدَانِ هُمُ الزُّنَاةُ الْمُتَسَتِّرُونَ الَّذِينَ يَصْحَبُونَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ مُتَّخِذَاتُ الْأَخْدَانِ هُنَّ الزَّوَانِي الْمُتَسَتِّرَاتُ اللَّوَاتِي يَصْحَبْنَ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَيَزْنِينَ خُفْيَةً. وَهَذَانِ نَوْعَانِ كَانَا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، والشعبي، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَصْلُ الْمُسَافِحِ مِنَ السَّفْحِ، وَهُوَ الصَّبُّ لِلْمَنِيِّ. وَكَانَ الْفَاجِرُ يَقُولُ للفاجرة: سافحيني وماذيني مِنَ الْمَذْيِ.
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، والحسن، وابن زيد، وغيرهم: الْمَعْنَى فَإِذَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِالزَّوْجَةِ وَوَقَعَ الْوَطْءُ، وَلَوْ مَرَّةً، فَقَدْ وَجَبَ إِعْطَاءُ الْأَجْرِ وَهُوَ الْمَهْرُ، وَلَفْظَةُ مَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَسِيرَ الوطء يوجب إيتاء الأجر. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ خَلْوَةٍ صَحِيحَةٍ، أَوْ عَقْدٍ عَلَيْهِنَّ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَأُدْرِجَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ هُوَ مَذْهَبُهُ. وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ الِاسْتِمْتَاعَ هُنَا بِالْوَطْءِ، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْأَجْرِ كَامِلًا لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أيضا ومجاهد، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمُ: الْآيَةُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي نَضْرَةَ: هَكَذَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلَّا شَقِيٌّ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَوَازُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ عَنْهُ:
بِجَوَازِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْأَصَحُّ عَنْهُ الرُّجُوعُ إِلَى تَحْرِيمِهَا. وَاتَّفَقَ عَلَى تَحْرِيمِهَا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ.
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: أَمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمتعة، ومات بعد ما أَمَرَنَا بِهَا، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ قَالَ رَجُلٌ بَعْدَهُ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ.
وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي شُرُوطِهِ، وَفِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ لَحَاقِ وَلَدٍ أَوْ حَدٍّ بِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وكتب أحكام القرآن.
(١) سورة المائدة: ٥/ ٥.
589
وما مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ، مُبْتَدَأٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَالْخَبَرُ الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهَا، وَالْجَوَابُ: فَآتُوهُنَّ، وَلَا بُدَّ إِذْ ذَاكَ مِنْ رَاجِعٍ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ. فَإِنْ كَانَتْ مَا وَاقِعَةً عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ فَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ: مِنْ أَجْلِ مَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ ما واقعة على النوع الْمُسْتَمْتَعِ بِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ، فَالرَّاجِعُ هُوَ الْمَفْعُولُ بِآتُوهُنَّ وَهُوَ الضَّمِيرُ، وَيَكُونُ أَعَادَ أَوَّلًا فِي بِهِ عَلَى لَفْظِ مَا، وَأَعَادَ عَلَى المعنى في: فآتوهن، ومن فِي: مِنْهُنَّ عَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَبْعِيضًا. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَيَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً، وَخَبَرُهَا إِذْ ذَاكَ هُوَ: فَآتُوهُنَّ، وَالْعَائِدُ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: فَآتُوهُنَّ إِنْ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى النِّسَاءِ، أَوْ مَحْذُوفٌ إِنْ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى مَا بُيِّنَ قَبْلُ.
وَالْأُجُورُ: هِيَ الْمُهُورُ. وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ يُسَمَّى أَجْرًا، إِذْ هُوَ مُقَابِلٌ لِمَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ مَا هُوَ؟ أَهُوَ بَدَنُ الْمَرْأَةِ، أَوْ مَنْفَعَةُ الْعُضْوِ، أَوِ الْكُلِّ؟ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الظَّاهِرُ الْمَجْمُوعُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي كُلَّ هَذَا. وَإِنْ كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ هُنَا الْمُتْعَةَ، فَالْأَجْرُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْمَهْرُ بَلِ الْعِوَضُ كَقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا «١» وَقَوْلِهِ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً «٢» وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِصِدْقِ قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا يَجِبُ الْمُسَمَّى. وَالْحُجَّةُ لَهُمْ:
«أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا»
وَانْتَصَبَ فَرِيضَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ أُجُورِهِنَّ، أَوْ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ. أَيْ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إِيتَاءً، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ مَفْرُوضٌ. أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ فَرَضَ ذَلِكَ فَرِيضَةً.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ لَمَّا أُمِرُوا بِإِيتَاءِ أُجُورِ النِّسَاءِ الْمُسْتَمْتَعِ بِهِنَّ، كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ وَلَا إِثْمَ فِي نَقْصِ مَا تَرَاضَوْا عَلَيْهِ، أَوْ رَدِّهِ، أَوْ تَأَخُّرِهِ. أَعْنِي: الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. فَلَهَا أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ تَنْقُصَ، وَأَنْ تُؤَخِّرَ، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَهُوَ نظير
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٢٥.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٧٧. [.....]
590
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «١» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
هُوَ فِي الْمُتْعَةِ. وَالْمَعْنَى: فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ زِيَادَةً فِي الْأَجَلِ، وَزِيَادَةً فِي الْمَهْرِ قَبْلَ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي رَدِّ مَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ إِلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ: فيما تراضيتم به من النُّقْصَانِ فِي الصَّدَاقِ إِذَا أُعْسِرْتُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِبْرَاءُ الْمَرْأَةِ عَنِ الْمَهْرِ، أَوْ تَوْفِيَتُهُ، أَوْ تَوْفِيَةُ الرَّجُلِ كُلَّ الْمَهْرِ إِنَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَقِيلَ: فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ فُرْقَةٍ، أَوْ إِقَامَةٍ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ بِقَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، قِيلَ: لِأَنَّ مَا عُمُومٌ فِي الزِّيَادَةِ والنقصان والتأخير والحط وَالْإِبْرَاءِ، وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْجَمِيعِ، وَهُوَ بِالزِّيَادَةِ أَخَصُّ مِنْهُ بِغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْحَطَّ وَالتَّأْجِيلَ لَا يَحْتَاجُ فِي وُقُوعِهِ إِلَى رِضَا الرَّجُلِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا ذُكِرَ دُونَ الزِّيَادَةِ يُسْقِطُ فَائِدَةَ ذِكْرِ تَرَاضِيهِمَا. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ جَائِزَةٌ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ إِنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَتِ الزِّيَادَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَصِحُّ الزِّيَادَةُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ مَا زَادَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ فَلَا شَيْءَ لَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ: الزِّيَادَةُ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ إِنْ أَقْبَضَهَا جَازَتْ، وَإِلَّا بَطَلَتْ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بِمَا يُصْلِحُ أَمْرَ عِبَادِهِ.
حَكِيماً فِي تَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَشْرِيعِهِ.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ الطَّوْلُ: السَّعَةُ فِي الْمَالِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زيد، ومالك فِي الْمُدَوَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ مسعود، وجابر، وعطاء، والشعبي، والنخعي، وربيعة: الطَّوْلُ هُنَا الْجَلَدُ وَالصَّبْرُ لمن أحب أمة وهويها حَتَّى صَارَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ سَعَةً فِي الْمَالِ لِنِكَاحِ حُرَّةٍ. وَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْحَرَائِرُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْسِيمُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْإِمَاءِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ الْعَفَائِفُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِوَاجِدِ طَوْلِ الْحُرَّةِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ الْحُرَّةَ الْمُؤْمِنَةَ وَخَافَ الْعَنَتَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنَّ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ الْمُؤْمِنَةَ، وَيَكُونُ
(١) سورة النساء: ٤/ ٤.
591
هَذَا تَخْصِيصًا لْعُمُومِ قَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ «١» فَيَكُونُ تَخْصِيصًا فِي النَّاكِحِ بِشَرْطِ أن لا يَجِدَ طَوْلَ الْحُرَّةِ وَيَخَافَ الْعَنَتَ، وَتَخْصِيصًا فِي إِمَائِكُمْ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَتَخْصِيصُ جَوَازِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ بِالْمُؤْمِنَاتِ لِغَيْرِ وَاجِدِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ. فَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَبِهِ قال:
الأوزاعي، والليث، ومالك، وَالشَّافِعِيُّ. وَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ ومحمد والحسن بن زياد وَالثَّوْرِيُّ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَنِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ أَفْضَلُ، فَحَمَلُوهُ عَلَى الْفَضْلِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِكَوْنِهِ وُصِفَ بِهِ الْحَرَائِرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِنَّ اتِّفَاقًا، لَكِنَّهُ أَفْضَلُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ، وَالْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وجابر، وابن جبير، والشعبي، ومكحول: لَا يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ إِلَّا مَنْ لَا يَجِدُ طَوْلًا لِلْحُرَّةِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ.
وَرُوِيَ عَنِ مَسْرُوقٍ، والشعبي: أَنَّ نِكَاحَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، يَعْنِي: أَنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي جعفر، ومجاهد، وابن المسيب، وابراهيم، والحسن، والزهري: أَنَّ لَهُ نِكَاحَهَا، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا.
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا إِنْ خَشِيَ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا، وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ حرة. فقال عَطَاءٌ: يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا إِلَّا المملوك.
وَقَالَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ المسيب، ومكحول فِي آخَرِينَ: لَا يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا.
وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ الْأَمَةَ إِلَّا مَنْ لَا يَجِدُ طَوْلًا لِلْحُرَّةِ. فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، فَبِالْأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، لِأَنَّ وِجْدَانَ الطَّوْلِ لِلْحُرَّةِ إِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِتَحْصِيلِهَا، فَإِذَا كَانَتْ حَاصِلَةً كَانَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ إِنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَمَةِ وَلَدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ:
لَا يَنْكِحُهَا عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تَشَاءَ الْحُرَّةُ، وَيَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ يَوْمَيْنِ، وَلِلْأَمَةِ يَوْمًا وَظَاهِرُ قوله: فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، جَوَازُ نِكَاحِ عَادِمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ أَرْبَعًا مِنَ الْإِمَاءِ إِنْ شَاءَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ مِنَ الْإِمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الْأَمَةِ الْإِيمَانُ فظاهر قوله: فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْكِتَابِيَّةُ مَوْلَاهَا كَافِرٌ لَمْ يَجُزْ
(١) سورة النور: ٢٤/ ٣٢.
592
نِكَاحُهَا، لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِقَوْلِهِ: فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، فَاخْتَصَّ بِفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: جَوَازُ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةٍ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ، فَالظَّاهِرُ جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ كِتَابِيَّةً، أَوْ مَجُوسِيَّةً، أَوْ وَثَنِيَّةً، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ غَيْرِ الْكِتَابِيَّةِ: كَالْمَجُوسِيَّةِ، وَالْوَثَنِيَّةِ، وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا وَطْءُ الْمَجُوسِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَأَجَازَهُ: طاوس، وعطاء، وَمُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ. وَدَلَّتْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي عُمُومِ: مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَعُمُومِ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ «١» قَالُوا: وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ مَهْجُورٌ، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالُوا: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تُسْلِمَ. وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ مُنْحَطًّا عَنْ نِكَاحِ الْحُرَّةِ لِمَا فِيهِ مِنِ اتِّبَاعِ الْوَلَدِ لِأُمِّهِ فِي الرِّقِّ، وَلِثُبُوتِ حَقِّ سَيِّدِهَا فِيهَا، وَفِي اسْتِخْدَامِهَا، وَلِتَبَذُّلِهَا بِالْوُلُوجِ وَالْخُرُوجِ، وَفِي ذَلِكَ نُقْصَانُ نِكَاحِهَا وَمَهَانَتُهُ إِذْ رَضِيَ بِهَذَا كُلِّهِ، وَالْعِزَّةُ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
ومن مُبْتَدَأٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَرْطٌ. والفاء في: فمما ملكت فاء الجواب، ومن تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَلْيَنْكِحْ مِنْ مَا مَلَكَتْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً، وَيَكُونُ الْعَامِلُ الْمَحْذُوفُ الَّذِي يتعلق به قوله: مما مَلَكَتْ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَمُسَوِّغَاتُ دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ مَوْجُودَةٌ هُنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ يستطع هو طولا، وأن يَنْكِحَ عَلَى هَذَا أَجَازُوا، فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قدره بإلى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِاللَّامِ أَيْ:
طَوْلًا إِلَى أَنْ يَنْكِحَ، أَوْ لِأَنْ يَنْكِحَ، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَإِذَا قَدَّرَ إِلَى، كَانَ الْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ وَصَلَهُ إِلَى أَنْ يَنْكِحَ. وَإِذَا قُدِّرَ بِاللَّامِ، كَانَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ التَّقْدِيرُ: طَوْلًا أَيْ: مَهْرًا كَائِنًا لِنِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ. وَقِيلَ: اللَّامُ الْمُقَدَّرَةُ لَامُ الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ: طَوْلًا لِأَجْلِ نِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ: أَنْ يَنْكِحَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَنَاصِبُهُ طَوْلٌ. إِذْ جَعَلُوهُ مَصْدَرَ طُلْتُ الشَّيْءَ أَيْ نِلْتَهُ، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
إِنَّ الْفَرَزْدَقَ صَخْرَةٌ عَادِيَّةٌ طَالَتْ فَلَيْسَ تنالها الأوعالا
أي طالت الْأَوْعَالَ أَيْ: وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ ومن لم يستطع منكم أَنْ يَنَالَ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ. وَيَكُونُ قَدْ أَعْمَلَ الْمَصْدَرَ الْمُنَوَّنَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ كقوله:
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٦.
593
بضرب بالسيوف رؤوس قَوْمٍ أَزَلْنَا هَامَهُنَّ عَنِ الْمَقِيلِ
وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ إِذْ أَجَازُوا إِعْمَالَ الْمَصْدَرِ الْمُنَوَّنِ. وَإِلَى أَنَّ طولا مفعول ليستطع، وإن يَنْكِحَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ بِقَوْلِهِ: طَوْلًا، إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ. ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ فِي التَّذْكِرَةِ، وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَنْ يَنْكِحَ بَدَلًا مِنْ طَوْلٍ، قَالُوا: بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُمَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الطَّوْلَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالنِّكَاحُ قُدْرَةٌ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ يَسْتَطِعْ قَوْلَهُ: أَنْ يَنْكِحَ. وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ: طَوْلًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ومن لم يستطع منكم لِعَدَمِ طَوْلِ نِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ. وَالثَّانِي: قَالَهُ:
ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ طَوْلًا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الِاسْتِطَاعَةُ، لِأَنَّهَا بمعنى يتقارب. وأن يَنْكِحَ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ، أَوْ بِالْمَصْدَرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ الطَّوْلَ هُوَ اسْتِطَاعَةٌ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمُ اسْتِطَاعَةً أَنْ يَنْكِحَ.
وما من قوله: فمما مَلَكَتْ، مَوْصُولَةٌ اسْمِيَّةٌ أَيْ: فَلْيَنْكِحْ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي مَلَكَتْهُ أيمانكم. ومن فَتَيَاتِكُمْ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي مَا مَلَكَتْ، الْعَائِدِ عَلَى مَا. وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ فَلْيَنْكِحْ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَلْيَنْكِحْ أَمَةً مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، نَحْوَ: أَكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ. وقيل: من في من مَا زَائِدَةٌ، وَمَفْعُولُ ذَلِكَ الْفِعْلِ هُوَ مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَقِيلَ: مَفْعُولُهُ فَتَيَاتِكُمُ عَلَى زِيَادَةِ مِنْ.
وَقِيلَ: مَفْعُولُهُ الْمُؤْمِنَاتُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَنْكِحْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ صِفَةٌ لِفَتَيَاتِكُمْ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ، مِنْ مِلْكِ إِيمَانِكُمْ. وَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ.
وَمِنْ أَغْرَبِ مَا سَطَّرُوهُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَنَقَلُوهُ عَنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ: أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ هُوَ قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ «١» وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَلْيَنْكِحْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ الْفَتَيَاتِ، وَهَذَا قَوْلٌ يُنَزَّهُ حَمْلُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ جَمَعَ الْجَهْلَ بِعِلْمِ النَّحْوِ وَعِلْمِ الْمَعَانِي، وَتَفْكِيكَ نَظْمِ الْقُرْآنِ عَنْ أُسْلُوبِهِ الْفَصِيحِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْطَرَ وَلَا يُلْتَفَتَ إليه. ومنكم: خِطَابٌ لِلنَّاكِحِينَ، وَفِي: أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ خِطَابٌ لِلْمَالِكِينَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ يَنْكِحُ فَتَاةَ نَفْسِهِ، وَهَذَا التَّوَسُّعُ فِي اللُّغَةِ كَثِيرٌ.
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٥.
594
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ لَمَّا خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَجْوِيزِ نِكَاحِ عَادِمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ لِلْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ وَصْفٌ بَاطِنٌ، وَأَنَّ الْمُطَّلِعَ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي إِيمَانِ الْفَتَيَاتِ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ الْعِلْمَ الْيَقِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَكْفِي مِنَ الْإِيمَانِ مِنْهُنَّ إِظْهَارُهُ. فَمَنْ كَانَتْ مُظْهِرَةً لِلْإِيمَانِ فَنِكَاحُهَا صَحِيحٌ، وَرُبَّمَا كَانَتْ خَرْسَاءَ، أَوْ قَرِيبَةَ عَهْدٍ بِسِبَاءٍ وَأَظْهَرَتِ الْإِيمَانَ، فَيُكْتَفَى بِذَلِكَ مِنْهَا.
وَالْخِطَابُ فِي بِإِيمَانِكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، حُرِّهِمْ وَرَقِّهِمْ، وَانْتَظَمَ الْإِيمَانُ فِي هَذَا الْخِطَابِ، وَلَمْ يُفْرِدْنَ بِذَلِكَ فَلَمْ يَأْتِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- بِإِيمَانِهِنَّ، لِئَلَّا يَخْرُجَ غَيْرُهُنَّ عَنْ هَذَا الْخِطَابِ. وَالْمَقْصُودُ: عُمُومُ الْخِطَابِ، إِذْ كُلُّهُمْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَكَمْ أَمَةٍ تَفُوقُ حُرَّةً فِي الْإِيمَانِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ، وَامْرَأَةٍ تَفُوقُ رَجُلًا فِي ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ تَأْنِيسٌ لِنِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يعتبر الأفضل الإيمان، لا فضل الْأَحْسَابِ وَالْأَنْسَابِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ،
«لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا عَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى».
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ فِي أَنَّ ارْتِفَاعَ بَعْضُكُمْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ: التَّأْنِيسُ أَيْضًا بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَأَنَّ الْأَحْرَارَ وَالْأَرِقَّاءَ كُلَّهُمْ مُتَوَاصِلُونَ مُتَنَاسِبُونَ يَرْجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَقَدِ اشْتَرَكُوا فِي الْإِيمَانِ، فَلَيْسَ بِضَائِرٍ نِكَاحُ الْإِمَاءِ. وَفِيهِ تَوْطِئَةُ الْعَرَبِ، إِذْ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَسْتَهْجِنُ وَلَدَ الْأَمَةِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الْهَجِينَ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّرْعُ أَزَالَ ذَلِكَ. وَمَا أَحْسَنَ مَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْلِهِ:
النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ أَكْفَاءُ أَبُوهُمُ آدَمُ وَالْأُمُّ حَوَّاءُ
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ هَذَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَالْمَعْنَى: بِوِلَايَةِ مُلَّاكِهِنَّ. وَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ هُنَا: الْعَقْدُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ إِيتَاءَ الْأَجْرِ بَعْدَهُ أَيِ الْمَهْرِ. وَسُمِّيَ مُلَّاكُ الْإِمَاءِ أَهْلًا لَهُنَّ، لِأَنَّهُمْ كَالْأَهْلِ، إِذْ رُجُوعُ الْأَمَةِ إِلَى سَيِّدِهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ».
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ بِإِذْنِ أَهْلِ وِلَايَتِهِنَّ، وَأَهْلُ وِلَايَةِ نِكَاحِهِنَّ هُمُ الْمُلَّاكُ.
وَمُقْتَضَى هَذَا الْخِطَابِ أَنَّ الْأَدَبَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَلَوْ أَجَازَهُ السَّيِّدُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ. فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذَنْ سَيِّدِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَ
595
الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وشريح، والشعبي، ومالك، وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ تَزَوُّجَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، والشافعي، وداود: لَا يَجُوزٌ، أَجَازَهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يُجِزْهُ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَعُدُّهُ زَانِيًا وَيَحُدُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ: أَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِزِنًا، وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُلَّاكَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَيُشْتَرَطُ إِذْنُ الْمَرْأَةِ فِي تَزْوِيجِ أَمَتِهَا، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِذْنِ هُوَ الْعَقْدَ فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا وَتُبَاشِرَ الْعَقْدَ، كَمَا يَجُوزُ لِلذَّكَرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، بَلْ تُوَكِّلُ غَيْرَهَا فِي التَّزْوِيجِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، اشْتَرَطَ الْإِذْنَ لِلْمَوَالِي فِي نِكَاحِهِنَّ، وَيَحْتَجُّ بِهِ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ لَهُنَّ أَنْ يُبَاشِرْنَ الْعَقْدَ بِأَنْفُسِهِنَّ، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ إِذْنَ الْمَوَالِي لَا عَقْدَهُمْ.
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الْأُجُورُ هُنَا الْمُهُورُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إِيتَاءِ الْأَمَةِ مَهْرَهَا لَهَا، وَأَنَّهَا أَحَقُّ بِمَهْرِهَا مِنْ سَيِّدِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ: لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَ أَمَتِهِ وَيَدَعَهَا بِلَا جَهَازٍ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُهُ لِلسَّيِّدِ دُونَهَا. قِيلَ:
الْإِمَاءُ وَمَا فِي أَيْدِيهِنَّ مَالُ الْمُوَالِي، فَكَانَ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِنَّ أَدَاءً إِلَى الْمَوَالِي. وَقِيلَ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَآتُوا مَوَالِيَهُنَّ. وَقِيلَ: حَذَفَ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «١» لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ «٢» عليه وصار نظيرا الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ «٣» أَيْ فُرُوجَهُنَّ، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ «٤» أَيِ اللَّهَ كَثِيرًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُجُورُهُنَّ نَفَقَاتُهُنَّ. وَكَوْنُ الْأُجُورِ يُرَادُ بِهَا الْمُهُورُ هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّمْكِينِ لَا بِالْعَقْدِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ، أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
قِيلَ: وَمَعْنَاهُ بِغَيْرِ مَطْلٍ وَضِرَارٍ، وَإِخْرَاجٍ إِلَى اقْتِضَاءٍ وَلَزٍّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِالشَّرْعِ وَالسُّنَّةِ أَيِ:
الْمَعْرُوفُ مِنْ مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ اللَّاتِي سَاوَيْنَهُنَّ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ. وَقِيلَ: بِالْمَعْرُوفِ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ، أَيْ: فَانْكِحُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، وَمَهْرِ مِثْلِهِنَّ، وَالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي غَالِبِ الأنكحة.
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢٥.
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٥.
(٤) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٥.
596
مُحْصَناتٍ أَيْ عَفَائِفَ، وَيُحْتَمَلُ مُسْلِمَاتٍ.
غَيْرَ مُسافِحاتٍ أَيْ غَيْرَ مُعْلِنَاتٍ بِالزِّنَا.
وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أَيْ: وَلَا مُتَسَتِّرَاتٍ بِالزِّنَا مَعَ أَخْدَانِهِنَّ. وَهَذَا تَقْسِيمُ الْوَاقِعِ لِأَنَّ الزَّانِيَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، وَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ كَانَ زِنَا الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ قَوْمٌ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ مِنْهُ. وَالْخِدْنُ: هُوَ الصَّدِيقُ لِلْمَرْأَةِ يَزْنِي بِهَا سِرًّا، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَانْتِصَابُ مُحْصَنَاتٍ عَلَى الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ: وَآتُوهُنَّ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مُحْصَنَاتٍ مُزَوَّجَاتٍ أَيْ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فِي حَالِ تَزْوِيجِهِنَّ، لَا فِي حَالِ سِفَاحٍ، وَلَا اتِّخَاذِ خِدْنٍ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي مُحْصَنَاتٍ فَانْكِحُوهُنَّ مُحْصَنَاتٍ أَيْ: عَفَائِفَ أَوْ مُسْلِمَاتٍ، غَيْرَ زَوَانٍ.
فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْإِحْصَانُ هُنَا الْإِسْلَامُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمَةَ الْمُسْلِمَةَ عَلَيْهَا نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ. وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ، بِأَنَّ الصِّفَةَ لَهُنَّ بِالْإِيمَانِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ «١» فَكَيْفَ يُقَالُ فِي الْمُؤْمِنَاتِ: فَإِذَا أَسْلَمْنَ؟ قَالَهُ: إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنَّ يَقْطَعَ فِي الْكَلَامِ وَيَزِيدَ، فَإِذَا كُنَّ على هذا الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْإِيمَانِ فَإِنْ أَتَيْنَ فَعَلَيْهِنَّ، وَذَلِكَ سَائِغٌ صَحِيحٌ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَلَامُهُ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّ أَسْلَمْنَ فِعْلٌ دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الشَّرْطِ، فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ مَفْرُوضُ التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُتَقَدِّمٌ سَابِقٌ لَهُنَّ.
ثُمَّ إِنَّهُ شَرْطٌ جَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوهُنَّ «٢» فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِذَا أُحْصِنَّ بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ أَتَيْنَ.
وَمَنْ فَسَّرَ الْإِحْصَانَ هُنَا بِالْإِسْلَامِ جَعَلَهُ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، فَلَوْ زَنَتِ الْكَافِرَةُ لَمْ تُحَدَّ، وَهَذَا قَوْلُ: الشعبي، والزهري، وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ التَّزْوِيجُ، فَإِذَا زَنَتِ الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وابن جبير، وقتادة. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ التَّزَوُّجُ. وَتُحَدُّ الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ بِالسُّنَّةِ تزوجت أو لم
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢٥.
597
تَتَزَوَّجْ، بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَهُوَ أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْأَمَةُ، إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا الْحَدَّ».
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَالْمُتَزَوِّجَةُ مَحْدُودَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَالْمُسْلِمَةُ غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ مَحْدُودَةٌ بِالْحَدِيثِ. وَهَذَا السُّؤَالُ مِنَ الصَّحَابَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ مَعْنَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ، تَزَوَّجْنَ. وَجَوَابُ الرَّسُولِ: يَقْتَضِي تَقْرِيرَ ذَلِكَ، ولا مفهوم لشرط الْإِحْصَانِ الَّذِي هُوَ التَّزَوُّجُ، لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ تُحْصَنْ، وَإِنَّمَا نُبِّهَ عَلَى حَالَةِ الْإِحْصَانِ الَّذِي هُوَ التَّزَوُّجُ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ حَدَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ كَحَدِّ الْحُرَّةِ إِذَا أُحْصِنَتْ وَهُوَ الرَّجْمُ، فَزَالَ هَذَا التَّوَهُّمُ بِالْإِخْبَارِ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا نِصْفُ الْحَدِّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْحَرَائِرِ اللَّوَاتِي لَمْ يُحْصَنَّ بِالتَّزْوِيجِ، وَهُوَ الْجَلْدُ خَمْسِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْجِلْدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «١» وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ الرَّجْمُ، لِأَنَّ الرَّجْمَ لَا يَتَنَصَّفُ. وَالْمُرَادُ بِفَاحِشَةٍ هُنَا: الزِّنَا، بِدَلِيلِ إِلْزَامِ الْحَدِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ مَا عَلَى الْحُرَّةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْحُرَّةُ عَذَابُهَا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَحَدُّ الْأَمَةِ خَمْسُونَ وَتَغْرِيبُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا جَلْدُ خَمْسِينَ فَقَطْ، وَلَا تُغَرَّبُ. فَإِنْ كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْعَذَابِ لِعَهْدِ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الْجَلْدُ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ فِي الْعَذَابِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْحُرَّةِ كَانَ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ.
وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْحَدِّ مِنْ قَوْلِهِ: فَعَلَيْهِنَّ، فَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ الْأَمَةِ مِنَ السَّيِّدِ إِذَا زَنَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ إِلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَعْفُوَ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَحُدَّ الْأَمَةَ وَالْعَبْدَ فِي الزِّنَا أَهْلُوهُمْ، إِلَّا أَنْ يُرْفَعَ أَمْرُهُمْ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْتَاتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَدْرَكْتُ بَقَايَا الْأَنْصَارِ يَضْرِبُونَ الوليدة من ولائدهم إِذَا زَنَتْ فِي مَجَالِسِهِمْ. وَأَقَامَ الْحَدَّ عَلَى عَبِيدِهِمْ جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر، وأنس. وَجَاءَتْ بِذَلِكَ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ
كَقَوْلِهِ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ»
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يَحُدُّ السَّيِّدُ إِلَّا فِي الْقَطْعِ، فَلَا يَقْطَعُ إِلَّا الْإِمَامُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ إِلَّا السُّلْطَانُ دُونَ الْمُوَالِي وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا أَمَةً، فَلَوْ
(١) سورة النور: ٢٤/ ٢.
598
عُتِقَتْ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهَا الْحَدُّ أُقِيمَ عَلَيْهَا حَدُّ أَمَةٍ، وَهَذَا مَجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْأَبْكَارُ الْحَرَائِرُ، لِأَنَّ الثَّيِّبَ عَلَيْهَا الرَّجْمُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا هَذَا الْحَدُّ. وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ مِنْهُمْ دَاوُدُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بَيْعُهَا إِذَا زَنَتْ زَنْيَةً رَابِعَةً.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَحْصَنَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ إِلَّا عَاصِمًا، فَاخْتُلِفَ عَنْهُ. وَمَنْ بَنَاهُ لِلْمَفْعُولِ فَهُوَ ظَاهِرٌ حَدًّا فِي أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ التَّزَوُّجُ، وَيُقَوِّي حَمْلُهُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْ: أَحْصَنَّ أَنْفُسَهُنَّ بِالتَّزْوِيجِ. وَجَوَابُ فَإِذَا الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ، فَالْفَاءُ فِي: فَإِنْ أَتَيْنَ هِيَ فَاءُ الْجَوَابِ، لَا فَاءُ الْعَطْفِ، وَلِذَلِكَ تَرَتَّبَ الثَّانِي، وَجَوَابُهُ عَلَى وُجُودِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ نَظِيرُ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا إِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ أَوَّلًا ثُمَّ كَلَّمَتْ زَيْدًا ثَانِيًا. وَلَوْ أُسْقِطَتِ الْفَاءُ مِنَ الشَّرْطِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ حُكْمٌ غَيْرُ هَذَا، وَتَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. وَمِنْ الْعَذَابِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضمير المستكن في صِلَةِ مَا.
ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى نِكَاحِ عَادِمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ.
وَالْعَنَتُ: هُوَ الزِّنَا. قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وابن جبير، والضحاك، وعطية الْعَوْفِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ. وَالْعَنَتُ: أَصْلُهُ الْمَشَقَّةُ، وَسُمِّيَ الزِّنَا عَنَتًا بِاسْمِ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ الْعَنَتِ أَنْ يَحْمِلَهُ الْعِشْقُ وَالشَّبَقُ عَلَى الزِّنَا، فَيَلْقَى الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَالْحَدَّ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: الْعَنَتُ الْهَلَاكُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْحَدُّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِثْمُ الَّذِي تُؤَدِّي إِلَيْهِ غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ لا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرِّ الْأَمَةَ إِلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: اثْنَانِ فِي النَّاكِحِ وَهَمَا: عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَخَوْفُ الْعَنَتِ. وَوَاحِدٌ فِي الْأَمَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ.
وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ظَاهِرُهُ الْإِخْبَارُ عَنْ صَبْرٍ خَاصٍّ، وَهُوَ غَيْرُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ: وَجِهَةُ الْخَيْرِيَّةِ كَوْنُهُ لَا يَرِقُّ وَلَدُهُ، وَأَنْ لَا يَبْتَذِلُ هُوَ، وَيُنْتَقَصُ فِي الْعَادَةِ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ.
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّجِ الْحَرَائِرَ»
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «انْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَاخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ».
وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَإِنْ تَصْبِرُوا عَنِ الزِّنَا بِنِكَاحِ
599
الْإِمَاءِ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْخَيْرِيَّةُ ظَاهِرَةٌ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ إِينَاسٌ لِنِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَتَقْرِيبٌ مِنْهُ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْفِرُ عَنْهُ. وَإِذَا جُعِلَ: وَأَنْ تَصْبِرُوا عَامًّا، انْدَرَجَ فِيهِ الصَّبْرُ الْمُقَيَّدُ وَهُوَ: عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَعَنِ الزِّنَا. إِذِ الصَّبْرُ خَيْرٌ، مِنْ عَدَمِهِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شَجَاعَةِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ عَزْمِهَا، وَعِظَمِ إِبَائِهَا، وَشَدَّةِ حِفَاظِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ يَسْتَحْسِنُهُ الْعَقْلُ، وَيَنْدُبُ إِلَيْهِ الشَّرْعُ، وَرُبَّمَا أَوْجَبَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَ الصَّابِرِ مُوَفَّاةً بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العلم: إن سَائِرَ الْعِبَادَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ الصَّبْرِ. قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ «١».
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَمَّا نَدَبَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَصْبِرُوا إِلَى الصَّبْرِ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، صَارَ كَأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الْكَرَاهَةِ، فَجَاءَ بِصِفَةِ الْغُفْرَانِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا سَامَحَ فِيهِ تَعَالَى، وَبِصِفَةِ الرَّحْمَةِ حَيْثُ رَخَّصَ فِي نِكَاحِهِنَّ وَأَبَاحَهُ.
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ مَفْعُولُ يَتُوبَ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَيْ: تَحْلِيلُ مَا حَلَّلَ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ، وَتَشْرِيعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالْمَعْنَى: يُرِيدُ اللَّهُ تَكْلِيفَ مَا كَلَّفَ بِهِ عِبَادَهُ مِمَّا ذَكَرَ لِأَجْلِ التَّبْيِينِ لَهُمْ بِهِدَايَتِهِمْ، فَمُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ غَيْرُ التَّبْيِينِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ التَّبْيِينَ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ الْمُتَأَخِّرِ بِوَسَاطَةِ اللَّامِ، وَإِلَى إِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ لَامٍ لَيْسَتْ لَامَ الْجُحُودِ، وَلَا لَامَ كَيْ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ. وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ: أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ هُوَ التَّبْيِينُ، وَاللَّامُ هِيَ النَّاصِبَةُ بِنَفْسِهَا لَا أَنْ مُضْمَرَةٌ بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: إِذَا جَاءَ مِثْلُ هَذَا قُدِّرَ الْفِعْلُ الَّذِي قَبْلَ اللَّامِ بِالْمَصْدَرِ فَالتَّقْدِيرُ: إِرَادَةُ اللَّهِ لِمَا يُرِيدُ لِيُبَيِّنَ، وَكَذَلِكَ أُرِيدُ لَا يَنْسَى ذِكْرَهَا، أَيْ: إِرَادَتِي لَا يَنْسَى ذِكْرَهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «٢» أَيْ:
أُمِرْنَا بِمَا أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ نَسَبَهُ ابن عيسى لسيبويه والبصريين، وَهَذَا يُبْحَثُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهُ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ، فَزِيدَتِ اللَّامُ مُؤَكِّدَةً لِإِرَادَةِ التَّبْيِينِ، كَمَا زِيدَتْ فِي لَا أَبَا لَكَ لِتَأْكِيدِ إِضَافَةِ الْأَبِ، وَالْمَعْنَى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ مَا خَفِيَ عَنْكُمْ مِنْ مَصَالِحِكُمْ وَأَفَاضِلِ أَعْمَالِكُمُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ خَارِجٌ عن أقوال البصريين والكوفيين.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٤٥.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٧١.
600
وَأَمَّا كَوْنُهُ خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ الْبَصْرِيِّينَ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّامَ مُؤَكِّدَةً مُقَوِّيَةً لِتَعَدِّي يُرِيدُ، وَالْمَفْعُولُ مُتَأَخِّرٌ، وَأَضْمَرَ أَنْ بَعْدَ هَذِهِ اللَّامِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ خَارِجًا عَنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ النصب باللام، لا بأن، وهو جعل النصب بأن مُضْمَرَةً بَعْدَ اللَّامِ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، لَامُ الْعَاقِبَةِ، قَالَ: كَمَا فِي قَوْلِهِ: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «١» وَلَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُ يُبَيِّنَ.
قَالَ عَطَاءٌ: يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا يقربكم. وقال الْكَلْبِيُّ: يُبَيِّنُ لَكُمْ أَنَّ الصبر عن نكاح الإماء خَيْرٌ. وَقِيلَ: مَا فَصَّلَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ. وَقِيلَ: شَرَائِعَ دِينِكُمْ، وَمَصَالِحَ أُمُورِكُمْ.
وَقِيلَ: طَرِيقَ مَنْ قَبْلَكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنَ بَابِ الْإِعْمَالِ، فَيَكُونُ مَفْعُولُ لِيُبَيِّنَ ضَمِيرًا مَحْذُوفًا يُفَسِّرُهُ مَفْعُولُ وَيَهْدِيَكُمْ، نَحْوَ: ضَرَبْتُ وَأَهَنْتُ زَيْدًا، التَّقْدِيرُ:
لِيُبَيِّنَهَا لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ سنن الذين من قبلكم.
وَالسُّنَنُ: جُمَعُ سُنَّةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: سنن الذين من قبلكم، هَلْ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ لِسُنَنِهِمْ؟ أَوْ عَلَى التَّشْبِيهِ؟ أَيْ: سُنَنًا مثل سنن الذين قَبْلِكُمْ. فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَرَادَ أَنَّ السُّنَنَ هِيَ مَا حَرُمَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ وَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّنَنِ مَا عَنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «٢» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً «٣» وَقِيلَ: طُرُقُ مَنْ قَبْلَكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: مَنَاهِجُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَالطُّرُقُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي دِينِهِمْ لِتَقْتَدُوا بِهِمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَيَكُونُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْمُرَادُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَأَهْلُ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ سُنَنَ طُرُقُ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ وَالْغَيِّ، وَمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، لِتَجْتَنِبُوا الْبَاطِلَ، وَتَتَّبِعُوا الْحَقَّ.
وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ قَالُوا: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ طُرُقَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ فِي هِدَايَتِهَا كَانَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ جُعِلَ طَرِيقُكُمْ أَنْتُمْ.
فَأَرَادَ أَنْ يُرْشِدَكُمْ إِلَى شَرَائِعِ دِينِكُمْ وَأَحْكَامِ مِلَّتِكُمْ بِالْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ، كَمَا أَرْشَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَمَّا أَنَّا خُوطِبْنَا فِي كُلِّ قِصَّةٍ نَهْيًا أَوْ أمرا
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٨. [.....]
(٢) سورة النحل: ١٦/ ١٢٣.
(٣) سورة الشورى: ٤٢/ ١٣.
601
كَمَا خُوطِبُوا هُمْ أَيْضًا فِي قِصَصِهِمْ، وَشُرِعَ لَنَا كَمَا شُرِعَ لَهُمْ، فَهِدَايَتُنَا سُنَنُهُمْ فِي الْإِرْشَادِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُنَا وَأَحْكَامُهُمْ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ هِدَايَتَنَا سُنَنَهُمْ فِي أَنْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا كَمَا سَمِعُوا وَأَطَاعُوا، فَوَقَعَ التَّمَاثُلُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا الْإِرْشَادُ وَالتَّوْضِيحُ، وَلَا يَتَوَجَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ السُّنَنِ، وَالَّذِينَ من قبلناهم الْمُؤْمِنُونَ مِنْ كُلِّ شَرِيعَةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ رَيِّ الظَّمْآنِ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ، أَوْ يُرِيدُ إِنْزَالَ الْآيَاتِ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيكُمْ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالتَّكْرَارُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَوَّلِ تَبْيِينُ التَّكَالِيفِ، ثُمَّ قَالَ:
وَيَهْدِيَكُمْ. وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا بَيَّنَ تَحْرِيمَهُ لَنَا وَتَحْلِيلَهُ مِنَ النِّسَاءِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي نَفْسِهَا، مُتَّفِقَةً فِي بَابِ الْمَصَالِحِ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا.
وَقَوْلُهُ: أَيْ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ، مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أَيْ يَرُدَّكُمْ مِنْ عِصْيَانِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيُوَفِّقَكُمْ لَهَا.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِكُمْ وَبِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَصَالِحِ، حَكِيمٌ يُصِيبُ بِالْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ وَالْإِتْقَانِ.
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً تُعَلَّقُ الْإِرَادَةُ أَوَّلًا بِالتَّوْبَةِ عَلَى سَبِيلِ الْعِلِّيَّةِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى العلة، فهو علة. ونعلقها هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْمَفْعُولِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ التَّعَلُّقَانِ فَلَا تَكْرَارَ. وَكَمَا أَرَادَ سَبَبَ التَّوْبَةِ فَقَدْ أَرَادَ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ، إِذْ قَدْ يَصِحُّ إِرَادَةُ السَّبَبِ دُونَ الْفِعْلِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ كَانَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ تَكْرَارًا لِقَوْلِهِ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَكْرَارُ إِرَادَةِ اللَّهِ لِلتَّوْبَةِ عَلَى عِبَادِهِ تَقْوِيَةٌ لِلْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ الْمَقْصِدُ فِي الْآيَةِ إِلَّا الْإِخْبَارَ عَنْ إِرَادَةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، فَقُدِّمَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَوْطِئَةً مُظْهِرَةً لِفَسَادِ مُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَاخْتَارَ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنْ جَعَلُوا قَوْلَهُ: لِيُبَيِّنَ، فِي مَعْنَى أَنْ يُبَيِّنَ، فَيَكُونُ مفعولا ليريد، وَعُطِفَ عَلَيْهِ: وَيَتُوبَ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مِثْلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَتَكْرَارُ إِرَادَةِ اللَّهِ التَّوْبَةَ عَلَى عِبَادِهِ إِلَى آخَرَ كَلَامِهِ. وَكَانَ قَدْ
602
حَكَى قَوْلَ الْكُوفِيِّينَ وَقَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَرَجَعَ أَخِيرًا إِلَى مَا ضَعَّفَهُ، وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ مَفْعُولَ: يُرِيدُ، مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُرِيدُ اللَّهُ هَذَا التَّبْيِينَ.
وَالشَّهَوَاتُ جَمْعُ شَهْوَةٍ، وَهِيَ مَا يَغْلِبُ عَلَى النَّفْسِ مَحَبَّتُهُ وَهَوَاهُ. وَلَمَّا كَانَتِ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ فِيهَا قَمْعُ النَّفْسِ وَرَدُّهَا عَنْ مُشْتَهَيَاتِهَا، كَانَ اتِّبَاعُ شَهَوَاتِهَا سَبَبًا لِكُلِّ مَذَمَّةٍ، وَعُبِّرَ عَنِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ بِمُتَّبَعِ الشَّهَوَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا «١» وَاتِّبَاعُ الشَّهْوَةِ فِي كُلِّ حَالٍ مَذْمُومٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ ائْتِمَارٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ مَا دَعَتْهُ الشَّهْوَةُ إِلَيْهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الِاتِّبَاعُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ فَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعٌ لَهُمَا لَا لِلشَّهْوَةِ. وَمُتَّبِعُو الشَّهَوَاتِ هُنَا هُمُ الزُّنَاةُ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. أَوِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَهُ: السُّدِّيُّ. أَوِ الْيَهُودُ خَاصَّةً لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي نكاح الأخوات من الأب، أَوِ الْمَجُوسُ كَانُوا يُحِلُّونَ نكاح الأخوات من الأب، وَنِكَاحَ بَنَاتِ الْأَخِ، وَبَنَاتِ الْأُخْتِ، فَلَمَّا حَرَّمَهُنَّ اللَّهُ قَالُوا: فَإِنَّكُمْ تُحِلُّونَ بِنْتَ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ، وَالْعَمَّةُ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، فَانْكِحُوا بَنَاتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، أَوْ مُتَّبِعُو كُلِّ شَهْوَةٍ قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ.
وَظَاهَرَهُ الْعُمُومُ وَالْمَيْلُ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَالْمُرَادُ هُنَا الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْجَوْرُ وَالْخُرُوجُ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ. وَلِذَلِكَ قَابَلَ إِرَادَةَ اللَّهِ بِإِرَادَةِ مُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ.
وَأَكَّدَ فِعْلَ الْمَيْلِ بِالْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، لَمْ يَكْتَفِ حَتَّى وَصْفَهُ بِالْعِظَمِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُيُولَ قَدْ تَخْتَلِفُ، فَقَدْ يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ فِعْلَ الْخَيْرِ لِعَارِضٍ شَغَلَ أَوْ لِكَسَلٍ أَوْ لِفِسْقٍ يَسْتَلِذُّ بِهِ، أَوْ لِضَلَالَةٍ بِأَنْ يَسْبِقَ لَهُ سُوءُ اعْتِقَادٍ. وَيَتَفَاوَتُ رُتَبُ مُعَالَجَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَبَعْضُهَا أَسْهَلُ مِنْ بَعْضٍ، فَوُصِفَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ بِالْعِظَمِ، إِذْ هُوَ أَبْعَدُ الْمُيُولِ مُعَالَجَةً وَهُوَ الْكُفْرُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ «٢» وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ «٣».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ تميلوا بتاء الخطاب. وقرىء: بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. فَالضَّمِيرُ فِي يَمِيلُوا يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَيْلًا بِسُكُونِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:
بِفَتْحِهَا، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى اسْمِيَّةً، وَالثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةً لِإِظْهَارِ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا أَدَلُّ عَلَى الثُّبُوتِ. وَلِتَكْرِيرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا عَلَى طَرِيقِ الْإِظْهَارِ وَالْإِضْمَارِ. وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فَجَاءَتْ فِعْلِيَّةً مُشْعِرَةً بِالتَّجَدُّدِ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُمْ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَالْوَاوُ في قوله:
(١) سورة مريم: ١٩/ ٥٩.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٨٩.
(٣) سورة النساء: ٤/ ٤٤.
603
وَيُرِيدُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَأَجَازَ الرَّاغِبُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ لَا لِلْعَطْفِ، قَالَ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ التَّوْبَةَ عَلَيْكُمْ فِي حَالِ مَا تُرِيدُونَ أَنْ تَمِيلُوا، فَخَالَفَ بَيْنَ الْإِخْبَارَيْنِ فِي تَقْدِيمِ الْمُخْبَرِ عنه في الجملة الْأُولَى، وَتَأْخِيرِهِ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ عَلَى الْعِطْفِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ تَعَالَى التَّوْبَةَ عَلَيْنَا لَيْسَتْ مُقَيَّدَةً بِإِرَادَةِ غَيْرِهِ الْمَيْلَ، وَلِأَنَّ الْمُضَارِعَ بَاشَرَتْهُ الْوَاوُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ شَيْءٌ نادر يؤوّل عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ قَبْلَهُ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِلْكَلَامِ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ فَصِيحٌ، فَحَمْلُهُ عَلَى النَّادِرِ تَعَسُّفٌ لَا يَجُوزُ.
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ لَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ التَّخْفِيفِ، وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ فِي إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّخَصِ. الثَّانِي فِي تَكْلِيفِ النَّظَرِ وَإِزَالَةِ الْحَيْرَةِ فِيمَا بَيَّنَ لَكُمْ مِمَّا يَجُوزُ لَكُمْ مِنَ النِّكَاحِ وَمَا لَا يَجُوزُ. الثَّالِثُ: فِي وَضْعِ الْإِصْرِ الْمَكْتُوبِ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، وَبِمَجِيءِ هَذِهِ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ سَهْلَةً سَمْحَةً. الرَّابِعُ: بِإِيصَالِكُمْ إِلَى ثَوَابِ مَا كَلَّفَكُمْ مِنْ تَحَمُّلِ التَّكَالِيفِ. الْخَامِسُ: أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِثْمَ مَا تَرْتَكِبُونَ مِنَ الْمَآثِمِ لِجَهْلِكُمْ.
وَأَعْرَبُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ يُرِيدُ، التَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ مُرِيدًا أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْحَالِ بِجُمْلَةٍ مَعْطُوفَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي فِي ضِمْنِهَا الْعَامِلُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ مِنَ الْعَامِلِ وَالْحَالِ، فلا ينبغي أن تجوز إِلَّا بِسَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ. وَلِأَنَّهُ رَفَعَ الْفِعْلُ الْوَاقِعُ حَالًا الِاسْمَ الظَّاهِرَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ ضَمِيرَهُ لَا ظَاهِرَهُ، فَصَارَ نَظِيرَ: زَيْدٌ يَخْرُجُ يَضْرِبُ زَيْدٌ عَمْرًا. وَالَّذِي سُمِعَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَوَاسِخِهَا. أَمَّا فِي جُمْلَةِ الْحَالِ فَلَا أَعْرِفُ ذَلِكَ. وَجَوَازُ ذَلِكَ فِيمَا وَرَدَ إِنَّمَا هُوَ فَصِيحٌ حَيْثُ يُرَادُ التَّفْخِيمُ وَالتَّعْظِيمُ، فَيَكُونُ الرَّبْطُ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا بِالظَّاهِرِ. أَمَّا جُمْلَةُ الْحَالِ أَوِ الصِّفَةِ فَيَحْتَاجُ الرَّبْطُ بِالظَّاهِرِ فِيهَا إِلَى سَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. أَخْبَرَ بِهَا تَعَالَى عَنْ إِرَادَتِهِ التَّخْفِيفَ عَنَّا، كَمَا جَاءَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «١».
وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً قَالَ مُجَاهِدٌ وطاووس وَابْنُ زَيْدٍ: الْإِخْبَارُ عَنْ ضعف
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٥.
604
الْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ فِي بَابِ النِّسَاءِ، أَيْ لَمَّا عَلِمْنَا ضَعْفَكُمْ عَنِ النِّسَاءِ خَفَّفْنَا عَنْكُمْ بِإِبَاحَةِ الْإِمَاءِ. قال طاووس: لَيْسَ يَكُونُ الْإِنْسَانُ أَضْعَفَ مِنْهُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: مَا أَيِسَ الشَّيْطَانُ مِنْ بَنِي آدَمَ قَطُّ إِلَّا أَتَاهُمْ مِنَ النِّسَاءِ، فَقَدْ أَتَى عَلَيَّ ثَمَانُونَ سُنَّةً وَذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيَّ وَأَنَا أَعْشَقُ بِالْأُخْرَى، وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيَّ فِتْنَةُ النِّسَاءِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ضَعِيفًا لَا يَصْبِرُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَعَلَى مَشَاقِّ الطَّاعَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْمَقْصِدِ أَيْ: تَخْفِيفِ اللَّهِ بِإِبَاحَةِ الْإِمَاءِ، يُخْرِجُ الْآيَةَ مَخْرَجَ التَّفَضُّلِ، لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ عِبَادِهِ وَجَعَلَهُ الدِّينُ يُسْرًا، وَيَقَعُ الْإِخْبَارُ عَنْ ضعف الإنسان عاما حسبما هُوَ فِي نَفْسِهِ ضَعِيفٌ يَسْتَمِيلُهُ هَوَاهُ فِي الْأَغْلَبِ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَوَصْفُ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ خُلِقَ ضَعِيفًا، إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِهِ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى نَحْوَ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «١» أَوْ بِاعْتِبَارِهِ بِنَفْسِهِ دُونَ مَا يَعْتَرِيهِ مِنْ فَيْضِ اللَّهِ وَمَعُونَتِهِ، أَوِ اعْتِبَارًا بِكَثْرَةِ حَاجَاتِهِ وَافْتِقَارِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، أَوِ اعْتِبَارًا بِمَبْدَئِهِ وَمُنْتَهَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ «٢» فَأَمَّا إِذَا اعْتُبِرَ بِعَقْلِهِ وَمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ خِلَافَةِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَيَبْلُغُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَى جِوَارِهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَقْوَى مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «٣». وَقَالَ الْحَسَنُ: ضَعِيفًا لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، وَانْتِصَابُ ضَعِيفًا عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. لِأَنَّهُ يَجُوزُ أن يقدر بمن، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ شَيْءٍ ضَعِيفٍ، أَيْ مِنْ طِينٍ، أَوْ مِنْ نُطْفَةٍ وَعَلَقَةٍ وَمُضْغَةٍ. وَلَمَّا حَذَفَ الْمَوْصُوفَ والجار انْتَصَبَتِ الصِّفَةُ بِالْفِعْلِ نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خُلِقَ بِمَعْنَى جُعِلَ، فَيُكْسِبُهَا ذَلِكَ قُوَّةَ التَّعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ضَعِيفًا مَفْعُولًا ثَانِيًا انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ خَلَقَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ بِجَعْلِهَا بِمَعْنَى جَعَلَ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، بَلِ الَّذِي ذَكَرَ النَّاسُ أَنَّ مِنْ أَقْسَامِ جَعَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «٤» أَمَّا الْعَكْسُ فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ،
(١) سورة النازعات: ٧٦/ ٢٧.
(٢) سورة الروم: ١٩/ ٥٤.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٧٠.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ١.
605
وَالْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ تَتَبَّعُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ. مِنْهَا: التَّجَوُّزُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ فِي قَوْلِهِ: يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ، لِأَنَّ أَلْ تَسْتَغْرِقُ كُلَّ فَاحِشَةٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بَلْ بَعْضُهَا، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الْبَعْضِ اسْمُ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِقُبْحِهِ وَفُحْشِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ فِي الْفَاحِشَةِ الزِّنَا، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِذْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. وَالتَّجَوُّزُ بِالْمُرَادِ مِنَ الْمُطْلَقِ بَعْضُ مَدْلُولِهِ فِي قَوْلِهِ: فَآذُوهُمَا إِذْ فُسِّرَ بِالتَّعْيِيرِ أَوِ الضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَبِقَوْلِهِ: سَبِيلًا وَالْمُرَادُ الْحَدُّ، أَوْ رَجْمُ الْمُحْصَنِ.
وَبِقَوْلِهِ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا أَيِ اتْرُكُوهُمَا. وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، وَفِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ. وَالتَّجْنِيسُ المغاير في: فإن تَابَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ توّابا، وفي: أرضعنكم ومن الرَّضَاعَةِ، وَفِي: مُحْصَنَاتُ فَإِذَا أُحْصِنَّ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا، وَفِي: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ. وَالتَّكْرَارُ فِي:
اسْمِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ، وَفِي: إِنَّمَا التَّوْبَةُ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ، وَفِي: زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ، وَفِي:
أُمَّهَاتُكُمْ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي، وَفِي: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، وَفِي: الْمُؤْمِنَاتِ فِي قَوْلِهِ: الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَفِي: فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَفِي: فريضة ومن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، وَفِي: الْمُحْصَنَاتُ من النساء والمحصنات، ونصف مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ، وَفِي: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَفِي:
يُرِيدُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، وفي: يتوب وأن يَتُوبَ، وَفِي: إِطْلَاقِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمَاضِي، فِي: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ وَفِي: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ، وَفِي: يَعْمَلُونَ السُّوءَ وَفِي: ثُمَّ يَتُوبُونَ، وَفِي: يُرِيدُ وَفِي: لِيُبَيِّنَ، لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ وَبَيَانَهُ قَدِيمَانِ، إِذْ تِبْيَانُهُ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْإِرَادَةُ وَالْكَلَامُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَهِيَ قَدِيمَةٌ. وَالْإِشَارَةُ وَالْإِيمَاءُ فِي قَوْلِهِ: كَرْهًا، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الإرث كرها يومىء إِلَى جَوَازِهِ طَوْعًا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، فَلَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِمَصْلَحَةٍ لَهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا، أَوْ بِمَالِهَا، وَفِي: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً أَوْمَأَ إِلَى نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نِسَاءَ الْآبَاءِ، وَفِي: أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ إِشَارَةٌ إِلَى تَزْوِيجِ الْإِمَاءِ. وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَتَأْكِيدِهِ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا عَظَّمَ الْأَمْرَ حَتَّى يُنْتَهَى عَنْهُ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا، اسْتَعَارَ الْأَخْذَ لِلْوُثُوقِ بِالْمِيثَاقِ وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، وَالْمِيثَاقُ مَعْنًى لَا يَتَهَيَّأُ فِيهِ الْأَخْذُ حَقِيقَةً، وَفِي: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيْ فَرْضَ اللَّهِ، اسْتَعَارَ لِلْفَرْضِ لَفْظَ الْكِتَابِ لِثُبُوتِهِ وَتَقْرِيرِهِ، فَدَلَّ بِالْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ. وَفِي: مُحْصِنِينَ، اسْتَعَارَ لَفْظَ الْإِحْصَانِ وَهُوَ
606
الِامْتِنَاعُ فِي الْمَكَانِ الْحَصِينِ لِلِامْتِنَاعِ بِالْعِقَابِ، وَاسْتَعَارَ لِكَثْرَةِ الزِّنَا السَّفْحَ وَهُوَ صَبُّ الْمَاءِ فِي الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ بِتَدَفُّقٍ وَسُرْعَةٍ، وَكَذَلِكَ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اسْتَعَارَ لَفْظَ الْأُجُورِ لِلْمُهُورِ، وَالْأَجْرُ هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَمَلٍ، فَجَعَلَ تَمْكِينَ الْمَرْأَةِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَأَنَّهُ عَمَلٌ تَعْمَلُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: طَوْلًا اسْتِعَارَةٌ لِلْمَهْرِ يُتَوَصَّلُ بِهِ لِلْغَرَضِ، وَالطَّوْلُ وَهُوَ الْفَضْلُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ اسْتَعَارَ الِاتِّبَاعَ وَالْمَيْلَ اللَّذَيْنِ هُمَا حَقِيقَةٌ فِي الْإِجْرَامِ لِمُوَافَقَةِ هَوَى النَّفْسِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ. وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ يُخَفِّفَ، وَالتَّخْفِيفُ أَصْلُهُ مِنْ خِفَّةِ الْوَزْنِ وَثِقَلِ الْجِرْمِ، وَتَخْفِيفُ التَّكَالِيفِ رَفْعُ مَشَاقِّهَا مِنَ النَّفْسِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا، سُمِّيَ تَزْوِيجُ النِّسَاءِ أَوْ مَنْعُهُنَّ لِلْأَزْوَاجِ إِرْثًا، لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْإِرْثِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا جَعَلَهُ ضَعِيفًا بَاسِمِ ما يؤول إِلَيْهِ، أَوْ بِاسْمِ أَصْلِهِ. وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَقَدْ فُسِّرَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، أَيْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ ثُمَّ قَالَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنَ الطِّبَاقِ اللَّفْظِيِّ، لِأَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، ثُمَّ نَسَقَ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ قَالَ:
وَأُحِلَّ لَكُمْ، فَهَذَا هُوَ الطِّبَاقُ. وَفِي قَوْلِهِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَالْمُحْصِنُ الَّذِي يَمْنَعُ فَرْجَهُ، وَالْمُسَافِحُ الَّذِي يَبْذُلُهُ. وَالِاحْتِرَاسُ فِي قَوْلِهِ: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ احْتَرَزَ مِنَ اللَّاتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهِنَّ، وَفِي وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ احْتَرَسَ مِنَ اللَّاتِي لَيْسَتْ فِي الْحُجُورِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِذِ الْمُحْصَنَاتُ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الرِّجَالُ، فَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: مِنَ النِّسَاءِ. وَالِاعْتِرَاضُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ لَا يَتِمُّ الْمَعْنَى إِلَّا بِهَا.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨)
607
الْجَارُ: الْقَرِيبُ الْمَسْكَنِ مِنْكَ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِقَوْلِهِمْ: جَاوَرْتُ، وَيُجْمَعُ عَلَى جِيرَانٍ وَجِيرَةٍ. وَالْجُنُبُ: الْبَعِيدُ. وَالْجَنَابَةُ الْبُعْدُ قَالَ:
608
وَهُوَ مِنَ الِاجْتِنَابِ، وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ الرَّجُلُ جَانِبًا. وَقَالَ تَعَالَى: وَاجْنُبْنِي «١» أَيْ بَعِّدْنِي، وَهُوَ وَصْفٌ عَلَى فِعْلٍ كَنَاقَةٍ سَرَحٍ.
الْمُخْتَالُ: الْمُتَكَبِّرُ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ اخْتَالَ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ لِقَوْلِهِمُ: الْخُيَلَاءُ وَالْمَخِيلَةُ. وَيُقَالُ: خَالَ الرَّجُلُ يَخُولُ خَوْلًا إِذَا تَكَبَّرَ وَأُعْجِبَ بِنَفْسِهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ مَادَّةً أُخْرَى، لِأَنَّ تِلْكَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ خَيَلَ خ ي ل، وَهَذِهِ مَادَّةٌ من خ ول. الْفَخُورُ: فَعُولٌ مِنْ فَخَرَ، وَالْفَخْرُ عَدُّ الْمَنَاقِبِ عَلَى سَبِيلِ الشُّغُوفِ وَالتَّطَاوُلِ.
الْقَرِينُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ، مِنْ قَارَنَهُ إِذَا لَازَمَهُ وَخَالَطَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الزَّوْجَةُ قَرِينَةً. وَمِنْهُ قِيلَ لَمَّا يَلْزَمْنَ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ: قَرِينَانِ، وَلِلْحَبَلِ الَّذِي يَشُدَّانِ بِهِ قَرْنٌ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسَطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ
وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ
وَقَالَ:
كَمُدْخِلٍ رَأْسَهُ لَمْ يُدْنِهِ أَحَدٌ مِنَ الْقَرِينَيْنِ حَتَّى لَزَّهُ الْقَرَنُ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا «٢» وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي النُّفُوسِ بِالنِّكَاحِ، بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى النِّكَاحِ، وَإِلَى مِلْكِ الْيَمِينِ، وَأَنَّ الْمُهُورَ وَالْأَثْمَانَ الْمَبْذُولَةَ فِي ذَلِكَ لَا تَكُونُ مِمَّا مُلِكَتْ بِالْبَاطِلِ، وَالْبَاطِلُ هُوَ كُلُّ طَرِيقٍ لَمْ تُبِحْهُ الشَّرِيعَةُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ: السَّرِقَةُ، وَالْخِيَانَةُ، وَالْغَصْبُ، وَالْقِمَارُ، وَعُقُودُ الرِّبَا، وَأَثْمَانُ الْبَيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ بَيْعُ الْعُرْبَانِ وَهُوَ:
أَنْ يَأْخُذَ مِنْكَ السِّلْعَةَ وَيَكْرِيَ الدَّابَّةَ وَيُعْطِيَ دِرْهَمًا مَثَلًا عُرْبَانًا، فَإِنِ اشْتَرَى، أَوْ رَكِبَ، فَالدِّرْهَمُ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ أَوِ الْكِرَاءِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْبَائِعِ. فَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَأَجَازَ قَوْمٌ مِنْهُمُ: ابْنُ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٌ، ونافع بْنُ عُبَيْدٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بَيْعَ الْعُرْبَانِ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ، وَالْحُجَجُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِالْبَاطِلِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، إِذْ يَجُوزُ أَكْلُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ إِذَا كَانَ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً أَوْ تَمْلِيكًا أو إرثا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ أَخْذَهُ بِغَيْرِ
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٨٨.
609
عِوَضٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَ بِالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالْبَخْسِ وَالظُّلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُبِحِ اللَّهُ تَعَالَى أَكْلَ الْمَالِ بِهِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْجُمْهُورِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِالْبَاطِلِ، بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ. وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الطَّرِيقُ الْمَشْرُوعَةُ مَذْكُورَةً هُنَا عَلَى التَّفْصِيلِ، صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً. وَإِضَافَةُ الْأَمْوَالِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مَعْنَاهُ: أَمْوَالُ بَعْضِكُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «١» وَقَوْلِهِ:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «٢» وَقِيلَ: يَشْمَلُ قَوْلُهُ: أَمْوَالُكُمْ، مَالَ الْغَيْرِ وَمَالَ نَفْسِهِ. فَنَهَى أَنْ يَأْكُلَ مَالَ غَيْرِهِ إِلَّا بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ، وَنَهَى أَنْ يَأْكُلَ مَالَ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ: إِنْفَاقُهُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. وعبرهنا عَنْ أَخْذِ الْمَالِ بِالْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْ أَغْلَبِ مَقَاصِدِهِ وَأَلْزَمِهَا.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التِّجَارَةَ لَمْ تَنْدَرِجْ فِي الْأَمْوَالِ الْمَأْكُولَةِ بِالْبَاطِلِ فَتُسْتَثْنَى مِنْهَا سَوَاءٌ أَفَسَّرْتَ قَوْلَهُ بِالْبَاطِلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، أَمْ بِغَيْرِ طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْكَوْنِ، وَالْكَوْنُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَيْسَ مَالًا مِنَ الْأَمْوَالِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ فَغَيْرُ مُصِيبٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ الْمَالِ إِلَّا بِالتِّجَارَةِ فَقَطْ، بَلْ ذُكِرَ نَوْعٌ غَالِبٌ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِهِ وَهُوَ: التِّجَارَةُ، إِذْ أَسْبَابُ الرِّزْقِ أَكْثَرُهَا مُتَعَلِّقٌ بِهَا.
وَفِي قَوْلِهِ: عَنْ تَرَاضٍ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ التِّجَارَةِ فَشَرْطُهُ التَّرَاضِي، وَهُوَ مِنِ اثْنَيْنِ: الْبَاذِلِ لِلثَّمَنِ، وَالْبَائِعِ لِلْعَيْنِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ غَيْرُ التَّرَاضِي، فَعَلَى هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِدِرْهَمٍ جَازَ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ مِقْدَارَ مَا يُسَاوِي أَمْ لَمْ يَعْلَمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِذَا لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ الْغَبْنِ وَتَجَاوَزَ الثُّلُثَ، رُدَّ الْبَيْعُ.
وَظَاهِرُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَاقَدَ بِالْكَلَامِ أَنَّهُ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَلَا خِيَارَ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا. وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، ومالك، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ. وقال الثوري، والليث، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا عَقَدَا فَهُمَا عَلَى الْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَاسْتَثْنَوْا صُوَرًا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّفَرُّقُ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَرُّقِ. فَقِيلَ: بِأَنْ يَتَوَارَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: بِقِيَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْمَجْلِسِ. وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ الْخِيَارَ يَقُولُ: إِذَا خَيَّرَهُ فِي الْمَجْلِسِ فاختار، فقد
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢٩. [.....]
610
وَجَبَ الْبَيْعُ. وَرُوِيَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا. وَأَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ بِذِكْرِ الِاحْتِجَاجِ لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، وَمَوْضُوعُ ذَلِكَ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَالتِّجَارَةُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا طَلَبُ الْأَرْبَاحِ. وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: لَكِنَّ كَوْنَ تِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: تِجَارَةً بِالنَّصْبِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً عَلَى تَقْدِيرِ مُضْمَرٍ فِيهَا يَعُودُ عَلَى الْأَمْوَالِ، أَوْ يُفَسِّرُهُ التِّجَارَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً، أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ. كَمَا قال: إذا كان يوماذا كَوْكَبٍ أَشْنَعَا. أَيْ إِذَا كان هواي اليوم يوماذا كَوْكَبٍ. وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ الْكُوفِيِّينَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: تِجَارَةٌ بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ. وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِغَيْرِ ضَمِيرٍ فِيهَا عَلَى مَعْنَى يَحْدُثُ أَوْ يَقَعُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِاخْتِيَارِ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَمَامُ كَانَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَ بَعْضٍ لِأَنَّهَا صِلَةٌ، فَهِيَ مَحْطُوطَةٌ عَنْ دَرَجَتِهَا إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً مِنْ صِلَةٍ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا تَرْجِيحٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَكِنَّهُ حَسَنٌ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. وَيَحْتَاجُ هَذَا الْكَلَامُ إِلَى فِكْرٍ، وَلَعَلَّهُ نَقَصَ مِنَ النُّسْخَةِ شَيْءٌ يَتَّضِحُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أراده. وعن تَرَاضٍ: صِفَةٌ لِلتِّجَارَةِ أَيْ: تِجَارَةٌ صَادِرَةٌ عَنْ تَرَاضٍ.
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ظَاهِرُهُ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ بِقَصْدٍ مِنْهُ، أَوْ بِحَمْلِهَا عَلَى غَرَرٍ يَمُوتُ بِسَبَبِهِ، كَمَا يَصْنَعُ بَعْضُ الْفُتَّاكِ بِالْمُلُوكِ، فَإِنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الْمَلِكَ وَيُقْتَلُونَ بِلَا شَكٍّ. وَقَدِ احْتَجَّ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِهَذِهِ الْآيَةِ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، وَأَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتِجَاجَهُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى:
لَا تَفْعَلُوا مَا تَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْقَتْلَ مِنَ الْقَتْلِ وَالرِّدَّةِ وَالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعُ الْمُتَأَوِّلُونَ أَنَّ الْقَصْدَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ:
إِنَّ الْمَعْنَى لَا تَقْتُلُوا إِخْوَانَكُمُ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَضَافَ الْقَتْلَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ. وَلِأَنَّهُ إِذَا قَتَلَ قَتَلَ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ، وَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ إِجْمَاعِ الْمُتَأَوِّلِينَ ذَكَرَ غَيْرُهُ فِيهِ الْخِلَافَ. قَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَةُ الْقَتْلِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَقْتُلْ أَحَدٌ نَفْسَهُ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، أَوْ ظُلْمٍ أَصَابَهُ، أَوْ جُرْحٍ أَخْرَجَهُ عَنْ حَدِّ الِاسْتِقَامَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَجَازُ الْقَتْلِ أَيْ: يَأْكُلُ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ، أَوْ بِطَلَبِ الْمَالِ وَالِانْهِمَاكِ فِيهِ، أَوْ يَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْغَرَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الهلاك، أو يفعل هَذِهِ
611
الْمَعَاصِي وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا. فَيَكُونُ الْقَتْلُ عُبِّرَ بِهِ عَنِ الْهَلَاكِ مَجَازًا كَمَا جَاءَ: شَاهِدٌ قَتَلَ ثَلَاثًا نَفْسَهُ، وَالْمَشْهُودَ لَهُ، وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِ أَيْ: أَهْلَكَ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ: وَلَا تَقْتُلُوا بِالتَّشْدِيدِ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً حَيْثُ نَهَاكُمْ عَنْ إِتْلَافِ النُّفُوسِ، وَعَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَبَيَّنَ لَكُمْ جِهَةَ الْحِلِّ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قِوَامَ الْأَنْفُسِ. وَحَيَاتَهَا بِمَا يُكْتَسَبُ مِنْهَا، لِأَنَّ طِيبَ الْكَسْبِ يَنْبَنِي عَلَيْهِ صَلَاحُ الْعِبَادَاتِ وَقَبُولُهَا. أَلَا تَرَى إِلَى مَا
وَرَدَ مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: لَبَّيْكَ قَالَ اللَّهُ لَهُ: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ، وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ.
وَأَلَا تَرَى إِلَى الدَّاعِي رَبَّهُ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ كَيْفَ جَاءَ أَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟ وَكَانَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُتَقَدِّمًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وُقُوعًا، وَأَفْشَى فِي النَّاسِ مِنَ الْقَتْلِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ ظَاهِرَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ نَادِرَةٌ.
وَقِيلَ: رَحِيمًا حَيْثُ لَمْ يُكَلِّفْكُمْ قَتْلَ أَنْفُسِكُمْ حِينَ التَّوْبَةِ كَمَا كَلَّفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتْلَهُمْ أَنْفُسَهُمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ تَوْبَةً لَهُمْ وَتَمْحِيصًا لِخَطَايَاهُمْ.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ. لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُمَا جَاءَ مُتَّسِقًا مَسْرُودًا، ثُمَّ وَرَدَ الْوَعِيدُ حَسَبَ النَّهْيِ. وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمَاعَةٌ. وَتَقْيِيدُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِالِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ الْمَعْنَى أَنْ يَقَعَ عَلَى جِهَةٍ لَا يَكُونُ اعْتِدَاءً وَظُلْمًا، بَلْ هُوَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي لَا يَقَعُ الْفِعْلُ إِلَّا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: عُدْوَانًا وَظُلْمًا لِيَخْرُجَ مِنْهُ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ، وَمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا تَقْيِيدُ قَتْلِ الْأَنْفُسِ عَلَى تَفْسِيرِ قَتْلِ بَعْضِنَا بَعْضًا بِقَوْلِهِ: عُدْوَانًا وَظُلْمًا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَقَعُ كَذَلِكَ، وَيَقَعُ خَطَأً وَاقْتِصَاصًا. وَقِيلَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ: قَتْلُ الْأَنْفُسِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَتْلِ أَيْ: وَمَنْ يُقْدِمُ عَلَى قَتْلِ الْأَنْفُسِ عُدْوَانًا وَظُلْمًا لَا خَطَأً وَلَا اقْتِصَاصًا انْتَهَى. وَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «١» وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ: إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ النَّهْيِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ وَعِيدٌ وَهُوَ مِنْ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ «٢» إِلَى هَذَا النَّهْيِ الَّذِي هُوَ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، فَأَمَّا مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ النَّهْيِ فَقَدِ اقْتَرَنَ بِهِ الْوَعِيدُ. وَمَا
(١) سورة المائدة: ٥/ ٩٣.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٩.
612
ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ قَدِ اسْتَقَلَّتْ بِنَفْسِهَا، وَلَا يَظْهَرُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا بَعْدَهَا إِلَّا تَعَلُّقَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَا تَعَلُّقَ اضْطِرَارِ الْمَعْنَى. وَأَبْعَدُ مِنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْقَضَايَا، مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى النَّهْيِ الَّذِي أَعْقَبَهُ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. وَجَوَّزَ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ:
وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، أَوْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ.
وَانْتِصَابُ عُدْوَانًا وَظُلْمًا عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: معتدين وظالمين. وقرىء عِدْوَانًا بِالْكَسْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُصْلِيهِ بِضَمِّ النُّونِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ: بِفَتْحِهَا مِنْ صَلَاهُ، وَمِنْهُ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ. وقرىء أيضا: نصليه مشددا. وقرىء: يُصْلِيهِ بِالْيَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ: فَسَوْفَ يُصْلِيهِ هُوَ أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْمُصَلِّي، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَمَدْلُولُ نَارًا مُطْلَقٌ، وَالْمُرَادُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- تَقْيِيدُهَا بِوَصْفِ الشِّدَّةِ، أَوْ مَا يُنَاسِبُ هَذَا الْجِرْمَ الْعَظِيمَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ.
وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِصْلَائِهِ النَّارَ، وَيُسْرُهُ عَلَيْهِ تَعَالَى سُهُولَتُهُ، لِأَنَّ حُجَّتَهُ بَالِغَةٌ وَحُكْمَهُ لَا مُعَقِّبَ لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَا صَارِفَ عَنْهُ مِنْ ظُلْمٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ عَلَى فِعْلِ بَعْضِ الْكَبَائِرِ، ذَكَرَ الْوَعْدَ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إِلَى كَبَائِرَ وَسَيِّئَاتٍ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِالصَّغَائِرِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، فَمِنَ الصَّغَائِرِ النَّظْرَةُ وَاللَّمْسَةُ وَالْقُبْلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّحْرِيمِ، وَتُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الاسفرايني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ: إِلَى أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا، وَلَا ذَنْبَ يُغْفَرُ بِاجْتِنَابِ ذَنْبٍ آخَرَ، بَلْ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ وَصَاحِبُهُ وَمُرْتَكِبُهُ فِي الْمَشِيئَةِ غَيْرَ الْكُفْرِ. وَحَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
613
عَلَى أَنْوَاعِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ قَالُوا: وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ كَبِيرٌ عَلَى التَّوْحِيدِ،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا؟ قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»
فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ عَلَى الْيَسِيرِ، كَمَا جَاءَ عَلَى الْكَثِيرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَالَ: كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ.
وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَأَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَعَضَّدَهُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وَضَوْءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ»
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ».
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَبَائِرِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ ثَلَاثٌ: الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا أَرْبَعٌ: فَزَادَ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: هِيَ سَبْعٌ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَالتَّعَرُّبِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ كَقَوْلِ عَلِيٍّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَجَعَلَ الْآيَةَ فِي التَّعَرُّبِ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى «١» الْآيَةَ
وَفِي الْبُخَارِيِّ: «اتَّقُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ»
فَذَكَرَ هَذِهِ إِلَّا التَّعَرُّبَ، فَجَاءَ بَدَلَهُ السِّحْرُ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَبَائِرَ هِيَ هَذِهِ السَّبْعُ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَذَكَرَ هَذِهِ إِلَّا السِّحْرَ، وَزَادَ الْإِلْحَادَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَالَّذِي يَسْتَسْخِرُ بِالْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعُقُوقِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَالنَّخَعِيُّ: هِيَ جَمِيعُ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِلَى ثَلَاثِينَ آيَةً مِنْهَا، وَهِيَ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ «٢» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْكَبَائِرُ كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَعِيدٌ بِنَارٍ، أَوْ عَذَابٍ، أَوْ لَعْنَةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ذَهَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ الْفَارِسِيُّ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: قَدْ أَطَلْتُ التَّفْتِيشَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سِنِينَ فَصَحَّ لِي أَنَّ كُلُّ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَوَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَدْخَلَ فِي الْكَبَائِرِ بِنَصِّ لَفْظِهِ أَشْيَاءَ غَيْرَ الَّتِي ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ- يعني
(١) سورة محمد: ٤٧/ ٢٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٣١.
614
الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ- فَمِنْهَا: قَوْلُ الزُّورِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، والكذب عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ أَبَوَيْهِ لِلسَّبِّ بِأَنْ يَسُبَّ آبَاءَ النَّاسِ، وَذَكَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِالنَّارِ عَلَى الْكِبْرِ، وَعَلَى كُفْرِ نِعْمَةِ الْمُحْسِنِ فِي الْحَقِّ، وَعَلَى النِّيَاحَةِ فِي الْمَآتِمِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ فِيهَا، وَخَرْقِ الْجُيُوبِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَتَرْكِ التَّحَفُّظِ مِنَ الْبَوْلِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَعَلَى الْخَمْرِ، وَعَلَى تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ الذَّكَاةِ لِأَكْلِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْهَا أَوْ مَا أُبِيحَ أَكْلُهُ مِنْهَا، وَعَلَى إِسْبَالِ الْإِزَارِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّهِ، وَعَلَى الْمَنَّانِ بِمَا يَفْعَلُ مِنَ الْخَيْرِ، وَعَلَى الْمُنْفِقِ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَعَلَى الْمَانِعِ فَضْلَ مَائِهِ مِنَ الشَّارِبِ، وَعَلَى الْغَلُولِ، وَعَلَى مُتَابَعَةِ الْأَئِمَّةِ لِلدُّنْيَا فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا وُفِّيَ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُعْطُوا مِنْهَا لَمْ يُوَفَّ لَهُمْ، وَعَلَى الْمُقْتَطِعِ بِيَمِينِهِ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَعَلَى الْإِمَامِ الْغَاشِّ لِرَعِيَّتِهِ، وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَعَلَى مَنْ غَلَّ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَعَلَى لَاعِنِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ، وَعَلَى بُغْضِ الْأَنْصَارِ، وَعَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى تَارِكِ الزَّكَاةِ، وَعَلَى بُغْضِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَوَجَدْنَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ قَدْ جَاءَ عَلَى الزُّنَاةِ، وَعَلَى الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْحِرَابَةِ، فَصَحَّ بِهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. يَعْنِي قَوْلُهُ هِيَ: إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ، لِأَنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، هَلِ التَّكْفِيرُ قَطْعِيٌّ؟ أَوْ غَالِبُ ظَنٍّ؟ فَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ قَطْعِيٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْأَحَادِيثُ، وَالْأُصُولِيُّونَ قَالُوا: هُوَ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ ذَلِكَ قَطْعِيًّا لَكَانَتِ الصَّغَائِرُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ يُقْطَعُ بِأَنْ لَا تَبِعَةَ فِيهِ، وَوَصَفَ مُدْخَلًا بِقَوْلِهِ: كَرِيمًا وَمَعْنَى كَرَمِهِ:
فَضِيلَتُهُ، وَنَفَى الْعُيُوبَ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ: ثَوْبٌ كَرِيمٌ، وَفُلَانٌ كَرِيمُ الْمَحْتِدِ. وَمَعْنَى تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ إِزَالَةُ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ، وَجَعْلُهَا كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَذَلِكَ مُرَتَّبٌ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبِيرَ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ الْكُفْرُ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَهُوَ عِنْدَهُ جِنْسٌ.
وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: يُكَفِّرْ وَيُدْخِلْكُمْ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ بِزِيَادَةِ مِنْ.
615
وَقَرَأَ نَافِعٌ: مُدْخَلًا هُنَا، وَفِي الْحَجِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا وَانْتِصَابِ الْمَضْمُومِ الْمِيمِ إِمَّا عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: إِدْخَالًا، وَالْمُدْخَلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَيُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ إِدْخَالًا كَرِيمًا. وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَكَانُ الدُّخُولِ، فَيَجِيءُ الْخِلَافُ الَّذِي فِي دَخَلَ، أَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ لِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ عَلَى سَبِيلِ التعدية للمفعول به؟ أَمْ عَلَى سَبِيلِ الظَّرْفِ؟ فَإِذَا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ فَالْخِلَافُ. وَأَمَّا انْتِصَابُ الْمَفْتُوحِ الْمِيمِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ الدَّخْلِ الْمُطَاوِعِ لِأَدْخَلَ، التَّقْدِيرُ: وَيُدْخِلْكُمْ فَتَدْخُلُونَ دُخُولًا كَرِيمًا، وَحَذَفَ فَتَدْخُلُونَ لِدَلَالَةِ الْمُطَاوِعِ عَلَيْهِ، وَلِدَلَالَةِ مَصْدَرِهِ أَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَكَانُ، فَيَنْتَصِبُ إِذْ ذاك إما بيدخلكم، وإما بدخلتم الْمَحْذُوفَةِ عَلَى الْخِلَافِ، أَهْوَ مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ ظَرْفٌ.
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ «١» قَالَ الرِّجَالَ: إِنَّا لَنَرْجُوَ أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْحَسَنَاتِ كَالْمِيرَاثِ.
وَقَالَ النِّسَاءُ: إِنَّا لِنَرْجُوَ أَنْ يَكُونَ الْوِزْرُ عَلَيْنَا نِصْفَ مَا عَلَى الرِّجَالِ كَالْمِيرَاثِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ النِّسَاءَ: وَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَنَا الْغَزْوَ فَنُصِيبُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا يُصِيبُ الرِّجَالُ.
وَزَادَ مُجَاهِدٌ: أَنَّ ذَلِكَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَأَنَّهَا قَالَتْ: وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَيْتَنَا كُنَّا رِجَالًا فَنَزَلَتْ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَكَانَ مَا نَهَى عَنْهُ مَدْعَاةً إِلَى التَّبَسُّطِ فِي الدُّنْيَا وَالْعُلُوِّ فِيهَا وَتَحْصِيلِ حُطَامِهَا، نَهَاهُمْ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذِ التَّمَنِّي لِذَلِكَ سَبَبٌ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَشَوْقِ النَّفْسِ إِلَيْهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَلَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ، حَتَّى نَهَى عَنِ السَّبَبِ الْمُحَرِّضِ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْمُسَبِّبِ آكَدُ لفظاعته ومشقته فبدىء بِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِالنَّهْيِ عَنِ السَّبَبِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْمُسَبِّبِ، وَلِيُوَافِقَ الْعَمَلُ الْقَلْبِيُّ الْعَمَلَ الْخَارِجِيَّ فَيَسْتَوِي الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ فِي الِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ أَنْ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ مَا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ.
(١) سورة النساء: ٤/ ١١.
616
وَتَمَنِّي ذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لِذَلِكَ الْمُفَضَّلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: هُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مَالَ غَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُهُوا عَنِ الْحَسَدِ، وَعَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ قِسْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى صَادِرَةٌ عَنْ حِكْمَةٍ وَتَدْبِيرٍ وَعِلْمٍ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ، وَبِمَا يَصْلُحُ لِلْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ بَسْطٍ فِي الرِّزْقِ أَوْ قَبْضٍ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَظَاهِرُ النَّهْيِ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. أَمَّا تَمَنِّي أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالٍ صَالِحَةٍ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَعْمَالٍ يَرْجُو بِهَا الثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ حَسَنٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَدِدْتُ أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أحيى ثم أقتل»
وفي آخر الآية: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ «١» فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ مُطْلَقُ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِقَيْدِ زَوَالِ نِعْمَةِ مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ عَنْهُ بِجِهَةِ الْأَحْرَى. وَالْأَوْلَى إِذْ هُوَ الْحَسَدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، وَالْمُسْتَعَاذُ بِاللَّهِ مِنْهُ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا إِذَا تَمَنَّى حُصُولَ مِثْلِ نِعْمَةِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَذْهَبَ عَنِ الْمُفَضَّلِ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ، لِأَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ رُبَّمَا كَانَتْ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِ فِي الدِّينِ، وَمَضَرَّةً عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي دَارًا مِثْلَ دَارِ فُلَانٍ، وَلَا زَوْجًا مِثْلَ زَوْجِهِ، بَلْ يَسْأَلُ اللَّهَ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَجَازَهُ بَعْضُ النَّاسِ.
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ:
مَعْنَاهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تُوَرِّثُ النِّسَاءَ. وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّ لَفْظَ الِاكْتِسَابِ يَنْبُو عَنْهُ، لِأَنَّ الِاكْتِسَابَ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِمَالِ وَالتَّطَلُّبِ لِلْمَكْسُوبِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْإِرْثِ، لِأَنَّهُ مَالٌ يَأْخُذُهُ الْوَارِثُ عَفْوًا بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ فِيهِ، وَتَفْسِيرُ قَتَادَةَ هَذَا مُتَرَكِّبٌ عَلَى مَا قَالَهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: يُعَبَّرُ بِالْكَسْبِ عَنِ الْإِصَابَةِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ أَصَابَ كَنْزًا فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: بِاللَّهِ يَا أَبَةِ أَعْطِنِي مِنْ كَسْبِكَ نَصِيبًا، أَيْ مِمَّا أَصَبْتَ. وَمِنْهُ قَوْلُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ. قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ أَكْسَبُونِي نَزْرَ مَالٍ فَإِنَّنِي كَسَبْتَهُمُ حَمْدًا يَدُومُ مَعَ الدَّهْرِ
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مَكَاسِبَ تَخْتَصُّ بِهِ، فَلَا يَتَمَنَّى أَحَدٌ مِنْهَا مَا جُعِلَ لِلْآخَرِ. فَجُعِلَ لِلرِّجَالِ الْجِهَادُ وَالْإِنْفَاقُ فِي المعيشة، وحمل
(١) سورة النساء: ٤/ ٣٢.
617
التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ كَالْأَحْكَامِ وَالْإِمَارَةِ وَالْحِسْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَجُعِلَ لِلنِّسَاءِ الْحَمْلُ وَمَشَقَّتُهُ، وَحُسْنُ التَّبَعُّلِ، وَحِفْظُ غَيْبِ الزَّوْجِ، وَخِدْمَةُ الْبُيُوتِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مِمَّا اكْتَسَبَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِأَحْوَالِ الدُّنْيَا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى نَصِيبٌ مِنَ الْأَجْرِ وَالْحَسَنَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ مَا قُسِمَ لِكُلٍّ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى حَسَبِ مَا عَرَفَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ الْمُوجِبَةِ لِلْبَسْطِ وَالْقَبْضِ كَسْبًا لَهُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: عَرَفَ اللَّهُ نظر، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي اللَّهِ عَارِفٌ، نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِي اللُّغَةِ تَسْتَدْعِي قَبْلَهَا جَهْلًا بِالْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي جَهْلًا قَبْلَهُ. وَتَسْمِيَةُ مَا قَسَمَ اللَّهُ كَسْبًا لَهُ فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا، فَإِنَّ الِاكْتِسَابَ يَقْتَضِي الِاعْتِمَالَ وَالتَّطَلُّبَ كَمَا قُلْنَاهُ، إِلَّا إِنْ قُلْنَا أَنَّ أَكْثَرَ مَا قَسَمَ لَهُ يَسْتَدْعِي اكْتِسَابًا مِنَ الشَّخْصِ، فَأُطْلِقَ الِاكْتِسَابُ عَلَى جَمِيعِ مَا قَسَمَ لَهُ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ. وَفِي تَعْلِيقِ النَّصِيبِ بِالِاكْتِسَابِ حَضٌّ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى كسب الخير.
وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ مِنْ زِيَادَةِ إِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ. لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَهُمْ، أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْتَمِدُوا فِي الْمَزِيدِ عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِنْ فَضْلِهِ، الْعُمُومُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: وَلا تَتَمَنَّوْا «١» مَا فَضَّلَ الْعُمُومُ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: هَذَا فِي الْعِبَادَاتِ وَالدِّينِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ، وَلَيْسَ فِي فَضْلِ الدُّنْيَا. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ فَضْلِهِ، دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَطْلُوبِ، لَكِنْ يَطْلُبُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِصْلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً «٢».
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ: وَسَلُوا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى السِّينِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا لِلْمُخَاطَبِ، وَقَبْلَ السِّينِ وَاوٌ أو فاء نحو: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ «٣» وفَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ «٤». وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْهَمْزِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ «٥» فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْهَمْزِ فِيهِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُمْ، بَلْ نُصُوصُ المقرءين فِي كُتُبِهِمْ عَلَى أَنَّ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. بَيْنَ ابْنِ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيِّ، وَبَيْنَ الْجَمَاعَةِ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِلَفْظِهِ ابْنُ شِيطَا فِي كِتَابِ التِّذْكَارِ، وَلَعَلَّ الْوَهْمَ وَقَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ
(١) سورة النساء: ٤/ ٣٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٠١.
(٣) سورة يونس: ١٠/ ٢٤.
(٤) سورة النحل: ١٦/ ٤٣، وسورة الأنبياء: ٢١/ ٧.
(٥) سورة الممتحنة: ٦٠/ ١٠.
618
مِنْ قَوْلِ ابْنِ مُجَاهِدٍ فِي كِتَابِ السَّبْعَةِ لَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا «١» أَنَّهُ مَهْمُوزٌ لِأَنَّهُ لِغَائِبٍ انْتَهَى.
وَرَوَى الْكِسَائِيُّ عَنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ: أَنَّهُمَا لَمْ يَهْمِزَا وَسَلْ وَلَا فَسَلْ
، مِثْلَ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، وَحَذْفُ الْهَمْزَةِ فِي سَلْ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَإِثْبَاتُهَا لُغَةٌ لِبَعْضِ تَمِيمٍ. وَرَوَى الْيَزِيدِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ سَلْ. فَإِذَا أَدْخَلُوا الْوَاوَ وَالْفَاءَ هَمَزُوا، وَسَأَلَ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ، وَالثَّانِي لِقَوْلِهِ: وَاسْأَلُوا اللَّهَ هُوَ قَوْلُهُ: مِنْ فَضْلِهِ.
كَمَا تَقُولُ: أَطْعَمْتُ زَيْدًا مِنَ اللَّحْمِ، وَكَسَوْتُهُ مِنَ الْحَرِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: شَيْئًا مِنْ فَضْلِهِ، وَشَيْئًا مِنَ اللَّحْمِ، وَشَيْئًا مِنَ الْحَرِيرِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: مِنْ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَسَلُوا اللَّهَ فَضْلَهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْسُنُ عِنْدِي أَنْ يُقَدَّرَ الْمَفْعُولُ أَمَانِيَكُمْ إِذْ مَا تَقَدَّمَ يُحَسِّنُ هَذَا الْمَعْنَى.
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أَيْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَا يَصْلُحُ لِكُلٍّ مِنْكُمْ مِنْ تَوْسِيعٍ أَوْ تَقْتِيرٍ فَإِيَّاكُمْ وَالِاعْتِرَاضَ بِتَمَنٍّ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ عَالِمٌ أَيْضًا بِسُؤَالِكُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَيَسْتَجِيبُ دُعَاءَكُمْ وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ لَمَّا نَهَى عَنِ التَّمَنِّي الْمَذْكُورِ، وَأَمَرَ بِسُؤَالِ اللَّهِ مِنْ فَضْلِهِ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمِيرَاثِ، وَأَنَّ فِي شَرْعِهِ ذَلِكَ مَصْلَحَةً عَظِيمَةً مِنْ تَحْصِيلِ مَالٍ لِلْوَارِثِ لَمْ يَسْعَ فِيهِ، وَلَمْ يَتَعَنَّ بِطَلَبِهِ، فَرُبَّ ساع لقاعد.
وكلّ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُضَافَةً، إما للظاهر، وَإِمَّا لْمُقَدَّرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الْمُقَدَّرِ هُنَا، فَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ إِنْسَانٌ، وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ مَالٌ. وَالْمَوْلَى: لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: الْوَارِثُ وَهُوَ الَّذِي يَحْسُنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ هُنَا، لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِتَقْدِيرِ إِنْسَانٍ وَتَقْدِيرِ مَالٍ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ الْمَوَالِيَ الْعُصْبَةُ وَالْوَرَثَةُ، فَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ، احْتَمَلَ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لكلّ متعلقا بجعلنا، وَالضَّمِيرُ فِي تَرَكَ عَائِدٌ عَلَى كُلٍّ الْمُضَافِ لِإِنْسَانٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ وَارِثًا مِمَّا تَرَكَ، فَيَتَعَلَّقُ مِمَّا بِمَا فِي مَعْنَى مَوَالِي مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، أَوْ بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: يَرِثُونَ مِمَّا تَرَكَ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ قَدْ تَمَّتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ، وَيَرْتَفِعُ الْوَالِدَانِ عَلَى إِضْمَارٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنِ الْوَارِثُ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ورّاثا، والكلام جملتان.
(١) سورة الممتحنة: ٦٠/ ١٠.
619
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَجَعَلْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُوَالِيَ، أَيْ وُرَّاثًا. ثُمَّ أُضْمِرَ فِعْلٌ أَيْ: يَرِثُ الْمَوَالِي مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ، فَيَكُونُ الْفَاعِلُ بِتَرْكِ الْوَالِدَانِ. وَكَأَنَّهُ لِمَا أُبْهِمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُوَالِيَ، بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ الَّذِي جَعَلَ لَهُ وَرَثَةً هُوَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، فَأُولَئِكَ الْوُرَّاثُ يَرِثُونَ مِمَّا تَرَكَ وَالِدَاهُمْ وَأَقْرَبُوهُمْ، وَيَكُونُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مَوْرُوثِينَ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ فِي: جَعَلْنَا، مُضْمَرٌ مَحْذُوفٌ، وَيَكُونُ مَفْعُولُ جَعَلْنَاهُ لَفْظَ مَوَالِيَ. وَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ جَعَلْنَاهُمْ مَوَالِيَ أَيْ: وُرَّاثًا نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ وَالِدَاهُمْ وَأَقْرَبُوهُمْ، فَيَكُونُ جعلنا صفة لكلّ، وَالضَّمِيرُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً مَحْذُوفٌ، وَهُوَ مَفْعُولُ جعلنا. وموالي مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَفَاعِلُ تَرَكَ الْوَالِدَانِ. وَالْكَلَامُ مُنْعَقِدٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، فَيَتَعَلَّقُ لِكُلٍّ بِمَحْذُوفٍ، إِذْ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ صِفَتُهُ وَهُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، إِذْ قُدِّرَ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ. وَالْكَلَامُ إِذْ ذَاكَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا تَقُولُ: لِكُلِّ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ إِنْسَانًا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، أَيْ حَظٌّ مِنْ رِزْقِ اللَّهَ. وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ مَالٍ، فَقَالُوا: التَّقْدِيرُ وَلِكُلِّ مَالٍ مِمَّا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، جَعَلْنَا مَوَالِيَ أَيْ وُرَّاثًا يَلُونَهُ وَيُحْرِزُونَهُ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ مِمَّا تَرَكَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِكُلِّ، وَالْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ فَاعِلٌ بِتَرَكَ وَيَكُونُونَ مَوْرُوثِينَ، وَلِكُلٍّ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلْنَا. إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْجُمْلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِعْلِ الَّذِي فِيهَا الْمَجْرُورُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِكَ: بِكُلِّ رِجْلٍ مَرَرْتُ تِمِيمِيٍّ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ نَظَرٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْمُعَاقَدَةِ هُنَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، والحسن، وقتادة وَغَيْرُهُمْ: هِيَ الْحَلِفُ. فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَوَارَثُ بِالْحَلِفِ، فَقَرَّرَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ثم نسخ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «١» وَعَنْهُ أَيْضًا هِيَ: الْحَلِفُ، وَالنَّصِيبُ هُوَ الْمُؤَازَرَةُ فِي الْحَقِّ وَالنَّصْرِ، وَالْوَفَاءُ بِالْكُلَفِ، لَا الْمِيرَاثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هِيَ الْمُؤَاخَاةُ، كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا حَتَّى نُسِخَ. وَعَنْهُ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَرِثُونَ الْأَنْصَارَ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِمْ حَتَّى نُسِخَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَبَقِيَ اثْنَانِ: النَّصِيبُ مِنَ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ، وَمِنَ الْمَالِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ فِي الْوَصِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: هِيَ التَّبَنِّي وَالنَّصِيبُ الَّذِي أُمِرْنَا بِإِتْيَانِهِ، هُوَ الْوَصِيَّةُ لَا الْمِيرَاثُ، وَمَعْنَى عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ: عاقدتهم أيمانكم
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٧٥.
620
وما سحتموهم. وَقِيلَ: كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالتَّبَنِّي لِقَوْمٍ يَمُوتُونَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَوُجُوبِهَا، فَأُمِرَ الْمُوصِي أَنْ يُؤَدِّيَهَا إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي لَهُ. وَقِيلَ: الْمُعَاقَدَةُ هُنَا الزَّوَاجُ، وَالنِّكَاحُ يُسَمَّى عَقْدًا، فَذَكَرَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَذَكَرَ مَعَهُمُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ. وَقِيلَ: الْمُعَاقَدَةُ هُنَا الْوَلَاءُ.
وَقِيلَ: هِيَ حَلِفُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنْ لَا يُوَرِّثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ شَيْئًا، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ نَصِيبَهُ مِنَ الْمَالِ، قَالَ أَبُو رَوْقٍ: وَفِيهِمَا نَزَلَتْ.
فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي الْمُعَاقَدَةِ أَهِيَ الْحَلِفُ أَنْ لَا يُورَثُ الْحَالِفُ؟ أَمِ الْمُؤَاخَاةُ؟ أَمِ التَّبَنِّي؟ أَمِ الْوَصِيَّةُ الْمَشْرُوحَةُ؟ أَمِ الزَّوَاجُ؟ أَمِ الْمُوَالَاةُ؟ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَفْظَةُ الْمُعَاقَدَةِ وَالْأَيْمَانِ تُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَحْلَافُ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ غَيْرِ الْأَحْلَافِ لَيْسَ فِي جَمِيعِهِ مُعَاقَدَةٌ وَلَا أَيْمَانٌ انْتَهَى.
وَكَيْفِيَّةُ الْحَلِفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ، وهدمي هدمك، وثاري ثارك، وَحَرْبِي حَرْبُكَ، وَسِلْمِي سِلْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ، وَتَعْقِلُ عَنِّي وَأَعْقِلُ عَنْكَ. فَيَكُونُ لِلْحَلِيفِ التسدس مِنْ مِيرَاثِ الْحَلِيفِ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ. وَعَلَى الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ جَاءَ الْخِلَافُ فِي قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أَهْوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى مِيرَاثِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَبِهِ قَالَ: أَبُو يُوسُفَ، وأبو حنيفة، وزفر، ومحمد، قَالُوا: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَمِيرَاثُهُ لَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ يَحْيَى بن سعيد، وربيعة، وابن المسيب، والزهري، وابراهيم، والحسن، وعمر، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وابن شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ نَاصِرًا مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: عَقَدَتْ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَشَدَّدَ الْقَافَ حَمْزَةُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ كَبْشَةَ، وَالْبَاقُونَ عَاقَدَتْ بِأَلِفِ، وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ فَآتُوهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ نَحْوَ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا مَعْطُوفًا عَلَى الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي فَآتُوهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَوَالِيَ إِذَا كَانَ الْوَالِدَانِ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ مَوْرُوثِينَ، وَإِنْ كَانُوا وَارِثِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَوَالِيَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مَعْطُوفًا عَلَى مَوَالِيَ قَالَهُ: أَبُو الْبَقَاءِ، وَقَالَ: أَيْ وَجَعَلْنَا الَّذِينَ عَاقَدَتْ وُرَّاثًا، وَكَانَ ذَلِكَ وَنُسِخَ انْتَهَى. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَوَالِيَ
621
لِفَسَادِ الْعَطْفِ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ، أَوْ: لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ جَعَلْنَا وُرَّاثًا.
وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَإِنْ كَانَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ وَحَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَمْكَنَ ذَلِكَ، أَيْ جَعَلْنَا وُرَّاثًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، أَيْ: لِكُلِّ إِنْسَانٍ، وَجَعَلْنَا الَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ وُرَّاثًا. وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ تَوْجِيهٌ مُتَكَلَّفٌ، وَمَفْعُولُ عَاقَدَتْ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ أَيْ:
عَاقَدَتْهُمْ أَيْمَانُكُمْ، وَكَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَقَدَتْ هُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَقَدَتْ حِلْفَهُمْ، أَوْ عَهْدَهُمْ أَيْمَانُكُمْ. وَإِسْنَادُ الْمُعَاقَدَةِ أَوِ الْعَقْدِ لِلْإِيمَانِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهَا الْقَسَمُ، أَمِ الْجَارِحَةُ، مَجَازٌ بَلْ فَاعِلُ ذَلِكَ هُوَ الشَّخْصُ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَشْرِيعَ التَّوْرِيثِ، وَأَمَرَ بِإِيتَاءِ النَّصِيبِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ الْمُجَازِي بِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ لِلْعَاصِي، وَوَعْدٌ لِلْمُطِيعِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَى الْمُعَاقَدَةِ بَيْنَكُمْ. وَالصِّلَةُ فَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ.
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ
قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ امْرَأَةً لَطَمَهَا زَوْجُهَا فَاسْتَعْدَتْ، فَقُضِيَ لَهَا بِالْقِصَاصِ، فَنَزَلَتْ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَدْتِ أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غيره» قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ.
فَذَكَرَ التِّبْرِيزِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّهَا حَبِيبَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ زَوْجُ الرَّبِيعِ بْنِ عُمَرَ، وَأَحَدُ النُّقَبَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَطَوَّلُوا الْقِصَّةَ وَفِي آخِرِهَا: فَرُفِعَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وقال الْكَلْبِيُّ: هِيَ حَبِيبَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ زَوْجُ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: هِيَ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى زَوْجُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شماس. وَقِيلَ: نَزَلَ مَعَهَا: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «١» وَفِي سَبَبٍ مِنْ عَيْنِ الْمَرْأَةِ أَنَّ زَوْجَهَا لَطَمَهَا بِسَبَبِ نُشُوزِهَا. وَقِيلَ: سَبَبُ النُّزُولِ قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ: لَمَّا تَمَنَّى النِّسَاءُ دَرَجَةَ الرِّجَالِ عَرَفْنَ وَجْهَ الْفَضِيلَةِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالرِّجَالِ هُنَا مَنْ فِيهِمْ صَدَامَةٌ وَحَزْمٌ، لَا مُطْلَقُ مَنْ لَهُ لِحْيَةٌ. فَكَمْ مِنْ ذِي لِحْيَةٍ لَا يَكُونُ لَهُ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ وَلَا حُرَمٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: رَجُلٌ بَيِّنُ الرُّجُولِيَّةِ وَالرُّجُولَةِ. وَلِذَلِكَ ادَّعَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ إِنْ كَانُوا رِجَالًا. وأنشد:
أكل امرئ تحسبن امْرَأً وَنَارٍ تُوقَدُ بِاللَّيْلِ نَارًا
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْجِنْسِ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ إِلَى اعْتِبَارِ أَفْرَادِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
(١) سورة طه: ٢٠/ ١١٤. [.....]
622
هَذَا الْجِنْسُ قَوَّامٌ عَلَى هَذَا الْجِنْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوَّامُونَ مُسَلَّطُونَ عَلَى تَأْدِيبِ النِّسَاءِ فِي الْحَقِّ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ طَاعَتُهُنَّ لَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَوَّامُ: صِفَةُ مُبَالَغَةٍ، وَيُقَالُ: قَيَّامٌ وَقَيِّمٌ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِالْأَمْرِ وَيَحْفَظُهُ.
وَفِي الحديث: «أنت قيّام السموات وَالْأَرْضِ وَمِنْ فِيهِنَّ»
وَالْبَاءُ في بما للسبب، وما مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: بِتَفْضِيلِ اللَّهِ. وَمَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى الَّذِي فَقَدَ أَبْعَدَ، إِذْ لَا ضَمِيرَ فِي الْجُمْلَةِ وَتَقْدِيرُهُ محذوفا لا مُسَوِّغٌ لِحَذْفِهِ، فَلَا يَجُوزُ.
وَالضَّمِيرُ فِي بَعْضُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَذُكِرَ تَغْلِيبًا لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْأَوَّلِ الرِّجَالُ، وَبِالثَّانِي النِّسَاءُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَوَّامُونَ عَلَيْهِنَّ بِسَبَبِ تَفْضِيلِ اللَّهِ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ، هَكَذَا قَرَّرُوا هَذَا الْمَعْنَى. قَالُوا: وَعَدَلَ عَنِ الضَّمِيرَيْنِ فَلَمْ يَأْتِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ لِمَا فِي ذِكْرِ بَعْضٍ مِنَ الْإِبْهَامِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الضَّمِيرِ، فَرُبَّ أُنْثَى فَضَلَتْ ذَكَرًا. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْفَضْلِ لَا بِالتَّغَلُّبِ وَالِاسْتِطَالَةِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ مِمَّا فُضِّلَ بِهِ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. فَقَالَ الرَّبِيعُ: الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النَّفَقَةُ عَلَيْهِنَّ. وَيَنْبُو عَنْهُ قَوْلُهُ: وَبِمَا أَنْفَقُوا. وَقِيلَ: التَّصَرُّفُ وَالتِّجَارَاتُ. وَقِيلَ: الْغَزْوُ، وَكَمَالُ الدِّينِ، وَالْعَقْلِ. وَقِيلَ: الْعَقْلُ وَالرَّأْيُ، وَحِلُّ الْأَرْبَعِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَكَمَالُ الْعِبَادَاتِ، وَفَضِيلَةُ الشَّهَادَاتِ، وَالتَّعْصِيبُ، وَزِيَادَةُ السَّهْمِ فِي الْمِيرَاثِ، وَالدِّيَاتِ، وَالصَّلَاحِيَّةُ لِلنُّبُوَّةِ، وَالْخِلَافَةُ، وَالْإِمَامَةُ، وَالْخَطَابَةُ، وَالْجِهَادُ، وَالرَّمْيُ، وَالْأَذَانُ، وَالِاعْتِكَافُ، وَالْحَمَالَةُ، وَالْقَسَامَةُ، وَانْتِسَابُ الْأَوْلَادِ، وَاللِّحَى، وَكَشْفُ الْوُجُوهِ، وَالْعَمَائِمُ الَّتِي هِيَ تِيجَانُ الْعَرَبِ، وَالْوِلَايَةُ، وَالتَّزْوِيجُ، وَالِاسْتِدْعَاءُ إِلَى الْفِرَاشِ، وَالْكِتَابَةُ فِي الْغَالِبِ، وَعَدَدُ الزَّوْجَاتِ، وَالْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ «١».
وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أموالهم: معناه عليهن، وما: مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ فِيهِ مُسَوِّغُ الْحَذْفِ. قِيلَ: الْمَعْنَى بِمَا أَخْرَجُوا بِسَبَبِ النِّكَاحِ مِنْ مُهُورِهِنَّ، وَمِنَ النَّفَقَاتِ عَلَيْهِنَّ الْمُسْتَمِرَّةِ.
وَرَوَى مُعَاذٌ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِبَعْلِهَا».
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَهِمَ الْجُمْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ: