مدنية وآياتها ١٧٦ نزلت بعد الممتحنة.
ﰡ
مدنية وآياتها ١٧٦ نزلت بعد الممتحنة (سورة النساء) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ خطاب على العموم وقد تكلمنا على التقوى في أوّل البقرة مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه السلام زَوْجَها هي حوّاء خلقت من ضلع آدم وَبَثَّ نشر تَسائَلُونَ بِهِ أي يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله أن تفعل كذا والْأَرْحامَ بالنصب عطفا على اسم الله أي: اتقوا الأرحام فلا تقطعوها، أو على موضع الجار والمجرور. وهو به، لأنّ موضعه نصب وقرئ بالخفض عطف على الضمير في به، وهو ضعيف عند البصريين، لأنّ الضمير المخفوض لا يعطف عليه إلّا بإعادة الخافض إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها استفاد مقام المراقبة وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثمر حالين: أما العلم: فهو معرفة العبد بأنّ الله مطلع عليه، ناظر إليه يرى جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله، وأما الحال: فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه، ولا يغفل عنه، ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال: كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجدّ في الطاعات، وكانت ثمرتها عند المقرّبين: الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال، وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «١» فقوله أن تعبد الله كأنك تراه: إشارة إلى الثمرة الثانية، وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم: كمن يشاهد ملكا عظيما، فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك: إشارة إلى الثمرة الأولى ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقرّبين، فأعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ.
خطاب للأوصياء، وقيل: للعرب الذين لا يورثون الصغير مع الكبير أمروا أن يورثوهم، وعلى القول بأنّ الخطاب للأوصياء، فالمراد أن يؤتوا اليتامى من أموالهم ما يأكلون ويلبسون في حال صغرهم، فيكون اليتيم على هذا حقيقة، وقيل: المراد دفع أموالهم إليهم إذا بلغوا، فيكون اليتيم على هذا مجاز، لأن اليتيم قد كبر وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف، فنهوا عن ذلك. وقيل: المعنى لا تأكلوا أموالهم وهو الخبيث، وتدعوا مالكم وهو الطيب وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ المعنى: نهي أن يأكلوا أموال اليتامى مجموعة إلى أموالهم، وقيل: نهي عن خلط أموالهم بأموال اليتامى، ثم أباح ذلك بقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم، وإنما تعدّى الفعل بإلى لأنه تضمن معنى الجمع والضم وقيل: بمعنى مع حُوباً أي ذنبا
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا الآية، قالت عائشة: نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال أوليائهم، فيريدون أن يتزوّجوهن ويبخسوهن في الصداق لمكان ولايتهم عليهم، فقيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوّج بما طاب له من الأجنبيات اللاتي يوفّيهن حقوقهن، وقال ابن عباس: إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء، فنزلت الآية في ذلك: أي كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى: كذلك خافوا النساء، وقيل: إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة أو أكثر، فإذا ضاق ماله أخذ مال اليتيم، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا في النساء على ما طاب: أي ما حل، وإنما قال ما، ولم يقل من: لأنه أراد الجنس، وقال الزمخشري لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء، ومنه قوله: وما ملكت أيمانكم مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا
أي أكلا هنيئا أو حال من ضمير الفاعل، وقيل: يوقف على فكلوه ويبدأ هَنِيئاً مَرِيئاً على الدعاء وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ قيل: هم أولاد الرجل وامرأته: أي لا تؤتوهم أموالكم للتبذير، وقيل: السفهاء المحجورون، وأموالكم. أموال المحجورين، وأضافها إلى المخاطبين لأنهم ناظرون عليها وتحت أيديهم قِياماً جمع قيمة، وقيل بمعنى قياما بألف، أي تقوم بها معايشكم وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ قيل: إنها فيمن تلزم الرجال نفقته من زوجته وأولاده، وقيل: في المحجورين يرزقون ويكسون من أموالهم
(٢). هو الزواج بالتبادل فيعطي أحدهم شقيقته إلى الآخر ويأخذ بدلا منها شقيقة الآخر أو ابنته بدون مهر لأي منهما.
وَابْتَلُوا الْيَتامى أي اختبروا رشدهم بَلَغُوا النِّكاحَ بلغوا مبلغ الرجال فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً الرشد: هو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين، واشترط قوم الدين، واعتبر مالك البلوغ والرشد، وحينئذ يدفع المال، واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفه، وقوله مخالف للقرآن وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ومعناه: مبادرة لكبرهم أي أن الوصي يستغنم أكل مال اليتيم قبل أن يكبر، وموضع أن يكبروا نصب على المفعولية ببدارا أو على المفعول من أجله تقديره: مخافة أن يكبروا فَلْيَسْتَعْفِفْ أمر الوصي الغني أن يستعفف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئا وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال عمر بن الخطاب: المعنى أن يستسلف الوصي الفقير من مال اليتيم، فإذا أيسر ردّه، وقيل: المراد أن يكون له أجرة بقدر عمله وخدمته، ومعنى: بالمعروف من غير إسراف، وقيل: نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «١» فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أمر بالتحرز والحرز فهو ندب، وقيل: فرض لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية: سببها أن بعض العرب كانوا لا يورثون النساء، فنزلت الآية ليرث الرجال النساء نَصِيباً مَفْرُوضاً منصوب انتصاب المصدر المؤكد لقوله: «٢» فريضة من الله، وقال الزمخشري: منصوب على التخصيص، أعني: بمعنى نصيبا وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية: خطاب للوارثين أمروا أن يتصدقوا من الميراث على قرابتهم، وعلى اليتامى وعلى المساكين، فقيل: إن ذلك على الوجوب، وقيل: على الندب وهو الصحيح، وقيل: نسخ بآية المواريث وَلْيَخْشَ الَّذِينَ الآية معناها: الأمر لأولياء اليتامى أن يحسنوا إليهم في حفظ أموالهم، فيخافوا الله على أيتامهم كخوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا، ويقدروا ذلك في أنفسهم حتى لا يفعلوا خلاف الشفقة والرحمة، وقيل: الذي يجلسون إلى المريض فيأمروه أن يتصدّق بماله حتى يجحف بورثته، فأمروا أن يخشوا على الورثة كما يخشوا على أولادهم، وحذف مفعول وليخش، وخافوا جواب لو قَوْلًا سَدِيداً على القول الأول ملاطفة الوصي لليتيم بالكلام
(٢). في الآيتين ١٠، ١١ التاليتين.
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً قيل نزلت في الذين لا يورثون الإناث، وقيل: في الأوصياء، ولفظها عام في كل من أكل مال اليتيم بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً أي: أكلهم لمال اليتامى يؤول إلى دخولهم النار، وقيل: يأكلون النار في جهنم
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ هذه الآية نزلت بسبب بنات سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه، ورفعت ما كان في الجاهلية من توريث النساء والأطفال، وقيل: نسخت الوصية للوالدين والأقربين وإنما قال: يُوصِيكُمُ بلفظ الفعل الدائم ولم يقل أوصاكم تنبيها على ما مضى والشروع في حكم آخر وإنما قال يوصيكم الله بالاسم الظاهر، ولم يقل: يوصيكم لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء وإنما قال: في أولادكم ولم يقل في أبنائكم، لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى ابن الابن المتوفى وليسوا من الورثة لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هذا بيان للوصية المذكورة، فإن قيل: هلا قال: للأنثيين مثل حظ الذكر، فالجواب: لأن الذكر مقدم فَإِنْ كُنَّ نِساءً إنما أنث ضمير الجماعة في كن، لأنه قصد الإناث، وأصله أن يعود على الأولاد لأنه يشمل الذكور والإناث، وقيل: يعود على المتروكات، وأجاز الزمخشري أن تكون كان تامة والضمير مبهم ونساء تفسير فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ظاهره أكثر من اثنتين، ولذلك أجمع على أن للثلاث فما فوقهن الثلثان، وأما البنتان فاختلف فيهما، فقال ابن عباس: لهما النصف كالبنت الواحدة وقال الجمهور الثلثان، وتأولوا فوق اثنتين أن المراد ثنتان فما فوقهما، وقال قوم: إنما وجب لهما الثلثان بالسنة لا بالقرآن وقيل: بالقياس على الأختين وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً بالرفع فاعل، وكان تامة، وبالنصب خبر كان، وقوله تعالى: فَلَهَا النِّصْفُ نص على أن للبنت النصف إذا انفردت، ودليل على أن للابن جميع المال إذا انفرد لأن للذكر مثل حظ الأنثيين إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ الولد يقع على الذكر والأنثى، والواحد والاثنين والجماعة سواء كان للصلب، أو ولد ابن، وكلهم يرد الأبوين «١» إلى السدس وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ لم يجعل الله للأم الثلث إلّا بشرطين أحدهما عدم الولد والآخر إحاطة الأبوين بالميراث ولذلك دخلت الواو لعطف أحد الشرطين على الآخر، وسكت عن حظ الأب استغناء بمفهومه، لأنه لا يبقى بعد الثلث إلّا
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ الآية خطاب للرجال. وأجمع العلماء على ما تضمنته هذه الآية من ميراث الزوج والزوجة، وأن ميراث الزوجة تنفرد به إن كانت واحدة، ويقسم بينهن إن كن أكثر من واحدة، ولا ينقص عن ميراث الزوج والزوجة وسائر السهام، إلّا ما نقصه العول على مذهب جمهور العلماء، خلافا لابن عباس، فإنه لا يقول بالعول فإن قيل: لم كرر قوله: من بعد وصية، مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، ولم يذكره قبل ذلك إلّا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين، فالجواب: أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة، والموروث في ميراث الزوجة هو
الضرار في الوصية من الكبائر، ووجوه المضار كثيرة: منها الوصية لوارث، والوصية بأكثر من الثلث، أو بالثلث فرارا عن وارث محتاج، فإن علم أنه قصد بوصيته الإضرار رد ما زاد على الثلث اتفاقا، واختلف هل يرد الثلث على قولين في المذهب، والمشهور أنه ينفذ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لقوله: يوصيكم الله ويجوز أن ينتصب بغير مصدر تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما تقدم من المواريث وغيرها وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية: تعلق بها المعتزلة في قولهم: إن العصاة من المؤمنين يخلدون في النار، وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ هي هنا الزنا مِنْ نِسائِكُمْ أو من المسلمات لأن المسلمة تحدّ حدّ الزنا، وأما الكافر أو الكافرة فاختلف، هل يحدّ أو يعاقب؟ فَاسْتَشْهِدُوا
قيل: إنما جعل شهداء الزنا أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد، وقيل: ليكون شاهدان على كل واحد من الزانيين فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ كانت عقوبة الزنا الإمساك في البيوت، ثم نسخ ذلك بالأذى المذكور بعد هذا، وهو السب والتوبيخ، وقيل: الإمساك للنساء، والأذى للرجال، فلا نسخ بينهما ورجحه ابن عطية بقوله: في الإمساك من نسائكم، وفي الأذى منكم، ثم نسخ الإمساك والأذى بالرجم للمحصن وبالجلد لغير المحصن، واستقر الأمر على ذلك، وأما الجلد فمذكور في سورة النور، وأما الرجم فقد كان في القرآن ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وقد رجم صلّى الله عليه وسلّم ما عزا الأسلمي وغيره فَأَعْرِضُوا عَنْهُما لما أمر بالأذى للزاني أمر بالإعراض عنه إذا تاب، وهو ترك الأذى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: إنما يقبل الله توبة من كان على هذه الصفة، وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها فيقطع بقبول الله لتوبته عند جمهور العلماء، وقال أبو المعالي: يغلب ذلك على الظن ولا يقطع به يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ أي بسفاهة وقلة تحصيل أداة إلى المعصية، وليس المعنى أنه يجهل أن ذلك الفعل يكون معصية، قال أبو العالية: أجمع الصحابة على أن كل معصية فهي بجهالة، سواء كانت عمدا أو جهلا ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قيل: قبل المرض والموت. وقيل: قبل السياق، ومعاينة الملائكة، وفي هذا قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «١» وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ الآية: في الذين يصرون على الذنوب إلى حين لا تقبل التوبة، وهو معاينة الموت فإن كانوا كفارا فهم مخلدون في النار بإجماع، وإن كانوا مسلمين فهم في مشيئة الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم. فقوله: أعتدنا لهم عذابا أليما ثابت في حق الكفار ومنسوخ في حق العصاة من المسلمين بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨] فعذابهم مقيد بالمشيئة
لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاؤوا تزوّجها أحدهم، وإن شاؤوا زوّجوها من غيرهم، وإن شاؤوا منعوها التزوّج، فنزلت
هي ناسخة، والصحيح أنها غير ناسخة ولا منسوخة، فإنّ جواز الفدية على وجه ومنعها على وجه، فلا تعارض ولا نسخ قِنْطاراً مثال على جهة المبالغة في الكثرة، وقد استدلت به المرأة على جواز المغالاة في المهور حين نهى عمر بن الخطاب عن ذلك فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصابت، ورجل أخطأ، كل الناس أفقه منك يا عمر أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كناية عن الجماع مِيثاقاً غَلِيظاً قيل: عقدة النكاح، وقيل: قوله:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: ٢٢٩] وقيل: الأمر بحسن العشرة
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ كان بعض العرب يتزوّج امرأة أبيه بعده فنزلت الآية
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الآية. معناها تحريم ما ذكر من النساء، والنساء المحرمات على التأبيد ثلاثة أصناف بالنسب، وبالرضاع، وبالمصاهرة. فأما النسب فيحرم به سبعة أصناف، وهي المذكورة في هذه الآية، وضابطها أنه يحرم على الرجل فصوله [فروعه] ما سفلت، وأصوله ما علت، وفصول أبويه ما سفلت وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه أُمَّهاتُكُمْ يدخل فيه الوالدة والجدة من قبل الأم والأب ما علون وَبَناتُكُمْ يدخل فيه البنت وبنت الابن وبنت البنت ما سفلن وَأَخَواتُكُمْ يدخل فيه الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم وَعَمَّاتُكُمْ يدخل فيه أخت الوالد، وأخت الجد ما علا، سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم وَخالاتُكُمْ يدخل فيه أخت الأم وأخت الجدّ ما علت سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم وَبَناتُ الْأَخِ يدخل فيه كل من تناسل من الأخ الشقيق أو لأب أو لأم وَبَناتُ الْأُخْتِ يدخل فيه كل ما تناسل من الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ذكر تعالى صنفين من الرضاعة وهم: الأم والأخت.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «١»، فاقتضى ذلك تحريم الأصناف السبعة التي تحرم من النسب، وهي الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وتفصيل ذلك يطول، وفي الرضاع مسائل لم نذكرها لأنها ليس لها تعلق
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ المراد هنا ذوات الأزواج، وهو معطوف على المحرمات المذكورة قبله، والمعنى أنه لا يحل نكاح المرأة إذا كانت في عصمة الرجل إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد السبايا في أشهر الأقوال، والاستثناء متصل، والمعنى: أن المرأة الكافرة ذا كان لها زوج، ثم سبيت: جاز لمن ملكها من المسلمين أن يطأها، وسبب ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بعث جيشا إلى أوطاس، فأصابوا سبايا من العدوّ لهنّ أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهنّ، فنزلت الآية مبيحة لذلك
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ معناها إباحة تزويج الفتيات، وهنّ الإماء للرجل إذا لم يجد طولا للمحصنات، والطول هنا هو السعة في المال، والمحصنات هنا يراد بهنّ الحرائر غير المملوكات. ومذهب مالك وأكثر أصحابه أنه: لا يجوز للحر نكاح أمة إلّا بشرطين: أحدهما: عدم الطول وهو ألا يجد ما يتزوج به حرة، والآخر: خوف العنت، وهو الزنا لقوله بعد هذا: ذلك لمن خشي العنت منكم، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين على القول بأن دليل الخطاب لا يعتبر، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة التي تتزوج لقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ إلّا أهل العراق فلم يشترطوه، وإعراب طولا: مفعولا بالاستطاعة، وأن ينكح بدل منه وهو في موضع نصب بتقدير لأن ينكح ويحتمل أن يكون طولا منصوبا على المصدر والعامل فيه الاستطاعة لأنها بمعنى يتقارب، وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ معناه أنه يعلم
لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يدخل فيه القمار والغصب
وموضع أن نصب، وتجارة بالرفع «١» فاعل تكون وهي تامة، وقرئ بالنصب خبر تكون وهي ناقصة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي اتفاق. وبهذا استدل المالكية على تمام البيع وبالعقد، دون التفرق وقال الشافعي: إنما يتم بالتفرق بالأبدان، لقوله صلّى الله عليه واله وسلّم:
«المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» «٢».
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عطية أجمع المفسرون أنّ المعنى: لا يقتل بعضكم بعضا، قلت: ولفظها يتناول قتل الإنسان لنفسه، وقد حملها عمرو بن العاص على ذلك، ولم ينكره رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم إذ سمعه وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إشارة إلى القتل، لأنه أقرب مذكور، وقيل: إليه وإلى أكل المال بالباطل، وقيل: إلى كل ما تقدّم من المنهيات من أوّل السورة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ «٣» اختلف الناس في الكبائر ما هي؟ فقال ابن عباس: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب، وقال ابن مسعود:
الكبائر هي الذنوب المذكورة من أول هذه السورة إلى أوّل هذه الآية، وقال بعض العلماء:
كل ما عصي الله به، فهو كبيرة، وعدّها بعضهم سبعة عشر، وفي البخاري عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: «اتقوا السبع الموبقات: الإشراك بالله والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات»، فلا شك أنّ هذه من الكبائر للنص عليها في الحديث، وزاد بعضهم عليها أشياء، وورد في الأحاديث النص على أنها كبائر، وورد في القرآن أو في الحديث وعيد عليها، فمنها عقوق الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنهبة، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل الماء والإلحاد في البيت الحرام، والنميمة، وترك التحرّز من البول والغلول واستطالة المرء في عرض أخيه، والجور في الحكم نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وعد بغفران الذنوب الصغائر إذا اجتنب الكبائر مُدْخَلًا كَرِيماً اسم مكان وهو هنا الجنة
وَلا تَتَمَنَّوْا الآية: سببها أن النساء قلن: ليتنا استوينا
(٢). رواه أحمد عن ابن عمر ج أول ص: ٦٨.
(٣). ذكره المنذري ج ٣ ص ٤٨ بلفظ: اجتنبوا السبع الموبقات وعزاه للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن أبي هريرة.
فالذين قالوا إنها منسوخة قالوا: معناها الميراث بالحلف الذي كان في الجاهلية، وقيل:
بالمؤاخاة التي آخى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بين أصحابه، ثم نسخها: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: ٧٥] فصار الميراث للأقارب. والذين قالوا إنها محكمة اختلفوا، فقال ابن عباس: هي المؤازرة والنصرة بالحلف لا في الميراث به، وقال أبو حنيفة: هي في الميراث، وأن الرجلين إذا والى أحدهما الآخر، على أن يتوارثا صح ذلك، وإن لم تكن بينهما قرابة الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ قوّام بناء مبالغة من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء بِما فَضَّلَ اللَّهُ الباء للتعليل، وما مصدرية، والتفضيل بالإمامة والجهاد، وملك الطلاق وكمال العقل وغير ذلك وَبِما أَنْفَقُوا هو: الصداق والنفقة المستمرة فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ أي النساء الصالحات في دينهن مطيعات لأزواجهن، أو مطيعة لله في حق أزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي تحفظ كل ما غاب عن علم زوجها، فيدخل في ذلك صيانة نفسها وحفظ ماله وبيته وحفظ أسراره بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بحفظ الله ورعايته، أو بأمره للنساء أن يطعن الزوج ويحفظنه، فما مصدرية أو بمعنى الذي وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ قيل: الخوف هنا اليقين فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ هذه أنواع من تأديب المرأة إذا نشزت على زوجها وهي على مراتب: بالوعظ في النشوز الخفيف، والهجران فيما هو أشد منه، والضرب فيما هو أشد ومتى انتهت عن النشوز بوجه من التأديب: لم يتعد إلى ما بعده، والهجران هنا هو ترك مضاجعتها، وقيل: ترك الجماع إذا ضاجعها، والضرب غير مبرح فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي إذا أطاعت المرأة زوجها فليس له أن يؤذيها
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما الشقاق الشر والعداوة، وكان الأصل إن خفتم شقاق بينهما، ثم أضيف الظرف إلى الشقاق على طريق الاتساع لقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣] وأصله: مكر بالليل والنهار فَابْعَثُوا حَكَماً الآية. ذكر تعالى الحكم في نشوز المرأة، والحكم في طاعتها، ثم ذكر هنا حالة أخرى، وهي ما إذا ساء ما بين الزوجين ولم يقدر على الإصلاح بينهما، ولا علم من الظالم منهما. فيبعث حكمان مسلمان لينظرا في أمرهما. وينفذ ما ظهر لهما من تطليق وخلع من غير إذن الزوج، وقال أبو حنيفة: ليس لهما الفراق إلّا إن جعل لهما، وإن اختلفا لم يلزم شيء إلّا باتفاقهما ومشهور مذهب مالك: أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين، وقيل: يبعثهما الزوجان، وجرت عادة القضاة [في زمن المؤلف] أن يبعثوا امرأة أمينة، ولا يبعثوا حكمين، قال بعض العلماء: هذا تغيير لحكم القرآن والسنة الجارية مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها يجوز في المذهب أن يكون الحكمان من غير أهل الزوجين، والأكمل أن يكونا من أهلهما كما ذكر الله إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما الضمير في يريدا للحكمين، وفي بينهما للزوجين على الأظهر، وقيل: الضميران للزوجين، وقيل: للحكمين وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ قال ابن عباس: الجار ذي القربى هو القريب النسب، والجار الجنب هو الأجنبي، وقيل: ذي القربى القريب المسكن منك، والجنب البعيد المسكن عنك، وحدّ الجوار عند بعضهم: أربعون ذراعا من كل ناحية الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قال ابن عباس: الرفيق في السعي، وقال عليّ بن أبي طالب: الزوجة مُخْتالًا اسم فاعل وزنه مفتعل من الخيلاء، وهو الكبر وإعجاب المرء بنفسه فَخُوراً شديد الفخر الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله مختالا أو نصب على الذمّ أو دفع بخبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره يعذبون، والآية في اليهود: نزلت في قوم منهم كحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت كانوا يقولون للأنصار: لا تنفقوا أموالكم في الجهاد والصدقات. وهي مع ذلك عامة في من فعل هذه الأفعال من المسلمين وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ عطف على الذين يبخلون، وقيل على الكافرين، والآية في المنافقين الذين كانوا ينفقون في الزكاة والجهاد رياء ومصانعة، وقيل: في اليهود، وقيل: في مشركي مكة الذين أنفقوا أموالهم في حرب المسلمين قَرِيناً أي ملازما له يغويه
[عمّ: ٤٠] وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً استئناف إخبار أنهم لا يكتمون يوم القيامة عن الله شيئا فإن قيل: كيف هذا مع قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ [الأنعام: ٢٣] فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الكتم لا ينفعهم لأنهم إذا كتموا تنطق جوارحهم، فكأنهم لم يكتموا، والآخر: أنهم طوائف مختلفة، ولهم أوقات مختلفة، وقيل إن قوله: ولا يكتمون عطف على تسوّى أي يتمنون أن لا يكتموا لأنهم إذا كتموا افتضحوا
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى سببها أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها، ثم قاموا إلى الصلاة وأمّهم أحدهم فخلط في القراءة فمعناها النهي عن الصلاة في حال السكر. قال بعض الناس: هي منسوخة بتحريم الخمر، وذلك لا يلزم لأنها ليس فيها ما يقتضي إباحة الخمر، إنما هي نهي عن الصلاة في حال السكر، وذلك الحكم الثابت في حين إباحة الخمر وفي حين تحريمها، وقال بعضهم: معناها لا يكن منكم سكر يمنع قرب الصلاة، إذ المرء مأمور بالصلاة فكأنها تقتضي النهي عن السكر وعن سببه وهو الشرب، وهذا بعيد من مقتضى اللفظ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ حتى تعود إليكم عقولكم فتعلمون ما تقرؤون، ويظهر من هذا أن السكر أن لا يعلم ما يقول فأخذ بعض الناس من ذلك أنّ السكران لا يلزم طلاقه ولا إقراره وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ عطف ولا جنبا على موضع وأنتم سكارى، إذ هو في موضع الحال والجنب هنا غير الطاهر بإنزال أو إيلاج وهو واقع على
الغيبة عن الحضر سواء، كان مما تقصر فيه الصلاة أم لا أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ في أو هنا تأويلان: أحدهما: أن تكون للتفصيل والتنويع على بابها، والآخر: أنها بمعنى الواو، فعلى القول بأنها على بابها يكون قوله: فلم تجدوا ماء راجعا إلى المريض والمسافر، وإلى من جاء من الغائط، وإلى من لامس، سواء كانا مريضين أو مسافرين، أم حسبما ذكرنا قبل هذا، فيقتضي لك جواز التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء وهو مذهب مالك والشافعي فيكون في الآية حجة لهما وعلى القول بأنها بمعنى الواو يكون قوله فلم تجدوا ماء راجعا إلى المريض والمسافر فيقتضي ذلك أنه لا يجوز التيمم إلا في المرض والسفر مع عدم
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ اختلف في المراد بالملامسة هنا على ثلاثة أقوال أحدها: أنها الجماع وما دونه من التقبيل واللمس باليد وغيرها، وهو قول مالك، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس الذي هو دون الجماع على تفصيل في المذهب، ويجب معه التيمم إذا عدم الماء، ويكون الجنب من أهل التيمم، والقول الثاني: أنها ما دون الجماع، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس، ولا يجوز التيمم للجنب، وقد قال بذلك عمر بن الخطاب.
ويؤخذ جوازه من الحديث. والثالث: أنها الجماع فعلى هذا يجوز التيمم للجنب، ولا يكون ما دون الجماع ناقضا للوضوء وهو مذهب أبي حنيفة فَلَمْ تَجِدُوا ماءً هذا يفيد وجوب طلب الماء وهو مذهب مالك، خلافا لأبي حنيفة فإن وجده بثمن فاختلف هل يجوز له التيمم أم لا، وإن وهب له فاختلف هل يلزم قبوله أم لا فَتَيَمَّمُوا التيمم في اللغة: القصد، وفي الفقه: الطهارة بالتراب، وهو منقول من المعنى اللغوي صَعِيداً طَيِّباً الصعيد عند مالك هو وجه الأرض، كان ترابا أو رملا أو حجارة فأجاز التيمم بذلك كله، وهو عند الشافعي التراب لا غير، والطيب هنا الطاهر. واختلف في التيمم بالمعادن كالذهب وبالملح وبالتراب المنقول كالمجعول في طبق، وبالآجر، وبالجص المطبوخ، وبالجدار، وبالنبات الذي على وجه الأرض، وذلك كله على الاختلاف في معنى الصعيد فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ لا يكون التيمم إلّا في هذين العضوين، ويقدم الوجه على اليدين لظاهر الآية، وذلك على الندب عند مالك، ويستوعب الوجه بالمسح، وأما اليدان فاختلف هل يمسحهما إلى الكوعين، أو إلى المرفقين؟ ولفظ الآية محتمل، لأنه لم يحد، وقد احتج من قال إلى المرفقين بأن هذا مطلق، فيحمل على المقيّد، وهو تحديدها في الوضوء بالمرفقين الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هم اليهود هنا، وفي الموضع الثاني قال
اشتروا الضلالة بالهدى وفي تكرار قوله: كفى بالله مبالغة
مِنَ الَّذِينَ هادُوا من راجعة إلى الذين أوتوا نصيبا، أو إلى أعدائكم، فهي بيان، وقال الفارسي: هي ابتداء كلام تقديره. من الذين هادوا قوم وقيل: هي متعلقة بنصيرا على قول الفارسي يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يحتمل تحريف اللفظ أو المعنى، وقيل: الكلم هنا التوراة، وقيل: كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم غَيْرَ مُسْمَعٍ معناه: لا سمعت راعِنا ذكر في [البقرة: ١٠٤] سَمِعْنا وَأَطَعْنا عوض من قولهم:
سمعنا وعصينا، واسمع عوض من قولهم: اسمع غير مسمع، وانظرنا عوض من قولهم:
راعنا، وهو النظر أو الانتظار، فهذه الأشياء الثلاثة في مقابلة الأشياء الثلاثة التي ذمهم على قولها، لما فيها من سوء الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخبر أنهم لو قالوا هذه الثلاثة الأخر عوضا عن تلك: لكان خيرا لهم، فإن هذه ليس فيها سوء أدب مُصَدِّقاً ذكر في البقرة أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً قال ابن عباس: طمسها أن تزال العيون منها، وترد في القفا، فيكون ذلك ردا على الدبر، وقيل: طمسها محو تخطيط صورها من أنف أو عين أو حاجب حتى تصير كالأدبار في خلوها عن الحواس أَوْ نَلْعَنَهُمْ أي نمسخهم كما مسخ أصحاب السبت، وقد ذكر في البقرة، أو يكون من اللعن المعروف، والضمير يعود على الوجوه، والمراد أصحابها، أو على الذين أوتوا الكتاب على الالتفات
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ هذه الآية هي الحاكمة في مسألة الوعيد. وهي المبينة لما تعارض فيها من الآيات، وهي الحجة لأهل السنة، والقاطعة بالخوارج والمعتزلة والمرجئة، وذلك أن مذهب أهل السنة أن العصاة من المؤمنين في مشيئة الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وحجتهم هذه الآية، فإنها نص في هذا المعنى، ومذهب الخوارج أن العصاة يعذبون ولا بد سواء كانت ذنوبهم صغائر أو كبائر. ومذهب المعتزلة أنهم يعذبون على الكبائر ولا بد، ويرد على الطائفتين قوله: «ويغفر ما دون ذلك» ومذهب المرجئة أن العصاة كلهم يغفر لهم ولا بدّ وأنه لا يضر ذنب مع الإيمان، ويرد عليهم قولهم: لمن يشاء، فإنه تخصيص لبعض العصاة، وقد تأولت المعتزلة الآية على مذهبهم، فقالوا: لمن يشاء، وهو التائب لا خلاف أنه لا يعذب، وهذا التأويل بعيد، لأن قوله: إنّ
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ وصفهم بالحسد مع البخل، والناس هنا يراد بهم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وأمته، والفضل النبوة، وقيل: النصر والعزة، وقيل: الناس العرب والفضل كون النبي صلّى الله عليه واله وسلّم منهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ
المراد بآل إبراهيم ذريته من بني إسرائيل وغيرهم ممن آتاه الله الكتب التي أنزلها والحكمة التي علمها، والمقصود بالآية الردّ على اليهود في حسدهم لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومعناها إلزام لهم بما عرفوه من فضل الله تعالى على آل إبراهيم، فلأيّ شيء تخصون محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحسد دون غيره ممن أنعم الله عليهم مُلْكاً عَظِيماً الملك في آل إبراهيم هو ملك يوسف وداود وسليمان فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ الآية قيل: المراد من اليهود من آمن بالنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أو بالقرآن المذكور في قوله تعالى: مصدقا لما معكم، أو بما ذكر من حديث إبراهيم، فهذه ثلاثة أوجه في ضمير به، وقيل: منهم أي من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من كفر: كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: ٢٦] كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الآية قيل: تبدل لهم جلود بعد جلود أخرى، إذ نفوسهم هي المعذبة وقيل: تبديل الجلود تغيير صفاتها بالنار، وقيل: الجلود السرابيل وهو بعيد أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ذكر في البقرة ظِلًّا ظَلِيلًا صفة من لفظ الظل للتأكيد: أي دائما لا تنسخه الشمس وقيل: نفي الحر والبرد إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ الآية: قيل هي خطاب للولاة وقيل: للنبي صلّى الله عليه وسلّم، حين أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ولفظها عام، وكذلك حكمها وَأُولِي الْأَمْرِ هم: الولاة، وقيل: العلماء نزلت في عبد الله بن حذافة بعثه رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في سرية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الردّ إلى الله هو النظر في كتابه، والردّ إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته إِنْ كُنْتُمْ يحتمل أن يكون هذا الشرط راجعا إلى قوله: فردّوه أو إلى قوله أطيعوا، والأوّل أظهر، لأنه أقرب إليه وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي مآلا وعاقبة وقيل: أحسن نظرا منكم الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية: نزلت في المنافقين، وقيل: في منافق ويهودي كان بينهما خصومة، فتحاكما إلى كعب بن الأشرف اليهودي. وقيل: إلى كاهن
رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ وضع الظاهر موضع المضمر ليذمهم بالنفاق، ودل ذلك على أنّ الآية المتقدّمة نزلت في المنافقين
جاءوك أتوك تائبين معتذرين من ذنوبهم، يطلبون أن تستغفر لهم الله فَلا وَرَبِّكَ لا هنا مؤكدة للنفي الذي بعدها شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي اختلط واختلفوا فيه، ومعنى الآية: أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، ونزلت بسبب المنافقين الذين تخاصموا، وقيل: بسبب خصام الزبير مع رجل من الأنصار في الماء وحكمها عام وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية: معناها لو فرض عليهم ما فرض على من كان قبلهم من المشقات لم يفعلوها، لقلة انقيادهم إلّا القليل منهم الذين هم مؤمنون حقا، وقد روي أن من هؤلاء القليل أبو بكر وعمر وابن مسعود وعمار بن ياسر وثابت بن قيس إِلَّا قَلِيلٌ بالرفع بدل من المضمر، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب على أصل الاستثناء أو على إلّا فعلا قليلا ما يُوعَظُونَ بِهِ من اتباع النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وطاعته والانقياد له وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي تحقيقا لإيمانهم وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ جواب لسؤال مقدّر عن حالهم لو فعلوا ذلك فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثواب على الطاعة أي هم معهم في الجنة، وهذه الآية مفسرة لقوله تعالى صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والصدّيق فعّيل من الصدق، ومن التصديق، والمراد به المبالغة، والصدّيقون أرفع الناس درجة بعد الأنبياء، والشهداء المقتولون في سبيل الله، ومن جرى مجراهم من سائر الشهداء، كالغريق وصاحب الهدم حسبما ورد في الحديث أنهم سبعة وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً الإشارة إلى الأصناف الأربعة المذكورة والرفيق يقع على الواحد والجماعة كالخليط، وهو مفرد بيّن به الجنس، ومعنى الكلام
ذلِكَ الْفَضْلُ الإشارة إلى الثواب على الطاعة بمرافقة من ذكر في الجنة، والفضل صفة أو خبر خُذُوا حِذْرَكُمْ أي تحرزوا من عدوّكم واستعدّوا له فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي اخرجوا للجهاد جماعات متفرّقين وذلك كناية عن السرايا، وقيل إنّ الثبتة ما فوق العشرة، ووزنها فعلة بفتح العين ولامها محذوفة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين في الجيش الكثيف فخيرهم في الخروج إلى الغزو في قلة أو كثرة وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الخطاب للمؤمنين، والمراد بمن المنافقين وعبر عنهم بمنكم إذ هم يزعمون أنهم من المؤمنين، ويقولون آمنا، واللام في لمن للتأكيد، وفي ليبطئن جواب قسم محذوف، ومعناه يبطئ غيره يثبطه عن الجهاد ويحمله على التخلف عن الغزو، وقيل: يبطئ يتخلف هو عن الغزو ويتثاقل فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة والمعنى أن المنافق تسره غيبته عن المؤمنين إذا هزموا وشهيدا معناه حاضرا معهم وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي نصر وغنيمة، والمعنى: أنّ المنافق يندم على ترك الغزو معهم إذا غنموا فيتمنى أن يكون معهم كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جملة اعتراض بين العامل ومعموله فلا يجوز الوقف عليها، وهذه المودّة في ظاهر المنافق لا في اعتقاده الَّذِينَ يَشْرُونَ أي يبيعون فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ ذكر الحالتين للمقاتل ووعد بالأجر على كل واحدة منهما وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ تحريض على القتال، ما مبتدأ ولكم الجار والمجرور خبر، ولا تقاتلون في موضع الحال، والمستضعفين هم الذين حبسهم مشركوا قريش بمكة ليفتنوهم عن الإسلام، وهو عطف على اسم الله أو مفعول معه الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها هي مكة حين كانت للمشركين يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وما بعده إخبار، قصد به تقوية قلوب المسلمين وتحريضهم على القتال
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الآية، قيل: هي في قوم من الصحابة كانوا قد أمروا بالكف عن القتال قبل أن يفرض الجهاد، فتمنوا أن يؤمروا به، فلما أمروا به كرهوه، لا شكا في دينهم، ولكن خوفا من الموت، وقيل: هي في المنافقين
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ أي أمرنا وشأننا طاعة لك، وهي في المنافقين بإجماع بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ بيت أي: تدبر الأمر بالليل، والضمير في تَقُولُ للمخاطب، وهو النبي صلّى الله تعالى عليه
حفيظا، وقيل: الذي يقيت الحيوان أي يرزقهم القوت فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها معنى ذلك الأمر بردّ السلام، والتخيير بين أن يرد بمثل ما سلّم عليه أو بأحسن منه، والأحسن أفضل، مثل أن يقال له: سلام عليك فيردّ السلام ويزيد الرحمة والبركة، وردّ السلام واجب على الكفاية عند مالك والشافعي، وقال بعض الناس: هو فرض عين، واختلف في الردّ على الكفار، فقيل: يردّ عليهم لعموم الآية، وقيل: لا يردّ عليهم، وقيل:
يقال لهم عليكم، حسبما جاء في الحديث، وهو مذهب مالك ولا يبتدئون بالسلام لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف، وتضمن معنى الحشر ولذلك تعدّى بإلى وَمَنْ أَصْدَقُ لفظه استفهام، ومعناه لا أحد أصدق من الله فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ما استفهامية بمعنى التوبيخ، والخطاب للمسلمين، ومعنى فئتين: أي طائفتين مختلفتين، وهو منصوب على الحال، والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس أنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع المشركين فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم إلى الشام بتجارات، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغنموا تجارتهم لأنهم لم يهاجروا؟ أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنين؟ وقال زيد بن ثابت: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد، فاختلف الصحابة في أمرهم، ويرد هذا قوله: حتى يهاجروا أَرْكَسَهُمْ أي أضلهم، وأهلكهم
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ الضمير للمنافقين أي تمنوا أن تكفروا فَخُذُوهُمْ يريد به
الاختبار
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً نزلت بسبب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد وكان الحارث يعذبه على الإسلام، ثم أسلم وهاجر ولم يعلم عياش بإسلامه فقتله، وقيل: إنّ الاستثناء هنا منقطع، والمعنى: لا يحل لمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، لكن الخطأ قد يقع، والصحيح أنه متصل، والمعنى لا ينبغي لمؤمن ولا يليق به أن يقتل مؤمنا إلّا على وجه الخطأ من غير قصد ولا تعد إذ هو مغلوب فيه، وانتصاب خطأ على أنه مفعول من أجله أو حال أو صفة لمصدر محذوف وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ هذا بيان ما يجب على القاتل خطأ فأوجب الله عليه التحرير والدية، فأما التحرير ففي مال القاتل. وأما الدية ففي مال عاقلته، وجاء ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبيان للآية
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الآية: نزلت بسبب مقيس بن صبابة كان قد أخذ دية أخيه هشام المقتول خطأ، ثم قتل رجلا من القوم الذين قتلوا أخاه وارتدّ مشركا، فأمر رسول الله صلّى الله عليه
خالدا فيها وتأولها الأشعرية بأربعة أوجه: أحدها: أن قالوا إنها في الكافر إذا قتل مؤمنا، والثاني: قالوا معنى المتعمد هنا المستحل للقتل، وذلك يؤول إلى الكفر، والثالث: قالوا الخلود فيها ليست بمعنى الدوام الأبدي، وإنما هو عبارة عن طول المدة، والرابع: أنها منسوخة بقوله تعالى: إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وأما المعتزلة فحملوها على ظاهرها ورأوا أنها ناسخة لقوله: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، واحتجوا على ذلك بقول زيد بن ثابت نزلت الشديدة بعد الهينة وبقول ابن عباس: الشرك والقتل من مات عليهما خلد، وبقول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلّا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» «١»، وتقتضي الآية وهذه الآثار أن للقتل حكما يخصه من بين سائر المعاصي، واختلف الناس في القاتل عمدا إذا تاب، هل تقبل توبته أم لا؟ وكذلك حكى ابن رشد الخلاف في القاتل إذا اقتص منه هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا؟ والصحيح أنه يسقط عنه، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة» «٢»، وبذلك قال جمهور العلماء ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي سافرتم في الجهاد فَتَبَيَّنُوا من البيان وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة من الثبات والتفعل فيها بمعنى الاستفعال «٣» أي اطلبوا بيان الأمر وثبوته أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ بغير ألف أي انقاد وألقى بيده، وقرأ نافع وغيره السلام بمعنى التحية، ونزلت في سرية لقيت رجلا فسلم عليهم، وقال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وكان القاتل علم بن جثامة والمقتول عامر بن الأغبط، وقيل: القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني الغنيمة، وكان للرجل المقتول غنم فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ وعد وتزهيد في غنيمة من أظهر الإسلام كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ قيل: معناه كنتم كفارا فهداكم الله للإسلام، وقيل: كنتم تخفون إيمانكم من قومكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالعزة والنصر حتى أظهرتموه
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية: معناها تفضيل المجاهدين على من لم
(٢). ذكره في التيسير وعزاه لأحمد عن خزيمة بن ثابت وفي سنده اضطراب.
(٣). فثبتوا.
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا اختلف العلماء في تأويلها على خمسة أقوال: أولها: أنها في قصر
وإذا كنت فيهم الآية التي بعد ذلك والواو زائدة وهذا بعيد، الرابع: أنها في صلاة الخوف على قول من يرى أن تصلي كل طائفة ركعة خاصة، قال ابن عباس: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. الخامس: أنها في صلاة المسايفة، فالقصر على هذا هو من هيئة الصلاة كقوله: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا وإذا قلنا إنها في القصر في السفر، فظاهرها أن القصر رخصة، والإتمام أفضل وهو مذهب الشافعي، وقال مالك: القصر أفضل، وقيل إنهما سواء، وأوجب أبو حنيفة القصر، وليس في لفظ الآية ما يدل على مقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة لأن قوله: إذا ضربتم في الأرض معناه السفر مطلقا، ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر طويل أو قصير، ومذهب مالك والشافعي أن مسافة القصر ثمانية وأربعون ميلا واحتجوا بآثار عن عمر وابن عباس، وكذلك ليس في الآية ما يدل على تخصيص القصر بسفر القربة، أو السفر المباح، دون سفر المعصية فإنّ لفظها مطلق في السفر، ولذلك أجاز أبو حنيفة القصر في سفر القربة وفي المباح وفي سفر المعصية، ومنعه مالك في سفر المعصية، ومنعه ابن حنبل في المعصية، وفي المباح. وللقصر أحكام لا تتعلق بالآية فأضربنا عن ذكرها، والمراد بالفتنة في هذه الآية القتال أو التعرض بما يكره
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الآية في صلاة الخوف، وظاهرها يقتضي أنها لا تصلّى بعد رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم لأنه شرط كونه فيهم، وبذلك قال أبو يوسف، وأجازها الجمهور بعده صلّى الله عليه واله وسلّم، لأنهم رأوا أن الخطاب له يتناول أمته، وقد فعلها الصحابة بعده صلّى الله عليه واله وسلّم، واختلف الناس [العلماء] في صلاة الخوف على عشرة أقوال، لاختلاف الأحاديث فيها، ولسنا نضطر إلى ذكرها فإنّ تفسيرها لا يتوقف على ذلك، وكانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم لصلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ يقسم الإمام المسلمين على طائفتين فيصلي بالأولى نصف الصلاة، وتقف الأخرى تحرس ثم يصلي بالثانية بقية الصلاة وتقف الأولى تحرس، واختلف هل تتم كل طائفة صلاتها وهو مذهب الجمهور، أم لا؟ وعلى القول بالإتمام: اختلف هل يتمونها في أثر صلاتهم مع الإمام أو بعد ذلك وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اختلفوا في المأمور بأخذ الأسلحة، فقيل الطائفة
وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، ويدل ذلك على أنهم إن قوتلوا وهم في الصلاة: جاز لهم أن يقاتلوا من قاتلهم، وإلّا لم يكن لأخذ الأسلحة معنى إذا لم يدفعوا بها من قاتلهم فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ الضمير في قوله: فإذا سجدوا للمصلين، والمعنى إذا سجدوا معك في الركعة الأولى، وقيل: إذا سجدوا في ركعة القضاء، والضمير في قوله فليكونوا من ورائكم: يحتمل أن يكون للذين سجدوا: أي إذا سجدوا فليقوموا وليرجعوا وراءكم، وعلى هذا إن كان السجود في الركعة الأولى فيقتضي ذلك أنهم يقومون للحراسة بعد انقضاء الركعة الأولى، ثم يحتمل بعد ذلك أن يقضوا بقية صلاتهم أو لا يقضونها، وإن كان السجود في ركعة القضاء، فيقتضى ذلك أنهم لا يقومون للحراسة إلّا بعد القضاء، وهو مذهب مالك والشافعي، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: فليكونوا للطائفة الأخرى أن يقفوا وراء المصلّين يحرسونهم وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى يعني الطائفة الحارسة وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية: إخبار عما جرى في غزوة ذات الرقاع، من عزم الكفار على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم، فنزل جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره بذلك، وشرعت صلاة الخوف حذرا من الكفار، وفي قوله: ميلة واحدة: مبالغة أي مفاضلة لا يحتاج منها إلى ثانية وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ الآية: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس، فرخص الله في وضع السلاح في حال المرض والمطر، ويقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً إن قيل: كيف طابق الأمر بالحذر للعذاب المهين؟ فالجواب أن الأمر بالحذر من العدوّ: يقتضي توهم قوّتهم وعزتهم، فنفى ذلك الوهم بالإخبار أن الله يهينهم ولا ينصرهم لتقوى قلوب المؤمنين، قال ذلك الزمخشري وإنما يصح ذلك إذا كان العذاب المهين في الدنيا، والأظهر أنه في الآخرة فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية: أي إذا فرغتم من الصلاة، فاذكروا الله بألسنتكم، وذكر القيام والقعود وعلى الجنوب ليعم جميع أحوال الإنسان، وقيل المعنى إذا تلبستم بالصلاة فافعلوها قياما فإن لم تقدروا فقعودا، فإن لم تقدروا فعلى جنوبكم فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي إذا اطمأننتم من الخوف فأقيموا الصلاة على هيئتها المعهودة كِتاباً مَوْقُوتاً أي محدودا بالأوقات وقال ابن عباس: فرضا مفروضا
أي يدبرون ليلا وإنما سمي التدبير قولا، لأنه كلام النفس، وربما كان معه كلام باللسان وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
قيل: إن الخطيئة تكون عن عمد، وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلّا عن عمد، وقيل: هما بمعنى، وكرر لاختلاف اللفظ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
كان القوم قد نسبوا السرقة إلى لبيد بن سهل لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
هم الذين جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم برّأوا ابن الأبيرق من السرقة وهذه الآية وإن كانت إنما نزلت بسبب هذا القصة، فهي أيضا تتضمن أحكام غيرها، وبقية الآية تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتقدير لنعم الله عليه
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إن كانت النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فالاستثناء الذي بعدها منقطع، وقد يكون متصلا على حذف مضاف
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ الآية: اسم
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً معنى الآية إباحة الصلح بين الزوجين، إذا خافت النشوز أو الإعراض، وكما يجوز الصلح مع الخوف كذلك يجوز بعد وقوع النشوز أو الإعراض وقد تقدّم معنى
إخبار أنّ الله وصى الأوّلين والآخرين بأن يتقوه وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي بقوم غيركم، وروي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت ضرب بيده على كتف سلمان الفارسي، وقال: هم قوم هذا
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا الآية: تقتضي الترغيب في طلب ثواب الآخرة، لأنه خير من ثواب الدنيا، وتقتضي أيضا أن يطلب ثواب الدنيا والآخرة من الله وحده، فإنّ ذلك بيده لا بيد غيره، وعلى أحد هذين الوجهين، يرتبط الشرط بجوابه، فالتقدير على الأول، من كان يريد
خطاب للمنافقين معناه الأمر بأن يؤمنوا بألسنتهم وقلوبهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا الآية، قيل: هي في المنافقين لتردّدهم بين الإيمان والكفر، وقيل: في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم ثم كفروا بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والأوّل أرجح لأنّ الكلام من هنا فيهم، والأظهر أنها فيمن آمن بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ثم ارتدّ، ثم عاد إلى الإيمان، ثم ارتدّ وازداد كفرا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذلك فيمن علم الله أنه يموت على كفره، وقد يكون إضلالهم عقابا لهم بسوء أفعالهم
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الآية:
ذكر في البقرة وهو خادعهم تسمية للعقوبة باسم الذنب، لأنّ وبال خداعهم راجع عليهم مُذَبْذَبِينَ أي مضطربين متردّدين، لا إلى المسلمين ولا إلى الكفار سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة ظاهرة إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ أي في الطبقة السفلى من جهنم، وهي سبع طبقات وفي ذلك دليل على أنهم شرّ من الكفار إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء من المنافقين، والتوبة هنا الإيمان الصادق في الظاهر والباطن ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ المعنى أي حاجة ومنفعة لله بعذابكم؟ وهو الغنيّ عنكم، وقدّم الشكر على الإيمان، لأن العبد ينظر إلى النعم فيشكر عليها ثم يؤمن بالمنعم فكان الشكر سببا للإيمان: متقدّم عليه، ويحتمل أن يكون الشكر يتضمن الإيمان، ثم ذكر الإيمان بعده توكيدا واهتماما به، والشاكر اسم الله ذكر في اللغات إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي إلّا جهر المظلوم فيجوز له من الجهر أن يدعو على من ظلمه، وقيل: أن يذكر ما فعل به من الظلم، وقيل: أن يرد عليه بمثل مظلمته إن كان شتمه إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ الآية: ترغيب في فعل الخير سرا وعلانية، وفي العفو عن الظلم بعد أن أباح الانتصار لأن العفو أحب إلى الله من الانتصار، وأكد ذلك بوصفه تعالى نفسه بالعفو مع القدرة
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ الآية: في اليهود والنصارى، لأنهم آمنوا بأنبيائهم، وكفروا
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عدّد الله في جملة قبائحهم قولهم: إنا قتلنا المسيح لأنهم قالوها افتخارا وجرأة مع أنهم كذبوا في ذلك، ولزمهم الذنب، وهم لم يقتلوه لأنهم صلبوا الشخص الذي ألقى عليه شبهه، وهم يعتقدون أنه عيسى، وروي أن عيسى قال للحواريين أيكم يلقى عليه شبهي. فيقتل ويكون رفيقي في الجنة، فقال أحدهم أنا فألقي عليه شبه عيسى فقتل على أنه عيسى» «١» وقيل بل دلّ على عيسى يهوديّ، فألقى الله شبه عيسى على اليهودي فقتل اليهودي ورفع عيسى إلى السماء حيا، حتى ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال رَسُولَ اللَّهِ إن قيل: كيف قالوا فيه رسول الله، وهم يكفرون به ويسبونه؟ فالجواب من
فالجواب أنهم كانوا على الشك، ثم لاحت لهم أمارات فظنوا، قاله الزمخشري، وقد يقال: الظن بمعنى الشك وبمعنى الوهم الذي هو أضعف من الشك وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي ما قتلوه قتلا يقينا فإعراب يقينا على هذا صفة لمصدر محذوف، وقيل: هي مصدر في موضع الحال: أي ما قتلوه متيقنين، وقيل: هو تأكيد للنفي الذي في قوله: ما قتلوه أي يتقين نفي قتله، وهو على هذا منصوب على المصدرية بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أي إلى سمائه وقد ورد في حديث الإسراء أنه في السماء الثانية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فيها تأويلان: أحدهما: أنّ الضمير في موته لعيسى، والمعنى أنه كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض، قبل أن يموت عيسى، وتصير الأديان كلها حينئذ دينا واحدا، وهو دين الإسلام، والثاني أنّ الضمير في موته للكتاب الذي تضمنه قوله: وإن من أهل الكتاب التقدير: وإن من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمن بعيسى، ويعلم أنه نبي قبل أن يموت هذا الإنسان، وذلك حين معاينة الموت، وهو إيمان لا ينفعه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وغيره، وفي مصحف أبيّ بن كعب قبل موتهم، وفي هذه القراءة تقوية للقول الثاني، والضمير في به لعيسى على الوجهين، وقيل: هو لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم وَبِصَدِّهِمْ يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون كثيرا صفة لمصدر
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ هو عبد الله بن سلام، ومخيريق، ومن جرى مجراهم وَالْمُقِيمِينَ منصوب على المدح بإضمار فعل، وهو جائز كثيرا في الكلام، وقالت عائشة هو من لحن كتاب المصحف، وفي مصحف ابن مسعود: والمقيمون، على الأصل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية: ردّ على اليهود الذين سألوا النبي صلّى الله عليه واله وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأن الذي أتى به وحي: كما أتى من تقدّم من الأنبياء بالوحي من غير إنزال الكتاب من السماء، ولذلك أكثر من ذكر الأنبياء الذين كان شأنهم هذا لتقوم بهم الحجة وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ منصوب بفعل مضمر أي أرسلنا رسلا وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً تصريح بالكلام مؤكد بالمصدر، وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة إنّ الشجرة هي التي كلمت موسى رُسُلًا مُبَشِّرِينَ منصوب بفعل مضمر أو على البدل لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أي بعثهم الله ليقطع حجة من يقول: لو أرسل إليّ رسولا لآمنت لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الآية:
معناها أنّ الله يشهد بأن القرآن من عنده، وكذلك تشهد الملائكة بذلك، وسبب الآية: إنكار اليهود للوحي، فجاء الاستدراك على تقدير أنهم قالوا: لن نشهد بما أنزل إليك، فقيل:
لكن الله يشهد بذلك، وفي الآية من أدوات البيان الترديد، وهو ذكر الشهادة أولا، ثم ذكرها في آخر الآية أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ في هذا دليل لأهل السنة على إثبات علم الله، خلافا للمعتزلة في قولهم إنه عالم بلا علم، وقد تأوّلوا الآية بتأويل بعيد
يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب عام، لأنّ النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم بعث إلى جميع الناس فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ انتصب خبرا هنا، وفي قوله: انتهوا خيرا لكم بفعل مضمر لا يظهر تقديره ائتوا خيرا لكم، هذا مذهب سيبويه، وقال الخليل: انتصب بقوله آمنوا وانتهوا على المعنى، وقال الفراء فآمنوا إيمانا خيرا لكم فنصبه على النعت لمصدر محذوف، وقال الكوفيون هو خبر
لن يأنف كذلك، ومعناه حيث وقع لَا الْمَلائِكَةُ
فيه دليل لمن قال: إنّ الملائكة أفضل من الأنبياء، لأن المعنى لن يستنكف عيسى ومن فوقه قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ هو القرآن، وهو أيضا النور المبين، ويحتمل أن يريد بالبرهان الدلائل والحجج، وبالنور النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه سمّاه سراجا يَسْتَفْتُونَكَ أي يطلبون منك الفتيا، ويحتمل أن يكون هذا الفعل طلبا للكلالة، ويفتيكم أيضا طلب لها، فيكون من باب الإعمال وإعمال العامل الثاني على اختيار البصريين أو يكون يستفتونك مقطوعا عن ذلك فيوقف عليه، والأوّل أظهر، وقد تقدّم معنى الكلالة في أوّل السورة والمراد بالأخت والأخ هنا: الشقائق، والذين للأب إذا عدم الشقائق، وقد تقدّم حكم الإخوة للأم في قوله وإن كان رجلا يورث كلالة الآية إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع بفعل مضمر عند البصريين، ولا إشكال فيما ذكر هنا من أحكام المواريث أَنْ تَضِلُّوا مفعول من أجله تقديره كراهية أن تضلوا.