تفسير سورة سورة النساء من كتاب مفاتيح الغيب
المعروف بـتفسير الرازي
.
لمؤلفه
فخر الدين الرازي
.
المتوفي سنة 606 هـ
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سُورَةُ النِّسَاءِمِائَةٌ وَسَبْعُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٍ بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النساء (٤) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ النَّاسَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِالتَّعَطُّفِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَيْتَامِ، وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ وَإِيصَالِ حُقُوقِهِمْ إِلَيْهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى خُتِمَتِ السُّورَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاءِ: ١٧٦] وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعًا أُخَرَ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَهِيَ الْأَمْرُ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ شَاقَّةً عَلَى النُّفُوسِ لِثِقَلِهَا عَلَى الطِّبَاعِ، لَا جَرَمَ افْتَتَحَ السُّورَةَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَهِيَ تَقْوَى الرَّبِّ الَّذِي خَلَقَنَا وَالْإِلَهِ الَّذِي أَوْجَدَنَا، فَلِهَذَا قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عن ابن عباس في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لِأَهْلِ/ مَكَّةَ، وَأَمَّا الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَ النَّاسِ جَمْعٌ دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالِاتِّقَاءِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خُلِقُوا بِأَسْرِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ عَامَّةً كَانَ الْحُكْمُ عَامًّا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالتَّقْوَى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِأَهْلِ مَكَّةَ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُ النَّاسِ عَامًّا فِي الْكُلِّ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَامًّا فِي الْكُلِّ، وَكَانَتْ عِلَّةُ هَذَا التَّكْلِيفِ، وَهِيَ كَوْنُهُمْ خُلِقُوا مِنَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ عَامَّةً فِي حَقِّ الْكُلِّ، كَانَ الْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ.
وَحُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ مُخْتَصٌّ بِالْعَرَبِ لِأَنَّ الْمُنَاشَدَةَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ عَادَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ. فَيَقُولُونَ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ، وَأَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ مُخْتَصًّا بِالْعَرَبِ، فَكَانَ أَوَّلُ الْآيَةِ وهو قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ مُخْتَصًّا بِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ وَقَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ وَرَدَا مُتَوَجِّهَيْنِ إِلَى مُخَاطَبٍ وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ خُصُوصُ آخَرِ الْآيَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أولها،
475
فكان قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ عَامَّا فِي الْكُلِّ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. خَاصًّا بِالْعَرَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْمَطْلِعَ مَطْلِعًا لِسُورَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ: إِحْدَاهُمَا: هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِيَةُ: سُورَةُ الْحَجِّ، وَهِيَ أَيْضًا السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَجِّ:
١] فَجَعَلَ صَدْرَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ دَلَالَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَمَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، ثُمَّ قَدَّمَ السُّورَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَبْدَأِ عَلَى السُّورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَادِ، وَتَحْتَ هَذَا الْبَحْثِ أَسْرَارٌ كَثِيرَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى مُعَلَّلٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذَا الْحُكْمِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَنَقُولُ: قَوْلُنَا إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُشْتَمِلٌ عَلَى قَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا، وَالثَّانِي: كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ التَّخْلِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ/ وَاحِدَةٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ أَثَرٌ فِي وُجُوبِ التَّقْوَى.
أَمَّا الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةٌ لِأَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا الِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعُ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَالِقًا لَنَا وَمُوجِدًا لِذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا فَنَحْنُ عَبِيدُهُ وَهُوَ مَوْلًى لَنَا، وَالرُّبُوبِيَّةُ تُوجِبُ نَفَاذَ أَوَامِرِهِ عَلَى عَبِيدِهِ، وَالْعُبُودِيَّةُ تُوجِبُ الِانْقِيَادَ لِلرَّبِّ وَالْمُوجِدِ وَالْخَالِقِ، الثَّانِي: أَنَّ الْإِيجَادَ غَايَةُ الْإِنْعَامِ وَنِهَايَةُ الْإِحْسَانِ، فَإِنَّكَ كُنْتَ مَعْدُومًا فَأَوْجَدَكَ، وَمَيِّتًا فَأَحْيَاكَ، وَعَاجِزًا فَأَقْدَرَكَ. وَجَاهِلًا فَعَلَّمَكَ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٧٨، ٧٩] فَلَمَّا كَانَتِ النِّعَمُ بِأَسْرِهَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ النِّعَمَ بِإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ، وَتَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨] الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُوجِدًا وَخَالِقًا وَإِلَهًا وَرَبًّا لَنَا وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَشْتَغِلَ بِعُبُودِيَّتِهِ وَأَنْ نَتَّقِيَ كُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ عَنْهُ، وَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُوجِبًا ثَوَابًا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ امْتَنَعَ أَنْ تَصِيرَ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ، لِأَنَّ أَدَاءَ الْحَقِّ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ لَا يُوجِبُ شَيْئًا آخَرَ، هَذَا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَبْدَ أَتَى بِتِلْكَ الطَّاعَاتِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً، فَكَيْفَ وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ فِعْلَ الطَّاعَاتِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَخَلَقَ الدَّاعِيَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَمَتَى حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ وَالدَّاعِي كَانَ مَجْمُوعُهُمَا مُوجِبًا لِصُدُورِ الطَّاعَةِ عَنِ الْعَبْدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الطَّاعَةُ إِنْعَامًا مِنَ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَالْمَوْلَى إِذَا خَصَّ عَبْدَهُ بِإِنْعَامٍ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ مُوجِبًا عَلَيْهِ إِنْعَامًا آخَرَ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ كَوْنَهُ خَالِقًا لَنَا يُوجِبُ عَلَيْنَا عُبُودِيَّتَهُ وَالِاحْتِرَازَ عَنْ مَنَاهِيهِ.
وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ خُصُوصَ كَوْنِهِ خَالِقًا لَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ عَلَيْنَا الطَّاعَةَ وَالِاحْتِرَازَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ خَلْقَ جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِنَ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ لَكَانَ الْمُتَوَلَّدُ مِنَ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَشْيَاءَ مُتَشَاكِلَةً فِي الصِّفَةِ مُتَشَابِهَةً فِي الْخِلْقَةِ وَالطَّبِيعَةِ، فَلَمَّا رَأَيْنَا فِي أَشْخَاصِ النَّاسِ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ وَالْأَحْمَرَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْمَطْلِعَ مَطْلِعًا لِسُورَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ: إِحْدَاهُمَا: هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِيَةُ: سُورَةُ الْحَجِّ، وَهِيَ أَيْضًا السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَجِّ:
١] فَجَعَلَ صَدْرَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ دَلَالَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَمَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، ثُمَّ قَدَّمَ السُّورَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَبْدَأِ عَلَى السُّورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَادِ، وَتَحْتَ هَذَا الْبَحْثِ أَسْرَارٌ كَثِيرَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى مُعَلَّلٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذَا الْحُكْمِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَنَقُولُ: قَوْلُنَا إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُشْتَمِلٌ عَلَى قَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا، وَالثَّانِي: كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ التَّخْلِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَنَا مِنْ نَفْسٍ/ وَاحِدَةٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ أَثَرٌ فِي وُجُوبِ التَّقْوَى.
أَمَّا الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةٌ لِأَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا الِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعُ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَالِقًا لَنَا وَمُوجِدًا لِذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا فَنَحْنُ عَبِيدُهُ وَهُوَ مَوْلًى لَنَا، وَالرُّبُوبِيَّةُ تُوجِبُ نَفَاذَ أَوَامِرِهِ عَلَى عَبِيدِهِ، وَالْعُبُودِيَّةُ تُوجِبُ الِانْقِيَادَ لِلرَّبِّ وَالْمُوجِدِ وَالْخَالِقِ، الثَّانِي: أَنَّ الْإِيجَادَ غَايَةُ الْإِنْعَامِ وَنِهَايَةُ الْإِحْسَانِ، فَإِنَّكَ كُنْتَ مَعْدُومًا فَأَوْجَدَكَ، وَمَيِّتًا فَأَحْيَاكَ، وَعَاجِزًا فَأَقْدَرَكَ. وَجَاهِلًا فَعَلَّمَكَ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٧٨، ٧٩] فَلَمَّا كَانَتِ النِّعَمُ بِأَسْرِهَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ النِّعَمَ بِإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ، وَتَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨] الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُوجِدًا وَخَالِقًا وَإِلَهًا وَرَبًّا لَنَا وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَشْتَغِلَ بِعُبُودِيَّتِهِ وَأَنْ نَتَّقِيَ كُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ عَنْهُ، وَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُوجِبًا ثَوَابًا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ امْتَنَعَ أَنْ تَصِيرَ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ، لِأَنَّ أَدَاءَ الْحَقِّ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ لَا يُوجِبُ شَيْئًا آخَرَ، هَذَا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَبْدَ أَتَى بِتِلْكَ الطَّاعَاتِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً، فَكَيْفَ وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ فِعْلَ الطَّاعَاتِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَخَلَقَ الدَّاعِيَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَمَتَى حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ وَالدَّاعِي كَانَ مَجْمُوعُهُمَا مُوجِبًا لِصُدُورِ الطَّاعَةِ عَنِ الْعَبْدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الطَّاعَةُ إِنْعَامًا مِنَ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَالْمَوْلَى إِذَا خَصَّ عَبْدَهُ بِإِنْعَامٍ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ مُوجِبًا عَلَيْهِ إِنْعَامًا آخَرَ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ كَوْنَهُ خَالِقًا لَنَا يُوجِبُ عَلَيْنَا عُبُودِيَّتَهُ وَالِاحْتِرَازَ عَنْ مَنَاهِيهِ.
وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ خُصُوصَ كَوْنِهِ خَالِقًا لَنَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ عَلَيْنَا الطَّاعَةَ وَالِاحْتِرَازَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ خَلْقَ جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِنَ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ لَكَانَ الْمُتَوَلَّدُ مِنَ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَشْيَاءَ مُتَشَاكِلَةً فِي الصِّفَةِ مُتَشَابِهَةً فِي الْخِلْقَةِ وَالطَّبِيعَةِ، فَلَمَّا رَأَيْنَا فِي أَشْخَاصِ النَّاسِ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ وَالْأَحْمَرَ
476
وَالْأَسْمَرَ وَالْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ وَالطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَهَا وَخَالِقَهَا فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، لَا طَبِيعَةٌ مُؤَثِّرَةٌ، وَلَا عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ، وَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَكَانَ ارْتِبَاطُ قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ بِقَوْلِهِ:
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالِانْتِظَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَكَوْنُ الْخَلْقِ بِأَسْرِهِمْ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ لَهُ أَثَرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَقَارِبَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ نَوْعُ مُوَاصَلَةٍ وَمُخَالَطَةٍ تُوجِبُ مَزِيدَ الْمَحَبَّةِ، وَلِذَلِكَ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَفْرَحُ بِمَدْحِ أَقَارِبِهِ وَأَسْلَافِهِ، وَيَحْزَنُ بِذَمِّهِمْ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا يُؤْذِيهَا»
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ شَفَقَةِ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّاسَ إِذَا عَرَفُوا كَوْنَ الْكُلِّ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ تَرَكُوا الْمُفَاخَرَةَ وَالتَّكَبُّرَ وَأَظْهَرُوا التَّوَاضُعَ وَحُسْنَ الْخُلُقِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ صُلْبِ شَخْصٍ وَاحِدٍ أَشْخَاصًا مُخْتَلِفِينَ، وَأَنْ يَخْلُقَ مِنْ قَطْرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ شَخْصًا عَجِيبَ التَّرْكِيبِ لَطِيفَ الصُّورَةِ، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ وَبَعْثُهُمْ وَنَشُورُهُمْ، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَعَادِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: ٣١].
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ الْأَصَمُّ: الْفَائِدَةُ فِيهِ: أَنَّ الْعَقْلَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ ذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا مَا قَرَأَ كِتَابًا وَلَا تَلْمَذَ لِأُسْتَاذٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَكَانَ مُعْجِزًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: خَلَقَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَقَوْلَهُ: مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ أَجْمَعُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَصِغَرِ تِلْكَ النَّفْسِ؟
قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الْمُرَادَ بِذَلِكَ لِأَنَّ زَوْجَ آدَمَ إِذَا خُلِقَتْ مِنْ بَعْضِهِ، ثُمَّ حَصَلَ خَلْقُ أَوْلَادِهِ مِنْ نُطْفَتِهِمَا ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا، جَازَتْ إِضَافَةُ الْخَلْقِ أَجْمَعَ إِلَى آدَمَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الواحدة هاهنا هُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ أَنَّثَ الْوَصْفَ عَلَى لَفْظِ النَّفْسِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الْكَهْفِ: ٧٤] وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَالُوا فَهَذَا التَّأْنِيثُ عَلَى لَفْظِ الخليفة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ هُوَ حَوَّاءُ، وَفِي كَوْنِ حَوَّاءَ مَخْلُوقَةً مِنْ آدَمَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَلْقَى عَلَيْهِ النَّوْمَ، ثُمَّ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ الْيُسْرَى، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَآهَا وَمَالَ إِلَيْهَا وَأَلِفَهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَخْلُوقَةً مِنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ
بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَإِنْ تَرَكْتَهَا وَفِيهَا عِوَجٌ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا».
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالِانْتِظَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَكَوْنُ الْخَلْقِ بِأَسْرِهِمْ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ لَهُ أَثَرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَقَارِبَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ نَوْعُ مُوَاصَلَةٍ وَمُخَالَطَةٍ تُوجِبُ مَزِيدَ الْمَحَبَّةِ، وَلِذَلِكَ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَفْرَحُ بِمَدْحِ أَقَارِبِهِ وَأَسْلَافِهِ، وَيَحْزَنُ بِذَمِّهِمْ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا يُؤْذِيهَا»
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ شَفَقَةِ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّاسَ إِذَا عَرَفُوا كَوْنَ الْكُلِّ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ تَرَكُوا الْمُفَاخَرَةَ وَالتَّكَبُّرَ وَأَظْهَرُوا التَّوَاضُعَ وَحُسْنَ الْخُلُقِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ صُلْبِ شَخْصٍ وَاحِدٍ أَشْخَاصًا مُخْتَلِفِينَ، وَأَنْ يَخْلُقَ مِنْ قَطْرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ شَخْصًا عَجِيبَ التَّرْكِيبِ لَطِيفَ الصُّورَةِ، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ وَبَعْثُهُمْ وَنَشُورُهُمْ، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَعَادِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: ٣١].
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ الْأَصَمُّ: الْفَائِدَةُ فِيهِ: أَنَّ الْعَقْلَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ ذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا مَا قَرَأَ كِتَابًا وَلَا تَلْمَذَ لِأُسْتَاذٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَكَانَ مُعْجِزًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: خَلَقَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَقَوْلَهُ: مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ أَجْمَعُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَصِغَرِ تِلْكَ النَّفْسِ؟
قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الْمُرَادَ بِذَلِكَ لِأَنَّ زَوْجَ آدَمَ إِذَا خُلِقَتْ مِنْ بَعْضِهِ، ثُمَّ حَصَلَ خَلْقُ أَوْلَادِهِ مِنْ نُطْفَتِهِمَا ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا، جَازَتْ إِضَافَةُ الْخَلْقِ أَجْمَعَ إِلَى آدَمَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الواحدة هاهنا هُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ أَنَّثَ الْوَصْفَ عَلَى لَفْظِ النَّفْسِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الْكَهْفِ: ٧٤] وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى | فَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ هُوَ حَوَّاءُ، وَفِي كَوْنِ حَوَّاءَ مَخْلُوقَةً مِنْ آدَمَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَلْقَى عَلَيْهِ النَّوْمَ، ثُمَّ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ الْيُسْرَى، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَآهَا وَمَالَ إِلَيْهَا وَأَلِفَهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَخْلُوقَةً مِنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ
بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَإِنْ تَرَكْتَهَا وَفِيهَا عِوَجٌ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا».
477
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها أَيْ مِنْ جِنْسِهَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النَّحْلِ: ٧٢] وَكَقَوْلِهِ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٤] وَقَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٨] قَالَ الْقَاضِي:
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، لِكَيْ يَصِحَّ قَوْلُهُ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِذْ لَوْ كَانَتْ حَوَّاءُ مَخْلُوقَةً ابْتِدَاءً لَكَانَ النَّاسُ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسَيْنِ، لَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّخْلِيقِ وَالْإِيجَادِ وَقَعَ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأَيْضًا فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ كَانَ قَادِرًا أَيْضًا عَلَى خَلْقِ حَوَّاءَ مِنَ التُّرَابِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِهَا مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ آدَمُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحْمَرِهَا وَأَسْوَدِهَا وَطَيِّبِهَا وَخَبِيثِهَا فَلِذَلِكَ كَانَ فِي وَلَدِهِ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ وَالْمَرْأَةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِحَوَّاءَ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ فَكَانَتْ مَخْلُوقَةً مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ بِحَوَّاءَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ جَمْعٌ مِنَ الطَّبَائِعِيِّينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَوْجَهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ فِي صِفَةِ آدَمَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ قَالَ فِي حَقِّ الْخَلَائِقِ: مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: ٥٥] وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحَادِثَ لَا يَحْدُثُ إِلَّا عَنْ مَادَّةٍ سَابِقَةٍ يَصِيرُ الشَّيْءُ مَخْلُوقًا مِنْهَا، وَأَنَّ خَلْقَ الشَّيْءِ عَنِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَالنَّفْيِ الصِّرْفِ مُحَالٌ.
أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ فَقَالُوا: خَلْقُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ إِنْ كَانَ عَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَخْلُوقًا الْبَتَّةَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا امْتَنَعَ كَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ مُغَايِرٌ لِلَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ هَذَا الْمَخْلُوقُ وَهَذَا الْمُحْدَثُ إِنَّمَا حَدَثَ وَحَصَلَ عَنِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَخْلُوقًا مِنْ/ غَيْرِهِ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ، وَأَمَّا كَلِمَةُ (مِنْ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مُفِيدٌ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ ابْتِدَاءَ حُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ الْوُقُوعِ فَقَطْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صاحب «الكشاف» : قرئ وخالق منها زوجها وبث مِنْهُمَا بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره هو خالق.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: بَثَّ مِنْهُمَا: يُرِيدُ فَرَّقَ وَنَشَرَ، قَالَ ابْنُ الْمُظَفَّرِ: الْبَثُّ تَفْرِيقُكَ الْأَشْيَاءَ، يُقَالُ: بَثَّ الْخَيْلَ فِي الْغَارَةِ وَبَثَّ الصَّيَّادُ كِلَابَهُ، وَخَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَبَثَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَبَثَثْتُ الْبُسُطَ إِذَا نَشَرْتُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الْغَاشِيَةِ: ١٦] قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: أَبَثَّ اللَّهُ الْخَلْقَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يَقُلْ: وَبَثَّ مِنْهُمَا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُمَا مَبْثُوثِينَ عَنْ نَفْسِهِمَا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى قَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، لِكَيْ يَصِحَّ قَوْلُهُ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِذْ لَوْ كَانَتْ حَوَّاءُ مَخْلُوقَةً ابْتِدَاءً لَكَانَ النَّاسُ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسَيْنِ، لَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّخْلِيقِ وَالْإِيجَادِ وَقَعَ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأَيْضًا فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ كَانَ قَادِرًا أَيْضًا عَلَى خَلْقِ حَوَّاءَ مِنَ التُّرَابِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِهَا مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ آدَمُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحْمَرِهَا وَأَسْوَدِهَا وَطَيِّبِهَا وَخَبِيثِهَا فَلِذَلِكَ كَانَ فِي وَلَدِهِ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ وَالْمَرْأَةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِحَوَّاءَ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ فَكَانَتْ مَخْلُوقَةً مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ بِحَوَّاءَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ جَمْعٌ مِنَ الطَّبَائِعِيِّينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَوْجَهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ فِي صِفَةِ آدَمَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ قَالَ فِي حَقِّ الْخَلَائِقِ: مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: ٥٥] وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحَادِثَ لَا يَحْدُثُ إِلَّا عَنْ مَادَّةٍ سَابِقَةٍ يَصِيرُ الشَّيْءُ مَخْلُوقًا مِنْهَا، وَأَنَّ خَلْقَ الشَّيْءِ عَنِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَالنَّفْيِ الصِّرْفِ مُحَالٌ.
أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ فَقَالُوا: خَلْقُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ إِنْ كَانَ عَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَخْلُوقًا الْبَتَّةَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا امْتَنَعَ كَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ مُغَايِرٌ لِلَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ هَذَا الْمَخْلُوقُ وَهَذَا الْمُحْدَثُ إِنَّمَا حَدَثَ وَحَصَلَ عَنِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَخْلُوقًا مِنْ/ غَيْرِهِ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ، وَأَمَّا كَلِمَةُ (مِنْ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مُفِيدٌ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ ابْتِدَاءَ حُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ الْوُقُوعِ فَقَطْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صاحب «الكشاف» : قرئ وخالق منها زوجها وبث مِنْهُمَا بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره هو خالق.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: بَثَّ مِنْهُمَا: يُرِيدُ فَرَّقَ وَنَشَرَ، قَالَ ابْنُ الْمُظَفَّرِ: الْبَثُّ تَفْرِيقُكَ الْأَشْيَاءَ، يُقَالُ: بَثَّ الْخَيْلَ فِي الْغَارَةِ وَبَثَّ الصَّيَّادُ كِلَابَهُ، وَخَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَبَثَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَبَثَثْتُ الْبُسُطَ إِذَا نَشَرْتُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الْغَاشِيَةِ: ١٦] قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: أَبَثَّ اللَّهُ الْخَلْقَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يَقُلْ: وَبَثَّ مِنْهُمَا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُمَا مَبْثُوثِينَ عَنْ نَفْسِهِمَا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى قَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
478
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً كَثِيرًا؟ وَلِمَ خَصَّصَ وَصْفَ الْكَثْرَةِ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ؟
قُلْنَا: السَّبَبُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ شُهْرَةَ الرِّجَالِ أَتَمُّ، فَكَانَتْ كَثْرَتُهُمْ أَظْهَرَ، فَلَا جَرَمَ خُصُّوا بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِ الرِّجَالِ الِاشْتِهَارُ وَالْخُرُوجُ وَالْبُرُوزُ، وَاللَّائِقُ بِحَالِ النِّسَاءِ الِاخْتِفَاءُ وَالْخُمُولُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَشْخَاصِ الْبَشَرِيَّةِ كَانُوا كَالذَّرِّ، وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ قَالُوا: الْمُرَادُ بَثَّ مِنْهُمَا أَوْلَادَهُمَا وَمِنْ أَوْلَادِهِمَا جَمْعًا آخَرِينَ، فَكَانَ الْكُلُّ مُضَافًا إِلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَسائَلُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، فَمَنْ شَدَّدَ أَرَادَ: تَتَسَاءَلُونَ فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي السِّينِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي أَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْهَمْسِ، وَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ تَاءَ تَتَفَاعَلُونَ لِاجْتِمَاعِ حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ، فَأَعَلَّهَا بِالْحَذْفِ كَمَا أَعَلَّهَا الْأَوَّلُونَ بِالْإِدْغَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمُتَقَارِبَةَ إِذَا اجْتَمَعَتْ خُفِّفَتْ تَارَةً بِالْحَذْفِ وَأُخْرَى بِالْإِدْغَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَالْأَرْحامَ بِجَرِّ الْمِيمِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رُوِيتُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ غَيْرِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ فَكُلُّهُمْ قَرَءُوا بِنَصْبِ الْمِيمِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَالْأَرْحامَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، أَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا فَاسِدَةٌ، قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ بِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عطف لمظهر عَلَيْهِ، إِنَّمَا قُلْنَا الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ الْبَتَّةَ كَمَا أَنَّ التَّنْوِينَ لَا يَنْفَصِلُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْهَاءَ وَالْكَافَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ، وَبِكَ لَا تَرَى وَاحِدًا مُنْفَصِلًا عَنِ الْجَارِ الْبَتَّةَ فَصَارَ كَالتَّنْوِينِ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَحْذِفُونَ الْيَاءَ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ فِي الِاخْتِيَارِ كَحَذْفِهِمُ التَّنْوِينَ مِنَ الْمُفْرَدِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: يَا غُلَامِ، فَكَانَ الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ مُشَابِهًا لِلتَّنْوِينِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَجْرُورَ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ التَّنْوِينَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَطْفِ حُصُولَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فإذا لم تحصل المشابهة هاهنا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَطْفُ. وَثَانِيهَا: قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحْسِنُوا عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: اذْهَبْ وَزَيْدٌ، وَذَهَبْتُ وَزَيْدٌ بَلْ يَقُولُونَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَزَيْدٌ، وَذَهَبْتُ أَنَا وَزَيْدٌ. قَالَ تَعَالَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَةِ: ٢٤] مَعَ أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَرْفُوعَ قَدْ يَنْفَصِلُ، فَإِذَا لَمْ يجز عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَدْ يَنْفَصِلُ، فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مَعَ أَنَّهُ الْبَتَّةَ لَا يَنْفَصِلُ كَانَ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ: الْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُتَشَارِكَانِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَطْفُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي لَوْ جَازَ عَطْفُ الثَّانِي على الأول، وهاهنا هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ لَا تقول: مررت بزيدوك، فَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِكَ وَزَيْدٍ.
قُلْنَا: السَّبَبُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ شُهْرَةَ الرِّجَالِ أَتَمُّ، فَكَانَتْ كَثْرَتُهُمْ أَظْهَرَ، فَلَا جَرَمَ خُصُّوا بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِ الرِّجَالِ الِاشْتِهَارُ وَالْخُرُوجُ وَالْبُرُوزُ، وَاللَّائِقُ بِحَالِ النِّسَاءِ الِاخْتِفَاءُ وَالْخُمُولُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَشْخَاصِ الْبَشَرِيَّةِ كَانُوا كَالذَّرِّ، وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ قَالُوا: الْمُرَادُ بَثَّ مِنْهُمَا أَوْلَادَهُمَا وَمِنْ أَوْلَادِهِمَا جَمْعًا آخَرِينَ، فَكَانَ الْكُلُّ مُضَافًا إِلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَسائَلُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، فَمَنْ شَدَّدَ أَرَادَ: تَتَسَاءَلُونَ فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي السِّينِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي أَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْهَمْسِ، وَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ تَاءَ تَتَفَاعَلُونَ لِاجْتِمَاعِ حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ، فَأَعَلَّهَا بِالْحَذْفِ كَمَا أَعَلَّهَا الْأَوَّلُونَ بِالْإِدْغَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمُتَقَارِبَةَ إِذَا اجْتَمَعَتْ خُفِّفَتْ تَارَةً بِالْحَذْفِ وَأُخْرَى بِالْإِدْغَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَالْأَرْحامَ بِجَرِّ الْمِيمِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رُوِيتُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ غَيْرِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ فَكُلُّهُمْ قَرَءُوا بِنَصْبِ الْمِيمِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَالْأَرْحامَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، أَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا فَاسِدَةٌ، قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ بِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عطف لمظهر عَلَيْهِ، إِنَّمَا قُلْنَا الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ الْبَتَّةَ كَمَا أَنَّ التَّنْوِينَ لَا يَنْفَصِلُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْهَاءَ وَالْكَافَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ، وَبِكَ لَا تَرَى وَاحِدًا مُنْفَصِلًا عَنِ الْجَارِ الْبَتَّةَ فَصَارَ كَالتَّنْوِينِ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَحْذِفُونَ الْيَاءَ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ فِي الِاخْتِيَارِ كَحَذْفِهِمُ التَّنْوِينَ مِنَ الْمُفْرَدِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: يَا غُلَامِ، فَكَانَ الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ مُشَابِهًا لِلتَّنْوِينِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَجْرُورَ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ التَّنْوِينَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَطْفِ حُصُولَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فإذا لم تحصل المشابهة هاهنا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَطْفُ. وَثَانِيهَا: قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحْسِنُوا عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: اذْهَبْ وَزَيْدٌ، وَذَهَبْتُ وَزَيْدٌ بَلْ يَقُولُونَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَزَيْدٌ، وَذَهَبْتُ أَنَا وَزَيْدٌ. قَالَ تَعَالَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَةِ: ٢٤] مَعَ أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَرْفُوعَ قَدْ يَنْفَصِلُ، فَإِذَا لَمْ يجز عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَدْ يَنْفَصِلُ، فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مَعَ أَنَّهُ الْبَتَّةَ لَا يَنْفَصِلُ كَانَ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ: الْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُتَشَارِكَانِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَطْفُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي لَوْ جَازَ عَطْفُ الثَّانِي على الأول، وهاهنا هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ لَا تقول: مررت بزيدوك، فَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِكَ وَزَيْدٍ.
479
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ لَيْسَتْ وُجُوهًا قَوِيَّةً فِي دَفْعِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي اللُّغَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ/ حَمْزَةَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، بَلْ رَوَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَالْقِيَاسُ يَتَضَاءَلُ عِنْدَ السَّمَاعِ لَا سِيَّمَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي هِيَ أَوْهَنُ مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَأَيْضًا فَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْجَارِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ تَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ. وَثَانِيهَا:
أَنَّهُ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ:
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ النُّحَاةِ أَنَّهُمْ يَسْتَحْسِنُونَ إِثْبَاتَ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ الْمَجْهُولَيْنِ وَلَا يَسْتَحْسِنُونَ إِثْبَاتَهَا بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَمُجَاهِدٍ، مَعَ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ. وَاحْتَجَّ الزَّجَّاجُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»
فَإِذَا عَطَفْتَ الْأَرْحَامَ عَلَى الْمُكَنَّى عَنِ اسْمِ اللَّهِ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ الْحَلِفِ بِالْأَرْحَامِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ فِعْلٍ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَحِكَايَةُ هَذَا الْفِعْلِ عَنْهُمْ فِي الْمَاضِي لَا تُنَافِي وُرُودَ النَّهْيِ عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَيْضًا فالحديث نهى عن الحلف بالآباء فقط، وهاهنا لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ حَلِفٌ بِاللَّهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَقْرِنُ بِهِ بَعْدَهُ ذِكْرَ الرَّحِمِ، فَهَذَا لَا يُنَافِي مَدْلُولَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: وَالْأَرْحامَ بِالْجَرِّ. أَمَّا قِرَاءَتُهُ بِالنَّصْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ:
فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَنَصْبُ الْأَرْحَامِ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهَ أَيِ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَيِ اتَّقُوا حَقَّ الْأَرْحَامِ فَصِلُوهَا وَلَا تَقْطَعُوهَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْإِغْرَاءِ، أَيْ وَالْأَرْحَامَ فَاحْفَظُوهَا وَصِلُوهَا كَقَوْلِكَ: الْأَسَدَ الْأَسَدَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ صِلَتِهَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْأَرْحَامُ كَذَلِكَ عَلَى مَعْنَى وَالْأَرْحَامُ مِمَّا يُتَّقَى، أَوْ وَالْأَرْحَامُ مِمَّا يُتَسَاءَلُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: اتَّقُوا رَبَّكُمُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَفِي هَذَا التَّكْرِيرِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: اعْجَلِ اعْجَلْ فَيَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِكَ: اعْجَلْ/ الثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى فِي الْأَوَّلِ لِمَكَانِ الْإِنْعَامِ بِالْخَلْقِ وَغَيْرِهِ، وَفِي الثَّانِي أَمْرٌ بِالتَّقْوَى لِمَكَانِ وُقُوعِ التَّسَاؤُلِ بِهِ فِيمَا يَلْتَمِسُ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ. الثَّالِثُ: قَالَ أَوَّلًا: اتَّقُوا رَبَّكُمُ وَقَالَ ثَانِيًا: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَالرَّبُّ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْإِلَهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى الْقَهْرِ وَالْهَيْبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى بِنَاءً عَلَى التَّرْغِيبِ، ثُمَّ أَعَادَ الْأَمْرَ بِهِ بِنَاءً عَلَى التَّرْهِيبِ كَمَا قَالَ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السَّجْدَةِ: ١٦] وَقَالَ: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء: ٩٠]
أَنَّهُ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ:
فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا | فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ |
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا | وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَعْبِ غَوْطُ نَفَانِفِ |
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»
فَإِذَا عَطَفْتَ الْأَرْحَامَ عَلَى الْمُكَنَّى عَنِ اسْمِ اللَّهِ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ الْحَلِفِ بِالْأَرْحَامِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ فِعْلٍ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَحِكَايَةُ هَذَا الْفِعْلِ عَنْهُمْ فِي الْمَاضِي لَا تُنَافِي وُرُودَ النَّهْيِ عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَيْضًا فالحديث نهى عن الحلف بالآباء فقط، وهاهنا لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ حَلِفٌ بِاللَّهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَقْرِنُ بِهِ بَعْدَهُ ذِكْرَ الرَّحِمِ، فَهَذَا لَا يُنَافِي مَدْلُولَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: وَالْأَرْحامَ بِالْجَرِّ. أَمَّا قِرَاءَتُهُ بِالنَّصْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ:
فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَنَصْبُ الْأَرْحَامِ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهَ أَيِ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَيِ اتَّقُوا حَقَّ الْأَرْحَامِ فَصِلُوهَا وَلَا تَقْطَعُوهَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْإِغْرَاءِ، أَيْ وَالْأَرْحَامَ فَاحْفَظُوهَا وَصِلُوهَا كَقَوْلِكَ: الْأَسَدَ الْأَسَدَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ صِلَتِهَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْأَرْحَامُ كَذَلِكَ عَلَى مَعْنَى وَالْأَرْحَامُ مِمَّا يُتَّقَى، أَوْ وَالْأَرْحَامُ مِمَّا يُتَسَاءَلُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: اتَّقُوا رَبَّكُمُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَفِي هَذَا التَّكْرِيرِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: اعْجَلِ اعْجَلْ فَيَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِكَ: اعْجَلْ/ الثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى فِي الْأَوَّلِ لِمَكَانِ الْإِنْعَامِ بِالْخَلْقِ وَغَيْرِهِ، وَفِي الثَّانِي أَمْرٌ بِالتَّقْوَى لِمَكَانِ وُقُوعِ التَّسَاؤُلِ بِهِ فِيمَا يَلْتَمِسُ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ. الثَّالِثُ: قَالَ أَوَّلًا: اتَّقُوا رَبَّكُمُ وَقَالَ ثَانِيًا: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَالرَّبُّ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْإِلَهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى الْقَهْرِ وَالْهَيْبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى بِنَاءً عَلَى التَّرْغِيبِ، ثُمَّ أَعَادَ الْأَمْرَ بِهِ بِنَاءً عَلَى التَّرْهِيبِ كَمَا قَالَ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السَّجْدَةِ: ١٦] وَقَالَ: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء: ٩٠]
480
كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ رَبَّاكَ وَأَحْسَنَ إِلَيْكَ فَاتَّقِ مُخَالَفَتَهُ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ عَظِيمُ السَّطْوَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّسَاؤُلَ بِاللَّهِ وَبِالْأَرْحَامِ قِيلَ هُوَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: بِاللَّهِ أَسْأَلُكَ، وَبِاللَّهِ أَشْفَعُ إِلَيْكَ، وَبِاللَّهِ أَحْلِفُ عَلَيْكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَكِّدُ الْمَرْءُ بِهِ مُرَادَهُ بِمَسْأَلَةِ الْغَيْرِ، وَيَسْتَعْطِفُ ذَلِكَ الْغَيْرَ فِي الْتِمَاسِ حَقِّهِ مِنْهُ أَوْ نَوَالِهِ وَمَعُونَتِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فَهِي ظَاهِرَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِي الْعَرَبِ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ يَسْتَعْطِفُ غَيْرَهُ بِالرَّحِمِ فَيَقُولُ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَرُبَّمَا أَفْرَدَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِالرَّحِمِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُنَاشِدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ لَا تَبْعَثَ إِلَيْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَالْمَعْنَى يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ، لِأَنَّ مَعْنَى تَقْوَى اللَّهِ مُخَالِفٌ لِمَعْنَى تَقْوَى الْأَرْحَامِ، فَتَقْوَى اللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْتِزَامِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَاتِّقَاءُ الْأَرْحَامِ بِأَنْ تُوصَلَ وَلَا تُقْطَعَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْبِرِّ وَالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ مَرَّتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: اسْمُ الرَّحِمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ النِّعْمَةُ، وَاحْتَجَّ بِمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ اشْتَقَقْتُ اسْمَهَا مِنِ اسْمِي»
وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ لِمَكَانِ هَذِهِ الْحَالَةِ تَقَعُ الرَّحْمَةُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ اسْمُ الرَّحِمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحِمِ الَّذِي عِنْدَهُ يَقَعُ الْإِنْعَامُ وَأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَالنِّزَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا قَرِيبٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ»
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: مِنْهَا إِبْرَارُ الْقَسَمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْحامَ عَلَى تَعْظِيمِ حَقِّ الرَّحِمِ وَتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنْ قَطْعِهَا، قَالَ/ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٢٢] وَقَالَ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً قِيلَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهُ الْقَرَابَةُ، وَقَالَ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَقَالَ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ [النِّسَاءِ: ٣٦]
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ اشْتَقَقْتُ اسْمَهَا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللَّهُ فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَمَا مِنْ عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ أَعْجَلَ عُقُوبَةً مِنَ الْبَغْيِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ»
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ اللَّهُ بِهِمَا فِي الْعُمُرِ وَيَدْفَعُ بِهِمَا مِيتَةَ السُّوءِ وَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمَا الْمَحْذُورَ وَالْمَكْرُوهَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ»
قِيلَ الْكَاشِحُ الْعَدُوُّ، فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُوبُ صِلَةِ الرَّحِمِ وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ مِثْلُ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، وَالْعَمِّ وَالْخَالِ، قَالَ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْمِلْكُ لَحَلَّ الِاسْتِخْدَامُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنَّ الِاسْتِخْدَامَ إِيحَاشٌ يُورِثُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى الْمِلْكُ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْهِبَةَ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ الرُّجُوعَ إِيحَاشٌ يُورِثُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَالْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّسَاؤُلَ بِاللَّهِ وَبِالْأَرْحَامِ قِيلَ هُوَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: بِاللَّهِ أَسْأَلُكَ، وَبِاللَّهِ أَشْفَعُ إِلَيْكَ، وَبِاللَّهِ أَحْلِفُ عَلَيْكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَكِّدُ الْمَرْءُ بِهِ مُرَادَهُ بِمَسْأَلَةِ الْغَيْرِ، وَيَسْتَعْطِفُ ذَلِكَ الْغَيْرَ فِي الْتِمَاسِ حَقِّهِ مِنْهُ أَوْ نَوَالِهِ وَمَعُونَتِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فَهِي ظَاهِرَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِي الْعَرَبِ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ يَسْتَعْطِفُ غَيْرَهُ بِالرَّحِمِ فَيَقُولُ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَرُبَّمَا أَفْرَدَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِالرَّحِمِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُنَاشِدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ لَا تَبْعَثَ إِلَيْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَالْمَعْنَى يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ، لِأَنَّ مَعْنَى تَقْوَى اللَّهِ مُخَالِفٌ لِمَعْنَى تَقْوَى الْأَرْحَامِ، فَتَقْوَى اللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْتِزَامِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَاتِّقَاءُ الْأَرْحَامِ بِأَنْ تُوصَلَ وَلَا تُقْطَعَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْبِرِّ وَالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ مَرَّتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: اسْمُ الرَّحِمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ النِّعْمَةُ، وَاحْتَجَّ بِمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ اشْتَقَقْتُ اسْمَهَا مِنِ اسْمِي»
وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ لِمَكَانِ هَذِهِ الْحَالَةِ تَقَعُ الرَّحْمَةُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ اسْمُ الرَّحِمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحِمِ الَّذِي عِنْدَهُ يَقَعُ الْإِنْعَامُ وَأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَالنِّزَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا قَرِيبٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ»
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: مِنْهَا إِبْرَارُ الْقَسَمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْحامَ عَلَى تَعْظِيمِ حَقِّ الرَّحِمِ وَتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنْ قَطْعِهَا، قَالَ/ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٢٢] وَقَالَ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً قِيلَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهُ الْقَرَابَةُ، وَقَالَ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَقَالَ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ [النِّسَاءِ: ٣٦]
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ اشْتَقَقْتُ اسْمَهَا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللَّهُ فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَمَا مِنْ عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ أَعْجَلَ عُقُوبَةً مِنَ الْبَغْيِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ»
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ اللَّهُ بِهِمَا فِي الْعُمُرِ وَيَدْفَعُ بِهِمَا مِيتَةَ السُّوءِ وَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمَا الْمَحْذُورَ وَالْمَكْرُوهَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ»
قِيلَ الْكَاشِحُ الْعَدُوُّ، فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُوبُ صِلَةِ الرَّحِمِ وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ مِثْلُ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، وَالْعَمِّ وَالْخَالِ، قَالَ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْمِلْكُ لَحَلَّ الِاسْتِخْدَامُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنَّ الِاسْتِخْدَامَ إِيحَاشٌ يُورِثُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى الْمِلْكُ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْهِبَةَ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ الرُّجُوعَ إِيحَاشٌ يُورِثُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَالْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.
481
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَا يَكُونُ كَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً وَالرَّقِيبُ هُوَ الْمُرَاقِبُ الَّذِي يَحْفَظُ عَلَيْكَ جَمِيعَ أَفْعَالِكَ. وَمَنْ هَذَا صِفَتُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُخَافَ وَيُرْجَى، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ حَذِرًا خَائِفًا فِيمَا يَأْتِي وَيَتْرُكُ.
[سورة النساء (٤) : آية ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
[في قوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُنْقَادًا لِتَكَالِيفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، مُحْتَرِزًا عَنْ مَسَاخِطِهِ، شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ.
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى وَصَّى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالْأَرْحَامِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصَّى بِالْأَيْتَامِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِحَيْثُ لَا كَافِلَ لَهُمْ وَلَا مُشْفِقَ شَدِيدَ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِمْ، فَفَارَقَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ لَهُ رَحِمٌ مَاسَّةٌ عَاطِفَةٌ عَلَيْهِ لِمَكَانِ الْوِلَادَةِ أَوْ لِمَكَانِ الرَّحِمِ فَقَالَ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْيَتَامَى الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ فَانْفَرَدُوا عَنْهُمْ، وَالَيُتْمُ الِانْفِرَادُ، وَمِنْهُ الرَّمْلَةُ الْيَتِيمَةُ وَالدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ، وَقِيلَ: الْيُتْمُ فِي الْأَنَاسِيِّ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وَفِي الْبَهَائِمِ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ. قَالَ: وَحَقُّ هَذَا الِاسْمِ أَنْ يَقَعَ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ لِبَقَاءِ الِانْفِرَادِ عَنِ الْآبَاءِ، إِلَّا أَنَّ فِي الْعُرْفِ اخْتَصَّ هَذَا الِاسْمُ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، فَإِذَا صَارَ بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي بِنَفْسِهِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ عَنْ كَافِلٍ يَكْفُلُهُ وَقَيِّمٍ يَقُومُ بِأَمْرِهِ، زَالَ عَنْهُ هَذَا الِاسْمُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَتِيمُ أَبِي طَالِبٍ، إِمَّا عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِمَّا عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا حِينَ كَانَ صَغِيرًا نَاشِئًا فِي حِجْرِ عَمِّهِ تَوْضِيعًا لَهُ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ»
فَهُوَ تَعْلِيمُ الشَّرِيعَةِ لَا تَعْلِيمُ اللُّغَةِ، يَعْنِي إِذَا احْتَلَمَ فَإِنَّهُ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصِّغَارِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ جَدَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنِ الْيَتِيمِ مَتَى يَنْقَطِعُ يُتْمُهُ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِذَا أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ انْقَطَعَ يُتْمُهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ يُتْمُهُ بَعْدُ، فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ قَدْ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاسْمُ الْيَتِيمِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُفْرَدَةِ عَنْ زَوْجِهَا،
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ»
وَهِيَ لَا تُسْتَأْمَرُ إِلَّا وَهِيَ بَالِغَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَالْحَاصِلُ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبَ الْعُرْفِ مختص بالصغير.
المسألة الثانية: هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ جَمَعَ الْيَتِيمَ عَلَى يَتَامَى؟ وَالْيَتِيمُ فَعِيلٌ، وَالْفَعِيلُ يُجْمَعُ عَلَى فَعْلَى، كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى وَقَتِيلٍ وَقَتْلَى وَجَرِيحٍ وَجَرْحَى، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: جَمْعُ الْيَتِيمِ يَتْمَى، ثُمَّ يُجْمَعُ فَعْلَى عَلَى فَعَالَى، كَأَسِيرٍ وَأَسْرَى وَأُسَارَى، وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: جَمْعُ يَتِيمٍ يَتَائِمُ، لِأَنَّ الْيَتِيمَ جَارٍ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ نَحْوُ صَاحِبٍ وَفَارِسٍ، ثُمَّ يُقْلَبُ/ الْيَتَائِمُ يَتَامَى. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَيَجُوزُ يَتِيمٌ وَيَتَامَى، كَنَدِيمٍ وَنَدَامَى، وَيَجُوزُ أَيْضًا يَتِيمٌ وأيتام كشريف وأشراف.
المسألة الثالثة: هاهنا سُؤَالٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ مُخْتَصٌّ بِالصَّغِيرِ، فَمَا دَامَ يَتِيمًا لَا يَجُوزُ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ، وَإِذَا صَارَ كَبِيرًا بِحَيْثُ يَجُوزُ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَبْقَ يَتِيمًا، فَكَيْفَ قَالَ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ
[سورة النساء (٤) : آية ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
[في قوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُنْقَادًا لِتَكَالِيفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، مُحْتَرِزًا عَنْ مَسَاخِطِهِ، شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ.
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى وَصَّى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالْأَرْحَامِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصَّى بِالْأَيْتَامِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِحَيْثُ لَا كَافِلَ لَهُمْ وَلَا مُشْفِقَ شَدِيدَ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِمْ، فَفَارَقَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ لَهُ رَحِمٌ مَاسَّةٌ عَاطِفَةٌ عَلَيْهِ لِمَكَانِ الْوِلَادَةِ أَوْ لِمَكَانِ الرَّحِمِ فَقَالَ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْيَتَامَى الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ فَانْفَرَدُوا عَنْهُمْ، وَالَيُتْمُ الِانْفِرَادُ، وَمِنْهُ الرَّمْلَةُ الْيَتِيمَةُ وَالدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ، وَقِيلَ: الْيُتْمُ فِي الْأَنَاسِيِّ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وَفِي الْبَهَائِمِ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ. قَالَ: وَحَقُّ هَذَا الِاسْمِ أَنْ يَقَعَ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ لِبَقَاءِ الِانْفِرَادِ عَنِ الْآبَاءِ، إِلَّا أَنَّ فِي الْعُرْفِ اخْتَصَّ هَذَا الِاسْمُ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، فَإِذَا صَارَ بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي بِنَفْسِهِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ عَنْ كَافِلٍ يَكْفُلُهُ وَقَيِّمٍ يَقُومُ بِأَمْرِهِ، زَالَ عَنْهُ هَذَا الِاسْمُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَتِيمُ أَبِي طَالِبٍ، إِمَّا عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِمَّا عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا حِينَ كَانَ صَغِيرًا نَاشِئًا فِي حِجْرِ عَمِّهِ تَوْضِيعًا لَهُ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ»
فَهُوَ تَعْلِيمُ الشَّرِيعَةِ لَا تَعْلِيمُ اللُّغَةِ، يَعْنِي إِذَا احْتَلَمَ فَإِنَّهُ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصِّغَارِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ جَدَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنِ الْيَتِيمِ مَتَى يَنْقَطِعُ يُتْمُهُ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِذَا أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ انْقَطَعَ يُتْمُهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ يُتْمُهُ بَعْدُ، فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ قَدْ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاسْمُ الْيَتِيمِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُفْرَدَةِ عَنْ زَوْجِهَا،
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ»
وَهِيَ لَا تُسْتَأْمَرُ إِلَّا وَهِيَ بَالِغَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى | النِّسْوَةَ الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى |
المسألة الثانية: هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ جَمَعَ الْيَتِيمَ عَلَى يَتَامَى؟ وَالْيَتِيمُ فَعِيلٌ، وَالْفَعِيلُ يُجْمَعُ عَلَى فَعْلَى، كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى وَقَتِيلٍ وَقَتْلَى وَجَرِيحٍ وَجَرْحَى، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: جَمْعُ الْيَتِيمِ يَتْمَى، ثُمَّ يُجْمَعُ فَعْلَى عَلَى فَعَالَى، كَأَسِيرٍ وَأَسْرَى وَأُسَارَى، وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: جَمْعُ يَتِيمٍ يَتَائِمُ، لِأَنَّ الْيَتِيمَ جَارٍ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ نَحْوُ صَاحِبٍ وَفَارِسٍ، ثُمَّ يُقْلَبُ/ الْيَتَائِمُ يَتَامَى. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَيَجُوزُ يَتِيمٌ وَيَتَامَى، كَنَدِيمٍ وَنَدَامَى، وَيَجُوزُ أَيْضًا يَتِيمٌ وأيتام كشريف وأشراف.
المسألة الثالثة: هاهنا سُؤَالٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ مُخْتَصٌّ بِالصَّغِيرِ، فَمَا دَامَ يَتِيمًا لَا يَجُوزُ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ، وَإِذَا صَارَ كَبِيرًا بِحَيْثُ يَجُوزُ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَبْقَ يَتِيمًا، فَكَيْفَ قَالَ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ
482
وَالْجَوَابُ عَنْهُ عَلَى طَرِيقَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ المراد من اليتامى الذين بلغوا او كبروا ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ يَتَامَى عَلَى مُقْتَضَى أَصْلِ اللُّغَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ بِالْيَتَامَى لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْيُتْمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ زَالَ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَقَوْلِهِ تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ [الأعراف: ١٢٠] أَيِ الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً قَبْلَ السُّجُودِ، وَأَيْضًا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مُقَارَبَةَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بُلُوغَ الْأَجَلِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ [الطَّلَاقِ: ٢] وَالْمَعْنَى مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْيَتَامَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْبَالِغُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [النِّسَاءِ: ٦] وَالْإِشْهَادُ لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: الْمُرَادُ بِالْيَتَامَى الصِّغَارُ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوا أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ يَتَامَى فِي الْحَالِ آتُوهُمْ بَعْدَ زَوَالِ صِفَةِ الْيُتْمِ عَنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَتِ الْمُنَاقَضَةُ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ: وَآتُوا الْيَتَامَى حَالَ كَوْنِهِمْ يَتَامَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِنَفَقَتِهِمْ وَكُسْوَتِهِمْ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِنْفَاقُ مَالِهِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: وَآتُوهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا أَوْجَبَ إِيتَاءَهُمْ كُلَّ أَمْوَالِهِمْ سَقَطَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى كَرِهُوا أَنْ يُخَالِطُوهُمْ وَعَزَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى عَنْ أَمْوَالِهِمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٠]
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ:
وَأَظُنُّ أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الرَّاوِي، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِيتَاؤُهُمْ أَمْوَالَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا غَلِطَ الرَّاوِي بِآيَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[البقرة: ١٥٢] وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] ذَهَبَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَتَامَى، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
فَخَلَطُوا عِنْدَ ذَلِكَ طَعَامَهُمْ/ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الصَّحِيحُ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ، كَانَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لِابْنِ أَخٍ لَهُ يَتِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ طَلَبَ الْمَالَ فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَتَرَاجَعَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا الْعَمُّ قَالَ:
أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحُوبِ الْكَبِيرِ، وَدَفَعَ مَالَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيُطِعْ رَبَّهُ هَكَذَا فَإِنَّهُ يَحُلُّ دَارَهُ»
أَيْ جَنَّتَهُ،
فَلَمَّا قَبَضَ الصَّبِيُّ مَالَهُ أَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَبَتَ الْأَجْرُ وَبَقِيَ الْوِزْرُ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ ثَبَتَ الْأَجْرُ، فَكَيْفَ بَقِيَ الْوِزْرُ وَهُوَ يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟
فَقَالَ: ثَبَتَ أَجْرُ الْغُلَامِ وَبَقِيَ الْوِزْرُ عَلَى وَالِدِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ، لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ، قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ السَّفِيهَ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ سَنَةً لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ إِينَاسَ الرُّشْدِ قَبْلَ بُلُوغِ هَذَا السِّنِّ، شَرْطٌ فِي وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ هَذَا السِّنِّ، فَوَجَبَ إِجْرَاءُ الْأَمْرِ بَعْدَ هَذَا السِّنِّ عَلَى حُكْمِ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ: بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْيَتَامَى فِيهَا جُمْلَةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَيَّزُوا بَعْدَ ذَلِكَ
أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ يَتَامَى عَلَى مُقْتَضَى أَصْلِ اللُّغَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ بِالْيَتَامَى لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْيُتْمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ زَالَ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَقَوْلِهِ تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ [الأعراف: ١٢٠] أَيِ الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً قَبْلَ السُّجُودِ، وَأَيْضًا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مُقَارَبَةَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بُلُوغَ الْأَجَلِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ [الطَّلَاقِ: ٢] وَالْمَعْنَى مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْيَتَامَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْبَالِغُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [النِّسَاءِ: ٦] وَالْإِشْهَادُ لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: الْمُرَادُ بِالْيَتَامَى الصِّغَارُ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوا أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ يَتَامَى فِي الْحَالِ آتُوهُمْ بَعْدَ زَوَالِ صِفَةِ الْيُتْمِ عَنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَتِ الْمُنَاقَضَةُ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ: وَآتُوا الْيَتَامَى حَالَ كَوْنِهِمْ يَتَامَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِنَفَقَتِهِمْ وَكُسْوَتِهِمْ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِنْفَاقُ مَالِهِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: وَآتُوهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا أَوْجَبَ إِيتَاءَهُمْ كُلَّ أَمْوَالِهِمْ سَقَطَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى كَرِهُوا أَنْ يُخَالِطُوهُمْ وَعَزَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى عَنْ أَمْوَالِهِمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٠]
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ:
وَأَظُنُّ أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الرَّاوِي، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِيتَاؤُهُمْ أَمْوَالَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا غَلِطَ الرَّاوِي بِآيَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[البقرة: ١٥٢] وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] ذَهَبَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَتَامَى، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
فَخَلَطُوا عِنْدَ ذَلِكَ طَعَامَهُمْ/ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الصَّحِيحُ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ، كَانَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لِابْنِ أَخٍ لَهُ يَتِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ طَلَبَ الْمَالَ فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَتَرَاجَعَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا الْعَمُّ قَالَ:
أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحُوبِ الْكَبِيرِ، وَدَفَعَ مَالَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيُطِعْ رَبَّهُ هَكَذَا فَإِنَّهُ يَحُلُّ دَارَهُ»
أَيْ جَنَّتَهُ،
فَلَمَّا قَبَضَ الصَّبِيُّ مَالَهُ أَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَبَتَ الْأَجْرُ وَبَقِيَ الْوِزْرُ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ ثَبَتَ الْأَجْرُ، فَكَيْفَ بَقِيَ الْوِزْرُ وَهُوَ يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟
فَقَالَ: ثَبَتَ أَجْرُ الْغُلَامِ وَبَقِيَ الْوِزْرُ عَلَى وَالِدِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ، لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ، قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ السَّفِيهَ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ سَنَةً لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ إِينَاسَ الرُّشْدِ قَبْلَ بُلُوغِ هَذَا السِّنِّ، شَرْطٌ فِي وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ هَذَا السِّنِّ، فَوَجَبَ إِجْرَاءُ الْأَمْرِ بَعْدَ هَذَا السِّنِّ عَلَى حُكْمِ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ: بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْيَتَامَى فِيهَا جُمْلَةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَيَّزُوا بَعْدَ ذَلِكَ
483
بِقَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى [النِّسَاءِ: ٦] وَبِقَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النِّسَاءِ: ٥] حَرَّمَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِيتَاءَهُمْ أَمْوَالَهُمْ إِذَا كَانُوا سُفَهَاءَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلَا تَتَبَدَّلُوا، أَيْ وَلَا تَسْتَبْدِلُوا، وَالتَّفَعُّلُ بِمَعْنَى الِاسْتِفْعَالِ غَيْرُ عَزِيزٍ، وَمِنْهُ التَّعَجُّلُ بِمَعْنَى الِاسْتِعْجَالِ، وَالتَّأَخُّرُ بِمَعْنَى الِاسْتِئْخَارِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقَالُ: تَبَدَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا أَخَذَهُ مَكَانَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّبَدُّلِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: لَا تَسْتَبْدِلُوا الْحَرَامَ وَهُوَ مَالُ الْيَتَامَى، بِالْحَلَالِ وَهُوَ مَالُكُمُ الَّذِي أُبِيحَ لَكُمْ مِنَ الْمَكَاسِبِ وَرِزْقِ اللَّهِ الْمَبْثُوثِ فِي الْأَرْضِ، فَتَأْكُلُوهُ مَكَانَهُ. الثَّانِي: لَا تَسْتَبْدِلُوا الْأَمْرَ الْخَبِيثَ، وَهُوَ اخْتِزَالُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، بِالْأَمْرِ الطَّيِّبِ وَهُوَ حِفْظُهَا وَالتَّوَرُّعُ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّهُ كَانَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يَأْخُذُ الْجَيِّدَ مِنْ مَالِهِ وَيَجْعَلُ مَكَانَهُ الدُّونَ، يَجْعَلُ الزَّائِفَ بَدَلَ الْجَيِّدِ، وَالْمَهْزُولَ بَدَلَ السَّمِينِ، وَطَعَنَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي هَذَا الْوَجْهِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِتَبَدُّلٍ إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيلٌ إِلَّا أَنْ يُكَارِمَ صَدِيقًا لَهُ فَيَأْخُذَ مِنْهُ عَجْفَاءَ مَكَانَ سَمِينَةٍ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ. الرَّابِعُ: / هُوَ أَنَّ هَذَا التَّبَدُّلَ مَعْنَاهُ: أَنْ يَأْكُلُوا مَالَ الْيَتِيمِ سَلَفًا مَعَ الْتِزَامِ بَدَلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا يَكُونُ مُتَبَدِّلًا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ وَلَا تَضُمُّوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ فِي الْإِنْفَاقِ حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الِانْتِفَاعِ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «إِلَى» بِمَعْنَى «مَعَ» قَالَ تَعَالَى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٢] أَيْ مَعَ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ ذَكَرَ الْأَكْلَ، فَالْمُرَادُ بِهِ التَّصَرُّفُ لِأَنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ كَمَا يَحْرُمُ، فَكَذَا سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الْمُهْلِكَةِ لِتِلْكَ الْأَمْوَالِ مُحَرَّمَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الْمَالِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْكَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّصَرُّفُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يَقَعُ لِأَجْلِهِ التَّصَرُّفُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْمُتَقَدِّمَةِ دَخَلَ فِيهَا أَكْلُهَا وَحْدَهَا وَأَكْلُهَا مَعَ غَيْرِهَا، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِهَا مَعَ أَمْوَالِهِمْ؟
قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ حَلَالٍ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَطْمَعُونَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، كَانَ الْقُبْحُ أَبْلَغَ وَالذَّمُّ أَحَقَّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ الْخَلْقَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ الْمُحَرَّمَةِ إِثْمٌ عَظِيمٌ فَقَالَ:
إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْكِنَايَةُ تَعُودُ إِلَى الْأَكْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَأْكُلُوا دَلَّ عَلَى الْأَكْلِ وَالْحُوبُ الْإِثْمُ الْكَبِيرُ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ طَلَاقَ أَمِّ أَيُّوبَ لَحُوبٌ»
وَكَذَلِكَ الْحَوْبُ وَالْحَابُ ثَلَاثُ لُغَاتٍ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَوْبُ لِأَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْحَابُ لِتَمِيمٍ، وَمَعْنَاهُ الْإِثْمُ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي»
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْحَوْبُ وَالْحَابُ كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَكَأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ التَّحَوُّبِ وَهُوَ التَّوَجُّعُ، فَالْحُوبُ هُوَ ارْتِكَابُ مَا يَتَوَجَّعُ الْمُرْتَكِبُ مِنْهُ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْحَوْبُ بِفَتْحِ الْحَاءِ مَصْدَرٌ، وَالْحُوبُ بِالضَّمِّ الِاسْمُ، وَالْحَوْبَةُ، الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، ثُمَّ يَدْخُلُ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلَا تَتَبَدَّلُوا، أَيْ وَلَا تَسْتَبْدِلُوا، وَالتَّفَعُّلُ بِمَعْنَى الِاسْتِفْعَالِ غَيْرُ عَزِيزٍ، وَمِنْهُ التَّعَجُّلُ بِمَعْنَى الِاسْتِعْجَالِ، وَالتَّأَخُّرُ بِمَعْنَى الِاسْتِئْخَارِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقَالُ: تَبَدَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا أَخَذَهُ مَكَانَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّبَدُّلِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: لَا تَسْتَبْدِلُوا الْحَرَامَ وَهُوَ مَالُ الْيَتَامَى، بِالْحَلَالِ وَهُوَ مَالُكُمُ الَّذِي أُبِيحَ لَكُمْ مِنَ الْمَكَاسِبِ وَرِزْقِ اللَّهِ الْمَبْثُوثِ فِي الْأَرْضِ، فَتَأْكُلُوهُ مَكَانَهُ. الثَّانِي: لَا تَسْتَبْدِلُوا الْأَمْرَ الْخَبِيثَ، وَهُوَ اخْتِزَالُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، بِالْأَمْرِ الطَّيِّبِ وَهُوَ حِفْظُهَا وَالتَّوَرُّعُ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّهُ كَانَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يَأْخُذُ الْجَيِّدَ مِنْ مَالِهِ وَيَجْعَلُ مَكَانَهُ الدُّونَ، يَجْعَلُ الزَّائِفَ بَدَلَ الْجَيِّدِ، وَالْمَهْزُولَ بَدَلَ السَّمِينِ، وَطَعَنَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي هَذَا الْوَجْهِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِتَبَدُّلٍ إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيلٌ إِلَّا أَنْ يُكَارِمَ صَدِيقًا لَهُ فَيَأْخُذَ مِنْهُ عَجْفَاءَ مَكَانَ سَمِينَةٍ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ. الرَّابِعُ: / هُوَ أَنَّ هَذَا التَّبَدُّلَ مَعْنَاهُ: أَنْ يَأْكُلُوا مَالَ الْيَتِيمِ سَلَفًا مَعَ الْتِزَامِ بَدَلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا يَكُونُ مُتَبَدِّلًا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ وَلَا تَضُمُّوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ فِي الْإِنْفَاقِ حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الِانْتِفَاعِ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «إِلَى» بِمَعْنَى «مَعَ» قَالَ تَعَالَى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٢] أَيْ مَعَ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ ذَكَرَ الْأَكْلَ، فَالْمُرَادُ بِهِ التَّصَرُّفُ لِأَنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ كَمَا يَحْرُمُ، فَكَذَا سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الْمُهْلِكَةِ لِتِلْكَ الْأَمْوَالِ مُحَرَّمَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الْمَالِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْكَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّصَرُّفُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يَقَعُ لِأَجْلِهِ التَّصَرُّفُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْمُتَقَدِّمَةِ دَخَلَ فِيهَا أَكْلُهَا وَحْدَهَا وَأَكْلُهَا مَعَ غَيْرِهَا، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِهَا مَعَ أَمْوَالِهِمْ؟
قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ حَلَالٍ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَطْمَعُونَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، كَانَ الْقُبْحُ أَبْلَغَ وَالذَّمُّ أَحَقَّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ الْخَلْقَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ الْمُحَرَّمَةِ إِثْمٌ عَظِيمٌ فَقَالَ:
إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْكِنَايَةُ تَعُودُ إِلَى الْأَكْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَأْكُلُوا دَلَّ عَلَى الْأَكْلِ وَالْحُوبُ الْإِثْمُ الْكَبِيرُ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ طَلَاقَ أَمِّ أَيُّوبَ لَحُوبٌ»
وَكَذَلِكَ الْحَوْبُ وَالْحَابُ ثَلَاثُ لُغَاتٍ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَوْبُ لِأَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْحَابُ لِتَمِيمٍ، وَمَعْنَاهُ الْإِثْمُ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي»
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْحَوْبُ وَالْحَابُ كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَكَأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ التَّحَوُّبِ وَهُوَ التَّوَجُّعُ، فَالْحُوبُ هُوَ ارْتِكَابُ مَا يَتَوَجَّعُ الْمُرْتَكِبُ مِنْهُ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْحَوْبُ بِفَتْحِ الْحَاءِ مَصْدَرٌ، وَالْحُوبُ بِالضَّمِّ الِاسْمُ، وَالْحَوْبَةُ، الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، ثُمَّ يَدْخُلُ
484
بَعْضُهَا فِي الْبَعْضِ كَالْكَلَامِ فَإِنَّهُ اسْمٌ، ثُمَّ يُقَالُ: قَدْ كَلَّمْتُهُ كَلَامًا فَيَصِيرُ مَصْدَرًا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ الْحَسَنُ حَوْبًا، وَقُرِئَ: حَابًا.
[سورة النساء (٤) : آية ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
[في قوله تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ وَفِي/ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِقْسَاطُ الْعَدْلُ، يُقَالُ أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الْحُجُرَاتِ: ٩] وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ وَالنَّصَفَةُ، قَالَ تَعَالَى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النِّسَاءِ: ١٣٥] قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَصْلُ قَسَطَ وَأَقْسَطَ جَمِيعًا مِنَ الْقِسْطِ وَهُوَ النَّصِيبُ، فَإِذَا قَالُوا: قَسَطَ بِمَعْنَى جَارَ أَرَادُوا أَنَّهُ ظَلَمَ صَاحِبَهُ فِي قِسْطِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: قَاسَطْتُهُ إِذَا غَلَبْتَهُ عَلَى قِسْطِهِ، فَبُنِيَ قَسَطَ عَلَى بِنَاءِ ظَلَمَ وَجَارَ وَغَلَبَ، وَإِذَا قَالُوا أَقْسَطَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَارَ ذَا قِسْطٍ عَدْلٍ، فَبُنِيَ عَلَى بِنَاءِ أَنْصَفَ إِذَا أَتَى بِالنِّصْفِ وَالْعَدْلِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَقَسْمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا شَرْطٌ وَقَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ جَزَاءٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ كَيْفَ يَتَعَلَّقُ هَذَا الْجَزَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ:
رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا بِأَدْنَى مِنْ صَدَاقِهَا، ثُمَّ إِذَا تَزَوَّجَ بِهَا عَامَلَهَا مُعَامَلَةً رَدِيئَةً لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَذُبُّ عَنْهَا وَيَدْفَعُ شَرَّ ذَلِكَ الزَّوْجِ عَنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَظْلِمُوا الْيَتَامَى عِنْدَ نِكَاحِهِنَّ فَانْكِحُوا مِنْ غَيْرِهِنَّ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ قالت: وقوله تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ قَالَتْ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: ١٢٧] الْمُرَادُ مِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْيَتَامَى وَمَا فِي أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مِنَ الْحُوبِ الْكَبِيرِ، خَافَ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يَلْحَقَهُمُ الْحُوبُ بِتَرْكِ الْإِقْسَاطِ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى، فَتَحَرَّجُوا مِنْ وَلَايَتِهِمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ رُبَّمَا كَانَ تَحْتَهُ الْعَشْرُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَأَكْثَرُ، فَلَا يَقُومُ بِحُقُوقِهِنَّ وَلَا يَعْدِلُ بَيْنَهُنَّ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ خِفْتُمْ تَرْكَ الْعَدْلِ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى فَتَحَرَّجْتُمْ مِنْهَا، فَكُونُوا خَائِفِينَ من ترك العدل من النساء، فقالوا عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ، لِأَنَّ مَنْ تَحَرَّجَ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَابَ عَنْهُ وَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِمِثْلِهِ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَرِّجٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ وَلَايَةِ الْيَتَامَى فَقِيلَ: إِنْ خِفْتُمْ فِي حَقِّ الْيَتَامَى فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنَ الزِّنَا، فَانْكِحُوا مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا تَحُومُوا حَوْلَ الْمُحَرَّمَاتِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ: مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ عِنْدَهُ النِّسْوَةُ وَيَكُونُ/ عِنْدَهُ الْأَيْتَامُ، فَإِذَا أَنْفَقَ مَالَ نَفْسِهِ عَلَى النِّسْوَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَصَارَ مُحْتَاجًا، أَخَذَ فِي إِنْفَاقِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عَلَيْهِنَّ فَقَالَ تَعَالَى:
وَإِنْ خفتم ألّا تقسطوا في أموال الْيَتَامَى عِنْدَ كَثْرَةِ الزَّوْجَاتِ فَقَدْ حَظَرْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَنْكِحُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ
[سورة النساء (٤) : آية ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
[في قوله تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ وَفِي/ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِقْسَاطُ الْعَدْلُ، يُقَالُ أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الْحُجُرَاتِ: ٩] وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ وَالنَّصَفَةُ، قَالَ تَعَالَى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النِّسَاءِ: ١٣٥] قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَصْلُ قَسَطَ وَأَقْسَطَ جَمِيعًا مِنَ الْقِسْطِ وَهُوَ النَّصِيبُ، فَإِذَا قَالُوا: قَسَطَ بِمَعْنَى جَارَ أَرَادُوا أَنَّهُ ظَلَمَ صَاحِبَهُ فِي قِسْطِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: قَاسَطْتُهُ إِذَا غَلَبْتَهُ عَلَى قِسْطِهِ، فَبُنِيَ قَسَطَ عَلَى بِنَاءِ ظَلَمَ وَجَارَ وَغَلَبَ، وَإِذَا قَالُوا أَقْسَطَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَارَ ذَا قِسْطٍ عَدْلٍ، فَبُنِيَ عَلَى بِنَاءِ أَنْصَفَ إِذَا أَتَى بِالنِّصْفِ وَالْعَدْلِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَقَسْمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا شَرْطٌ وَقَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ جَزَاءٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ كَيْفَ يَتَعَلَّقُ هَذَا الْجَزَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ:
رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا بِأَدْنَى مِنْ صَدَاقِهَا، ثُمَّ إِذَا تَزَوَّجَ بِهَا عَامَلَهَا مُعَامَلَةً رَدِيئَةً لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَذُبُّ عَنْهَا وَيَدْفَعُ شَرَّ ذَلِكَ الزَّوْجِ عَنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَظْلِمُوا الْيَتَامَى عِنْدَ نِكَاحِهِنَّ فَانْكِحُوا مِنْ غَيْرِهِنَّ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ قالت: وقوله تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ قَالَتْ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: ١٢٧] الْمُرَادُ مِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْيَتَامَى وَمَا فِي أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مِنَ الْحُوبِ الْكَبِيرِ، خَافَ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يَلْحَقَهُمُ الْحُوبُ بِتَرْكِ الْإِقْسَاطِ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى، فَتَحَرَّجُوا مِنْ وَلَايَتِهِمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ رُبَّمَا كَانَ تَحْتَهُ الْعَشْرُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَأَكْثَرُ، فَلَا يَقُومُ بِحُقُوقِهِنَّ وَلَا يَعْدِلُ بَيْنَهُنَّ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ خِفْتُمْ تَرْكَ الْعَدْلِ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى فَتَحَرَّجْتُمْ مِنْهَا، فَكُونُوا خَائِفِينَ من ترك العدل من النساء، فقالوا عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ، لِأَنَّ مَنْ تَحَرَّجَ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَابَ عَنْهُ وَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِمِثْلِهِ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَرِّجٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ وَلَايَةِ الْيَتَامَى فَقِيلَ: إِنْ خِفْتُمْ فِي حَقِّ الْيَتَامَى فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنَ الزِّنَا، فَانْكِحُوا مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا تَحُومُوا حَوْلَ الْمُحَرَّمَاتِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ: مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ عِنْدَهُ النِّسْوَةُ وَيَكُونُ/ عِنْدَهُ الْأَيْتَامُ، فَإِذَا أَنْفَقَ مَالَ نَفْسِهِ عَلَى النِّسْوَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَصَارَ مُحْتَاجًا، أَخَذَ فِي إِنْفَاقِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عَلَيْهِنَّ فَقَالَ تَعَالَى:
وَإِنْ خفتم ألّا تقسطوا في أموال الْيَتَامَى عِنْدَ كَثْرَةِ الزَّوْجَاتِ فَقَدْ حَظَرْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَنْكِحُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ
485
كَيْ يَزُولَ هَذَا الْخَوْفُ، فَإِنْ خِفْتُمْ فِي الْأَرْبَعِ أَيْضًا فَوَاحِدَةً، فَذَكَرَ الطَّرَفَ الزَّائِدَ وَهُوَ الْأَرْبَعُ، وَالنَّاقِصَ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ مِنَ الْأَرْبَعِ فَثَلَاثٌ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَاثْنَتَانِ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَوَاحِدَةٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَ مِنَ الْإِكْثَارِ مِنَ النِّكَاحِ بِمَا عَسَاهُ يَقَعُ مِنَ الْوَلِيِّ مِنَ التَّعَدِّي فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِلْحَاجَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ الْكَثِيرِ عِنْدَ التَّزَوُّجِ بالعدد الكثير.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا.
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَصْحَابُ الظَّاهِرِ: النِّكَاحُ وَاجِبٌ وَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَانْكِحُوا أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَتَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٥] إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ وَاجِبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مَا طابَ وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ طَابَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ تَقُولُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، وَالْمَعْنَى مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي عِنْدَكَ، وَمَا تِلْكَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي عِنْدَكَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ (مَا) مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ «مَا» وَ «مَنْ» رُبَّمَا يَتَعَاقَبَانِ. قَالَ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: ٥] وَقَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ٢] وَحَكَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ لَهُ الرَّعْدُ، وَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النُّورِ: ٤٥] وَرَابِعُهَا: إِنَّمَا ذَكَرَ «مَا» تَنْزِيلًا لِلْإِنَاثِ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْهُ: قَوْلُهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: ٣٠].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ مَا طابَ لَكُمْ أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ لِأَنَّ مِنْهُنَّ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا، وَهِيَ الْأَنْوَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٣] وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَانْكِحُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ. فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا طابَ لَكُمْ أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ لَنَزَلَتِ الْآيَةُ مَنْزِلَةَ مَا يُقَالُ: أَبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ مَنْ يَكُونُ نِكَاحُهَا مُبَاحًا لَكُمْ: وَذَلِكَ يُخْرِجُ الْآيَةَ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لَا مَحَالَةَ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الطَّيِّبَ عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ وَمَيْلِ الْقَلْبِ، كَانَتِ الْآيَةُ عَامًّا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَالتَّخْصِيصِ كَانَ رَفْعُ الْإِجْمَالِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَالْمُجْمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَعْنَاهُ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهَا أَمْرَانِ: الْعَدْلُ وَالْوَصْفُ، أَمَّا الْعَدْلُ فَلِأَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّكَ تَذْكُرُ كَلِمَةً وَتُرِيدُ بِهَا كَلِمَةً أُخْرَى، كَمَا تَقُولُ: عُمَرُ وزفر وتريد به عامراً وزافرا، فكذا هاهنا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَثْنَى: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَكَانَ مَعْدُولًا، وَأَمَّا أَنَّهُ وَصْفٌ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فَاطِرٍ: ١] وَلَا شَكَّ أنه وصف.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا.
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَصْحَابُ الظَّاهِرِ: النِّكَاحُ وَاجِبٌ وَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَانْكِحُوا أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَتَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٥] إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ وَاجِبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مَا طابَ وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ طَابَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ تَقُولُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، وَالْمَعْنَى مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي عِنْدَكَ، وَمَا تِلْكَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي عِنْدَكَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ (مَا) مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ «مَا» وَ «مَنْ» رُبَّمَا يَتَعَاقَبَانِ. قَالَ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: ٥] وَقَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ٢] وَحَكَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ لَهُ الرَّعْدُ، وَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النُّورِ: ٤٥] وَرَابِعُهَا: إِنَّمَا ذَكَرَ «مَا» تَنْزِيلًا لِلْإِنَاثِ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْهُ: قَوْلُهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: ٣٠].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ مَا طابَ لَكُمْ أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ لِأَنَّ مِنْهُنَّ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا، وَهِيَ الْأَنْوَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٣] وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَانْكِحُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ. فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا طابَ لَكُمْ أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ لَنَزَلَتِ الْآيَةُ مَنْزِلَةَ مَا يُقَالُ: أَبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ مَنْ يَكُونُ نِكَاحُهَا مُبَاحًا لَكُمْ: وَذَلِكَ يُخْرِجُ الْآيَةَ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لَا مَحَالَةَ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الطَّيِّبَ عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ وَمَيْلِ الْقَلْبِ، كَانَتِ الْآيَةُ عَامًّا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَالتَّخْصِيصِ كَانَ رَفْعُ الْإِجْمَالِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَالْمُجْمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَعْنَاهُ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهَا أَمْرَانِ: الْعَدْلُ وَالْوَصْفُ، أَمَّا الْعَدْلُ فَلِأَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّكَ تَذْكُرُ كَلِمَةً وَتُرِيدُ بِهَا كَلِمَةً أُخْرَى، كَمَا تَقُولُ: عُمَرُ وزفر وتريد به عامراً وزافرا، فكذا هاهنا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَثْنَى: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَكَانَ مَعْدُولًا، وَأَمَّا أَنَّهُ وَصْفٌ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فَاطِرٍ: ١] وَلَا شَكَّ أنه وصف.
486
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ غَيْرُ مُنْصَرِفَةٍ أَنَّ فِيهَا عَدْلَيْنِ لِأَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنْ أُصُولِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَأَيْضًا أَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنْ تَكَرُّرِهَا فَإِنَّكَ لَا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَثْنَى ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، بَلْ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ كَانَ غَرَضُكَ الْإِخْبَارَ عَنْ مَجِيءِ هَذَا الْعَدَدِ فَقَطْ، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ مَثْنَى أَفَادَ أَنَّ تَرْتِيبَ مَجِيئِهِمْ وَقَعَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ نَوْعَانِ مِنَ الْعَدَدِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الصَّرْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الِاسْمِ سَبَبَانِ أَوْجَبَ ذَلِكَ مَنْعُ الصَّرْفِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ لِأَجْلِ ذَلِكَ نَائِبًا مِنْ جِهَتَيْنِ فَيَصِيرُ مُشَابِهًا لِلْفِعْلِ فَيَمْتَنِعُ صَرْفُهُ، وَكَذَا إِذَا حَصَلَ فِيهِ الْعَدْلُ مِنْ جِهَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ صَرْفُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ إِنْسَانًا مَتَى طَابَتْ لَهُ امْرَأَةٌ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِهَا، وَالْعَبْدُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النَّحْلِ: ٧٥] فَقَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ يَنْفِي كَوْنَهُ مُسْتَقِلًّا بِالنِّكَاحِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ»
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ/ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَنْدَرِجُ فِيهَا الْعَبْدُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ مَشْرُوعٌ لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَرْبَعِ وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَحْرَارِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَحْرَارِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: ٤] وَالْعَبْدُ لَا يَأْكُلُ مَا طَابَتْ عَنْهُ نَفْسُ امْرَأَتِهِ مِنَ الْمَهْرِ، بَلْ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وَرَدَ عُمُومَانِ مُسْتَقِلَّانِ، فَدُخُولُ التَّقْيِيدِ فِي الْأَخِيرِ لَا يُوجِبُ دُخُولَهُ فِي السَّابِقِ.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَرَدَتْ مُتَوَالِيَةً عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ فَلَمَّا عُرِفَ فِي بَعْضِهَا اخْتِصَاصُهَا بِالْأَحْرَارِ عُرِفَ أَنَّ الْكُلَّ كَذَلِكَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَنَاوِلٌ لِلْعَبِيدِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصَّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِالْقِيَاسِ، قَالُوا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ لِلرِّقِّ تَأْثِيرًا فِي نُقْصَانِ حُقُوقِ النِّكَاحِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَبْدِ نِصْفُ مَا لِلْحُرِّ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَقْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَهَبَ قوم سدى إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِأَيِّ عَدَدٍ أُرِيدَ، وَاحْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إِطْلَاقٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا عَدَدَ إِلَّا وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا. وَالثَّانِي:
أَنَّ قَوْلَهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْأَعْدَادِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْبَاقِي، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْحَجْرِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ لِوَلَدِهِ: افْعَلْ مَا شِئْتَ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى الْبُسْتَانِ، كَانَ تَنْصِيصًا فِي تَفْوِيضِ زِمَامِ الْخِيَرَةِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا، وَرَفْعِ الْحَجْرِ وَالْحَرَجِ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِلْإِذْنِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ كَانَ إذنا في المذكور وغيره فكذا هاهنا، وَأَيْضًا فَذِكْرُ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ مُتَعَذَّرٌ، فَإِذَا ذَكَرَ بَعْضَ الْأَعْدَادِ بَعْدَ قَوْلِهِ:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ إِنْسَانًا مَتَى طَابَتْ لَهُ امْرَأَةٌ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِهَا، وَالْعَبْدُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النَّحْلِ: ٧٥] فَقَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ يَنْفِي كَوْنَهُ مُسْتَقِلًّا بِالنِّكَاحِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ»
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ/ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَنْدَرِجُ فِيهَا الْعَبْدُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ مَشْرُوعٌ لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَرْبَعِ وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَحْرَارِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَحْرَارِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: ٤] وَالْعَبْدُ لَا يَأْكُلُ مَا طَابَتْ عَنْهُ نَفْسُ امْرَأَتِهِ مِنَ الْمَهْرِ، بَلْ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وَرَدَ عُمُومَانِ مُسْتَقِلَّانِ، فَدُخُولُ التَّقْيِيدِ فِي الْأَخِيرِ لَا يُوجِبُ دُخُولَهُ فِي السَّابِقِ.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَرَدَتْ مُتَوَالِيَةً عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ فَلَمَّا عُرِفَ فِي بَعْضِهَا اخْتِصَاصُهَا بِالْأَحْرَارِ عُرِفَ أَنَّ الْكُلَّ كَذَلِكَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَنَاوِلٌ لِلْعَبِيدِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصَّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِالْقِيَاسِ، قَالُوا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ لِلرِّقِّ تَأْثِيرًا فِي نُقْصَانِ حُقُوقِ النِّكَاحِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَبْدِ نِصْفُ مَا لِلْحُرِّ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَقْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَهَبَ قوم سدى إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِأَيِّ عَدَدٍ أُرِيدَ، وَاحْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إِطْلَاقٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا عَدَدَ إِلَّا وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا. وَالثَّانِي:
أَنَّ قَوْلَهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْأَعْدَادِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْبَاقِي، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْحَجْرِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ لِوَلَدِهِ: افْعَلْ مَا شِئْتَ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى الْبُسْتَانِ، كَانَ تَنْصِيصًا فِي تَفْوِيضِ زِمَامِ الْخِيَرَةِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا، وَرَفْعِ الْحَجْرِ وَالْحَرَجِ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِلْإِذْنِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ كَانَ إذنا في المذكور وغيره فكذا هاهنا، وَأَيْضًا فَذِكْرُ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ مُتَعَذَّرٌ، فَإِذَا ذَكَرَ بَعْضَ الْأَعْدَادِ بَعْدَ قَوْلِهِ:
487
فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ الْإِذْنِ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَقَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يُفِيدُ حِلَّ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَهُوَ يُفِيدُ تِسْعَةً، بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُ يُفِيدُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَثْنَى لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ، بَلْ عَنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَقِيَّةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ/ تِسْعٍ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ فَقَالَ: فَاتَّبِعُوهُ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ. الثَّانِي: أَنَّ سُنَّةَ الرحل طَرِيقَتُهُ، وَكَانَ التَّزَوُّجُ بِالْأَكْثَرِ مِنَ الْأَرْبَعِ طَرِيقَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَنَةً لَهُ، ثُمَّ
إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»
فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ اللَّوْمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّجَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ أَصْلَ الْجَوَازِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُعْتَمَدَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْحَصْرِ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْخَبَرُ، وَهُوَ مَا
رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ بَاقِيَهُنَّ،
وَرُوِيَ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً».
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ بِهَذَا الْخَبَرِ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ وَاقِعَةُ حَالٍ، فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ وَمُفَارَقَةِ الْبَوَاقِي لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَبَيْنَ الْبَوَاقِي غَيْرُ جَائِزٍ، إِمَّا بِسَبَبِ النَّسَبِ، أَوْ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وبالجملة فلهذا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يُمْكِنُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ إِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: الْإِجْمَاعُ نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْأُمَّةِ أَقْوَامًا شُذَّاذًا لَا يَقُولُونَ بِحُرْمَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَالْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: الْإِجْمَاعُ يَكْشِفُ عَنْ حُصُولِ النَّاسِخِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ الثَّانِي، أَنَّ مُخَالِفَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتُمْ فَكَانَ الْأَوْلَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ، فَلِمَ جَاءَ بِوَاوِ الْعَطْفِ دُونَ «أَوْ» ؟
قُلْنَا: لَوْ جَاءَ بِكَلِمَةِ «أَوْ» لَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْتِي بِالتَّثْنِيَةِ، وَالْبَعْضَ الْآخَرَ بِالتَّثْلِيثِ وَالْفَرِيقَ الثَّالِثَ بِالتَّرْبِيعِ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْوَاوِ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ يَخْتَارُوا قِسْمًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ لِلْجَمَاعَةِ: اقْتَسَمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفٌ، دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَلِبَعْضٍ/ آخَرِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَلِطَائِفَةٍ ثَالِثَةٍ أَنْ يَأْخُذُوا أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، فَكَذَا هاهنا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ «أَوْ» وَذِكْرِ الْوَاوِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِمَّا طَابَ، تَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَاتِ لَكُمْ مَعْدُودَاتٍ هَذَا الْعَدَدَ، ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»
فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ اللَّوْمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّجَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ أَصْلَ الْجَوَازِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُعْتَمَدَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْحَصْرِ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْخَبَرُ، وَهُوَ مَا
رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ بَاقِيَهُنَّ،
وَرُوِيَ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً».
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ بِهَذَا الْخَبَرِ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ وَاقِعَةُ حَالٍ، فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ وَمُفَارَقَةِ الْبَوَاقِي لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَبَيْنَ الْبَوَاقِي غَيْرُ جَائِزٍ، إِمَّا بِسَبَبِ النَّسَبِ، أَوْ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وبالجملة فلهذا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يُمْكِنُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ إِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: الْإِجْمَاعُ نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْأُمَّةِ أَقْوَامًا شُذَّاذًا لَا يَقُولُونَ بِحُرْمَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَالْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: الْإِجْمَاعُ يَكْشِفُ عَنْ حُصُولِ النَّاسِخِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ الثَّانِي، أَنَّ مُخَالِفَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتُمْ فَكَانَ الْأَوْلَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ، فَلِمَ جَاءَ بِوَاوِ الْعَطْفِ دُونَ «أَوْ» ؟
قُلْنَا: لَوْ جَاءَ بِكَلِمَةِ «أَوْ» لَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْتِي بِالتَّثْنِيَةِ، وَالْبَعْضَ الْآخَرَ بِالتَّثْلِيثِ وَالْفَرِيقَ الثَّالِثَ بِالتَّرْبِيعِ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْوَاوِ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ يَخْتَارُوا قِسْمًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ لِلْجَمَاعَةِ: اقْتَسَمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفٌ، دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَلِبَعْضٍ/ آخَرِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَلِطَائِفَةٍ ثَالِثَةٍ أَنْ يَأْخُذُوا أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، فَكَذَا هاهنا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ «أَوْ» وَذِكْرِ الْوَاوِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِمَّا طَابَ، تَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَاتِ لَكُمْ مَعْدُودَاتٍ هَذَا الْعَدَدَ، ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
488
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ كَمَا خِفْتُمْ تَرْكَ الْعَدْلِ فِيمَا فَوْقَهَا، فَاكْتَفُوا بِزَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِالْمَمْلُوكَةِ، سَوَّى فِي السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ بَيْنَ الْحُرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَبَيْنَ الْإِمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَلَعَمْرِي إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهن أَمْ أَقْلَلْتَ، عَدَلْتَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ أَمْ لَمْ تَعْدِلْ، عَزَلْتَ عَنْهُنَّ أَمْ لَمْ تَعْزِلْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ فَواحِدَةً بِنَصْبِ التَّاءِ وَالْمَعْنَى: فَالْتَزِمُوا أَوْ فَاخْتَارُوا وَاحِدَةً وَذَرُوا الْجَمْعَ رَأْسًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ يَدُورُ مَعَ الْعَدْلِ، فَأَيْنَمَا وَجَدْتُمُ الْعَدْلَ فَعَلَيْكُمْ بِهِ، وَقُرِئَ فَواحِدَةً بِالرَّفْعِ وَالتَّقْدِيرُ: فَكَفَتْ وَاحِدَةٌ، أَوْ فَحَسْبُكُمْ وَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ الِاشْتِغَالَ بِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِنَ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ التَّزَوُّجِ بِالْوَاحِدَةِ وَبَيْنَ التَّسَرِّي، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُشْعِرٌ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ، كَمَا إِذَا قَالَ الطَّبِيبُ: كُلِ التُّفَّاحَ أَوِ الرُّمَّانَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمًا مُقَامَ الْآخَرِ فِي تَمَامِ الْغَرَضِ، وَكَمَا أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى هَذِهِ التَّسْوِيَةِ، فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ وَتَحْصِينُ الدِّينِ وَمَصَالِحُ الْبَيْتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالطَّرِيقَيْنِ، وَأَيْضًا إِنْ فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةً ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَ بِهَا، فَهَهُنَا يَظْهَرُ جِدًّا حُصُولُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ التَّزَوُّجِ وَبَيْنَ التَّسَرِّي، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّزَوُّجَ وَالتَّسَرِّيَ مُتَسَاوِيَانِ. فَنَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسَرِّي فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ النِّكَاحِ لِأَنَّ الزائد على أحد المتساويين يكون زائد عَلَى الْمُسَاوِي الثَّانِي لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.
المسألة الأولى: المراد من الأدنى هاهنا الْأَقْرَبُ، وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ لَا تَعُولُوا وَحَسُنَ حَذْفُ «مِنْ» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلَّا تَعُولُوا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ: لَا تَجُورُوا وَلَا تَمِيلُوا، / وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا،
رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قَالَ: (لَا تَجُورُوا) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَنْ لَا تَمِيلُوا»
قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كِلَا اللَّفْظَيْنِ مَرْوِيٌّ، وَأَصْلُ الْعَوْلِ الْمَيْلُ يُقَالُ: عَالَ الْمِيزَانُ عَوْلًا، إِذَا مَالَ، وَعَالَ الْحَاكِمُ فِي حُكْمِهِ إِذَا جَارَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَارَ فَقَدْ مَالَ. وَأَنْشَدُوا لِأَبِي طَالِبٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا حَكَمَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ، فَقَالَ لَهُ: أَتَعُولُ عَلَيَّ، وَيُقَالُ: عَالَتِ الْفَرِيضَةُ إِذَا زَادَتْ سِهَامُهَا، وَقَدْ أَعَلْتُهَا أَنَا إِذَا زِدْتَ فِي سِهَامِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِذَا زَادَتْ سِهَامُهَا فَقَدْ مَالَتْ عَنِ الِاعْتِدَالِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الِاشْتِقَاقَاتُ عَلَى أَنَّ أَصْلَ هَذَا اللَّفْظِ الْمَيْلُ، ثُمَّ اخْتُصَّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بِالْمَيْلِ إِلَى الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ. فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنْ لَا تَفْتَقِرُوا، يُقَالُ: رَجُلٌ عَائِلٌ أَيْ فَقِيرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَلَّ عِيَالُهُ قَلَّتْ نَفَقَاتُهُ، وَإِذَا قَلَّتْ نَفَقَاتُهُ لَمْ يَفْتَقِرْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ فَواحِدَةً بِنَصْبِ التَّاءِ وَالْمَعْنَى: فَالْتَزِمُوا أَوْ فَاخْتَارُوا وَاحِدَةً وَذَرُوا الْجَمْعَ رَأْسًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ يَدُورُ مَعَ الْعَدْلِ، فَأَيْنَمَا وَجَدْتُمُ الْعَدْلَ فَعَلَيْكُمْ بِهِ، وَقُرِئَ فَواحِدَةً بِالرَّفْعِ وَالتَّقْدِيرُ: فَكَفَتْ وَاحِدَةٌ، أَوْ فَحَسْبُكُمْ وَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ الِاشْتِغَالَ بِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِنَ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ التَّزَوُّجِ بِالْوَاحِدَةِ وَبَيْنَ التَّسَرِّي، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُشْعِرٌ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ، كَمَا إِذَا قَالَ الطَّبِيبُ: كُلِ التُّفَّاحَ أَوِ الرُّمَّانَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمًا مُقَامَ الْآخَرِ فِي تَمَامِ الْغَرَضِ، وَكَمَا أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى هَذِهِ التَّسْوِيَةِ، فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ وَتَحْصِينُ الدِّينِ وَمَصَالِحُ الْبَيْتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالطَّرِيقَيْنِ، وَأَيْضًا إِنْ فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةً ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَ بِهَا، فَهَهُنَا يَظْهَرُ جِدًّا حُصُولُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ التَّزَوُّجِ وَبَيْنَ التَّسَرِّي، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّزَوُّجَ وَالتَّسَرِّيَ مُتَسَاوِيَانِ. فَنَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسَرِّي فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ النِّكَاحِ لِأَنَّ الزائد على أحد المتساويين يكون زائد عَلَى الْمُسَاوِي الثَّانِي لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.
المسألة الأولى: المراد من الأدنى هاهنا الْأَقْرَبُ، وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ لَا تَعُولُوا وَحَسُنَ حَذْفُ «مِنْ» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلَّا تَعُولُوا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ: لَا تَجُورُوا وَلَا تَمِيلُوا، / وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا،
رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قَالَ: (لَا تَجُورُوا) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَنْ لَا تَمِيلُوا»
قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كِلَا اللَّفْظَيْنِ مَرْوِيٌّ، وَأَصْلُ الْعَوْلِ الْمَيْلُ يُقَالُ: عَالَ الْمِيزَانُ عَوْلًا، إِذَا مَالَ، وَعَالَ الْحَاكِمُ فِي حُكْمِهِ إِذَا جَارَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَارَ فَقَدْ مَالَ. وَأَنْشَدُوا لِأَبِي طَالِبٍ.
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَغُلُّ شَعِيرَةً | وَوَزَّانِ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ |
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنْ لَا تَفْتَقِرُوا، يُقَالُ: رَجُلٌ عَائِلٌ أَيْ فَقِيرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَلَّ عِيَالُهُ قَلَّتْ نَفَقَاتُهُ، وَإِذَا قَلَّتْ نَفَقَاتُهُ لَمْ يَفْتَقِرْ.
489
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا مَعْنَاهُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَقَدْ خَطَّأَهُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَكُلِّ مَنْ رَوَى تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَمِيلُوا وَلَا تَجُورُوا، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُعِيلُوا لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَقِيمًا، فَأَمَّا تَفْسِيرُ تَعُولُوا بِتُعِيلُوا فَإِنَّهُ خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الزَّوْجَةَ الْوَاحِدَةَ أَوْ مِلْكَ الْيَمِينِ وَالْإِمَاءَ فِي الْعِيَالِ. بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ مِنَ الْعَدَدِ مَنْ شَاءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ كَثْرَةَ الْعِيَالِ. وَزَادَ صَاحِبُ النَّظْمِ فِي الطَّعْنِ وَجْهًا رَابِعًا، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً وَلَمْ يَقُلْ أَنْ تَفْتَقِرُوا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَعْطُوفًا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَلَا يَكُونُ جَوَابُهُ إِلَّا بِضِدِّ الْعَدْلِ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَوْرُ لَا كَثْرَةُ الْعِيَالِ. وَأَنَا أَقُولُ:
أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ طَعَنَ فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ لَا تَجُورُوا وَلَا تَمِيلُوا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا ذَكَرُوا وَجْهًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنِ اسْتِخْرَاجِ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَوْلَا جَوَازُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَصَارَتِ الدَّقَائِقُ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ مَرْدُودَةً بَاطِلَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ إِلَّا مُقَلِّدُ خَلَفٍ، وَأَيْضًا: فَمَنِ الَّذِي/ أَخْبَرَ الرَّازِيَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَذْكُرْهُ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يَقْرَأُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُعِيلُوا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا قَدْ جَعَلُوا هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةً، فَبِأَنْ يَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا كَانَ أَوْلَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ شِدَّةُ جَهْلِ الرَّازِيِّ فِي هَذَا الطَّعْنِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَنَقُولُ: إِنَّكَ نَقَلْتَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي اللُّغَةِ عَنِ الْمُبَرِّدِ، لَكِنَّكَ بِجَهْلِكَ وَحِرْصِكَ عَلَى الطَّعْنِ فِي رُؤَسَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْأَعْلَامِ، وَشِدَّةِ بَلَادَتِكَ، مَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ فَاسِدٌ، وَبَيَانُ فَسَادِهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَالُ: عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ إِذَا زَادَتْ سِهَامُهَا وكثرة، وَهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنَ الْمَيْلِ لِأَنَّهُ إِذَا مَالَ فَقَدْ كَثُرَتْ جِهَاتُ الرَّغْبَةِ وَمُوجِبَاتُ الْإِرَادَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُكْثِرُوا، وَإِذَا لَمْ تُكْثِرُوا لَمْ يَقَعِ الْإِنْسَانُ فِي الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ لِأَنَّ مَطِيَّةَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ هِيَ الْكَثْرَةُ وَالْمُخَالَطَةُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَرْجِعُ هَذَا التَّفْسِيرُ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجُمْهُورُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ؟ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ:
مَعْنَاهُ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ كَثِيرُ الضِّيَافَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَفْسِيرَ طَوِيلُ النِّجَادِ هُوَ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذَا الْكَلَامُ تُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ التَّعْبِيرَ عَنِ الشَّيْءِ بِالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ، فَهَهُنَا كَثْرَةُ الْعِيَالِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ كَثْرَةَ الْعِيَالِ كِنَايَةً عَنِ الْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، لَمَّا أَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، فَجَعَلَ هَذَا تَفْسِيرًا لَهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُطَابَقَةِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالِاسْتِلْزَامِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالشَّافِعِيُّ لَمَّا كَانَ مُحِيطًا بِوُجُوهِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ اسْتَحْسَنَ ذِكْرَ هَذَا الْكَلَامِ، فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لَمَّا كَانَ بَلِيدَ الطَّبْعِ بَعِيدًا عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، لَا جَرَمَ لَمْ يَعْرِفِ الْوَجْهَ الْحَسَنَ فِيهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ
أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ طَعَنَ فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ لَا تَجُورُوا وَلَا تَمِيلُوا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا ذَكَرُوا وَجْهًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنِ اسْتِخْرَاجِ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَوْلَا جَوَازُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَصَارَتِ الدَّقَائِقُ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ مَرْدُودَةً بَاطِلَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ إِلَّا مُقَلِّدُ خَلَفٍ، وَأَيْضًا: فَمَنِ الَّذِي/ أَخْبَرَ الرَّازِيَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَذْكُرْهُ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يَقْرَأُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُعِيلُوا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا قَدْ جَعَلُوا هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةً، فَبِأَنْ يَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا كَانَ أَوْلَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ شِدَّةُ جَهْلِ الرَّازِيِّ فِي هَذَا الطَّعْنِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَنَقُولُ: إِنَّكَ نَقَلْتَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي اللُّغَةِ عَنِ الْمُبَرِّدِ، لَكِنَّكَ بِجَهْلِكَ وَحِرْصِكَ عَلَى الطَّعْنِ فِي رُؤَسَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْأَعْلَامِ، وَشِدَّةِ بَلَادَتِكَ، مَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ فَاسِدٌ، وَبَيَانُ فَسَادِهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَالُ: عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ إِذَا زَادَتْ سِهَامُهَا وكثرة، وَهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنَ الْمَيْلِ لِأَنَّهُ إِذَا مَالَ فَقَدْ كَثُرَتْ جِهَاتُ الرَّغْبَةِ وَمُوجِبَاتُ الْإِرَادَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُكْثِرُوا، وَإِذَا لَمْ تُكْثِرُوا لَمْ يَقَعِ الْإِنْسَانُ فِي الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ لِأَنَّ مَطِيَّةَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ هِيَ الْكَثْرَةُ وَالْمُخَالَطَةُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَرْجِعُ هَذَا التَّفْسِيرُ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجُمْهُورُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ؟ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ:
مَعْنَاهُ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ كَثِيرُ الضِّيَافَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَفْسِيرَ طَوِيلُ النِّجَادِ هُوَ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذَا الْكَلَامُ تُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ التَّعْبِيرَ عَنِ الشَّيْءِ بِالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ، فَهَهُنَا كَثْرَةُ الْعِيَالِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ كَثْرَةَ الْعِيَالِ كِنَايَةً عَنِ الْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، لَمَّا أَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، فَجَعَلَ هَذَا تَفْسِيرًا لَهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُطَابَقَةِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالِاسْتِلْزَامِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالشَّافِعِيُّ لَمَّا كَانَ مُحِيطًا بِوُجُوهِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ اسْتَحْسَنَ ذِكْرَ هَذَا الْكَلَامِ، فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لَمَّا كَانَ بَلِيدَ الطَّبْعِ بَعِيدًا عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، لَا جَرَمَ لَمْ يَعْرِفِ الْوَجْهَ الْحَسَنَ فِيهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ
490
يَعُولُهُمْ كَقَوْلِهِمْ: مَانَهُمْ يَمُونُهُمْ إِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ كَثُرَ عِيَالُهُ لَزِمَهُ أَنْ يَعُولَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ مَا تَصْعُبُ عَلَيْهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حُدُودِ الْوَرَعِ وَكَسْبِ الْحَلَالِ وَالرِّزْقِ الطَّيِّبِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَأَنَّ الطَّعْنَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ كَثْرَةِ الْغَبَاوَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ لَا تَخْتَلِفُ بِأَنْ تكون المرأة زوجة أو/ مملوكة فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْجَوَارِيَ إِذَا كَثُرْنَ فَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُنَّ الْكَسْبَ، وَإِذَا اكْتَسَبْنَ أَنْفَقْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ وَعَلَى مَوْلَاهُنَّ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ تَقِلُّ الْعِيَالُ أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُرَّةً لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَإِذَا عَجَزَ الْمَوْلَى عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا بَاعَهَا وَتَخَلَّصَ مِنْهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ حُرَّةً فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَالْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ مَا دَامَ يُمْسِكُ الزَّوْجَةَ فَإِنَّهَا لَا تُطَالِبُهُ بِالْمَهْرِ، فَإِذَا حَاوَلَ طَلَاقَهَا طَالَبَتْهُ بِالْمَهْرِ فَيَقَعُ الزَّوْجُ فِي الْمِحْنَةِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ النَّظْمِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْجَوْرِ لَكَانَ تَكْرَارًا لِأَنَّهُ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَلْزَمِ التَّكْرَارُ فَكَانَ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ التَّفْسِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَاجِعٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى ذِكْرِ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ زَالَ هَذَا السُّؤَالُ، فَهَذَا تَمَامُ الْبَحْثِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاللَّهِ التوفيق.
[سورة النساء (٤) : آية ٤]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَآتُوا النِّساءَ خِطَابٌ لِمَنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِأَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تُعْطِي النِّسَاءَ مِنْ مُهُورِهِنَّ شَيْئًا، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ: هَنِيئًا لَكَ النَّافِجَةُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ تَأْخُذُ مَهْرَهَا إِبِلًا فَتَضُمُّهَا إِلَى إِبِلِكَ فَتَنْفُجُ مَالَكَ أَيْ تُعَظِّمُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النَّافِجَةُ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْحُلْوَانِ إِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِدَفْعِ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَزْوَاجِ أُمِرُوا بِإِيتَاءِ النِّسَاءَ مُهُورَهُنَّ، وَهَذَا قَوْلُ: عَلْقَمَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، قال لأنه لا ذكر للأولياء هاهنا، وَمَا قَبْلَ هَذَا خِطَابٌ لِلنَّاكِحِينَ وَهُمُ الْأَزْوَاجُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِيتَاءِ الْمُنَاوَلَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِالْتِزَامَ، قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التَّوْبَةِ: ٢٩] وَالْمَعْنَى حَتَّى يُضَمَّنُوهَا وَيَلْتَزِمُوهَا، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِدَفْعِ الْمُهُورِ الَّتِي قَدْ سَمَّوْهَا لَهُنَّ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: / كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ الْفُرُوجَ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِعِوَضٍ يَلْزَمُ سَوَاءً سُمِّيَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُسَمَّ، إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْهُوبَةِ، ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ جَامِعًا لِلْوَجْهَيْنِ مَعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : صَدُقاتِهِنَّ مُهُورَهُنَّ، وَفِي حَدِيثِ شُرَيْحٍ: قَضَى ابْنُ عباس
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ لَا تَخْتَلِفُ بِأَنْ تكون المرأة زوجة أو/ مملوكة فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْجَوَارِيَ إِذَا كَثُرْنَ فَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُنَّ الْكَسْبَ، وَإِذَا اكْتَسَبْنَ أَنْفَقْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ وَعَلَى مَوْلَاهُنَّ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ تَقِلُّ الْعِيَالُ أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُرَّةً لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَإِذَا عَجَزَ الْمَوْلَى عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا بَاعَهَا وَتَخَلَّصَ مِنْهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ حُرَّةً فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَالْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ مَا دَامَ يُمْسِكُ الزَّوْجَةَ فَإِنَّهَا لَا تُطَالِبُهُ بِالْمَهْرِ، فَإِذَا حَاوَلَ طَلَاقَهَا طَالَبَتْهُ بِالْمَهْرِ فَيَقَعُ الزَّوْجُ فِي الْمِحْنَةِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ النَّظْمِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْجَوْرِ لَكَانَ تَكْرَارًا لِأَنَّهُ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَلْزَمِ التَّكْرَارُ فَكَانَ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ التَّفْسِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَاجِعٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى ذِكْرِ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ زَالَ هَذَا السُّؤَالُ، فَهَذَا تَمَامُ الْبَحْثِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاللَّهِ التوفيق.
[سورة النساء (٤) : آية ٤]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَآتُوا النِّساءَ خِطَابٌ لِمَنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِأَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تُعْطِي النِّسَاءَ مِنْ مُهُورِهِنَّ شَيْئًا، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ: هَنِيئًا لَكَ النَّافِجَةُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ تَأْخُذُ مَهْرَهَا إِبِلًا فَتَضُمُّهَا إِلَى إِبِلِكَ فَتَنْفُجُ مَالَكَ أَيْ تُعَظِّمُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النَّافِجَةُ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْحُلْوَانِ إِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِدَفْعِ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَزْوَاجِ أُمِرُوا بِإِيتَاءِ النِّسَاءَ مُهُورَهُنَّ، وَهَذَا قَوْلُ: عَلْقَمَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، قال لأنه لا ذكر للأولياء هاهنا، وَمَا قَبْلَ هَذَا خِطَابٌ لِلنَّاكِحِينَ وَهُمُ الْأَزْوَاجُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِيتَاءِ الْمُنَاوَلَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِالْتِزَامَ، قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التَّوْبَةِ: ٢٩] وَالْمَعْنَى حَتَّى يُضَمَّنُوهَا وَيَلْتَزِمُوهَا، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِدَفْعِ الْمُهُورِ الَّتِي قَدْ سَمَّوْهَا لَهُنَّ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: / كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ الْفُرُوجَ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِعِوَضٍ يَلْزَمُ سَوَاءً سُمِّيَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُسَمَّ، إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْهُوبَةِ، ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ جَامِعًا لِلْوَجْهَيْنِ مَعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : صَدُقاتِهِنَّ مُهُورَهُنَّ، وَفِي حَدِيثِ شُرَيْحٍ: قَضَى ابْنُ عباس
491
لَهَا بِالصَّدُقَةِ وَقَرَأَ صَدْقَاتِهِنَّ بِفَتْحِ الصَّادِ وَسُكُونِ الدال على تخفيف صدقاتهن وصدقاتهن بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعَ صُدْقَةٍ، وَقُرِئَ صُدُقَتَهُنَّ بِضَمِّ الصَّادِ وَالدَّالِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ مُثَقَّلُ صُدْقَةٍ كَقَوْلِهِ فِي ظُلْمَةٍ: ظُلُمَةٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَوْضُوعُ ص د ق عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ لِلْكَمَالِ وَالصِّحَّةِ، فَسُمِّيَ الْمَهْرُ صَدَاقًا وَصَدُقَةً لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِهِ يَتِمُّ وَيَكْمُلُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَفْسِيرِ النِّحْلَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ: فَرِيضَةً، وَإِنَّمَا فَسَّرُوا النِّحْلَةَ بِالْفَرِيضَةِ، لِأَنَّ النِّحْلَةَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهَا الدِّيَانَةُ وَالْمِلَّةُ وَالشِّرْعَةُ وَالْمَذْهَبُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْتَحِلُ كَذَا إِذَا كَانَ يَتَدَيَّنُ بِهِ، وَنِحْلَتُهُ كَذَا أَيْ دِينُهُ وَمَذْهَبُهُ، فَقَوْلُهُ: آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أَيْ آتُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ، فَإِنَّهَا نِحْلَةٌ أَيْ شَرِيعَةٌ وَدِينٌ وَمَذْهَبٌ وَمَا هُوَ دِينٌ وَمَذْهَبٌ فَهُوَ فَرِيضَةٌ. الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ: نِحْلَةٌ أَيْ عَطِيَّةٌ وَهِبَةٌ، يُقَالُ: نَحَلْتُ فُلَانًا شَيْئًا أَنْحَلُهُ نِحْلَةً وَنُحْلًا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَأَصْلُهُ إضافة الشيء إلى غير من هوله، يُقَالُ: هَذَا شِعْرٌ مَنْحُولٌ، أَيْ مُضَافٌ إِلَى غَيْرِ قَائِلِهِ، وَانْتَحَلْتُ كَذَا إِذَا ادَّعَيْتَهُ وَأَضَفْتَهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَهْرُ عَطِيَّةٌ مِمَّنْ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَطِيَّةٌ مِنَ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ بَدَلَهُ شَيْئًا لِأَنَّ الْبُضْعَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ كَهُوَ قَبْلَهُ، فَالزَّوْجُ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا عِوَضًا يَمْلِكُهُ، فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّحْلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِإِزَائِهَا بَدَلٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ مِنْهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ لَا الْمِلْكُ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَنَافِعَ النِّكَاحِ مِنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالتَّوَالُدِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ الزَّوْجَ بِأَنْ يُؤْتِيَ الزَّوْجَةَ الْمَهْرَ فَكَانَ ذَلِكَ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ النِّحْلَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى قَوْلِهِ نِحْلَةً أَيْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّحْلَةَ فِي اللُّغَةِ الْعَطِيَّةُ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ عِوَضٍ، كَمَا يَنْحَلُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَمَا أُعْطِيَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ عِوَضٍ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ طِيبِ النَّفْسِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِإِعْطَاءِ مُهُورِ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ مِنْهُنَّ وَلَا مُخَاصَمَةٍ، لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ بِالْمُحَاكَمَةِ لَا يُقَالُ لَهُ نِحْلَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنْ حَمَلْنَا النِّحْلَةَ عَلَى الدِّيَانَةِ فَفِي انْتِصَابِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَالْمَعْنَى آتَوهُنَّ مُهُورَهُنَّ دِيَانَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الصَّدُقَاتِ أَيْ دِينًا مِنَ اللَّهِ شَرَعَهُ وَفَرَضَهُ، وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا النِّحْلَةَ عَلَى الْعَطِيَّةِ فَفِي انْتِصَابِهَا أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَصْبٌ/ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّحْلَةَ وَالْإِيتَاءَ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَانْحَلُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً أَيْ أَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ عَنْ طِيبَةِ أَنْفُسِكُمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ آتُوهُنَّ صَدُقَاتِهِنَّ نَاحِلِينَ طَيِّبِي النُّفُوسِ بِالْإِعْطَاءِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْحَالِ مِنَ الصَّدُقَاتِ، أَيْ مَنْحُولَةً مُعْطَاةً عَنْ طِيبَةِ الْأَنْفُسِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تُقَرِّرُهُ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا النَّصَّ يَقْتَضِي إِيجَابَ إِيتَاءِ الْمَهْرِ بِالْكُلِّيَّةِ مُطْلَقًا، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْمَسِيسُ وَلَا الْخَلْوَةُ، فَعِنْدَ حُصُولِهِمَا وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى مُقْتَضَى الْآيَةِ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذِهِ عَامَّةٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَفْسِيرِ النِّحْلَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ: فَرِيضَةً، وَإِنَّمَا فَسَّرُوا النِّحْلَةَ بِالْفَرِيضَةِ، لِأَنَّ النِّحْلَةَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهَا الدِّيَانَةُ وَالْمِلَّةُ وَالشِّرْعَةُ وَالْمَذْهَبُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْتَحِلُ كَذَا إِذَا كَانَ يَتَدَيَّنُ بِهِ، وَنِحْلَتُهُ كَذَا أَيْ دِينُهُ وَمَذْهَبُهُ، فَقَوْلُهُ: آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أَيْ آتُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ، فَإِنَّهَا نِحْلَةٌ أَيْ شَرِيعَةٌ وَدِينٌ وَمَذْهَبٌ وَمَا هُوَ دِينٌ وَمَذْهَبٌ فَهُوَ فَرِيضَةٌ. الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ: نِحْلَةٌ أَيْ عَطِيَّةٌ وَهِبَةٌ، يُقَالُ: نَحَلْتُ فُلَانًا شَيْئًا أَنْحَلُهُ نِحْلَةً وَنُحْلًا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَأَصْلُهُ إضافة الشيء إلى غير من هوله، يُقَالُ: هَذَا شِعْرٌ مَنْحُولٌ، أَيْ مُضَافٌ إِلَى غَيْرِ قَائِلِهِ، وَانْتَحَلْتُ كَذَا إِذَا ادَّعَيْتَهُ وَأَضَفْتَهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَهْرُ عَطِيَّةٌ مِمَّنْ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَطِيَّةٌ مِنَ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ بَدَلَهُ شَيْئًا لِأَنَّ الْبُضْعَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ كَهُوَ قَبْلَهُ، فَالزَّوْجُ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا عِوَضًا يَمْلِكُهُ، فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّحْلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِإِزَائِهَا بَدَلٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ مِنْهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ لَا الْمِلْكُ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَنَافِعَ النِّكَاحِ مِنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالتَّوَالُدِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ الزَّوْجَ بِأَنْ يُؤْتِيَ الزَّوْجَةَ الْمَهْرَ فَكَانَ ذَلِكَ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ النِّحْلَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى قَوْلِهِ نِحْلَةً أَيْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّحْلَةَ فِي اللُّغَةِ الْعَطِيَّةُ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ عِوَضٍ، كَمَا يَنْحَلُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَمَا أُعْطِيَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ عِوَضٍ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ طِيبِ النَّفْسِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِإِعْطَاءِ مُهُورِ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ مِنْهُنَّ وَلَا مُخَاصَمَةٍ، لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ بِالْمُحَاكَمَةِ لَا يُقَالُ لَهُ نِحْلَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنْ حَمَلْنَا النِّحْلَةَ عَلَى الدِّيَانَةِ فَفِي انْتِصَابِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَالْمَعْنَى آتَوهُنَّ مُهُورَهُنَّ دِيَانَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الصَّدُقَاتِ أَيْ دِينًا مِنَ اللَّهِ شَرَعَهُ وَفَرَضَهُ، وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا النِّحْلَةَ عَلَى الْعَطِيَّةِ فَفِي انْتِصَابِهَا أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَصْبٌ/ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّحْلَةَ وَالْإِيتَاءَ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَانْحَلُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً أَيْ أَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ عَنْ طِيبَةِ أَنْفُسِكُمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ آتُوهُنَّ صَدُقَاتِهِنَّ نَاحِلِينَ طَيِّبِي النُّفُوسِ بِالْإِعْطَاءِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْحَالِ مِنَ الصَّدُقَاتِ، أَيْ مَنْحُولَةً مُعْطَاةً عَنْ طِيبَةِ الْأَنْفُسِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تُقَرِّرُهُ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا النَّصَّ يَقْتَضِي إِيجَابَ إِيتَاءِ الْمَهْرِ بِالْكُلِّيَّةِ مُطْلَقًا، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْمَسِيسُ وَلَا الْخَلْوَةُ، فَعِنْدَ حُصُولِهِمَا وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى مُقْتَضَى الْآيَةِ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذِهِ عَامَّةٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.
492
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِإِيتَائِهِنَّ صَدُقَاتِهِنَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ جَوَازِ قَبُولِ إِبْرَائِهَا وَهِبَتِهَا لَهُ، لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ إِيتَاءَهَا مَهْرَهَا وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهَا بِتَرْكِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَفْسًا: نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْمَعْنَى: طَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الصَّدَاقِ بِنَقْلِ الْفِعْلِ مِنَ الْأَنْفُسِ إِلَيْهِنَّ، فَخَرَجَتِ النَّفْسُ مُفَسِّرَةً كَمَا قَالُوا: أَنْتَ حَسَنٌ وَجْهًا، وَالْفِعْلُ فِي الْأَصْلِ لِلْوَجْهِ، فَلَمَّا حُوِّلَ إِلَى صَاحِبِ الْوَجْهِ خَرَجَ الْوَجْهُ مُفَسِّرًا لِمَوْقِعِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ: قَرَرْتُ بِهِ عَيْنًا وَضِقْتُ بِهِ ذَرْعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا وَحَّدَ النَّفْسَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَانُ مَوْقِعِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْوَاحِدِ وَمِثْلُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ جُمِعَتْ كَانَ صَوَابًا كَقَوْلِهِ: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا [الْكَهْفِ: ١٠٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ لَيْسَ لِلتَّبْعِيضِ، بَلْ لِلتَّبْيِينِ وَالْمَعْنَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ مَهْرٌ كَقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: ٣٠] وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَهْرِ حَلَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْهُ: أَيْ مِنَ الصَّدُقَاتِ أَوْ مِنْ ذلك وهو كقوله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ/ ذلِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥] بَعْدَ ذِكْرِ الشَّهَوَاتِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ رُؤْبَةُ:
فَقِيلَ لَهُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ «كَأَنَّهُ» إِنْ عَادَ إِلَى الْخُطُوطِ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَقُولَ: كَأَنَّهَا، وَإِنْ عَادَ إِلَى السَّوَادِ وَالْبَلَقِ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَقُولَ: كَأَنَّهُمَا، فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَاكَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الصَّدُقَاتِ فِي مَعْنَى الصَّدَاقِ لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدَاقَهُنَّ لَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الصَّدَاقِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَرْغِيبُهَا فِي أَنْ لَا تَهَبَ إِلَّا بَعْضَ الصَّدَاقِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: فَإِنْ وَهَبْنَ لَكُمْ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ عَنْ طِيبَةِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِيهِ شَكَاسَةُ أَخْلَاقِكُمْ مَعَهُنَّ، أَوْ سُوءُ مُعَاشَرَتِكُمْ مَعَهُنَّ، فَكُلُوهُ وَأَنْفِقُوهُ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ضِيقِ الْمَسْلَكِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَوُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ، حَيْثُ بَنَى الشَّرْطَ عَلَى طِيبِ النَّفْسِ فَقَالَ: فَإِنْ طِبْنَ وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنْ وَهَبْنَ أَوْ سَمَحْنَ، إِعْلَامًا بِأَنَّ الْمُرَاعَى هُوَ تَجَافِي نَفْسِهَا عَنِ الْمَوْهُوبِ طَيِّبَةً.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْهَنِيءُ وَالْمَرِيءُ: صِفَتَانِ مِنْ هَنُؤَ الطَّعَامُ وَمَرُؤَ، إِذَا كَانَ سَائِغًا لَا تَنْغِيصَ فِيهِ، وَقِيلَ:
الْهَنِيءُ مَا يَسْتَلِذُّهُ الْآكِلُ، وَالْمَرِيءُ مَا يَحْمَدُ عَاقِبَتَهُ، وَقِيلَ: مَا يَنْسَاغُ فِي مَجْرَاهُ، وَقِيلَ لِمَدْخَلِ الطَّعَامِ مِنَ الْحُلْقُومِ إِلَى فَمِ الْمَعِدَةِ: الْمَرِيءُ لِمُرُوءِ الطَّعَامِ فِيهِ وَهُوَ انْسِيَاغُهُ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَصْلَ الْهَنِيءِ مِنَ الْهَنَاءِ وَهُوَ مُعَالَجَةُ الْجَرَبِ بِالْقَطْرَانِ، فَالْهَنِيءُ شِفَاءٌ مِنَ الْجَرَبِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَعْنَى أَنَّهُنَّ إِذَا وَهَبْنَ مُهُورَهُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ عَنْ طِيبَةِ النَّفْسِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَزْوَاجِ فِي ذَلِكَ تَبِعَةٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّحْلِيلِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَإِزَالَةِ التَّبِعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: هَنِيئاً مَرِيئاً وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ، أَيْ أَكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ أَيْ كُلُوهُ وَهُوَ هَنِيءٌ مَرِيءٌ، وَقَدْ يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوهُ ثُمَّ يُبْتَدَأُ بِقَوْلِهِ: هَنِيئاً مَرِيئاً عَلَى الدُّعَاءِ وَعَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ أُقِيمَتَا مَقَامَ الْمَصْدَرَيْنِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَنَأَ مرأ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِإِيتَائِهِنَّ صَدُقَاتِهِنَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ جَوَازِ قَبُولِ إِبْرَائِهَا وَهِبَتِهَا لَهُ، لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ إِيتَاءَهَا مَهْرَهَا وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهَا بِتَرْكِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَفْسًا: نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْمَعْنَى: طَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الصَّدَاقِ بِنَقْلِ الْفِعْلِ مِنَ الْأَنْفُسِ إِلَيْهِنَّ، فَخَرَجَتِ النَّفْسُ مُفَسِّرَةً كَمَا قَالُوا: أَنْتَ حَسَنٌ وَجْهًا، وَالْفِعْلُ فِي الْأَصْلِ لِلْوَجْهِ، فَلَمَّا حُوِّلَ إِلَى صَاحِبِ الْوَجْهِ خَرَجَ الْوَجْهُ مُفَسِّرًا لِمَوْقِعِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ: قَرَرْتُ بِهِ عَيْنًا وَضِقْتُ بِهِ ذَرْعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا وَحَّدَ النَّفْسَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَانُ مَوْقِعِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْوَاحِدِ وَمِثْلُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ جُمِعَتْ كَانَ صَوَابًا كَقَوْلِهِ: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا [الْكَهْفِ: ١٠٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ لَيْسَ لِلتَّبْعِيضِ، بَلْ لِلتَّبْيِينِ وَالْمَعْنَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ مَهْرٌ كَقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: ٣٠] وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَهْرِ حَلَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْهُ: أَيْ مِنَ الصَّدُقَاتِ أَوْ مِنْ ذلك وهو كقوله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ/ ذلِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥] بَعْدَ ذِكْرِ الشَّهَوَاتِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ رُؤْبَةُ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ | كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ |
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: فَإِنْ وَهَبْنَ لَكُمْ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ عَنْ طِيبَةِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِيهِ شَكَاسَةُ أَخْلَاقِكُمْ مَعَهُنَّ، أَوْ سُوءُ مُعَاشَرَتِكُمْ مَعَهُنَّ، فَكُلُوهُ وَأَنْفِقُوهُ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ضِيقِ الْمَسْلَكِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَوُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ، حَيْثُ بَنَى الشَّرْطَ عَلَى طِيبِ النَّفْسِ فَقَالَ: فَإِنْ طِبْنَ وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنْ وَهَبْنَ أَوْ سَمَحْنَ، إِعْلَامًا بِأَنَّ الْمُرَاعَى هُوَ تَجَافِي نَفْسِهَا عَنِ الْمَوْهُوبِ طَيِّبَةً.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْهَنِيءُ وَالْمَرِيءُ: صِفَتَانِ مِنْ هَنُؤَ الطَّعَامُ وَمَرُؤَ، إِذَا كَانَ سَائِغًا لَا تَنْغِيصَ فِيهِ، وَقِيلَ:
الْهَنِيءُ مَا يَسْتَلِذُّهُ الْآكِلُ، وَالْمَرِيءُ مَا يَحْمَدُ عَاقِبَتَهُ، وَقِيلَ: مَا يَنْسَاغُ فِي مَجْرَاهُ، وَقِيلَ لِمَدْخَلِ الطَّعَامِ مِنَ الْحُلْقُومِ إِلَى فَمِ الْمَعِدَةِ: الْمَرِيءُ لِمُرُوءِ الطَّعَامِ فِيهِ وَهُوَ انْسِيَاغُهُ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَصْلَ الْهَنِيءِ مِنَ الْهَنَاءِ وَهُوَ مُعَالَجَةُ الْجَرَبِ بِالْقَطْرَانِ، فَالْهَنِيءُ شِفَاءٌ مِنَ الْجَرَبِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَعْنَى أَنَّهُنَّ إِذَا وَهَبْنَ مُهُورَهُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ عَنْ طِيبَةِ النَّفْسِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَزْوَاجِ فِي ذَلِكَ تَبِعَةٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّحْلِيلِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَإِزَالَةِ التَّبِعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: هَنِيئاً مَرِيئاً وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ، أَيْ أَكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ أَيْ كُلُوهُ وَهُوَ هَنِيءٌ مَرِيءٌ، وَقَدْ يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوهُ ثُمَّ يُبْتَدَأُ بِقَوْلِهِ: هَنِيئاً مَرِيئاً عَلَى الدُّعَاءِ وَعَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ أُقِيمَتَا مَقَامَ الْمَصْدَرَيْنِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَنَأَ مرأ.
493
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُمُورٍ: مِنْهَا: أَنَّ الْمَهْرَ لَهَا وَلَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ فِيهِ، وَمِنْهَا جَوَازُ هِبَتِهَا الْمَهْرَ لِلزَّوْجِ، وَجَوَازُ أَنْ يَأْخُذَهُ الزَّوْجُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَمِنْهَا جَوَازُ هِبَتِهَا الْمَهْرَ قَبْلَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يفرق بين الحالتين.
وهاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً يَتَنَاوَلُ مَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ عَيْنًا، أَمَّا إِذَا كَانَ دَيْنًا/ فَالْآيَةُ غَيْرُ مُتَنَاوِلَةٍ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ: كُلْهُ هَنِيئًا مَرِيئًا.
قُلْنَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً لَيْسَ نَفْسَ الْأَكْلِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ حِلُّ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ الْأَكْلُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] وَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨].
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنْ وَهَبَتْ ثُمَّ طَلَبَتْ بَعْدَ الْهِبَةِ عُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَطِبْ عَنْهُ نَفْسًا، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ مَعَ زَوْجِهَا شُرَيْحًا فِي عَطِيَّةٍ أَعْطَتْهَا إِيَّاهُ وَهِيَ تَطْلُبُ الرُّجُوعَ فَقَالَ شُرَيْحٌ: رُدَّ عَلَيْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا عَنْهُ لَمَا رَجَعَتْ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: أُقِيلُهَا فِيمَا وَهَبَتْ وَلَا أُقِيلُهُ لِأَنَّهُنَّ يُخْدَعْنَ، وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ أَبِي مَعِيطٍ أَعْطَتْهُ امْرَأَتُهُ أَلْفَ دِينَارٍ صَدَاقًا كَانَ لَهَا عَلَيْهِ، فَلَبِثَ شَهْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَخَاصَمَتْهُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعْطَتْنِي طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ارْدُدْ عَلَيْهَا. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُضَاتِهِ: إِنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْطَتْهُ ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَذَلِكَ لَهَا والله أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
[في قوله تَعَالَى وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَبِدَفْعِ صَدُقَاتِ النِّسَاءِ إِلَيْهِنَّ، فَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ إِذَا كَانُوا عَاقِلِينَ بَالِغِينَ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانُوا غَيْرَ بَالِغِينَ، أَوْ غَيْرَ عُقَلَاءَ، أَوْ إِنْ كَانُوا بَالِغِينَ عُقَلَاءَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا سُفَهَاءَ مُسْرِفِينَ، فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَأَمْسِكُوهَا لِأَجْلِهِمْ إِلَى أَنْ يَزُولَ عَنْهُمُ السَّفَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ فِي حِفْظِ أَمْوَالِ الضُّعَفَاءِ وَالْعَاجِزِينَ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا خِطَابُ الْأَوْلِيَاءِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ لَا تُؤْتُوا الَّذِينَ يَكُونُونَ تَحْتَ وِلَايَتِكُمْ وَكَانُوا سُفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابُ الْأَوْلِيَاءِ قَوْلُهُ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَأَيْضًا فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحْسُنُ تَعَلُّقُ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ، فَلِمَ قَالَ أَمْوَالَكُمْ؟
قُلْنَا: فِي الْجَوَابِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ مَلَكُوا التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَيَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، الثَّانِي: إِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِجْرَاءً لِلْوَحْدَةِ بِالنَّوْعِ مَجْرَى الْوَحْدَةِ بِالشَّخْصِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٨] وَقَوْلِهِ: أَوْ ما
وهاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً يَتَنَاوَلُ مَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ عَيْنًا، أَمَّا إِذَا كَانَ دَيْنًا/ فَالْآيَةُ غَيْرُ مُتَنَاوِلَةٍ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ: كُلْهُ هَنِيئًا مَرِيئًا.
قُلْنَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً لَيْسَ نَفْسَ الْأَكْلِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ حِلُّ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ الْأَكْلُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] وَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨].
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنْ وَهَبَتْ ثُمَّ طَلَبَتْ بَعْدَ الْهِبَةِ عُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَطِبْ عَنْهُ نَفْسًا، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ مَعَ زَوْجِهَا شُرَيْحًا فِي عَطِيَّةٍ أَعْطَتْهَا إِيَّاهُ وَهِيَ تَطْلُبُ الرُّجُوعَ فَقَالَ شُرَيْحٌ: رُدَّ عَلَيْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: لَوْ طَابَتْ نَفْسُهَا عَنْهُ لَمَا رَجَعَتْ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: أُقِيلُهَا فِيمَا وَهَبَتْ وَلَا أُقِيلُهُ لِأَنَّهُنَّ يُخْدَعْنَ، وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ أَبِي مَعِيطٍ أَعْطَتْهُ امْرَأَتُهُ أَلْفَ دِينَارٍ صَدَاقًا كَانَ لَهَا عَلَيْهِ، فَلَبِثَ شَهْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَخَاصَمَتْهُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعْطَتْنِي طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ارْدُدْ عَلَيْهَا. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُضَاتِهِ: إِنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْطَتْهُ ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَذَلِكَ لَهَا والله أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
[في قوله تَعَالَى وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَبِدَفْعِ صَدُقَاتِ النِّسَاءِ إِلَيْهِنَّ، فَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ إِذَا كَانُوا عَاقِلِينَ بَالِغِينَ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانُوا غَيْرَ بَالِغِينَ، أَوْ غَيْرَ عُقَلَاءَ، أَوْ إِنْ كَانُوا بَالِغِينَ عُقَلَاءَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا سُفَهَاءَ مُسْرِفِينَ، فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَأَمْسِكُوهَا لِأَجْلِهِمْ إِلَى أَنْ يَزُولَ عَنْهُمُ السَّفَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ فِي حِفْظِ أَمْوَالِ الضُّعَفَاءِ وَالْعَاجِزِينَ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا خِطَابُ الْأَوْلِيَاءِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ لَا تُؤْتُوا الَّذِينَ يَكُونُونَ تَحْتَ وِلَايَتِكُمْ وَكَانُوا سُفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابُ الْأَوْلِيَاءِ قَوْلُهُ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَأَيْضًا فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحْسُنُ تَعَلُّقُ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ، فَلِمَ قَالَ أَمْوَالَكُمْ؟
قُلْنَا: فِي الْجَوَابِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ مَلَكُوا التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَيَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، الثَّانِي: إِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِجْرَاءً لِلْوَحْدَةِ بِالنَّوْعِ مَجْرَى الْوَحْدَةِ بِالشَّخْصِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٨] وَقَوْلِهِ: أَوْ ما
494
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
[النساء: ٣٦] وقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ:
٨٥] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ مَا كَانَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، وَلَكِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وَكَانَ الكل من نوع واحد، فكذا هاهنا الْمَالُ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ حَسُنَتْ إِضَافَةُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابُ الْآبَاءِ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ أَوْلَادُهُمْ سُفَهَاءَ لَا يَسْتَقِلُّونَ بِحِفْظِ الْمَالِ وَإِصْلَاحِهِ أَنْ يَدْفَعُوا أَمْوَالَهُمْ أَوْ بَعْضَهَا إِلَيْهِمْ، لِمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِفْسَادِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إِضَافَةُ الْأَمْوَالِ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ الْحَثَّ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ وَالسَّعْيَ فِي أَنْ لَا يَضِيعَ وَلَا يَهْلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ وَيُهْلِكَهَا، وَإِذَا قَرُبَ أَجَلُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ إِلَى أَمِينٍ يَحْفَظُ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَرْجَحُ لِوَجْهَيْنِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَهَبَ مِنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَمِنَ النِّسْوَانِ مَا شَاءَ مِنْ مَالِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى السُّفَهَاءِ أَمْوَالَهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ بِالْأَيْتَامِ أَشْبَهُ، لِأَنَّ الْمَرْءَ مُشْفِقٌ بِطَبْعِهِ عَلَى وَلَدِهِ، فَلَا يَقُولُ لَهُ إِلَّا الْمَعْرُوفَ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَعَ الْأَيْتَامِ الْأَجَانِبِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي:
هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَمْلَ قَوْلِهِ: أَمْوالَكُمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ جَمِيعًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ:
أَمْوالَكُمُ يُفِيدُ كَوْنَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ مُخْتَصَّةً بِهِمُ اخْتِصَاصًا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، ثُمَّ إن هذا الِاخْتِصَاصَ حَاصِلٌ فِي الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَفِي الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلصَّبِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ تَصَرُّفُهُ، فَهَذَا التَّفَاوُتُ وَاقِعٌ فِي مَفْهُومٍ خَارِجٍ مِنَ الْمَفْهُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: / أَمْوالَكُمُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّفْظَ أَفَادَ مَعْنًى وَاحِدًا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ بِالسُّفَهَاءِ أَوْجُهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء هاهنا النِّسَاءُ سَوَاءً كُنَّ أَزْوَاجًا أَوْ أُمَّهَاتٍ أَوْ بَنَاتٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا
رَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا إِنَّمَا خُلِقَتِ النَّارُ لِلسُّفَهَاءِ يَقُولُهَا ثَلَاثًا أَلَا وَإِنَّ السُّفَهَاءَ النِّسَاءُ إِلَّا امْرَأَةً أَطَاعَتْ قَيِّمَهَا».
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ النِّسَاءَ لَقَالَ: السَّفَائِهَ أَوِ السَّفِيهَاتِ فِي جَمْعِ السَّفِيهَةِ نَحْوُ غَرَائِبَ وَغَرِيبَاتٍ فِي جَمْعِ الْغَرِيبَةِ.
أَجَابَ الزَّجَّاجُ: بِأَنَّ السُّفَهَاءَ فِي جَمْعِ السَّفِيهَةِ جَائِزٌ كَمَا أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي جَمْعِ الْفَقِيرَةِ جَائِزٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: عَنَى بِالسُّفَهَاءِ هاهنا السُّفَهَاءَ مِنَ الْأَوْلَادِ، يَقُولُ: لَا تُعْطِ مَالَكَ الَّذِي هُوَ قِيَامُكَ، وَلَدَكَ السَّفِيهَ فَيُفْسِدَهُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالُوا إِذَا عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ امْرَأَتَهُ سَفِيهَةٌ مُفْسِدَةٌ، وَأَنَّ وَلَدَهُ سَفِيهٌ مُفْسِدٌ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَلِّطَ وَاحِدًا مِنْهُمَا عَلَى مَالِهِ فَيُفْسِدَهُ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّفَهَاءِ كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ يَفِي بِحِفْظِ الْمَالِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْأَيْتَامُ وكل من كان موصوفاً بهذه الصدفة، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
[النساء: ٣٦] وقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ:
٨٥] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ مَا كَانَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، وَلَكِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وَكَانَ الكل من نوع واحد، فكذا هاهنا الْمَالُ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ حَسُنَتْ إِضَافَةُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابُ الْآبَاءِ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ أَوْلَادُهُمْ سُفَهَاءَ لَا يَسْتَقِلُّونَ بِحِفْظِ الْمَالِ وَإِصْلَاحِهِ أَنْ يَدْفَعُوا أَمْوَالَهُمْ أَوْ بَعْضَهَا إِلَيْهِمْ، لِمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِفْسَادِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إِضَافَةُ الْأَمْوَالِ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ الْحَثَّ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ وَالسَّعْيَ فِي أَنْ لَا يَضِيعَ وَلَا يَهْلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ وَيُهْلِكَهَا، وَإِذَا قَرُبَ أَجَلُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ إِلَى أَمِينٍ يَحْفَظُ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَرْجَحُ لِوَجْهَيْنِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَهَبَ مِنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَمِنَ النِّسْوَانِ مَا شَاءَ مِنْ مَالِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى السُّفَهَاءِ أَمْوَالَهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ بِالْأَيْتَامِ أَشْبَهُ، لِأَنَّ الْمَرْءَ مُشْفِقٌ بِطَبْعِهِ عَلَى وَلَدِهِ، فَلَا يَقُولُ لَهُ إِلَّا الْمَعْرُوفَ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَعَ الْأَيْتَامِ الْأَجَانِبِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي:
هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَمْلَ قَوْلِهِ: أَمْوالَكُمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ جَمِيعًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ:
أَمْوالَكُمُ يُفِيدُ كَوْنَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ مُخْتَصَّةً بِهِمُ اخْتِصَاصًا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، ثُمَّ إن هذا الِاخْتِصَاصَ حَاصِلٌ فِي الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَفِي الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلصَّبِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ تَصَرُّفُهُ، فَهَذَا التَّفَاوُتُ وَاقِعٌ فِي مَفْهُومٍ خَارِجٍ مِنَ الْمَفْهُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: / أَمْوالَكُمُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّفْظَ أَفَادَ مَعْنًى وَاحِدًا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ بِالسُّفَهَاءِ أَوْجُهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء هاهنا النِّسَاءُ سَوَاءً كُنَّ أَزْوَاجًا أَوْ أُمَّهَاتٍ أَوْ بَنَاتٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا
رَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا إِنَّمَا خُلِقَتِ النَّارُ لِلسُّفَهَاءِ يَقُولُهَا ثَلَاثًا أَلَا وَإِنَّ السُّفَهَاءَ النِّسَاءُ إِلَّا امْرَأَةً أَطَاعَتْ قَيِّمَهَا».
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ النِّسَاءَ لَقَالَ: السَّفَائِهَ أَوِ السَّفِيهَاتِ فِي جَمْعِ السَّفِيهَةِ نَحْوُ غَرَائِبَ وَغَرِيبَاتٍ فِي جَمْعِ الْغَرِيبَةِ.
أَجَابَ الزَّجَّاجُ: بِأَنَّ السُّفَهَاءَ فِي جَمْعِ السَّفِيهَةِ جَائِزٌ كَمَا أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي جَمْعِ الْفَقِيرَةِ جَائِزٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: عَنَى بِالسُّفَهَاءِ هاهنا السُّفَهَاءَ مِنَ الْأَوْلَادِ، يَقُولُ: لَا تُعْطِ مَالَكَ الَّذِي هُوَ قِيَامُكَ، وَلَدَكَ السَّفِيهَ فَيُفْسِدَهُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالُوا إِذَا عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ امْرَأَتَهُ سَفِيهَةٌ مُفْسِدَةٌ، وَأَنَّ وَلَدَهُ سَفِيهٌ مُفْسِدٌ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَلِّطَ وَاحِدًا مِنْهُمَا عَلَى مَالِهِ فَيُفْسِدَهُ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّفَهَاءِ كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ يَفِي بِحِفْظِ الْمَالِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْأَيْتَامُ وكل من كان موصوفاً بهذه الصدفة، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
495
سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ السَّفَهَ خِفَّةُ الْعَقْلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْفَاسِقُ سَفِيهًا لِأَنَّهُ لَا وَزْنَ لَهُ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَيُسَمَّى النَّاقِصُ الْعَقْلِ سَفِيهًا لِخِفَّةِ عَقْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ السَّفَهُ فِي هَؤُلَاءِ صِفَةَ ذَمٍّ، وَلَا يُفِيدُ مَعْنَى الْعِصْيَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا سُمُّوا سُفَهَاءَ لِخِفَّةِ عُقُولِهِمْ وَنُقْصَانِ تَمْيِيزِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِحِفْظِ الْأَمْوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِحِفْظِ الْأَمْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاءِ: ٢٦، ٢٧] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الْإِسْرَاءِ: ٢٩] وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الْفُرْقَانِ: ٦٧] وَقَدْ رَغَّبَ اللَّهُ فِي حِفْظِ الْمَالِ فِي آيَةِ الْمُدَايَنَةِ حَيْثُ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ، وَالْعَقْلُ أَيْضًا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ فَارِغَ الْبَالِ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ فَارِغَ الْبَالِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمَالِ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ مَنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا بِهَذَا الْغَرَضِ كَانَتِ الدُّنْيَا فِي حَقِّهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ لَهُ عَلَى اكْتِسَابِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، أَمَّا/ مَنْ أَرَادَهَا لِنَفْسِهَا وَلِعَيْنِهَا كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعَوِّقَاتِ عَنْ كَسْبِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ قِيَامُكُمْ وَلَا مَعَاشُكُمْ إِلَّا بِهَذَا الْمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَالُ سَبَبًا لِلْقِيَامِ وَالِاسْتِقْلَالِ سَمَّاهُ بِالْقِيَامِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، يَعْنِي كَانَ هَذَا الْمَالُ نَفْسَ قِيَامِكُمْ وَابْتِغَاءَ مَعَاشِكُمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَمًا وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا قَيِّمٌ وَقِيَمٌ، كَمَا قَالَ: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الْأَنْعَامِ: ١٦١] وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ (قِوَامًا) بِالْوَاوِ، وَقِوَامُ الشَّيْءِ مَا يُقَامُ بِهِ كَقَوْلِكَ: مِلَاكُ الْأَمْرِ لِمَا يُمْلَكُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبَالِغُ إِذَا كَانَ مُبَذِّرًا لِلْمَالِ مُفْسِدًا لَهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ سَفِيهٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ سَفِيهٌ، لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي اللُّغَةِ، هُوَ مَنْ خَفَّ وَزْنُهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ كَانَ مُبَذِّرًا لِلْمَالِ مُفْسِدًا لَهُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي الْقَلْبِ وَقْعٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، فَكَانَ خَفِيفَ الْوَزْنِ عِنْدَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يُسَمَّى بِالسَّفِيهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ إِيتَاءِ الْمَالِ السَّفِيهَ أَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَارْزُقُوهُمْ وَمَعْنَاهُ: وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِمْ وَمَعْنَى الرِّزْقِ مِنَ الْعِبَادِ هُوَ الْإِجْرَاءُ الْمُوَظَّفُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يُقَالُ: فُلَانٌ رَزَقَ عِيَالَهُ أَيْ أَجْرَى عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: فِيها وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بِأَنْ يَجْعَلُوا بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ رِزْقًا لَهُمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَمْوَالَهُمْ مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ يَتَّجِرُوا فِيهَا وَيُثَمِّرُوهَا فَيَجْعَلُوا أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ لَا مِنْ أُصُولِ الْأَمْوَالِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَاكْسُوهُمْ وَالْمُرَادُ ظَاهِرٌ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْجَمِيلَ يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ فَيُزِيلُ السَّفَهَ، أَمَّا خِلَافُ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ السَّفِيهَ سَفَهًا وَنُقْصَانًا.
وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّهُ الْعُدَّةُ الْجَمِيلَةُ مِنَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إِذَا رَبِحْتُ فِي سُفْرَتِي هَذِهِ فَعَلْتُ بِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، وَإِنْ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ السَّفَهُ فِي هَؤُلَاءِ صِفَةَ ذَمٍّ، وَلَا يُفِيدُ مَعْنَى الْعِصْيَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا سُمُّوا سُفَهَاءَ لِخِفَّةِ عُقُولِهِمْ وَنُقْصَانِ تَمْيِيزِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِحِفْظِ الْأَمْوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِحِفْظِ الْأَمْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاءِ: ٢٦، ٢٧] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الْإِسْرَاءِ: ٢٩] وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الْفُرْقَانِ: ٦٧] وَقَدْ رَغَّبَ اللَّهُ فِي حِفْظِ الْمَالِ فِي آيَةِ الْمُدَايَنَةِ حَيْثُ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ، وَالْعَقْلُ أَيْضًا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ فَارِغَ الْبَالِ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ فَارِغَ الْبَالِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمَالِ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ مَنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا بِهَذَا الْغَرَضِ كَانَتِ الدُّنْيَا فِي حَقِّهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ لَهُ عَلَى اكْتِسَابِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، أَمَّا/ مَنْ أَرَادَهَا لِنَفْسِهَا وَلِعَيْنِهَا كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعَوِّقَاتِ عَنْ كَسْبِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ قِيَامُكُمْ وَلَا مَعَاشُكُمْ إِلَّا بِهَذَا الْمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَالُ سَبَبًا لِلْقِيَامِ وَالِاسْتِقْلَالِ سَمَّاهُ بِالْقِيَامِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، يَعْنِي كَانَ هَذَا الْمَالُ نَفْسَ قِيَامِكُمْ وَابْتِغَاءَ مَعَاشِكُمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَمًا وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا قَيِّمٌ وَقِيَمٌ، كَمَا قَالَ: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الْأَنْعَامِ: ١٦١] وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ (قِوَامًا) بِالْوَاوِ، وَقِوَامُ الشَّيْءِ مَا يُقَامُ بِهِ كَقَوْلِكَ: مِلَاكُ الْأَمْرِ لِمَا يُمْلَكُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبَالِغُ إِذَا كَانَ مُبَذِّرًا لِلْمَالِ مُفْسِدًا لَهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ سَفِيهٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ سَفِيهٌ، لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي اللُّغَةِ، هُوَ مَنْ خَفَّ وَزْنُهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ كَانَ مُبَذِّرًا لِلْمَالِ مُفْسِدًا لَهُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي الْقَلْبِ وَقْعٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، فَكَانَ خَفِيفَ الْوَزْنِ عِنْدَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يُسَمَّى بِالسَّفِيهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ إِيتَاءِ الْمَالِ السَّفِيهَ أَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَارْزُقُوهُمْ وَمَعْنَاهُ: وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِمْ وَمَعْنَى الرِّزْقِ مِنَ الْعِبَادِ هُوَ الْإِجْرَاءُ الْمُوَظَّفُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يُقَالُ: فُلَانٌ رَزَقَ عِيَالَهُ أَيْ أَجْرَى عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: فِيها وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بِأَنْ يَجْعَلُوا بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ رِزْقًا لَهُمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَمْوَالَهُمْ مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ يَتَّجِرُوا فِيهَا وَيُثَمِّرُوهَا فَيَجْعَلُوا أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ لَا مِنْ أُصُولِ الْأَمْوَالِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَاكْسُوهُمْ وَالْمُرَادُ ظَاهِرٌ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْجَمِيلَ يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ فَيُزِيلُ السَّفَهَ، أَمَّا خِلَافُ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ السَّفِيهَ سَفَهًا وَنُقْصَانًا.
وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّهُ الْعُدَّةُ الْجَمِيلَةُ مِنَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إِذَا رَبِحْتُ فِي سُفْرَتِي هَذِهِ فَعَلْتُ بِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، وَإِنْ
496
غَنِمْتُ فِي غَزَاتِي أَعْطَيْتُكَ، وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ الدُّعَاءُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَأَحَبَّتْهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمِلَ فَهُوَ مَعْرُوفٌ وَكُلُّ مَا أَنْكَرَتْهُ وَكَرِهَتْهُ وَنَفَرَتْ مِنْهُ فَهُوَ مُنْكَرٌ، وَثَالِثُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى عَلِّمُوهُمْ مَعَ إِطْعَامِكُمْ وَكُسْوَتِكُمْ إِيَّاهُمْ أَمْرَ دِينِهِمْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ/ هُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَبِيًّا، فَالْوَلِيُّ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ وَهُوَ خَازِنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا زَالَ صِبَاهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَالَ إِلَيْهِ، ونظيره هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضُّحَى:
٩] مَعْنَاهُ لَا تُعَاشِرْهُ بِالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ كَمَا تُعَاشِرُ الْعَبِيدَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً [الْإِسْرَاءِ: ٢٨] وَإِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ سَفِيهًا وَعَظَهُ وَنَصَحَهُ وَحَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَرَغَّبَهُ فِي تَرْكِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ عَاقِبَةَ التَّبْذِيرِ الْفَقْرُ وَالِاحْتِيَاجُ إِلَى الْخَلْقِ إِلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أحسن من سائر الوجوه التي حكيناها.
[سورة النساء (٤) : آية ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مِنْ قَبْلُ بِدَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء: ٢] بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَتَى يُؤْتِيهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَشَرَطَ فِي دَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بُلُوغُ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: إِينَاسُ الرُّشْدِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهِمَا حَتَّى يَجُوزَ دَفْعُ مَالِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: غَيْرُ صَحِيحَةٍ، احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ حَالِهِ فِي أَنَّهُ هَلْ لَهُ تَصَرُّفٌ صَالِحٌ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهَذَا الِاخْتِبَارُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى نَفْسَ الِاخْتِبَارِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الِاخْتِبَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، يُقَالُ: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى إِلَّا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ/ لَدَخَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَابْتَلُوا الْيَتامى أَمْرٌ لِلْأَوْلِيَاءِ بِأَنْ يَأْذَنُوا لَهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي صِحَّةَ تَصَرُّفَاتِهِمْ.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى الْإِذْنَ لَهُمْ فِي التَّصَرُّفِ حَالَ الصِّغَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ حَالَ الصِّغَرِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ تَصَرُّفُهُ حَالَ الصِّغَرِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ عَقْلِهِ وَاسْتِبْرَاءُ حَالِهِ، فِي أَنَّهُ هَلْ لَهُ فَهْمٌ وَعَقْلٌ وَقُدْرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ إِذَا بَاعَ الْوَلِيَّ وَاشْتَرَى بِحُضُورِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ يَسْتَكْشِفُ مِنَ الصَّبِيِّ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَحْصُلُ الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ، وَأَيْضًا: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَيْهِ شَيْئًا لِيَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَلْ إِذَا بَاعَ وَاشْتَرَى وَحَصَلَ بِهِ اخْتِبَارُ عَقْلِهِ، فَالْوَلِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ يُتَمِّمُ الْبَيْعَ وَذَلِكَ الشِّرَاءَ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ واللَّه أعلم.
٩] مَعْنَاهُ لَا تُعَاشِرْهُ بِالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ كَمَا تُعَاشِرُ الْعَبِيدَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً [الْإِسْرَاءِ: ٢٨] وَإِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ سَفِيهًا وَعَظَهُ وَنَصَحَهُ وَحَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَرَغَّبَهُ فِي تَرْكِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ عَاقِبَةَ التَّبْذِيرِ الْفَقْرُ وَالِاحْتِيَاجُ إِلَى الْخَلْقِ إِلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أحسن من سائر الوجوه التي حكيناها.
[سورة النساء (٤) : آية ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مِنْ قَبْلُ بِدَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء: ٢] بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَتَى يُؤْتِيهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَشَرَطَ فِي دَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بُلُوغُ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: إِينَاسُ الرُّشْدِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهِمَا حَتَّى يَجُوزَ دَفْعُ مَالِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: غَيْرُ صَحِيحَةٍ، احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ حَالِهِ فِي أَنَّهُ هَلْ لَهُ تَصَرُّفٌ صَالِحٌ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهَذَا الِاخْتِبَارُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى نَفْسَ الِاخْتِبَارِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الِاخْتِبَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، يُقَالُ: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى إِلَّا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ/ لَدَخَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَابْتَلُوا الْيَتامى أَمْرٌ لِلْأَوْلِيَاءِ بِأَنْ يَأْذَنُوا لَهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي صِحَّةَ تَصَرُّفَاتِهِمْ.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى الْإِذْنَ لَهُمْ فِي التَّصَرُّفِ حَالَ الصِّغَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ حَالَ الصِّغَرِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ تَصَرُّفُهُ حَالَ الصِّغَرِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ عَقْلِهِ وَاسْتِبْرَاءُ حَالِهِ، فِي أَنَّهُ هَلْ لَهُ فَهْمٌ وَعَقْلٌ وَقُدْرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ إِذَا بَاعَ الْوَلِيَّ وَاشْتَرَى بِحُضُورِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ يَسْتَكْشِفُ مِنَ الصَّبِيِّ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَحْصُلُ الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ، وَأَيْضًا: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَيْهِ شَيْئًا لِيَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَلْ إِذَا بَاعَ وَاشْتَرَى وَحَصَلَ بِهِ اخْتِبَارُ عَقْلِهِ، فَالْوَلِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ يُتَمِّمُ الْبَيْعَ وَذَلِكَ الشِّرَاءَ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ واللَّه أعلم.
497
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ بُلُوغِ النِّكَاحِ هُوَ الِاحْتِلَامُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ [النور: ٥٩] وَهُوَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْبُلُوغِ مَبْلَغَ الرِّجَالِ الَّذِي عِنْدَهُ يَجْرِي عَلَى صَاحِبِهِ الْقَلَمُ وَيَلْزَمُهُ الْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الِاحْتِلَامُ بُلُوغَ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ إِنْزَالُ الْمَاءِ الدَّافِقِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْجِمَاعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْبُلُوغِ عَلَامَاتٌ خَمْسَةٌ: مِنْهَا ثَلَاثَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَهُوَ الِاحْتِلَامُ وَالسِّنُّ الْمَخْصُوصُ، وَنَبَاتُ الشَّعْرِ الخشن على العانة، واثنان منها مُخْتَصَّانِ بِالنِّسَاءِ، وَهُمَا: الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا إِينَاسُ الرُّشْدِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِينَاسِ وَمِنْ تَفْسِيرِ الرُّشْدِ، أَمَّا الْإِينَاسُ فَقَوْلُهُ:
آنَسْتُمْ أَيْ عَرَفْتُمْ وَقِيلَ: رَأَيْتُمْ، وَأَصْلُ الْإِينَاسِ فِي اللُّغَةِ الْإِبْصَارُ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا [الْقَصَصِ: ٢٩] وَأَمَّا الرُّشْدُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الرُّشْدَ الَّذِي لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِصَلَاحِ مَالِهِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُصْلِحٌ لِمَا لَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ مِنْهُ إِسْرَافٌ وَلَا يَكُونَ بِحَيْثُ يَقْدِرُ الْغَيْرُ عَلَى خَدِيعَتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُضَمُّ إِلَيْهِ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: الرُّشْدُ هُوَ إِصَابَةُ الْخَيْرِ، وَالْمُفْسِدُ فِي دِينِهِ لَا يَكُونُ مُصِيبًا لِلْخَيْرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الرُّشْدَ نَقِيضُ/ الْغَيِّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٦] والغني هُوَ الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ وَقَالَ تَعَالَى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: ١٢١] فَجَعَلَ الْعَاصِيَ غَوِيًّا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّشْدَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا مَعَ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هُودٍ: ٩٧] نَفْيُ الرُّشْدِ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُرَاعِي مَصَالِحَ الدِّينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْفَاسِقِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَإِنَّهُ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ هَذَا السِّنَّ لِأَنَّ مُدَّةَ بُلُوغِ الذَّكَرِ عِنْدَهُ بِالسِّنِّ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ سَبْعَ سِنِينَ وَهِيَ مُدَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي تَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ»
فَعِنْدَ ذَلِكَ تَمَّتِ الْمُدَّةُ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا حُصُولُ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، فَعِنْدَهَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ، أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الرُّشْدِ وَاقِعٌ عَلَى الْعَقْلِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَرَطَ رُشْدًا مُنَكَّرًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ سَائِرَ ضُرُوبِ الرُّشْدِ، فَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الْعَقْلُ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَيَلْزَمُ جَوَازَ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
وَابْتَلُوا الْيَتامى وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ ابْتِلَاؤُهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ حِفْظِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فِي حِفْظِ الْمَالِ وَضَبْطِ مَصَالِحِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ ذَلِكَ تَفَكَّكَ النَّظْمُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْبَعْضِ تَعَلُّقٌ بِالْبَعْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْآيَةِ هُوَ حُصُولُ الرُّشْدِ فِي رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْمَالِ، وَعِنْدَ هَذَا سَقَطَ اسْتِدْلَالُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، بَلْ تَنْقَلِبُ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ رِعَايَةَ مَصَالِحِ الْمَالِ شَرْطًا فِي جَوَازِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَفْقُودًا بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْبُلُوغِ عَلَامَاتٌ خَمْسَةٌ: مِنْهَا ثَلَاثَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَهُوَ الِاحْتِلَامُ وَالسِّنُّ الْمَخْصُوصُ، وَنَبَاتُ الشَّعْرِ الخشن على العانة، واثنان منها مُخْتَصَّانِ بِالنِّسَاءِ، وَهُمَا: الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا إِينَاسُ الرُّشْدِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِينَاسِ وَمِنْ تَفْسِيرِ الرُّشْدِ، أَمَّا الْإِينَاسُ فَقَوْلُهُ:
آنَسْتُمْ أَيْ عَرَفْتُمْ وَقِيلَ: رَأَيْتُمْ، وَأَصْلُ الْإِينَاسِ فِي اللُّغَةِ الْإِبْصَارُ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا [الْقَصَصِ: ٢٩] وَأَمَّا الرُّشْدُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الرُّشْدَ الَّذِي لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِصَلَاحِ مَالِهِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُصْلِحٌ لِمَا لَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ مِنْهُ إِسْرَافٌ وَلَا يَكُونَ بِحَيْثُ يَقْدِرُ الْغَيْرُ عَلَى خَدِيعَتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُضَمُّ إِلَيْهِ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: الرُّشْدُ هُوَ إِصَابَةُ الْخَيْرِ، وَالْمُفْسِدُ فِي دِينِهِ لَا يَكُونُ مُصِيبًا لِلْخَيْرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الرُّشْدَ نَقِيضُ/ الْغَيِّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٦] والغني هُوَ الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ وَقَالَ تَعَالَى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: ١٢١] فَجَعَلَ الْعَاصِيَ غَوِيًّا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّشْدَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا مَعَ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هُودٍ: ٩٧] نَفْيُ الرُّشْدِ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُرَاعِي مَصَالِحَ الدِّينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْفَاسِقِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَإِنَّهُ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ هَذَا السِّنَّ لِأَنَّ مُدَّةَ بُلُوغِ الذَّكَرِ عِنْدَهُ بِالسِّنِّ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ سَبْعَ سِنِينَ وَهِيَ مُدَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي تَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ»
فَعِنْدَ ذَلِكَ تَمَّتِ الْمُدَّةُ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا حُصُولُ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، فَعِنْدَهَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ، أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الرُّشْدِ وَاقِعٌ عَلَى الْعَقْلِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَرَطَ رُشْدًا مُنَكَّرًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ سَائِرَ ضُرُوبِ الرُّشْدِ، فَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الْعَقْلُ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَيَلْزَمُ جَوَازَ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
وَابْتَلُوا الْيَتامى وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ ابْتِلَاؤُهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ حِفْظِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فِي حِفْظِ الْمَالِ وَضَبْطِ مَصَالِحِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ ذَلِكَ تَفَكَّكَ النَّظْمُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْبَعْضِ تَعَلُّقٌ بِالْبَعْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْآيَةِ هُوَ حُصُولُ الرُّشْدِ فِي رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْمَالِ، وَعِنْدَ هَذَا سَقَطَ اسْتِدْلَالُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، بَلْ تَنْقَلِبُ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ رِعَايَةَ مَصَالِحِ الْمَالِ شَرْطًا فِي جَوَازِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَفْقُودًا بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
498
سَنَةً، وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَيْضًا يُقَوِّي الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا النَّصِّ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ إِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ الْمَالُ لِفِقْدَانِ الْعَقْلِ الْهَادِي إِلَى كَيْفِيَّةِ حِفْظِ الْمَالِ وَكَيْفِيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلًا فِي الشَّبَابِ وَالشَّيْخِ كَانَ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً دُفِعُ إِلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ تَغَيَّرَ وَصَارَ سَفِيهًا حُجِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء:
٥] وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ لِئَلَّا يَصِيرَ الْمَالُ ضَائِعًا فَيَكُونَ بَاقِيًا مُرْصَدًا لِيَوْمِ حَاجَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي السَّفَهِ الطَّارِئِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفَائِدَةُ فِي تَنْكِيرِ الرُّشْدِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الرُّشْدُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتِّجَارَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ حُصُولُ طَرَفٍ مِنَ الرُّشْدِ وَظُهُورِ أَثَرٍ مِنْ آثَارِهِ حَتَّى لَا يُنْتَظَرَ بِهِ تَمَامُ الرُّشْدِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنْ أَحَسْتُمْ، بِمَعْنَى أَحْسَسْتُمْ قَالَ:
أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إِلَيْهِ شُوسُ
وَقُرِئَ رَشَدًا بِفَتْحَتَيْنِ وَرُشُدًا بِضَمَّتَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطَيْنِ أَعْنِي الْبُلُوغَ وَإِينَاسَ الرُّشْدِ يَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ تَعَالَى مَعَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ كَمَالَ الْعَقْلِ، لِأَنَّ إِينَاسَ الرُّشْدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْعَقْلِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أَيْ مُسْرِفِينَ وَمُبَادِرِينَ كِبَرِهِمْ أَوْ لِإِسْرَافِكُمْ وَمُبَادَرَتِكُمْ كِبَرَهُمْ تُفَرِّطُونَ فِي إِنْفَاقِهَا وَتَقُولُونَ: نُنْفِقُ كَمَا نَشْتَهِي قَبْلَ أَنْ يَكْبُرَ الْيَتَامَى فَيَنْزِعُوهَا مِنْ أَيْدِينَا، ثُمَّ قَسَمَ الْأَمْرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَصِيُّ غَنِيًّا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَقَالَ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتَعَفَّ عَنِ الشَّيْءِ وَعَفَّ إِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ وَتَرَكَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اسْتَعَفَّ أَبْلَغُ مِنْ عَفَّ كَأَنَّهُ طَالَبَ زِيَادَةَ الْعِفَّةِ وَقَالَ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْوَصِيَّ هَلْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ؟ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَبِقَدْرِ أَجْرِ عَمَلِهِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً مُشْعِرٌ بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَقَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَهْيَ الْوَصِيِّ الْغَنِيِّ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَالِ نَفْسِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ نَهْيُهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ إِذْنًا لِلْوَصِيِّ فِي أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى / ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ قَدْ يُؤْكَلُ ظُلْمًا وَغَيْرَ ظُلْمٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فَائِدَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَرَابِعُهَا: مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنَّ تَحْتَ حِجْرِي يَتِيمًا أَآكُلُ مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا وَلَا وَاقٍ مَالَكَ بماله،
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ تَغَيَّرَ وَصَارَ سَفِيهًا حُجِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء:
٥] وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ لِئَلَّا يَصِيرَ الْمَالُ ضَائِعًا فَيَكُونَ بَاقِيًا مُرْصَدًا لِيَوْمِ حَاجَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي السَّفَهِ الطَّارِئِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفَائِدَةُ فِي تَنْكِيرِ الرُّشْدِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الرُّشْدُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتِّجَارَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ حُصُولُ طَرَفٍ مِنَ الرُّشْدِ وَظُهُورِ أَثَرٍ مِنْ آثَارِهِ حَتَّى لَا يُنْتَظَرَ بِهِ تَمَامُ الرُّشْدِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنْ أَحَسْتُمْ، بِمَعْنَى أَحْسَسْتُمْ قَالَ:
أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إِلَيْهِ شُوسُ
وَقُرِئَ رَشَدًا بِفَتْحَتَيْنِ وَرُشُدًا بِضَمَّتَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطَيْنِ أَعْنِي الْبُلُوغَ وَإِينَاسَ الرُّشْدِ يَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ تَعَالَى مَعَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ كَمَالَ الْعَقْلِ، لِأَنَّ إِينَاسَ الرُّشْدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْعَقْلِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أَيْ مُسْرِفِينَ وَمُبَادِرِينَ كِبَرِهِمْ أَوْ لِإِسْرَافِكُمْ وَمُبَادَرَتِكُمْ كِبَرَهُمْ تُفَرِّطُونَ فِي إِنْفَاقِهَا وَتَقُولُونَ: نُنْفِقُ كَمَا نَشْتَهِي قَبْلَ أَنْ يَكْبُرَ الْيَتَامَى فَيَنْزِعُوهَا مِنْ أَيْدِينَا، ثُمَّ قَسَمَ الْأَمْرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَصِيُّ غَنِيًّا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَقَالَ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتَعَفَّ عَنِ الشَّيْءِ وَعَفَّ إِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ وَتَرَكَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اسْتَعَفَّ أَبْلَغُ مِنْ عَفَّ كَأَنَّهُ طَالَبَ زِيَادَةَ الْعِفَّةِ وَقَالَ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْوَصِيَّ هَلْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ؟ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَبِقَدْرِ أَجْرِ عَمَلِهِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً مُشْعِرٌ بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَقَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَهْيَ الْوَصِيِّ الْغَنِيِّ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَالِ نَفْسِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ نَهْيُهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ إِذْنًا لِلْوَصِيِّ فِي أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى / ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ قَدْ يُؤْكَلُ ظُلْمًا وَغَيْرَ ظُلْمٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فَائِدَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَرَابِعُهَا: مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنَّ تَحْتَ حِجْرِي يَتِيمًا أَآكُلُ مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا وَلَا وَاقٍ مَالَكَ بماله،
499
قَالَ: أَفَأَضْرِبُهُ؟ قَالَ: مِمَّا كُنْتَ ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَكَ،
وَخَامِسُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى عَمَّارٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي رَزَقْتُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ شَاةً شَطْرُهَا لِعَمَّارٍ، وَرُبُعُهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرُبُعُهَا لِعُثْمَانَ، أَلَا وَإِنِّي قَدْ أَنْزَلْتُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ مَالِ الْيَتِيمِ: مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَلِيَّ يَتِيمٍ قَالَ لَهُ: أَفَأَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ إِبِلِهِ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا وَتَلُوطُ حَوْضَهَا وَتَهْنَأُ جَرْبَاهَا وَتَسْقِيهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ، وَلَا نَاهِكٍ فِي الْحَلْبِ وَعَنْهُ أَيْضًا: يَضْرِبُ بِيَدِهِ مَعَ أَيْدِيهِمْ فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَلْبَسْ عِمَامَةً فَمَا فَوْقَهَا، وَسَادِسُهَا:
أَنَّ الْوَصِيَّ لَمَّا تَكَفَّلَ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الصَّبِيِّ وَجَبَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ قِيَاسًا عَلَى السَّاعِي فِي أَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَجَمْعِهَا، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ فِي تلك الصدقات بسهم، فكذا هاهنا، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قَرْضًا، ثُمَّ إِذَا أَيْسَرَ قَضَاهُ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ خَصَّ هَذَا الْإِقْرَاضَ بِأُصُولِ الْأَمْوَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا التَّنَاوُلُ مِنْ أَلْبَانِ الْمَوَاشِي وَاسْتِخْدَامِ الْعَبِيدِ وَرُكُوبِ الدَّوَابِّ، فَمُبَاحٌ لَهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِالْمَالِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَحَكَمَ فِي الْأَمْوَالِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: الَّذِي نَعْرِفُهُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ، سَوَاءً كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ: مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إلى قوله: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: ٢] وَمِنْهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النِّسَاءِ: ١٠] وَمِنْهَا: قَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ [النِّسَاءِ:
١٢٧] وَمِنْهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٨] قَالَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ حَاصِرَةٌ لِمَالِ الْيَتِيمِ عَلَى وَصِيِّهِ فِي حَالِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ مُتَشَابِهٌ مُحْتَمِلٌ فَوَجَبَ رَدُّهُ لِكَوْنِهِ مُتَشَابِهًا إلى تلك المحكمات، وعندي أن هذه الآيات لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ الرَّازِيُّ/ إِلَيْهِ. أما قوله:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فَهُوَ عَامٌّ وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فَهُوَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْلَ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ بِالْمَعْرُوفِ ظُلْمٌ، وَهَلِ النِّزَاعُ إِلَّا فِيهِ، وَهُوَ الْجَوَابُ بِعَيْنِهِ عَنْ قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أما قوله: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ فَهُوَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَكْلَ لَيْسَ بِقِسْطٍ، وَالنِّزَاعُ لَيْسَ إِلَّا فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سَاقِطٌ رَكِيكٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا دَفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ بَالِغًا، فَإِنَّ الْأَوْلَى وَالْأَحْوَطَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَتِيمَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِقَبْضِ الْمَالِ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَيْسَ لَهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْيَتِيمَ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ أَقَامَ الْوَصِيُّ الشَّهَادَةَ عَلَى أَنَّهُ دَفَعَ مَالَهُ إِلَيْهِ. ثَالِثُهَا: أَنْ تَظْهَرَ أَمَانَةُ الْوَصِيِّ وَبَرَاءَةُ سَاحَتِهِ، وَنَظِيرُهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ»
فَأَمَرَهُ بِالْإِشْهَادِ لِتَظْهَرَ أَمَانَتُهُ وَتَزُولَ التُّهْمَةُ عَنْهُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَنَّ الْأَحْوَطَ هُوَ الْإِشْهَادُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِ هَلْ هُوَ مُصَدَّقٌ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْفَقْتُ
وَخَامِسُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى عَمَّارٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي رَزَقْتُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ شَاةً شَطْرُهَا لِعَمَّارٍ، وَرُبُعُهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرُبُعُهَا لِعُثْمَانَ، أَلَا وَإِنِّي قَدْ أَنْزَلْتُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ مَالِ الْيَتِيمِ: مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَلِيَّ يَتِيمٍ قَالَ لَهُ: أَفَأَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ إِبِلِهِ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا وَتَلُوطُ حَوْضَهَا وَتَهْنَأُ جَرْبَاهَا وَتَسْقِيهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ، وَلَا نَاهِكٍ فِي الْحَلْبِ وَعَنْهُ أَيْضًا: يَضْرِبُ بِيَدِهِ مَعَ أَيْدِيهِمْ فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَلْبَسْ عِمَامَةً فَمَا فَوْقَهَا، وَسَادِسُهَا:
أَنَّ الْوَصِيَّ لَمَّا تَكَفَّلَ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الصَّبِيِّ وَجَبَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ قِيَاسًا عَلَى السَّاعِي فِي أَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَجَمْعِهَا، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ فِي تلك الصدقات بسهم، فكذا هاهنا، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قَرْضًا، ثُمَّ إِذَا أَيْسَرَ قَضَاهُ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ خَصَّ هَذَا الْإِقْرَاضَ بِأُصُولِ الْأَمْوَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا التَّنَاوُلُ مِنْ أَلْبَانِ الْمَوَاشِي وَاسْتِخْدَامِ الْعَبِيدِ وَرُكُوبِ الدَّوَابِّ، فَمُبَاحٌ لَهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِالْمَالِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَحَكَمَ فِي الْأَمْوَالِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: الَّذِي نَعْرِفُهُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ، سَوَاءً كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ: مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إلى قوله: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: ٢] وَمِنْهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النِّسَاءِ: ١٠] وَمِنْهَا: قَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ [النِّسَاءِ:
١٢٧] وَمِنْهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٨] قَالَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ حَاصِرَةٌ لِمَالِ الْيَتِيمِ عَلَى وَصِيِّهِ فِي حَالِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ مُتَشَابِهٌ مُحْتَمِلٌ فَوَجَبَ رَدُّهُ لِكَوْنِهِ مُتَشَابِهًا إلى تلك المحكمات، وعندي أن هذه الآيات لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ الرَّازِيُّ/ إِلَيْهِ. أما قوله:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فَهُوَ عَامٌّ وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فَهُوَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْلَ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ بِالْمَعْرُوفِ ظُلْمٌ، وَهَلِ النِّزَاعُ إِلَّا فِيهِ، وَهُوَ الْجَوَابُ بِعَيْنِهِ عَنْ قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أما قوله: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ فَهُوَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَكْلَ لَيْسَ بِقِسْطٍ، وَالنِّزَاعُ لَيْسَ إِلَّا فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سَاقِطٌ رَكِيكٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا دَفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ بَالِغًا، فَإِنَّ الْأَوْلَى وَالْأَحْوَطَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَتِيمَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِقَبْضِ الْمَالِ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَيْسَ لَهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْيَتِيمَ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ أَقَامَ الْوَصِيُّ الشَّهَادَةَ عَلَى أَنَّهُ دَفَعَ مَالَهُ إِلَيْهِ. ثَالِثُهَا: أَنْ تَظْهَرَ أَمَانَةُ الْوَصِيِّ وَبَرَاءَةُ سَاحَتِهِ، وَنَظِيرُهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ»
فَأَمَرَهُ بِالْإِشْهَادِ لِتَظْهَرَ أَمَانَتُهُ وَتَزُولَ التُّهْمَةُ عَنْهُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَنَّ الْأَحْوَطَ هُوَ الْإِشْهَادُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِ هَلْ هُوَ مُصَدَّقٌ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْفَقْتُ
500
عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ هَلْ هُوَ مُصَدَّقٌ؟ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُصَدَّقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُصَدَّقُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَأَيْضًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَيِّمُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ مِنْ جِهَةِ الْيَتِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُؤْتَمَنٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَطَعَنَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَعَ السَّفَاهَةِ الشَّدِيدَةِ وَقَالَ: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ عِلَّةً لَنَفْيِ التَّصْدِيقِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ الْقَاضِي إِذَا قَالَ لِلْيَتِيمِ: قَدْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْأَبِ إِذَا قَالَ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ: قَدْ دَفَعْتُ مَالَكَ إِلَيْكَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ، وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا أَنْ يُوجِبَ الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ إِذَا تَصَادَقُوا بَعْدَ الْبُلُوغِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِ ائْتِمَانٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ قَوْلَكَ هَذَا لَبَعِيدٌ عَنْ مَعَانِي الْفِقْهِ، أَمَّا النَّقْضُ بِالْقَاضِي فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ حَاكِمٌ فَيَجِبُ إِزَالَةُ التُّهْمَةِ عَنْهُ لِيَصِيرَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَمَكَّنَ كُلُّ مَنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالْمَيْلِ وَالْمُدَاهَنَةِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ الْقَاضِي إِلَى قَاضٍ آخَرَ، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي وَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَأَمَّا الْأَبُ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ شَفَقَتَهُ أَتَمُّ مِنْ شَفَقَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قِلَّةِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّ الْأَبِ قِلَّتُهَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا إِذَا تَصَادَقُوا بَعْدَ/ الْبُلُوغِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ قَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ هَلَكَ لِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فَهَهُنَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، أَمَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ هَلَكَ لَا بِتَقْصِيرِهِ، فَهَهُنَا يَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ، وَإِلَّا لَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لِلنَّاسِ مِنْ قَبُولِ الْوَصَايَةِ، فَيَقَعُ الْخَلَلُ فِي هَذَا الْمُهِمِّ الْعَظِيمِ، فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عِنْدَ الرَّدِّ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْفَرْقَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَتِيمَ حَصَلَ فِي حَقِّهِ مَا يُوجِبُ التُّهْمَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِكَثْرَةِ إِقْدَامِ الْوَلِيِّ عَلَى ظُلْمِ الْأَيْتَامِ وَالصِّبْيَانِ، وَإِذَنْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَأَكُّدِ مُوجِبَاتِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْيَتِيمِ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ رِعَايَةُ جَانِبِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنِ ادِّعَاءِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ حُضُورِ الشَّاهِدِ، صَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَشْهِدُوا كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ لِظَاهِرِ الْإِيجَابِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنَّ الْقَرَائِنَ وَالْمَصَالِحَ تَقْتَضِي الْإِيجَابَ، ثُمَّ قَالَ هَذَا الرَّازِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيهِ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ، اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَى الْيَتِيمِ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارِبَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا عَلَى الرَّدِّ كَمَا يُصَدَّقُ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَصُورَةِ الْوَدِيعَةِ فَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَاعْتِرَاضُكَ عَلَى ذَلِكَ الْفَرْقِ قَدْ سَبَقَ إِبْطَالُهُ، وَأَيْضًا فَعَادَتُكَ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِقِيَاسٍ رَكِيكٍ تَتَخَيَّلُهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْفِقْهِ مُسَلَّمٌ لَكَ، وَلَا يَجِبُ الْمُشَارَكَةُ فِيهِ مَعَكَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالْأَزْهَرِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْكَافِي، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ لِلرَّجُلِ لِلتَّهْدِيدِ: حَسْبُهُ اللَّهُ وَمَعْنَاهُ يُحَاسِبُهُ اللَّهُ عَلَى مَا يَفْعَلُ مِنَ الظُّلْمِ، وَنَظِيرُ قَوْلِنَا الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، قَوْلُنَا الشَّرِيبُ بِمَعْنَى الْمُشَارِبِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ:
حَسِيبُكَ اللَّهُ أَيْ كَافِيكَ اللَّهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَإِعْلَامٌ لَهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بَاطِنَهُ كَمَا يَعْلَمُ ظَاهِرَهُ لِئَلَّا يَنْوِيَ أَوْ يَعْمَلَ فِي مَالِهِ مَا لَا يَحِلُّ، وَيَقُومَ بِالْأَمَانَةِ التَّامَّةِ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ سَوَاءً فَسَّرْنَا الْحَسِيبَ بِالْمُحَاسِبِ أَوْ بِالْكَافِي.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ رِعَايَةُ جَانِبِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنِ ادِّعَاءِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ حُضُورِ الشَّاهِدِ، صَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَشْهِدُوا كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ لِظَاهِرِ الْإِيجَابِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنَّ الْقَرَائِنَ وَالْمَصَالِحَ تَقْتَضِي الْإِيجَابَ، ثُمَّ قَالَ هَذَا الرَّازِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيهِ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ، اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَى الْيَتِيمِ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارِبَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا عَلَى الرَّدِّ كَمَا يُصَدَّقُ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَصُورَةِ الْوَدِيعَةِ فَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَاعْتِرَاضُكَ عَلَى ذَلِكَ الْفَرْقِ قَدْ سَبَقَ إِبْطَالُهُ، وَأَيْضًا فَعَادَتُكَ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِقِيَاسٍ رَكِيكٍ تَتَخَيَّلُهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْفِقْهِ مُسَلَّمٌ لَكَ، وَلَا يَجِبُ الْمُشَارَكَةُ فِيهِ مَعَكَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالْأَزْهَرِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْكَافِي، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ لِلرَّجُلِ لِلتَّهْدِيدِ: حَسْبُهُ اللَّهُ وَمَعْنَاهُ يُحَاسِبُهُ اللَّهُ عَلَى مَا يَفْعَلُ مِنَ الظُّلْمِ، وَنَظِيرُ قَوْلِنَا الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، قَوْلُنَا الشَّرِيبُ بِمَعْنَى الْمُشَارِبِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ:
حَسِيبُكَ اللَّهُ أَيْ كَافِيكَ اللَّهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَإِعْلَامٌ لَهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بَاطِنَهُ كَمَا يَعْلَمُ ظَاهِرَهُ لِئَلَّا يَنْوِيَ أَوْ يَعْمَلَ فِي مَالِهِ مَا لَا يَحِلُّ، وَيَقُومَ بِالْأَمَانَةِ التَّامَّةِ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ سَوَاءً فَسَّرْنَا الْحَسِيبَ بِالْمُحَاسِبِ أَوْ بِالْكَافِي.
501
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكَفى بِرَبِّكَ [الْإِسْرَاءِ: ٦٥] فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ زَائِدَةٌ، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج وحَسِيباً نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ كَفَى اللَّهُ حَالَ كونه محاسبا، وحال كونه كافيا.
[سورة النساء (٤) : آية ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَارِيثِ وَالْفَرَائِضِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثِ بَنَاتٍ وَامْرَأَةٍ، فَجَاءَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ وَهُمَا وَصِيَّانِ لَهُ يُقَالُ لَهُمَا: سُوَيْدٌ، وَعَرْفَجَةُ وَأَخَذَا مَالَهُ. فَجَاءَتِ امْرَأَةُ أَوْسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَتِ الْقِصَّةَ، وَذَكَرَتْ أَنَّ الْوَصِيَّيْنِ مَا دَفَعَا إِلَيَّ بَنَاتِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ارْجِعِي إِلَى بَيْتِكَ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِي أَمْرِكِ» فَنَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ لِلرِّجَالِ نَصِيبًا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبًا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنِ الْمِقْدَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْوَصِيَّيْنِ وَقَالَ: «لَا تَقْرَبَا مِنْ مَالِ أَوْسٍ شَيْئًا» ثُمَّ نَزَلَ بَعْدُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاءِ: ١١] وَنَزَلَ فَرْضُ الزَّوْجِ وَفَرْضُ الْمَرْأَةِ، فَأَمَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَدْفَعَا إِلَى الْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَيُمْسِكَا نَصِيبَ الْبَنَاتِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِمَا أَنِ ادْفَعَا نَصِيبَ بَنَاتِهَا إِلَيْهَا فَدَفَعَاهُ إِلَيْهَا،
فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَيَقُولُونَ لَا يَرِثُ إِلَّا مَنْ طَاعَنَ بِالرِّمَاحِ وَذَادَ عَنِ الْحَوْزَةِ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِرْثَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالرِّجَالِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا الْقَدْرَ، ثُمَّ ذَكَرَ التَّفْصِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَمْتَنِعُ إِذَا كَانَ لِلْقَوْمِ عَادَةٌ فِي تَوْرِيثِ الْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ وَدُونَ النِّسَاءِ، أَنْ يَنْقُلَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْعَادَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلَى التَّدْرِيجِ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ عَنِ الْعَادَةِ شَاقٌّ ثَقِيلٌ عَلَى الطَّبْعِ، فَإِذَا كَانَ دُفْعَةً عَظُمَ وَقْعُهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى التَّدْرِيجِ سَهُلَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمُجْمَلَ أَوَّلًا، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ: / لِأَنَّ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ والأخوال وَأَوْلَادَ الْبَنَاتِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، فَوَجَبَ دُخُولُهُمْ تَحْتَ قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَدْرَ ذَلِكَ النَّصِيبِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّا نُثْبِتُ كَوْنَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِأَصِلِ النَّصِيبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا الْمِقْدَارُ فَنَسْتَفِيدُهُ مِنْ سَائِرِ الدَّلَائِلِ.
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً أَيْ نَصِيبًا مُقَدَّرًا، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَقْرَبِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ؟ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي دُخُولَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ نَسَبٌ مَعَ غَيْرِهِ إِمَّا بِوَجْهٍ قَرِيبٍ أَوْ بِوَجْهٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السلام،
[سورة النساء (٤) : آية ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَارِيثِ وَالْفَرَائِضِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثِ بَنَاتٍ وَامْرَأَةٍ، فَجَاءَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ وَهُمَا وَصِيَّانِ لَهُ يُقَالُ لَهُمَا: سُوَيْدٌ، وَعَرْفَجَةُ وَأَخَذَا مَالَهُ. فَجَاءَتِ امْرَأَةُ أَوْسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَتِ الْقِصَّةَ، وَذَكَرَتْ أَنَّ الْوَصِيَّيْنِ مَا دَفَعَا إِلَيَّ بَنَاتِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ارْجِعِي إِلَى بَيْتِكَ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِي أَمْرِكِ» فَنَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ لِلرِّجَالِ نَصِيبًا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبًا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنِ الْمِقْدَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْوَصِيَّيْنِ وَقَالَ: «لَا تَقْرَبَا مِنْ مَالِ أَوْسٍ شَيْئًا» ثُمَّ نَزَلَ بَعْدُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاءِ: ١١] وَنَزَلَ فَرْضُ الزَّوْجِ وَفَرْضُ الْمَرْأَةِ، فَأَمَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَدْفَعَا إِلَى الْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَيُمْسِكَا نَصِيبَ الْبَنَاتِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِمَا أَنِ ادْفَعَا نَصِيبَ بَنَاتِهَا إِلَيْهَا فَدَفَعَاهُ إِلَيْهَا،
فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَيَقُولُونَ لَا يَرِثُ إِلَّا مَنْ طَاعَنَ بِالرِّمَاحِ وَذَادَ عَنِ الْحَوْزَةِ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِرْثَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالرِّجَالِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا الْقَدْرَ، ثُمَّ ذَكَرَ التَّفْصِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَمْتَنِعُ إِذَا كَانَ لِلْقَوْمِ عَادَةٌ فِي تَوْرِيثِ الْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ وَدُونَ النِّسَاءِ، أَنْ يَنْقُلَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْعَادَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلَى التَّدْرِيجِ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ عَنِ الْعَادَةِ شَاقٌّ ثَقِيلٌ عَلَى الطَّبْعِ، فَإِذَا كَانَ دُفْعَةً عَظُمَ وَقْعُهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى التَّدْرِيجِ سَهُلَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمُجْمَلَ أَوَّلًا، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ: / لِأَنَّ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ والأخوال وَأَوْلَادَ الْبَنَاتِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، فَوَجَبَ دُخُولُهُمْ تَحْتَ قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَدْرَ ذَلِكَ النَّصِيبِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّا نُثْبِتُ كَوْنَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِأَصِلِ النَّصِيبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا الْمِقْدَارُ فَنَسْتَفِيدُهُ مِنْ سَائِرِ الدَّلَائِلِ.
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً أَيْ نَصِيبًا مُقَدَّرًا، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَقْرَبِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ؟ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي دُخُولَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ نَسَبٌ مَعَ غَيْرِهِ إِمَّا بِوَجْهٍ قَرِيبٍ أَوْ بِوَجْهٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السلام،
وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، فَيَلْزَمُ دُخُولُ كُلِّ الْخَلْقِ فِي هَذَا النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَجَبَ حَمْلُ النَّصِّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْوَالِدَانِ وَالْأَوْلَادُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّصَّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ ذَوُو الْأَرْحَامِ، لَا يُقَالُ: لَوْ حَمَلْنَا الْأَقْرَبِينَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْأَقْرَبُ جِنْسٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ نَوْعَانِ: الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْوَالِدَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَقْرَبِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ ذَكَرَ النَّوْعَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِنْسَ فَلَمْ يَلْزَمِ التَّكْرَارُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: نَصِيباً فِي نَصْبِهِ وَجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَصْبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِمَعْنَى أَعْنِي نَصِيبًا مَفْرُوضًا مَقْطُوعًا وَاجِبًا، وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ النَّصِيبَ اسْمٌ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَسَمًا وَاجِبًا، كَقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [التوبة: ٦٠، النِّسَاءِ: ١١] أَيْ قِسْمَةً مَفْرُوضَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَصْلُ الْفَرْضِ الْحَزُّ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَزُّ الَّذِي فِي سِيَةِ الْقَوْسِ فَرْضًا، وَالْحَزُّ الَّذِي فِي الْقِدَاحِ يُسَمَّى أَيْضًا فَرْضًا، وَهُوَ عَلَامَةٌ لَهَا تُمَيِّزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَالْفُرْضَةُ الْعَلَامَةُ فِي مَقْسِمِ الْمَاءِ، يَعْرِفُ بِهَا كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الشُّرْبِ، فَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ خَصَّصُوا لَفْظَ الْفَرْضِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَاسْمَ الْوُجُوبِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ، قَالُوا: لِأَنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَزِّ وَالْقَطْعِ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ السُّقُوطِ، يُقَالُ: وَجَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا سَقَطَتْ، وَوَجَبَ الْحَائِطُ إِذَا سَقَطَ، وَسَمِعْتُ وَجْبَةً يَعْنِي سَقْطَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها [الْحَجِّ: ٣٦] يَعْنِي سَقَطَتْ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَزِّ وَالْقَطْعِ، وَأَنَّ الْوُجُوبَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّقُوطِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَأْثِيرَ الْحَزِّ وَالْقَطْعِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ تَأْثِيرِ السُّقُوطِ. / فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّصَ أَصْحَابُ أَبِي حنيفة لفظة الْفَرْضِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَلَفْظَ الْوُجُوبِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ.
إِذَا عرفت هذا فنقول: هذا الذي قرروه يقتضي عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْآيَةَ مَا تَنَاوَلَتْ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا عُرِفَ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ تَوْرِيثُهُمْ فَرْضًا، وَالْآيَةُ إِنَّمَا تَنَاوَلَتِ التَّوْرِيثَ الْمَفْرُوضَ، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا تناولت ذوي الأرحام، والله أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَيِّ قِسْمَةٍ هِيَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى حصل لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ النِّسَاءَ أُسْوَةُ الرِّجَالِ فِي أَنَّ لَهُنَّ حَظًّا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَعَلِمَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْأَقَارِبِ مَنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ، وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ إِذَا حَضَرُوا وَقْتَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ تُرِكُوا مَحْرُومِينَ بِالْكُلِّيَّةِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ عِنْدَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يَحْصُلَ الْأَدَبُ الْجَمِيلُ وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْوَارِثُ إِنْ كَانَ كَبِيرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَخَ لِمَنْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ مَا تَطِيبُ نَفْسُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ إِعْطَاؤُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ الْوَارِثُ كَبِيرًا، وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِعْطَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وإن
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: نَصِيباً فِي نَصْبِهِ وَجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَصْبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِمَعْنَى أَعْنِي نَصِيبًا مَفْرُوضًا مَقْطُوعًا وَاجِبًا، وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ النَّصِيبَ اسْمٌ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَسَمًا وَاجِبًا، كَقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [التوبة: ٦٠، النِّسَاءِ: ١١] أَيْ قِسْمَةً مَفْرُوضَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَصْلُ الْفَرْضِ الْحَزُّ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَزُّ الَّذِي فِي سِيَةِ الْقَوْسِ فَرْضًا، وَالْحَزُّ الَّذِي فِي الْقِدَاحِ يُسَمَّى أَيْضًا فَرْضًا، وَهُوَ عَلَامَةٌ لَهَا تُمَيِّزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَالْفُرْضَةُ الْعَلَامَةُ فِي مَقْسِمِ الْمَاءِ، يَعْرِفُ بِهَا كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الشُّرْبِ، فَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ خَصَّصُوا لَفْظَ الْفَرْضِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَاسْمَ الْوُجُوبِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ، قَالُوا: لِأَنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَزِّ وَالْقَطْعِ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ السُّقُوطِ، يُقَالُ: وَجَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا سَقَطَتْ، وَوَجَبَ الْحَائِطُ إِذَا سَقَطَ، وَسَمِعْتُ وَجْبَةً يَعْنِي سَقْطَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها [الْحَجِّ: ٣٦] يَعْنِي سَقَطَتْ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَزِّ وَالْقَطْعِ، وَأَنَّ الْوُجُوبَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّقُوطِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَأْثِيرَ الْحَزِّ وَالْقَطْعِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ تَأْثِيرِ السُّقُوطِ. / فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّصَ أَصْحَابُ أَبِي حنيفة لفظة الْفَرْضِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَلَفْظَ الْوُجُوبِ بِمَا عُرِفَ وَجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ.
إِذَا عرفت هذا فنقول: هذا الذي قرروه يقتضي عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْآيَةَ مَا تَنَاوَلَتْ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا عُرِفَ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ تَوْرِيثُهُمْ فَرْضًا، وَالْآيَةُ إِنَّمَا تَنَاوَلَتِ التَّوْرِيثَ الْمَفْرُوضَ، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا تناولت ذوي الأرحام، والله أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَيِّ قِسْمَةٍ هِيَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى حصل لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ النِّسَاءَ أُسْوَةُ الرِّجَالِ فِي أَنَّ لَهُنَّ حَظًّا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَعَلِمَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْأَقَارِبِ مَنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ، وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ إِذَا حَضَرُوا وَقْتَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ تُرِكُوا مَحْرُومِينَ بِالْكُلِّيَّةِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ عِنْدَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يَحْصُلَ الْأَدَبُ الْجَمِيلُ وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْوَارِثُ إِنْ كَانَ كَبِيرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَخَ لِمَنْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ مَا تَطِيبُ نَفْسُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ إِعْطَاؤُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ الْوَارِثُ كَبِيرًا، وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِعْطَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وإن
503
كَانَ صَغِيرًا وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ، وَيَقُولَ: إِنِّي لَا أَمَلِكُ هَذَا الْمَالَ إِنَّمَا هُوَ لِهَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ، وَإِنْ يَكْبَرُوا فَسَيَعْرِفُونَ حَقَّكُمْ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: هَذَا الرَّضْخُ مُخْتَصٌّ بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى قِسْمَةِ الْأَرَضِينَ وَالرَّقِيقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَالَ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: ارْجِعُوا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، وَثَالِثُهَا: قَالُوا: مِقْدَارُ مَا يَجِبُ فِيهِ الرَّضْخُ شَيْءٌ قَلِيلٌ، وَلَا تَقْدِيرَ/ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُوبِ هَذَا الْحُكْمِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: الْآيَةُ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُعْطُونَ مَنْ حَضَرَ شَيْئًا مِنَ التَّرِكَةِ. رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَسَمَ مِيرَاثَ أَبِيهِ وَعَائِشَةُ حَيَّةٌ، فَلَمْ يَتْرُكْ فِي الدَّارِ أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَهَذَا كُلُّهُ تَفْصِيلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالْإِيجَابِ، وَهَذَا النَّدْبُ أَيْضًا إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَتِ الْوَرَثَةُ كِبَارًا، أَمَّا إِذَا كَانُوا صِغَارًا فَلَيْسَ إِلَّا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ لَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْرَ ذَلِكَ الْحَقِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَحَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ لِشِدَّةِ حِرْصِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عَلَى تَقْدِيرِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَنُقِلَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِسْمَةِ الْوَصِيَّةُ، فَإِذَا حَضَرَهَا مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ: قَوْلًا مَعْرُوفًا فِي الْوَقْتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُصُولِ السُّرُورِ إِلَيْهِمْ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذَكْرُ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْوَصِيَّةِ، وَيُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْوَصِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى فَالْمُرَادُ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى الَّذِينَ يَرِثُونَ والمراد من اليتامى وَالْمَسَاكِينُ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ.
ثُمَّ قَالَ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً فَقَوْلُهُ: فَارْزُقُوهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْبَى الَّذِينَ يَرِثُونَ وَقَوْلُهُ:
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً رَاجِعٌ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى مَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمِيرَاثِ فَتَكُونُ الْكِنَايَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدَةٌ إِلَى مَعْنَى الْقِسْمَةِ، لَا إِلَى لَفْظِهَا كَقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ [يُوسُفَ: ٧٦] وَالصُّوَاعُ مُذَكَّرٌ لَا يُكَنَّى عَنْهُ بالتأنيث، لكن ريد بِهِ الْمَشْرَبَةُ فَعَادَتِ الْكِنَايَةُ إِلَى الْمَعْنَى لَا إِلَى اللَّفْظِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ/ فَالْمُرَادُ بِالْقِسْمَةِ الْمَقْسُومُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ الرِّزْقُ مِنَ الْمَقْسُومِ لَا مِنْ نَفْسِ الْقِسْمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ الْيَتَامَى عَلَى الْمَسَاكِينِ لِأَنَّ ضَعْفَ الْيَتَامَى أَكْثَرُ، وَحَاجَتَهُمْ أَشَدُّ، فَكَانَ وَضْعُ الصَّدَقَاتِ فِيهِمْ أَفْضَلَ وَأَعْظَمَ فِي الْأَجْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَشْبَهُ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يُتْبِعُ الْعَطِيَّةَ الْمَنَّ وَالْأَذَى بِالْقَوْلِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ الْوَعْدَ بِالزِّيَادَةِ وَالِاعْتِذَارَ لِمَنْ لَمْ يُعْطِهُ شيئا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِسْمَةِ الْوَصِيَّةُ، فَإِذَا حَضَرَهَا مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ: قَوْلًا مَعْرُوفًا فِي الْوَقْتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُصُولِ السُّرُورِ إِلَيْهِمْ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذَكْرُ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْوَصِيَّةِ، وَيُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْوَصِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى فَالْمُرَادُ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى الَّذِينَ يَرِثُونَ والمراد من اليتامى وَالْمَسَاكِينُ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ.
ثُمَّ قَالَ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً فَقَوْلُهُ: فَارْزُقُوهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْبَى الَّذِينَ يَرِثُونَ وَقَوْلُهُ:
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً رَاجِعٌ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى مَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمِيرَاثِ فَتَكُونُ الْكِنَايَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدَةٌ إِلَى مَعْنَى الْقِسْمَةِ، لَا إِلَى لَفْظِهَا كَقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ [يُوسُفَ: ٧٦] وَالصُّوَاعُ مُذَكَّرٌ لَا يُكَنَّى عَنْهُ بالتأنيث، لكن ريد بِهِ الْمَشْرَبَةُ فَعَادَتِ الْكِنَايَةُ إِلَى الْمَعْنَى لَا إِلَى اللَّفْظِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ/ فَالْمُرَادُ بِالْقِسْمَةِ الْمَقْسُومُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ الرِّزْقُ مِنَ الْمَقْسُومِ لَا مِنْ نَفْسِ الْقِسْمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ الْيَتَامَى عَلَى الْمَسَاكِينِ لِأَنَّ ضَعْفَ الْيَتَامَى أَكْثَرُ، وَحَاجَتَهُمْ أَشَدُّ، فَكَانَ وَضْعُ الصَّدَقَاتِ فِيهِمْ أَفْضَلَ وَأَعْظَمَ فِي الْأَجْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَشْبَهُ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يُتْبِعُ الْعَطِيَّةَ الْمَنَّ وَالْأَذَى بِالْقَوْلِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ الْوَعْدَ بِالزِّيَادَةِ وَالِاعْتِذَارَ لِمَنْ لَمْ يُعْطِهُ شيئا.
504
[سورة النساء (٤) : آية ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ هِيَ صِلَةٌ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ وَالْمَعْنَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الَّذِي يُخْشَى عَلَيْهِ فَغَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَسَنَذْكُرُ وُجُوهَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ لِلذُّرِّيَّةِ الضِّعَافِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ عِنْدَ الْمَرِيضِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَرِّيَّتَكَ لَا يُغْنُونَ عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَأَوْصِ بِمَالِكَ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَلَا يَزَالُونَ يَأْمُرُونَهُ بِالْوَصِيَّةِ إِلَى الْأَجَانِبِ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ مَالِهِ لِلْوَرَثَةِ شَيْءٌ أَصْلًا، فَقِيلَ لَهُمْ: كَمَا أَنَّكُمْ تَكْرَهُونَ بَقَاءَ أَوْلَادِكُمْ فِي الضَّعْفِ وَالْجُوعِ مِنْ غَيْرِ مَالٍ، فَاخْشَوُا اللَّهَ وَلَا تَحْمِلُوا الْمَرِيضَ عَلَى أَنْ يَحْرِمَ أَوْلَادَهُ الضُّعَفَاءَ مِنْ مَالِهِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّكَ لَا تَرْضَى مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ لِنَفْسِكَ، فَلَا تَرْضَهُ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: سَأَلْتُ مِقْسَمًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ وَيُرِيدُ الْوَصِيَّةَ لِلْأَجَانِبِ، فَيَقُولُ لَهُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَى وَلَدِكَ مَالَكَ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الإنسان يجب أَنْ يُوصَى لَهُ، فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَهْيِ الْحَاضِرِينَ/ عَنِ التَّرْغِيبِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي مَحْمُولَةٌ عَلَى نَهْيِ الحاضرين عن النهي عن الوصية، والأولى أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً أَشْبَهُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ خِطَابًا لِمَنْ قَرُبَ أَجَلُهُ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ نَهْيَهُ عَنْ تَكْثِيرِ الْوَصِيَّةِ لِئَلَّا تَبْقَى وَرَثَتُهُ ضَائِعِينَ جَائِعِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ قَبْلَ تَقْدِيرِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنْ لَا يَجْعَلَ التَّرِكَةَ مُسْتَغْرَقَةً بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ تَقْدِيرِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنْ يُوصِيَ أَيْضًا بِالثُّلُثِ، بَلْ يَنْقُصُ إِذَا خَافَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ وَصَّوْا بِالْقَلِيلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْخُمُسُ أَفْضَلُ مِنَ الرُّبُعِ، وَالرُّبُعُ أَفْضَلُ مِنَ الثُّلُثِ، وَخَبَرُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لِأَوْلِيَاءِ الْيَتِيمِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلْيَخْشَ مَنْ يَخَافُ عَلَى وَلَدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَضِيعَ مَالُ الْيَتِيمِ الضَّعِيفِ الَّذِي هُوَ ذُرِّيَّةُ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَبْعَثَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى حِفْظِ مَالِهِ، وَأَنْ يُتْرَكَ نَفْسَهُ فِي حِفْظِهِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي ذُرِّيَّتِهِ لَوْ خَلَفَهُمْ وَخَلَفَ لَهُمْ مَالًا. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَلْيَقُ بِمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ الْأَيْتَامِ، فَجَعَلَ تَعَالَى آخِرَ مَا دَعَاهُمْ إِلَى حِفْظِ مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ عَلَى حَالِ أَنْفُسِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إِذَا تَصَوَّرُوهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي وَالْبَوَاعِثِ فِي هَذَا المقصود.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ ضُعَفَاءَ، وَضُعَافَى، وَضَعَافَى: نَحْوُ سُكَارَى وَسَكَارَى.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَرَأَ حَمْزَةُ ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ بِالْإِمَالَةِ فِيهِمَا ثُمَّ قَالَ: وَوَجْهُ إِمَالَةِ ضِعَافٍ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ، وَكَانَ أَوَّلُهُ حَرْفًا مُسْتَعْلِيًا مَكْسُورًا نَحْوُ ضِعَافٍ، وَغِلَابٍ، وَخِبَابٍ، يَحْسُنُ فِيهِ الْإِمَالَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصَعَّدَ بِالْحَرْفِ الْمُسْتَعْلِي ثُمَّ انْحَدَرَ بِالْكَسْرَةِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَصَعَّدَ بِالتَّفْخِيمِ بَعْدَ الْكَسْرِ حَتَّى يُوجَدَ الصَّوْتُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا الْإِمَالَةُ فِي خافُوا فَهِيَ حَسَنَةٌ لِأَنَّهَا تَطْلُبُ الْكَسْرَةَ الَّتِي فِي خِفْتُ، ثُمَّ قَالَ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً وَهُوَ كَالتَّقْرِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ، وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِذَا أَرَادُوا بَعْثَ غَيْرِهِمْ عَلَى فِعْلٍ وَعَمَلٍ، وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ هُوَ الْعَدْلُ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ.
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ أَنْ لَا يُؤْذُوا الْيَتَامَى، وَيُكَلِّمُوهُمْ كَمَا يُكَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ بِالتَّرْحِيبِ وَإِذَا خَاطَبُوهُمْ قَالُوا يَا بُنَيَّ، يَا وَلَدِي، وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْجَالِسِينَ إِلَى الْمَرِيضِ أَنْ يَقُولُوا: إِذَا أَرَدْتَ الْوَصِيَّةَ لَا تُسْرِفْ فِي وَصِيَّتِكَ وَلَا تُجْحِفْ بِأَوْلَادِكَ، مِثْلُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْوَرَثَةِ حَالَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ لِلْحَاضِرِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، أَنْ يُلْطِفُوا الْقَوْلَ لَهُمْ وَيَخُصُّوهُمْ بالإكرام.
[سورة النساء (٤) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ الْوَعِيدَ فِي أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا، وَقَدْ كَثُرَ الْوَعِيدُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: ٢] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النساء: ٩] ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا هَذِهِ الْآيَةَ مُفْرَدَةً فِي وَعِيدِ مَنْ يَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَتَامَى لِأَنَّهُمْ لِكَمَالِ ضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمُ اسْتَحَقُّوا مِنَ اللَّهِ مَزِيدَ الْعِنَايَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَمَا أَشَدَّ دَلَالَةَ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَكَثْرَةِ عَفْوِهِ وَفَضْلِهِ، لِأَنَّ الْيَتَامَى لَمَّا بَلَغُوا فِي الضَّعْفِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى بَلَغَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ بِهِمْ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ قَدْ يُؤْكَلُ غَيْرَ ظُلْمٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُجْرَى ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ قَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا أَكَلَ الرَّجُلُ مَالَ الْيَتِيمِ ظُلْمًا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهَبُ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ وَمَسَامِعِهِ وَأُذُنَيْهِ وَعَيْنَيْهِ، يَعْرِفُ كُلُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْيَتِيمِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ قَوْمًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنَ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ: فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا».
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ تَوَسُّعٌ، وَالْمُرَادُ: إِنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ جَارٍ مَجْرَى أَكْلِ النَّارِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُفْضِي إِلَيْهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: / وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى:
٤٠] قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى التَّوَسُّعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْأَكْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْبَطْنِ فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَرَأَ حَمْزَةُ ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ بِالْإِمَالَةِ فِيهِمَا ثُمَّ قَالَ: وَوَجْهُ إِمَالَةِ ضِعَافٍ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ، وَكَانَ أَوَّلُهُ حَرْفًا مُسْتَعْلِيًا مَكْسُورًا نَحْوُ ضِعَافٍ، وَغِلَابٍ، وَخِبَابٍ، يَحْسُنُ فِيهِ الْإِمَالَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصَعَّدَ بِالْحَرْفِ الْمُسْتَعْلِي ثُمَّ انْحَدَرَ بِالْكَسْرَةِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَصَعَّدَ بِالتَّفْخِيمِ بَعْدَ الْكَسْرِ حَتَّى يُوجَدَ الصَّوْتُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا الْإِمَالَةُ فِي خافُوا فَهِيَ حَسَنَةٌ لِأَنَّهَا تَطْلُبُ الْكَسْرَةَ الَّتِي فِي خِفْتُ، ثُمَّ قَالَ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً وَهُوَ كَالتَّقْرِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ، وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِذَا أَرَادُوا بَعْثَ غَيْرِهِمْ عَلَى فِعْلٍ وَعَمَلٍ، وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ هُوَ الْعَدْلُ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ.
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ أَنْ لَا يُؤْذُوا الْيَتَامَى، وَيُكَلِّمُوهُمْ كَمَا يُكَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ بِالتَّرْحِيبِ وَإِذَا خَاطَبُوهُمْ قَالُوا يَا بُنَيَّ، يَا وَلَدِي، وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْجَالِسِينَ إِلَى الْمَرِيضِ أَنْ يَقُولُوا: إِذَا أَرَدْتَ الْوَصِيَّةَ لَا تُسْرِفْ فِي وَصِيَّتِكَ وَلَا تُجْحِفْ بِأَوْلَادِكَ، مِثْلُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْوَرَثَةِ حَالَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ لِلْحَاضِرِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، أَنْ يُلْطِفُوا الْقَوْلَ لَهُمْ وَيَخُصُّوهُمْ بالإكرام.
[سورة النساء (٤) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ الْوَعِيدَ فِي أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا، وَقَدْ كَثُرَ الْوَعِيدُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: ٢] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النساء: ٩] ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا هَذِهِ الْآيَةَ مُفْرَدَةً فِي وَعِيدِ مَنْ يَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَتَامَى لِأَنَّهُمْ لِكَمَالِ ضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمُ اسْتَحَقُّوا مِنَ اللَّهِ مَزِيدَ الْعِنَايَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَمَا أَشَدَّ دَلَالَةَ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَكَثْرَةِ عَفْوِهِ وَفَضْلِهِ، لِأَنَّ الْيَتَامَى لَمَّا بَلَغُوا فِي الضَّعْفِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى بَلَغَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ بِهِمْ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ قَدْ يُؤْكَلُ غَيْرَ ظُلْمٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُجْرَى ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ قَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا أَكَلَ الرَّجُلُ مَالَ الْيَتِيمِ ظُلْمًا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهَبُ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ وَمَسَامِعِهِ وَأُذُنَيْهِ وَعَيْنَيْهِ، يَعْرِفُ كُلُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْيَتِيمِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ قَوْمًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنَ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ: فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا».
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ تَوَسُّعٌ، وَالْمُرَادُ: إِنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ جَارٍ مَجْرَى أَكْلِ النَّارِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُفْضِي إِلَيْهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: / وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى:
٤٠] قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى التَّوَسُّعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْأَكْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْبَطْنِ فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.
506
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٧] وَالْقَوْلُ لَا يَكُونُ إلا بالفهم، وَقَالَ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: ٤٦] وَالْقَلْبُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الصَّدْرِ، وَقَالَ:
وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: ٣٨] وَالطَّيَرَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْجَنَاحِ، وَالْغَرَضُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ ذَكَرَ الْأَكْلَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ أَنْوَاعِ الْإِتْلَافَاتِ، فَإِنَّ ضَرَرَ الْيَتِيمِ لَا يَخْتَلِفُ بِأَنْ يَكُونَ إِتْلَافُ مَالِهِ بِالْأَكْلِ، أَوْ بِطْرِيقٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَكْلَ وَأَرَادَ بِهِ كُلَّ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتْلِفَةِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عَامَّةَ مَالِ الْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ الْأَنْعَامُ الَّتِي يَأْكُلُ لُحُومَهَا وَيَشْرَبُ أَلْبَانَهَا. فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى عَادَتِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ فِيمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي وُجُوهِ مُرَادَاتِهِ خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا، أَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ أَكَلَ مَالَهُ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَكْلَ هُوَ الْمُعَظَّمُ فِيمَا يُبْتَغَى مِنَ التَّصَرُّفَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وَعِيدِ كُلِّ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ، سَوَاءً كَانَ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْكُلُّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ وَقَوْلُهُ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً يُوجِبُ الْقَطْعَ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى غَيْرِ تَوْبَةٍ يَصْلَوْنَ هَذَا السَّعِيرَ لَا مَحَالَةَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَعِيدُ مَخْصُوصًا بِالْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٤] ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ أَكْلُ الْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ الْوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ تَوْبَةٌ وَلَا طَاعَةٌ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي يَقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ مَنْ تَكُونُ مَعْصِيَتُهُ كَبِيرَةً وَلَا يَكُونُ مَعَهَا تَوْبَةٌ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ أَنْ يَطْلُبَ قَدْرَ مَا يَكُونُ كَثِيرًا مَنْ أُكِلَ مَالُهُ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: قَدْرُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي وَقَعَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ فِي آيَةِ الْكَنْزِ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ، هَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَيُقَالُ لَهُ: فَأَنْتَ قَدْ خَالَفْتَ ظَاهِرَ هَذَا الْعُمُومِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ عَدَمَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نزيد فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ عَدَمَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَزِيدَ فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ الْعَفْوِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجَدْنَا دَلِيلًا يَدُلُّ/ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ، لَكِنَّا نُجِيبُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ دَلَائِلَ الْعَفْوِ، بَلْ هِيَ كَثِيرَةٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّكُمْ مَا وَجَدْتُمُوهَا لَكِنَّ عَدَمَ الْوِجْدَانِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِعَدَمِ الْوُجُودِ، بَلْ يَبْقَى الِاحْتِمَالُ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِفَادَةِ الْقَطْعِ وَالْجَزْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ وَعِيدَ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِالْكَيِّ فَقَالَ: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التَّوْبَةِ: ٣٥] وَذَكَرَ وَعِيدَ آكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ بِامْتِلَاءِ الْبَطْنِ مِنَ النَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ أَشَدُّ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ الْفَقِيرَ غَيْرُ مَالِكٍ لِجُزْءٍ مِنَ النِّصَابِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يُمَلِّكَهُ جزأ من ماله، أما هاهنا الْيَتِيمُ مَالِكٌ لِذَلِكَ الْمَالِ فَكَانَ مَنْعُهُ مِنَ الْيَتِيمِ أَقْبَحَ، فَكَانَ الْوَعِيدُ أَشَدَّ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَكُونُ كَبِيرًا فَيَقْدِرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ، أَمَّا الْيَتِيمُ فَإِنَّهُ لِصِغَرِهِ وَضَعْفِهِ عَاجِزٌ فَكَانَ الْوَعِيدُ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ أَشَدَّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَسَيَصْلَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ يُدْخَلُونَ النَّارَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ: صَلِيَ الرَّجُلُ النَّارَ يَصْلَاهَا صَلًى وَصِلَاءً، وَهُوَ صَالِي النَّارِ، وَقَوْمٌ صَالُونَ وصلاء قال تعالى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: ١٦٣] وَقَالَ: أَوْلى بِها
وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: ٣٨] وَالطَّيَرَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْجَنَاحِ، وَالْغَرَضُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ ذَكَرَ الْأَكْلَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ أَنْوَاعِ الْإِتْلَافَاتِ، فَإِنَّ ضَرَرَ الْيَتِيمِ لَا يَخْتَلِفُ بِأَنْ يَكُونَ إِتْلَافُ مَالِهِ بِالْأَكْلِ، أَوْ بِطْرِيقٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَكْلَ وَأَرَادَ بِهِ كُلَّ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتْلِفَةِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عَامَّةَ مَالِ الْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ الْأَنْعَامُ الَّتِي يَأْكُلُ لُحُومَهَا وَيَشْرَبُ أَلْبَانَهَا. فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى عَادَتِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ فِيمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي وُجُوهِ مُرَادَاتِهِ خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا، أَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ أَكَلَ مَالَهُ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَكْلَ هُوَ الْمُعَظَّمُ فِيمَا يُبْتَغَى مِنَ التَّصَرُّفَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وَعِيدِ كُلِّ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ، سَوَاءً كَانَ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْكُلُّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ وَقَوْلُهُ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً يُوجِبُ الْقَطْعَ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى غَيْرِ تَوْبَةٍ يَصْلَوْنَ هَذَا السَّعِيرَ لَا مَحَالَةَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَعِيدُ مَخْصُوصًا بِالْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٤] ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ أَكْلُ الْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ الْوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ تَوْبَةٌ وَلَا طَاعَةٌ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي يَقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ مَنْ تَكُونُ مَعْصِيَتُهُ كَبِيرَةً وَلَا يَكُونُ مَعَهَا تَوْبَةٌ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ أَنْ يَطْلُبَ قَدْرَ مَا يَكُونُ كَثِيرًا مَنْ أُكِلَ مَالُهُ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: قَدْرُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي وَقَعَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ فِي آيَةِ الْكَنْزِ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ، هَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَيُقَالُ لَهُ: فَأَنْتَ قَدْ خَالَفْتَ ظَاهِرَ هَذَا الْعُمُومِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ عَدَمَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نزيد فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ عَدَمَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَزِيدَ فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ الْعَفْوِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجَدْنَا دَلِيلًا يَدُلُّ/ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ، لَكِنَّا نُجِيبُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ دَلَائِلَ الْعَفْوِ، بَلْ هِيَ كَثِيرَةٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّكُمْ مَا وَجَدْتُمُوهَا لَكِنَّ عَدَمَ الْوِجْدَانِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِعَدَمِ الْوُجُودِ، بَلْ يَبْقَى الِاحْتِمَالُ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِفَادَةِ الْقَطْعِ وَالْجَزْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ وَعِيدَ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِالْكَيِّ فَقَالَ: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التَّوْبَةِ: ٣٥] وَذَكَرَ وَعِيدَ آكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ بِامْتِلَاءِ الْبَطْنِ مِنَ النَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ أَشَدُّ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ الْفَقِيرَ غَيْرُ مَالِكٍ لِجُزْءٍ مِنَ النِّصَابِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يُمَلِّكَهُ جزأ من ماله، أما هاهنا الْيَتِيمُ مَالِكٌ لِذَلِكَ الْمَالِ فَكَانَ مَنْعُهُ مِنَ الْيَتِيمِ أَقْبَحَ، فَكَانَ الْوَعِيدُ أَشَدَّ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَكُونُ كَبِيرًا فَيَقْدِرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ، أَمَّا الْيَتِيمُ فَإِنَّهُ لِصِغَرِهِ وَضَعْفِهِ عَاجِزٌ فَكَانَ الْوَعِيدُ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ أَشَدَّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَسَيَصْلَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ يُدْخَلُونَ النَّارَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ: صَلِيَ الرَّجُلُ النَّارَ يَصْلَاهَا صَلًى وَصِلَاءً، وَهُوَ صَالِي النَّارِ، وَقَوْمٌ صَالُونَ وصلاء قال تعالى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: ١٦٣] وَقَالَ: أَوْلى بِها
507
صِلِيًّا
[مريم: ٧٠] وقال: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها [إبراهيم: ٢٩، ص: ٥٦، المجادلة: ٨] قال الفراء: الصلي:
اسم الوقود وهو الصلاة إِذَا كَسَرْتَ مَدَتَّ، وَإِذَا فَتَحْتَ قَصَرْتَ، وَمَنْ ضَمَّ الْيَاءَ فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَصْلَاهُ اللَّهُ حَرَّ النَّارِ إِصْلَاءً. قَالَ: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النِّسَاءِ: ٣٠] وَقَالَ تَعَالَى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٢٦] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ سَيَصْلَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السَّعِيرُ: هُوَ النَّارُ الْمُسْتَعِرَةُ يُقَالُ: سَعَرْتُ النَّارَ أَسْعَرُهَا سَعْرًا فَهِي مَسْعُورَةٌ وَسَعِيرٌ، وَالسَّعِيرُ مَعْدُولٌ عَنْ مَسْعُورَةٍ كَمَا عُدِلَ كَفٌّ خَضِيبٌ عَنْ مَخْضُوبَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: سَعِيراً لِأَنَّ الْمُرَادَ نَارٌ مِنَ النِّيرَانِ مُبْهَمَةٌ لَا يَعْرِفُ غَايَةَ شِدَّتِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَاحْتَرَزُوا عَنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَصَعُبَ الْأَمْرُ عَلَى الْيَتَامَى فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٠] وَمِنَ الْجُهَّالِ مَنْ قَالَ:
صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِتِلْكَ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمَنْعِ مِنَ الظُّلْمِ وَهَذَا لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ مُخَالَطَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْإِثْمِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْبِرِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ والله أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
[في قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى قوله تعالى فَلَهَا النِّصْفُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّسَبُ، وَالْآخَرُ الْعَهْدُ، أَمَّا النَّسَبُ فَهُمْ مَا كَانُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ. وَإِنَّمَا كَانُوا يُوَرِّثُونَ مِنَ الْأَقَارِبِ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْخَيْلِ وَيَأْخُذُونَ الْغَنِيمَةَ، وَأَمَّا الْعَهْدُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْحِلْفُ، كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ، فَإِذَا تَعَاهَدُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَيُّهَمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتَرَطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَالثَّانِي: التَّبَنِّي، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَبَنَّى ابْنَ غَيْرِهِ فَيُنْسَبُ إِلَيْهِ دُونَ أَبِيهِ مِنَ النَّسَبِ وَيَرِثُهُ، وَهَذَا التَّبَنِّي نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعَاهَدَةِ، وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: بَلْ قَرَّرَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاءِ: ٣٣] وَالْمُرَادُ التَّوَارُثُ بِالنَّسَبِ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النِّسَاءِ: ٣٣] وَالْمُرَادُ بِهِ التَّوَارُثُ بِالْعَهْدِ، وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّصِيبَ مِنَ الْمَالِ، بَلِ الْمُرَادُ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، فَهَذَا شَرْحُ أَسْبَابِ التَّوَارُثِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
[مريم: ٧٠] وقال: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها [إبراهيم: ٢٩، ص: ٥٦، المجادلة: ٨] قال الفراء: الصلي:
اسم الوقود وهو الصلاة إِذَا كَسَرْتَ مَدَتَّ، وَإِذَا فَتَحْتَ قَصَرْتَ، وَمَنْ ضَمَّ الْيَاءَ فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَصْلَاهُ اللَّهُ حَرَّ النَّارِ إِصْلَاءً. قَالَ: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النِّسَاءِ: ٣٠] وَقَالَ تَعَالَى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٢٦] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ سَيَصْلَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السَّعِيرُ: هُوَ النَّارُ الْمُسْتَعِرَةُ يُقَالُ: سَعَرْتُ النَّارَ أَسْعَرُهَا سَعْرًا فَهِي مَسْعُورَةٌ وَسَعِيرٌ، وَالسَّعِيرُ مَعْدُولٌ عَنْ مَسْعُورَةٍ كَمَا عُدِلَ كَفٌّ خَضِيبٌ عَنْ مَخْضُوبَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: سَعِيراً لِأَنَّ الْمُرَادَ نَارٌ مِنَ النِّيرَانِ مُبْهَمَةٌ لَا يَعْرِفُ غَايَةَ شِدَّتِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَاحْتَرَزُوا عَنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَصَعُبَ الْأَمْرُ عَلَى الْيَتَامَى فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٠] وَمِنَ الْجُهَّالِ مَنْ قَالَ:
صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِتِلْكَ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمَنْعِ مِنَ الظُّلْمِ وَهَذَا لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ مُخَالَطَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْإِثْمِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْبِرِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ والله أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
[في قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى قوله تعالى فَلَهَا النِّصْفُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّسَبُ، وَالْآخَرُ الْعَهْدُ، أَمَّا النَّسَبُ فَهُمْ مَا كَانُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ. وَإِنَّمَا كَانُوا يُوَرِّثُونَ مِنَ الْأَقَارِبِ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْخَيْلِ وَيَأْخُذُونَ الْغَنِيمَةَ، وَأَمَّا الْعَهْدُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْحِلْفُ، كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ، فَإِذَا تَعَاهَدُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَيُّهَمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتَرَطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَالثَّانِي: التَّبَنِّي، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَبَنَّى ابْنَ غَيْرِهِ فَيُنْسَبُ إِلَيْهِ دُونَ أَبِيهِ مِنَ النَّسَبِ وَيَرِثُهُ، وَهَذَا التَّبَنِّي نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعَاهَدَةِ، وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: بَلْ قَرَّرَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاءِ: ٣٣] وَالْمُرَادُ التَّوَارُثُ بِالنَّسَبِ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النِّسَاءِ: ٣٣] وَالْمُرَادُ بِهِ التَّوَارُثُ بِالْعَهْدِ، وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّصِيبَ مِنَ الْمَالِ، بَلِ الْمُرَادُ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، فَهَذَا شَرْحُ أَسْبَابِ التَّوَارُثِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
508
وَأَمَّا أَسْبَابُ التَّوَارُثِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَرَّرَ الْحِلْفَ وَالتَّبَنِّيَ، وَزَادَ فِيهِ أَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْهِجْرَةُ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ مِنَ الْمُهَاجِرِ. وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصًّا بِالْآخَرِ بِمَزِيدِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُخَالَصَةِ، وَلَا يَرِثُهُ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقَارِبِهِ. وَالثَّانِي: الْمُؤَاخَاةُ، كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَاخِي بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّوَارُثِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَ كُلَّ هَذِهِ الأسباب بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَحْزَابِ: ٦] وَالَّذِي تَقَرَّرَ عَلَيْهِ دِينُ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَسْبَابَ التَّوْرِيثِ ثَلَاثَةٌ: النَّسَبُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْوَلَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى عَطَاءٌ قَالَ: اسْتُشْهِدَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَامْرَأَةً وَأَخًا، فَأَخَذَ/ الْأَخُ الْمَالَ كُلَّهُ، فَأَتَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدٍ، وَإِنَّ سَعْدًا قُتِلَ وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا،
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ارْجِعِي فَلَعَلَّ اللَّهَ سَيَقْضِي فِيهِ» ثُمَّ إِنَّهَا عَادَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ وَبَكَتْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّهُمَا وَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ،
فَهَذَا أَوَّلُ مِيرَاثٍ قُسِمَ فِي الْإِسْلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي مَالِ الْأَيْتَامِ، وَمَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ، بَيَّنَ كَيْفَ يَمْلِكُ هَذَا الْيَتِيمُ الْمَالَ بِالْإِرْثِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيَانِ جُمْلَةِ أَحْكَامِ الْمِيرَاثِ، الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ حُكْمَ الْمِيرَاثِ بِالْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاءِ: ٧] فَذَكَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ، هَذَا الْمُفَصَّلَ فَقَالَ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أَيْ يَقُولُ اللَّهُ لَكُمْ قَوْلًا يُوصِلُكُمْ إِلَى إِيفَاءِ حُقُوقِ أَوْلَادِكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَأَصْلُ الْإِيصَاءِ هُوَ الْإِيصَالُ يُقَالُ: وَصَى يَصِي إِذَا وَصَلَ، وَأَوْصَى يُوصِي إِذَا أَوْصَلَ، فَإِذَا قِيلَ: أَوْصَانِي فَمَعْنَاهُ أَوْصَلَنِي إِلَى عِلْمِ مَا أَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِهِ، وَكَذَلِكَ وَصَّى وَهُوَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ قال الزجاج: معنى قوله هاهنا: يُوصِيكُمُ أَيْ يَفْرِضُ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ اللَّهِ إِيجَابٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ أوصيك لكذا فكيف قال هاهنا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
قُلْنَا: لَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ قَوْلًا، لَا جَرَمَ ذَكَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا وَقَالَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الْفَتْحِ:
٢٩] أَيْ قَالَ اللَّهُ: لَهُمْ مَغْفِرَةً لِأَنَّ الْوَعْدَ قَوْلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْإِنْسَانِ بِوَلَدِهِ أَشَدُّ التَّعَلُّقَاتِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي»
فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ مِيرَاثِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْأَوْلَادِ حَالَ انْفِرَادٍ، وَحَالَ اجْتِمَاعٍ مَعَ الْوَالِدَيْنِ: أَمَّا حَالُ الِانْفِرَادِ فَثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إِمَّا أَنْ يَخْلُفَ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ مَعًا، وَإِمَّا أَنْ يَخْلُفَ الْإِنَاثَ فَقَطْ، أَوِ الذُّكُورَ فَقَطْ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا إِذَا خَلَفَ الذُّكْرَانَ وَالْإِنَاثَ مَعًا، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الْحُكْمَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى عَطَاءٌ قَالَ: اسْتُشْهِدَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَامْرَأَةً وَأَخًا، فَأَخَذَ/ الْأَخُ الْمَالَ كُلَّهُ، فَأَتَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدٍ، وَإِنَّ سَعْدًا قُتِلَ وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا،
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ارْجِعِي فَلَعَلَّ اللَّهَ سَيَقْضِي فِيهِ» ثُمَّ إِنَّهَا عَادَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ وَبَكَتْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّهُمَا وَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ،
فَهَذَا أَوَّلُ مِيرَاثٍ قُسِمَ فِي الْإِسْلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي مَالِ الْأَيْتَامِ، وَمَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ، بَيَّنَ كَيْفَ يَمْلِكُ هَذَا الْيَتِيمُ الْمَالَ بِالْإِرْثِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيَانِ جُمْلَةِ أَحْكَامِ الْمِيرَاثِ، الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ حُكْمَ الْمِيرَاثِ بِالْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاءِ: ٧] فَذَكَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ، هَذَا الْمُفَصَّلَ فَقَالَ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أَيْ يَقُولُ اللَّهُ لَكُمْ قَوْلًا يُوصِلُكُمْ إِلَى إِيفَاءِ حُقُوقِ أَوْلَادِكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَأَصْلُ الْإِيصَاءِ هُوَ الْإِيصَالُ يُقَالُ: وَصَى يَصِي إِذَا وَصَلَ، وَأَوْصَى يُوصِي إِذَا أَوْصَلَ، فَإِذَا قِيلَ: أَوْصَانِي فَمَعْنَاهُ أَوْصَلَنِي إِلَى عِلْمِ مَا أَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِهِ، وَكَذَلِكَ وَصَّى وَهُوَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ قال الزجاج: معنى قوله هاهنا: يُوصِيكُمُ أَيْ يَفْرِضُ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ اللَّهِ إِيجَابٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ أوصيك لكذا فكيف قال هاهنا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
قُلْنَا: لَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ قَوْلًا، لَا جَرَمَ ذَكَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا وَقَالَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الْفَتْحِ:
٢٩] أَيْ قَالَ اللَّهُ: لَهُمْ مَغْفِرَةً لِأَنَّ الْوَعْدَ قَوْلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْإِنْسَانِ بِوَلَدِهِ أَشَدُّ التَّعَلُّقَاتِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي»
فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ مِيرَاثِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْأَوْلَادِ حَالَ انْفِرَادٍ، وَحَالَ اجْتِمَاعٍ مَعَ الْوَالِدَيْنِ: أَمَّا حَالُ الِانْفِرَادِ فَثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إِمَّا أَنْ يَخْلُفَ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ مَعًا، وَإِمَّا أَنْ يَخْلُفَ الْإِنَاثَ فَقَطْ، أَوِ الذُّكُورَ فَقَطْ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا إِذَا خَلَفَ الذُّكْرَانَ وَالْإِنَاثَ مَعًا، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الْحُكْمَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
509
واعلم أن هذا يفيد أحكاما: أحدهما: إِذَا خَلَفَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا وَاحِدًا وَأُنْثَى وَاحِدَةً فَلِلذَّكَرِ سَهْمَانِ وَلِلْأُنْثَى سَهْمٌ، وَثَانِيهَا: إِذَا كَانَ الْوَارِثُ جَمَاعَةٌ مِنَ الذُّكُورِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْإِنَاثِ كَانَ لِكُلِّ ذَكَرٍ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أُنْثَى سَهْمٌ. وَثَالِثُهَا:
إِذَا حَصَلَ مَعَ الْأَوْلَادِ جَمْعٌ آخَرُونَ مِنَ الْوَارِثِينَ كَالْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجَيْنِ فَهُمْ يَأْخُذُونَ سِهَامَهُمْ، وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ تِلْكَ السِّهَامِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُفِيدُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ الإناث فقط: بين تعالى أنهم إِنْ كُنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ الْبِنْتَيْنِ بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الثُّلُثَانِ فَرْضُ الثَّلَاثِ مِنَ الْبَنَاتِ فَصَاعِدًا، وَأَمَّا فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ فَهُوَ النِّصْفُ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَكَلِمَةُ «إِنْ» فِي اللُّغَةِ لِلِاشْتِرَاطِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الثُّلُثَيْنِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِنَّ ثَلَاثًا فَصَاعِدًا، وَذَلِكَ يَنْفِي حُصُولَ الثُّلُثَيْنِ لِلْبِنْتَيْنِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَازِمٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَجَعَلَ حُصُولَ النِّصْفِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهَا وَاحِدَةً، وَذَلِكَ يَنْفِي حُصُولَ النِّصْفِ نَصِيبًا لِلْبِنْتَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنْ صَحَّ فَهُوَ يُبْطِلُ قَوْلَهُ. الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنْ» تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الثِّنْتَيْنِ إِمَّا النِّصْفُ، وَإِمَّا الثُّلُثَانِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ «إِنْ» لِلِاشْتِرَاطِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِفَسَادِهِمَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ الِاشْتِرَاطِ يُفْضِي إِلَى الْبَاطِلِ فَكَانَ بَاطِلًا، ولأنه تعالى قال: وَإِنْ... لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة: ٢٨٣] وَقَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: ١٠١]، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفِيدَ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ: هُوَ أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأُمَّةِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: عَرَفْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا وَبِنْتًا فَهَهُنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِذَا كَانَ نَصِيبُ الذَّكَرِ مِثْلَ نَصِيبِ الْأُنْثَيَيْنِ، وَنَصِيبُ الذكر هاهنا هُوَ الثُّلُثَانِ، وَجَبَ لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الِابْنَتَيْنِ/ الثُّلُثَيْنِ، الثَّانِي: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا وَبِنْتًا فَهَهُنَا نَصِيبُ الْبِنْتِ الثُّلُثُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِذَا كَانَ نَصِيبُ الْبِنْتِ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ هُوَ الثُّلُثَ، فَبِأَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُمَا مَعَ وَلَدٍ آخَرَ أُنْثَى هُوَ الثُّلُثَ كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الذَّكَرَ أَقْوَى مِنَ الْأُنْثَى. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ حَظِّ الْأُنْثَى الْوَاحِدَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَظُّ الذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَى الْوَاحِدَةِ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ حَظِّ الْوَاحِدَةِ فَنَقُولُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الثُّلُثَانِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَالرَّابِعُ: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى بِنْتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الثُّلُثَيْنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْبَنَاتِ وَحُكْمَ الثَّلَاثِ فَمَا فَوْقَهُنَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ... فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ [النِّسَاءِ: ١٧٦] فَهَهُنَا ذَكَرَ مِيرَاثَ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ وَالْأُخْتَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِيرَاثَ الْأَخَوَاتِ الْكَثِيرَةِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُجْمَلًا مِنْ وَجْهٍ وَمُبَيَّنًا مِنْ وَجْهٍ، فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ كَانَتِ الْبِنْتَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ،
إِذَا حَصَلَ مَعَ الْأَوْلَادِ جَمْعٌ آخَرُونَ مِنَ الْوَارِثِينَ كَالْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجَيْنِ فَهُمْ يَأْخُذُونَ سِهَامَهُمْ، وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ تِلْكَ السِّهَامِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُفِيدُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ الإناث فقط: بين تعالى أنهم إِنْ كُنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ الْبِنْتَيْنِ بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الثُّلُثَانِ فَرْضُ الثَّلَاثِ مِنَ الْبَنَاتِ فَصَاعِدًا، وَأَمَّا فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ فَهُوَ النِّصْفُ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَكَلِمَةُ «إِنْ» فِي اللُّغَةِ لِلِاشْتِرَاطِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الثُّلُثَيْنِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِنَّ ثَلَاثًا فَصَاعِدًا، وَذَلِكَ يَنْفِي حُصُولَ الثُّلُثَيْنِ لِلْبِنْتَيْنِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَازِمٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَجَعَلَ حُصُولَ النِّصْفِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهَا وَاحِدَةً، وَذَلِكَ يَنْفِي حُصُولَ النِّصْفِ نَصِيبًا لِلْبِنْتَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنْ صَحَّ فَهُوَ يُبْطِلُ قَوْلَهُ. الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنْ» تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الثِّنْتَيْنِ إِمَّا النِّصْفُ، وَإِمَّا الثُّلُثَانِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ «إِنْ» لِلِاشْتِرَاطِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِفَسَادِهِمَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ الِاشْتِرَاطِ يُفْضِي إِلَى الْبَاطِلِ فَكَانَ بَاطِلًا، ولأنه تعالى قال: وَإِنْ... لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة: ٢٨٣] وَقَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: ١٠١]، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفِيدَ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ: هُوَ أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأُمَّةِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: عَرَفْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا وَبِنْتًا فَهَهُنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِذَا كَانَ نَصِيبُ الذَّكَرِ مِثْلَ نَصِيبِ الْأُنْثَيَيْنِ، وَنَصِيبُ الذكر هاهنا هُوَ الثُّلُثَانِ، وَجَبَ لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الِابْنَتَيْنِ/ الثُّلُثَيْنِ، الثَّانِي: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا وَبِنْتًا فَهَهُنَا نَصِيبُ الْبِنْتِ الثُّلُثُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِذَا كَانَ نَصِيبُ الْبِنْتِ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ هُوَ الثُّلُثَ، فَبِأَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُمَا مَعَ وَلَدٍ آخَرَ أُنْثَى هُوَ الثُّلُثَ كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الذَّكَرَ أَقْوَى مِنَ الْأُنْثَى. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ حَظِّ الْأُنْثَى الْوَاحِدَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَظُّ الذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَى الْوَاحِدَةِ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ حَظِّ الْوَاحِدَةِ فَنَقُولُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الثُّلُثَانِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَالرَّابِعُ: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى بِنْتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الثُّلُثَيْنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْبَنَاتِ وَحُكْمَ الثَّلَاثِ فَمَا فَوْقَهُنَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ... فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ [النِّسَاءِ: ١٧٦] فَهَهُنَا ذَكَرَ مِيرَاثَ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ وَالْأُخْتَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِيرَاثَ الْأَخَوَاتِ الْكَثِيرَةِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُجْمَلًا مِنْ وَجْهٍ وَمُبَيَّنًا مِنْ وَجْهٍ، فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ كَانَتِ الْبِنْتَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ،
510
لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ مِنَ الْأُخْتَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْبَنَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا يَزْدَادُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَزْدَادَ نَصِيبُ الْأَخَوَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْبِنْتَ لَمَّا كَانَتْ أَشَدَّ اتِّصَالًا بِالْمَيِّتِ امْتَنَعَ جَعْلُ الْأَضْعَفِ زَائِدًا عَلَى الْأَقْوَى، فَهَذَا مَجْمُوعُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَالْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْآيَةِ، وَالرَّابِعُ: مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ، وَالْخَامِسُ: مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ الْأَوْلَادَ الذُّكُورَ فَقَطْ فَنَقُولُ: أَمَّا الِابْنُ الْوَاحِدُ فَإِنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ أَخَذَ كُلَّ الْمَالِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ دَلَالَةِ قوله تعالى: فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: ١٧٦] فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الذَّكَرِ مِثْلُ نَصِيبِ الْأُنْثَيَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْبَنَاتِ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَلَزِمَ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ الْمُفْرَدِ جَمِيعُ الْمَالِ. الثَّانِي: أَنَّا نَسْتَفِيدُ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ وَهِيَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ما أبقت السهام فلا ولى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ»
وَلَا نِزَاعَ أَنَّ الِابْنَ عَصَبَةٌ ذَكَرٌ، وَلَمَّا كَانَ الِابْنُ آخِذًا لِكُلِّ مَا بَقِيَ بَعْدَ السِّهَامِ وَجَبَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ سِهَامٌ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ. الثَّالِثُ: إِنَّ أَقْرَبَ الْعَصِبَاتِ إِلَى الْمَيِّتِ هُوَ الِابْنُ، وَلَيْسَ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرًا أَوْلَى مِنْهُ بِأَنْ يَأْخُذَ الزَّائِدَ، فَوَجَبَ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ.
فَإِنْ قِيلَ: حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ هُوَ الثُّلُثَانِ فَقَوْلُهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَظُّ/ الذَّكَرِ مُطْلَقًا هُوَ الثُّلُثُ، وَذَلِكَ يَنْفِي أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الْمَالِ.
قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ حَالَ الِاجْتِمَاعِ لَا حَالَ الِانْفِرَادِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ يَقْتَضِي حُصُولَ الْأَوْلَادِ، وَقَوْلُهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَقْتَضِي حُصُولَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى هُنَاكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ حَالَ الِانْفِرَادِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا وَاحِدًا فَقَطْ، أَمَّا إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ أَبْنَاءً كَانُوا مُتَشَارِكِينَ فِي جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا رُجْحَانَ، فَوَجَبَ قِسْمَةُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ أَعْجَزُ مِنَ الرَّجُلِ لِوُجُوهٍ: أَمَّا أَوَّلًا فَلِعَجْزِهَا عَنِ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، فَإِنَّ زَوْجَهَا وَأَقَارِبَهَا يَمْنَعُونَهَا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِنُقْصَانِ عَقْلِهَا وَكَثْرَةِ اخْتِدَاعِهَا وَاغْتِرَارِهَا. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّهَا مَتَى خَالَطَتِ الرِّجَالَ صَارَتْ مُتَّهَمَةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَجْزَهَا أَكْمَلُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهَا مِنَ الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نَصِيبَهَا نِصْفَ نَصِيبِ الرَّجُلِ.
وَالْجَوَابُ عنه من وجوه: الأول: أن خروج الْمَرْأَةِ أَقَلُّ، لِأَنَّ زَوْجَهَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَخَرْجَ الرَّجُلِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ، ومن كان خروجه أَكْثَرَ فَهُوَ إِلَى الْمَالِ أَحْوَجُ. الثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ أَكْمَلُ حَالًا مِنَ الْمَرْأَةِ فِي الْخِلْقَةِ وَفِي الْعَقْلِ وَفِي الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، مِثْلُ صَلَاحِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ، وَأَيْضًا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِ أَزَيْدَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ قَلِيلَةُ الْعَقْلِ كَثِيرَةُ الشَّهْوَةِ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهَا الْمَالُ الْكَثِيرُ عَظُمَ الْفَسَادُ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: ٦، ٧] وَحَالُ الرَّجُلِ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الرَّجُلَ لِكَمَالِ عَقْلِهِ يَصْرِفُ الْمَالَ إِلَى مَا يُفِيدُهُ الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ فِي الآخرة،
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ الْأَوْلَادَ الذُّكُورَ فَقَطْ فَنَقُولُ: أَمَّا الِابْنُ الْوَاحِدُ فَإِنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ أَخَذَ كُلَّ الْمَالِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ دَلَالَةِ قوله تعالى: فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: ١٧٦] فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الذَّكَرِ مِثْلُ نَصِيبِ الْأُنْثَيَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْبَنَاتِ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَلَزِمَ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ الْمُفْرَدِ جَمِيعُ الْمَالِ. الثَّانِي: أَنَّا نَسْتَفِيدُ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ وَهِيَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ما أبقت السهام فلا ولى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ»
وَلَا نِزَاعَ أَنَّ الِابْنَ عَصَبَةٌ ذَكَرٌ، وَلَمَّا كَانَ الِابْنُ آخِذًا لِكُلِّ مَا بَقِيَ بَعْدَ السِّهَامِ وَجَبَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ سِهَامٌ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ. الثَّالِثُ: إِنَّ أَقْرَبَ الْعَصِبَاتِ إِلَى الْمَيِّتِ هُوَ الِابْنُ، وَلَيْسَ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرًا أَوْلَى مِنْهُ بِأَنْ يَأْخُذَ الزَّائِدَ، فَوَجَبَ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ.
فَإِنْ قِيلَ: حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ هُوَ الثُّلُثَانِ فَقَوْلُهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَظُّ/ الذَّكَرِ مُطْلَقًا هُوَ الثُّلُثُ، وَذَلِكَ يَنْفِي أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الْمَالِ.
قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ حَالَ الِاجْتِمَاعِ لَا حَالَ الِانْفِرَادِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ يَقْتَضِي حُصُولَ الْأَوْلَادِ، وَقَوْلُهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَقْتَضِي حُصُولَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى هُنَاكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ حَالَ الِانْفِرَادِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا وَاحِدًا فَقَطْ، أَمَّا إِذَا مَاتَ وَخَلَفَ أَبْنَاءً كَانُوا مُتَشَارِكِينَ فِي جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا رُجْحَانَ، فَوَجَبَ قِسْمَةُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ أَعْجَزُ مِنَ الرَّجُلِ لِوُجُوهٍ: أَمَّا أَوَّلًا فَلِعَجْزِهَا عَنِ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، فَإِنَّ زَوْجَهَا وَأَقَارِبَهَا يَمْنَعُونَهَا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِنُقْصَانِ عَقْلِهَا وَكَثْرَةِ اخْتِدَاعِهَا وَاغْتِرَارِهَا. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّهَا مَتَى خَالَطَتِ الرِّجَالَ صَارَتْ مُتَّهَمَةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَجْزَهَا أَكْمَلُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهَا مِنَ الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نَصِيبَهَا نِصْفَ نَصِيبِ الرَّجُلِ.
وَالْجَوَابُ عنه من وجوه: الأول: أن خروج الْمَرْأَةِ أَقَلُّ، لِأَنَّ زَوْجَهَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَخَرْجَ الرَّجُلِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ، ومن كان خروجه أَكْثَرَ فَهُوَ إِلَى الْمَالِ أَحْوَجُ. الثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ أَكْمَلُ حَالًا مِنَ الْمَرْأَةِ فِي الْخِلْقَةِ وَفِي الْعَقْلِ وَفِي الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، مِثْلُ صَلَاحِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ، وَأَيْضًا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِ أَزَيْدَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ قَلِيلَةُ الْعَقْلِ كَثِيرَةُ الشَّهْوَةِ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهَا الْمَالُ الْكَثِيرُ عَظُمَ الْفَسَادُ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْفَرَاغَ وَالشَّبَابَ وَالْجِدَهْ | مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيَّ مَفْسَدَهْ |
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الرَّجُلَ لِكَمَالِ عَقْلِهِ يَصْرِفُ الْمَالَ إِلَى مَا يُفِيدُهُ الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ فِي الآخرة،
511
نَحْوُ بِنَاءِ الرِّبَاطَاتِ، وَإِعَانَةِ الْمَلْهُوفِينَ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْأَرَامِلِ، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخَالِطُ النَّاسَ كَثِيرًا، وَالْمَرْأَةُ تَقِلُّ مُخَالَطَتُهَا مَعَ النَّاسِ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. الْخَامِسُ:
روي أن جعفر الصَّادِقَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: إِنَّ حَوَّاءَ أَخَذَتْ حَفْنَةً مِنَ الْحِنْطَةِ وَأَكَلَتْهَا، وَأَخَذَتْ حَفْنَةً أُخْرَى وَخَبَّأَتْهَا، ثُمَّ أَخَذَتْ حَفْنَةً أُخْرَى وَدَفَعَتْهَا إِلَى آدَمَ، فَلَمَّا جَعَلَتْ نَصِيبَ نَفْسِهَا ضِعْفَ نَصِيبِ الرَّجُلِ قَلَبَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَيْهَا، فجل نَصِيبَ الْمَرْأَةِ نِصْفَ نَصِيبِ الرَّجُلِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ: لِلْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرِ، أَوْ لِلْأُنْثَى مَثَلًا نِصْفُ حَظِّ الذَّكَرِ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَمَّا كَانَ الذَّكَرُ أَفْضَلَ مِنَ الْأُنْثَى قَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَى ذِكْرِ الْأُنْثَى، كَمَا جَعَلَ نَصِيبَهُ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُنْثَى. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الذَّكَرِ بِالْمُطَابَقَةِ وَعَلَى نَقْصِ الْأُنْثَى بِالِالْتِزَامِ، وَلَوْ قَالَ: كَمَا ذَكَرْتُمْ لَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَقْصِ الْأُنْثَى بِالْمُطَابَقَةِ وَفَضْلِ الذَّكَرِ بِالِالْتِزَامِ، فَرَجَحَ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّعْيَ فِي تَشْهِيرِ الْفَضَائِلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى السَّعْيِ فِي تَشْهِيرِ الرَّذَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧] فَذَكَرَ الْإِحْسَانَ مَرَّتَيْنِ وَالْإِسَاءَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ وَهُوَ السَّبَبُ لِوُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: كَفَى لِلذَّكَرِ أَنْ جَعَلَ نَصِيبَهُ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُنْثَى، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْمَعَ فِي جَعْلِ الْأُنْثَى مَحْرُومَةً عَنِ الْمِيرَاثِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ وَاقِعٌ عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي وَلَدِ الِابْنِ قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ [الْأَعْرَافِ: ٢٦] وَقَالَ لِلَّذِينِ كَانُوا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] إِلَّا أَنَّ الْبَحْثَ فِي أَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَقَعُ عَلَى وَلَدِ الِابْنِ مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَجَازٌ فَنَقُولُ: ثبت لي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي حَقِيقَتِهِ وَفِي مَجَازِهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ وَلَدَ الصُّلْبِ وَوَلَدَ الِابْنِ مَعًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّا لَا نَسْتَفِيدُ حُكْمَ وَلَدِ الِابْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ مِنَ السُّنَّةِ وَمِنَ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَسْتَفِيدَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَنَقُولُ: الْوَلَدُ وَوَلَدُ الِابْنِ مَا صَارَا مُرَادَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوْلَادَ الِابْنِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ إِلَّا فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ، إِمَّا عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ رَأْسًا، وَإِمَّا عند ما لَا يَأْخُذُ وَلَدُ الصُّلْبِ كُلَّ الْمِيرَاثِ، فَحِينَئِذٍ يَقْتَسِمُونَ الْبَاقِيَ، وَأَمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ وَلَدُ الِابْنِ مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ أَوْلَادُ الصُّلْبِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَعَلَى وَلَدِ الِابْنِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ مَعًا، لِأَنَّهُ حِينَ أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الصُّلْبِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الِابْنِ، وَحِينَ أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الِابْنِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الصُّلْبِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَارَةً تَكُونُ خِطَابًا مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ وَأُخْرَى مَعَ وَلَدِ الِابْنِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ شَيْئًا وَاحِدًا، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ وُقُوعَ اسْمِ الْوَلَدِ عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ وَعَلَى وَلَدِ الِابْنِ يَكُونُ حَقِيقَةً، فَإِنْ جَعْلَنَا اللَّفْظَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَادَ الْإِشْكَالُ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِإِفَادَةِ مَعْنَيَيْهِ مَعًا، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُتَوَاطِئًا فِيهِمَا كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ/ وَالْفَرَسِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٣] وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ابْنُ الصلب وأولاد الابن، فعلمنا
روي أن جعفر الصَّادِقَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: إِنَّ حَوَّاءَ أَخَذَتْ حَفْنَةً مِنَ الْحِنْطَةِ وَأَكَلَتْهَا، وَأَخَذَتْ حَفْنَةً أُخْرَى وَخَبَّأَتْهَا، ثُمَّ أَخَذَتْ حَفْنَةً أُخْرَى وَدَفَعَتْهَا إِلَى آدَمَ، فَلَمَّا جَعَلَتْ نَصِيبَ نَفْسِهَا ضِعْفَ نَصِيبِ الرَّجُلِ قَلَبَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَيْهَا، فجل نَصِيبَ الْمَرْأَةِ نِصْفَ نَصِيبِ الرَّجُلِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ: لِلْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرِ، أَوْ لِلْأُنْثَى مَثَلًا نِصْفُ حَظِّ الذَّكَرِ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَمَّا كَانَ الذَّكَرُ أَفْضَلَ مِنَ الْأُنْثَى قَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَى ذِكْرِ الْأُنْثَى، كَمَا جَعَلَ نَصِيبَهُ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُنْثَى. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الذَّكَرِ بِالْمُطَابَقَةِ وَعَلَى نَقْصِ الْأُنْثَى بِالِالْتِزَامِ، وَلَوْ قَالَ: كَمَا ذَكَرْتُمْ لَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَقْصِ الْأُنْثَى بِالْمُطَابَقَةِ وَفَضْلِ الذَّكَرِ بِالِالْتِزَامِ، فَرَجَحَ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّعْيَ فِي تَشْهِيرِ الْفَضَائِلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى السَّعْيِ فِي تَشْهِيرِ الرَّذَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧] فَذَكَرَ الْإِحْسَانَ مَرَّتَيْنِ وَالْإِسَاءَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ وَهُوَ السَّبَبُ لِوُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: كَفَى لِلذَّكَرِ أَنْ جَعَلَ نَصِيبَهُ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُنْثَى، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْمَعَ فِي جَعْلِ الْأُنْثَى مَحْرُومَةً عَنِ الْمِيرَاثِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ وَاقِعٌ عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي وَلَدِ الِابْنِ قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ [الْأَعْرَافِ: ٢٦] وَقَالَ لِلَّذِينِ كَانُوا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] إِلَّا أَنَّ الْبَحْثَ فِي أَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَقَعُ عَلَى وَلَدِ الِابْنِ مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَجَازٌ فَنَقُولُ: ثبت لي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي حَقِيقَتِهِ وَفِي مَجَازِهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ وَلَدَ الصُّلْبِ وَوَلَدَ الِابْنِ مَعًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّا لَا نَسْتَفِيدُ حُكْمَ وَلَدِ الِابْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ مِنَ السُّنَّةِ وَمِنَ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَسْتَفِيدَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَنَقُولُ: الْوَلَدُ وَوَلَدُ الِابْنِ مَا صَارَا مُرَادَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوْلَادَ الِابْنِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ إِلَّا فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ، إِمَّا عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ رَأْسًا، وَإِمَّا عند ما لَا يَأْخُذُ وَلَدُ الصُّلْبِ كُلَّ الْمِيرَاثِ، فَحِينَئِذٍ يَقْتَسِمُونَ الْبَاقِيَ، وَأَمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ وَلَدُ الِابْنِ مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ أَوْلَادُ الصُّلْبِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَعَلَى وَلَدِ الِابْنِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ مَعًا، لِأَنَّهُ حِينَ أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الصُّلْبِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الِابْنِ، وَحِينَ أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الِابْنِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَلَدُ الصُّلْبِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَارَةً تَكُونُ خِطَابًا مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ وَأُخْرَى مَعَ وَلَدِ الِابْنِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ شَيْئًا وَاحِدًا، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ وُقُوعَ اسْمِ الْوَلَدِ عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ وَعَلَى وَلَدِ الِابْنِ يَكُونُ حَقِيقَةً، فَإِنْ جَعْلَنَا اللَّفْظَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَادَ الْإِشْكَالُ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِإِفَادَةِ مَعْنَيَيْهِ مَعًا، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُتَوَاطِئًا فِيهِمَا كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ/ وَالْفَرَسِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٣] وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ابْنُ الصلب وأولاد الابن، فعلمنا
512
أن لفظ الابن متواطئ بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الِابْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَنَّ الِابْنَ هَلْ يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الِابْنِ قَائِمٌ فِي أَنَّ لَفْظَ الْأَبِ وَالْأُمِّ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الْبَقَرَةِ: ١٣٣] وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَدِّ حُكْمٌ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ اسْمُ الْأَبِ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلُهُ تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ زَعَمُوا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي صُوَرٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ لَا يَتَوَارَثَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَاتِلَ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ، وَهَذَا خَبَرٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَبَلَغَ حَدَّ الْمُسْتَفِيضِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فَرْعَانِ.
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ مِنَ الْمُسْلِمِ، أَمَّا الْمُسْلِمُ فَهَلْ يَرِثُ مِنَ الْكَافِرِ؟ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ أَيْضًا لَا يَرِثُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَرِثُ قَالَ الشَّعْبِيُّ: قَضَى مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ وَكَتَبَ بِهِ إِلَى زِيَادٍ، فَأَرْسَلَ ذَلِكَ زِيَادٌ إِلَى شُرَيْحٍ الْقَاضِي وَأَمَرَهُ بِهِ، وَكَانَ شُرَيْحٌ قَبْلَ ذَلِكَ يَقْضِي بِعَدَمِ التَّوْرِيثِ، فَلَمَّا أَمَرَهُ زِيَادٌ بِذَلِكَ كَانَ يَقْضِي بِهِ وَيَقُولُ: هَكَذَا قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ عُمُومُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ»
وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: مَا
رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ بِالْيَمَنِ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ يَهُودِيًّا مَاتَ وَتَرَكَ أَخًا مُسْلِمًا فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ»
ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا إِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَقْتَضِي تَوْرِيثَ الْكَافِرِ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ، إِلَّا أَنَّا خَصَّصْنَاهُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ»
لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ، وَالْخَاصُّ مقدم على العام فكذا هاهنا
قَوْلُهُ: «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ»
أَخَصُّ مِنْ
قَوْلِهِ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ»
فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ، بَلْ هَذَا التَّخْصِيصُ أَوْلَى، لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْخَبَرِ مُتَأَكَّدٌ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَقْصَى مَا قِيلَ فِي جَوَابِهِ: أَنَّ
قَوْلَهُ: «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ»
لَيْسَ نَصًّا فِي وَاقِعَةِ الْمِيرَاثِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْوَالِ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: الْمُسْلِمُ إِذَا ارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، فَالْمَالُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ الرِّدَّةِ أَجْمَعُوا/ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ، بَلْ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ، أَمَّا الْمَالُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ حَالَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُوَرَّثُ بَلْ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى تَرْجِيحِ
قوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل المتين»
عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْمُرْتَدُّ وَوَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ التَّوَارُثُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرْتَدَّ زَالَ مِلْكُهُ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ وَانْتَقَلَ إِلَى الْوَارِثِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُسْلِمُ إِنَّمَا وَرِثَ عَنِ الْمُسْلِمِ لَا عَنِ الْكَافِرِ.
قُلْنَا: لَوْ وَرِثَ الْمُسْلِمُ مِنَ الْمُرْتَدِّ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَرِثَهُ حَالَ حَيَاةِ الْمُرْتَدِّ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي تِلْكَ الْأَمْوَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦] وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ عِنْدَ مَمَاتِهِ كَافِرٌ فَيُفْضِي إِلَى حُصُولِ التَّوَارُثِ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ، وهو خلاف الخبر. ولا يبقى هاهنا إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَرِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ إِسْلَامِهِ، إلا أن
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَنَّ الِابْنَ هَلْ يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الِابْنِ قَائِمٌ فِي أَنَّ لَفْظَ الْأَبِ وَالْأُمِّ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الْبَقَرَةِ: ١٣٣] وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَدِّ حُكْمٌ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ اسْمُ الْأَبِ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلُهُ تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ زَعَمُوا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي صُوَرٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ لَا يَتَوَارَثَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَاتِلَ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ، وَهَذَا خَبَرٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَبَلَغَ حَدَّ الْمُسْتَفِيضِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فَرْعَانِ.
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ مِنَ الْمُسْلِمِ، أَمَّا الْمُسْلِمُ فَهَلْ يَرِثُ مِنَ الْكَافِرِ؟ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ أَيْضًا لَا يَرِثُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَرِثُ قَالَ الشَّعْبِيُّ: قَضَى مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ وَكَتَبَ بِهِ إِلَى زِيَادٍ، فَأَرْسَلَ ذَلِكَ زِيَادٌ إِلَى شُرَيْحٍ الْقَاضِي وَأَمَرَهُ بِهِ، وَكَانَ شُرَيْحٌ قَبْلَ ذَلِكَ يَقْضِي بِعَدَمِ التَّوْرِيثِ، فَلَمَّا أَمَرَهُ زِيَادٌ بِذَلِكَ كَانَ يَقْضِي بِهِ وَيَقُولُ: هَكَذَا قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ عُمُومُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ»
وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: مَا
رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ بِالْيَمَنِ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ يَهُودِيًّا مَاتَ وَتَرَكَ أَخًا مُسْلِمًا فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ»
ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا إِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يَقْتَضِي تَوْرِيثَ الْكَافِرِ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ، إِلَّا أَنَّا خَصَّصْنَاهُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ»
لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ، وَالْخَاصُّ مقدم على العام فكذا هاهنا
قَوْلُهُ: «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ»
أَخَصُّ مِنْ
قَوْلِهِ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ»
فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ، بَلْ هَذَا التَّخْصِيصُ أَوْلَى، لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْخَبَرِ مُتَأَكَّدٌ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَقْصَى مَا قِيلَ فِي جَوَابِهِ: أَنَّ
قَوْلَهُ: «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ»
لَيْسَ نَصًّا فِي وَاقِعَةِ الْمِيرَاثِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْوَالِ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: الْمُسْلِمُ إِذَا ارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، فَالْمَالُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ الرِّدَّةِ أَجْمَعُوا/ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ، بَلْ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ، أَمَّا الْمَالُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ حَالَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُوَرَّثُ بَلْ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى تَرْجِيحِ
قوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل المتين»
عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْمُرْتَدُّ وَوَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ التَّوَارُثُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرْتَدَّ زَالَ مِلْكُهُ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ وَانْتَقَلَ إِلَى الْوَارِثِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُسْلِمُ إِنَّمَا وَرِثَ عَنِ الْمُسْلِمِ لَا عَنِ الْكَافِرِ.
قُلْنَا: لَوْ وَرِثَ الْمُسْلِمُ مِنَ الْمُرْتَدِّ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَرِثَهُ حَالَ حَيَاةِ الْمُرْتَدِّ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي تِلْكَ الْأَمْوَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦] وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ عِنْدَ مَمَاتِهِ كَافِرٌ فَيُفْضِي إِلَى حُصُولِ التَّوَارُثِ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ، وهو خلاف الخبر. ولا يبقى هاهنا إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَرِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ إِسْلَامِهِ، إلا أن
513
الْقَوْلَ بِالِاسْتِنَادِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمِلْكُ حَاصِلًا حَالَ حَيَاةِ الْمُرْتَدِّ، فَلَوْ حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى وَجْهٍ صَارَ حَاصِلًا فِي زَمَنِ حَيَاتِهِ لَزِمَ إِيقَاعُ التَّصَرُّفِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ، وَإِنْ فُسِّرَ الِاسْتِنَادُ بِالتَّبْيِينِ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ الْوَارِثَ وَرِثَهُ مِنَ الْمُرْتَدِّ حَالَ حَيَاةِ الْمُرْتَدِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: مِنْ تَخْصِيصَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يُوَرَّثُونَ، وَالشِّيعَةُ خَالَفُوا فِيهِ،
رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَتِ الْمِيرَاثَ وَمَنَعُوهَا مِنْهُ، احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» فَعِنْدَ هَذَا احْتَجَّتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
وَكَأَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ إِنَّ الشِّيعَةَ قَالُوا: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجُوزَ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا أَنَّهُ غير جائز هاهنا، وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مَرْيَمَ: ٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النَّمْلِ: ١٦] قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ وِرَاثَةً فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ يَكُونُ كَسْبًا جَدِيدًا مُبْتَدَأً، إِنَّمَا التَّوْرِيثُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا كَانَ إِلَّا فَاطِمَةُ وَعَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مِنْ أَكَابِرِ الزُّهَّادِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَتَّةَ، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يَرِثَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُبَلِّغَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَى مَنْ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهَا وَلَا يُبَلِّغَهَا إِلَى مَنْ لَهُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا أَشَدُّ الْحَاجَّةِ، وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّ
قَوْلَهُ: «مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»
صِلَةٌ
لِقَوْلِهِ: «لَا نُوَرَّثُ»
وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ، فَذَلِكَ الشَّيْءُ لَا يُوَرَّثُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى لِلرَّسُولِ خَاصِّيَّةٌ فِي ذَلِكَ.
قُلْنَا: بَلْ تَبْقَى الْخَاصِّيَّةُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِذَا عَزَمُوا عَلَى التَّصَدُّقِ بِشَيْءٍ فَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ يَخْرُجُ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِمْ وَلَا يَرِثُهُ وَارِثٌ عَنْهُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ رَضِيَتْ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مَعْنَاهُ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ، فَحَذَفَ الرَّاجِعَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ، كَقَوْلِكَ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ الْمَعْنَى إِنْ كَانَتِ الْبَنَاتُ أَوِ الْمَوْلُودَاتُ نِسَاءً خُلْصًا لَيْسَ مَعَهُنَّ ابْنٌ، وَقَوْلُهُ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا لِكَانَ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: نِساءً أَيْ نساء زائدات على اثنتين. وهاهنا سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَلَامٌ مَذْكُورٌ لِبَيَانِ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ، لَا لِبَيَانِ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ إِرَادَتُهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً وَهُوَ لِبَيَانِ حَظِّ الْإِنَاثِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ هُوَ الثُّلُثَانِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى حُكْمِ الْأُنْثَيَيْنِ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ عَلَى مَعْنَى:
فَإِنْ كُنَّ جَمَاعَةَ بَالِغَاتٍ مَا بَلَغْنَ مِنَ الْعَدَدِ، فلهن ما للثنتين وَهُوَ الثُّلُثَانِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ حُكْمُ الثنتين
الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: مِنْ تَخْصِيصَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يُوَرَّثُونَ، وَالشِّيعَةُ خَالَفُوا فِيهِ،
رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَتِ الْمِيرَاثَ وَمَنَعُوهَا مِنْهُ، احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» فَعِنْدَ هَذَا احْتَجَّتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
وَكَأَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ إِنَّ الشِّيعَةَ قَالُوا: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجُوزَ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا أَنَّهُ غير جائز هاهنا، وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مَرْيَمَ: ٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النَّمْلِ: ١٦] قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ وِرَاثَةً فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ يَكُونُ كَسْبًا جَدِيدًا مُبْتَدَأً، إِنَّمَا التَّوْرِيثُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا كَانَ إِلَّا فَاطِمَةُ وَعَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مِنْ أَكَابِرِ الزُّهَّادِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَتَّةَ، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يَرِثَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُبَلِّغَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَى مَنْ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهَا وَلَا يُبَلِّغَهَا إِلَى مَنْ لَهُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا أَشَدُّ الْحَاجَّةِ، وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّ
قَوْلَهُ: «مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»
صِلَةٌ
لِقَوْلِهِ: «لَا نُوَرَّثُ»
وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ، فَذَلِكَ الشَّيْءُ لَا يُوَرَّثُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى لِلرَّسُولِ خَاصِّيَّةٌ فِي ذَلِكَ.
قُلْنَا: بَلْ تَبْقَى الْخَاصِّيَّةُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِذَا عَزَمُوا عَلَى التَّصَدُّقِ بِشَيْءٍ فَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ يَخْرُجُ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِمْ وَلَا يَرِثُهُ وَارِثٌ عَنْهُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ رَضِيَتْ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مَعْنَاهُ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ، فَحَذَفَ الرَّاجِعَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ، كَقَوْلِكَ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ الْمَعْنَى إِنْ كَانَتِ الْبَنَاتُ أَوِ الْمَوْلُودَاتُ نِسَاءً خُلْصًا لَيْسَ مَعَهُنَّ ابْنٌ، وَقَوْلُهُ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا لِكَانَ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: نِساءً أَيْ نساء زائدات على اثنتين. وهاهنا سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَلَامٌ مَذْكُورٌ لِبَيَانِ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ، لَا لِبَيَانِ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ إِرَادَتُهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً وَهُوَ لِبَيَانِ حَظِّ الْإِنَاثِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ هُوَ الثُّلُثَانِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى حُكْمِ الْأُنْثَيَيْنِ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ عَلَى مَعْنَى:
فَإِنْ كُنَّ جَمَاعَةَ بَالِغَاتٍ مَا بَلَغْنَ مِنَ الْعَدَدِ، فلهن ما للثنتين وَهُوَ الثُّلُثَانِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ حُكْمُ الثنتين
514
بِغَيْرِ تَفَاوُتٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْعَطْفَ مُتَنَاسِبٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأُنْثَيَيْنِ، فَكَفَى هَذَا الْقَوْلُ فِي حُسْنِ هَذَا الْعَطْفِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ فِي «كُنَّ» وَ «كَانَتْ» مُبْهَمَيْنِ وَيَكُونَ «نِسَاءً» وَ «وَاحِدَةً» تَفْسِيرًا لَهُمَا عَلَى أَنَّ «كَانَ» تَامَّةٌ؟
الْجَوَابُ: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: النِّسَاءُ: جَمْعٌ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَالنِّسَاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ؟
الْجَوَابُ: مَنْ يَقُولُ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّتُهُ، وَمَنْ يَقُولُ: هُوَ ثَلَاثَةٌ قَالَ هَذَا لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠] وَقَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [النَّحْلِ: ٥١].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَنَقُولُ: قَرَأَ نَافِعٌ (وَاحِدَةٌ) بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ/ بِالنَّصْبِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى كَانَ التَّامَّةِ، وَالِاخْتِيَارُ النَّصْبُ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَهَا خَبَرٌ مَنْصُوبٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكَاتُ أَوِ الْوَارِثَاتُ نساء فكذا هاهنا، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كَانَتِ الْمَتْرُوكَةُ وَاحِدَةً، وَقَرَأَ زَيْدُ بن علي: النصف، بضم النون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مِيرَاثَ الْأَبَوَيْنِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ وَنُعَيْمُ بْنُ أَبِي ميسر السُّدُسُ بالتخفيف وكذلك الربع والثمن.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْأَبَوَيْنِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُمَا وَلَدٌ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَهَذِهِ الْحَالَةُ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْصُلَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَاحِدٌ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، فَهَهُنَا الْأَبَوَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. وَثَانِيهَا: أَنْ يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر، وهاهنا الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَحْصُلَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ فَهَهُنَا لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَبِ السُّدُسُ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ. والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ وَلَدِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَلَغَ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ إِلَى أَنْ قَرَنَ اللَّهُ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِمَا فَقَالَ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نَصِيبَ الْأَوْلَادِ أَكْثَرَ وَنَصِيبَ الْوَالِدَيْنِ أَقَلَّ؟
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ وَالْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِمَا إِلَّا الْقَلِيلُ فَكَانَ احْتِيَاجُهُمَا إِلَى الْمَالِ قَلِيلًا، أَمَّا الْأَوْلَادُ فَهُمْ فِي زَمَنِ الصِّبَا فَكَانَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الْمَالِ كَثِيرًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلِأَبَوَيْهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟
الْجَوَابُ: أَنَّهُ ضَمِيرٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَالْمُرَادُ: وَلِأَبَوَيِ الْمَيِّتِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا المراد بالأبوين؟
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ فِي «كُنَّ» وَ «كَانَتْ» مُبْهَمَيْنِ وَيَكُونَ «نِسَاءً» وَ «وَاحِدَةً» تَفْسِيرًا لَهُمَا عَلَى أَنَّ «كَانَ» تَامَّةٌ؟
الْجَوَابُ: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: النِّسَاءُ: جَمْعٌ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَالنِّسَاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ؟
الْجَوَابُ: مَنْ يَقُولُ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّتُهُ، وَمَنْ يَقُولُ: هُوَ ثَلَاثَةٌ قَالَ هَذَا لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠] وَقَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [النَّحْلِ: ٥١].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَنَقُولُ: قَرَأَ نَافِعٌ (وَاحِدَةٌ) بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ/ بِالنَّصْبِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى كَانَ التَّامَّةِ، وَالِاخْتِيَارُ النَّصْبُ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَهَا خَبَرٌ مَنْصُوبٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكَاتُ أَوِ الْوَارِثَاتُ نساء فكذا هاهنا، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كَانَتِ الْمَتْرُوكَةُ وَاحِدَةً، وَقَرَأَ زَيْدُ بن علي: النصف، بضم النون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مِيرَاثَ الْأَبَوَيْنِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ وَنُعَيْمُ بْنُ أَبِي ميسر السُّدُسُ بالتخفيف وكذلك الربع والثمن.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْأَبَوَيْنِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُمَا وَلَدٌ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَهَذِهِ الْحَالَةُ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْصُلَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَاحِدٌ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، فَهَهُنَا الْأَبَوَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. وَثَانِيهَا: أَنْ يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر، وهاهنا الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَحْصُلَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ فَهَهُنَا لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَبِ السُّدُسُ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ. والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ وَلَدِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَلَغَ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ إِلَى أَنْ قَرَنَ اللَّهُ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِمَا فَقَالَ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نَصِيبَ الْأَوْلَادِ أَكْثَرَ وَنَصِيبَ الْوَالِدَيْنِ أَقَلَّ؟
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ وَالْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِمَا إِلَّا الْقَلِيلُ فَكَانَ احْتِيَاجُهُمَا إِلَى الْمَالِ قَلِيلًا، أَمَّا الْأَوْلَادُ فَهُمْ فِي زَمَنِ الصِّبَا فَكَانَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الْمَالِ كَثِيرًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلِأَبَوَيْهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟
الْجَوَابُ: أَنَّهُ ضَمِيرٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَالْمُرَادُ: وَلِأَبَوَيِ الْمَيِّتِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا المراد بالأبوين؟
515
وَالْجَوَابُ: هُمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ، وَالْأَصْلُ فِي الْأُمِّ أَنْ يُقَالَ لَهَا أَبَةٌ، فَأَبَوَانِ تَثْنِيَةُ أَبٍ وَأَبَةٍ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ تَرْكِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْجَوَابُ: قَوْلُهُ: لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَبَوَيْهِ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَدَلِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَلِأَبَوَيْهِ السُّدُسُ لَكَانَ ظَاهِرُهُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قِيلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ.
قُلْنَا: لِأَنَّ فِي الْإِبْدَالِ وَالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ تَأْكِيدًا وَتَشْدِيدًا، وَالسُّدُسُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ: لِأَبَوَيْهِ، وَالْبَدَلُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا لِلْبَيَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ.
وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَبَوَيْنِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَحْصُلَ مَعَهُمَا أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَلَا يَكُونَ هُنَاكَ وَارِثٌ سِوَاهُمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَهَهُنَا لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَذَلِكَ فَرْضٌ لَهَا، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَجْمُوعُ الْمَالِ لَهُمَا، فَإِذَا كَانَ نَصِيبُ الْأُمِّ هُوَ الثُّلُثَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ، فَهَهُنَا يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَرْعَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْأَبِ هُوَ السُّدُسُ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَأْخُذُ الثُّلُثَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ هاهنا يَأْخُذُ السُّدُسَ بِالْفَرِيضَةِ، وَالنِّصْفَ بِالتَّعْصِيبِ. الثَّانِي: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ يَأْخُذُ النِّصْفَ بِالتَّعْصِيبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الْمَالِ، لِأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْعَصَبَةِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَى الْأَبَوَيْنِ، أَمَّا إِذَا وَرِثَهُ أَبَوَاهُ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ ثُمَّ يُدْفَعُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ إِلَى الْأُمِّ، وَيُدْفَعُ الْبَاقِي إِلَى الْأَبِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُدْفَعُ إِلَى الزَّوْجِ نَصِيبُهُ، وَإِلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَيُدْفَعُ الْبَاقِي إِلَى الْأَبِ، وَقَالَ: لَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ وَافَقَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ، وَخَالَفَهُ فِي الزَّوْجِ وَالْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ لِلْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ، وَأَمَّا فِي الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَاعِدَةَ الْمِيرَاثِ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ مَعَ الْبِنْتِ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ/ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَأَيْضًا الْأَخُ مَعَ الْأُخْتِ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النِّسَاءِ: ١٧٦] وَأَيْضًا الْأُمُّ مَعَ الْأَبِ كَذَلِكَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا وَارِثَ غَيْرُهُمَا فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْأَبِ الثُّلُثَانِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا أَخَذَ الزَّوْجُ نَصِيبَهُ وَجَبَ أَنْ يُبْقَى الْبَاقِي بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ أَثْلَاثًا، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَبَوَيْنِ يُشْبِهَانِ شَرِيكَيْنِ بَيْنَهُمَا مَالٌ، فَإِذَا صَارَ شَيْءٌ مِنْهُ مُسْتَحَقًّا بَقِيَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الزَّوْجَ إِنَّمَا أَخَذَ سَهْمَهُ بِحُكْمِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ فِي قِسْمَةِ الْبَاقِي، الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَلَفَتْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، فَلَوْ دَفَعْنَا الثُّلُثَ إِلَى الْأُمِّ وَالسُّدُسَ إِلَى الْأَبِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لِلْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ: يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ تَرْكِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْجَوَابُ: قَوْلُهُ: لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَبَوَيْهِ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَدَلِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَلِأَبَوَيْهِ السُّدُسُ لَكَانَ ظَاهِرُهُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قِيلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ.
قُلْنَا: لِأَنَّ فِي الْإِبْدَالِ وَالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ تَأْكِيدًا وَتَشْدِيدًا، وَالسُّدُسُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ: لِأَبَوَيْهِ، وَالْبَدَلُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا لِلْبَيَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ.
وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَبَوَيْنِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَحْصُلَ مَعَهُمَا أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَلَا يَكُونَ هُنَاكَ وَارِثٌ سِوَاهُمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَهَهُنَا لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَذَلِكَ فَرْضٌ لَهَا، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَجْمُوعُ الْمَالِ لَهُمَا، فَإِذَا كَانَ نَصِيبُ الْأُمِّ هُوَ الثُّلُثَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ، فَهَهُنَا يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَرْعَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْأَبِ هُوَ السُّدُسُ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَأْخُذُ الثُّلُثَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ هاهنا يَأْخُذُ السُّدُسَ بِالْفَرِيضَةِ، وَالنِّصْفَ بِالتَّعْصِيبِ. الثَّانِي: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ يَأْخُذُ النِّصْفَ بِالتَّعْصِيبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الْمَالِ، لِأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْعَصَبَةِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَى الْأَبَوَيْنِ، أَمَّا إِذَا وَرِثَهُ أَبَوَاهُ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ ثُمَّ يُدْفَعُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ إِلَى الْأُمِّ، وَيُدْفَعُ الْبَاقِي إِلَى الْأَبِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُدْفَعُ إِلَى الزَّوْجِ نَصِيبُهُ، وَإِلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَيُدْفَعُ الْبَاقِي إِلَى الْأَبِ، وَقَالَ: لَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ وَافَقَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ، وَخَالَفَهُ فِي الزَّوْجِ وَالْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ لِلْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ، وَأَمَّا فِي الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَاعِدَةَ الْمِيرَاثِ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ مَعَ الْبِنْتِ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ/ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَأَيْضًا الْأَخُ مَعَ الْأُخْتِ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النِّسَاءِ: ١٧٦] وَأَيْضًا الْأُمُّ مَعَ الْأَبِ كَذَلِكَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا وَارِثَ غَيْرُهُمَا فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْأَبِ الثُّلُثَانِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا أَخَذَ الزَّوْجُ نَصِيبَهُ وَجَبَ أَنْ يُبْقَى الْبَاقِي بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ أَثْلَاثًا، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَبَوَيْنِ يُشْبِهَانِ شَرِيكَيْنِ بَيْنَهُمَا مَالٌ، فَإِذَا صَارَ شَيْءٌ مِنْهُ مُسْتَحَقًّا بَقِيَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الزَّوْجَ إِنَّمَا أَخَذَ سَهْمَهُ بِحُكْمِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ فِي قِسْمَةِ الْبَاقِي، الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَلَفَتْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، فَلَوْ دَفَعْنَا الثُّلُثَ إِلَى الْأُمِّ وَالسُّدُسَ إِلَى الْأَبِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لِلْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ: يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ.
516
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِأَحَدِ الْعُمُومَيْنِ بِالْعُمُومِ الثَّانِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَلِإِمِّهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَشَرَطُوا فِي جَوَازِ هَذِهِ الْكَسْرَةِ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا حَرْفًا مَكْسُورًا أَوْ يَاءً.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِهِ: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [الزمر: ٦].
وأما الثاني: فكقوله: فِي أُمِّها رَسُولًا [القصص: ٥٩] وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا الشَّرْطُ فَلَيْسَ إِلَّا الضَّمُّ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَمَّا وَجْهُ مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا الضَّمَّةَ بَعْدَ الْكَسْرَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلِأُمِّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّامَ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهَا بِالْأُمِّ صَارَ الْمَجْمُوعُ كَأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِعُلٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ، فَلَا جَرَمَ جُعِلَتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَرَأَ الْهَمْزَةَ بِالضَّمِّ فَهُوَ أَتَى بِهَا عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ فِعُلٍ لِأَنَّ اللَّامَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَبَوَيْنِ وَهِيَ أَنْ يُوجَدَ مَعَهُمَا الْإِخْوَةُ، وَالْأَخَوَاتُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْجُبُ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ يَحْجُبُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُخْتَيْنِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ/ الْحَجْبِ كَمَا فِي الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَحْجُبَانِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَاحِدَةِ، حُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَجْبَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الْإِخْوَةِ، وَلَفْظُ الْإِخْوَةِ جَمْعٌ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الثَّلَاثَةُ لَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ الْحَجْبِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْحَجْبُ. رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِعُثْمَانَ: بِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟
فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى بِهِ مَنْ قَبْلِي وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ ذَلِكَ مَعَ عُثْمَانَ، وَعُثْمَانُ مَا أَنْكَرَهُ، وَهَمَا كَانَا مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ، وَمِنْ عُلَمَاءِ اللِّسَانِ، فَكَانَ اتِّفَاقُهُمَا حُجَّةً فِي ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: ٤] وَلَا يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنْ قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَ لَفْظُ النِّسَاءِ صَالِحًا لِلثِّنْتَيْنِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ زَعَمُوا أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُ الْحَجْبَ بِالْأَخَوَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي نَصَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَظَاهِرُ الْكِتَابِ لَا يُوجِبُ الْحَجْبَ بِالْأَخَوَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: الْأُخْتَانِ يُوجِبَانِ الْحَجْبَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَخَوَانِ وَجَبَ أَنْ يَحْجُبَا أَيْضًا، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْجُبَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا رَأَيْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَزَّلَ الِاثْنَيْنِ مِنَ النِّسَاءِ مَنْزِلَةَ الثَّلَاثَةِ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَصِيبَ الْبِنْتَيْنِ وَنَصِيبَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الثُّلُثَانِ، وَأَيْضًا نَصِيبَ الْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأُمِّ وَنَصِيبَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الثُّلُثُ، فَهَذَا الِاسْتِقْرَاءُ يُوجِبُ أَنْ يَحْصُلَ الْحَجْبُ بِالْأُخْتَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ حَصَلَ بِالْأَخَوَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْجُبَانِ،
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَلِإِمِّهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَشَرَطُوا فِي جَوَازِ هَذِهِ الْكَسْرَةِ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا حَرْفًا مَكْسُورًا أَوْ يَاءً.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِهِ: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [الزمر: ٦].
وأما الثاني: فكقوله: فِي أُمِّها رَسُولًا [القصص: ٥٩] وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا الشَّرْطُ فَلَيْسَ إِلَّا الضَّمُّ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَمَّا وَجْهُ مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا الضَّمَّةَ بَعْدَ الْكَسْرَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلِأُمِّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّامَ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهَا بِالْأُمِّ صَارَ الْمَجْمُوعُ كَأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِعُلٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ، فَلَا جَرَمَ جُعِلَتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَرَأَ الْهَمْزَةَ بِالضَّمِّ فَهُوَ أَتَى بِهَا عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ فِعُلٍ لِأَنَّ اللَّامَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَبَوَيْنِ وَهِيَ أَنْ يُوجَدَ مَعَهُمَا الْإِخْوَةُ، وَالْأَخَوَاتُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْجُبُ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ يَحْجُبُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُخْتَيْنِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ/ الْحَجْبِ كَمَا فِي الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَحْجُبَانِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَاحِدَةِ، حُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَجْبَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الْإِخْوَةِ، وَلَفْظُ الْإِخْوَةِ جَمْعٌ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الثَّلَاثَةُ لَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ الْحَجْبِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْحَجْبُ. رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِعُثْمَانَ: بِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟
فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى بِهِ مَنْ قَبْلِي وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ ذَلِكَ مَعَ عُثْمَانَ، وَعُثْمَانُ مَا أَنْكَرَهُ، وَهَمَا كَانَا مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ، وَمِنْ عُلَمَاءِ اللِّسَانِ، فَكَانَ اتِّفَاقُهُمَا حُجَّةً فِي ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: ٤] وَلَا يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنْ قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَ لَفْظُ النِّسَاءِ صَالِحًا لِلثِّنْتَيْنِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ زَعَمُوا أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُ الْحَجْبَ بِالْأَخَوَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي نَصَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَظَاهِرُ الْكِتَابِ لَا يُوجِبُ الْحَجْبَ بِالْأَخَوَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: الْأُخْتَانِ يُوجِبَانِ الْحَجْبَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَخَوَانِ وَجَبَ أَنْ يَحْجُبَا أَيْضًا، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْجُبَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا رَأَيْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَزَّلَ الِاثْنَيْنِ مِنَ النِّسَاءِ مَنْزِلَةَ الثَّلَاثَةِ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَصِيبَ الْبِنْتَيْنِ وَنَصِيبَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الثُّلُثَانِ، وَأَيْضًا نَصِيبَ الْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأُمِّ وَنَصِيبَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الثُّلُثُ، فَهَذَا الِاسْتِقْرَاءُ يُوجِبُ أَنْ يَحْصُلَ الْحَجْبُ بِالْأُخْتَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ حَصَلَ بِالْأَخَوَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْجُبَانِ،
517
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأُخْتَيْنِ لَزِمَ ثُبُوتُهُ فِي الْأَخَوَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ إِجْرَاءَ الْقِيَاسِ فِي التَّقْدِيرَاتِ صَعْبٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُجَرَّدَ تَشْبِيهٍ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُتَمَسَّكُ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ، بَلْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِقْرَاءِ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ أَمَارَةُ الْعُمُومِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَأَكَّدَ هَذَا بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى سُقُوطِ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَصَحُّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْحَاصِلَ عَقِيبَ الْخِلَافِ حُجَّةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِخْوَةُ إِذَا حَجَبُوا الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ فَهُمْ لَا يَرِثُونَ شَيْئًا الْبَتَّةَ، بَلْ/ يَأْخُذُ الْأَبُ كُلَّ الْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، سُدُسٌ بِالْفَرْضِ، وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِخْوَةُ يَأْخُذُونَ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ، فَهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ لَمَّا حَجَبُوا وَجَبَ أَنْ يَرِثُوا، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِخْوَةِ كَانَ الْمَالُ مِلْكًا لِلْأَبَوَيْنِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ لَمْ يَذْكُرْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا بِأَنَّهُمْ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَاجِبًا كَوْنُهُ وَارِثًا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى الْمَالُ بَعْدَ حُصُولِ هَذَا الْحَجْبِ عَلَى مَلْكِ الْأَبَوَيْنِ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ.
اعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ الْوَصَايَا تُذْكَرُ فِي خَاتِمَةِ هذه الآية وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْصِبَاءَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، قَالَ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ أَيْ هَذِهِ الْأَنْصِبَاءُ إِنَّمَا تُدْفَعُ إِلَى هَؤُلَاءِ إِذَا فَضَلَ عَنِ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يُخْرَجُ مِنَ التَّرِكَةِ الدَّيْنُ، حَتَّى لَوِ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ كُلَّ مَالِ الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ حَقٌّ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ، أَوْ كَانَ إِلَّا أَنَّهُ قُضِيَ وَفَضَلَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، فَإِنْ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِوَصِيَّةٍ أُخْرِجَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ ثُلُثِ مَا فَضَلَ، ثُمَّ قُسِمَ الْبَاقِي مِيرَاثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ، وَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ التَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ وَاللَّفْظِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ كَلِمَةَ «أَوْ» لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ الْبَتَّةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَالٌ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ إِخْرَاجُهَا شَاقًّا عَلَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَ أَدَاؤُهَا مَظِنَّةً لِلتَّفْرِيطِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ، فَإِنَّ نُفُوسَ الْوَرَثَةِ مُطْمَئِنَّةٌ إِلَى أَدَائِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْوَصِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ فِي اللَّفْظِ بَعْثًا عَلَى أَدَائِهَا وَتَرْغِيبًا فِي إِخْرَاجِهَا، ثُمَّ أَكَّدَ فِي ذَلِكَ التَّرْغِيبِ بِإِدْخَالِ كَلِمَةِ «أَوْ» عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمَا فِي وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ عَلَى السَّوِيَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ سِهَامَ الْمَوَارِيثِ كَمَا أَنَّهَا تُؤَخَّرُ عَنِ الدَّيْنِ فَكَذَا تُؤَخَّرُ عَنِ الْوَصِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ كَانَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ مُعْتَبَرَةً بَعْدَ تَسْلِيمِ الثُّلُثِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ ذِكْرِ الدَّيْنِ وَذِكْرِ الْوَصِيَّةِ، لِيُعْلِمَنَا أَنَّ سِهَامَ الْمِيرَاثِ مُعْتَبَرَةٌ/ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الدَّيْنِ، بَلْ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ دَخَلَ النُّقْصَانُ فِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَفِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْإِرْثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ، فانه لَوْ هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ دَخَلَ النُّقْصَانُ فِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَفِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْإِرْثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ، فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ اسْتُوْفِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ مِنَ الْبَاقِي، وَإِنِ اسْتَغْرَقَهُ بَطَلَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ جَمِيعًا، فَالْوَصِيَّةُ تُشْبِهُ الْإِرْثَ مِنْ وَجْهٍ، وَالدَّيْنَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، أَمَّا مُشَابَهَتُهَا بِالْإِرْثِ فَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَتَى هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ دَخَلَ النُّقْصَانُ فِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ، وَأَمَّا مُشَابَهَتُهَا بِالدَّيْنِ فَلِأَنَّ سِهَامَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِخْوَةُ إِذَا حَجَبُوا الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ فَهُمْ لَا يَرِثُونَ شَيْئًا الْبَتَّةَ، بَلْ/ يَأْخُذُ الْأَبُ كُلَّ الْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، سُدُسٌ بِالْفَرْضِ، وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِخْوَةُ يَأْخُذُونَ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ، فَهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ لَمَّا حَجَبُوا وَجَبَ أَنْ يَرِثُوا، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِخْوَةِ كَانَ الْمَالُ مِلْكًا لِلْأَبَوَيْنِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ لَمْ يَذْكُرْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا بِأَنَّهُمْ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَاجِبًا كَوْنُهُ وَارِثًا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى الْمَالُ بَعْدَ حُصُولِ هَذَا الْحَجْبِ عَلَى مَلْكِ الْأَبَوَيْنِ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ.
اعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ الْوَصَايَا تُذْكَرُ فِي خَاتِمَةِ هذه الآية وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْصِبَاءَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، قَالَ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ أَيْ هَذِهِ الْأَنْصِبَاءُ إِنَّمَا تُدْفَعُ إِلَى هَؤُلَاءِ إِذَا فَضَلَ عَنِ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يُخْرَجُ مِنَ التَّرِكَةِ الدَّيْنُ، حَتَّى لَوِ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ كُلَّ مَالِ الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ حَقٌّ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ، أَوْ كَانَ إِلَّا أَنَّهُ قُضِيَ وَفَضَلَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، فَإِنْ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِوَصِيَّةٍ أُخْرِجَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ ثُلُثِ مَا فَضَلَ، ثُمَّ قُسِمَ الْبَاقِي مِيرَاثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ، وَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ التَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ وَاللَّفْظِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ كَلِمَةَ «أَوْ» لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ الْبَتَّةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَالٌ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ إِخْرَاجُهَا شَاقًّا عَلَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَ أَدَاؤُهَا مَظِنَّةً لِلتَّفْرِيطِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ، فَإِنَّ نُفُوسَ الْوَرَثَةِ مُطْمَئِنَّةٌ إِلَى أَدَائِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْوَصِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ فِي اللَّفْظِ بَعْثًا عَلَى أَدَائِهَا وَتَرْغِيبًا فِي إِخْرَاجِهَا، ثُمَّ أَكَّدَ فِي ذَلِكَ التَّرْغِيبِ بِإِدْخَالِ كَلِمَةِ «أَوْ» عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمَا فِي وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ عَلَى السَّوِيَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ سِهَامَ الْمَوَارِيثِ كَمَا أَنَّهَا تُؤَخَّرُ عَنِ الدَّيْنِ فَكَذَا تُؤَخَّرُ عَنِ الْوَصِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ كَانَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ مُعْتَبَرَةً بَعْدَ تَسْلِيمِ الثُّلُثِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ ذِكْرِ الدَّيْنِ وَذِكْرِ الْوَصِيَّةِ، لِيُعْلِمَنَا أَنَّ سِهَامَ الْمِيرَاثِ مُعْتَبَرَةٌ/ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الدَّيْنِ، بَلْ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ دَخَلَ النُّقْصَانُ فِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَفِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْإِرْثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ، فانه لَوْ هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ دَخَلَ النُّقْصَانُ فِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَفِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْإِرْثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ، فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ اسْتُوْفِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ مِنَ الْبَاقِي، وَإِنِ اسْتَغْرَقَهُ بَطَلَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ جَمِيعًا، فَالْوَصِيَّةُ تُشْبِهُ الْإِرْثَ مِنْ وَجْهٍ، وَالدَّيْنَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، أَمَّا مُشَابَهَتُهَا بِالْإِرْثِ فَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَتَى هَلَكَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ دَخَلَ النُّقْصَانُ فِي أَنْصِبَاءِ أَصْحَابِ الْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ، وَأَمَّا مُشَابَهَتُهَا بِالدَّيْنِ فَلِأَنَّ سِهَامَ
518
أَهْلِ الْمَوَارِيثِ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَمَا أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الدَّيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لقائل أن يقول: ما معنى «أو» هاهنا وَهَلَّا قِيلَ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ «أَوْ» مَعْنَاهَا الْإِبَاحَةُ كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ أَنْ يُجَالَسَ، فَإِنْ جَالَسْتَ الْحَسَنَ فَأَنْتَ مُصِيبٌ، أَوِ ابْنَ سِيرِينَ فَأَنْتَ مُصِيبٌ، وَإِنْ جَمَعْتَهُمَا فَأَنْتَ مُصِيبٌ، أَمَّا لَوْ قَالَ: جَالِسِ الرَّجُلَيْنِ فَجَالَسْتَ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَتَرَكْتَ الْآخَرَ كنت غير موافق للأمر، فكذا هاهنا لَوْ قَالَ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ وَدَيْنٍ وَجَبَ فِي كُلِّ مَالٍ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا إِذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ «أَوْ» كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَهُمَا إِنْ كَانَ فَالْمِيرَاثُ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ كِلَاهُمَا. الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «أَوْ» إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ صَارَتْ فِي مَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: ٢٤] وَقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الْأَنْعَامِ: ١٤٦] فكانت «أو» هاهنا بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ أَوْ دَيْنٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بَعْدَهُمَا جَمِيعًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُوصَى بِفَتْحِ الصَّادِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الصَّادِ إِضَافَةً إِلَى الْمُوصِي وَهُوَ الِاخْتِيَارُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ ذِكْرِ الْوَارِثِينَ وَأَنْصِبَائِهِمْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ حَقِّ/ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَكُونَ مَا اعْتَرَضَ مُؤَكِّدًا مَا اعْتَرَضَ بَيْنَهُ وَمُنَاسِبَهُ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْصِبَاءَ الْأَوْلَادِ وَأَنْصِبَاءَ الْأَبَوَيْنِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءُ مُخْتَلِفَةً وَالْعُقُولُ لَا تَهْتَدِي إِلَى كَمِّيَّةِ تِلْكَ التَّقْدِيرَاتِ، وَالْإِنْسَانُ رُبَّمَا خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَوْ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ أنفع وَأَصْلَحَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَتْ قِسْمَةُ الْعَرَبِ لِلْمَوَارِيثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الرِّجَالَ الْأَقْوِيَاءَ، وَمَا كَانُوا يُوَرِّثُونَ الصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانِ وَالضُّعَفَاءَ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَزَالَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِأَنْ قَالَ: إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُقُولَكُمْ لَا تُحِيطُ بِمَصَالِحِكُمْ، فَرُبَّمَا اعْتَقَدْتُمْ فِي شَيْءٍ أَنَّهُ صَالِحٌ لَكُمْ وَهُوَ عَيْنُ الْمَضَرَّةِ وَرُبَّمَا اعْتَقَدْتُمْ فِيهِ أَنَّهُ عَيْنُ الْمَضَرَّةِ وَيَكُونُ عَيْنَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا الْإِلَهُ الْحَكِيمُ الرَّحِيمُ فَهُوَ الْعَالِمُ بِمُغَيَّبَاتِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتْرُكُوا تَقْدِيرَ الْمَوَارِيثِ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي تَسْتَحْسِنُهَا عُقُولُكُمْ، وَكُونُوا مُطِيعِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي قَدَّرَهَا لَكُمْ، فَقَوْلُهُ: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَقَوْلُهُ:
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِهَذِهِ الْقِسْمَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّرْعُ وَقَضَى بِهَا، وَذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ لَيُشَفِّعُ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ، فَأَطْوَعُكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ أَرْفَعُكُمْ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ أَرْفَعَ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ مِنْ وَلَدِهِ رَفَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَدَهُ بِمَسْأَلَتِهِ لِيُقِرَّ بِذَلِكَ عَيْنَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ أَرْفَعَ دَرَجَةً مِنْ وَالِدَيْهِ رَفَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَالِدَيْهِ، فَقَالَ: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَعْرِفُ أَنَّ انْتِفَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ بِهَذَا أَكْثَرُ أَمْ بِذَلِكَ.
الثَّانِي: الْمُرَادُ كَيْفِيَّةُ انْتِفَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي الدُّنْيَا مِنْ جِهَةِ مَا أَوْجَبَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَالتَّرْبِيَةِ لَهُ وَالذَّبِّ عَنْهُ وَالثَّالِثُ: الْمُرَادُ جَوَازُ أَنْ يَمُوتَ هَذَا قَبْلَ ذَلِكَ فَيَرِثُهُ وَبِالضِّدِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لقائل أن يقول: ما معنى «أو» هاهنا وَهَلَّا قِيلَ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ «أَوْ» مَعْنَاهَا الْإِبَاحَةُ كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ أَنْ يُجَالَسَ، فَإِنْ جَالَسْتَ الْحَسَنَ فَأَنْتَ مُصِيبٌ، أَوِ ابْنَ سِيرِينَ فَأَنْتَ مُصِيبٌ، وَإِنْ جَمَعْتَهُمَا فَأَنْتَ مُصِيبٌ، أَمَّا لَوْ قَالَ: جَالِسِ الرَّجُلَيْنِ فَجَالَسْتَ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَتَرَكْتَ الْآخَرَ كنت غير موافق للأمر، فكذا هاهنا لَوْ قَالَ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ وَدَيْنٍ وَجَبَ فِي كُلِّ مَالٍ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا إِذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ «أَوْ» كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَهُمَا إِنْ كَانَ فَالْمِيرَاثُ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ كِلَاهُمَا. الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «أَوْ» إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ صَارَتْ فِي مَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: ٢٤] وَقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الْأَنْعَامِ: ١٤٦] فكانت «أو» هاهنا بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ أَوْ دَيْنٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بَعْدَهُمَا جَمِيعًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُوصَى بِفَتْحِ الصَّادِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الصَّادِ إِضَافَةً إِلَى الْمُوصِي وَهُوَ الِاخْتِيَارُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ ذِكْرِ الْوَارِثِينَ وَأَنْصِبَائِهِمْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ حَقِّ/ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَكُونَ مَا اعْتَرَضَ مُؤَكِّدًا مَا اعْتَرَضَ بَيْنَهُ وَمُنَاسِبَهُ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْصِبَاءَ الْأَوْلَادِ وَأَنْصِبَاءَ الْأَبَوَيْنِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءُ مُخْتَلِفَةً وَالْعُقُولُ لَا تَهْتَدِي إِلَى كَمِّيَّةِ تِلْكَ التَّقْدِيرَاتِ، وَالْإِنْسَانُ رُبَّمَا خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَوْ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ أنفع وَأَصْلَحَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَتْ قِسْمَةُ الْعَرَبِ لِلْمَوَارِيثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الرِّجَالَ الْأَقْوِيَاءَ، وَمَا كَانُوا يُوَرِّثُونَ الصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانِ وَالضُّعَفَاءَ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَزَالَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِأَنْ قَالَ: إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُقُولَكُمْ لَا تُحِيطُ بِمَصَالِحِكُمْ، فَرُبَّمَا اعْتَقَدْتُمْ فِي شَيْءٍ أَنَّهُ صَالِحٌ لَكُمْ وَهُوَ عَيْنُ الْمَضَرَّةِ وَرُبَّمَا اعْتَقَدْتُمْ فِيهِ أَنَّهُ عَيْنُ الْمَضَرَّةِ وَيَكُونُ عَيْنَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا الْإِلَهُ الْحَكِيمُ الرَّحِيمُ فَهُوَ الْعَالِمُ بِمُغَيَّبَاتِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتْرُكُوا تَقْدِيرَ الْمَوَارِيثِ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي تَسْتَحْسِنُهَا عُقُولُكُمْ، وَكُونُوا مُطِيعِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي قَدَّرَهَا لَكُمْ، فَقَوْلُهُ: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَقَوْلُهُ:
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِهَذِهِ الْقِسْمَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّرْعُ وَقَضَى بِهَا، وَذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ لَيُشَفِّعُ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ، فَأَطْوَعُكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ أَرْفَعُكُمْ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ أَرْفَعَ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ مِنْ وَلَدِهِ رَفَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَدَهُ بِمَسْأَلَتِهِ لِيُقِرَّ بِذَلِكَ عَيْنَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ أَرْفَعَ دَرَجَةً مِنْ وَالِدَيْهِ رَفَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَالِدَيْهِ، فَقَالَ: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَعْرِفُ أَنَّ انْتِفَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ بِهَذَا أَكْثَرُ أَمْ بِذَلِكَ.
الثَّانِي: الْمُرَادُ كَيْفِيَّةُ انْتِفَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي الدُّنْيَا مِنْ جِهَةِ مَا أَوْجَبَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَالتَّرْبِيَةِ لَهُ وَالذَّبِّ عَنْهُ وَالثَّالِثُ: الْمُرَادُ جَوَازُ أَنْ يَمُوتَ هَذَا قَبْلَ ذَلِكَ فَيَرِثُهُ وَبِالضِّدِّ.
519
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ هُوَ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ أَيْ فَرَضَ ذَلِكَ فَرْضًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ قِسْمَةَ اللَّهِ لِهَذِهِ الْمَوَارِيثِ أَوْلَى مِنَ الْقِسْمَةِ الَّتِي تَمِيلُ إِلَيْهَا طِبَاعُكُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَيَكُونُ عَالِمًا بِمَا فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ الْأَحْسَنُ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ قِسْمَتُهُ لِهَذِهِ الْمَوَارِيثِ أَوْلَى مِنَ الْقِسْمَةِ الَّتِي تُرِيدُونَهَا، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: ٣٠].
فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً مَعَ أَنَّهُ الْآنَ كَذَلِكَ.
قُلْنَا: قَالَ الْخَلِيلُ: الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَالْخَبَرِ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الدُّخُولِ تَحْتَ الزَّمَانِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْقَوْمُ لَمَّا شَاهَدُوا عِلْمًا وَحِكْمَةً وَفَضْلًا وَإِحْسَانًا تَعَجَّبُوا، فَقِيلَ/ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بهذه الصفات.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إلى قوله مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ أَقْسَامَ الْوَرَثَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَحْسَنِ التَّرْتِيبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَارِثَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةٍ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَسَبَبُ الِاتِّصَالِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّسَبَ أَوِ الزَّوْجِيَّةَ، فَحَصَلَ هَاهُنَا أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ، أَشْرَفُهَا وَأَعْلَاهَا الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ النسب، وذلك هو قرابة الولاد، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَوْلَادُ وَالْوَالِدَانِ فَاللَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ حُكْمَ هَذَا الْقِسْمِ. وَثَانِيهَا: الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَأَخِّرٌ فِي الشَّرَفِ عَنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ذَاتِيٌّ وَهَذَا الثَّانِي عَرَضِيٌّ، وَالذَّاتِيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْعَرَضِيِّ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ الْآنَ فِي تَفْسِيرِهَا. وَثَالِثُهَا: الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَلَالَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَوْلَادَ وَالْوَالِدَيْنِ وَالْأَزْوَاجَ وَالزَّوْجَاتِ لَا يَعْرِضُ لَهُمُ السُّقُوطُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَمَّا الْكَلَالَةُ فَقَدْ يَعْرِضُ لَهُمُ السُّقُوطُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُنْسَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْكَلَالَةُ تُنْسَبُ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ وَالثَّابِتُ ابْتِدَاءً أَشْرَفُ مِنَ الثَّابِتِ بِوَاسِطَةٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُخَالَطَةَ الْإِنْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَكْثَرُ وَأَتَمُّ مِنْ مُخَالَطَتِهِ بِالْكَلَالَةِ. وَكَثْرَةُ الْمُخَالَطَةِ مَظِنَّةُ الْأُلْفَةِ وَالشَّفَقَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ شِدَّةَ الِاهْتِمَامِ بِأَحْوَالِهِمْ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ وَأَشْبَاهِهَا أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ مَوَارِيثِ الْكَلَالَةِ عَنْ ذِكْرِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ وَمَا أَشَدَّ انْطِبَاقَهُ/ عَلَى قَوَانِينِ الْمَعْقُولَاتِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ فِي الْمُوجِبِ النِّسْبِيِّ حَظَّ الرَّجُلِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَذَلِكَ جَعَلَ فِي الْمُوجِبِ السَّبَبِيِّ حَظَّ الرَّجُلِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ سَوَاءٌ فِي الرُّبُعِ وَالثُّمُنِ، وَالْوَلَدُ مِنْ
فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً مَعَ أَنَّهُ الْآنَ كَذَلِكَ.
قُلْنَا: قَالَ الْخَلِيلُ: الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَالْخَبَرِ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الدُّخُولِ تَحْتَ الزَّمَانِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْقَوْمُ لَمَّا شَاهَدُوا عِلْمًا وَحِكْمَةً وَفَضْلًا وَإِحْسَانًا تَعَجَّبُوا، فَقِيلَ/ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بهذه الصفات.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إلى قوله مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ أَقْسَامَ الْوَرَثَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَحْسَنِ التَّرْتِيبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَارِثَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةٍ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَسَبَبُ الِاتِّصَالِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّسَبَ أَوِ الزَّوْجِيَّةَ، فَحَصَلَ هَاهُنَا أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ، أَشْرَفُهَا وَأَعْلَاهَا الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ النسب، وذلك هو قرابة الولاد، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَوْلَادُ وَالْوَالِدَانِ فَاللَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ حُكْمَ هَذَا الْقِسْمِ. وَثَانِيهَا: الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَأَخِّرٌ فِي الشَّرَفِ عَنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ذَاتِيٌّ وَهَذَا الثَّانِي عَرَضِيٌّ، وَالذَّاتِيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْعَرَضِيِّ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ الْآنَ فِي تَفْسِيرِهَا. وَثَالِثُهَا: الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَلَالَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَوْلَادَ وَالْوَالِدَيْنِ وَالْأَزْوَاجَ وَالزَّوْجَاتِ لَا يَعْرِضُ لَهُمُ السُّقُوطُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَمَّا الْكَلَالَةُ فَقَدْ يَعْرِضُ لَهُمُ السُّقُوطُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُنْسَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْكَلَالَةُ تُنْسَبُ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ وَالثَّابِتُ ابْتِدَاءً أَشْرَفُ مِنَ الثَّابِتِ بِوَاسِطَةٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُخَالَطَةَ الْإِنْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَكْثَرُ وَأَتَمُّ مِنْ مُخَالَطَتِهِ بِالْكَلَالَةِ. وَكَثْرَةُ الْمُخَالَطَةِ مَظِنَّةُ الْأُلْفَةِ وَالشَّفَقَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ شِدَّةَ الِاهْتِمَامِ بِأَحْوَالِهِمْ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ وَأَشْبَاهِهَا أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ مَوَارِيثِ الْكَلَالَةِ عَنْ ذِكْرِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ وَمَا أَشَدَّ انْطِبَاقَهُ/ عَلَى قَوَانِينِ الْمَعْقُولَاتِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ فِي الْمُوجِبِ النِّسْبِيِّ حَظَّ الرَّجُلِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَذَلِكَ جَعَلَ فِي الْمُوجِبِ السَّبَبِيِّ حَظَّ الرَّجُلِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ سَوَاءٌ فِي الرُّبُعِ وَالثُّمُنِ، وَالْوَلَدُ مِنْ
520
ذَلِكَ الزَّوْجِ وَمِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الرَّدِّ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ أَوْ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْوَلَدِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِابْنِ وَبَيْنَ ابْنِ الِابْنِ وَلَا بَيْنَ الْبِنْتِ وَبَيْنَ بِنْتِ الِابْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لِلزَّوْجِ غَسْلُ زَوْجَتِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ زَوْجَتُهُ فَيَحِلُّ لَهُ غَسْلُهَا، بَيَانُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ سَمَّاهَا زَوْجَةً حَالَ مَا أَثْبَتَ لِلزَّوْجِ نصف مالها عند موتها، وإنما ثَبَتَ لِلزَّوْجِ نِصْفُ مَالِهَا عِنْدَ مَوْتِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لَهُ غَسْلُهَا لِأَنَّهُ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ غَسْلُهَا، وَعِنْدَ حُصُولِ الزَّوْجِيَّةِ حَلَّ لَهُ غَسْلُهَا، وَالدَّوَرَانُ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ ظَاهِرًا. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتُهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ غَسْلُهَا: بَيَانُ عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ لَحَلَّ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَطْؤُهَا لِقَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حِلُّ الْغَسْلِ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ إِمَّا مَعَ حِلِّ النَّظَرِ وَهُوَ بَاطِلٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «غُضَّ بَصَرَكَ إِلَّا عَنْ زَوْجَتِكَ»
أَوْ بِدُونِ حِلِّ النَّظَرِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَالْجَوَابُ: لَمَّا تَعَارَضَتِ الْآيَتَانِ فِي ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ وَعَدَمِهَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً لَكَانَ قَوْلُهُ: نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ مَجَازًا، وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً مَعَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا لَزِمَ التَّخْصِيصُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ التَّخْصِيصَ أَوْلَى، فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا، وَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ حَصَلَتِ الزَّوْجِيَّةُ وَلَمْ يَحْصُلْ حِلُّ الْوَطْءِ مِثْلُ زَمَانِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَمِثْلُ نَهَارِ رَمَضَانَ، وَعِنْدَ اشْتِغَالِهَا بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْحَجِّ الْمَفْرُوضِ، وَعِنْدَ كَوْنِهَا فِي الْعِدَّةِ عَنِ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْخِلَافِيَّاتِ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْكَثِيرَةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَصَالِحِ، فَعَادَ إِلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، أَمَّا حِلُّ الْغَسْلِ فَإِنَّ ثُبُوتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْشَأٌ لِلْمَصَالِحِ الْكَثِيرَةِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَائِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَ الرِّجَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ، وَحَيْثُ ذَكَرَ النِّسَاءَ ذَكَرَهُنَّ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ، وَأَيْضًا/ خَاطَبَ اللَّهُ الرِّجَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَذَكَرَ النِّسَاءَ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْغَيْبَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا رَاعَى هَذِهِ الدَّقِيقَةَ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي النَّصِيبِ، وَنَبَّهَ بِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ على مزيد فضلهم عليهن.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي شَرْحِ تَوْرِيثِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ الْوَرَثَةِ وَهُمُ الْكَلَالَةُ وَهُمُ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَثُرَ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ، وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مِنْ سِوَى الْوَلَدِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لا ولد له، وأنا أستحيى أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ، وَعَنْ عُمَرَ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ التَّوَقُّفُ، وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ، لَأَنْ يَكُونَ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلَالَةُ، وَالْخِلَافَةُ، وَالرِّبَا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: التَّمَسُّكُ بِاشْتِقَاقِ لَفْظِ الْكَلَالَةِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يُقَالُ: كَلَّتِ الرَّحِمُ بَيْنَ فُلَانٍ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لِلزَّوْجِ غَسْلُ زَوْجَتِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ زَوْجَتُهُ فَيَحِلُّ لَهُ غَسْلُهَا، بَيَانُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ سَمَّاهَا زَوْجَةً حَالَ مَا أَثْبَتَ لِلزَّوْجِ نصف مالها عند موتها، وإنما ثَبَتَ لِلزَّوْجِ نِصْفُ مَالِهَا عِنْدَ مَوْتِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لَهُ غَسْلُهَا لِأَنَّهُ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ غَسْلُهَا، وَعِنْدَ حُصُولِ الزَّوْجِيَّةِ حَلَّ لَهُ غَسْلُهَا، وَالدَّوَرَانُ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ ظَاهِرًا. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتُهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ غَسْلُهَا: بَيَانُ عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ لَحَلَّ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَطْؤُهَا لِقَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حِلُّ الْغَسْلِ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ إِمَّا مَعَ حِلِّ النَّظَرِ وَهُوَ بَاطِلٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «غُضَّ بَصَرَكَ إِلَّا عَنْ زَوْجَتِكَ»
أَوْ بِدُونِ حِلِّ النَّظَرِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَالْجَوَابُ: لَمَّا تَعَارَضَتِ الْآيَتَانِ فِي ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ وَعَدَمِهَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً لَكَانَ قَوْلُهُ: نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ مَجَازًا، وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً مَعَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا لَزِمَ التَّخْصِيصُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ التَّخْصِيصَ أَوْلَى، فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا، وَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ حَصَلَتِ الزَّوْجِيَّةُ وَلَمْ يَحْصُلْ حِلُّ الْوَطْءِ مِثْلُ زَمَانِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَمِثْلُ نَهَارِ رَمَضَانَ، وَعِنْدَ اشْتِغَالِهَا بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْحَجِّ الْمَفْرُوضِ، وَعِنْدَ كَوْنِهَا فِي الْعِدَّةِ عَنِ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْخِلَافِيَّاتِ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْكَثِيرَةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَصَالِحِ، فَعَادَ إِلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، أَمَّا حِلُّ الْغَسْلِ فَإِنَّ ثُبُوتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْشَأٌ لِلْمَصَالِحِ الْكَثِيرَةِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَائِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَ الرِّجَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ، وَحَيْثُ ذَكَرَ النِّسَاءَ ذَكَرَهُنَّ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ، وَأَيْضًا/ خَاطَبَ اللَّهُ الرِّجَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَذَكَرَ النِّسَاءَ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْغَيْبَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا رَاعَى هَذِهِ الدَّقِيقَةَ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي النَّصِيبِ، وَنَبَّهَ بِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ على مزيد فضلهم عليهن.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي شَرْحِ تَوْرِيثِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ الْوَرَثَةِ وَهُمُ الْكَلَالَةُ وَهُمُ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَثُرَ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ، وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مِنْ سِوَى الْوَلَدِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لا ولد له، وأنا أستحيى أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ، وَعَنْ عُمَرَ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ التَّوَقُّفُ، وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ، لَأَنْ يَكُونَ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلَالَةُ، وَالْخِلَافَةُ، وَالرِّبَا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: التَّمَسُّكُ بِاشْتِقَاقِ لَفْظِ الْكَلَالَةِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يُقَالُ: كَلَّتِ الرَّحِمُ بَيْنَ فُلَانٍ
521
وَفُلَانٍ إِذَا تَبَاعَدَتِ الْقَرَابَةُ، وَحَمَلَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، ثُمَّ كَلَّ عَنْهُ إِذَا تَبَاعَدَ. فَسُمِّيَتِ الْقَرَابَةُ الْبَعِيدَةُ كَلَالَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: يُقَالُ: كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلًّا وَكَلَالَةً إِذَا أَعْيَا وَذَهَبَتْ قُوَّتُهُ، ثُمَّ جَعَلُوا هَذَا اللَّفْظَ اسْتِعَارَةً مِنَ الْقَرَابَةِ الْحَاصِلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوِلَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ حَاصِلَةٌ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ فَيَكُونُ فِيهَا ضَعْفٌ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يَبْعُدُ إِدْخَالُ الْوَالِدَيْنِ فِي الْكَلَالَةِ لِأَنَّ انْتِسَابَهُمَا إِلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. الثَّالِثُ: الْكَلَالَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ، وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ/ بِالرَّأْسِ، وَمِنْهُ الْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ بِمَا يَدْخَلُ فِيهِ، وَيُقَالُ تَكَلَّلَ السَّحَابُ إِذَا صَارَ مُحِيطًا بِالْجَوَانِبِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَنْ عَدَا الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ إِنَّمَا سُمُّوا بِالْكَلَالَةِ، لِأَنَّهُمْ كَالدَّائِرَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْإِنْسَانِ وَكَالْإِكْلِيلِ الْمُحِيطِ بِرَأْسِهِ: أما قرية الْوِلَادَةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّ فِيهَا يَتَفَرَّعُ الْبَعْضُ عَنِ الْبَعْضِ:
وَيَتَوَلَّدُ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ، كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَتَزَايَدُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَمَّا الْقَرَابَةُ الْمُغَايِرَةُ لِقَرَابَةِ الْوِلَادَةِ، وَهِيَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ لِنَسَبِهِمُ اتِّصَالٌ وَإِحَاطَةٌ بِالْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الِاشْتِقَاقِيَّةِ أَنَّ الْكَلَالَةَ عِبَارَةٌ عَمَّنْ عَدَا الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَا ذَكَرَ لَفْظَ الْكَلَالَةِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ: أَحَدُهُمَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَالثَّانِي: فِي آخِرِ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ [النِّسَاءِ: ١٧٦] وَاحْتَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ فَقَطْ، قَالَ: لِأَنَّ المذكور هاهنا فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ: هُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِتَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ حَالَ كَوْنِ الْمَيِّتِ كَلَالَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَرِثُونَ حَالَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً حَالَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الْكَلَالَةِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
دَلَّ هَذَا الْبَيْتُ عَلَى أَنَّهُمْ مَا وَرِثُوا الْمُلْكَ عَنِ الْكَلَالَةِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ وَرِثُوهَا عَنْ آبَائِهِمْ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَبُ دَاخِلًا فِي الْكَلَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَلَالَةُ قَدْ تُجْعَلُ وَصْفًا لِلْوَارِثِ وَلِلْمُوَرَّثِ، فَإِذَا جَعَلْنَاهَا وَصْفًا لِلْوَارِثِ فَالْمُرَادُ مَنْ سِوَى الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَإِذَا جَعَلْنَاهَا وَصْفًا لِلْمُوَرَّثِ، فَالْمُرَادُ الَّذِي يَرِثُهُ مَنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَارِثِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رَوَى جَابِرٌ قَالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا أُشْفِيتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ لَا يَرِثُنِي إِلَّا كَلَالَةٌ،
وَأَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُوَرَّثِ فَالْبَيْتُ الَّذِي/ رَوَيْنَاهُ عَنِ الْفَرَزْدَقِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ مَا وَرِثْتُمُ الْمُلْكَ عَنِ الْأَعْمَامِ، بَلْ عَنِ الْآبَاءِ فَسَمَّى الْعَمَّ كلالة وهو هاهنا مُوَرِّثٌ لَا وَارِثٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَالَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَيِّتُ، الَّذِي لَا يَخْلُفُ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدَ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إِنَّمَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْمَيِّتِ الَّذِي هُوَ الْمُوَرِّثُ لَا فِي الْوَارِثِ الَّذِي لَا يختلف حاله بسب أَنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا أَمْ لَا.
وَيَتَوَلَّدُ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ، كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَتَزَايَدُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَسَبٌ تَتَابَعَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ | كَالرُّمْحِ أُنْبُوبًا عَلَى أُنْبُوبِ |
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَا ذَكَرَ لَفْظَ الْكَلَالَةِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ: أَحَدُهُمَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَالثَّانِي: فِي آخِرِ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ [النِّسَاءِ: ١٧٦] وَاحْتَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ فَقَطْ، قَالَ: لِأَنَّ المذكور هاهنا فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ: هُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِتَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ حَالَ كَوْنِ الْمَيِّتِ كَلَالَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَرِثُونَ حَالَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً حَالَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الْكَلَالَةِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمُلْكِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ | عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَلَالَةُ قَدْ تُجْعَلُ وَصْفًا لِلْوَارِثِ وَلِلْمُوَرَّثِ، فَإِذَا جَعَلْنَاهَا وَصْفًا لِلْوَارِثِ فَالْمُرَادُ مَنْ سِوَى الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَإِذَا جَعَلْنَاهَا وَصْفًا لِلْمُوَرَّثِ، فَالْمُرَادُ الَّذِي يَرِثُهُ مَنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَارِثِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رَوَى جَابِرٌ قَالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا أُشْفِيتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ لَا يَرِثُنِي إِلَّا كَلَالَةٌ،
وَأَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُوَرَّثِ فَالْبَيْتُ الَّذِي/ رَوَيْنَاهُ عَنِ الْفَرَزْدَقِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ مَا وَرِثْتُمُ الْمُلْكَ عَنِ الْأَعْمَامِ، بَلْ عَنِ الْآبَاءِ فَسَمَّى الْعَمَّ كلالة وهو هاهنا مُوَرِّثٌ لَا وَارِثٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَالَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَيِّتُ، الَّذِي لَا يَخْلُفُ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدَ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إِنَّمَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْمَيِّتِ الَّذِي هُوَ الْمُوَرِّثُ لَا فِي الْوَارِثِ الَّذِي لَا يختلف حاله بسب أَنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا أَمْ لَا.
522
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ رَجُلٌ كَلَالَةٌ، وَامْرَأَةٌ كَلَالَةٌ، وَقَوْمٌ كَلَالَةٌ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالدَّلَالَةِ وَالْوَكَالَةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا جَعَلْنَاهَا صِفَةً لِلْوَارِثِ أَوِ الْمُوَرَّثِ كَانَ بِمَعْنَى ذِي كَلَالَةٍ، كَمَا يَقُولُ: فُلَانٌ مِنْ قَرَابَتِي يُرِيدُ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِي، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً كَالْهَجَاجَةِ وَالْفَقَاقَةِ لِلْأَحْمَقِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: يُورَثُ فِيهِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ وَرِثَهُ الرَّجُلُ يَرِثُهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الرَّجُلُ هُوَ الْمَوْرُوثُ مِنْهُ، وَفِي انْتِصَابِ كَلَالَةً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: يُورَثُ حَالَ كَوْنِهِ كَلَالَةً، وَالْكَلَالَةُ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: يُورَثُ مُتَكَلِّلَ النَّسَبِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ قوله: يُورَثُ صفة لرجل، وكَلالَةً خَبَرَ كَانَ، وَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ مِنْهُ كَلَالَةً، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ يُورَثُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ كَلَالَةً.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: يُورَثُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ أَوْرَثَ يُورِثُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الرجل هو الوارب، وَانْتِصَابُ كَلَالَةً عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا يَكُونُ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: يُورِثُ وَيُوَرِّثُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى الْفَاعِلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَفِيهِ مسألتان:
المسألة الأولى: هاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ أَخٌ فَكَنَّى عَنِ الرَّجُلِ وَمَا كَنَّى عَنِ الْمَرْأَةِ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟
وَالْجَوَابُ قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا جَائِزٌ فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَ حَرْفَانِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ «بِأَوْ» جَازَ إِسْنَادُ التَّفْسِيرِ إِلَى أَيِّهِمَا أُرِيدَ، وَيَجُوزُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِمَا أَيْضًا، تَقُولُ: مَنْ كَانَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلْيَصِلْهُ، يَذْهَبُ إِلَى الْأَخِ، أَوْ فَلْيَصِلْهَا يَذْهَبُ إِلَى الْأُخْتِ، وَإِنْ قُلْتَ فَلْيَصِلْهُمَا جَازَ أَيْضًا.
المسألة الثانية: أجمع المفسرون هاهنا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ: الْأَخُ وَالْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي قاص يَقْرَأُ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ، وَإِنَّمَا حَكَمُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ/ فِي آخِرِ السُّورَةِ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاءِ: ١٧٦] فَأَثْبَتَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْإِخْوَةِ كُلَّ الْمَالِ، وهاهنا أَثْبَتَ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ الثُّلُثَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ المراد من الاخوة والأخوات هاهنا غَيْرَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، فَالْمُرَادُ هاهنا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ، وَهُنَاكَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، أَوْ مِنَ الْأَبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: ١١] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِكُلِّ الْمَالِ وَبِأَيِّ بَعْضٍ أُرِيدَ، وَمِمَّا يُوَافِقُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا
رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي بِهِ ثُمَّ تَمْضِي عَلَيْهِ لَيْلَتَانِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»
فَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْوَصِيَّةِ كَيْفَ أُرِيدَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْعُمُومَاتُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: فِي قَدْرِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ الْمَالِ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمِيرَاثِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، أَمَّا الْمُجْمَلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء: ٧] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِكُلِّ الْمَالِ تَقْتَضِي نَسْخَ هذا
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا جَعَلْنَاهَا صِفَةً لِلْوَارِثِ أَوِ الْمُوَرَّثِ كَانَ بِمَعْنَى ذِي كَلَالَةٍ، كَمَا يَقُولُ: فُلَانٌ مِنْ قَرَابَتِي يُرِيدُ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِي، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً كَالْهَجَاجَةِ وَالْفَقَاقَةِ لِلْأَحْمَقِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: يُورَثُ فِيهِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ وَرِثَهُ الرَّجُلُ يَرِثُهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الرَّجُلُ هُوَ الْمَوْرُوثُ مِنْهُ، وَفِي انْتِصَابِ كَلَالَةً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: يُورَثُ حَالَ كَوْنِهِ كَلَالَةً، وَالْكَلَالَةُ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: يُورَثُ مُتَكَلِّلَ النَّسَبِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ قوله: يُورَثُ صفة لرجل، وكَلالَةً خَبَرَ كَانَ، وَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ مِنْهُ كَلَالَةً، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ يُورَثُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ كَلَالَةً.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: يُورَثُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ أَوْرَثَ يُورِثُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الرجل هو الوارب، وَانْتِصَابُ كَلَالَةً عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا يَكُونُ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: يُورِثُ وَيُوَرِّثُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى الْفَاعِلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَفِيهِ مسألتان:
المسألة الأولى: هاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ أَخٌ فَكَنَّى عَنِ الرَّجُلِ وَمَا كَنَّى عَنِ الْمَرْأَةِ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟
وَالْجَوَابُ قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا جَائِزٌ فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَ حَرْفَانِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ «بِأَوْ» جَازَ إِسْنَادُ التَّفْسِيرِ إِلَى أَيِّهِمَا أُرِيدَ، وَيَجُوزُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِمَا أَيْضًا، تَقُولُ: مَنْ كَانَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلْيَصِلْهُ، يَذْهَبُ إِلَى الْأَخِ، أَوْ فَلْيَصِلْهَا يَذْهَبُ إِلَى الْأُخْتِ، وَإِنْ قُلْتَ فَلْيَصِلْهُمَا جَازَ أَيْضًا.
المسألة الثانية: أجمع المفسرون هاهنا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ: الْأَخُ وَالْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي قاص يَقْرَأُ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ، وَإِنَّمَا حَكَمُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ/ فِي آخِرِ السُّورَةِ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاءِ: ١٧٦] فَأَثْبَتَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْإِخْوَةِ كُلَّ الْمَالِ، وهاهنا أَثْبَتَ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ الثُّلُثَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ المراد من الاخوة والأخوات هاهنا غَيْرَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، فَالْمُرَادُ هاهنا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ، وَهُنَاكَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، أَوْ مِنَ الْأَبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: ١١] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِكُلِّ الْمَالِ وَبِأَيِّ بَعْضٍ أُرِيدَ، وَمِمَّا يُوَافِقُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا
رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي بِهِ ثُمَّ تَمْضِي عَلَيْهِ لَيْلَتَانِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»
فَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْوَصِيَّةِ كَيْفَ أُرِيدَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْعُمُومَاتُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: فِي قَدْرِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ الْمَالِ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمِيرَاثِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، أَمَّا الْمُجْمَلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء: ٧] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِكُلِّ الْمَالِ تَقْتَضِي نَسْخَ هذا
523
النَّصِّ، وَأَمَّا الْمُفَصَّلُ فَهِيَ آيَاتُ الْمَوَارِيثِ كَقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: ١١] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ [النساء: ٩] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهِيَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ إِنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَوْلَى النُّقْصَانُ عَنِ الثُّلُثِ
لِقَوْلِهِ: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَالِ وَوَرَثَتُهُ فُقَرَاءُ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ لَا يُوصِيَ بِشَيْءٍ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»
وَرَابِعُهَا: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لِأَجْلِ الْوَرَثَةِ، فَعِنْدَ عَدَمِهِمْ وَجَبَ الْجَوَازُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: تَخْصِيصُ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِذَا أَخَّرَ الزَّكَاةَ وَالْحَجَّ حَتَّى مَاتَ يَجِبُ إِخْرَاجُهُمَا مِنَ التَّرِكَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجِبُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ وَالْحَجَّ الْوَاجِبَ/ دَيْنٌ فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ دَيْنٌ، لِأَنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالشَّرْعُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُوجِبِ لِلِانْقِيَادِ، قِيلَ فِي الدَّعَوَاتِ الْمَشْهُورَةِ يَا مَنْ دَانَتْ لَهُ الرِّقَابُ، أَيِ انْقَادَتْ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ لَمَّا سَأَلَتِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَجِّ الَّذِي كَانَ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يُجْزِئُ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى»
إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ:
الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الدَّيْنُ الْمُطْلَقُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الْحَجَّ دَيْنًا لِلَّهِ، وَالِاسْمُ الْمُطْلَقُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُقَيَّدَ.
قُلْنَا: هَذَا فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا دَيْنٌ، وَثَبَتَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ لَزِمَ الْمَقْصُودُ لَا مَحَالَةَ، وَحَدِيثُ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ كَلَامٌ مُهْمَلٌ لَا يَقْدَحُ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ يُوصِي بِهَا وَهُوَ غَيْرَ مُضَارٍّ لِوَرَثَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الضِّرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُقِرَّ بِكُلِّ مَالِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ لِأَجْنَبِيٍّ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ دَفْعًا لِلْمِيرَاثِ عَنِ الْوَرَثَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ قَدِ اسْتَوْفَاهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يبيع شيئاً بثمن بخمس أَوْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِثَمَنٍ غَالٍ، كُلُّ ذَلِكَ لِغَرَضِ أَنْ لَا يَصِلَ الْمَالُ إِلَى الْوَرَثَةِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ لَكِنْ لِغَرَضِ تَنْقِيصِ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الْإِضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: الْأَوْلَى أَنْ يُوصِيَ بِأَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ،
قَالَ عَلِيٌّ: لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الرُّبُعِ.
وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُوصِ،
وَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ فَوَصَّى، فَإِنْ أَوْصَى الْإِنْسَانُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَحَسَنٌ أَيْضًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ فِي قَدْرِ مَا يَخْلُفُ وَمَنْ يَخْلُفُ، ثُمَّ يَجْعَلُ وَصِيَّتَهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ إِنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَوْلَى النُّقْصَانُ عَنِ الثُّلُثِ
لِقَوْلِهِ: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَالِ وَوَرَثَتُهُ فُقَرَاءُ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ لَا يُوصِيَ بِشَيْءٍ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»
وَرَابِعُهَا: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لِأَجْلِ الْوَرَثَةِ، فَعِنْدَ عَدَمِهِمْ وَجَبَ الْجَوَازُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: تَخْصِيصُ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِذَا أَخَّرَ الزَّكَاةَ وَالْحَجَّ حَتَّى مَاتَ يَجِبُ إِخْرَاجُهُمَا مِنَ التَّرِكَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجِبُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ وَالْحَجَّ الْوَاجِبَ/ دَيْنٌ فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ دَيْنٌ، لِأَنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالشَّرْعُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُوجِبِ لِلِانْقِيَادِ، قِيلَ فِي الدَّعَوَاتِ الْمَشْهُورَةِ يَا مَنْ دَانَتْ لَهُ الرِّقَابُ، أَيِ انْقَادَتْ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ لَمَّا سَأَلَتِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَجِّ الَّذِي كَانَ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يُجْزِئُ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى»
إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ:
الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الدَّيْنُ الْمُطْلَقُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الْحَجَّ دَيْنًا لِلَّهِ، وَالِاسْمُ الْمُطْلَقُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُقَيَّدَ.
قُلْنَا: هَذَا فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا دَيْنٌ، وَثَبَتَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ لَزِمَ الْمَقْصُودُ لَا مَحَالَةَ، وَحَدِيثُ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ كَلَامٌ مُهْمَلٌ لَا يَقْدَحُ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ يُوصِي بِهَا وَهُوَ غَيْرَ مُضَارٍّ لِوَرَثَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الضِّرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُقِرَّ بِكُلِّ مَالِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ لِأَجْنَبِيٍّ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ دَفْعًا لِلْمِيرَاثِ عَنِ الْوَرَثَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ قَدِ اسْتَوْفَاهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يبيع شيئاً بثمن بخمس أَوْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِثَمَنٍ غَالٍ، كُلُّ ذَلِكَ لِغَرَضِ أَنْ لَا يَصِلَ الْمَالُ إِلَى الْوَرَثَةِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ لَكِنْ لِغَرَضِ تَنْقِيصِ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الْإِضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: الْأَوْلَى أَنْ يُوصِيَ بِأَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ،
قَالَ عَلِيٌّ: لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الرُّبُعِ.
وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُوصِ،
وَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ فَوَصَّى، فَإِنْ أَوْصَى الْإِنْسَانُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَحَسَنٌ أَيْضًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ فِي قَدْرِ مَا يَخْلُفُ وَمَنْ يَخْلُفُ، ثُمَّ يَجْعَلُ وَصِيَّتَهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ
524
مَالُهُ قَلِيلًا وَفِي الْوَرَثَةِ كَثْرَةٌ لَمْ يُوصِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ كَثْرَةٌ أَوْصَى بِحَسَبِ الْمَالِ وَبِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ بَعْدَهُ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ/ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:
١٣] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْوَصِيَّةِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: ١٤] قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ
فَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ»
وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً وَجَارَ فِي وَصِيَّتِهِ خُتِمَ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ»
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْوَصِيَّةِ قَطْعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ يَدُلُّ عَلَى جَرَاءَةٍ شَدِيدَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَمَرُّدٍ عَظِيمٍ عَنِ الِانْقِيَادِ لِتَكَالِيفِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ انْتِصَابُ قَوْلِهِ: وَصِيَّةٍ.
وَالْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وصية، كقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء: ١١] الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِقَوْلِهِ: غَيْرَ مُضَارٍّ أَيْ لَا تُضَارُّ وَصِيَّةُ اللَّهِ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَجِبُ أَنْ لَا تُزَادَ عَلَى الثُّلُثِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ بِالْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ وُجُوهَ النَّاسِ بِسَبَبِ الْإِسْرَافِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ: غَيْرَ مُضَارِّ وَصِيَّةٍ بِالْإِضَافَةِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ جَعَلَ خَاتِمَةَ الْآيَةِ الْأُولَى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَخَاتِمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ.
الْجَوَابُ: أَنَّ لَفْظَ الْفَرْضِ أَقْوَى وَآكَدُ مِنْ لَفْظِ الْوَصِيَّةِ، فَخَتَمَ شَرْحَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ بِذِكْرِ الْفَرِيضَةِ، وَخَتَمَ شَرْحَ مِيرَاثِ الْكَلَالَةِ بِالْوَصِيَّةِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الرِّعَايَةِ إِلَّا أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَهُوَ رِعَايَةُ حَالِ الْأَوْلَادِ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ جَارَ أَوْ عَدَلَ فِي وَصِيَّتِهِ حَلِيمٌ عَلَى الْجَائِرِ لَا يُعَاجِلُهُ بِالْعُقُوبَةِ وَهَذَا وَعِيدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣ الى ١٤]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ سِهَامِ الْمَوَارِيثِ ذَكَرَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ تَرْغِيبًا فِي الطَّاعَةِ وَتَرْهِيبًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَقَالَ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَفِيهِ بَحْثَانِ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمَوَارِيثِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ/ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:
١٣] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْوَصِيَّةِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: ١٤] قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ
فَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ»
وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً وَجَارَ فِي وَصِيَّتِهِ خُتِمَ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ»
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْوَصِيَّةِ قَطْعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ يَدُلُّ عَلَى جَرَاءَةٍ شَدِيدَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَمَرُّدٍ عَظِيمٍ عَنِ الِانْقِيَادِ لِتَكَالِيفِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ انْتِصَابُ قَوْلِهِ: وَصِيَّةٍ.
وَالْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وصية، كقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء: ١١] الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِقَوْلِهِ: غَيْرَ مُضَارٍّ أَيْ لَا تُضَارُّ وَصِيَّةُ اللَّهِ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَجِبُ أَنْ لَا تُزَادَ عَلَى الثُّلُثِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ بِالْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ وُجُوهَ النَّاسِ بِسَبَبِ الْإِسْرَافِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ: غَيْرَ مُضَارِّ وَصِيَّةٍ بِالْإِضَافَةِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ جَعَلَ خَاتِمَةَ الْآيَةِ الْأُولَى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَخَاتِمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ.
الْجَوَابُ: أَنَّ لَفْظَ الْفَرْضِ أَقْوَى وَآكَدُ مِنْ لَفْظِ الْوَصِيَّةِ، فَخَتَمَ شَرْحَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ بِذِكْرِ الْفَرِيضَةِ، وَخَتَمَ شَرْحَ مِيرَاثِ الْكَلَالَةِ بِالْوَصِيَّةِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الرِّعَايَةِ إِلَّا أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَهُوَ رِعَايَةُ حَالِ الْأَوْلَادِ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ جَارَ أَوْ عَدَلَ فِي وَصِيَّتِهِ حَلِيمٌ عَلَى الْجَائِرِ لَا يُعَاجِلُهُ بِالْعُقُوبَةِ وَهَذَا وَعِيدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣ الى ١٤]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ سِهَامِ الْمَوَارِيثِ ذَكَرَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ تَرْغِيبًا فِي الطَّاعَةِ وَتَرْهِيبًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَقَالَ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَفِيهِ بَحْثَانِ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمَوَارِيثِ.
525
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا ذكره من أول السورة الى هاهنا مِنْ بَيَانِ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَأَحْكَامِ الْأَنْكِحَةِ وَأَحْوَالِ الْمَوَارِيثِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ، حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ عَوْدَهُ إِلَى الْأَقْرَبِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى الْأَبْعَدِ مَانِعٌ يُوجِبُ عَوْدَهُ إِلَى الْكُلِّ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللَّهِ الْمُقَدَّرَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا وَبَيَّنَهَا، وَحَدُّ الشَّيْءِ طَرَفُهُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ حُدُودُ الدَّارِ، وَالْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ يُسَمَّى حَدًّا لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَغَيْرُهُ هُوَ كُلُّ مَا سِوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ أَطَاعَ أَوْ عَصَى فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: بَلْ هُوَ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا وَغَيْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْكُلَّ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعَامَّ إِنَّمَا ذُكِرَ عَقِيبَ تَكَالِيفَ خَاصَّةٍ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْعُمُومِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَالِدَ قَدْ يُقْبِلُ عَلَى وَلَدِهِ وَيُوَبِّخُهُ فِي أَمْرٍ مَخْصُوصٍ، ثُمَّ يَقُولُ: احْذَرْ مُخَالَفَتِي وَمَعْصِيَتِي وَيَكُونُ مَقْصُودُهُ مَنْعَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي جَمِيعِ الأمور، فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ... نُدْخِلْهُ نَارًا بِالنُّونِ فِي الْحَرْفَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَعَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ثم قال: سَنُلْقِي [آل عمران: ١٥٠- ١٥١] بِالنُّونِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْوَاحِدِ ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدَ/ ذَلِكَ خالِدِينَ فِيها إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْجَمْعِ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟
الْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ مُفْرَدٌ فِي اللَّفْظِ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى فَلِهَذَا صَحَّ الْوَجْهَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: انْتَصَبَ «خَالِدِينَ» «وَخَالِدًا» عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي «نُدْخِلْهُ» وَالتَّقْدِيرُ: نُدْخِلْهُ خَالِدًا فِي النَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الصَّلَاةِ يَبْقَوْنَ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَنْ تَعَدَّى فِي الْحُدُودِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا وَهِيَ حُدُودُ الْمَوَارِيثِ، أَوْ يَدْخُلُ فِيهَا ذَلِكَ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ دُخُولُ مَنْ تَعَدَّى فِي الْمَوَارِيثِ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِيمَنْ تَعَدَّى وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ، وَعَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مُخَلِّدٌ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا الْوَعِيدُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي تَعَدَّى جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ، فَإِنَّا نَقُولُ: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى تَعَدِّي جَمِيعِ حُدُودِ اللَّهِ خَرَجَتِ الْآيَةُ عن الفائدة لأن الله تعالى ينهى عَنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، فَتَعَدِّي جَمِيعِ حُدُودِهِ هُوَ أَنْ يَتْرُكَ جَمِيعَ هَذِهِ النَّوَاهِي، وَتَرْكُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْمَجُوسِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ مَعًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ تَعَدِّيَ جَمِيعِ حُدُودِ اللَّهِ مُحَالٌ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ ذَلِكَ لَخَرَجَتِ الْآيَةُ عَنْ كَوْنِهَا مُفِيدَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَيُّ حَدٍّ كَانَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ آيَاتِ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ فِي الْأُمُورِ
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللَّهِ الْمُقَدَّرَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا وَبَيَّنَهَا، وَحَدُّ الشَّيْءِ طَرَفُهُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ حُدُودُ الدَّارِ، وَالْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ يُسَمَّى حَدًّا لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَغَيْرُهُ هُوَ كُلُّ مَا سِوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ أَطَاعَ أَوْ عَصَى فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: بَلْ هُوَ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا وَغَيْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْكُلَّ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعَامَّ إِنَّمَا ذُكِرَ عَقِيبَ تَكَالِيفَ خَاصَّةٍ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْعُمُومِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَالِدَ قَدْ يُقْبِلُ عَلَى وَلَدِهِ وَيُوَبِّخُهُ فِي أَمْرٍ مَخْصُوصٍ، ثُمَّ يَقُولُ: احْذَرْ مُخَالَفَتِي وَمَعْصِيَتِي وَيَكُونُ مَقْصُودُهُ مَنْعَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي جَمِيعِ الأمور، فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ... نُدْخِلْهُ نَارًا بِالنُّونِ فِي الْحَرْفَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَعَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ثم قال: سَنُلْقِي [آل عمران: ١٥٠- ١٥١] بِالنُّونِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْوَاحِدِ ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدَ/ ذَلِكَ خالِدِينَ فِيها إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْجَمْعِ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟
الْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ مُفْرَدٌ فِي اللَّفْظِ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى فَلِهَذَا صَحَّ الْوَجْهَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: انْتَصَبَ «خَالِدِينَ» «وَخَالِدًا» عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي «نُدْخِلْهُ» وَالتَّقْدِيرُ: نُدْخِلْهُ خَالِدًا فِي النَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الصَّلَاةِ يَبْقَوْنَ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَنْ تَعَدَّى فِي الْحُدُودِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا وَهِيَ حُدُودُ الْمَوَارِيثِ، أَوْ يَدْخُلُ فِيهَا ذَلِكَ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ دُخُولُ مَنْ تَعَدَّى فِي الْمَوَارِيثِ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِيمَنْ تَعَدَّى وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ، وَعَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مُخَلِّدٌ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا الْوَعِيدُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي تَعَدَّى جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ، فَإِنَّا نَقُولُ: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى تَعَدِّي جَمِيعِ حُدُودِ اللَّهِ خَرَجَتِ الْآيَةُ عن الفائدة لأن الله تعالى ينهى عَنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، فَتَعَدِّي جَمِيعِ حُدُودِهِ هُوَ أَنْ يَتْرُكَ جَمِيعَ هَذِهِ النَّوَاهِي، وَتَرْكُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْمَجُوسِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ مَعًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ تَعَدِّيَ جَمِيعِ حُدُودِ اللَّهِ مُحَالٌ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ ذَلِكَ لَخَرَجَتِ الْآيَةُ عَنْ كَوْنِهَا مُفِيدَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَيُّ حَدٍّ كَانَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ آيَاتِ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ فِي الْأُمُورِ
526
الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ. هَذَا مُنْتَهَى تَقْرِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُعِيدَ طَرَفًا مِنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَنَقُولَ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ لَمْ يَبْقَ هَذَا الْوَعِيدُ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْعَفْوِ، فَإِنَّ بِتَقْدِيرِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ امْتَنَعَ بَقَاءُ هَذَا الْوَعِيدِ عِنْدَ حُصُولِ الْعَفْوِ، وَنَحْنُ قَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ، ثُمَّ نَقُولُ: هَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا لَكُمْ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ (مَنْ) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تُفِيدُ الْعُمُومَ؟ قُلْتُمْ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ فِيهِ، فَنَقُولُ: إِنْ صَحَّ هَذَا الدَّلِيلُ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ: لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ فَيُقَالُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَّا فِي الْكُفْرِ، وَإِلَّا فِي الْفِسْقِ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ/ لَدَخَلَ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالْقَبَائِحِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَقَوْلُهُ: الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِ الْمَعَاصِي مُحَالٌ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ مَعًا مُحَالٌ، فَنَقُولُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ إِلَّا إِذَا قَامَ مُخَصِّصٌ عَقْلِيٌّ أَوْ شَرْعِيٌّ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ وَيَقْوَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُفِيدُ كَوْنَهُ فَاعِلًا لِلْمَعْصِيَةِ وَالذَّنْبِ، وَقَوْلُهُ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَيْنَ ذَلِكَ لَلَزِمَ التَّكْرَارُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَوْلُهُ: بِأَنَّا نَحْمِلُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَوَارِيثِ.
قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السُّؤَالِ بِهَذَا الْكَلَامِ، لِأَنَّ التَّعَدِّيَ فِي حُدُودِ الْمَوَارِيثِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ تِلْكَ التَّكَالِيفَ وَالْأَحْكَامَ حَقٌّ وَوَاجِبَةُ الْقَبُولِ إِلَّا أَنَّهُ يَتْرُكُهَا، وَتَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ لَا عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْغَايَةَ فِي تَعَدِّي الْحُدُودِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَكَادُ يُطْلَقُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَإِلَّا لَزِمَ وُقُوعُ التَّكْرَارِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ الَّذِي لَا يَرْضَى بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ، فَهَذَا مَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَسْئِلَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ والله أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ١٥]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النِّسَاءِ وَمُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْجَمِيلِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهَذَا الْبَابِ، ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِحْسَانٌ إِلَيْهِنَّ وَنَظَرٌ لَهُنَّ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِنَّ، وَأَيْضًا فَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَ لَا يَجْعَلَ أَمْرُ اللَّهِ الرِّجَالَ/ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ سَبَبًا لِتَرْكِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِنَّ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِنَّ فِي أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَهَالِكِ، وَأَيْضًا فِيهِ فَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا يَسْتَوْفِي لِخَلْقِهِ فَكَذَلِكَ يَسْتَوْفِي عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَحْكَامِهِ مُحَابَاةٌ وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، وَأَنَّ مَدَارَ هَذَا الشَّرْعِ الْإِنْصَافُ وَالِاحْتِرَازُ فِي كُلِّ بَابٍ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَقَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّاتِي: جَمْعُ الَّتِي، وَلِلْعَرَبِ فِي جَمْعِ «الَّتِي» لُغَاتٌ: اللَّاتِي وَاللَّاتِ وَاللَّوَاتِي وَاللَّوَاتِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ: الَّتِي، وَمِنَ الْحَيَوَانِ: اللاتي، كقوله:
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُفِيدُ كَوْنَهُ فَاعِلًا لِلْمَعْصِيَةِ وَالذَّنْبِ، وَقَوْلُهُ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَيْنَ ذَلِكَ لَلَزِمَ التَّكْرَارُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَوْلُهُ: بِأَنَّا نَحْمِلُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَوَارِيثِ.
قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السُّؤَالِ بِهَذَا الْكَلَامِ، لِأَنَّ التَّعَدِّيَ فِي حُدُودِ الْمَوَارِيثِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ تِلْكَ التَّكَالِيفَ وَالْأَحْكَامَ حَقٌّ وَوَاجِبَةُ الْقَبُولِ إِلَّا أَنَّهُ يَتْرُكُهَا، وَتَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ لَا عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْغَايَةَ فِي تَعَدِّي الْحُدُودِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَكَادُ يُطْلَقُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَإِلَّا لَزِمَ وُقُوعُ التَّكْرَارِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ الَّذِي لَا يَرْضَى بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ، فَهَذَا مَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَسْئِلَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ والله أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ١٥]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النِّسَاءِ وَمُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْجَمِيلِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهَذَا الْبَابِ، ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِحْسَانٌ إِلَيْهِنَّ وَنَظَرٌ لَهُنَّ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِنَّ، وَأَيْضًا فَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَ لَا يَجْعَلَ أَمْرُ اللَّهِ الرِّجَالَ/ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ سَبَبًا لِتَرْكِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِنَّ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِنَّ فِي أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَهَالِكِ، وَأَيْضًا فِيهِ فَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا يَسْتَوْفِي لِخَلْقِهِ فَكَذَلِكَ يَسْتَوْفِي عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَحْكَامِهِ مُحَابَاةٌ وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، وَأَنَّ مَدَارَ هَذَا الشَّرْعِ الْإِنْصَافُ وَالِاحْتِرَازُ فِي كُلِّ بَابٍ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَقَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّاتِي: جَمْعُ الَّتِي، وَلِلْعَرَبِ فِي جَمْعِ «الَّتِي» لُغَاتٌ: اللَّاتِي وَاللَّاتِ وَاللَّوَاتِي وَاللَّوَاتِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ: الَّتِي، وَمِنَ الْحَيَوَانِ: اللاتي، كقوله:
527
أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النِّسَاءِ: ٥] وَقَالَ فِي هَذِهِ: اللَّاتِي وَاللَّائِي، وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ الْجَمْعَ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ سَبِيلُهُ سَبِيلُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا جَمْعُ الْحَيَوَانِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ عَنْ غَيْرِهَا بِخَوَاصٍّ وَصِفَاتٍ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَيَقُولُ: مَا فَعَلَتِ الْهِنْدَاتُ الَّتِي مِنْ أَمْرِهَا كَذَا، وَمَا فَعَلَتِ الْأَثْوَابُ الَّتِي مِنْ قِصَّتِهِنَّ كَذَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أَيْ يَفْعَلْنَهَا يُقَالُ: أَتَيْتُ أَمْرًا قَبِيحًا، أَيْ فَعَلْتُهُ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا [مَرْيَمَ: ٢٧] وَقَالَ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا [مَرْيَمَ: ٨٩] وَفِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفَوَاحِشِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَى الْمُكَلَّفَ عَنْ فِعْلِ هَذِهِ الْمَعَاصِي، فَهُوَ تَعَالَى لَا يُعِينُ الْمُكَلَّفَ عَلَى فِعْلِهَا، بَلِ الْمُكَلَّفُ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَاخْتَارَهَا بِمُجَرَّدِ طَبْعِهِ، فَلِهَذِهِ الْفَائِدَةِ يُقَالُ: إِنَّهُ جَاءَ إِلَى تِلْكَ الْفَاحِشَةِ وَذَهَبَ إِلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: يَأْتِينَ بِالْفَاحِشَةِ، وَأَمَّا الْفَاحِشَةُ فَهِي الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ وَهِيَ مَصْدَرٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ كَالْعَاقِبَةِ يُقَالُ: فَحُشَ الرَّجُلُ يَفْحُشُ فُحْشًا وَفَاحِشَةً، وَأَفْحَشَ إِذَا جَاءَ بِالْقَبِيحِ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أن الفاحشة هاهنا الزِّنَا، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الزِّنَا اسْمُ الْفَاحِشَةِ لِزِيَادَتِهَا فِي الْقُبْحِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِحِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْكُفْرُ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ فَاحِشَةً.
قُلْنَا: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقُوَى الْمُدَبِّرَةَ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةٌ: الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ، وَالْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ، فَفَسَادُ الْقُوَّةِ النَّاطِقَةِ هُوَ الْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ وَمَا يُشْبِهُهُمَا، وَفَسَادُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ هُوَ الْقَتْلُ وَالْغَضَبُ وَمَا يُشْبِهُهُمَا، وَفَسَادُ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ هُوَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ وَالسَّحْقُ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَأَخَسُّ هَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ: الْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ فَسَادُهَا أَخَسَّ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خُصَّ هَذَا الْعَمَلُ بِالْفَاحِشَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ/ مِنْهُ الزِّنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى الزِّنَا فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا بِأَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ مُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا ارْتَكَبَتِ الزِّنَا، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهَا أُمْسِكَتْ فِي بَيْتٍ مَحْبُوسَةً إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ السَّحَاقَاتُ، وَحَدُّهُنَّ الْحَبْسُ إلى الموت وبقوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: ١٦] أَهْلُ اللِّوَاطِ، وَحَدُّهُمَا الْأَذَى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ النُّورِ: الزِّنَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَحَدُّهُ فِي الْبِكْرِ الْجَلْدُ، وَفِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ، وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ مَخْصُوصٌ بِالنِّسْوَانِ، وَقَوْلَهُ: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ مخصوص بالرجال، لأن قوله: وَالَّذانِ تَثْنِيَةُ الذُّكُورِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المراد بقوله: وَالَّذانِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِلَّا أَنَّهُ غَلَّبَ لَفْظَ الْمُذَكَّرِ.
قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَفْرَدَ ذِكْرَ النِّسَاءِ مِنْ قَبْلُ، فَلَمَّا أَفْرَدَ ذِكْرَهُنَّ ثُمَّ ذكر بعد قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ سَقَطَ هَذَا الِاحْتِمَالُ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ، بَلْ يَكُونُ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بَاقِيًا مُقَرَّرًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَحْتَاجُ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ في الزنا وقوله: وَالَّذانِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أَيْ يَفْعَلْنَهَا يُقَالُ: أَتَيْتُ أَمْرًا قَبِيحًا، أَيْ فَعَلْتُهُ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا [مَرْيَمَ: ٢٧] وَقَالَ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا [مَرْيَمَ: ٨٩] وَفِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفَوَاحِشِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَى الْمُكَلَّفَ عَنْ فِعْلِ هَذِهِ الْمَعَاصِي، فَهُوَ تَعَالَى لَا يُعِينُ الْمُكَلَّفَ عَلَى فِعْلِهَا، بَلِ الْمُكَلَّفُ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَاخْتَارَهَا بِمُجَرَّدِ طَبْعِهِ، فَلِهَذِهِ الْفَائِدَةِ يُقَالُ: إِنَّهُ جَاءَ إِلَى تِلْكَ الْفَاحِشَةِ وَذَهَبَ إِلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: يَأْتِينَ بِالْفَاحِشَةِ، وَأَمَّا الْفَاحِشَةُ فَهِي الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ وَهِيَ مَصْدَرٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ كَالْعَاقِبَةِ يُقَالُ: فَحُشَ الرَّجُلُ يَفْحُشُ فُحْشًا وَفَاحِشَةً، وَأَفْحَشَ إِذَا جَاءَ بِالْقَبِيحِ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أن الفاحشة هاهنا الزِّنَا، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الزِّنَا اسْمُ الْفَاحِشَةِ لِزِيَادَتِهَا فِي الْقُبْحِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِحِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْكُفْرُ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ فَاحِشَةً.
قُلْنَا: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقُوَى الْمُدَبِّرَةَ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةٌ: الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ، وَالْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ، فَفَسَادُ الْقُوَّةِ النَّاطِقَةِ هُوَ الْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ وَمَا يُشْبِهُهُمَا، وَفَسَادُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ هُوَ الْقَتْلُ وَالْغَضَبُ وَمَا يُشْبِهُهُمَا، وَفَسَادُ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ هُوَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ وَالسَّحْقُ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَأَخَسُّ هَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ: الْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ فَسَادُهَا أَخَسَّ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خُصَّ هَذَا الْعَمَلُ بِالْفَاحِشَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ/ مِنْهُ الزِّنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى الزِّنَا فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا بِأَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ مُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا ارْتَكَبَتِ الزِّنَا، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهَا أُمْسِكَتْ فِي بَيْتٍ مَحْبُوسَةً إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ السَّحَاقَاتُ، وَحَدُّهُنَّ الْحَبْسُ إلى الموت وبقوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: ١٦] أَهْلُ اللِّوَاطِ، وَحَدُّهُمَا الْأَذَى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ النُّورِ: الزِّنَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَحَدُّهُ فِي الْبِكْرِ الْجَلْدُ، وَفِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ، وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ مَخْصُوصٌ بِالنِّسْوَانِ، وَقَوْلَهُ: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ مخصوص بالرجال، لأن قوله: وَالَّذانِ تَثْنِيَةُ الذُّكُورِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المراد بقوله: وَالَّذانِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِلَّا أَنَّهُ غَلَّبَ لَفْظَ الْمُذَكَّرِ.
قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَفْرَدَ ذِكْرَ النِّسَاءِ مِنْ قَبْلُ، فَلَمَّا أَفْرَدَ ذِكْرَهُنَّ ثُمَّ ذكر بعد قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ سَقَطَ هَذَا الِاحْتِمَالُ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ، بَلْ يَكُونُ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بَاقِيًا مُقَرَّرًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَحْتَاجُ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ في الزنا وقوله: وَالَّذانِ
528
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ
يَكُونُ أَيْضًا فِي الزِّنَا، فَيُفْضِي إِلَى تَكْرَارِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ وَإِنَّهُ قَبِيحٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ فَكَانَ أَوْلَى. الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الزِّنَا فَسَّرُوا قَوْلَهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالرَّجْمِ وَالْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ عَلَيْهِنَّ لَا لَهُنَّ. قَالَ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا نُفَسِّرُ ذَلِكَ بِأَنْ يُسَهِّلَ اللَّهُ لَهَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ وَإِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ»
وَاحْتَجُّوا عَلَى إِبْطَالِ كَلَامِ أَبِي مُسْلِمٍ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَانَ بَاطِلًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الزُّنَاةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ اللِّوَاطِ، وَلَمْ يَتَمَسَّكْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَعَدَمُ تَمَسُّكِهِمْ بِهَا مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى نَصٍّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي اللِّوَاطَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذَا إِجْمَاعٌ مَمْنُوعٌ فَلَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَلِأَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ تَأْوِيلٍ جَدِيدٍ فِي الْآيَةِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُتَقَدِّمُونَ جَائِزٌ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ مَطْلُوبَ الصَّحَابَةِ أنه هل يقام الحد على الوطي؟ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، فَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ: فَقَدْ بَنَوْا هَذَا عَلَى أَصْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الزِّنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَمْ يَبْقَ وَكَانَتِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِالْحَدِيثِ وَهُوَ مَا
رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى وَالثَّيِّبُ تُجْلَدَ وَتُرْجَمُ»
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّورِ: ٢] وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَثْبُتُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ وَأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ خِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُنْسَخُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ الْجَلْدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الطَّعْنِ فِي الشَّافِعِيِّ قَالَ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ لَوْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى
قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي»
لَمَا كَانَ
لِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي»
فَائِدَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
قَوْلُهُ: «خُذُوا عَنِّي»
مُتَقَدِّمًا عَلَى آيَةِ الْجَلْدِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ آيَةُ الْحَبْسِ مَنْسُوخَةً بِالْحَدِيثِ وَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا بِآيَةِ الْجَلْدِ، فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَدْ يُنْسَخُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الرَّازِيِّ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ فَقَالَ:
لَمْ يَحْصُلِ النَّسْخُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ مَمْدُودٌ إِلَى غَايَةِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَذَلِكَ السَّبِيلُ كَانَ مُجْمَلًا، فَلَمَّا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى»
صَارَ هَذَا الْحَدِيثُ بَيَانًا لِتِلْكَ الْآيَةِ لَا نَاسِخًا لَهَا وَصَارَ أَيْضًا مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما
يَكُونُ أَيْضًا فِي الزِّنَا، فَيُفْضِي إِلَى تَكْرَارِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ وَإِنَّهُ قَبِيحٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ فَكَانَ أَوْلَى. الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الزِّنَا فَسَّرُوا قَوْلَهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالرَّجْمِ وَالْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ عَلَيْهِنَّ لَا لَهُنَّ. قَالَ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا نُفَسِّرُ ذَلِكَ بِأَنْ يُسَهِّلَ اللَّهُ لَهَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ وَإِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ»
وَاحْتَجُّوا عَلَى إِبْطَالِ كَلَامِ أَبِي مُسْلِمٍ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَانَ بَاطِلًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الزُّنَاةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ اللِّوَاطِ، وَلَمْ يَتَمَسَّكْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَعَدَمُ تَمَسُّكِهِمْ بِهَا مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى نَصٍّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي اللِّوَاطَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذَا إِجْمَاعٌ مَمْنُوعٌ فَلَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَلِأَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ تَأْوِيلٍ جَدِيدٍ فِي الْآيَةِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُتَقَدِّمُونَ جَائِزٌ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ مَطْلُوبَ الصَّحَابَةِ أنه هل يقام الحد على الوطي؟ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، فَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ: فَقَدْ بَنَوْا هَذَا عَلَى أَصْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الزِّنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَمْ يَبْقَ وَكَانَتِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِالْحَدِيثِ وَهُوَ مَا
رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى وَالثَّيِّبُ تُجْلَدَ وَتُرْجَمُ»
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّورِ: ٢] وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَثْبُتُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ وَأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ خِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُنْسَخُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ الْجَلْدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الطَّعْنِ فِي الشَّافِعِيِّ قَالَ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ لَوْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى
قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي»
لَمَا كَانَ
لِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي»
فَائِدَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
قَوْلُهُ: «خُذُوا عَنِّي»
مُتَقَدِّمًا عَلَى آيَةِ الْجَلْدِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ آيَةُ الْحَبْسِ مَنْسُوخَةً بِالْحَدِيثِ وَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا بِآيَةِ الْجَلْدِ، فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَدْ يُنْسَخُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الرَّازِيِّ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ فَقَالَ:
لَمْ يَحْصُلِ النَّسْخُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ مَمْدُودٌ إِلَى غَايَةِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَذَلِكَ السَّبِيلُ كَانَ مُجْمَلًا، فَلَمَّا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى»
صَارَ هَذَا الْحَدِيثُ بَيَانًا لِتِلْكَ الْآيَةِ لَا نَاسِخًا لَهَا وَصَارَ أَيْضًا مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما
529
مِائَةَ جَلْدَةٍ
[النُّورِ: ٢] وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَعْلَ هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانًا لِإِحْدَى الْآيَتَيْنِ وَمُخَصِّصًا لِلْآيَةِ الْأُخْرَى، أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ النَّسْخِ مِرَارًا، وَكَيْفَ وَآيَةُ الْحَبْسِ مُجْمَلَةٌ قَطْعًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السَّبِيلَ كَيْفَ هُوَ؟ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ الْمُبِيِنِ، وَآيَةُ الْجَلْدِ مَخْصُوصَةٌ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ الْمُخَصِّصِ، فَنَحْنُ جَعَلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ مُبَيِّنًا لِآيَةِ/ الْحَبْسِ مُخَصِّصًا لِآيَةِ الْجَلْدِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ وَقَعَ النَّسْخُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: آيَةُ الْحَبْسِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِدَلَائِلِ الرَّجْمِ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي دَفْعِ كَلَامِ الرَّازِيِّ: إِنَّكَ تُثْبِتُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ الْجَلْدِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى
قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي»
فَلِمَ قُلْتَ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ؟ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذَكَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ؟ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الْمُسْلِمِ، وَتَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُخَصِّصِ عَنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَكَ وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ، لِمَا أَنَّهُ يُوهِمُ التَّلْبِيسَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مُقَارِنًا لِنُزُولِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَقَطَ قَوْلُكَ: إِنَّ الْحَدِيثَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى آيَةِ الْجَلْدِ.
هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ من يقول: هذا الْآيَةُ أَعْنِي آيَةَ الْحَبْسِ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الزُّنَاةِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يُثْبِتِ الدَّلِيلُ كَوْنَهَا مَنْسُوخَةً، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي الزِّنَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ نِسائِكُمْ؟
الْجَوَابُ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ، مِنْ زَوْجَاتِكُمْ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الْمُجَادَلَةِ:
٣] وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النِّسَاءِ: ٢٣] وَثَانِيهَا: مِنْ نِسَائِكُمْ، أَيْ مِنَ الْحَرَائِرِ كَقَوْلِهِ:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٢] وَالْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْإِمَاءِ. وَثَالِثُهَا: مِنْ نِسَائِكُمْ، أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَرَابِعُهَا: مِنْ نِسَائِكُمْ، أَيْ مِنَ الثَّيِّبَاتِ دُونَ الْأَبْكَارِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ؟
الْجَوَابُ: فَخَلِّدُوهُنَّ مَحْبُوسَاتٍ فِي بُيُوتِكُمْ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَقَعُ فِي الزِّنَا عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، فَإِذَا حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الزِّنَا، وَإِذَا اسْتَمَرَّتْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَوَّدَتِ الْعَفَافَ وَالْفِرَارَ عَنِ الزِّنَا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ وَالتَّوَفِّي بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ: أَوْ يُمِيتُهُنَّ الْمَوْتُ؟
الْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النَّحْلِ:
٣٨] قُلْ/ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: ١١] أَوْ حَتَّى يَأْخُذَهُنَّ الْمَوْتُ وَيَسْتَوْفِيَ أَرْوَاحَهُنَّ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: إِنَّكُمْ تُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالْحَدِيثِ وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَالثَّيِّبُ تُرْجَمُ»
وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ هَذَا السَّبِيلَ عَلَيْهَا لَا لَهَا، فَإِنَّ الرَّجْمَ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ الْحَبْسِ.
وَالْجَوَابُ:
أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَّرَ السَّبِيلَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
[النُّورِ: ٢] وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَعْلَ هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانًا لِإِحْدَى الْآيَتَيْنِ وَمُخَصِّصًا لِلْآيَةِ الْأُخْرَى، أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ النَّسْخِ مِرَارًا، وَكَيْفَ وَآيَةُ الْحَبْسِ مُجْمَلَةٌ قَطْعًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السَّبِيلَ كَيْفَ هُوَ؟ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ الْمُبِيِنِ، وَآيَةُ الْجَلْدِ مَخْصُوصَةٌ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ الْمُخَصِّصِ، فَنَحْنُ جَعَلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ مُبَيِّنًا لِآيَةِ/ الْحَبْسِ مُخَصِّصًا لِآيَةِ الْجَلْدِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ وَقَعَ النَّسْخُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: آيَةُ الْحَبْسِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِدَلَائِلِ الرَّجْمِ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي دَفْعِ كَلَامِ الرَّازِيِّ: إِنَّكَ تُثْبِتُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ الْجَلْدِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى
قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي»
فَلِمَ قُلْتَ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ؟ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذَكَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ؟ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الْمُسْلِمِ، وَتَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُخَصِّصِ عَنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَكَ وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ، لِمَا أَنَّهُ يُوهِمُ التَّلْبِيسَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مُقَارِنًا لِنُزُولِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَقَطَ قَوْلُكَ: إِنَّ الْحَدِيثَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى آيَةِ الْجَلْدِ.
هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ من يقول: هذا الْآيَةُ أَعْنِي آيَةَ الْحَبْسِ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الزُّنَاةِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يُثْبِتِ الدَّلِيلُ كَوْنَهَا مَنْسُوخَةً، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي الزِّنَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ نِسائِكُمْ؟
الْجَوَابُ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ، مِنْ زَوْجَاتِكُمْ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الْمُجَادَلَةِ:
٣] وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النِّسَاءِ: ٢٣] وَثَانِيهَا: مِنْ نِسَائِكُمْ، أَيْ مِنَ الْحَرَائِرِ كَقَوْلِهِ:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٢] وَالْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْإِمَاءِ. وَثَالِثُهَا: مِنْ نِسَائِكُمْ، أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَرَابِعُهَا: مِنْ نِسَائِكُمْ، أَيْ مِنَ الثَّيِّبَاتِ دُونَ الْأَبْكَارِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ؟
الْجَوَابُ: فَخَلِّدُوهُنَّ مَحْبُوسَاتٍ فِي بُيُوتِكُمْ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَقَعُ فِي الزِّنَا عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، فَإِذَا حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الزِّنَا، وَإِذَا اسْتَمَرَّتْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَوَّدَتِ الْعَفَافَ وَالْفِرَارَ عَنِ الزِّنَا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ وَالتَّوَفِّي بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ: أَوْ يُمِيتُهُنَّ الْمَوْتُ؟
الْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النَّحْلِ:
٣٨] قُلْ/ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: ١١] أَوْ حَتَّى يَأْخُذَهُنَّ الْمَوْتُ وَيَسْتَوْفِيَ أَرْوَاحَهُنَّ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: إِنَّكُمْ تُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالْحَدِيثِ وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَالثَّيِّبُ تُرْجَمُ»
وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ هَذَا السَّبِيلَ عَلَيْهَا لَا لَهَا، فَإِنَّ الرَّجْمَ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ الْحَبْسِ.
وَالْجَوَابُ:
أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَّرَ السَّبِيلَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
530
الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ»
وَلَمَّا فَسَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلَ بِذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ، وَأَيْضًا: لَهُ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمُخَلِّصَ مِنَ الشَّيْءِ هُوَ سَبِيلٌ له، سواء كان أخف أو أثقل.
[سورة النساء (٤) : آية ١٦]
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
[فِي قوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كثير والذان وهذان [الحج: ١٩] مُشَدَّدَةَ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَإِنَّهُ وَافَقَ ابْنَ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: فَذانِكَ [القصص: ٣٢] أَمَّا وَجْهُ التَّشْدِيدِ قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: إِنَّمَا شَدَّدَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذِهِ النُّونَاتِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَرْقُ بَيْنَ تَثْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ وَغَيْرِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ «الَّذِي وَهَذَا» مَبْنِيَّانِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الذَّالُ، فَأَرَادُوا تَقْوِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ زَادُوا عَلَى نُونِهَا نُونًا أُخْرَى مِنْ جِنْسِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبَبُ التَّشْدِيدِ فِيهَا أَنَّ النُّونَ فِيهَا لَيْسَتْ نُونَ التَّثْنِيَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نُونِ التَّثْنِيَةِ، وَقِيلَ زَادُوا النُّونَ تَأْكِيدًا، كَمَا زَادُوا اللَّامَ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ أَبِي عَمْرٍو التَّعْوِيضَ فِي الْمُبْهَمَةِ دُونَ الْمَوْصُولَةِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى مِنْ أَنَّ الْحَذْفَ لِلْمُبْهَمَةِ أَلْزَمُ، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهَا الْعِوَضَ أَشَدَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الزُّنَاةِ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا فِي الزُّنَاةِ/ فَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مَا السَّبَبُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ وَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ [النساء: ١٥] المراد منه الزواني، والمراد من قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ الزُّنَاةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْحَبْسَ فِي الْبَيْتِ بِالْمَرْأَةِ وَخَصَّ الْإِيذَاءَ بِالرَّجُلِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَقَعُ فِي الزِّنَا عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، فَإِذَا حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ انْقَطَعَتْ مَادَّةُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَبْسُهُ فِي الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ فِي إِصْلَاحِ مَعَاشِهِ وَتَرْتِيبِ مُهِمَّاتِهِ وَاكْتِسَابِ قُوتِ عِيَالِهِ، فَلَا جَرَمَ جُعِلَتْ عُقُوبَةُ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ الْحَبْسَ فِي الْبَيْتِ، وَجُعِلَتْ عُقُوبَةُ الرَّجُلِ الزَّانِي أَنْ يُؤْذَى، فَإِذَا تَابَ تُرِكَ إِيذَاؤُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِيذَاءَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْحَبْسُ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا تَابَا أُزِيلَ الْإِيذَاءُ عَنْهُمَا وَبَقِيَ الْحَبْسُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بهذه الآية البكر من الرجل وَالنِّسَاءِ، وَبِالْآيَةِ الْأُولَى الثَّيِّبُ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَأَضَافَهُنَّ إِلَى الْأَزْوَاجِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ سَمَّاهُنَّ نِسَاءً وَهَذَا الِاسْمُ أَلْيَقُ بِالثَّيِّبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَذَى أَخَفُّ مِنَ الْحَبْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْأَخَفُّ لِلْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا. ثُمَّ نزل قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء: ١٥] يَعْنِي إِنْ لَمْ يَتُوبَا وَأَصَرَّا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكُمْ أَحْوَالُهُنَّ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ فَسَادَ التَّرْتِيبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. الْخَامِسُ: مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي السَّحَاقَاتِ، وَهَذِهِ فِي أَهْلِ اللِّوَاطِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى الزِّنَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا شَاهِدِينَ فَآذُوهُمَا وَخَوِّفُوهُمَا بِالرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ وَالْحَدِّ، فَإِنْ تَابَا قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ فَاتْرُكُوهُمَا.
وَلَمَّا فَسَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلَ بِذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ، وَأَيْضًا: لَهُ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمُخَلِّصَ مِنَ الشَّيْءِ هُوَ سَبِيلٌ له، سواء كان أخف أو أثقل.
[سورة النساء (٤) : آية ١٦]
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
[فِي قوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كثير والذان وهذان [الحج: ١٩] مُشَدَّدَةَ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَإِنَّهُ وَافَقَ ابْنَ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: فَذانِكَ [القصص: ٣٢] أَمَّا وَجْهُ التَّشْدِيدِ قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: إِنَّمَا شَدَّدَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذِهِ النُّونَاتِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَرْقُ بَيْنَ تَثْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ وَغَيْرِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ «الَّذِي وَهَذَا» مَبْنِيَّانِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الذَّالُ، فَأَرَادُوا تَقْوِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ زَادُوا عَلَى نُونِهَا نُونًا أُخْرَى مِنْ جِنْسِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبَبُ التَّشْدِيدِ فِيهَا أَنَّ النُّونَ فِيهَا لَيْسَتْ نُونَ التَّثْنِيَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نُونِ التَّثْنِيَةِ، وَقِيلَ زَادُوا النُّونَ تَأْكِيدًا، كَمَا زَادُوا اللَّامَ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ أَبِي عَمْرٍو التَّعْوِيضَ فِي الْمُبْهَمَةِ دُونَ الْمَوْصُولَةِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى مِنْ أَنَّ الْحَذْفَ لِلْمُبْهَمَةِ أَلْزَمُ، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهَا الْعِوَضَ أَشَدَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الزُّنَاةِ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا فِي الزُّنَاةِ/ فَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مَا السَّبَبُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ وَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ [النساء: ١٥] المراد منه الزواني، والمراد من قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ الزُّنَاةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْحَبْسَ فِي الْبَيْتِ بِالْمَرْأَةِ وَخَصَّ الْإِيذَاءَ بِالرَّجُلِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَقَعُ فِي الزِّنَا عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، فَإِذَا حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ انْقَطَعَتْ مَادَّةُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَبْسُهُ فِي الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ فِي إِصْلَاحِ مَعَاشِهِ وَتَرْتِيبِ مُهِمَّاتِهِ وَاكْتِسَابِ قُوتِ عِيَالِهِ، فَلَا جَرَمَ جُعِلَتْ عُقُوبَةُ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ الْحَبْسَ فِي الْبَيْتِ، وَجُعِلَتْ عُقُوبَةُ الرَّجُلِ الزَّانِي أَنْ يُؤْذَى، فَإِذَا تَابَ تُرِكَ إِيذَاؤُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِيذَاءَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْحَبْسُ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا تَابَا أُزِيلَ الْإِيذَاءُ عَنْهُمَا وَبَقِيَ الْحَبْسُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بهذه الآية البكر من الرجل وَالنِّسَاءِ، وَبِالْآيَةِ الْأُولَى الثَّيِّبُ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَأَضَافَهُنَّ إِلَى الْأَزْوَاجِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ سَمَّاهُنَّ نِسَاءً وَهَذَا الِاسْمُ أَلْيَقُ بِالثَّيِّبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَذَى أَخَفُّ مِنَ الْحَبْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْأَخَفُّ لِلْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا. ثُمَّ نزل قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء: ١٥] يَعْنِي إِنْ لَمْ يَتُوبَا وَأَصَرَّا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكُمْ أَحْوَالُهُنَّ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ فَسَادَ التَّرْتِيبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. الْخَامِسُ: مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي السَّحَاقَاتِ، وَهَذِهِ فِي أَهْلِ اللِّوَاطِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى الزِّنَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا شَاهِدِينَ فَآذُوهُمَا وَخَوِّفُوهُمَا بِالرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ وَالْحَدِّ، فَإِنْ تَابَا قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ فَاتْرُكُوهُمَا.
531
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْإِيذَاءِ مِنَ الْإِيذَاءِ بِاللِّسَانِ وَهُوَ التَّوْبِيخُ وَالتَّعْيِيرُ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: بِئْسَ مَا فَعَلْتُمَا، وَقَدْ تَعَرَّضْتُمَا لِعِقَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ، وَأَخْرَجْتُمَا أَنْفُسَكُمَا عَنِ اسْمِ الْعَدَالَةِ، وَأَبْطَلْتُمَا عَنْ أَنْفُسِكُمَا أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الضَّرْبُ؟ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالنِّعَالِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ مَدْلُولَ النَّصِّ إِنَّمَا هُوَ الْإِيذَاءُ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ/ الْإِيذَاءِ بِاللِّسَانِ، وَلَا يَكُونُ فِي النَّصِّ دَلَالَةٌ عَلَى الضَّرْبِ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما يَعْنِي فَاتْرُكُوا إِيذَاءَهُمَا.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً مَعْنَى التَّوَّابِ: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى عَبْدِهِ بِفَضْلِهِ وَمَغْفِرَتِهِ إِذَا تَابَ إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كانَ تَوَّاباً فَقَدْ تَقَدَّمَ الوجه فيه.
تم الجزء التاسع، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء العاشر، وأوله قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ من سورة النساء. أعان الله تعالى على إكماله.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما يَعْنِي فَاتْرُكُوا إِيذَاءَهُمَا.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً مَعْنَى التَّوَّابِ: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى عَبْدِهِ بِفَضْلِهِ وَمَغْفِرَتِهِ إِذَا تَابَ إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كانَ تَوَّاباً فَقَدْ تَقَدَّمَ الوجه فيه.
تم الجزء التاسع، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء العاشر، وأوله قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ من سورة النساء. أعان الله تعالى على إكماله.
532
الجزء العاشر
[تتمة سورة النساء]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْمُرْتَكِبَيْنِ لِلْفَاحِشَةِ إِذَا تَابَا وَأَصْلَحَا زَالَ الْأَذَى عَنْهُمَا، وَأَخْبَرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْضًا أَنَّهُ تَوَّابٌ رَحِيمٌ، ذَكَرَ وَقْتَ التَّوْبَةِ وَشَرْطَهَا، وَرَغَّبَهُمْ فِي تَعْجِيلِهَا لِئَلَّا يَأْتِيَهِمُ الْمَوْتُ وَهُمْ مُصِرُّونَ فلا تنفعهم التوبة، [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الْبَقَرَةِ: ٥٤] وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه عَقْلًا قَبُولُ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «عَلَى» لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه عَقْلًا قَبُولُهَا.
الثَّانِي: لَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَبُولِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَرْقٌ لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنِ الْوُقُوعِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ وَهَذَا عَلَى الْوُقُوعِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ عَلَى اللَّه بَاطِلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَازِمَةَ الْوُجُوبِ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ عِنْدَ التَّرْكِ، فَهَذِهِ اللَّازِمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةَ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، أَوْ غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ فِي حَقِّهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ لَمَّا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِهَذَا الذَّمِّ، وَهَذَا الذَّمُّ مُحَالُ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرْكُ مُمْتَنِعَ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه، وَإِذَا كَانَ التَّرْكُ مُمْتَنِعَ الثُّبُوتِ عَقْلًا كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبَ الثُّبُوتِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّه تَعَالَى مُوجَبًا بِالذَّاتِ لَا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ/ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ غَيْرَ مُمْتَنِعِ الْحُصُولِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، فَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، فَيَلْزَمُ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ مَعَ كَوْنِهِ إِلَهًا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ وَذَلِكَ مُحَالٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ عَلَى اللَّه تَعَالَى بَاطِلٌ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَادِرِيَّةَ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّوِيَّةِ، أَوْ لَا يَكُونَ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى السَّوِيَّةِ لَمْ يَتَرَجَّحْ فِعْلُ التَّوْبَةِ عَلَى تَرْكِهَا إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ حَدَثَ لَا عَنْ مُحْدِثٍ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ حَدَثَ عَنِ الْعَبْدِ عَادَ التَّقْسِيمُ وَإِنْ حَدَثَ عَنِ اللَّه فَحِينَئِذٍ الْعَبْدُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى التَّوْبَةِ بِمَعُونَةِ اللَّه وَتَقْوِيَتِهِ، فَتَكُونُ تِلْكَ التَّوْبَةُ إِنْعَامًا مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، وَإِنْعَامُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَثَبَتَ أَنَّ صُدُورَ التَّوْبَةِ عَنِ الْعَبْدِ لَا يُوجِبُ عَلَى اللَّه الْقَبُولَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ قَادِرِيَّةُ الْعَبْدِ لَا تَصْلُحُ لِلتَّرْكِ وَالْفِعْلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَبْرُ أَلْزَمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَظْهَرَ بطلانا وفسادا.
[تتمة سورة النساء]
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
[سورة النساء (٤) : آية ١٧]إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْمُرْتَكِبَيْنِ لِلْفَاحِشَةِ إِذَا تَابَا وَأَصْلَحَا زَالَ الْأَذَى عَنْهُمَا، وَأَخْبَرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْضًا أَنَّهُ تَوَّابٌ رَحِيمٌ، ذَكَرَ وَقْتَ التَّوْبَةِ وَشَرْطَهَا، وَرَغَّبَهُمْ فِي تَعْجِيلِهَا لِئَلَّا يَأْتِيَهِمُ الْمَوْتُ وَهُمْ مُصِرُّونَ فلا تنفعهم التوبة، [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الْبَقَرَةِ: ٥٤] وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه عَقْلًا قَبُولُ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «عَلَى» لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه عَقْلًا قَبُولُهَا.
الثَّانِي: لَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَبُولِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَرْقٌ لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنِ الْوُقُوعِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ وَهَذَا عَلَى الْوُقُوعِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ عَلَى اللَّه بَاطِلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَازِمَةَ الْوُجُوبِ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ عِنْدَ التَّرْكِ، فَهَذِهِ اللَّازِمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةَ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، أَوْ غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ فِي حَقِّهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ لَمَّا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِهَذَا الذَّمِّ، وَهَذَا الذَّمُّ مُحَالُ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرْكُ مُمْتَنِعَ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه، وَإِذَا كَانَ التَّرْكُ مُمْتَنِعَ الثُّبُوتِ عَقْلًا كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبَ الثُّبُوتِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّه تَعَالَى مُوجَبًا بِالذَّاتِ لَا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ/ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ غَيْرَ مُمْتَنِعِ الْحُصُولِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، فَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، فَيَلْزَمُ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ مَعَ كَوْنِهِ إِلَهًا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ وَذَلِكَ مُحَالٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ عَلَى اللَّه تَعَالَى بَاطِلٌ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَادِرِيَّةَ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّوِيَّةِ، أَوْ لَا يَكُونَ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى السَّوِيَّةِ لَمْ يَتَرَجَّحْ فِعْلُ التَّوْبَةِ عَلَى تَرْكِهَا إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ حَدَثَ لَا عَنْ مُحْدِثٍ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ حَدَثَ عَنِ الْعَبْدِ عَادَ التَّقْسِيمُ وَإِنْ حَدَثَ عَنِ اللَّه فَحِينَئِذٍ الْعَبْدُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى التَّوْبَةِ بِمَعُونَةِ اللَّه وَتَقْوِيَتِهِ، فَتَكُونُ تِلْكَ التَّوْبَةُ إِنْعَامًا مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، وَإِنْعَامُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَثَبَتَ أَنَّ صُدُورَ التَّوْبَةِ عَنِ الْعَبْدِ لَا يُوجِبُ عَلَى اللَّه الْقَبُولَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ قَادِرِيَّةُ الْعَبْدِ لَا تَصْلُحُ لِلتَّرْكِ وَالْفِعْلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَبْرُ أَلْزَمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَظْهَرَ بطلانا وفسادا.
5
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: التَّوْبَةُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى وَالْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالنَّدَمُ وَالْعَزْمُ مِنْ بَابِ الْكَرَاهَاتِ وَالْإِرَادَاتِ، وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِرَادَةُ لَا يَحْصُلَانِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَإِلَّا افْتَقَرَ فِي تَحْصِيلِهِمَا إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُصُولُ هَذَا النَّدَمِ وَهَذَا الْعَزْمِ بِمَحْضِ تَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَفِعْلُ اللَّه لَا يُوجِبُ عَلَى اللَّه فِعْلًا آخَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ بَاطِلٌ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ التَّوْبَةَ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ عَلَى قَوْلِهِمْ، فَلَوْ صَارَ ذَلِكَ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ عَلَى اللَّه لَصَارَ فِعْلُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرًا فِي ذَاتِ اللَّه وَفِي صِفَاتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا وَعَدَ اللَّه بِشَيْءٍ وَكَانَ الْخُلْفُ فِي وَعْدِهِ مُحَالًا كَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْوَاجِبِ، فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ صَحَّ إِطْلَاقُ كَلِمَةِ «عَلَى» وَبِهَذَا الطَّرِيقِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
إِنْ قِيلَ: فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَكُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْ وُقُوعِهِ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا.
قُلْنَا: الْإِخْبَارُ عَنِ الْوُقُوعِ تَبَعٌ لِلْوُقُوعِ، وَالْوُقُوعُ تَبَعٌ لِلْإِيقَاعِ، وَالتَّبَعُ لَا يُغَيِّرُ الْأَصْلَ، فَكَانَ فَاعِلًا مُخْتَارًا فِي ذَلِكَ الْإِيقَاعِ. أَمَّا أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِأَنَّ وُقُوعَ التَّوْبَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ تُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْقَبُولِ عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ/ السُّوءَ بِجَهالَةٍ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ذَنْبٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ عِقَابًا، لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَعَلَى هَذَا: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ، فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى السُّوءِ مَعَ الْعِلْمِ بكونه سوأ أَنْ لَا تَكُونَ تَوْبَتُهُ مَقْبُولَةً، وَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْيَهُودِيَّ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهَا ذَنْبًا مَعَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً يَكُونُ حَالُهُ أَخَفَّ مِمَّنْ أَتَى بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ خَصَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ بِوُجُوبِ قَبُولِ التَّوْبَةِ وُجُوبًا عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ وَالْكَرَمِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلَمَّا كَانَ ذَنْبُهُمْ أَغْلَظَ لَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ هَذَا التَّأْكِيدَ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى.
وَإِذَا عَرَفْتَ الْجَوَابَ عَنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ فَلْنَذْكُرِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْجَهَالَةِ.
الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّه سُمِّيَ جَاهِلًا وَسُمِّيَ فِعْلُهُ جَهَالَةً، قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يُوسُفَ: ٣٣] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِإِخْوَتِهِ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ [يوسف: ٨٩] وقال تعالى: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هُودٍ: ٤٦]
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ التَّوْبَةَ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ عَلَى قَوْلِهِمْ، فَلَوْ صَارَ ذَلِكَ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ عَلَى اللَّه لَصَارَ فِعْلُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرًا فِي ذَاتِ اللَّه وَفِي صِفَاتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا وَعَدَ اللَّه بِشَيْءٍ وَكَانَ الْخُلْفُ فِي وَعْدِهِ مُحَالًا كَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْوَاجِبِ، فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ صَحَّ إِطْلَاقُ كَلِمَةِ «عَلَى» وَبِهَذَا الطَّرِيقِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
إِنْ قِيلَ: فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَكُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْ وُقُوعِهِ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا.
قُلْنَا: الْإِخْبَارُ عَنِ الْوُقُوعِ تَبَعٌ لِلْوُقُوعِ، وَالْوُقُوعُ تَبَعٌ لِلْإِيقَاعِ، وَالتَّبَعُ لَا يُغَيِّرُ الْأَصْلَ، فَكَانَ فَاعِلًا مُخْتَارًا فِي ذَلِكَ الْإِيقَاعِ. أَمَّا أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِأَنَّ وُقُوعَ التَّوْبَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ تُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْقَبُولِ عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ/ السُّوءَ بِجَهالَةٍ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ذَنْبٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ عِقَابًا، لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَعَلَى هَذَا: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ، فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى السُّوءِ مَعَ الْعِلْمِ بكونه سوأ أَنْ لَا تَكُونَ تَوْبَتُهُ مَقْبُولَةً، وَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْيَهُودِيَّ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهَا ذَنْبًا مَعَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً يَكُونُ حَالُهُ أَخَفَّ مِمَّنْ أَتَى بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ خَصَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ بِوُجُوبِ قَبُولِ التَّوْبَةِ وُجُوبًا عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ وَالْكَرَمِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلَمَّا كَانَ ذَنْبُهُمْ أَغْلَظَ لَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ هَذَا التَّأْكِيدَ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى.
وَإِذَا عَرَفْتَ الْجَوَابَ عَنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ فَلْنَذْكُرِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْجَهَالَةِ.
الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّه سُمِّيَ جَاهِلًا وَسُمِّيَ فِعْلُهُ جَهَالَةً، قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يُوسُفَ: ٣٣] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِإِخْوَتِهِ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ [يوسف: ٨٩] وقال تعالى: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هُودٍ: ٤٦]
6
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَةِ: ٦٧] وَقَدْ يَقُولُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ حَالَ مَا يَذُمُّهُ عَلَى فِعْلٍ: يَا جَاهِلُ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، وَالسَّبَبُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْجَاهِلِ عَلَى الْعَاصِي لِرَبِّهِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَعْمَلَ مَا مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَعْمِلْ ذَلِكَ الْعِلْمَ صَارَ كَأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ، فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ سُمِّيَ الْعَاصِي لِرَبِّهِ جَاهِلًا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَعْصِيَةُ سَوَاءٌ أَتَى بِهَا الْإِنْسَانُ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً أَوْ مَعَ الْجَهْلِ بِذَلِكَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْجَهَالَةِ: أَنْ يَأْتِيَ الْإِنْسَانُ بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِقَدْرِ عِقَابِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا يَحْصُلُ فِي عَاقِبَتِهِ مِنَ الْآفَاتِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ: إِنَّهُ جَاهِلٌ بِفِعْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَ الإنسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه مَعْصِيَةً لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ العلم بكونه مَعْصِيَةً، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، وَلِهَذَا/ الْمَعْنَى أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ يَسْتَحِقُّ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ الْعِقَابَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَ الْيَهُودِيَّةِ مَعْصِيَةً، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْيَهُودِيَّةِ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً، كَفَى ذَلِكَ فِي ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، وَيَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَا النَّائِمُ وَالسَّاهِي، فَإِنَّهُ أَتَى بِالْقَبِيحِ وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِحٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَفْظَ الْجَهَالَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْآيَةِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ الْقَبِيحَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قُبْحَهُ، أَمَّا الْمُتَعَمِّدُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ حَالُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ عَلَى هَذَا الْجَاهِلِ وَاجِبَةً، فَلَأَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْعَامِدِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْ شَرَائِطِ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي فَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْقُرْبِ حُضُورُ زَمَانِ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةُ أَهْوَالِهِ، وَإِنَّمَا سَمَّى تَعَالَى هَذِهِ الْمُدَّةَ قَرِيبَةً لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَجَلَ آتٍ وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. وَثَانِيهَا: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عُمْرِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ طَالَتْ فَهِيَ قَلِيلَةٌ قَرِيبَةٌ فَإِنَّهَا مَحْفُوفَةٌ بِطَرَفَيِ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، فَإِذَا قَسَّمْتَ مُدَّةَ عُمْرِكَ إِلَى مَا عَلَى طَرَفَيْهَا صَارَ كَالْعَدَمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَوَقَّعُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ نُزُولَ الْمَوْتِ بِهِ، وَمَا هَذَا حَالُهُ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُرْبِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَرِيبٍ.
الْجَوَابُ: أَنَّهُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ يَجْعَلُ مُبْتَدَأَ تَوْبَتِهِ زَمَانًا قَرِيبًا مِنَ الْمَعْصِيَةِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي زُمْرَةِ الْمُصِرِّينَ، فَأَمَّا مَنْ تَابَ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ وَقَبْلَ الْمَوْتِ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْمَخْصُوصِينَ بِكَرَامَةِ حَتْمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَى اللَّه بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ وَبِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَنْ لَمْ تَقَعْ تَوْبَتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْعُودِينَ بِكَلِمَةِ «عَسَى» فِي قَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ:
١٠٢] وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا لَا يَخْفَى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ التَّبْعِيضُ، أَيْ يَتُوبُونَ بَعْضَ زَمَانٍ قَرِيبٍ، كَأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى مَا بَيْنَ وُجُودِ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ حُضُورِ الْمَوْتِ زَمَانًا قَرِيبًا، فَفِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ أَتَى بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ تَائِبٌ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِلَّا فَهُوَ تَائِبٌ مِنْ بَعِيدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ قَالَ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْجَهَالَةِ: أَنْ يَأْتِيَ الْإِنْسَانُ بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِقَدْرِ عِقَابِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا يَحْصُلُ فِي عَاقِبَتِهِ مِنَ الْآفَاتِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ: إِنَّهُ جَاهِلٌ بِفِعْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَ الإنسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه مَعْصِيَةً لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ العلم بكونه مَعْصِيَةً، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، وَلِهَذَا/ الْمَعْنَى أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ يَسْتَحِقُّ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ الْعِقَابَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَ الْيَهُودِيَّةِ مَعْصِيَةً، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْيَهُودِيَّةِ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً، كَفَى ذَلِكَ فِي ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، وَيَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَا النَّائِمُ وَالسَّاهِي، فَإِنَّهُ أَتَى بِالْقَبِيحِ وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِحٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَفْظَ الْجَهَالَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْآيَةِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ الْقَبِيحَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قُبْحَهُ، أَمَّا الْمُتَعَمِّدُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ حَالُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ عَلَى هَذَا الْجَاهِلِ وَاجِبَةً، فَلَأَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْعَامِدِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْ شَرَائِطِ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي فَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْقُرْبِ حُضُورُ زَمَانِ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةُ أَهْوَالِهِ، وَإِنَّمَا سَمَّى تَعَالَى هَذِهِ الْمُدَّةَ قَرِيبَةً لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَجَلَ آتٍ وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. وَثَانِيهَا: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عُمْرِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ طَالَتْ فَهِيَ قَلِيلَةٌ قَرِيبَةٌ فَإِنَّهَا مَحْفُوفَةٌ بِطَرَفَيِ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، فَإِذَا قَسَّمْتَ مُدَّةَ عُمْرِكَ إِلَى مَا عَلَى طَرَفَيْهَا صَارَ كَالْعَدَمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَوَقَّعُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ نُزُولَ الْمَوْتِ بِهِ، وَمَا هَذَا حَالُهُ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُرْبِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَرِيبٍ.
الْجَوَابُ: أَنَّهُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ يَجْعَلُ مُبْتَدَأَ تَوْبَتِهِ زَمَانًا قَرِيبًا مِنَ الْمَعْصِيَةِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي زُمْرَةِ الْمُصِرِّينَ، فَأَمَّا مَنْ تَابَ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ وَقَبْلَ الْمَوْتِ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْمَخْصُوصِينَ بِكَرَامَةِ حَتْمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَى اللَّه بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ وَبِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَنْ لَمْ تَقَعْ تَوْبَتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْعُودِينَ بِكَلِمَةِ «عَسَى» فِي قَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ:
١٠٢] وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا لَا يَخْفَى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ التَّبْعِيضُ، أَيْ يَتُوبُونَ بَعْضَ زَمَانٍ قَرِيبٍ، كَأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى مَا بَيْنَ وُجُودِ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ حُضُورِ الْمَوْتِ زَمَانًا قَرِيبًا، فَفِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ أَتَى بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ تَائِبٌ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِلَّا فَهُوَ تَائِبٌ مِنْ بَعِيدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ قَالَ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
7
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ.
قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه قَبُولُهَا، وُجُوبَ الْكَرَمِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، لَا وُجُوبَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ/ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ يَعْنِي إِنَّمَا الْهِدَايَةُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِرْشَادُ إِلَيْهَا وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهَا عَلَى اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ أَتَى بِالذَّنْبِ عَلَى سَبِيلِ الْجَهَالَةِ ثُمَّ تَابَ عَنْهَا عَنْ قَرِيبٍ وَتَرَكَ الْإِصْرَارَ عَلَيْهَا وَأَتَى بِالِاسْتِغْفَارِ عَنْهَا. ثُمَّ قَالَ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ إِذَا أَتَى بِالتَّوْبَةِ قَبِلَهَا اللَّه مِنْهُ، فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ التَّوْفِيقُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَبِالثَّانِي قَبُولُ التَّوْبَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ وَكَانَ اللَّه عَلِيمًا بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لِاسْتِيلَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْجَهَالَةِ عَلَيْهِ، حَكِيمًا بِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ مِنْ صِفَتِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَابَ عَنْهَا مِنْ قَرِيبٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ في الكرم قبول توبته.
[سورة النساء (٤) : آية ١٨]
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ شَرَائِطَ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ أَرْدَفَهَا بِشَرْحِ التَّوْبَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَشَاهَدَ أَهْوَالَهُ فَإِنَّ تَوْبَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَحْثَيْنِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ مَنْ وَصَفْنَا حَالَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي الْمَطْلُوبِ، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: ٨٥] الثَّالِثُ: قَالَ فِي صِفَةِ فِرْعَوْنَ: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يُونُسَ: ٩٠، ٩١] فَلَمْ يَقْبَلِ اللَّه تَوْبَتَهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ، وَلَوْ أَنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ الْإِيمَانِ قَبْلَ تِلْكَ السَّاعَةِ بِلَحْظَةٍ لَكَانَ مَقْبُولًا، الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠] الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى / أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [الْمُنَافِقُونَ: ١٠، ١١] فَأَخْبَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ. السَّادِسُ:
رَوَى أَبُو أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ،
أَيْ مَا لَمْ تَتَرَدَّدِ الرُّوحُ فِي حَلْقِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ: وَلَوْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِفُوَاقِ النَّاقَةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ حِينَ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ: وَعِزَّتِكَ لَا أفارق ابن آدم ما دام رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابَ التَّوْبَةِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [النساء: ١٨] أَيْ عَلَامَاتُ نُزُولِ الْمَوْتِ وَقُرْبِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة: ١٨٠].
قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه قَبُولُهَا، وُجُوبَ الْكَرَمِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، لَا وُجُوبَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ/ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ يَعْنِي إِنَّمَا الْهِدَايَةُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِرْشَادُ إِلَيْهَا وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهَا عَلَى اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ أَتَى بِالذَّنْبِ عَلَى سَبِيلِ الْجَهَالَةِ ثُمَّ تَابَ عَنْهَا عَنْ قَرِيبٍ وَتَرَكَ الْإِصْرَارَ عَلَيْهَا وَأَتَى بِالِاسْتِغْفَارِ عَنْهَا. ثُمَّ قَالَ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ إِذَا أَتَى بِالتَّوْبَةِ قَبِلَهَا اللَّه مِنْهُ، فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ التَّوْفِيقُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَبِالثَّانِي قَبُولُ التَّوْبَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ وَكَانَ اللَّه عَلِيمًا بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لِاسْتِيلَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْجَهَالَةِ عَلَيْهِ، حَكِيمًا بِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ مِنْ صِفَتِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَابَ عَنْهَا مِنْ قَرِيبٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ في الكرم قبول توبته.
[سورة النساء (٤) : آية ١٨]
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ شَرَائِطَ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ أَرْدَفَهَا بِشَرْحِ التَّوْبَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَشَاهَدَ أَهْوَالَهُ فَإِنَّ تَوْبَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَحْثَيْنِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ مَنْ وَصَفْنَا حَالَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي الْمَطْلُوبِ، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: ٨٥] الثَّالِثُ: قَالَ فِي صِفَةِ فِرْعَوْنَ: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يُونُسَ: ٩٠، ٩١] فَلَمْ يَقْبَلِ اللَّه تَوْبَتَهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ، وَلَوْ أَنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ الْإِيمَانِ قَبْلَ تِلْكَ السَّاعَةِ بِلَحْظَةٍ لَكَانَ مَقْبُولًا، الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠] الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى / أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [الْمُنَافِقُونَ: ١٠، ١١] فَأَخْبَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ. السَّادِسُ:
رَوَى أَبُو أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ،
أَيْ مَا لَمْ تَتَرَدَّدِ الرُّوحُ فِي حَلْقِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ: وَلَوْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِفُوَاقِ النَّاقَةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ حِينَ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ: وَعِزَّتِكَ لَا أفارق ابن آدم ما دام رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابَ التَّوْبَةِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [النساء: ١٨] أَيْ عَلَامَاتُ نُزُولِ الْمَوْتِ وَقُرْبِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة: ١٨٠].
8
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: قُرْبُ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، بَلِ الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ مُشَاهَدَةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي عِنْدَهَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ باللَّه تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ نَفْسَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةً أَمَاتَهُمُ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ أَحْيَاهُمْ مِثْلَ قَوْمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِثْلَ أَوْلَادِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِحْيَاءَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْمَوْتِ لَا تُخِلُّ بِالتَّكْلِيفِ.
الثَّانِي: أَنَّ الشَّدَائِدَ الَّتِي يَلْقَاهَا مَنْ يَقْرُبُ مَوْتُهُ تَكُونُ مِثْلَ الشَّدَائِدِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْقُولَنْجِ، وَمِثْلَ الشَّدَائِدِ الَّتِي تَلْقَاهَا الْمَرْأَةُ عِنْدَ الطَّلْقِ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشَّدَائِدُ مَانِعَةً مِنْ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ فَكَذَا الْقَوْلُ فِي تِلْكَ الشَّدَائِدِ. الثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا عَظُمَتِ الْآلَامُ صَارَ اضْطِرَارُ الْعَبْدِ أَشَدَّ وَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: ٦٢] فَتَزَايُدُ الْآلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنْ يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يَكُونَ سَبَبًا لِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ نَفْسَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَنَفْسَ تَزَايُدِ الْآلَامِ وَالْمَشَاقِّ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَنَقُولُ: الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا شَاهَدَ أَحْوَالًا وَأَهْوَالًا صَارَتْ مَعْرِفَتُهُ باللَّه ضَرُورِيَّةً عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ تِلْكَ الْأَهْوَالَ، وَمَتَى صَارَتْ مَعْرِفَتُهُ باللَّه ضَرُورِيَّةً سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لَمَّا صَارَتْ مَعَارِفُهُمْ ضَرُورِيَّةً سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَوْتٌ وَلَا عِقَابٌ، لِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ عِنْدَ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَقَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، لَا تكون مقبولة.
واعلم أن هاهنا بَحْثًا عَمِيقًا أُصُولِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ لَا يُشَاهِدُونَ إِلَّا أَنَّهُمْ صَارُوا أَحْيَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَمْوَاتًا، وَيُشَاهِدُونَ أَيْضًا النَّارَ الْعَظِيمَةَ وَأَصْنَافَ الْأَهْوَالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ باللَّه ضَرُورِيًّا، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ حُصُولَ الْحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً يَحْتَاجُ إِلَى الْفَاعِلِ عِلْمٌ نَظَرِيٌّ عِنْدَ أَكْثَرِ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْعِلْمُ ضَرُورِيٌّ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ اللَّه لَا شَكَّ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّ فَاعِلَ تِلْكَ النِّيرَانِ الْعَظِيمَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه، فَهَذَا/ أَيْضًا اسْتِدْلَالِيٌّ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ ادِّعَاءُ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لِأَجْلِ مُشَاهَدَةِ أَهْوَالِهَا يَعْرِفُونَ اللَّه بِالضَّرُورَةِ ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ باللَّه إِذَا كَانَ ضَرُورِيًّا مَنَعَ مِنْ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ مَعَ عِلْمِهِ الضَّرُورِيِّ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْمُثِيبِ الْمُعَاقِبِ قَدْ يُقْدِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ طَاعَةُ الْعَبْدِ وَلَا يَضُرُّهُ ذَنْبُهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلِمَ قَالُوا: بِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ زَوَالَ التَّكْلِيفِ وَأَيْضًا: فَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ باللَّه فِي دَارِ التَّكْلِيفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا، فَإِذَا صَارَ ضَرُورِيًّا سَقَطَ التَّكْلِيفُ: كَلَامٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَنْ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمُ باللَّه إِنْ كَانَ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ قَائِمًا فِي قَلْبِهِ، فَهَذَا يَكُونُ ظَنًّا لَا عِلْمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ قَائِمًا، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلْمٌ آخَرُ أَقْوَى مِنْهُ وَآكَدَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى الْبَتَّةَ فَرْقٌ بَيْنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَبَيْنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْمُعْتَزِلَةُ كَلِمَاتٌ ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ، فَهُوَ بِفَضْلِهِ وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعد له أَخْبَرَ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَهُ أَنْ يَقْلِبَ الْأَمْرَ فَيَجْعَلَ الْمَقْبُولَ مردودا، والمردود مقبولا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قِسْمَيْنِ، فَقَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء: ١٧] وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ وَاجِبٌ، وَقَالَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ فَهَذَا جَزْمٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ تَوْبَةَ هَؤُلَاءِ فَبَقِيَ بِحُكْمِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ
الثَّانِي: أَنَّ الشَّدَائِدَ الَّتِي يَلْقَاهَا مَنْ يَقْرُبُ مَوْتُهُ تَكُونُ مِثْلَ الشَّدَائِدِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْقُولَنْجِ، وَمِثْلَ الشَّدَائِدِ الَّتِي تَلْقَاهَا الْمَرْأَةُ عِنْدَ الطَّلْقِ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشَّدَائِدُ مَانِعَةً مِنْ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ فَكَذَا الْقَوْلُ فِي تِلْكَ الشَّدَائِدِ. الثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا عَظُمَتِ الْآلَامُ صَارَ اضْطِرَارُ الْعَبْدِ أَشَدَّ وَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: ٦٢] فَتَزَايُدُ الْآلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنْ يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يَكُونَ سَبَبًا لِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ نَفْسَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَنَفْسَ تَزَايُدِ الْآلَامِ وَالْمَشَاقِّ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَنَقُولُ: الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا شَاهَدَ أَحْوَالًا وَأَهْوَالًا صَارَتْ مَعْرِفَتُهُ باللَّه ضَرُورِيَّةً عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ تِلْكَ الْأَهْوَالَ، وَمَتَى صَارَتْ مَعْرِفَتُهُ باللَّه ضَرُورِيَّةً سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لَمَّا صَارَتْ مَعَارِفُهُمْ ضَرُورِيَّةً سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَوْتٌ وَلَا عِقَابٌ، لِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ عِنْدَ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَقَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، لَا تكون مقبولة.
واعلم أن هاهنا بَحْثًا عَمِيقًا أُصُولِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ لَا يُشَاهِدُونَ إِلَّا أَنَّهُمْ صَارُوا أَحْيَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَمْوَاتًا، وَيُشَاهِدُونَ أَيْضًا النَّارَ الْعَظِيمَةَ وَأَصْنَافَ الْأَهْوَالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ باللَّه ضَرُورِيًّا، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ حُصُولَ الْحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً يَحْتَاجُ إِلَى الْفَاعِلِ عِلْمٌ نَظَرِيٌّ عِنْدَ أَكْثَرِ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْعِلْمُ ضَرُورِيٌّ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ اللَّه لَا شَكَّ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّ فَاعِلَ تِلْكَ النِّيرَانِ الْعَظِيمَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه، فَهَذَا/ أَيْضًا اسْتِدْلَالِيٌّ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ ادِّعَاءُ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لِأَجْلِ مُشَاهَدَةِ أَهْوَالِهَا يَعْرِفُونَ اللَّه بِالضَّرُورَةِ ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ باللَّه إِذَا كَانَ ضَرُورِيًّا مَنَعَ مِنْ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ مَعَ عِلْمِهِ الضَّرُورِيِّ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْمُثِيبِ الْمُعَاقِبِ قَدْ يُقْدِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ طَاعَةُ الْعَبْدِ وَلَا يَضُرُّهُ ذَنْبُهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلِمَ قَالُوا: بِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ زَوَالَ التَّكْلِيفِ وَأَيْضًا: فَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ باللَّه فِي دَارِ التَّكْلِيفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا، فَإِذَا صَارَ ضَرُورِيًّا سَقَطَ التَّكْلِيفُ: كَلَامٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَنْ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمُ باللَّه إِنْ كَانَ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ قَائِمًا فِي قَلْبِهِ، فَهَذَا يَكُونُ ظَنًّا لَا عِلْمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ قَائِمًا، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلْمٌ آخَرُ أَقْوَى مِنْهُ وَآكَدَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى الْبَتَّةَ فَرْقٌ بَيْنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَبَيْنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْمُعْتَزِلَةُ كَلِمَاتٌ ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ، فَهُوَ بِفَضْلِهِ وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعد له أَخْبَرَ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَهُ أَنْ يَقْلِبَ الْأَمْرَ فَيَجْعَلَ الْمَقْبُولَ مردودا، والمردود مقبولا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قِسْمَيْنِ، فَقَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء: ١٧] وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ وَاجِبٌ، وَقَالَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ فَهَذَا جَزْمٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ تَوْبَةَ هَؤُلَاءِ فَبَقِيَ بِحُكْمِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ
9
قسم ثالث: وهم الذين لم يَجْزِمُ اللَّه تَعَالَى بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِرَدِّ تَوْبَتِهِمْ. فَلَمَّا كَانَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُمُ الَّذِينَ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْبَأْسِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقِسْمُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ: هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ، ثُمَّ يَتُوبُونَ، فَهَؤُلَاءِ مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ، وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَرُدُّ تَوْبَتَهُمْ، بَلْ تَرَكَهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ مَغْفِرَتَهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ حَيْثُ قَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَنْ تَابَ عِنْدَ حُضُورِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ وَمُقَدِّمَاتِهِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ قَالَ:
وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ الَّذِينَ قَرُبَ مَوْتُهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَمَا أَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعَاصِي لَا تُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَلَوْ تَابُوا فِي الْآخِرَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَعَلَّقَتِ الْوَعِيدِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ/ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فَعَطَفَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ عَلَى الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَيْسُوا مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْكُلِّ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً فَهَذَا يَقْتَضِي شُمُولَ هَذَا الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، فَلَوْ كَانَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَعَ تَرْكِ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِعْلَامِ مَعْنًى.
وَالْجَوَابُ: أَنَّا قَدْ جَمَعْنَا جُمْلَةَ الْعُمُومَاتِ الْوَعِيدِيَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٨١] وَأَجَبْنَا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَا وَذَكَرْنَا وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ، ثُمَّ نَقُولُ الضَّمِيرُ يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً هُوَ قَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً عَائِدًا إِلَى الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الَّذِينَ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَافِرَ أَقْبَحُ فِعْلًا وَأَخَسُّ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّه مِنَ الْفَاسِقِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَخُصَّهُ بِمَزِيدِ إِذْلَالٍ وَإِهَانَةٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مُخْتَصًّا بِالْكَافِرِينَ، بَيَانًا لِكَوْنِهِمْ مُخْتَصِّينَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِمَزِيدِ الْعُقُوبَةِ وَالْإِذْلَالِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِمَّا عَوَّلُوا عَلَيْهِ: فَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا تَوْبَةَ حَصَلَ هُنَاكَ تَجْوِيزُ الْعِقَابِ وَتَجْوِيزُ الْمَغْفِرَةِ، وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَخْوِيفٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يَقُولُونَ بِهِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَى الَّذِينَ يَتُوبُونَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْمَوْتِ، الْكُفَّارَ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَيَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ الْخَوَارِجِ: إِنَّ الْفَاسِقَ كَافِرٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنَافِقُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [الْمُنَافِقُونَ: ١] واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَنْ تَابَ عِنْدَ حُضُورِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ وَمُقَدِّمَاتِهِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ قَالَ:
وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ الَّذِينَ قَرُبَ مَوْتُهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَمَا أَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعَاصِي لَا تُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَلَوْ تَابُوا فِي الْآخِرَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَعَلَّقَتِ الْوَعِيدِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ/ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فَعَطَفَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ عَلَى الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَيْسُوا مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْكُلِّ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً فَهَذَا يَقْتَضِي شُمُولَ هَذَا الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، فَلَوْ كَانَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَعَ تَرْكِ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِعْلَامِ مَعْنًى.
وَالْجَوَابُ: أَنَّا قَدْ جَمَعْنَا جُمْلَةَ الْعُمُومَاتِ الْوَعِيدِيَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٨١] وَأَجَبْنَا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَا وَذَكَرْنَا وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ، ثُمَّ نَقُولُ الضَّمِيرُ يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً هُوَ قَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً عَائِدًا إِلَى الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الَّذِينَ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَافِرَ أَقْبَحُ فِعْلًا وَأَخَسُّ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّه مِنَ الْفَاسِقِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَخُصَّهُ بِمَزِيدِ إِذْلَالٍ وَإِهَانَةٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مُخْتَصًّا بِالْكَافِرِينَ، بَيَانًا لِكَوْنِهِمْ مُخْتَصِّينَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِمَزِيدِ الْعُقُوبَةِ وَالْإِذْلَالِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِمَّا عَوَّلُوا عَلَيْهِ: فَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا تَوْبَةَ حَصَلَ هُنَاكَ تَجْوِيزُ الْعِقَابِ وَتَجْوِيزُ الْمَغْفِرَةِ، وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَخْوِيفٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يَقُولُونَ بِهِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَى الَّذِينَ يَتُوبُونَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْمَوْتِ، الْكُفَّارَ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَيَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ الْخَوَارِجِ: إِنَّ الْفَاسِقَ كَافِرٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنَافِقُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [الْمُنَافِقُونَ: ١] واللَّه أَعْلَمُ.
10
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَعْتَدْنَا: أَيْ أَعْدَدْنَا وَهَيَّأْنَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ نَارِ جَهَنَّمَ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٤]، احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ لِأَنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ لَيْسَ إِلَّا نَارَ جَهَنَّمَ وَبَرْدَهُ، وَقَوْلُهُ: أَعْتَدْنا إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ النَّارِ مخلوقة من هذا الوجه واللَّه أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ١٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِ التَّوْبَةِ عَادَ إِلَى أَحْكَامِ النِّسَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُؤْذُونَ النِّسَاءَ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِيذَاءِ، وَيَظْلِمُونَهُنَّ بِضُرُوبٍ مِنَ الظُّلْمِ، فاللَّه تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ جَاءَ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ بَعْضُ أَقَارِبِهِ فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ: وَرِثْتُ امْرَأَتَهُ كَمَا وَرِثْتُ مَالَهُ، فَصَارَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَمِنْ نَفْسِهَا، فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، إِلَّا الصَّدَاقَ الْأَوَّلَ الَّذِي أَصْدَقَهَا الْمَيِّتُ، وَإِنْ شَاءَ زَوَّجَهَا مِنْ إِنْسَانٍ آخَرَ وَأَخَذَ صَدَاقَهَا وَلَمْ يُعْطِهَا مِنْهُ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَرِثُ امْرَأَةَ الْمَيِّتِ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ عَيْنُ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُنَّ لَا يُورَثْنَ مِنَ الْمَيِّتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوِرَاثَةَ تَعُودُ إِلَى الْمَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ وَارِثَ الْمَيِّتِ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا من الأزواج حتى تموت فيرثها مَالَهَا، فَقَالَ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا أَمْوَالَهُنَّ وَهُنَّ كَارِهَاتٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كُرْهًا بِضَمِّ الْكَافِ، وَفِي التَّوْبَةِ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التَّوْبَةِ:
٥٣] وَفِي الْأَحْقَافِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً [الْأَحْقَافِ: ١٥] كُلُّ ذَلِكَ بِالضَّمِّ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي الْأَحْقَافِ بِالضَّمِّ، وَالْبَاقِي بِالْفَتْحِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْفَتْحِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَرْهُ بِالْفَتْحِ الْإِكْرَاهُ، وَبِالضَّمِّ الْمَشَقَّةُ، فَمَا أُكْرِهَ/ عَلَيْهِ فَهُوَ كَرْهٌ بِالْفَتْحِ، وَمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَهُوَ كُرْهٌ بِالضَّمِّ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَهَى اللَّه عَنْهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّسَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَحَلِّ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ بِالْعَطْفِ عَلَى حَرْفِ «أَنْ» تَقْدِيرُهُ:
وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه، وَالثَّانِي: أَنَّهُ جُزِمَ بِالنَّهْيِ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْدِيرُهُ، وَلَا تَرِثُوا وَلَا تَعْضُلُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَضْلُ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ الدَّاءُ الْعُضَالُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٢].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُخَاطَبُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ مَنْ هُوَ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ قَدْ
[سورة النساء (٤) : آية ١٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِ التَّوْبَةِ عَادَ إِلَى أَحْكَامِ النِّسَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُؤْذُونَ النِّسَاءَ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِيذَاءِ، وَيَظْلِمُونَهُنَّ بِضُرُوبٍ مِنَ الظُّلْمِ، فاللَّه تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ جَاءَ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ بَعْضُ أَقَارِبِهِ فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ: وَرِثْتُ امْرَأَتَهُ كَمَا وَرِثْتُ مَالَهُ، فَصَارَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَمِنْ نَفْسِهَا، فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، إِلَّا الصَّدَاقَ الْأَوَّلَ الَّذِي أَصْدَقَهَا الْمَيِّتُ، وَإِنْ شَاءَ زَوَّجَهَا مِنْ إِنْسَانٍ آخَرَ وَأَخَذَ صَدَاقَهَا وَلَمْ يُعْطِهَا مِنْهُ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَرِثُ امْرَأَةَ الْمَيِّتِ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ عَيْنُ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُنَّ لَا يُورَثْنَ مِنَ الْمَيِّتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوِرَاثَةَ تَعُودُ إِلَى الْمَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ وَارِثَ الْمَيِّتِ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا من الأزواج حتى تموت فيرثها مَالَهَا، فَقَالَ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا أَمْوَالَهُنَّ وَهُنَّ كَارِهَاتٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كُرْهًا بِضَمِّ الْكَافِ، وَفِي التَّوْبَةِ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التَّوْبَةِ:
٥٣] وَفِي الْأَحْقَافِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً [الْأَحْقَافِ: ١٥] كُلُّ ذَلِكَ بِالضَّمِّ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي الْأَحْقَافِ بِالضَّمِّ، وَالْبَاقِي بِالْفَتْحِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْفَتْحِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَرْهُ بِالْفَتْحِ الْإِكْرَاهُ، وَبِالضَّمِّ الْمَشَقَّةُ، فَمَا أُكْرِهَ/ عَلَيْهِ فَهُوَ كَرْهٌ بِالْفَتْحِ، وَمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَهُوَ كُرْهٌ بِالضَّمِّ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَهَى اللَّه عَنْهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّسَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَحَلِّ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ بِالْعَطْفِ عَلَى حَرْفِ «أَنْ» تَقْدِيرُهُ:
وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه، وَالثَّانِي: أَنَّهُ جُزِمَ بِالنَّهْيِ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْدِيرُهُ، وَلَا تَرِثُوا وَلَا تَعْضُلُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَضْلُ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ الدَّاءُ الْعُضَالُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٢].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُخَاطَبُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ مَنْ هُوَ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ قَدْ
11
كَانَ يَكْرَهُ زَوْجَتَهُ وَيُرِيدُ مُفَارَقَتَهَا، فَكَانَ يُسِيءُ الْعِشْرَةَ مَعَهَا وَيُضَيِّقُ عَلَيْهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا بِمَهْرِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَحِلُّ لَكُمُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ بِالْإِكْرَاهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ الْعَضْلُ وَالْحَبْسُ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَارِثِ بِأَنْ يَتْرُكَ مَنْعَهَا مِنَ التَّزَوُّجِ بِمَنْ شَاءَتْ وَأَرَادَتْ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَوْلُهُ: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْبِسُونَ امْرَأَةَ الْمَيِّتِ وَغَرَضُهُمْ أَنْ تَبْذُلَ الْمَرْأَةُ مَا أَخَذَتْ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَنَهْيٌ لَهُمْ عَنْ عَضْلِ الْمَرْأَةِ، الرَّابِعُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ. فَإِنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُطَلِّقُونَ الْمَرْأَةَ وَكَانُوا يَعْضُلُونَهُنَّ عَنِ التَّزَوُّجِ وَيُضَيِّقُونَ الْأَمْرَ عَلَيْهِنَّ لِغَرَضِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُنَّ شَيْئًا، الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْكُلِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا النُّشُوزُ وَشَكَاسَةُ الْخُلُقِ وَإِيذَاءُ الزَّوْجِ وَأَهْلِهِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُوءُ الْعِشْرَةِ مِنْ جِهَتِهِنَّ فَقَدْ عُذِرْتُمْ فِي طَلَبِ الْخُلْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِلَّا أَنْ يُفْحَشَ عَلَيْكُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا الزِّنَا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ وَالسُّدِّيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَاذَا؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ، يَعْنِي لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا ضِرَارًا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ إِلَّا إِذَا زَنَتْ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ وَمَا نُسِخَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ. الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْحَبْسِ وَالْإِمْسَاكِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء: ١٥] وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ/ وَزَعَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. الثَّالِثُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِأَنَّ الْعَضْلَ هُوَ الْحَبْسُ فَدَخَلَ فِيهِ الْحَبْسُ فِي الْبَيْتِ، فَالْأَوْلِيَاءُ وَالْأَزْوَاجُ نُهُوا عَنْ حَبْسِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحِلُّ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ حَبْسُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو مُبَيِّنَةٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ وآيات مبينات [النور: ٣٤] بِفَتْحِ الْيَاءِ حَيْثُ كَانَ، قَالَ لِأَنَّ فِي قوله: مبينات قَصَدَ إِظْهَارَهَا، وَفِي قَوْلِهِ: بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ لَمْ يَقْصِدْ إِظْهَارَهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْيَاءِ فِيهِمَا، أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَلَهُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَاحِشَةَ وَالْآيَاتِ لَا فِعْلَ لَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَيَّنَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَاحِشَةَ تَتَبَيَّنُ، فَإِنْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ صَارَتْ مُبَيَّنَةً، وَأَمَّا الْآيَاتُ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَهَا، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْآيَاتِ إِذَا تَبَيَّنَتْ وَظَهَرَتْ صَارَتْ أَسْبَابًا لِلْبَيَانِ وَإِذَا صَارَتْ أَسْبَابًا لِلْبَيَانِ جَازَ إِسْنَادُ الْبَيَانِ إِلَيْهَا، كَمَا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَمَّا كَانَتْ أَسْبَابًا لِلضَّلَالِ حَسُنَ إِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٦].
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَكَانَ الْقَوْمُ يُسِيئُونَ مُعَاشَرَةَ النِّسَاءِ فَقِيلَ لَهُمْ: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ النَّصَفَةُ فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْإِجْمَالُ فِي الْقَوْلِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ أَيْ كَرِهْتُمْ عِشْرَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَصُحْبَتَهُنَّ، وَآثَرْتُمْ فِرَاقَهُنَّ فَعَسى أَنْ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا النُّشُوزُ وَشَكَاسَةُ الْخُلُقِ وَإِيذَاءُ الزَّوْجِ وَأَهْلِهِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُوءُ الْعِشْرَةِ مِنْ جِهَتِهِنَّ فَقَدْ عُذِرْتُمْ فِي طَلَبِ الْخُلْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِلَّا أَنْ يُفْحَشَ عَلَيْكُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا الزِّنَا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ وَالسُّدِّيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَاذَا؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ، يَعْنِي لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا ضِرَارًا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ إِلَّا إِذَا زَنَتْ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ وَمَا نُسِخَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ. الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْحَبْسِ وَالْإِمْسَاكِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء: ١٥] وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ/ وَزَعَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. الثَّالِثُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِأَنَّ الْعَضْلَ هُوَ الْحَبْسُ فَدَخَلَ فِيهِ الْحَبْسُ فِي الْبَيْتِ، فَالْأَوْلِيَاءُ وَالْأَزْوَاجُ نُهُوا عَنْ حَبْسِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحِلُّ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ حَبْسُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو مُبَيِّنَةٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ وآيات مبينات [النور: ٣٤] بِفَتْحِ الْيَاءِ حَيْثُ كَانَ، قَالَ لِأَنَّ فِي قوله: مبينات قَصَدَ إِظْهَارَهَا، وَفِي قَوْلِهِ: بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ لَمْ يَقْصِدْ إِظْهَارَهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْيَاءِ فِيهِمَا، أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَلَهُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَاحِشَةَ وَالْآيَاتِ لَا فِعْلَ لَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَيَّنَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَاحِشَةَ تَتَبَيَّنُ، فَإِنْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ صَارَتْ مُبَيَّنَةً، وَأَمَّا الْآيَاتُ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَهَا، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْآيَاتِ إِذَا تَبَيَّنَتْ وَظَهَرَتْ صَارَتْ أَسْبَابًا لِلْبَيَانِ وَإِذَا صَارَتْ أَسْبَابًا لِلْبَيَانِ جَازَ إِسْنَادُ الْبَيَانِ إِلَيْهَا، كَمَا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَمَّا كَانَتْ أَسْبَابًا لِلضَّلَالِ حَسُنَ إِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٦].
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَكَانَ الْقَوْمُ يُسِيئُونَ مُعَاشَرَةَ النِّسَاءِ فَقِيلَ لَهُمْ: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ النَّصَفَةُ فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْإِجْمَالُ فِي الْقَوْلِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ أَيْ كَرِهْتُمْ عِشْرَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَصُحْبَتَهُنَّ، وَآثَرْتُمْ فِرَاقَهُنَّ فَعَسى أَنْ
12
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فِيهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِنْ كَرِهْتُمْ صُحْبَتَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ فِي صُحْبَتِهِنَّ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فَتَارَةً فَسَّرَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ بِوَلَدٍ يَحْصُلُ فَتَنْقَلِبُ الْكَرَاهَةُ مَحَبَّةً، وَالنَّفْرَةُ رَغْبَةً وَتَارَةً بِأَنَّهُ لَمَّا كره صحبتها ثم إنه يحمل ذَلِكَ الْمَكْرُوهَ طَلَبًا لِثَوَابِ اللَّه، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ فِي الْعُقْبَى وَالثَّنَاءَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وَرَغِبْتُمْ فِي مُفَارَقَتِهِنَّ، فَرُبَّمَا جَعَلَ اللَّه فِي تِلْكَ المفارقة لهن خيرا كثيرا، ذلك بِأَنْ تَتَخَلَّصَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ وَتَجِدَ زَوْجًا خَيْرًا مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النِّسَاءِ: ١٣٠] وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَثَّ بِمَا ذَكَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الصُّحْبَةِ، فَكَيْفَ يُرِيدُ بذلك المفارقة.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
النوع الرابع: من التكاليف المتعلقة بالنساء.
[في قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً] / فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَمَّا أَذِنَ فِي مُضَارَّةِ الزَّوْجَاتِ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمَ الْمُضَارَّةِ فِي غَيْرِ حَالِ الْفَاحِشَةِ فَقَالَ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ
رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا مَالَ إِلَى التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى رَمَى زَوْجَةَ نَفْسِهِ بِالْفَاحِشَةِ حَتَّى يُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا لِيَصْرِفَهُ إِلَى تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا
قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الْآيَةَ وَالْقِنْطَارُ الْمَالُ الْعَظِيمُ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: ١٤].
المسألة الثانية: قَالُوا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُغَالَاةِ فِي الْمَهْرِ،
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَلَا لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ نِسَائِكُمْ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اللَّه يُعْطِينَا وَأَنْتَ تَمْنَعُ وَتَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ، وَرَجَعَ عَنْ كَرَاهَةِ الْمُغَالَاةِ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى جَوَازِ الْمُغَالَاةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِيتَاءِ الْقِنْطَارِ كَمَا أَنَّ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢] لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْآلِهَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ شَرْطًا لِشَيْءٍ آخَرَ كَوْنُ ذَلِكَ الشَّرْطِ فِي نَفْسِهِ جَائِزَ الْوُقُوعِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ»
وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ جَوَازُ الْقَتْلِ، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ كَانَ الْإِلَهُ جِسْمًا لَكَانَ مُحْدَثًا، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَنَا: الْإِلَهُ جِسْمٌ حَقٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ يَدْخُلُ فِيهَا مَا إِذَا آتَاهَا مَهْرَهَا وَمَا إِذَا لَمْ يُؤْتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعَقْدَ عَلَى ذَلِكَ الصَّدَاقِ فِي حُكْمِ اللَّه، فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ مَا إِذَا آتَاهَا الصَّدَاقَ حِسًّا، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يُؤْتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُقَرِّرَ الْمَهْرَ، قَالَ وَذَلِكَ لأن اللَّه
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فِيهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِنْ كَرِهْتُمْ صُحْبَتَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ فِي صُحْبَتِهِنَّ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فَتَارَةً فَسَّرَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ بِوَلَدٍ يَحْصُلُ فَتَنْقَلِبُ الْكَرَاهَةُ مَحَبَّةً، وَالنَّفْرَةُ رَغْبَةً وَتَارَةً بِأَنَّهُ لَمَّا كره صحبتها ثم إنه يحمل ذَلِكَ الْمَكْرُوهَ طَلَبًا لِثَوَابِ اللَّه، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ فِي الْعُقْبَى وَالثَّنَاءَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وَرَغِبْتُمْ فِي مُفَارَقَتِهِنَّ، فَرُبَّمَا جَعَلَ اللَّه فِي تِلْكَ المفارقة لهن خيرا كثيرا، ذلك بِأَنْ تَتَخَلَّصَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ وَتَجِدَ زَوْجًا خَيْرًا مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النِّسَاءِ: ١٣٠] وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَثَّ بِمَا ذَكَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الصُّحْبَةِ، فَكَيْفَ يُرِيدُ بذلك المفارقة.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
النوع الرابع: من التكاليف المتعلقة بالنساء.
[في قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً] / فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَمَّا أَذِنَ فِي مُضَارَّةِ الزَّوْجَاتِ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمَ الْمُضَارَّةِ فِي غَيْرِ حَالِ الْفَاحِشَةِ فَقَالَ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ
رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا مَالَ إِلَى التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى رَمَى زَوْجَةَ نَفْسِهِ بِالْفَاحِشَةِ حَتَّى يُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا لِيَصْرِفَهُ إِلَى تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا
قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الْآيَةَ وَالْقِنْطَارُ الْمَالُ الْعَظِيمُ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: ١٤].
المسألة الثانية: قَالُوا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُغَالَاةِ فِي الْمَهْرِ،
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَلَا لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ نِسَائِكُمْ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اللَّه يُعْطِينَا وَأَنْتَ تَمْنَعُ وَتَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ، وَرَجَعَ عَنْ كَرَاهَةِ الْمُغَالَاةِ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى جَوَازِ الْمُغَالَاةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِيتَاءِ الْقِنْطَارِ كَمَا أَنَّ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢] لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْآلِهَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ شَرْطًا لِشَيْءٍ آخَرَ كَوْنُ ذَلِكَ الشَّرْطِ فِي نَفْسِهِ جَائِزَ الْوُقُوعِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ»
وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ جَوَازُ الْقَتْلِ، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ كَانَ الْإِلَهُ جِسْمًا لَكَانَ مُحْدَثًا، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَنَا: الْإِلَهُ جِسْمٌ حَقٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ يَدْخُلُ فِيهَا مَا إِذَا آتَاهَا مَهْرَهَا وَمَا إِذَا لَمْ يُؤْتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعَقْدَ عَلَى ذَلِكَ الصَّدَاقِ فِي حُكْمِ اللَّه، فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ مَا إِذَا آتَاهَا الصَّدَاقَ حِسًّا، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يُؤْتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُقَرِّرَ الْمَهْرَ، قَالَ وَذَلِكَ لأن اللَّه
13
تَعَالَى مَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ، وَهَذَا الْمَنْعُ مُطْلَقٌ تَرْكُ الْعَمَلِ/ بِهِ قَبْلَ الْخَلْوَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْمَسِيسِ
فَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَسِيسِ الْخَلْوَةُ،
وَقَالَ عَبْدُ اللَّه: هُوَ الْجِمَاعُ، وَإِذَا صَارَ مُخْتَلَفًا فِيهِ امْتَنَعَ جَعْلُهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ هَذِهِ الآية.
والجواب: إن هذه الآية المذكورة هاهنا مُخْتَصَّةٌ بِمَا بَعْدَ الْجِمَاعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَإِفْضَاءُ بَعْضِهِمْ إِلَى الْبَعْضِ هُوَ الْجِمَاعُ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَسَنُقِيمُ الدَّلَائِلَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ سُوءَ الْعِشْرَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ كَانَ من قبل الزوج كره له أنه يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَهْرِهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً صَرِيحٌ فِي أَنَّ النُّشُوزَ إِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا، ثُمَّ إِنْ وَقَعَتِ الْمُخَالَعَةُ مَلَكَ الزَّوْجُ بَدَلَ الْخُلْعِ، كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَإِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَهَهُنَا يَحِلُّ أَخْذُ بَدَلِ الْخُلْعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء: ١٩].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْبُهْتَانُ فِي اللُّغَةِ الْكَذِبُ الَّذِي يُوَاجِهُ الْإِنْسَانُ بِهِ صَاحِبَهُ عَلَى جِهَةِ الْمُكَابَرَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ بُهِتَ الرَّجُلُ إِذَا تَحَيَّرَ، فَالْبُهْتَانُ كَذِبٌ يُحَيِّرُ الْإِنْسَانَ لِعَظَمَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ كُلَّ بَاطِلٍ يُتَحَيَّرُ مِنْ بُطْلَانِهِ بُهْتاناً، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «إِذَا وَاجَهْتَ أَخَاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَنَّهُ لِمَ انْتَصَبَ قَوْلُهُ: بُهْتاناً وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزجاج: البهتان هاهنا مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَتَأْخُذُونَهُ مُبَاهِتِينَ وَآثِمِينَ. الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ انْتَصَبَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضًا فِي الْحَقِيقَةِ، كَقَوْلِكَ: قَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ جُبْنًا. الثَّالِثُ: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِبُهْتَانٍ. الرَّابِعُ: فِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: تُصِيبُونَ بِهِ بُهْتَانًا وَإِثْمًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْأَخْذِ «بُهْتَانًا» وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ لَهَا ذَلِكَ الْمَهْرَ فَمَنِ اسْتَرَدَّهُ كَانَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِفَرْضٍ فَيَكُونُ بُهْتَانًا. الثَّانِي: أَنَّهُ عِنْدَ الْعَقْدِ تَكَفَّلَ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ الْمَهْرِ إِلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَأْخُذَهُ مِنْهَا، فَإِذَا أَخَذَهُ صَارَ ذَلِكَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بُهْتَانًا. الثَّالِثُ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ دَأْبِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا تَطْلِيقَ الزَّوْجَةِ رَمَوْهَا بِفَاحِشَةٍ حَتَّى تَخَافَ وَتَشْتَرِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ/ بِذَلِكَ الْمَهْرِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ، جُعِلَ كَأَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّه، فَإِذَا أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا قَدْ أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ صَحَّ وَصْفُ ذَلِكَ الْأَخْذِ بِأَنَّهُ بُهْتَانٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِتْيَانِهَا بِالْفَاحِشَةِ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ
فَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَسِيسِ الْخَلْوَةُ،
وَقَالَ عَبْدُ اللَّه: هُوَ الْجِمَاعُ، وَإِذَا صَارَ مُخْتَلَفًا فِيهِ امْتَنَعَ جَعْلُهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ هَذِهِ الآية.
والجواب: إن هذه الآية المذكورة هاهنا مُخْتَصَّةٌ بِمَا بَعْدَ الْجِمَاعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَإِفْضَاءُ بَعْضِهِمْ إِلَى الْبَعْضِ هُوَ الْجِمَاعُ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَسَنُقِيمُ الدَّلَائِلَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ سُوءَ الْعِشْرَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ كَانَ من قبل الزوج كره له أنه يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَهْرِهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً صَرِيحٌ فِي أَنَّ النُّشُوزَ إِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا، ثُمَّ إِنْ وَقَعَتِ الْمُخَالَعَةُ مَلَكَ الزَّوْجُ بَدَلَ الْخُلْعِ، كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَإِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَهَهُنَا يَحِلُّ أَخْذُ بَدَلِ الْخُلْعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء: ١٩].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْبُهْتَانُ فِي اللُّغَةِ الْكَذِبُ الَّذِي يُوَاجِهُ الْإِنْسَانُ بِهِ صَاحِبَهُ عَلَى جِهَةِ الْمُكَابَرَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ بُهِتَ الرَّجُلُ إِذَا تَحَيَّرَ، فَالْبُهْتَانُ كَذِبٌ يُحَيِّرُ الْإِنْسَانَ لِعَظَمَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ كُلَّ بَاطِلٍ يُتَحَيَّرُ مِنْ بُطْلَانِهِ بُهْتاناً، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «إِذَا وَاجَهْتَ أَخَاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَنَّهُ لِمَ انْتَصَبَ قَوْلُهُ: بُهْتاناً وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزجاج: البهتان هاهنا مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَتَأْخُذُونَهُ مُبَاهِتِينَ وَآثِمِينَ. الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ انْتَصَبَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضًا فِي الْحَقِيقَةِ، كَقَوْلِكَ: قَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ جُبْنًا. الثَّالِثُ: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِبُهْتَانٍ. الرَّابِعُ: فِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: تُصِيبُونَ بِهِ بُهْتَانًا وَإِثْمًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْأَخْذِ «بُهْتَانًا» وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ لَهَا ذَلِكَ الْمَهْرَ فَمَنِ اسْتَرَدَّهُ كَانَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِفَرْضٍ فَيَكُونُ بُهْتَانًا. الثَّانِي: أَنَّهُ عِنْدَ الْعَقْدِ تَكَفَّلَ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ الْمَهْرِ إِلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَأْخُذَهُ مِنْهَا، فَإِذَا أَخَذَهُ صَارَ ذَلِكَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بُهْتَانًا. الثَّالِثُ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ دَأْبِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا تَطْلِيقَ الزَّوْجَةِ رَمَوْهَا بِفَاحِشَةٍ حَتَّى تَخَافَ وَتَشْتَرِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ/ بِذَلِكَ الْمَهْرِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ، جُعِلَ كَأَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّه، فَإِذَا أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا قَدْ أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ صَحَّ وَصْفُ ذَلِكَ الْأَخْذِ بِأَنَّهُ بُهْتَانٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِتْيَانِهَا بِالْفَاحِشَةِ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ
14
طَعْنٌ فِي ذَاتِهَا وَأَخْذٌ لِمَالِهَا، فَهُوَ بُهْتَانٌ مِنْ وَجْهٍ وَظُلْمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَكَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً عَظِيمَةً مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ، الْخَامِسُ: أَنَّ عِقَابَ الْبُهْتَانِ وَالْإِثْمِ الْمُبِينِ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ فَقَوْلُهُ: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً مَعْنَاهُ أَتَأْخَذُونَ عِقَابَ الْبُهْتَانِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: ١٠].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: أَتَأْخُذُونَهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْإِعْظَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّكُمْ لَا تَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ ظُهُورِ قبحه في الشرع والعقل.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي عِلَّةِ هَذَا المنع أمورا: أحدهما: أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ يَتَضَمَّنُ نِسْبَتَهَا إِلَى الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ بُهْتَانًا وَالْبُهْتَانُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِثْمٌ مُبِينٌ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ حَقُّهَا فَمَنْ ضَيَّقَ الْأَمْرَ عَلَيْهَا لِيَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ التَّشْدِيدِ وَالتَّضْيِيقِ وَهُوَ ظُلْمٌ، إِلَى أَخْذِ الْمَالِ وَهُوَ ظُلْمٌ آخَرُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِظُلْمٍ إِلَى ظُلْمٍ آخَرَ يَكُونُ إِثْمًا مُبِينًا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ أَفْضَى مِنَ الْفَضَاءِ الَّذِي هُوَ السعة يقال: فضا يفضو وَفَضَاءً إِذَا اتَّسَعَ، قَالَ اللَّيْثُ:
أَفْضَى فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، أَيْ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ صَارَ فِي فُرْجَتِهِ وَفَضَائِهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْإِفْضَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِفْضَاءَ هاهنا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ عِنْدَهُ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ، وَإِنْ خَلَا بِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْإِفْضَاءِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْإِفْضَاءُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، جَامَعَهَا أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ: أَفْضَى فُلَانٌ إِلَى فُلَانَةَ/ أَيْ صَارَ فِي فُرْجَتِهَا وَفَضَائِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، أَمَّا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْجِمَاعِ فَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ، فَقَالَ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَالتَّعَجُّبُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ هَذَا الْإِفْضَاءُ سَبَبًا قَوِيًّا فِي حُصُولِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ لَا مُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْإِفْضَاءِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْإِفْضَاءَ إِلَيْهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِفِعْلٍ مِنْهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «إِلَى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَمُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ عِنْدَ الْخَلْوَةِ الْمَحْضَةِ لَمْ يَصِلْ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، فَامْتَنَعَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا اضْطَجَعَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ وَتَلَامَسَا فَقَدْ حَصَلَ الْإِفْضَاءُ مِنْ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَافِيًا. وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ.
قُلْنَا: الْقَائِلُ قَائِلَانِ، قَائِلٌ يَقُولُ: الْمَهْرُ لَا يَتَقَرَّرُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ، وَآخَرُ: إِنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِالْمُلَامَسَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي تَفْسِيرِ إِفْضَاءِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْجِمَاعُ، وَإِمَّا الْخَلْوَةُ، وَالْقَوْلُ بِالْخَلْوَةِ بَاطِلٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ، فَبَقِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِفْضَاءِ هُوَ الْجِمَاعُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَهْرَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ مَا كَانَ مُتَقَرِّرًا، وَالشَّرْعُ قَدْ عَلَّقَ تَقَرُّرَهُ عَلَى إِفْضَاءِ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ، وَقَدِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِفْضَاءِ، هُوَ الْخَلْوَةُ أَوِ الْجِمَاعُ، وَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ وَجَبَ بَقَاءُ مَا كَانَ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: أَتَأْخُذُونَهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْإِعْظَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّكُمْ لَا تَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ ظُهُورِ قبحه في الشرع والعقل.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي عِلَّةِ هَذَا المنع أمورا: أحدهما: أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ يَتَضَمَّنُ نِسْبَتَهَا إِلَى الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ بُهْتَانًا وَالْبُهْتَانُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِثْمٌ مُبِينٌ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ حَقُّهَا فَمَنْ ضَيَّقَ الْأَمْرَ عَلَيْهَا لِيَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ التَّشْدِيدِ وَالتَّضْيِيقِ وَهُوَ ظُلْمٌ، إِلَى أَخْذِ الْمَالِ وَهُوَ ظُلْمٌ آخَرُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِظُلْمٍ إِلَى ظُلْمٍ آخَرَ يَكُونُ إِثْمًا مُبِينًا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ أَفْضَى مِنَ الْفَضَاءِ الَّذِي هُوَ السعة يقال: فضا يفضو وَفَضَاءً إِذَا اتَّسَعَ، قَالَ اللَّيْثُ:
أَفْضَى فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، أَيْ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ صَارَ فِي فُرْجَتِهِ وَفَضَائِهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْإِفْضَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِفْضَاءَ هاهنا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ عِنْدَهُ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ، وَإِنْ خَلَا بِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْإِفْضَاءِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْإِفْضَاءُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، جَامَعَهَا أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ: أَفْضَى فُلَانٌ إِلَى فُلَانَةَ/ أَيْ صَارَ فِي فُرْجَتِهَا وَفَضَائِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، أَمَّا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْجِمَاعِ فَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ، فَقَالَ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَالتَّعَجُّبُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ هَذَا الْإِفْضَاءُ سَبَبًا قَوِيًّا فِي حُصُولِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ لَا مُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْإِفْضَاءِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْإِفْضَاءَ إِلَيْهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِفِعْلٍ مِنْهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «إِلَى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَمُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ عِنْدَ الْخَلْوَةِ الْمَحْضَةِ لَمْ يَصِلْ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، فَامْتَنَعَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا اضْطَجَعَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ وَتَلَامَسَا فَقَدْ حَصَلَ الْإِفْضَاءُ مِنْ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَافِيًا. وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ.
قُلْنَا: الْقَائِلُ قَائِلَانِ، قَائِلٌ يَقُولُ: الْمَهْرُ لَا يَتَقَرَّرُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ، وَآخَرُ: إِنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِالْمُلَامَسَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي تَفْسِيرِ إِفْضَاءِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْجِمَاعُ، وَإِمَّا الْخَلْوَةُ، وَالْقَوْلُ بِالْخَلْوَةِ بَاطِلٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ، فَبَقِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِفْضَاءِ هُوَ الْجِمَاعُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَهْرَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ مَا كَانَ مُتَقَرِّرًا، وَالشَّرْعُ قَدْ عَلَّقَ تَقَرُّرَهُ عَلَى إِفْضَاءِ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ، وَقَدِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِفْضَاءِ، هُوَ الْخَلْوَةُ أَوِ الْجِمَاعُ، وَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ وَجَبَ بَقَاءُ مَا كَانَ
15
عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ عَدَمُ التَّقْرِيرِ، فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ ظَهَرَ تَرْجِيحُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، أَيْ لِأَيِّ وَجْهٍ وَلِأَيِّ مَعْنًى تَفْعَلُونَ هَذَا؟ فَإِنَّهَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا لَكَ وَجَعَلَتْ ذَاتَهَا لَذَّتَكَ وَتَمَتُّعَكَ، وَحَصَلَتِ الْأُلْفَةُ التَّامَّةُ وَالْمَوَدَّةُ الْكَامِلَةُ بَيْنَكُمَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا شَيْئًا بَذَلَهُ لَهَا بِطِيبَةِ نَفْسِهِ؟ إِنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ الْبَتَّةَ بِمَنْ لَهُ طَبْعٌ سَلِيمٌ وَذَوْقٌ مُسْتَقِيمٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه مَانِعًا مِنَ اسْتِرْدَادِ الْمَهْرِ قَوْلُهُ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ السُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ قَوْلُهُمْ زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ عَلَى مَا أَخَذَهُ اللَّه لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا أَلْجَأَهَا إِلَى أَنْ بَذَلَتِ الْمَهْرَ فَمَا سَرَّحَهَا بِالْإِحْسَانِ، بَلْ سَرَّحَهَا بِالْإِسَاءَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ كَلِمَةُ النِّكَاحِ الْمَعْقُودَةُ عَلَى الصَّدَاقِ، وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةٌ تُسْتَحَلُّ بِهَا فُرُوجُ النِّسَاءِ،
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُّوا اللَّه فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّه وَاسْتَحْلَلْتُمْ/ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّه.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أَيْ أَخَذْنَ مِنْكُمْ بِسَبَبِ إِفْضَاءِ بَعْضِكُمْ إِلَى بَعْضٍ مِيثَاقًا غَلِيظًا، وَصَفَهُ بِالْغِلْظَةِ لِقُوَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَقَالُوا: صُحْبَةُ عِشْرِينَ يَوْمًا قَرَابَةٌ، فَكَيْفَ بِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِاتِّحَادِ والامتزاج.
[سورة النساء (٤) : آية ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي كَلَّفَ اللَّه تَعَالَى بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأُمُورِ المتعلقة بالنساء.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَزَوَّجُونَ بِأَزْوَاجِ آبَائِهِمْ فَنَهَاهُمُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَزْنِيَّةِ أَبِيهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: لَا يَحْرُمُ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَنْكِحَ مَنْكُوحَةَ أبيه، والنكاح عبارة عن الوطء فكان هذا نَهْيًا عَنْ نِكَاحِ مَوْطُوءَةِ أَبِيهِ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ النِّكَاحَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠] أَضَافَ هَذَا النِّكَاحَ إِلَى الزَّوْجِ، وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إِلَى الزَّوْجِ هُوَ الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِزَوْجَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْعَقْدَ لَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ التَّحْلِيلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَطْءَ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء: ٦] والمراد من النكاح هاهنا الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْعَقْدِ كَانَتْ حَاصِلَةً أَبَدًا. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النُّورِ:
٣] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هاهنا الْعَقْدَ لَزِمَ الْكَذِبُ. الرَّابِعُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ»
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدَ بَلْ هُوَ الْوَطْءُ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ النِّكَاحَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، أَيْ لِأَيِّ وَجْهٍ وَلِأَيِّ مَعْنًى تَفْعَلُونَ هَذَا؟ فَإِنَّهَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا لَكَ وَجَعَلَتْ ذَاتَهَا لَذَّتَكَ وَتَمَتُّعَكَ، وَحَصَلَتِ الْأُلْفَةُ التَّامَّةُ وَالْمَوَدَّةُ الْكَامِلَةُ بَيْنَكُمَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا شَيْئًا بَذَلَهُ لَهَا بِطِيبَةِ نَفْسِهِ؟ إِنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ الْبَتَّةَ بِمَنْ لَهُ طَبْعٌ سَلِيمٌ وَذَوْقٌ مُسْتَقِيمٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه مَانِعًا مِنَ اسْتِرْدَادِ الْمَهْرِ قَوْلُهُ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ السُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ قَوْلُهُمْ زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ عَلَى مَا أَخَذَهُ اللَّه لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا أَلْجَأَهَا إِلَى أَنْ بَذَلَتِ الْمَهْرَ فَمَا سَرَّحَهَا بِالْإِحْسَانِ، بَلْ سَرَّحَهَا بِالْإِسَاءَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ كَلِمَةُ النِّكَاحِ الْمَعْقُودَةُ عَلَى الصَّدَاقِ، وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةٌ تُسْتَحَلُّ بِهَا فُرُوجُ النِّسَاءِ،
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُّوا اللَّه فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّه وَاسْتَحْلَلْتُمْ/ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّه.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أَيْ أَخَذْنَ مِنْكُمْ بِسَبَبِ إِفْضَاءِ بَعْضِكُمْ إِلَى بَعْضٍ مِيثَاقًا غَلِيظًا، وَصَفَهُ بِالْغِلْظَةِ لِقُوَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَقَالُوا: صُحْبَةُ عِشْرِينَ يَوْمًا قَرَابَةٌ، فَكَيْفَ بِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِاتِّحَادِ والامتزاج.
[سورة النساء (٤) : آية ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي كَلَّفَ اللَّه تَعَالَى بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأُمُورِ المتعلقة بالنساء.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَزَوَّجُونَ بِأَزْوَاجِ آبَائِهِمْ فَنَهَاهُمُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَزْنِيَّةِ أَبِيهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: لَا يَحْرُمُ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَنْكِحَ مَنْكُوحَةَ أبيه، والنكاح عبارة عن الوطء فكان هذا نَهْيًا عَنْ نِكَاحِ مَوْطُوءَةِ أَبِيهِ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ النِّكَاحَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠] أَضَافَ هَذَا النِّكَاحَ إِلَى الزَّوْجِ، وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إِلَى الزَّوْجِ هُوَ الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِزَوْجَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْعَقْدَ لَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ التَّحْلِيلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَطْءَ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء: ٦] والمراد من النكاح هاهنا الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْعَقْدِ كَانَتْ حَاصِلَةً أَبَدًا. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النُّورِ:
٣] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هاهنا الْعَقْدَ لَزِمَ الْكَذِبُ. الرَّابِعُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ»
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدَ بَلْ هُوَ الْوَطْءُ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ النِّكَاحَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
16
وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ أَيْ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا وَطِئَهُنَّ آبَاؤُكُمْ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَنْكُوحَةُ وَالْمَزْنِيَّةُ، لَا يُقَالُ: كَمَا أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ وَرَدَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ فَقَدْ وَرَدَ/ أَيْضًا بِمَعْنَى الْعَقْدِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النُّورِ: ٣٢] فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٣] إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَابِ:
٤٩]
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ»
فَلِمَ كَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْوَطْءِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْعَقْدِ؟
أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّمِّ، وَمَعْنَى الضَّمِّ حَاصِلٌ فِي الْوَطْءِ لَا فِي الْعَقْدِ، فَكَانَ لَفْظُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً فِي الْوَطْءِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَقْدَ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ أُطْلِقَ اسْمُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، كَمَا أَنَّ الْعَقِيقَةَ اسْمٌ لِلشَّعْرِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ حَالَ مَا يُولَدُ، ثُمَّ تُسَمَّى الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ عِنْدَ حَلْقِ ذَلِكَ الشَّعْرِ عَقِيقَةً فَكَذَا هاهنا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، فَلَا جَرَمَ كَانَ يَقُولُ: الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ الْوَطْءِ، أَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَدَلِيلٍ آخَرَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا فَهَذَا الْقَائِلُ قَالَ: دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ وَفِي الْعَقْدِ مَعًا، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ نَهْيًا عَنِ الْوَطْءِ وَعَنِ الْعَقْدِ مَعًا، حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى كِلَا مَفْهُومَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا، قَالُوا: ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فِي الْوَطْءِ تَارَةً وَفِي الْعَقْدِ أُخْرَى، وَالْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهِ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مَعْنَى الضَّمِّ حَتَّى يَنْدَفِعَ الِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ نَهْيًا عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّزْوِيجِ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْعَقْدِ وَعَنِ الْوَطْءِ مَعًا، فَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْوُجُوهُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَى ذَلِكَ فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي»
وَلَا شَكَّ أَنَّ الوطء من حيث كونه وطأ لَيْسَ سُنَّةً لَهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ بِالسِّفَاحِ سُنَّةً لَهُ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ سُنَّةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ سُنَّةً، ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْوَطْءِ، كَذَلِكَ التَّمَسُّكُ
بِقَوْلِهِ: «تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا»
وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ لَكَانَ هَذَا إِذْنًا فِي مُطْلَقِ الْوَطْءِ/ وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النُّورِ: ٣٢] وَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٣].
لَا يُقَالُ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فَالتَّرْجِيحُ مَعَنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا: الْوَطْءُ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لَزِمَ دُخُولُ الْمَجَازِ فِي دَلَائِلِنَا، وَمَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالتَّخْصِيصِ كَانَ الْتِزَامُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى.
٤٩]
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ»
فَلِمَ كَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْوَطْءِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْعَقْدِ؟
أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّمِّ، وَمَعْنَى الضَّمِّ حَاصِلٌ فِي الْوَطْءِ لَا فِي الْعَقْدِ، فَكَانَ لَفْظُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً فِي الْوَطْءِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَقْدَ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ أُطْلِقَ اسْمُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، كَمَا أَنَّ الْعَقِيقَةَ اسْمٌ لِلشَّعْرِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ حَالَ مَا يُولَدُ، ثُمَّ تُسَمَّى الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ عِنْدَ حَلْقِ ذَلِكَ الشَّعْرِ عَقِيقَةً فَكَذَا هاهنا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، فَلَا جَرَمَ كَانَ يَقُولُ: الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ الْوَطْءِ، أَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَدَلِيلٍ آخَرَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا فَهَذَا الْقَائِلُ قَالَ: دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ وَفِي الْعَقْدِ مَعًا، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ نَهْيًا عَنِ الْوَطْءِ وَعَنِ الْعَقْدِ مَعًا، حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى كِلَا مَفْهُومَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا، قَالُوا: ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فِي الْوَطْءِ تَارَةً وَفِي الْعَقْدِ أُخْرَى، وَالْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهِ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مَعْنَى الضَّمِّ حَتَّى يَنْدَفِعَ الِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ نَهْيًا عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّزْوِيجِ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْعَقْدِ وَعَنِ الْوَطْءِ مَعًا، فَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْوُجُوهُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَى ذَلِكَ فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي»
وَلَا شَكَّ أَنَّ الوطء من حيث كونه وطأ لَيْسَ سُنَّةً لَهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ بِالسِّفَاحِ سُنَّةً لَهُ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ سُنَّةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ سُنَّةً، ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْوَطْءِ، كَذَلِكَ التَّمَسُّكُ
بِقَوْلِهِ: «تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا»
وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ لَكَانَ هَذَا إِذْنًا فِي مُطْلَقِ الْوَطْءِ/ وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النُّورِ: ٣٢] وَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٣].
لَا يُقَالُ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فَالتَّرْجِيحُ مَعَنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا: الْوَطْءُ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لَزِمَ دُخُولُ الْمَجَازِ فِي دَلَائِلِنَا، وَمَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالتَّخْصِيصِ كَانَ الْتِزَامُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى.
17
لِأَنَّا نَقُولُ: أَنْتُمْ تُسَاعِدُونَ عَلَى أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَقْدِ، فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ لَزِمَ دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْمَجَازِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ النِّكَاحُ فِيهَا بِمَعْنَى الْعَقْدِ، أَمَّا لَوْ قُلْنَا: إِنَّ النِّكَاحَ فِيهَا بِمَعْنَى الْوَطْءِ فَلَا يَلْزَمُنَا التَّخْصِيصُ، فَقَوْلُكُمْ يُوجِبُ الْمَجَازَ وَالتَّخْصِيصَ مَعًا، وَقَوْلُنَا يُوجِبُ الْمَجَازَ فَقَطْ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الْوَطْءِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ»
أَثْبَتَ نَفْسَهُ مَوْلُودًا مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرَ مَوْلُودٍ مِنَ السِّفَاحِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ السِّفَاحُ نِكَاحًا، وَالسِّفَاحُ وَطْءٌ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْوَطْءُ نِكَاحًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ فِي أَوْلَادِ الزِّنَا: أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلَادَ النِّكَاحِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ نِكَاحًا لَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ، وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ الْوَطْءَ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ، لَكِنَّ الْعَقْدَ أَيْضًا مُسَمًّى بِهِ، فَلِمَ كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا؟
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فَهُوَ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ، وبيانه من وجهين: الأول: أو الوطء مسبب العقد، فكما يحسن إطلاق اسم الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ مَجَازًا فَكَذَلِكَ يَحْسُنُ إِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ مَجَازًا. فَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: النِّكَاحُ اسْمٌ لِلْوَطْءِ ثُمَّ أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْوَطْءِ، فَكَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: النِّكَاحُ اسْمٌ لِلْعَقْدِ، ثُمَّ أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْوَطْءِ لِكَوْنِ الْوَطْءِ مُسَبَّبًا لَهُ، فَلِمَ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ؟ بَلِ الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّ اسْتِلْزَامَ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ أَتَمُّ مِنِ اسْتِلْزَامِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِحُصُولِ الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، كَالْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُلَازَمَةَ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْمَجَازِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْوَطْءِ مَجَازًا فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ الْآيَةُ دَالَّةً/ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدِ الْتَزَمَهُ الْكَرْخِيُّ لَكِنَّهُ مَدْفُوعٌ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ بِأَزْوَاجِ آبَائِهِمْ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ، بَلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ غَيْرَهُ هَلْ يَدْخُلُ تحت الآية أم لا؟ وأما كون سبب النُّزُولِ دَاخِلًا فِيهَا فَذَاكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ، وَثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرَادًا، ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْعَقْدِ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ وَاقِعًا عَلَى مُضَادَّةِ هَذَا الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، فَكَانَ فَاسِدًا مَرْدُودًا قَطْعًا.
أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِمَّا ذَكَرُوهُ وَهُوَ أَنَّا نَحْمِلُ لَفْظَ النِّكَاحِ عَلَى مَفْهُومَيْهِ، فَنَقُولُ: هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ بُطْلَانِهِ فِي أُصُولِ الفقه.
وأما الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الضَّمَّ الحاصل في
الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الْوَطْءِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ»
أَثْبَتَ نَفْسَهُ مَوْلُودًا مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرَ مَوْلُودٍ مِنَ السِّفَاحِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ السِّفَاحُ نِكَاحًا، وَالسِّفَاحُ وَطْءٌ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْوَطْءُ نِكَاحًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ فِي أَوْلَادِ الزِّنَا: أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلَادَ النِّكَاحِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ نِكَاحًا لَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ، وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ الْوَطْءَ مُسَمًّى بِالنِّكَاحِ، لَكِنَّ الْعَقْدَ أَيْضًا مُسَمًّى بِهِ، فَلِمَ كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا؟
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فَهُوَ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ، وبيانه من وجهين: الأول: أو الوطء مسبب العقد، فكما يحسن إطلاق اسم الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ مَجَازًا فَكَذَلِكَ يَحْسُنُ إِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ مَجَازًا. فَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: النِّكَاحُ اسْمٌ لِلْوَطْءِ ثُمَّ أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْوَطْءِ، فَكَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: النِّكَاحُ اسْمٌ لِلْعَقْدِ، ثُمَّ أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْوَطْءِ لِكَوْنِ الْوَطْءِ مُسَبَّبًا لَهُ، فَلِمَ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ؟ بَلِ الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّ اسْتِلْزَامَ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ أَتَمُّ مِنِ اسْتِلْزَامِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِحُصُولِ الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، كَالْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُلَازَمَةَ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْمَجَازِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْوَطْءِ مَجَازًا فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ الْآيَةُ دَالَّةً/ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدِ الْتَزَمَهُ الْكَرْخِيُّ لَكِنَّهُ مَدْفُوعٌ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ بِأَزْوَاجِ آبَائِهِمْ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ، بَلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ غَيْرَهُ هَلْ يَدْخُلُ تحت الآية أم لا؟ وأما كون سبب النُّزُولِ دَاخِلًا فِيهَا فَذَاكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ، وَثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرَادًا، ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْعَقْدِ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ وَاقِعًا عَلَى مُضَادَّةِ هَذَا الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، فَكَانَ فَاسِدًا مَرْدُودًا قَطْعًا.
أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِمَّا ذَكَرُوهُ وَهُوَ أَنَّا نَحْمِلُ لَفْظَ النِّكَاحِ عَلَى مَفْهُومَيْهِ، فَنَقُولُ: هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ بُطْلَانِهِ فِي أُصُولِ الفقه.
وأما الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الضَّمَّ الحاصل في
18
الْوَطْءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَجَاوُرِ الْأَجْسَامِ وَتَلَاصُقِهَا، وَالضَّمُّ الْحَاصِلُ فِي الْعَقْدِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ أَصْوَاتٌ غَيْرُ بَاقِيَةٍ، فَمَعْنَى الضَّمِّ وَالتَّلَاقِي وَالتَّجَاوُرِ فِيهَا مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْوَطْءِ وَبَيْنَ الْعَقْدِ مَفْهُومٌ مُشْتَرَكٌ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَفْظُ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَطْءِ وَبَيْنَ الْعَقْدِ، وَيُقَالَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْكَلَامُ إِلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُلَخَّصُ فِي هَذَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ النِّكَاحَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ:
إِنَّ قَوْلَهُ: مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنْكُوحَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ «مَا» حَقِيقَةٌ فِي غير العقلاء، فلو كان المراد منه هاهنا الْمَنْكُوحَةَ لَزِمَ هَذَا الْمَجَازُ، وَإِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، بَلْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ «مَا» مع بَعْدَهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ آبَائِكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوا نِكَاحًا مِثْلَ نِكَاحِ آبَائِكُمْ، فَإِنَّ أَنَكِحَتَهُمْ كَانَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ولا شهود، وكانت موقتة، وَكَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ، فاللَّه تَعَالَى نَهَاهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ الْمَنْكُوحَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَنْكِحُوا مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ لَفْظَيِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: وَلَا تَنْكِحُوا كُلَّ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ وَلَا تَنْكِحُوا بَعْضَ مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ لَكَانَ إِدْخَالُ لَفْظِ/ الْكُلِّ عَلَيْهِ تَكْرِيرًا، وَإِدْخَالُ لَفْظِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ نَقْصًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَإِذَا لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ النِّزَاعِ.
لَا يُقَالُ: لَوْ لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ لَمْ يَكُنْ صَرْفُهُ إِلَى بَعْضِ الْأَقْسَامِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْبَاقِي، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفِيدٍ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ.
لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُفِيدَ الْعُمُومَ لَمْ يَكُنْ صَرْفُهُ إِلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهِ إِنَّمَا هُوَ التَّزَوُّجُ بِزَوْجَاتِ الْآبَاءِ، فَكَانَ صَرْفُهُ إِلَى هَذَا الْقِسْمِ أَوْلَى، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْآيَةِ مُجْمَلَةً، وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهَا مُتَنَاوِلَةً لِمَحَلِّ النِّزَاعِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ؟ أَلَيْسَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَقْسَامِ النَّهْيِ لَا يُفِيدُ التَّحْرِيمَ، بَلْ يُفِيدُ التَّنْزِيهَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ:
هَذَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ، وَسَنَذْكُرُ دَلَائِلَ صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ هَبْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هذا النكاح، إلا أن هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: هَذَا النِّكَاحُ مُنْعَقِدٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، بَيَانُ أَنَّهُ مُنْعَقِدٌ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ النِّكَاحَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ:
إِنَّ قَوْلَهُ: مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنْكُوحَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ «مَا» حَقِيقَةٌ فِي غير العقلاء، فلو كان المراد منه هاهنا الْمَنْكُوحَةَ لَزِمَ هَذَا الْمَجَازُ، وَإِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، بَلْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ «مَا» مع بَعْدَهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ آبَائِكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوا نِكَاحًا مِثْلَ نِكَاحِ آبَائِكُمْ، فَإِنَّ أَنَكِحَتَهُمْ كَانَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ولا شهود، وكانت موقتة، وَكَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ، فاللَّه تَعَالَى نَهَاهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ الْمَنْكُوحَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَنْكِحُوا مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ لَفْظَيِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: وَلَا تَنْكِحُوا كُلَّ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ وَلَا تَنْكِحُوا بَعْضَ مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ لَكَانَ إِدْخَالُ لَفْظِ/ الْكُلِّ عَلَيْهِ تَكْرِيرًا، وَإِدْخَالُ لَفْظِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ نَقْصًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَإِذَا لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ النِّزَاعِ.
لَا يُقَالُ: لَوْ لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ لَمْ يَكُنْ صَرْفُهُ إِلَى بَعْضِ الْأَقْسَامِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْبَاقِي، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفِيدٍ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ.
لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُفِيدَ الْعُمُومَ لَمْ يَكُنْ صَرْفُهُ إِلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهِ إِنَّمَا هُوَ التَّزَوُّجُ بِزَوْجَاتِ الْآبَاءِ، فَكَانَ صَرْفُهُ إِلَى هَذَا الْقِسْمِ أَوْلَى، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْآيَةِ مُجْمَلَةً، وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهَا مُتَنَاوِلَةً لِمَحَلِّ النِّزَاعِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ؟ أَلَيْسَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَقْسَامِ النَّهْيِ لَا يُفِيدُ التَّحْرِيمَ، بَلْ يُفِيدُ التَّنْزِيهَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ:
هَذَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ، وَسَنَذْكُرُ دَلَائِلَ صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ هَبْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هذا النكاح، إلا أن هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: هَذَا النِّكَاحُ مُنْعَقِدٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، بَيَانُ أَنَّهُ مُنْعَقِدٌ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه
19
عَنْهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُنْعَقِدًا وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَذْهَبِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ هَذَا النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالِانْعِقَادِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مِنْ طَرِيقِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: عُمُومُ قوله تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٢١] نَهْيٌ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ وَمَدَّ النَّهْيَ إِلَى غَايَةٍ وَهِيَ إِيمَانُهُنَّ، وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْغَايَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَهِيَ الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِهِنَّ عِنْدَ إِيمَانِهِنَّ، وَإِذَا انْتَهَى الْمَنْعُ حَصَلَ الْجَوَازُ، فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ نِكَاحِهِنَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ مَزْنِيَّةُ الْأَبِ وَغَيْرُهَا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فِي مَوَاضِعَ يَبْقَى حُجَّةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ. وَكَذَلِكَ نَسْتَدِلُّ بِجَمِيعِ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النُّورِ: ٣٢] وَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ:
٣] وَأَيْضًا نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤] وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ:
مَا وَراءَ ذلِكُمْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ إِلَيْهِ هو من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: ٢٣] فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ وَأَيْضًا نَتَمَسَّكُ بِعُمُومَاتِ الْأَحَادِيثِ
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ فَزَوِّجُوهُ»
وَقَوْلِهِ: «زَوِّجُوا بَنَاتِكُمُ الْأَكْفَاءَ»
فَكُلُّ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ يَتَنَاوَلُ: مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، فَلَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْعَقْدِ لَمْ يَلْزَمْنَا إِلَّا مَجَازٌ وَاحِدٌ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ نَحْمِلَ تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى حُرْمَةِ النِّكَاحِ يَلْزَمُنَا هَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ الْكَثِيرَةُ فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ»
أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَطْرَةً مِنَ الْخَمْرِ إِذَا وَقَعَتْ فِي كُوزٍ مِنَ الْمَاءِ فَهَهُنَا الْحَرَامُ حَرَّمَ الْحَلَالَ، وَإِذَا اخْتَلَطَتِ الْمَنْكُوحَةُ بِالْأَجْنَبِيَّاتِ وَاشْتَبَهَتْ بِهِنَّ، فَهَهُنَا الْحَرَامُ حَرَّمَ الْحَلَالَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِيهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنْ نَقُولَ: الْمُقْتَضِي لِجَوَازِ النِّكَاحِ قَائِمٌ، وَالْفَارِقُ بَيْنَ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ ظَاهِرٌ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ، أَمَّا الْمُقْتَضِي فَهُوَ أَنْ يَقِيسَ نِكَاحَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ عَلَى نِكَاحِ سَائِرِ النِّسْوَانِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرَائِطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، بِجَامِعِ مَا فِي النِّكَاحِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَأَمَّا الْفَارِقُ فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةَ إِنَّمَا حَكَمَ الشَّرْعُ بِثُبُوتِهَا، سَعْيًا فِي إِبْقَاءِ الْوُصْلَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِالزِّنَا.
بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ، فلو لم يدخل على المرأة أب الرَّجُلِ وَابْنُهُ. وَلَمْ تَدْخُلْ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ الْمَرْأَةِ وَبِنْتُهَا، لَبَقِيَتِ الْمَرْأَةُ كَالْمَحْبُوسَةِ فِي الْبَيْتِ، وَلَتَعَطَّلَ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَكْثَرُ الْمَصَالِحِ وَلَوْ أَذِنَّا فِي هَذَا الدُّخُولِ وَلَمْ نَحْكُمْ بِالْمَحْرَمِيَّةِ فَرُبَّمَا امْتَدَّ عَيْنُ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ وَحَصَلَ الْمَيْلُ وَالرَّغْبَةُ وَعِنْدَ حُصُولِ التَّزَوُّجِ بِأُمِّهَا أَوِ ابْنَتِهَا تَحْصُلُ النَّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّ صُدُورَ الْإِيذَاءِ عَنِ الْأَقَارِبِ أَقْوَى وَقْعًا وَأَشَدُّ إِيلَامًا وتأثيرا،
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: عُمُومُ قوله تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٢١] نَهْيٌ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ وَمَدَّ النَّهْيَ إِلَى غَايَةٍ وَهِيَ إِيمَانُهُنَّ، وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْغَايَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَهِيَ الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِهِنَّ عِنْدَ إِيمَانِهِنَّ، وَإِذَا انْتَهَى الْمَنْعُ حَصَلَ الْجَوَازُ، فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ نِكَاحِهِنَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ مَزْنِيَّةُ الْأَبِ وَغَيْرُهَا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فِي مَوَاضِعَ يَبْقَى حُجَّةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ. وَكَذَلِكَ نَسْتَدِلُّ بِجَمِيعِ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النُّورِ: ٣٢] وَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ:
٣] وَأَيْضًا نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤] وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ:
مَا وَراءَ ذلِكُمْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ إِلَيْهِ هو من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: ٢٣] فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ وَأَيْضًا نَتَمَسَّكُ بِعُمُومَاتِ الْأَحَادِيثِ
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ فَزَوِّجُوهُ»
وَقَوْلِهِ: «زَوِّجُوا بَنَاتِكُمُ الْأَكْفَاءَ»
فَكُلُّ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ يَتَنَاوَلُ: مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، فَلَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْعَقْدِ لَمْ يَلْزَمْنَا إِلَّا مَجَازٌ وَاحِدٌ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ نَحْمِلَ تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى حُرْمَةِ النِّكَاحِ يَلْزَمُنَا هَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ الْكَثِيرَةُ فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ»
أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَطْرَةً مِنَ الْخَمْرِ إِذَا وَقَعَتْ فِي كُوزٍ مِنَ الْمَاءِ فَهَهُنَا الْحَرَامُ حَرَّمَ الْحَلَالَ، وَإِذَا اخْتَلَطَتِ الْمَنْكُوحَةُ بِالْأَجْنَبِيَّاتِ وَاشْتَبَهَتْ بِهِنَّ، فَهَهُنَا الْحَرَامُ حَرَّمَ الْحَلَالَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِيهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنْ نَقُولَ: الْمُقْتَضِي لِجَوَازِ النِّكَاحِ قَائِمٌ، وَالْفَارِقُ بَيْنَ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ ظَاهِرٌ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ، أَمَّا الْمُقْتَضِي فَهُوَ أَنْ يَقِيسَ نِكَاحَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ عَلَى نِكَاحِ سَائِرِ النِّسْوَانِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرَائِطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، بِجَامِعِ مَا فِي النِّكَاحِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَأَمَّا الْفَارِقُ فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةَ إِنَّمَا حَكَمَ الشَّرْعُ بِثُبُوتِهَا، سَعْيًا فِي إِبْقَاءِ الْوُصْلَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِالزِّنَا.
بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ، فلو لم يدخل على المرأة أب الرَّجُلِ وَابْنُهُ. وَلَمْ تَدْخُلْ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ الْمَرْأَةِ وَبِنْتُهَا، لَبَقِيَتِ الْمَرْأَةُ كَالْمَحْبُوسَةِ فِي الْبَيْتِ، وَلَتَعَطَّلَ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَكْثَرُ الْمَصَالِحِ وَلَوْ أَذِنَّا فِي هَذَا الدُّخُولِ وَلَمْ نَحْكُمْ بِالْمَحْرَمِيَّةِ فَرُبَّمَا امْتَدَّ عَيْنُ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ وَحَصَلَ الْمَيْلُ وَالرَّغْبَةُ وَعِنْدَ حُصُولِ التَّزَوُّجِ بِأُمِّهَا أَوِ ابْنَتِهَا تَحْصُلُ النَّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّ صُدُورَ الْإِيذَاءِ عَنِ الْأَقَارِبِ أَقْوَى وَقْعًا وَأَشَدُّ إِيلَامًا وتأثيرا،
20
وَعِنْدَ حُصُولِ النَّفْرَةِ الشَّدِيدَةِ يَحْصُلُ التَّطْلِيقُ وَالْفِرَاقُ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتِ الْمَحْرَمِيَّةُ انْقَطَعَتِ الْأَطْمَاعُ وَانْحَبَسَتِ الشَّهْوَةُ، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَبَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَلِيمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُكْمِ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةِ، السَّعْيُ فِي تَقْرِيرِ الِاتِّصَالِ الْحَاصِلِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْمَحْرَمِيَّةِ إِبْقَاءَ ذَلِكَ الِاتِّصَالِ، فَمَعْلُومٌ/ أَنَّ الِاتِّصَالَ الْحَاصِلَ عِنْدَ النِّكَاحِ مَطْلُوبُ الْبَقَاءِ، فَيَتَنَاسَبُ حُكْمُ الشَّرْعِ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَأَمَّا الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ عِنْدَ الزِّنَا فَهُوَ غَيْرُ مَطْلُوبِ الْبَقَاءِ، فَلَمْ يَتَنَاسَبْ حُكْمُ الشَّرْعِ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَهَذَا وَجْهٌ مَقْبُولٌ مُنَاسِبٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، وَهَذَا هُوَ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عِنْدَ مُنَاظَرَتِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ حَيْثُ قَالَ: وَطْءٌ حُمِدْتَ بِهِ، وَوَطْءٌ رُجِمْتَ بِهِ، فَكَيْفَ يَشْتَبِهَانِ؟
وَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السبب في ذكر هذا الاستقصاء هاهنا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ طَوَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَصْنِيفِهِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ التَّطْوِيلُ إِلَّا تَطْوِيلًا فِي الْكَلِمَاتِ الْمُخْتَلِطَةِ وَالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ الرَّكِيكَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمُكَالَمَةِ مَعَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَسَاءَ فِي الْأَدَبِ وَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَخَاضَ فِي السَّفَاهَةِ وَتَعَامَى عَنْ تَقْرِيرِ دَلَائِلِهِ وَتَغَافَلَ عَنْ إِيرَادِ حُجَجِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ الْأَوْرَاقَ الْكَثِيرَةَ فِي التُّرَّهَاتِ الَّتِي لَا نَفْعَ لِمَذْهَبِهِ مِنْهَا وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى خُصُومِهِ بِسَبَبِهَا، أَظْهَرَ الْقَدْحَ الشَّدِيدَ وَالتَّصَلُّفَ الْعَظِيمَ فِي كَثْرَةِ عُلُومِ أَصْحَابِهِ وَقِلَّةِ عُلُومِ مَنْ يُخَالِفُهُمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّحْصِيلِ لَبَكَى عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي حَاوَلَ نُصْرَةَ قَوْلِهِ بِهَا، وَلَتَعَلَّمَ الدَّلَائِلَ مِمَّنْ كَانَ أَهْلًا لِمَعْرِفَتِهَا، وَمَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِنَا وَنَظَرَ فِي كِتَابِهِ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّا أَخَذْنَا مِنْهُ خَرَزَةً، ثُمَّ جَعَلْنَاهَا لُؤْلُؤَةً مِنْ شِدَّةِ التَّخْلِيصِ وَالتَّقْرِيرِ ثُمَّ أَجَبْنَا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ عَلَى قَوَانِينِ الْأُصُولِ، مُنْطَبِقَةٍ عَلَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ، وَنَسْأَلُ اللَّه حُسْنَ الْخَاتِمَةِ وَدَوَامَ التَّوْفِيقِ وَالنُّصْرَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَحْسَنُهَا: مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ صَاحِبُ حَلِّ الْمُقِلِّ فَقَالَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَعْنَى لِأَنَّ قوله: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا كَمَا اسْتَثْنَى «غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ» مِنْ قَوْلِهِ: «وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ» يَعْنِي إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ فَانْكِحُوهَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالْغَرَضُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِهِ وَسَدُّ الطَّرِيقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُ، وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ عَنْهُ. والرابع: «إلا» هاهنا بِمَعْنَى بَعْدَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدُّخَانِ: ٥٦] أَيْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى. الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ مُقِرُّونَ عَلَيْهِ، قَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِنَّ مُدَّةً ثُمَّ أَمَرَ بِمُفَارَقَتِهِنَّ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الرَّدِيئَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام ما أقر أحد عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةِ أَبِيهِ، / وَإِنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
رَوَى الْبَرَاءُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بُرْدَةَ إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا النِّكَاحِ قَبْلَ النَّهْيِ، أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُنْكَرًا فِي قُلُوبِهِمْ مَمْقُوتًا عِنْدَهُمْ،
وَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السبب في ذكر هذا الاستقصاء هاهنا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ طَوَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَصْنِيفِهِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ التَّطْوِيلُ إِلَّا تَطْوِيلًا فِي الْكَلِمَاتِ الْمُخْتَلِطَةِ وَالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ الرَّكِيكَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمُكَالَمَةِ مَعَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَسَاءَ فِي الْأَدَبِ وَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَخَاضَ فِي السَّفَاهَةِ وَتَعَامَى عَنْ تَقْرِيرِ دَلَائِلِهِ وَتَغَافَلَ عَنْ إِيرَادِ حُجَجِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ الْأَوْرَاقَ الْكَثِيرَةَ فِي التُّرَّهَاتِ الَّتِي لَا نَفْعَ لِمَذْهَبِهِ مِنْهَا وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى خُصُومِهِ بِسَبَبِهَا، أَظْهَرَ الْقَدْحَ الشَّدِيدَ وَالتَّصَلُّفَ الْعَظِيمَ فِي كَثْرَةِ عُلُومِ أَصْحَابِهِ وَقِلَّةِ عُلُومِ مَنْ يُخَالِفُهُمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّحْصِيلِ لَبَكَى عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي حَاوَلَ نُصْرَةَ قَوْلِهِ بِهَا، وَلَتَعَلَّمَ الدَّلَائِلَ مِمَّنْ كَانَ أَهْلًا لِمَعْرِفَتِهَا، وَمَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِنَا وَنَظَرَ فِي كِتَابِهِ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّا أَخَذْنَا مِنْهُ خَرَزَةً، ثُمَّ جَعَلْنَاهَا لُؤْلُؤَةً مِنْ شِدَّةِ التَّخْلِيصِ وَالتَّقْرِيرِ ثُمَّ أَجَبْنَا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ عَلَى قَوَانِينِ الْأُصُولِ، مُنْطَبِقَةٍ عَلَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ، وَنَسْأَلُ اللَّه حُسْنَ الْخَاتِمَةِ وَدَوَامَ التَّوْفِيقِ وَالنُّصْرَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَحْسَنُهَا: مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ صَاحِبُ حَلِّ الْمُقِلِّ فَقَالَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَعْنَى لِأَنَّ قوله: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا كَمَا اسْتَثْنَى «غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ» مِنْ قَوْلِهِ: «وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ» يَعْنِي إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ فَانْكِحُوهَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالْغَرَضُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِهِ وَسَدُّ الطَّرِيقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُ، وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ عَنْهُ. والرابع: «إلا» هاهنا بِمَعْنَى بَعْدَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدُّخَانِ: ٥٦] أَيْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى. الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ مُقِرُّونَ عَلَيْهِ، قَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِنَّ مُدَّةً ثُمَّ أَمَرَ بِمُفَارَقَتِهِنَّ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الرَّدِيئَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام ما أقر أحد عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةِ أَبِيهِ، / وَإِنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
رَوَى الْبَرَاءُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بُرْدَةَ إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا النِّكَاحِ قَبْلَ النَّهْيِ، أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُنْكَرًا فِي قُلُوبِهِمْ مَمْقُوتًا عِنْدَهُمْ،
21
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِوَلَدِ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَةِ أَبِيهِ: مَقْتِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْأَبِ تُشْبِهُ الْأُمَّ، وَكَانَ نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ مِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا النِّكَاحُ يُشْبِهُ ذَلِكَ، لَا جَرَمَ كَانَ مُسْتَقْبَحًا عِنْدَهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَبَدًا كَانَ مَمْقُوتًا وَقَبِيحًا، الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا النِّكَاحِ بَعْدَ النَّهْيِ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً فِي الْإِسْلَامِ وَمَقْتًا عِنْدَ اللَّه، وَإِنَّمَا قَالَ: كانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ فِي حُكْمِ اللَّه وَفِي عِلْمِهِ مَوْصُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ فَاحِشَةٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَ هَذَا النِّكَاحَ بِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ زَوْجَةَ الْأَبِ تُشْبِهُ الْأُمَّ فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهَا مِنْ أَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ، وَثَانِيهَا: الْمَقْتُ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بُغْضٍ مَقْرُونٍ بِاسْتِحْقَارٍ، حَصَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَمْرٍ قَبِيحٍ ارْتَكَبَهُ صَاحِبُهُ، وَهُوَ مِنَ اللَّه فِي حَقِّ الْعَبْدِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْخِزْيِ وَالْخَسَارِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَساءَ سَبِيلًا قَالَ اللَّيْثُ: «سَاءَ» فعل لا زم وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ وَ «سَبِيلًا» مَنْصُوبٌ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْفَاعِلِ، كَمَا قَالَ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: ٦٩] وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْقُبْحِ ثَلَاثَةٌ: الْقُبْحُ فِي الْعُقُولِ، وَفِي الشَّرَائِعِ وَفِي الْعَادَاتِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَمَقْتاً إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَساءَ سَبِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَمَتَى اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْوُجُوهُ فَقَدْ بَلَغَ الغاية في القبح واللَّه أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ الْمَذْكُورَةِ في هذه الآيات.
قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ صِنْفًا مِنَ النِّسْوَانِ: سَبْعَةٌ مِنْهُنَّ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَهُنَّ الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ. وَسَبْعَةٌ/ أُخْرَى لَا من جهة النسب:
الْأُمَّهَاتُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُ النِّسَاءِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالنِّسَاءِ، وَأَزْوَاجُ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ، إِلَّا أَنَّ أزواج الأبناء مذكورة هاهنا، وَأَزْوَاجُ الْآبَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ قَالَ: لِأَنَّهُ أُضِيفَ التَّحْرِيمُ فِيهَا إِلَى الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَالتَّحْرِيمُ لَا يُمْكِنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، فَلَيْسَتْ إِضَافَةُ هَذَا التَّحْرِيمِ إِلَى بَعْضِ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُهَا فِي ذَوَاتِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، أَوْلَى مِنْ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ فَاحِشَةٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَ هَذَا النِّكَاحَ بِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ زَوْجَةَ الْأَبِ تُشْبِهُ الْأُمَّ فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهَا مِنْ أَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ، وَثَانِيهَا: الْمَقْتُ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بُغْضٍ مَقْرُونٍ بِاسْتِحْقَارٍ، حَصَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَمْرٍ قَبِيحٍ ارْتَكَبَهُ صَاحِبُهُ، وَهُوَ مِنَ اللَّه فِي حَقِّ الْعَبْدِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْخِزْيِ وَالْخَسَارِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَساءَ سَبِيلًا قَالَ اللَّيْثُ: «سَاءَ» فعل لا زم وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ وَ «سَبِيلًا» مَنْصُوبٌ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْفَاعِلِ، كَمَا قَالَ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: ٦٩] وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْقُبْحِ ثَلَاثَةٌ: الْقُبْحُ فِي الْعُقُولِ، وَفِي الشَّرَائِعِ وَفِي الْعَادَاتِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَمَقْتاً إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَساءَ سَبِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَمَتَى اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْوُجُوهُ فَقَدْ بَلَغَ الغاية في القبح واللَّه أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ الْمَذْكُورَةِ في هذه الآيات.
قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ صِنْفًا مِنَ النِّسْوَانِ: سَبْعَةٌ مِنْهُنَّ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَهُنَّ الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ. وَسَبْعَةٌ/ أُخْرَى لَا من جهة النسب:
الْأُمَّهَاتُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُ النِّسَاءِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالنِّسَاءِ، وَأَزْوَاجُ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ، إِلَّا أَنَّ أزواج الأبناء مذكورة هاهنا، وَأَزْوَاجُ الْآبَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ قَالَ: لِأَنَّهُ أُضِيفَ التَّحْرِيمُ فِيهَا إِلَى الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَالتَّحْرِيمُ لَا يُمْكِنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، فَلَيْسَتْ إِضَافَةُ هَذَا التَّحْرِيمِ إِلَى بَعْضِ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُهَا فِي ذَوَاتِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، أَوْلَى مِنْ
22
بَعْضٍ، فَصَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيمَ قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ [النساء: ٢٢] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ. الثَّانِي: أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُرْمَةَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا أُضِيفَتَا إِلَى الْأَعْيَانِ، فَالْمُرَادُ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا فِي الْعُرْفِ، فَإِذَا قِيلَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ، فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ أَكْلِهِمَا، وَإِذَا قِيلَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ، فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ، وَلَمَّا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا لِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ»
فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَحِلُّ إِرَاقَةُ دَمِهِ. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ كَانَ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ فِيهَا جَارِيًا مَجْرَى الْقَدْحِ فِي الْبَدِيهِيَّاتِ وَشِبْهِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ، فَكَانَتْ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
بَلَى عِنْدِي فِيهِ بَحْثٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ مَذْكُورٌ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ فَاعِلَ هذا التَّحْرِيمِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَمَا لَمْ يُثْبَتْ ذَلِكَ لَمْ تُفِدِ الْآيَةُ شَيْئًا آخَرَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْإِجْمَاعِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ وَحْدَهَا لَا تُفِيدُ شَيْئًا، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ لَيْسَ نَصًّا فِي ثُبُوتِ التحريم على سبيل التأييد، فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى الْمُؤَبَّدِ، وَإِلَى الْمُؤَقَّتِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ فَقَطْ، وَأُخْرَى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ مُؤَبَّدًا مُخَلَّدًا، وَإِذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ صَالِحًا لِأَنْ يُجْعَلَ مَوْرِدًا لِلتَّقْسِيمِ بِهَذَيْنِ القسمين، لم يكن نصا في التأييد، فاذن هذا التأييد لَا يُسْتَفَادُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، بَلْ مِنْ دَلَالَةٍ مُنْفَصِلَةٍ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ فَيُخَصَّصُ بِأُولَئِكَ الْحَاضِرِينَ، فَإِثْبَاتُ هَذَا التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الْكُلِّ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ هَذَا/ التَّحْرِيمِ فِي الْمَاضِي، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ/ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَخَامِسُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ جَمِيعَ أُمَّهَاتِهِمْ وَجَمِيعَ بَنَاتِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ، فَيَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أُمَّهُ خَاصَّةً، وَبِنْتَهُ خَاصَّةً، وَهَذَا فِيهِ نَوْعُ عُدُولٍ عَنِ الظَّاهِرِ، وَسَادِسُهَا:
أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ يُشْعِرُ ظَاهِرُهُ بِسَبْقِ الْحِلِّ، إِذْ لَوْ كَانَ أَبَدًا مَوْصُوفًا بِالْحُرْمَةِ لَكَانَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ تَحْرِيمًا لِمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ حَرَامٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ لَيْسَ تَجْدِيدَ التَّحْرِيمِ حَتَّى يَلْزَمَ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ، بَلِ الْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ حُصُولِ التَّحْرِيمِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حُرْمَةَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ زَمَنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَلَمْ يَثْبُتْ حِلُّ نِكَاحِهِنَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ، بَلْ إِنَّ زِرَادِشْتَ رَسُولَ الْمَجُوسِ قَالَ بِحِلِّهِ، إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا. أَمَّا نِكَاحُ الْأَخَوَاتِ فَقَدْ نُقِلَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا فِي زَمَنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ اللَّه بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمَشَايِخِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَبْعَثُ الْحَوَارِيَ مِنَ الْجَنَّةِ لِيُزَوَّجَ بِهِنَّ أَبْنَاءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ زَوْجَاتُ أَبْنَائِهِ وَأَزْوَاجُ بَنَاتِهِ مِنْ أَهْلِ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيمَ قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ [النساء: ٢٢] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ. الثَّانِي: أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُرْمَةَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا أُضِيفَتَا إِلَى الْأَعْيَانِ، فَالْمُرَادُ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا فِي الْعُرْفِ، فَإِذَا قِيلَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ، فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ أَكْلِهِمَا، وَإِذَا قِيلَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ، فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ، وَلَمَّا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا لِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ»
فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَحِلُّ إِرَاقَةُ دَمِهِ. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ كَانَ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ فِيهَا جَارِيًا مَجْرَى الْقَدْحِ فِي الْبَدِيهِيَّاتِ وَشِبْهِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ، فَكَانَتْ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
بَلَى عِنْدِي فِيهِ بَحْثٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ مَذْكُورٌ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ فَاعِلَ هذا التَّحْرِيمِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَمَا لَمْ يُثْبَتْ ذَلِكَ لَمْ تُفِدِ الْآيَةُ شَيْئًا آخَرَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْإِجْمَاعِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ وَحْدَهَا لَا تُفِيدُ شَيْئًا، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ لَيْسَ نَصًّا فِي ثُبُوتِ التحريم على سبيل التأييد، فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى الْمُؤَبَّدِ، وَإِلَى الْمُؤَقَّتِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ فَقَطْ، وَأُخْرَى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ مُؤَبَّدًا مُخَلَّدًا، وَإِذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ صَالِحًا لِأَنْ يُجْعَلَ مَوْرِدًا لِلتَّقْسِيمِ بِهَذَيْنِ القسمين، لم يكن نصا في التأييد، فاذن هذا التأييد لَا يُسْتَفَادُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، بَلْ مِنْ دَلَالَةٍ مُنْفَصِلَةٍ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ فَيُخَصَّصُ بِأُولَئِكَ الْحَاضِرِينَ، فَإِثْبَاتُ هَذَا التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الْكُلِّ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ هَذَا/ التَّحْرِيمِ فِي الْمَاضِي، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ/ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَخَامِسُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ جَمِيعَ أُمَّهَاتِهِمْ وَجَمِيعَ بَنَاتِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ، فَيَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أُمَّهُ خَاصَّةً، وَبِنْتَهُ خَاصَّةً، وَهَذَا فِيهِ نَوْعُ عُدُولٍ عَنِ الظَّاهِرِ، وَسَادِسُهَا:
أَنَّ قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ يُشْعِرُ ظَاهِرُهُ بِسَبْقِ الْحِلِّ، إِذْ لَوْ كَانَ أَبَدًا مَوْصُوفًا بِالْحُرْمَةِ لَكَانَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ تَحْرِيمًا لِمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ حَرَامٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ لَيْسَ تَجْدِيدَ التَّحْرِيمِ حَتَّى يَلْزَمَ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ، بَلِ الْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ حُصُولِ التَّحْرِيمِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حُرْمَةَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ زَمَنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَلَمْ يَثْبُتْ حِلُّ نِكَاحِهِنَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ، بَلْ إِنَّ زِرَادِشْتَ رَسُولَ الْمَجُوسِ قَالَ بِحِلِّهِ، إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا. أَمَّا نِكَاحُ الْأَخَوَاتِ فَقَدْ نُقِلَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا فِي زَمَنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ اللَّه بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمَشَايِخِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَبْعَثُ الْحَوَارِيَ مِنَ الْجَنَّةِ لِيُزَوَّجَ بِهِنَّ أَبْنَاءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ زَوْجَاتُ أَبْنَائِهِ وَأَزْوَاجُ بَنَاتِهِ مِنْ أَهْلِ
23
الْجَنَّةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا النَّسْلُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ فَقَطْ، وَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ. وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ السَّبَبَ لِهَذَا التَّحْرِيمِ: أَنَّ الْوَطْءَ إِذْلَالٌ وَإِهَانَةٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَحِي مِنْ ذِكْرِهِ وَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الْخَالِي، وَأَكْثَرُ أَنْوَاعِ الشَّتْمِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ صَوْنُ الْأُمَّهَاتِ عَنْهُ لِأَنَّ إِنْعَامَ الْأُمِّ عَلَى الْوَلَدِ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ، فَوَجَبَ صَوْنُهَا عَنْ هَذَا الْإِذْلَالِ، وَالْبِنْتُ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ وَبَعْضٍ مِنْهُ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي»
فَيَجِبُ صَوْنُهَا عَنْ هَذَا الْإِذْلَالِ، لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَعَهَا تَجْرِي مَجْرَى الْإِذْلَالِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَقِيَّةِ واللَّه أَعْلَمُ. وَلْنَشْرَعِ الْآنَ فِي التَّفَاصِيلِ فَنَقُولُ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْأُمَّهَاتُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْأُمَّهَاتُ جَمْعُ الْأُمِّ وَالْأُمُّ فِي الْأَصْلِ أُمَّهَةٌ فَأُسْقِطَ الْهَاءُ فِي التَّوْحِيدِ قَالَ الشَّاعِرُ:
أُمَّهَتِى خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أَبِي
وَقَدْ تُجْمَعُ الْأُمُّ عَلَى أُمَّاتٍ بِغَيْرِ هَاءٍ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ قَالَ الرَّاعِي:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كُلُّ امْرَأَةٍ رَجَعَ نَسَبُكَ إِلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ جِهَةِ أَبِيكَ أَوْ مِنْ جِهَةِ أُمِّكَ بِدَرَجَةٍ أَوْ بِدَرَجَاتٍ، بِإِنَاثٍ رَجَعْتَ إِلَيْهَا أَوْ بِذُكُورٍ فهي أمك. ثم هاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْأُمِّ لَا شَكَّ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ، فَأَمَّا فِي الْجَدَّاتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْأُمِّ حَقِيقَةً فِي الْأُمِّ الأصيلة وَفِي الْجَدَّاتِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظًا مُتَوَاطِئًا أَوْ مُشْتَرَكًا، فَإِنْ كَانَ لَفْظًا مُتَوَاطِئًا أَعْنِي أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأُمِّ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْجَدَّاتِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ نَصًّا فِي تَحْرِيمِ الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ وَفِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ الْجَدَّاتِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ لَفْظُ الْأُمِّ مُشْتَرَكًا فِي الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ وَفِي الْجَدَّاتِ، فَهَذَا يَتَفَرَّعُ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا مَعًا أم لا؟ فمن جوزه حمل اللفظ هاهنا عَلَى الْكُلِّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَحْرِيمُ الْجَدَّاتِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ، فَالْقَائِلُونَ بِذَلِكَ لهم طريقا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ الْأُمِّ لا شك أنه أريد به هاهنا الْأُمُّ الْأَصْلِيَّةُ، فَتَحْرِيمُ نِكَاحِهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْجَدَّاتِ فَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ هَذَا النَّصِّ، بَلْ مِنَ الْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ، يُرِيدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مَفْهُومًا آخَرَ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَفْظُ الْأُمِّ حَقِيقَةٌ فِي الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ، مَجَازٌ فِي الْجَدَّاتِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا إِذَا كَانَ لَفْظُ الْأُمِّ حَقِيقَةً فِي الْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ، وَفِي الْجَدَّاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِأُمِّهِ وَدَخَلَ بِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَلْزَمُهُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة، فَكَانَ هَذَا الْوَطْءُ زِنًا مَحْضًا فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّورِ: ٢] إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ وُجُودَ هَذَا النِّكَاحِ وَعَدَمَهُ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَقَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مُرَادَ اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: تَحْرِيمُ نِكَاحِهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودُ لَيْسَ إِلَّا صِيغَةَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَوْ حَصَلَ هَذَا الِانْعِقَادُ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْأَوَّلُ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي»
فَيَجِبُ صَوْنُهَا عَنْ هَذَا الْإِذْلَالِ، لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَعَهَا تَجْرِي مَجْرَى الْإِذْلَالِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَقِيَّةِ واللَّه أَعْلَمُ. وَلْنَشْرَعِ الْآنَ فِي التَّفَاصِيلِ فَنَقُولُ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْأُمَّهَاتُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْأُمَّهَاتُ جَمْعُ الْأُمِّ وَالْأُمُّ فِي الْأَصْلِ أُمَّهَةٌ فَأُسْقِطَ الْهَاءُ فِي التَّوْحِيدِ قَالَ الشَّاعِرُ:
أُمَّهَتِى خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أَبِي
وَقَدْ تُجْمَعُ الْأُمُّ عَلَى أُمَّاتٍ بِغَيْرِ هَاءٍ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ قَالَ الرَّاعِي:
/ كَانَتْ نَجَائِبُ مُنْذِرٍ وَمُحَرِّقٍ | أُمَّاتُهُنَّ وَطَرْقُهُنَّ فَحِيَلَا |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِأُمِّهِ وَدَخَلَ بِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَلْزَمُهُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة، فَكَانَ هَذَا الْوَطْءُ زِنًا مَحْضًا فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّورِ: ٢] إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ وُجُودَ هَذَا النِّكَاحِ وَعَدَمَهُ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَقَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مُرَادَ اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: تَحْرِيمُ نِكَاحِهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودُ لَيْسَ إِلَّا صِيغَةَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَوْ حَصَلَ هَذَا الِانْعِقَادُ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْأَوَّلُ
24
بَاطِلٌ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَلَامٌ وَهُوَ عَرَضٌ لَا يَبْقَى، وَالْقَبُولُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ الْإِيجَابِ، وَحُصُولُ الِانْعِقَادِ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ مُحَالٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشَّرْعَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بُطْلَانَ هَذَا الْعَقْدِ قَطْعًا، وَمَعَ كَوْنِ هَذَا الْعَقْدِ بَاطِلًا قَطْعًا فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، كَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مُنْعَقِدٌ شَرْعًا؟ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُودَ هَذَا/ الْعَقْدِ وَعَدَمَهُ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَبَاقِي التَّفْرِيعِ وَالتَّقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْبَنَاتُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كُلُّ أُنْثَى يَرْجِعُ نَسَبُهَا إِلَيْكَ بِالْوِلَادَةِ بِدَرَجَةٍ أَوْ بِدَرَجَاتٍ، بِإِنَاثٍ أَوْ بِذُكُورٍ فَهِيَ بِنْتُكَ، وَأَمَّا بِنْتُ الِابْنِ وَبِنْتُ الْبِنْتِ فَهَلْ تُسَمَّى بِنْتًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؟ فَالْبَحْثُ فِيهِ عَيْنُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأُمَّهَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْبِنْتُ الْمَخْلُوقَةُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا لَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّانِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَحْرُمُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا لَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْرُمَ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إِمَّا أَنْ يُثْبِتَ كَوْنَهَا بِنْتًا لَهُ بِنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ بِثُبُوتِ هَذَا النَّسَبِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ عَلَى مَذْهَبِهِ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِكْرًا وَافْتَضَّهَا وَحَبَسَهَا فِي دَارِهِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، فَهَذَا الْوَلَدُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُهَا إِلَّا عند الِاسْتِلْحَاقِ، وَلَوْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ كَوْنَ الْوَلَدِ مُتَخَلِّقًا مِنْ مَائِهِ لَمَا تَوَقَّفَ فِي ثُبُوتِ هَذَا النَّسَبِ بِغَيْرِ الِاسْتِلْحَاقِ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَهُوَ أَنَّ الْمَشْرِقِيَّ إِذَا تَزَوَّجَ بِالْمَغْرِبِيَّةِ وَحَصَلَ هُنَاكَ وَلَدٌ، فَأَبُو حَنِيفَةَ أَثْبَتَ النَّسَبَ هُنَا مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ مَائِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَعْلِ التَّخْلِيقِ مِنْ مَائِهِ سَبَبًا لِلنَّسَبِ بَاطِلٌ طَرْدًا وَعَكْسًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: النَّسَبُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَهَهُنَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا نَسَبَ لِوَلَدِ الزِّنَا مِنَ الزَّانِي، وَلَوِ انْتَسَبَ إِلَى الزَّانِي لَوَجَبَ عَلَى الْقَاضِي مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِسَابِ، فَثَبَتَ أَنَّ انْتِسَابَهَا إِلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَا بِنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: التَّمَسُّكُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»
فَقَوْلُهُ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ
يَقْتَضِي حَصْرَ النَّسَبِ فِي الْفِرَاشِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَتْ بِنْتًا لَهُ لَأَخَذَتِ الْمِيرَاثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النِّسَاءِ: ١١] وَلَثَبَتَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «زَوِّجُوا بَنَاتِكُمُ الْأَكْفَاءَ»
وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَحَضَانَتُهَا، وَلَحَلَّتِ الْخَلْوَةُ بِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا انْتِفَاءَ الْبِنْتِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا لَهُ وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ التَّزَوُّجُ بِهَا، لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ بِهَا إِمَّا لِلْبِنْتِيَّةِ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وَهَذَا الْحَصْرُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَالْبِنْتِيَّةُ بَاطِلَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِسَبَبِ الزِّنَا أَيْضًا بَاطِلَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عَلَى الزَّانِي واللَّه أَعْلَمُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْأَخَوَاتُ: وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعًا، / وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ فَقَطْ، وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: كُلُّ ذَكَرٍ رَجَعَ نَسَبُكَ إِلَيْهِ فَأُخْتُهُ عَمَّتُكَ، وَقَدْ تَكُونُ الْعَمَّةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي أُمِّكَ، وَكُلُّ أُنْثَى رَجَعَ نَسَبُكَ إِلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ فَأُخْتُهَا خالتك،
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْبَنَاتُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كُلُّ أُنْثَى يَرْجِعُ نَسَبُهَا إِلَيْكَ بِالْوِلَادَةِ بِدَرَجَةٍ أَوْ بِدَرَجَاتٍ، بِإِنَاثٍ أَوْ بِذُكُورٍ فَهِيَ بِنْتُكَ، وَأَمَّا بِنْتُ الِابْنِ وَبِنْتُ الْبِنْتِ فَهَلْ تُسَمَّى بِنْتًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؟ فَالْبَحْثُ فِيهِ عَيْنُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأُمَّهَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْبِنْتُ الْمَخْلُوقَةُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا لَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّانِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَحْرُمُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا لَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْرُمَ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إِمَّا أَنْ يُثْبِتَ كَوْنَهَا بِنْتًا لَهُ بِنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ بِثُبُوتِ هَذَا النَّسَبِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ عَلَى مَذْهَبِهِ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِكْرًا وَافْتَضَّهَا وَحَبَسَهَا فِي دَارِهِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، فَهَذَا الْوَلَدُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُهَا إِلَّا عند الِاسْتِلْحَاقِ، وَلَوْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ كَوْنَ الْوَلَدِ مُتَخَلِّقًا مِنْ مَائِهِ لَمَا تَوَقَّفَ فِي ثُبُوتِ هَذَا النَّسَبِ بِغَيْرِ الِاسْتِلْحَاقِ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَهُوَ أَنَّ الْمَشْرِقِيَّ إِذَا تَزَوَّجَ بِالْمَغْرِبِيَّةِ وَحَصَلَ هُنَاكَ وَلَدٌ، فَأَبُو حَنِيفَةَ أَثْبَتَ النَّسَبَ هُنَا مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ مَائِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَعْلِ التَّخْلِيقِ مِنْ مَائِهِ سَبَبًا لِلنَّسَبِ بَاطِلٌ طَرْدًا وَعَكْسًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: النَّسَبُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَهَهُنَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا نَسَبَ لِوَلَدِ الزِّنَا مِنَ الزَّانِي، وَلَوِ انْتَسَبَ إِلَى الزَّانِي لَوَجَبَ عَلَى الْقَاضِي مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِسَابِ، فَثَبَتَ أَنَّ انْتِسَابَهَا إِلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَا بِنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: التَّمَسُّكُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»
فَقَوْلُهُ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ
يَقْتَضِي حَصْرَ النَّسَبِ فِي الْفِرَاشِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَتْ بِنْتًا لَهُ لَأَخَذَتِ الْمِيرَاثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النِّسَاءِ: ١١] وَلَثَبَتَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «زَوِّجُوا بَنَاتِكُمُ الْأَكْفَاءَ»
وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَحَضَانَتُهَا، وَلَحَلَّتِ الْخَلْوَةُ بِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا انْتِفَاءَ الْبِنْتِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا لَهُ وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ التَّزَوُّجُ بِهَا، لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ بِهَا إِمَّا لِلْبِنْتِيَّةِ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وَهَذَا الْحَصْرُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَالْبِنْتِيَّةُ بَاطِلَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِسَبَبِ الزِّنَا أَيْضًا بَاطِلَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عَلَى الزَّانِي واللَّه أَعْلَمُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْأَخَوَاتُ: وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعًا، / وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ فَقَطْ، وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: كُلُّ ذَكَرٍ رَجَعَ نَسَبُكَ إِلَيْهِ فَأُخْتُهُ عَمَّتُكَ، وَقَدْ تَكُونُ الْعَمَّةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي أُمِّكَ، وَكُلُّ أُنْثَى رَجَعَ نَسَبُكَ إِلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ فَأُخْتُهَا خالتك،
25
وَقَدْ تَكُونُ الْخَالَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ أَبِيكَ.
النَّوْعُ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ: بَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ: وَالْقَوْلُ فِي بَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ كَالْقَوْلِ فِي بَنَاتِ الصُّلْبِ. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السَّبْعَةُ مُحَرَّمَةٌ فِي نَصِّ الْكِتَابِ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَرْحَامِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كُلُّ امْرَأَةٍ حَرَّمَ اللَّه نِكَاحَهَا لِلنَّسَبِ وَالرَّحِمِ، فَتَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدٌ لَا يَحِلُّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا اللَّوَاتِي يَحِلُّ نِكَاحُهُنَّ ثُمَّ يَصِرْنَ مُحَرَّمَاتٍ بِسَبَبٍ طَارِئٍ، فَهُنَّ اللَّاتِي ذُكِرْنَ فِي بَاقِي الْآيَةِ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمُرْضِعَاتُ سَمَّاهُنَّ أُمَّهَاتٍ لِأَجْلِ الْحُرْمَةِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى أَزْوَاجَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: ٦] لِأَجْلِ الْحُرْمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُرْمَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعَةِ إِلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَيْهِنَّ،
لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»
وَإِنَّمَا عَرَفْنَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا، وَالْمُرْضِعَةَ أُخْتًا، فَقَدْ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى الرَّضَاعَ مَجْرَى النَّسَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ بِسَبَبِ النَّسَبِ سَبْعًا: اثْنَتَانِ مِنْهَا هُمَا الْمُنْتَسِبَتَانِ بِطَرِيقِ الْوِلَادَةِ، وَهَمَّا الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ، وَخَمْسٌ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأُخُوَّةِ، وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَعَ بَعْدَ ذلك في أخوال الرضاع كالحال ذَكَرَ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ صُورَةً وَاحِدَةً تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى الْبَاقِي، فَذَكَرَ مِنْ قِسْمِ قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ الْأُمَّهَاتِ، وَمِنْ قِسْمِ قَرَابَةِ الْأُخُوَّةِ الْأَخَوَاتِ، وَنَبَّهَ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي بَابِ الرَّضَاعِ كَالْحَالِ فِي النَّسَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ بِصَرِيحِ
قَوْلِهِ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»
فَصَارَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ مُطَابِقًا لِمَفْهُومِ الْآيَةِ، وَهَذَا/ بَيَانٌ لَطِيفٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أُمُّ الْإِنْسَانِ مِنَ الرَّضَاعِ هِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ انْتَسَبَتْ إِلَى تِلْكَ الْمُرْضِعَةِ بِالْأُمُومَةِ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ، وَالْحَالُ فِي الْأَبِ كَمَا فِي الْأُمِّ، وَإِذَا عَرَفْتَ الْأُمَّ وَالْأَبَ فَقَدْ عَرَفْتَ الْبِنْتَ أَيْضًا بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَأَمَّا الْأَخَوَاتُ فَثَلَاثَةٌ: الْأُولَى أُخْتُكَ لِأَبِيكَ وَأُمِّكَ، وَهِيَ الصَّغِيرَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أُمُّكَ بِلَبَنِ أَبِيكَ، سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهَا مَعَكَ أَوْ مَعَ وَلَدٍ قَبْلَكَ أَوْ بَعْدَكَ، وَالثَّانِيَةُ أُخْتُكَ لِأَبِيكَ دُونَ أُمِّكَ، وَهِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةُ أَبِيكَ بِلَبَنِ أَبِيكَ، وَالثَّالِثَةُ أُخْتُكَ لِأُمِّكَ دُونَ أَبِيكَ، وَهِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أمك بلبن رجل آخَرَ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ سَهُلَ عَلَيْكَ مَعْرِفَةُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: الرَّضَاعُ يَحْرُمُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَةٌ، وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ هَذَا الِاسْمَ يَعْنِي الْأُمُومَةَ وَالْأُخُوَّةَ بِفِعْلِ الرَّضَاعِ، فَحَيْثُ حَصَلَ هَذَا الْفِعْلُ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ:
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَعْطَيْنَكُمْ، وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي كَسَوْنَكُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ حُصُولِ صِفَةِ الْأُمُومَةِ وَالْأُخْتِيَّةِ عَلَى
النَّوْعُ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ: بَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ: وَالْقَوْلُ فِي بَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ كَالْقَوْلِ فِي بَنَاتِ الصُّلْبِ. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السَّبْعَةُ مُحَرَّمَةٌ فِي نَصِّ الْكِتَابِ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَرْحَامِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كُلُّ امْرَأَةٍ حَرَّمَ اللَّه نِكَاحَهَا لِلنَّسَبِ وَالرَّحِمِ، فَتَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدٌ لَا يَحِلُّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا اللَّوَاتِي يَحِلُّ نِكَاحُهُنَّ ثُمَّ يَصِرْنَ مُحَرَّمَاتٍ بِسَبَبٍ طَارِئٍ، فَهُنَّ اللَّاتِي ذُكِرْنَ فِي بَاقِي الْآيَةِ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمُرْضِعَاتُ سَمَّاهُنَّ أُمَّهَاتٍ لِأَجْلِ الْحُرْمَةِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى أَزْوَاجَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: ٦] لِأَجْلِ الْحُرْمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُرْمَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعَةِ إِلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَيْهِنَّ،
لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»
وَإِنَّمَا عَرَفْنَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا، وَالْمُرْضِعَةَ أُخْتًا، فَقَدْ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى الرَّضَاعَ مَجْرَى النَّسَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ بِسَبَبِ النَّسَبِ سَبْعًا: اثْنَتَانِ مِنْهَا هُمَا الْمُنْتَسِبَتَانِ بِطَرِيقِ الْوِلَادَةِ، وَهَمَّا الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ، وَخَمْسٌ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأُخُوَّةِ، وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَعَ بَعْدَ ذلك في أخوال الرضاع كالحال ذَكَرَ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ صُورَةً وَاحِدَةً تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى الْبَاقِي، فَذَكَرَ مِنْ قِسْمِ قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ الْأُمَّهَاتِ، وَمِنْ قِسْمِ قَرَابَةِ الْأُخُوَّةِ الْأَخَوَاتِ، وَنَبَّهَ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي بَابِ الرَّضَاعِ كَالْحَالِ فِي النَّسَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ بِصَرِيحِ
قَوْلِهِ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»
فَصَارَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ مُطَابِقًا لِمَفْهُومِ الْآيَةِ، وَهَذَا/ بَيَانٌ لَطِيفٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أُمُّ الْإِنْسَانِ مِنَ الرَّضَاعِ هِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ انْتَسَبَتْ إِلَى تِلْكَ الْمُرْضِعَةِ بِالْأُمُومَةِ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ، وَالْحَالُ فِي الْأَبِ كَمَا فِي الْأُمِّ، وَإِذَا عَرَفْتَ الْأُمَّ وَالْأَبَ فَقَدْ عَرَفْتَ الْبِنْتَ أَيْضًا بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَأَمَّا الْأَخَوَاتُ فَثَلَاثَةٌ: الْأُولَى أُخْتُكَ لِأَبِيكَ وَأُمِّكَ، وَهِيَ الصَّغِيرَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أُمُّكَ بِلَبَنِ أَبِيكَ، سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهَا مَعَكَ أَوْ مَعَ وَلَدٍ قَبْلَكَ أَوْ بَعْدَكَ، وَالثَّانِيَةُ أُخْتُكَ لِأَبِيكَ دُونَ أُمِّكَ، وَهِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةُ أَبِيكَ بِلَبَنِ أَبِيكَ، وَالثَّالِثَةُ أُخْتُكَ لِأُمِّكَ دُونَ أَبِيكَ، وَهِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أمك بلبن رجل آخَرَ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ سَهُلَ عَلَيْكَ مَعْرِفَةُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: الرَّضَاعُ يَحْرُمُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَةٌ، وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ هَذَا الِاسْمَ يَعْنِي الْأُمُومَةَ وَالْأُخُوَّةَ بِفِعْلِ الرَّضَاعِ، فَحَيْثُ حَصَلَ هَذَا الْفِعْلُ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ:
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَعْطَيْنَكُمْ، وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي كَسَوْنَكُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ حُصُولِ صِفَةِ الْأُمُومَةِ وَالْأُخْتِيَّةِ عَلَى
26
فِعْلِ الرَّضَاعِ، بَلْ لَوْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ هُنَّ أُمَّهَاتُكُمْ لَكَانَ مَقْصُودُكُمْ حَاصِلًا.
وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الرَّضَاعُ هُوَ الَّذِي يَكْسُوهَا سِمَةَ الْأُمُومَةِ، فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ مُسْتَحَقًّا بِوُجُودِ الرَّضَاعِ كَانَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي كَسَوْنَكُمْ، لِأَنَّ اسْمَ الْأُمُومَةِ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْكِسْوَةِ، قَالَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَقَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا بَأْسَ بِالرَّضْعَةِ وَلَا بِالرَّضْعَتَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَضَاءُ اللَّه خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى:
وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ قَالَ: فَعَقَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ التَّحْرِيمَ بِالرَّضَاعِ الْقَلِيلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ رَكِيكٌ جِدًّا، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اسْمَ الْأُمُومَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ فِعْلِ الرَّضَاعِ فَنَقُولُ: وَهَلِ النِّزَاعُ إِلَّا فِيهِ، فَإِنَّ عِنْدِي أَنَّ اسْمَ الْأُمُومَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنَ الرَّضَاعِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَعِنْدَكَ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ أَصْلِ الرَّضَاعِ، وَأَنْتَ إنما تمسكت بهذه الآية لا ثبات هَذَا الْأَصْلِ، فَإِذَا أَثْبَتَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كُنْتَ قَدْ أَثْبَتَّ الدَّلِيلَ بِالْمَدْلُولِ وَإِنَّهُ دَوْرٌ وَسَاقِطٌ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ حُصُولَ التَّحْرِيمِ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الرَّضَاعِ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَا فَهِمَهُ/ مِنْهُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ جُعِلَ فَهْمُ أَحَدِهِمَا حُجَّةً وَلَمْ يُجْعَلْ فَهْمُ الْآخَرِ حُجَّةً عَلَى قَوْلِ خَصْمِهِ. وَلَوْلَا التَّعَصُّبُ الشَّدِيدُ الْمُعْمِي لِلْقَلْبِ لَمَا خَفِيَ ضَعْفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ أَخَذَ يَتَمَسَّكُ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ بِالْأَحَادِيثِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَذْكُرَ إِلَّا مَا يَسْتَنْبِطُهُ مِنَ الْآيَةِ، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَلِيقُ بِكُتُبِ الْفِقْهِ.
النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُمَّهَاتُ الْأَصْلِيَّةُ وَجَمِيعُ جَدَّاتِهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ كَمَا بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي النَّسَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَزَعَمَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ
أُمَّ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا تَحْرُمُ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ كَمَا أَنَّ الرَّبِيبَةَ إِنَّمَا تَحْرُمُ بِالدُّخُولِ بِأُمِّهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَزَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَجَابِرٍ، وَأَظْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ثُمَّ ذَكَرَ شَرْطًا وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّرْطُ مُعْتَبَرًا فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا وَلَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَوْدِ ذَلِكَ الشَّرْطِ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُ عَائِدٍ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِشَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ فَإِذَا عَلَّقْنَاهُ بِإِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى تَعْلِيقِهِ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ تَعْلِيقُهُ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ، وَعَوْدُ الشرط اليه محتمل، لأنه يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُخْتَصًّا بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا، وَالْقَوْلُ بِعَوْدِ هَذَا الشَّرْطِ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ بِمُخَصَّصٍ مَشْكُوكٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا
وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الرَّضَاعُ هُوَ الَّذِي يَكْسُوهَا سِمَةَ الْأُمُومَةِ، فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ مُسْتَحَقًّا بِوُجُودِ الرَّضَاعِ كَانَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي كَسَوْنَكُمْ، لِأَنَّ اسْمَ الْأُمُومَةِ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْكِسْوَةِ، قَالَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَقَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا بَأْسَ بِالرَّضْعَةِ وَلَا بِالرَّضْعَتَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَضَاءُ اللَّه خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى:
وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ قَالَ: فَعَقَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ التَّحْرِيمَ بِالرَّضَاعِ الْقَلِيلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ رَكِيكٌ جِدًّا، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اسْمَ الْأُمُومَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ فِعْلِ الرَّضَاعِ فَنَقُولُ: وَهَلِ النِّزَاعُ إِلَّا فِيهِ، فَإِنَّ عِنْدِي أَنَّ اسْمَ الْأُمُومَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنَ الرَّضَاعِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَعِنْدَكَ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ أَصْلِ الرَّضَاعِ، وَأَنْتَ إنما تمسكت بهذه الآية لا ثبات هَذَا الْأَصْلِ، فَإِذَا أَثْبَتَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كُنْتَ قَدْ أَثْبَتَّ الدَّلِيلَ بِالْمَدْلُولِ وَإِنَّهُ دَوْرٌ وَسَاقِطٌ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ حُصُولَ التَّحْرِيمِ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الرَّضَاعِ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَا فَهِمَهُ/ مِنْهُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ جُعِلَ فَهْمُ أَحَدِهِمَا حُجَّةً وَلَمْ يُجْعَلْ فَهْمُ الْآخَرِ حُجَّةً عَلَى قَوْلِ خَصْمِهِ. وَلَوْلَا التَّعَصُّبُ الشَّدِيدُ الْمُعْمِي لِلْقَلْبِ لَمَا خَفِيَ ضَعْفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ أَخَذَ يَتَمَسَّكُ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ بِالْأَحَادِيثِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَذْكُرَ إِلَّا مَا يَسْتَنْبِطُهُ مِنَ الْآيَةِ، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَلِيقُ بِكُتُبِ الْفِقْهِ.
النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُمَّهَاتُ الْأَصْلِيَّةُ وَجَمِيعُ جَدَّاتِهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ كَمَا بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي النَّسَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَزَعَمَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ
أُمَّ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا تَحْرُمُ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ كَمَا أَنَّ الرَّبِيبَةَ إِنَّمَا تَحْرُمُ بِالدُّخُولِ بِأُمِّهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَزَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَجَابِرٍ، وَأَظْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ثُمَّ ذَكَرَ شَرْطًا وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّرْطُ مُعْتَبَرًا فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا وَلَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَوْدِ ذَلِكَ الشَّرْطِ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُ عَائِدٍ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِشَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ فَإِذَا عَلَّقْنَاهُ بِإِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى تَعْلِيقِهِ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ تَعْلِيقُهُ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ، وَعَوْدُ الشرط اليه محتمل، لأنه يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُخْتَصًّا بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا، وَالْقَوْلُ بِعَوْدِ هَذَا الشَّرْطِ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ بِمُخَصَّصٍ مَشْكُوكٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا
27
الشَّرْطَ لَوْ عَادَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهَا وَبِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ الرَّبَائِبِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ نَظْمُ الْآيَةِ هَكَذَا/ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دخلتم بهن، فيكون المراد بكلمة «من» هاهنا التَّمْيِيزَ ثُمَّ يَقُولُ: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بكلمة «من» هاهنا ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ كَمَا يَقُولُ: بَنَاتُ الرَّسُولِ مِنْ خَدِيجَةَ، فَيَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَرَكِ فِي كِلَا مَفْهُومَيْهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ فَيُقَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» لِلِاتِّصَالِ كقوله تَعَالَى:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: ٧١]
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا الدَّدُ مِنِّي»
وَمَعْنَى مُطْلَقِ الِاتِّصَالِ حَاصِلٌ فِي النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبِ مَعًا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ: مَا
رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَكَحَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، دَخَلَ بِالْبِنْتِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الْأُمَّ فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَ الْبِنْتَ،
وَطَعَنَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ يُفْتِي بِنِكَاحِ أُمِّ الْمَرْأَةِ إِذَا طَلَّقَ بِنْتَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِالْكُوفَةِ، فَاتَّفَقَ أَنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَصَادَفَهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى خِلَافِ فَتْوَاهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْكُوفَةِ لَمْ يَدْخُلْ دَارَهُ حَتَّى ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَقَرَعَ عَلَيْهِ الْبَابَ وَأَمَرَهُ بِالنُّزُولِ عَنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تَزَوَّجَ أُمَّهَا، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَتَزَوَّجْ أُمَّهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ فِي التَّحْرِيمِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدُّخُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، وَأَمَّا الْمَوْتُ فَلَمَّا كَانَ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ فِي بَابِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، لَا جَرَمَ جَعَلَهُ اللَّه سَبَبًا لِهَذَا التَّحْرِيمِ.
النوع الحادي عشر: من المحرمات.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرَّبَائِبُ: جَمْعُ رَبِيبَةٍ، وَهِيَ بِنْتُ امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَعْنَاهَا مَرْبُوبَةٌ، لِأَنَّ/ الرجل هو يربها يقال: ربيت فلانا أربه: وربيته أُرَبِّيهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْحُجُورُ جَمْعُ حِجْرٍ، وَفِيهِ لُغَتَانِ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: حَجْرُ الْإِنْسَانِ وَحِجْرُهُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فِي حُجُورِكُمْ أَيْ فِي تَرْبِيَتِكُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ فِي حِجْرِ فُلَانٍ إِذَا كَانَ فِي تَرْبِيَتِهِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَبَّى طِفْلًا أَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، فَصَارَ الْحِجَرُ عِبَارَةً عَنِ التَّرْبِيَةِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي حَضَانَةِ فُلَانٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِضْنِ الَّذِي هُوَ الْإِبْطُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فِي حُجُورِكُمْ أَيْ فِي بُيُوتِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الرَّبِيبَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ وَكَانَتْ فِي بَلَدٍ آخَرَ، ثُمَّ فَارَقَ الْأُمَّ بَعْدَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّبِيبَةَ، وَنُقِلَ أَنَّهُ رِضْوَانُ اللَّه
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: ٧١]
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا الدَّدُ مِنِّي»
وَمَعْنَى مُطْلَقِ الِاتِّصَالِ حَاصِلٌ فِي النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبِ مَعًا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ: مَا
رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَكَحَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، دَخَلَ بِالْبِنْتِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الْأُمَّ فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَ الْبِنْتَ،
وَطَعَنَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ يُفْتِي بِنِكَاحِ أُمِّ الْمَرْأَةِ إِذَا طَلَّقَ بِنْتَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِالْكُوفَةِ، فَاتَّفَقَ أَنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَصَادَفَهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى خِلَافِ فَتْوَاهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْكُوفَةِ لَمْ يَدْخُلْ دَارَهُ حَتَّى ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَقَرَعَ عَلَيْهِ الْبَابَ وَأَمَرَهُ بِالنُّزُولِ عَنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تَزَوَّجَ أُمَّهَا، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَتَزَوَّجْ أُمَّهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ فِي التَّحْرِيمِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدُّخُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، وَأَمَّا الْمَوْتُ فَلَمَّا كَانَ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ فِي بَابِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، لَا جَرَمَ جَعَلَهُ اللَّه سَبَبًا لِهَذَا التَّحْرِيمِ.
النوع الحادي عشر: من المحرمات.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرَّبَائِبُ: جَمْعُ رَبِيبَةٍ، وَهِيَ بِنْتُ امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَعْنَاهَا مَرْبُوبَةٌ، لِأَنَّ/ الرجل هو يربها يقال: ربيت فلانا أربه: وربيته أُرَبِّيهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْحُجُورُ جَمْعُ حِجْرٍ، وَفِيهِ لُغَتَانِ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: حَجْرُ الْإِنْسَانِ وَحِجْرُهُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فِي حُجُورِكُمْ أَيْ فِي تَرْبِيَتِكُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ فِي حِجْرِ فُلَانٍ إِذَا كَانَ فِي تَرْبِيَتِهِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَبَّى طِفْلًا أَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، فَصَارَ الْحِجَرُ عِبَارَةً عَنِ التَّرْبِيَةِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي حَضَانَةِ فُلَانٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِضْنِ الَّذِي هُوَ الْإِبْطُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فِي حُجُورِكُمْ أَيْ فِي بُيُوتِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الرَّبِيبَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ وَكَانَتْ فِي بَلَدٍ آخَرَ، ثُمَّ فَارَقَ الْأُمَّ بَعْدَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّبِيبَةَ، وَنُقِلَ أَنَّهُ رِضْوَانُ اللَّه
28
عَلَيْهِ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ
شَرَطَ فِي كَوْنِهَا رَبِيبَةً لَهُ، كَوْنَهَا فِي حِجْرِهِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي تَرْبِيَتِهِ وَلَا فِي حِجْرِهِ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ. وَأَمَّا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا دَخَلَ بِالْمَرْأَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي تَرْبِيَتِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ عَلَّقَ رَفْعَ الْجُنَاحِ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِحُصُولِ الْجُنَاحِ هُوَ مُجَرَّدُ الدُّخُولِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ الْأَعَمَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ بِنْتَ زَوْجَةِ الْإِنْسَانِ تَكُونُ فِي تَرْبِيَتِهِ، فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْأَعَمِّ، لَا أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ شَرْطٌ فِي حُصُولِ هَذَا التَّحْرِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ قَالَ: لِأَنَّ الدُّخُولَ بِهَا اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْوَطْءِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ نِكَاحًا أَوْ سِفَاحًا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الزِّنَا بِالْأُمِّ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْبِنْتِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَنْكُوحَةِ لِدَلِيلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا تَنَاوَلَتِ امْرَأَةً كَانَتْ مِنْ نِسَائِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا وَالْمَزْنِيُّ بِهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُهَا فِي الْآيَةِ بَيَانُ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يَقْتَضِي أَنَّ كَوْنَهَا مِنْ نِسَائِهِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى دُخُولِهِ بِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ نِسَاءَهُمْ إِلَى مَنْ تَكُونُ مَدْخُولًا بِهَا، وَإِلَى مَنْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَإِذَا كَانَ نِسَاؤُهُمْ مُنْقَسِمَةً إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلدُّخُولِ بِهَا، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَزْنِيَّةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَذَلِكَ لِأَنَّ فِي النِّكَاحِ صَارَتِ الْمَرْأَةُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ مِنْ نِسَائِهِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَمَّا فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا حَالَةٌ أُخْرَى تَقْتَضِي صَيْرُورَتَهَا مِنْ نِسَائِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْمَزْنِيَّةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ/ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّانِي: لَوْ أَوْصَى لِنِسَاءِ فُلَانٍ، لَا تَدْخُلُ هَذِهِ الزَّانِيَةُ فِيهِنَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى نِسَاءِ بَنِي فُلَانٍ، لَا يَحْصُلُ الْحِنْثُ وَالْبِرُّ بِهَذِهِ الزَّانِيَةِ، فَثَبَتَ ضَعْفُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ واللَّه أَعْلَمُ.
النوع الثاني عشر: من المحرمات.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ ابْنِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّهُ يَجُوزُ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: جَارِيَةُ الِابْنِ حَلِيلَةٌ، وَحَلِيلَةُ الِابْنِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَبَيَانُهَا بِالْبَحْثِ عَنِ الْحَلِيلَةِ فَنَقُولُ: الحليلة فعلية فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ الْحِلِّ الَّذِي هُوَ الْإِبَاحَةُ، فَالْحَلِيلَةُ تَكُونُ بِمَعْنَى الْمُحَلَّةِ أَيِ الْمُحَلَّلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَذَلِكَ فَوَجَبَ كَوْنُهَا حَلِيلَةً لَهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنَ الْحُلُولِ، فَالْحَلِيلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ مَحَلَّ الْحُلُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ مَوْضِعُ حُلُولِ السَّيِّدِ، فَكَانَتْ حَلِيلَةً لَهُ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْحَلِيلَةُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَيْضًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لِشِدَّةِ اتِّصَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ كَأَنَّهُمَا يَحِلَّانِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَفِي لِحَافٍ وَاحِدٍ وَفِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ حَالٌّ فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ وَفِي رُوحِهِ لِشِدَّةِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ جَارِيَةَ الِابْنِ حَلِيلَةٌ، وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ لَا يُقَالُ: إِنَّ أهل اللغة
شَرَطَ فِي كَوْنِهَا رَبِيبَةً لَهُ، كَوْنَهَا فِي حِجْرِهِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي تَرْبِيَتِهِ وَلَا فِي حِجْرِهِ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ. وَأَمَّا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا دَخَلَ بِالْمَرْأَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي تَرْبِيَتِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ عَلَّقَ رَفْعَ الْجُنَاحِ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِحُصُولِ الْجُنَاحِ هُوَ مُجَرَّدُ الدُّخُولِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ الْأَعَمَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ بِنْتَ زَوْجَةِ الْإِنْسَانِ تَكُونُ فِي تَرْبِيَتِهِ، فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْأَعَمِّ، لَا أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ شَرْطٌ فِي حُصُولِ هَذَا التَّحْرِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ قَالَ: لِأَنَّ الدُّخُولَ بِهَا اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْوَطْءِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ نِكَاحًا أَوْ سِفَاحًا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الزِّنَا بِالْأُمِّ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْبِنْتِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَنْكُوحَةِ لِدَلِيلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا تَنَاوَلَتِ امْرَأَةً كَانَتْ مِنْ نِسَائِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا وَالْمَزْنِيُّ بِهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُهَا فِي الْآيَةِ بَيَانُ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يَقْتَضِي أَنَّ كَوْنَهَا مِنْ نِسَائِهِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى دُخُولِهِ بِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ نِسَاءَهُمْ إِلَى مَنْ تَكُونُ مَدْخُولًا بِهَا، وَإِلَى مَنْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَإِذَا كَانَ نِسَاؤُهُمْ مُنْقَسِمَةً إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلدُّخُولِ بِهَا، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَزْنِيَّةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَذَلِكَ لِأَنَّ فِي النِّكَاحِ صَارَتِ الْمَرْأَةُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ مِنْ نِسَائِهِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَمَّا فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا حَالَةٌ أُخْرَى تَقْتَضِي صَيْرُورَتَهَا مِنْ نِسَائِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْمَزْنِيَّةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ/ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّانِي: لَوْ أَوْصَى لِنِسَاءِ فُلَانٍ، لَا تَدْخُلُ هَذِهِ الزَّانِيَةُ فِيهِنَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى نِسَاءِ بَنِي فُلَانٍ، لَا يَحْصُلُ الْحِنْثُ وَالْبِرُّ بِهَذِهِ الزَّانِيَةِ، فَثَبَتَ ضَعْفُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ واللَّه أَعْلَمُ.
النوع الثاني عشر: من المحرمات.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ ابْنِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّهُ يَجُوزُ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: جَارِيَةُ الِابْنِ حَلِيلَةٌ، وَحَلِيلَةُ الِابْنِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَبَيَانُهَا بِالْبَحْثِ عَنِ الْحَلِيلَةِ فَنَقُولُ: الحليلة فعلية فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ الْحِلِّ الَّذِي هُوَ الْإِبَاحَةُ، فَالْحَلِيلَةُ تَكُونُ بِمَعْنَى الْمُحَلَّةِ أَيِ الْمُحَلَّلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَذَلِكَ فَوَجَبَ كَوْنُهَا حَلِيلَةً لَهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنَ الْحُلُولِ، فَالْحَلِيلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ مَحَلَّ الْحُلُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ مَوْضِعُ حُلُولِ السَّيِّدِ، فَكَانَتْ حَلِيلَةً لَهُ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْحَلِيلَةُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَيْضًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لِشِدَّةِ اتِّصَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ كَأَنَّهُمَا يَحِلَّانِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَفِي لِحَافٍ وَاحِدٍ وَفِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ حَالٌّ فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ وَفِي رُوحِهِ لِشِدَّةِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ جَارِيَةَ الِابْنِ حَلِيلَةٌ، وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ لَا يُقَالُ: إِنَّ أهل اللغة
29
يَقُولُونَ: حَلِيلَةُ الرَّجُلِ زَوْجَتُهُ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّا قَدْ بَيَّنَّا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الِاشْتِقَاقَاتِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ لَفْظَ الْحَلِيلَةِ يَتَنَاوَلُ الْجَارِيَةَ، فَالنَّقْلُ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. فَكَيْفَ وَهُوَ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ؟ فَإِنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ لَفْظَ الْحَلِيلَةِ يَتَنَاوَلُ الزَّوْجَةَ، وَلَكِنَّا نُفَسِّرُهُ بِمَعْنًى يَتَنَاوَلُ الزَّوْجَةَ وَالْجَارِيَةَ، فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ احْتِرَازًا عَنِ الْمُتَبَنَّى، وَكَانَ الْمُتَبَنَّى فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ حَلِيلَةُ مَنِ ادَّعَاهُ ابْنًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ صُلْبِهِ، نَكَحَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةَ وَهِيَ بِنْتُ أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ زَيْنَبُ ابْنَةَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ زَوْجَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَابِ: ٤] وَقَالَ: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الْأَحْزَابِ: ٣٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ لَا يَتَنَاوَلُ حَلَائِلَ الْأَبْنَاءِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ لَزِمَ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَتَيْنِ حِلُّ التَّزَوُّجِ بِأَزْوَاجِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الرَّضَاعِ، إِلَّا
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»
فَاقْتَضَى هَذَا تَحْرِيمَ التَّزَوُّجِ بِحَلِيلَةِ الِابْنِ مِنَ الرَّضَاعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ يَتَنَاوَلُ الرَّضَاعَ وَغَيْرَ الرَّضَاعِ، فَكَانَ
قوله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسَبِ»
أَخَصَّ مِنْهُ، فَخَصَّصُوا عُمُومَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ بِحَلِيلَةِ الِابْنِ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ بِحَلِيلَةِ الْأَبِ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ حَلِيلَةَ الِابْنِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أو لم تكن. أما ما روي ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا دَخَلَ الِابْنُ بِهَا. أَوْ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَهُ اللَّه، فَلَيْسَ مُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْإِبْهَامِ كَوْنَهَا مُجْمَلَةً مُشْتَبِهَةً، بل المراد من هذا الإبهام التأييد. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي السَّبْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ: إِنَّهَا مِنَ الْمُبْهَمَاتِ، أَيْ من اللواتي ثبت حرمتهن على سبيل التأبيد، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ حَلِيلَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى الْجَدِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ صُلْبِ الْجَدِّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْجَدِّ بِالْوِلَادَةِ.
النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: مِنَ المحرمات.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنْ يَنْكِحَهُمَا مَعًا، أَوْ يَمْلِكَهُمَا مَعًا، أَوْ يَنْكِحَ إِحْدَاهُمَا وَيَمْلِكَ الْأُخْرَى، أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ. فَذَلِكَ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يعقد عليهما جميعا، فالحكم هاهنا: إِمَّا الْجَمْعُ، أَوِ التَّعْيِينُ، أَوِ التَّخْيِيرُ، أَوِ الْإِبْطَالُ، أَمَّا الْجَمْعُ فَبَاطِلٌ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ هَكَذَا قَالُوا، إِلَّا أَنَّهُ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، لِأَنَّ/ الْحُرْمَةَ لَا تَقْتَضِي الْإِبْطَالَ عَلَى قَوْلِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ احْتِرَازًا عَنِ الْمُتَبَنَّى، وَكَانَ الْمُتَبَنَّى فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ حَلِيلَةُ مَنِ ادَّعَاهُ ابْنًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ صُلْبِهِ، نَكَحَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةَ وَهِيَ بِنْتُ أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ زَيْنَبُ ابْنَةَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ زَوْجَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَابِ: ٤] وَقَالَ: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الْأَحْزَابِ: ٣٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ لَا يَتَنَاوَلُ حَلَائِلَ الْأَبْنَاءِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ لَزِمَ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَتَيْنِ حِلُّ التَّزَوُّجِ بِأَزْوَاجِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الرَّضَاعِ، إِلَّا
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»
فَاقْتَضَى هَذَا تَحْرِيمَ التَّزَوُّجِ بِحَلِيلَةِ الِابْنِ مِنَ الرَّضَاعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ يَتَنَاوَلُ الرَّضَاعَ وَغَيْرَ الرَّضَاعِ، فَكَانَ
قوله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسَبِ»
أَخَصَّ مِنْهُ، فَخَصَّصُوا عُمُومَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ بِحَلِيلَةِ الِابْنِ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ بِحَلِيلَةِ الْأَبِ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ حَلِيلَةَ الِابْنِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أو لم تكن. أما ما روي ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا دَخَلَ الِابْنُ بِهَا. أَوْ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَهُ اللَّه، فَلَيْسَ مُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْإِبْهَامِ كَوْنَهَا مُجْمَلَةً مُشْتَبِهَةً، بل المراد من هذا الإبهام التأييد. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي السَّبْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ: إِنَّهَا مِنَ الْمُبْهَمَاتِ، أَيْ من اللواتي ثبت حرمتهن على سبيل التأبيد، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ حَلِيلَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى الْجَدِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ صُلْبِ الْجَدِّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْجَدِّ بِالْوِلَادَةِ.
النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: مِنَ المحرمات.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنْ يَنْكِحَهُمَا مَعًا، أَوْ يَمْلِكَهُمَا مَعًا، أَوْ يَنْكِحَ إِحْدَاهُمَا وَيَمْلِكَ الْأُخْرَى، أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ. فَذَلِكَ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يعقد عليهما جميعا، فالحكم هاهنا: إِمَّا الْجَمْعُ، أَوِ التَّعْيِينُ، أَوِ التَّخْيِيرُ، أَوِ الْإِبْطَالُ، أَمَّا الْجَمْعُ فَبَاطِلٌ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ هَكَذَا قَالُوا، إِلَّا أَنَّهُ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، لِأَنَّ/ الْحُرْمَةَ لَا تَقْتَضِي الْإِبْطَالَ عَلَى قَوْلِ
30
أَبِي حَنِيفَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الطَّلَقَاتِ حَرَامٌ عَلَى قَوْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَقَعُ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لَمْ يَمْنَعْ مِنِ انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْمُبَايَعَاتِ الْفَاسِدَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالنَّهْيِ عَلَى الْفَسَادِ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِ.
فَإِنْ قَالُوا: وَهَذَا يَلْزَمُكُمْ أَيْضًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ وَفِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَقَعُ.
قُلْنَا: بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌ دَقِيقٌ لَطِيفٌ ذَكَرْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَطْلُبْ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا أَنَّ التَّعْيِينَ أَيْضًا بَاطِلٌ، فَلِأَنَّ التَّرْجِيحَ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ، وَأَمَّا أَنَّ التَّخْيِيرَ أَيْضًا بَاطِلٌ، فَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْعَقْدِ وَبَقَاءَهُ إِلَى أَوَانِ التَّعْيِينِ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَوْلُ بِفَسَادِ الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صُوَرِ الْجَمْعِ: وَهِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى بَعْدَهَا، فَهَهُنَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، أَوْ بِأَنْ يَنْكِحَ إِحْدَاهُمَا وَيَشْتَرِيَ الْأُخْرَى، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الصَّحَابَةُ فِيهِ،
فقال علي وعمرو وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ: لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا:
وَالْبَاقُونَ جَوَّزُوا ذَلِكَ. أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مُطْلَقًا، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَالتَّحْلِيلُ أَوْلَى، فَالْآيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّحْلِيلِ هِيَ قَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٤] وَقَوْلُهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦].
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي حِلِّ الْوَطْءِ، فَنَقُولُ: لَوْ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ لَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج:
٢٩، ٣٠]، لَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ، أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى الْجَوَازِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهَا عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ، لَكِنْ نَقُولُ: التَّرْجِيحُ لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ إِلَّا وَغَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ»
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي جَانِبِ التَّرْكِ فَيَجِبُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» الثَّالِثُ:
أَنَّ مَبْنَى الْأَبْضَاعِ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْحُرْمَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَوَتِ الْأَمَارَاتُ فِي حُصُولِ الْعَقْدِ مَعَ شَرَائِطِهِ وَفِي عَدَمِهِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَمِلٌ عَلَى/ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ، فَلَوْ كَانَ خَالِيًا عَنْ جِهَةِ الْإِذْلَالِ وَالضَّرَرِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ إِيصَالَ النَّفْعِ إِلَيْهِنَّ مَنْدُوبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْبَقَرَةِ: ٨٣] وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلِمْنَا اشْتِمَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِذْلَالِ وَالْمُضَارَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْحُرْمَةَ، وَالْحِلُّ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالْعَارِضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الرُّجْحَانَ لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ، فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ مَذْهَبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا إِذَا أَخَذْنَا بِالْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِذَا وَطِئَ إِحْدَاهُمَا حُرِّمَتِ الثَّانِيَةُ، وَلَا تَزُولُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنِ الْأُولَى بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ كِتَابَةٍ أو تزويج.
فَإِنْ قَالُوا: وَهَذَا يَلْزَمُكُمْ أَيْضًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ وَفِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَقَعُ.
قُلْنَا: بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌ دَقِيقٌ لَطِيفٌ ذَكَرْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَطْلُبْ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا أَنَّ التَّعْيِينَ أَيْضًا بَاطِلٌ، فَلِأَنَّ التَّرْجِيحَ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ، وَأَمَّا أَنَّ التَّخْيِيرَ أَيْضًا بَاطِلٌ، فَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْعَقْدِ وَبَقَاءَهُ إِلَى أَوَانِ التَّعْيِينِ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَوْلُ بِفَسَادِ الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صُوَرِ الْجَمْعِ: وَهِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى بَعْدَهَا، فَهَهُنَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، أَوْ بِأَنْ يَنْكِحَ إِحْدَاهُمَا وَيَشْتَرِيَ الْأُخْرَى، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الصَّحَابَةُ فِيهِ،
فقال علي وعمرو وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ: لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا:
وَالْبَاقُونَ جَوَّزُوا ذَلِكَ. أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مُطْلَقًا، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَالتَّحْلِيلُ أَوْلَى، فَالْآيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّحْلِيلِ هِيَ قَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٤] وَقَوْلُهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦].
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي حِلِّ الْوَطْءِ، فَنَقُولُ: لَوْ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ لَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج:
٢٩، ٣٠]، لَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ، أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى الْجَوَازِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهَا عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ، لَكِنْ نَقُولُ: التَّرْجِيحُ لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ إِلَّا وَغَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ»
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي جَانِبِ التَّرْكِ فَيَجِبُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» الثَّالِثُ:
أَنَّ مَبْنَى الْأَبْضَاعِ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْحُرْمَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَوَتِ الْأَمَارَاتُ فِي حُصُولِ الْعَقْدِ مَعَ شَرَائِطِهِ وَفِي عَدَمِهِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَمِلٌ عَلَى/ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ، فَلَوْ كَانَ خَالِيًا عَنْ جِهَةِ الْإِذْلَالِ وَالضَّرَرِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ إِيصَالَ النَّفْعِ إِلَيْهِنَّ مَنْدُوبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْبَقَرَةِ: ٨٣] وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلِمْنَا اشْتِمَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِذْلَالِ وَالْمُضَارَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْحُرْمَةَ، وَالْحِلُّ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالْعَارِضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الرُّجْحَانَ لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ، فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ مَذْهَبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا إِذَا أَخَذْنَا بِالْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِذَا وَطِئَ إِحْدَاهُمَا حُرِّمَتِ الثَّانِيَةُ، وَلَا تَزُولُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنِ الْأُولَى بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ كِتَابَةٍ أو تزويج.
31
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: نِكَاحُ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ الْبَائِنِ جَائِزٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: لَا يَجُوزُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْجَمْعُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْمَنْعُ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْجَمْعُ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُطَلَّقَةِ زَائِلٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجَدِ الْجَمْعُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْمَنْعُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تَقْرِيرِ الْمُحَرَّمَاتِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٤] وَلَا شُبْهَةَ فِي انْتِفَاءِ جَمِيعِ تِلْكَ الْمَوَانِعِ، إِلَّا كَوْنُهُ جَمْعًا بَيْنَ أُخْتَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْجَمْعَ مُنْتَفٍ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ.
فَإِنْ قِيلَ: النِّكَاحُ بَاقٍ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَلُزُومِ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا.
قُلْنَا: النِّكَاحُ لَهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مَوْجُودَةً مَعْدُومَةً مَعًا، بَلْ لَوِ انْقَسَمَتْ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ إِلَى نِصْفَيْنِ حَتَّى يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَوْجُودًا وَالْآخَرُ مَعْدُومًا صَحَّ ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلتَّنْصِيفِ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فَاسِدًا. وَأَمَّا وُجُوبُ الْعِدَّةِ وَلُزُومُ النَّفَقَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ النِّكَاحُ حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى حَبْسِهَا، وَهَذَا لَا يُنْتِجُ أَنَّهُ حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى حَبْسِهَا لِلنِّكَاحِ، لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ التَّالِي لَا يُنْتِجُ، فَبِالْجُمْلَةِ: فَإِثْبَاتُ حَقِّ الْحَبْسِ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مَعْقُولٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ حَالَ الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ، وَتَخْرِيجُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى وَفْقِ الْعُقُولِ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَا يُعْرَفُ بُطْلَانُهَا فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ اخْتَارَ. أَيَّتَهُمَا شَاءَ وَفَارَقَ الْأُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِإِحْدَاهُمَا أَوَّلًا وَبِالْأُخْرَى ثَانِيًا، اخْتَارَ الْأُولَى وَفَارَقَ الثَّانِيَةَ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ قَالَ: هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ/ فَيَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَنَاوَلَ الْكَافِرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ بَنَيْتَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ وَعَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، فَإِنْ قَالَ: فَهُمَا صَحِيحَانِ عَلَى قَوْلِكُمْ: فَكَانَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَازِمًا عَلَيْكُمْ فَنَقُولُ: قَوْلُنَا: الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ لَا نَعْنِي بِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُهُ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ كُلُّ مَا مَضَى بِالْإِجْمَاعِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ يُعَاقَبُ بِتَرْكِ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، أَوْ تَزَوَّجَ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، فَبَعْدَ الْإِسْلَامِ يُقَرُّ ذَلِكَ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخِطَابَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ أَسْلَمَ عَلَى ثَمَانِ نِسْوَةٍ،
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اخْتَرْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ»
خَيَّرَهُ بَيْنَهُنَّ، وَذَلِكَ يُنَافِي مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ التَّرْتِيبِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فِيهِ الْإِشْكَالُ الْمَشْهُورُ: وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَكَذَا وَكَذَا إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِثْنَاءَ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَجَوَابُهُ بِالْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا مَضَى مَغْفُورٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً؟
فَإِنْ قِيلَ: النِّكَاحُ بَاقٍ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَلُزُومِ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا.
قُلْنَا: النِّكَاحُ لَهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مَوْجُودَةً مَعْدُومَةً مَعًا، بَلْ لَوِ انْقَسَمَتْ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ إِلَى نِصْفَيْنِ حَتَّى يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَوْجُودًا وَالْآخَرُ مَعْدُومًا صَحَّ ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلتَّنْصِيفِ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فَاسِدًا. وَأَمَّا وُجُوبُ الْعِدَّةِ وَلُزُومُ النَّفَقَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ النِّكَاحُ حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى حَبْسِهَا، وَهَذَا لَا يُنْتِجُ أَنَّهُ حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى حَبْسِهَا لِلنِّكَاحِ، لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ التَّالِي لَا يُنْتِجُ، فَبِالْجُمْلَةِ: فَإِثْبَاتُ حَقِّ الْحَبْسِ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مَعْقُولٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ حَالَ الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ، وَتَخْرِيجُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى وَفْقِ الْعُقُولِ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَا يُعْرَفُ بُطْلَانُهَا فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ اخْتَارَ. أَيَّتَهُمَا شَاءَ وَفَارَقَ الْأُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِإِحْدَاهُمَا أَوَّلًا وَبِالْأُخْرَى ثَانِيًا، اخْتَارَ الْأُولَى وَفَارَقَ الثَّانِيَةَ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ قَالَ: هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ/ فَيَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَنَاوَلَ الْكَافِرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ بَنَيْتَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ وَعَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، فَإِنْ قَالَ: فَهُمَا صَحِيحَانِ عَلَى قَوْلِكُمْ: فَكَانَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَازِمًا عَلَيْكُمْ فَنَقُولُ: قَوْلُنَا: الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ لَا نَعْنِي بِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُهُ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ كُلُّ مَا مَضَى بِالْإِجْمَاعِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ يُعَاقَبُ بِتَرْكِ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، أَوْ تَزَوَّجَ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، فَبَعْدَ الْإِسْلَامِ يُقَرُّ ذَلِكَ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخِطَابَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ أَسْلَمَ عَلَى ثَمَانِ نِسْوَةٍ،
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اخْتَرْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ»
خَيَّرَهُ بَيْنَهُنَّ، وَذَلِكَ يُنَافِي مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ التَّرْتِيبِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فِيهِ الْإِشْكَالُ الْمَشْهُورُ: وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَكَذَا وَكَذَا إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِثْنَاءَ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَجَوَابُهُ بِالْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا مَضَى مَغْفُورٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً؟
32
[سورة النساء (٤) : آية ٢٤]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)النوع الرابع: عشر من المحرمات.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِحْصَانُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ، وَكَذَلِكَ الْحَصَانَةُ، يُقَالُ: مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ وَدِرْعٌ حَصِينَةٌ، أَيْ مَانِعَةٌ صَاحِبَهَا مِنَ الْجِرَاحَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٠] مَعْنَاهُ لِتَمْنَعَكُمْ وَتَحْرِزَكُمْ، وَالْحِصْنُ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ لِمَنْعِهِ مَنْ يُرِيدُهُ بِالسُّوءِ، وَالْحِصَانُ بِالْكَسْرِ الْفَرَسُ/ الْفَحْلُ، لِمَنْعِهِ صَاحِبَهُ مِنَ الْهَلَاكِ، وَالْحَصَانُ بِالْفَتْحِ الْمَرْأَةُ الْعَفِيفَةُ لِمَنْعِهَا فَرْجَهَا مِنَ الْفَسَادِ، قَالَ تَعَالَى:
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [التَّحْرِيمِ: ١٢].
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْإِحْصَانِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النُّورِ: ٤] يَعْنِي الْحَرَائِرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ غَيْرَ حُرٍّ لَمْ يُجْلَدْ ثَمَانِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يعني الحرائر، وكذلك قَوْلُهُ: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ [النِّسَاءِ:
٢٥] وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَقَوْلُهُ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [الْأَنْبِيَاءِ: ٩١] أَيْ أَعَفَّتْهُ، وَثَالِثُهَا الْإِسْلَامُ: مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: إِذَا أَسْلَمْنَ، وَرَابِعُهَا: كَوْنُ الْمَرْأَةِ ذَاتَ زَوْجٍ يُقَالُ:
امْرَأَةٌ مُحْصَنَةٌ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَقَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَعْنِي ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى عطف المحصنات على المجرمات، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْإِحْصَانُ سَبَبًا لِلْحُرْمَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْعَفَافَ وَالْإِسْلَامَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُزَوَّجَةَ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمَرْأَةِ ذَاتَ زَوْجٍ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْغَيْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْأَرْبَعَةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ الْمَنْعُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَنْعِ، فَالْحُرِّيَّةُ سَبَبٌ لِتَحْصِينِ الْإِنْسَانِ مِنْ نَفَاذِ حُكْمِ الْغَيْرِ فِيهِ، وَالْعِفَّةُ أَيْضًا مَانِعَةٌ لِلْإِنْسَانِ عَنِ الشُّرُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ مَانِعٌ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالشَّهْوَةُ، وَالزَّوْجُ أَيْضًا مَانِعٌ لِلزَّوْجَةِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَالزَّوْجَةُ مَانِعَةٌ لِلزَّوْجِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ حَصَّنَ ثُلُثَيْ دِينِهِ»
فَثَبَتَ أَنَّ الْمَرْجِعَ بِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الْمُحْصَناتُ فَقَرَءُوا بِكَسْرِ الصَّادِ وَفَتْحِهَا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْفَتْحِ فِيهَا، فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ جَعَلَ الْفِعْلَ لَهُنَّ يَعْنِي: أَسْلَمْنَ وَاخْتَرْنَ الْعَفَافَ، وَتَزَوَّجْنَ وَأَحْصَنَّ أَنْفُسَهُنَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ جَعَلَ الْفِعْلَ لِغَيْرِهِنَّ، يَعْنِي أَحْصَنَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ واللَّه أَعْلَمُ.
33
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: الثَّيِّبُ الذِّمِّيُّ إِذَا زَنَى يُرْجَمُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ:
لَا يُرْجَمُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حَصَلَ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ وَذَلِكَ عِلَّةٌ لِإِبَاحَةِ الدَّمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ إِبَاحَةُ الدَّمِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الرَّجْمِ. أَمَّا قَوْلُنَا: حَصَلَ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ، فَهَذَا يَعْتَمِدُ إِثْبَاتَ قَيْدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الزِّنَا وَلَا شَكَّ فِيهِ. الثَّانِي: / حُصُولُ الْإِحْصَانِ وَهُوَ حَاصِلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُحْصَنَةِ: الْمُزَوَّجَةُ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ مُزَوَّجَةٌ فَهِيَ مُحْصَنَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ عِلَّةٌ لِإِبَاحَةِ الدَّمِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امرئ مسلم الا لا حدى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ»
وَمِنْهَا
قَوْلُهُ: «وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ»
جَعَلَ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ عِلَّةً لِإِبَاحَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِهَذَا الْحُكْمِ، أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ مُجَرَّدُ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَامَ التَّعْلِيلِ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ حَكَمَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، أَنَّ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ عِلَّةٌ لِإِبَاحَةِ الدَّمِ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُ مُسْلِمًا مَحَلُّ الْحُكْمِ، وَخُصُوصُ مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّعْدِيَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَإِلَّا لَبَطَلَ الْقِيَاسُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ مَا دَخَلَ عليه لا م التَّعْلِيلِ، وَهِيَ مَاهِيَّةُ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَهَذِهِ الْمَاهِيَّةُ لَمَّا حَصَلَتْ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الذِّمِّيِّ، وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي حَقِّهِ إِبَاحَةُ الدَّمِ، فثبت أنه مباح الدم. ثم هاهنا طَرِيقَانِ: إِنْ شِئْنَا اكْتَفَيْنَا بِهَذَا الْقَدْرِ، فَإِنَّا نَدَّعِي كَوْنَهُ مُبَاحَ الدَّمِ وَالْخَصْمُ لَا يَقُولُ به، فصار محجوجا، أَوْ نَقُولُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الرَّجْمِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ إِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ مُحْصَنٌ، فَهَهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ».
قُلْنَا: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الذِّمِّيَّ مُحْصَنٌ، وَثَبَتَ بِهَذَا الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ مُحْصَنٌ بمعنى أنه ذات زَوْجٍ، وَغَيْرُ مُحْصَنٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَقَوْلُهُ: مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ عَلَى الزِّنَا، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِوَصْفِ الشِّرْكِ وَذَلِكَ جِنَايَةٌ، وَالْمَذْكُورُ عَقِيبَ الْجِنَايَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً، وَقَوْلُنَا: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً، أَمَّا قَوْلُنَا: لَا يُحَدُّ عَلَى الزِّنَا، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَهُ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ مَا ذَكَرْنَاهُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهَا ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حُرِّمَتْ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، إِلَّا إِذَا صَارَتْ مِلْكًا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْمَالِكِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِمِلْكِ اليمين هاهنا مِلْكُ النِّكَاحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَّا إِذَا مَلَكْتُمُوهُنَّ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الزَّجْرُ عَنِ الزِّنَا وَالْمَنْعُ مِنْ وَطْئِهِنَّ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةً، وَعَبَّرَ عَنْ/ ذَلِكَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ حَاصِلٌ فِي النِّكَاحِ وَفِي الْمِلْكِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هاهنا بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: ٢٥] ذكر هاهنا الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ كان المراد بالمحصنات هاهنا مَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَاكَ،
لَا يُرْجَمُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حَصَلَ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ وَذَلِكَ عِلَّةٌ لِإِبَاحَةِ الدَّمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ إِبَاحَةُ الدَّمِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الرَّجْمِ. أَمَّا قَوْلُنَا: حَصَلَ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ، فَهَذَا يَعْتَمِدُ إِثْبَاتَ قَيْدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الزِّنَا وَلَا شَكَّ فِيهِ. الثَّانِي: / حُصُولُ الْإِحْصَانِ وَهُوَ حَاصِلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُحْصَنَةِ: الْمُزَوَّجَةُ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ مُزَوَّجَةٌ فَهِيَ مُحْصَنَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ عِلَّةٌ لِإِبَاحَةِ الدَّمِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امرئ مسلم الا لا حدى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ»
وَمِنْهَا
قَوْلُهُ: «وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ»
جَعَلَ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ عِلَّةً لِإِبَاحَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِهَذَا الْحُكْمِ، أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ مُجَرَّدُ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَامَ التَّعْلِيلِ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ حَكَمَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، أَنَّ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ عِلَّةٌ لِإِبَاحَةِ الدَّمِ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُ مُسْلِمًا مَحَلُّ الْحُكْمِ، وَخُصُوصُ مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّعْدِيَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَإِلَّا لَبَطَلَ الْقِيَاسُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ مَا دَخَلَ عليه لا م التَّعْلِيلِ، وَهِيَ مَاهِيَّةُ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَهَذِهِ الْمَاهِيَّةُ لَمَّا حَصَلَتْ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الذِّمِّيِّ، وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي حَقِّهِ إِبَاحَةُ الدَّمِ، فثبت أنه مباح الدم. ثم هاهنا طَرِيقَانِ: إِنْ شِئْنَا اكْتَفَيْنَا بِهَذَا الْقَدْرِ، فَإِنَّا نَدَّعِي كَوْنَهُ مُبَاحَ الدَّمِ وَالْخَصْمُ لَا يَقُولُ به، فصار محجوجا، أَوْ نَقُولُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الرَّجْمِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ إِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ مُحْصَنٌ، فَهَهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ».
قُلْنَا: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الذِّمِّيَّ مُحْصَنٌ، وَثَبَتَ بِهَذَا الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ مُحْصَنٌ بمعنى أنه ذات زَوْجٍ، وَغَيْرُ مُحْصَنٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَقَوْلُهُ: مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ عَلَى الزِّنَا، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِوَصْفِ الشِّرْكِ وَذَلِكَ جِنَايَةٌ، وَالْمَذْكُورُ عَقِيبَ الْجِنَايَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً، وَقَوْلُنَا: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً، أَمَّا قَوْلُنَا: لَا يُحَدُّ عَلَى الزِّنَا، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَهُ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ مَا ذَكَرْنَاهُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهَا ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حُرِّمَتْ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، إِلَّا إِذَا صَارَتْ مِلْكًا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْمَالِكِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِمِلْكِ اليمين هاهنا مِلْكُ النِّكَاحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَّا إِذَا مَلَكْتُمُوهُنَّ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الزَّجْرُ عَنِ الزِّنَا وَالْمَنْعُ مِنْ وَطْئِهِنَّ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةً، وَعَبَّرَ عَنْ/ ذَلِكَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ حَاصِلٌ فِي النِّكَاحِ وَفِي الْمِلْكِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هاهنا بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: ٢٥] ذكر هاهنا الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ كان المراد بالمحصنات هاهنا مَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَاكَ،
34
ثُمَّ الْمُرَادُ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ هُنَاكَ الْحَرَائِرُ، فَكَذَا هاهنا. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ إِلَّا الْعَدَدَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه مِلْكًا لَكُمْ وَهُوَ الْأَرْبَعُ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْحَرَائِرُ إِلَّا الْعَدَدَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه مِلْكًا لَكُمْ وَهُوَ الْأَرْبَعُ، الثَّانِي: الْحَرَائِرُ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا أَثْبَتَ اللَّه لَكُمْ مِلْكًا عَلَيْهِنَّ، وَذَلِكَ عِنْدَ حُضُورِ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَسَائِرِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهَذَا الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: ٢٩، ٣٠]، جَعَلَ مِلْكَ الْيَمِينِ عِبَارَةً عَنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فيها، فوجب أن يكون هاهنا مُفَسَّرًا بِذَلِكَ، لِأَنَّ تَفْسِيرَ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى بِكَلَامِ اللَّه أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَى الصِّدْقِ وَالصَّوَابِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْآخَرِ وَأُخْرِجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ.
أَمَّا إِذَا سُبِيَا مَعًا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: هاهنا تَزُولُ الزَّوْجِيَّةُ، وَيَحِلُّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ بِالْحَيْضِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: لَا تَزُولُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ ذَاتِ الْأَزْوَاجِ ثُمَّ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ طَرَيَانِ الْمِلْكِ تُرْفَعُ الْحُرْمَةُ وَيَحْصُلُ الْحِلُّ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَوْ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ طَرَيَانِ الْمِلْكِ لَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِشِرَاءِ الْأَمَةِ وَاتِّهَابِهَا وَإِرْثِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُ: كَأَنَّكَ مَا سَمِعْتَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي، وَأَيْضًا: فَالْحَاصِلُ عِنْدَ السَّبْيِ إِحْدَاثُ الْمِلْكِ فِيهَا، وَعِنْدَ الْبَيْعِ نُقِلَ الْمِلْكُ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَقْوَى، فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ إِذَا بِيعَتْ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ الْيَوْمَ، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ: إِنَّهَا إِذَا بِيعَتْ طُلِّقَتْ. حُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَأَعْتَقَتْهَا خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مُزَوَّجَةً، وَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْبَيْعِ لَمَا كَانَ لِذَلِكَ التَّخْيِيرِ فَائِدَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ
رَوَى فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا»
وَحُجَّةُ أبي كَعْبٍ/ وَابْنِ مَسْعُودٍ عُمُومُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ عَنْهُ يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ ذِكْرَ الْمُحَرَّمَاتِ بِقَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الفعل فان قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ يدل على معنى الكتبة فَالتَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كِتَابًا مِنَ اللَّه، وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ كَثِيرٌ نَظِيرُهُ وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ [النَّمْلِ: ٨٨] الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى جِهَةِ الْأَمْرِ، وَيَكُونَ «عَلَيْكُمْ» مُفَسِّرًا لَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: الْزَمُوا كِتَابَ اللَّه.
ثُمَّ قَالَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأُحِلَّ لَكُمْ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَالْحَاءِ عَطْفًا عَلَى كِتابَ اللَّهِ يَعْنِي كَتَبَ اللَّه عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَهَا.
المسألة الثاني: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ يَقْتَضِي حِلَّ كُلِّ مَنْ سِوَى الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْآخَرِ وَأُخْرِجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ.
أَمَّا إِذَا سُبِيَا مَعًا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: هاهنا تَزُولُ الزَّوْجِيَّةُ، وَيَحِلُّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ بِالْحَيْضِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: لَا تَزُولُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ ذَاتِ الْأَزْوَاجِ ثُمَّ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ طَرَيَانِ الْمِلْكِ تُرْفَعُ الْحُرْمَةُ وَيَحْصُلُ الْحِلُّ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَوْ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ طَرَيَانِ الْمِلْكِ لَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِشِرَاءِ الْأَمَةِ وَاتِّهَابِهَا وَإِرْثِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُ: كَأَنَّكَ مَا سَمِعْتَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي، وَأَيْضًا: فَالْحَاصِلُ عِنْدَ السَّبْيِ إِحْدَاثُ الْمِلْكِ فِيهَا، وَعِنْدَ الْبَيْعِ نُقِلَ الْمِلْكُ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَقْوَى، فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ إِذَا بِيعَتْ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ الْيَوْمَ، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ: إِنَّهَا إِذَا بِيعَتْ طُلِّقَتْ. حُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَأَعْتَقَتْهَا خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مُزَوَّجَةً، وَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْبَيْعِ لَمَا كَانَ لِذَلِكَ التَّخْيِيرِ فَائِدَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ
رَوَى فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا»
وَحُجَّةُ أبي كَعْبٍ/ وَابْنِ مَسْعُودٍ عُمُومُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ عَنْهُ يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ ذِكْرَ الْمُحَرَّمَاتِ بِقَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الفعل فان قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ يدل على معنى الكتبة فَالتَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كِتَابًا مِنَ اللَّه، وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ كَثِيرٌ نَظِيرُهُ وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ [النَّمْلِ: ٨٨] الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى جِهَةِ الْأَمْرِ، وَيَكُونَ «عَلَيْكُمْ» مُفَسِّرًا لَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: الْزَمُوا كِتَابَ اللَّه.
ثُمَّ قَالَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأُحِلَّ لَكُمْ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَالْحَاءِ عَطْفًا عَلَى كِتابَ اللَّهِ يَعْنِي كَتَبَ اللَّه عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَهَا.
المسألة الثاني: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ يَقْتَضِي حِلَّ كُلِّ مَنْ سِوَى الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ.
35
إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ أَصْنَافٍ أُخَرَ سِوَى هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا.
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا،
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا»
وَهَذَا خَبَرٌ مَشْهُورٌ مُسْتَفِيضٌ، وَرُبَّمَا قِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَزَعَمَ الْخَوَارِجُ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عُمُومَ الْكِتَابِ مَقْطُوعُ الْمَتْنِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَظْنُونُ الْمَتْنِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ، فَكَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَضْعَفَ مِنْ عُمُومِ الْقُرْآنِ، فَتَرْجِيحُهُ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى تَقْدِيمِ الْأَضْعَفِ عَلَى الْأَقْوَى وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ خَبَرُ مُعَاذٍ، وَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى عُمُومِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَالَ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ بِكِتَابِ اللَّه، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدَّمَ التَّمَسُّكَ بِكِتَابِ اللَّه عَلَى التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيمِ السُّنَّةِ عَلَى الْكِتَابِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَّقَ جَوَازَ التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ عَلَى عَدَمِ الْكِتَابِ بِكَلِمَةِ «إِنْ» وَهِيَ لِلِاشْتِرَاطِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّه فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا فَرُدُّوهُ»
فهذا الخبر نقتضي أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ/ إِلَّا عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ، فَإِذَا كَانَ خَبَرُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَجَبَ رَدُّهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ
مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا لَا يَخْلُو الْحَالُ فِيهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْخَبَرِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِلْخَبَرِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَامَّ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْخَاصِّ كَانَ الْعَامُّ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْخَبَرُ وَرَدَ بَعْدَ الْكِتَابِ، فَهَذَا يَقْتَضِي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: وَرَدَا مَعًا، وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْآيَةُ وَحْدَهَا مُشْتَبِهَةً، وَيَكُونُ مَوْضِعُ الْحُجَّةِ مَجْمُوعَ الْآيَةِ مَعَ الْخَبَرِ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّسُولِ الْمَعْصُومِ أَنْ يَسْعَى فِي تَشْهِيرِ الشُّبْهَةِ وَلَا يَسْعَى فِي تَشْهِيرِ الْحُجَّةِ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُسْمِعَ أَحَدًا هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا مَعَ هَذَا الْخَبَرِ، وَأَنْ يُوجِبَ إِيجَابًا ظَاهِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَنْ لا يبلغوا هذه الآية أَحَدٍ إِلَّا مَعَ هَذَا الْخَبَرِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اشْتِهَارُ هَذَا الْخَبَرِ مُسَاوِيًا لِاشْتِهَارِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقِسْمِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَثْبُتَ صِحَّةُ هَذَا الْخَبَرِ قَطْعًا، إِلَّا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْآيَةِ رَاجِحٌ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْخَبَرِ. وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي التَّحْلِيلِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا»
فَلَيْسَ نَصًّا صَرِيحًا لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إِخْبَارٌ، وَحَمْلُ الْإِخْبَارِ عَلَى النَّهْيِ مَجَازٌ، ثُمَّ بِهَذَا التَّقْدِيرِ فَدَلَالَةُ لَفْظِ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَةِ لَفْظِ الْإِحْلَالِ عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ صَرِيحٌ فِي تَحْلِيلِ كُلِّ مَا سِوَى الْمَذْكُورَاتِ، وَقَوْلُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ، بَلِ احْتِمَالُهُ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَظْهَرُ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَقْصَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَرْحَ أَصْنَافِ الْمُحَرَّمَاتِ فَعَدَّ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ صِنْفًا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا التَّفْصِيلِ التَّامِّ وَالِاسْتِقْصَاءِ الشَّدِيدِ قَالَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتِ الْحِلُّ فِي كُلِّ مَنْ سِوَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ لَصَارَ هَذَا الِاسْتِقْصَاءُ عَبَثًا لغوا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فَهَذَا تَقْرِيرُ وُجُوهِ السُّؤَالِ فِي هَذَا الْبَابِ.
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا،
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا»
وَهَذَا خَبَرٌ مَشْهُورٌ مُسْتَفِيضٌ، وَرُبَّمَا قِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَزَعَمَ الْخَوَارِجُ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عُمُومَ الْكِتَابِ مَقْطُوعُ الْمَتْنِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَظْنُونُ الْمَتْنِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ، فَكَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَضْعَفَ مِنْ عُمُومِ الْقُرْآنِ، فَتَرْجِيحُهُ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى تَقْدِيمِ الْأَضْعَفِ عَلَى الْأَقْوَى وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ خَبَرُ مُعَاذٍ، وَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى عُمُومِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَالَ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ بِكِتَابِ اللَّه، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدَّمَ التَّمَسُّكَ بِكِتَابِ اللَّه عَلَى التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيمِ السُّنَّةِ عَلَى الْكِتَابِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَّقَ جَوَازَ التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ عَلَى عَدَمِ الْكِتَابِ بِكَلِمَةِ «إِنْ» وَهِيَ لِلِاشْتِرَاطِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّه فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا فَرُدُّوهُ»
فهذا الخبر نقتضي أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ/ إِلَّا عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ، فَإِذَا كَانَ خَبَرُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَجَبَ رَدُّهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ
مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا لَا يَخْلُو الْحَالُ فِيهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْخَبَرِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِلْخَبَرِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَامَّ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْخَاصِّ كَانَ الْعَامُّ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْخَبَرُ وَرَدَ بَعْدَ الْكِتَابِ، فَهَذَا يَقْتَضِي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: وَرَدَا مَعًا، وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْآيَةُ وَحْدَهَا مُشْتَبِهَةً، وَيَكُونُ مَوْضِعُ الْحُجَّةِ مَجْمُوعَ الْآيَةِ مَعَ الْخَبَرِ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّسُولِ الْمَعْصُومِ أَنْ يَسْعَى فِي تَشْهِيرِ الشُّبْهَةِ وَلَا يَسْعَى فِي تَشْهِيرِ الْحُجَّةِ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُسْمِعَ أَحَدًا هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا مَعَ هَذَا الْخَبَرِ، وَأَنْ يُوجِبَ إِيجَابًا ظَاهِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَنْ لا يبلغوا هذه الآية أَحَدٍ إِلَّا مَعَ هَذَا الْخَبَرِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اشْتِهَارُ هَذَا الْخَبَرِ مُسَاوِيًا لِاشْتِهَارِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقِسْمِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَثْبُتَ صِحَّةُ هَذَا الْخَبَرِ قَطْعًا، إِلَّا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْآيَةِ رَاجِحٌ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْخَبَرِ. وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي التَّحْلِيلِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا»
فَلَيْسَ نَصًّا صَرِيحًا لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إِخْبَارٌ، وَحَمْلُ الْإِخْبَارِ عَلَى النَّهْيِ مَجَازٌ، ثُمَّ بِهَذَا التَّقْدِيرِ فَدَلَالَةُ لَفْظِ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَةِ لَفْظِ الْإِحْلَالِ عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ صَرِيحٌ فِي تَحْلِيلِ كُلِّ مَا سِوَى الْمَذْكُورَاتِ، وَقَوْلُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ، بَلِ احْتِمَالُهُ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَظْهَرُ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَقْصَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَرْحَ أَصْنَافِ الْمُحَرَّمَاتِ فَعَدَّ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ صِنْفًا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا التَّفْصِيلِ التَّامِّ وَالِاسْتِقْصَاءِ الشَّدِيدِ قَالَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتِ الْحِلُّ فِي كُلِّ مَنْ سِوَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ لَصَارَ هَذَا الِاسْتِقْصَاءُ عَبَثًا لغوا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فَهَذَا تَقْرِيرُ وُجُوهِ السُّؤَالِ فِي هَذَا الْبَابِ.
36
وَالْجَوَابُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْحِلِّ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي هُوَ الْأَصَحُّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ إِخْبَارٌ عَنْ إِحْلَالِ كُلِّ مَا سِوَى الْمَذْكُورَاتِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ إِحْلَالَ كُلِّ مَا سِوَى الْمَذْكُورَاتِ وَقَعَ عَلَى التَّأْبِيدِ أَمْ لَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّأْبِيدَ: أَنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُ هَذَا الْمَفْهُومِ إِلَى الْمُؤَبَّدِ وَإِلَى غَيْرِ الْمُؤَبَّدِ، فَيُقَالُ تَارَةً: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ/ ذلِكُمْ أَبَدًا، وَأُخْرَى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ صَرِيحًا فِي التَّأْبِيدِ لَمَا كَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ مُمْكِنًا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ لَا يُفِيدُ إِلَّا إِحْلَالَ مَنْ سِوَى الْمَذْكُورَاتِ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْإِحْلَالَ أَعَمُّ مِنَ الْإِحْلَالِ الْمُؤَبَّدِ وَمِنَ الْإِحْلَالِ الْمُؤَقَّتِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ لَا يُفِيدُ إِلَّا حِلَّ مَنْ عَدَا الْمَذْكُورَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَمَّا ثُبُوتُ حِلِّهِمْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَاللَّفْظُ سَاكِتٌ عَنْهُ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَقَدْ كَانَ حِلُّ مَنْ سِوَى الْمَذْكُورَاتِ ثَابِتًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَطَرَيَانُ حُرْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ النَّصِّ وَلَا نَسْخًا لَهُ، فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ مُقَرَّرٌ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ نَقُولُ أَيْضًا: إِنَّ قَوْلَهُ:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٣] لَيْسَ نَصًّا فِي تَأْبِيدِ هَذَا التَّحْرِيمِ، وَإِنَّ ذَلِكَ التَّأْبِيدَ إِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَكَوْنُهُمَا أُخْتَيْنِ يُنَاسِبُ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِأَنَّ الْأُخْتِيَّةَ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ، وَالْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ تُنَاسِبُ مَزِيدَ الْوُصْلَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَكَوْنُ إِحْدَاهُمَا ضَرَّةَ الْأُخْرَى يُوجِبُ الْوَحْشَةَ الْعَظِيمَةَ وَالنَّفْرَةَ الشَّدِيدَةَ، وَبَيْنَ الْحَالَتَيْنِ مُنَافَرَةٌ عَظِيمَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهَا أُخْتًا لَهَا يُنَاسِبُ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ له، يدل بحسب اللفظ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء: ٢٣] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ مَانِعَةً مِنَ الْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، فَكَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْأُخْتَيْنِ مَذْكُورًا فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ مِنْ طريق الدلالة، بل هاهنا أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ يُشْبِهَانِ الْأُمَّ لِبِنْتِ الْأَخِ وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ، وَهُمَا يُشْبِهَانِ الْوَلَدَ لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَاقْتِضَاءُ مِثْلِ هَذِهِ الْقَرَابَةِ لِتَرْكِ الْمُضَارَّةِ أَقْوَى مِنِ اقْتِضَاءِ قَرَابَةِ الْأُخْتِيَّةِ لِمَنْعِ الْمُضَارَّةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مَانِعًا مِنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ بِأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ فقال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ [النساء: ٢٣] وَلَفْظُ الْأُمِّ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، أَمَّا عَلَى الْعَمَّةِ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مُخْبِرًا عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [الْبَقَرَةِ: ١٣٣] فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْأَبِ عَلَى إِسْمَاعِيلَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَمًّا، وَإِذَا كَانَ الْعَمُّ أَبًا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْعَمَّةُ أُمًّا، وَأَمَّا إِطْلَاقُ لَفْظِ الْأُمِّ عَلَى الْخَالَةِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يُوسُفَ: ١٠٠] وَالْمُرَادُ أَبُوهُ وَخَالَتُهُ، فَإِنَّ أُمَّهُ كَانَتْ مُتَوَفَّاةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَثَبَتَ بِمَا/ ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَ الْأُمِّ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ مُتَنَاوِلًا لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ الْمُرَادُ مَا وَرَاءَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورَاتِ سواء كن
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٣] لَيْسَ نَصًّا فِي تَأْبِيدِ هَذَا التَّحْرِيمِ، وَإِنَّ ذَلِكَ التَّأْبِيدَ إِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَكَوْنُهُمَا أُخْتَيْنِ يُنَاسِبُ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِأَنَّ الْأُخْتِيَّةَ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ، وَالْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ تُنَاسِبُ مَزِيدَ الْوُصْلَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَكَوْنُ إِحْدَاهُمَا ضَرَّةَ الْأُخْرَى يُوجِبُ الْوَحْشَةَ الْعَظِيمَةَ وَالنَّفْرَةَ الشَّدِيدَةَ، وَبَيْنَ الْحَالَتَيْنِ مُنَافَرَةٌ عَظِيمَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهَا أُخْتًا لَهَا يُنَاسِبُ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ له، يدل بحسب اللفظ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء: ٢٣] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ مَانِعَةً مِنَ الْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، فَكَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْأُخْتَيْنِ مَذْكُورًا فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ مِنْ طريق الدلالة، بل هاهنا أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ يُشْبِهَانِ الْأُمَّ لِبِنْتِ الْأَخِ وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ، وَهُمَا يُشْبِهَانِ الْوَلَدَ لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَاقْتِضَاءُ مِثْلِ هَذِهِ الْقَرَابَةِ لِتَرْكِ الْمُضَارَّةِ أَقْوَى مِنِ اقْتِضَاءِ قَرَابَةِ الْأُخْتِيَّةِ لِمَنْعِ الْمُضَارَّةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مَانِعًا مِنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ بِأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ فقال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ [النساء: ٢٣] وَلَفْظُ الْأُمِّ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، أَمَّا عَلَى الْعَمَّةِ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مُخْبِرًا عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [الْبَقَرَةِ: ١٣٣] فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْأَبِ عَلَى إِسْمَاعِيلَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَمًّا، وَإِذَا كَانَ الْعَمُّ أَبًا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْعَمَّةُ أُمًّا، وَأَمَّا إِطْلَاقُ لَفْظِ الْأُمِّ عَلَى الْخَالَةِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يُوسُفَ: ١٠٠] وَالْمُرَادُ أَبُوهُ وَخَالَتُهُ، فَإِنَّ أُمَّهُ كَانَتْ مُتَوَفَّاةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَثَبَتَ بِمَا/ ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَ الْأُمِّ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ مُتَنَاوِلًا لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ الْمُرَادُ مَا وَرَاءَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورَاتِ سواء كن
37
مَذْكُورَاتٍ بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ أَوْ بِدَلَالَةٍ جَلِيَّةٍ، أَوْ بِدَلَالَةٍ خَفِيَّةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ خَارِجَةً عَنِ الْمَذْكُورَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْخَوَارِجِ أَنْ نَقُولَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ عَامٌّ،
وَقَوْلُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا»
خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى العام، ثم هاهنا طَرِيقَانِ: تَارَةً نَقُولُ: هَذَا الْخَبَرُ بَلَغَ فِي الشُّهْرَةِ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ جَائِزٌ، وَعِنْدِي هَذَا الْوَجْهُ كَالْمُكَابَرَةِ، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الشُّهْرَةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا لَكِنَّهُ لَمَّا انْتَهَى فِي الْأَصْلِ إِلَى رِوَايَةِ الْآحَادِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْآحَادِ. وَتَارَةً نَقُولُ: تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ، وَتَقْرِيرُهُ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْجَوَابِ عِنْدَنَا الْوَجْهُ الأول.
الصنف الثاني: مِنَ التَّخْصِيصَاتِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذَا الْعُمُومِ: أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ، إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠].
الصنف الثالث: تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨].
الصنف الرابع: مَنْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ حُرَّةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ:
الْقَادِرُ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَدَلِيلُ هَذَا التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٥] وَسَيَأْتِي بَيَانُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا المطلوب.
الصنف الخامس: يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّزَوُّجُ بِالْخَامِسَةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: ٣].
الصنف السادس: الْمُلَاعَنَةُ: وَدَلِيلُهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُتَلَاعِنَانِ لا يجتمعان أبدا».
قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنْ تَبْتَغُوا فِي مَحَلِّهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ «مَا» وَالتَّقْدِيرُ:
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (وَأُحِلَّ) بِضَمِّ الْأَلِفِ.. وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ كَانَ مَحَلُّ «أَنْ تَبْتَغُوا» نَصْبًا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ النَّصْبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِأَنْ تَبْتَغُوا، والمعنى: وأحل لكم ما وراء ذلكم لا رادة أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ أَيْ مُتَعَفِّفِينَ عَنِ الزِّنَا، وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحِينَ أَيْ غَيْرَ زَانِينَ، وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ اللَّيْثُ: السِّفَاحُ وَالْمُسَافَحَةُ الْفُجُورُ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ السَّفْحِ وَهُوَ الصَّبُّ يُقَالُ: دُمُوعٌ سَوَافِحُ وَمَسْفُوحَةٌ، قَالَ تَعَالَى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الْأَنْعَامِ: ١٤٥] وَفُلَانٌ سَفَّاحٌ لِلدِّمَاءِ أَيْ سَفَّاكٌ، وسمي الزاني سِفَاحًا لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لِلزَّانِي إِلَّا سَفْحُ النُّطْفَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ مَفْعُولُ تَبْتَغُوا؟
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْخَوَارِجِ أَنْ نَقُولَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ عَامٌّ،
وَقَوْلُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا»
خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى العام، ثم هاهنا طَرِيقَانِ: تَارَةً نَقُولُ: هَذَا الْخَبَرُ بَلَغَ فِي الشُّهْرَةِ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ جَائِزٌ، وَعِنْدِي هَذَا الْوَجْهُ كَالْمُكَابَرَةِ، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الشُّهْرَةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا لَكِنَّهُ لَمَّا انْتَهَى فِي الْأَصْلِ إِلَى رِوَايَةِ الْآحَادِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْآحَادِ. وَتَارَةً نَقُولُ: تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ، وَتَقْرِيرُهُ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْجَوَابِ عِنْدَنَا الْوَجْهُ الأول.
الصنف الثاني: مِنَ التَّخْصِيصَاتِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذَا الْعُمُومِ: أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ، إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠].
الصنف الثالث: تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨].
الصنف الرابع: مَنْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ حُرَّةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ:
الْقَادِرُ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَدَلِيلُ هَذَا التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٥] وَسَيَأْتِي بَيَانُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا المطلوب.
الصنف الخامس: يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّزَوُّجُ بِالْخَامِسَةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: ٣].
الصنف السادس: الْمُلَاعَنَةُ: وَدَلِيلُهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُتَلَاعِنَانِ لا يجتمعان أبدا».
قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنْ تَبْتَغُوا فِي مَحَلِّهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ «مَا» وَالتَّقْدِيرُ:
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (وَأُحِلَّ) بِضَمِّ الْأَلِفِ.. وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ كَانَ مَحَلُّ «أَنْ تَبْتَغُوا» نَصْبًا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ النَّصْبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِأَنْ تَبْتَغُوا، والمعنى: وأحل لكم ما وراء ذلكم لا رادة أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ أَيْ مُتَعَفِّفِينَ عَنِ الزِّنَا، وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحِينَ أَيْ غَيْرَ زَانِينَ، وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ اللَّيْثُ: السِّفَاحُ وَالْمُسَافَحَةُ الْفُجُورُ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ السَّفْحِ وَهُوَ الصَّبُّ يُقَالُ: دُمُوعٌ سَوَافِحُ وَمَسْفُوحَةٌ، قَالَ تَعَالَى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الْأَنْعَامِ: ١٤٥] وَفُلَانٌ سَفَّاحٌ لِلدِّمَاءِ أَيْ سَفَّاكٌ، وسمي الزاني سِفَاحًا لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لِلزَّانِي إِلَّا سَفْحُ النُّطْفَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ مَفْعُولُ تَبْتَغُوا؟
38
قُلْنَا: التَّقْدِيرُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ لا رادة أَنْ تَبْتَغُوهُنَّ، أَيْ تَبْتَغُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، فَحُذِفَ ذِكْرُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ:
يَجُوزُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ. احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ التَّحْلِيلَ بِقَيْدٍ، وَهُوَ الِابْتِغَاءُ بِأَمْوَالِهِمْ، وَالدِّرْهَمُ وَالدِّرْهَمَانِ لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ جَعْلُهَا مَهْرًا.
فَإِنْ قِيلَ: وَمَنْ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ، مَعَ أَنَّكُمْ تُجَوِّزُونَ كَوْنَهَا مَهْرًا.
قُلْنَا: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْعَشَرَةُ كَافِيَةً، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهِ، فَتَمَسَّكَ فِي الْأَقَلِّ مِنَ الْعَشَرَةِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِالْأَمْوَالِ جَائِزٌ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ لَا يَجُوزُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَفْهُومِ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ. ثُمَّ نَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الْمَهْرِ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِأَمْوالِكُمْ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَيَقْتَضِي تَوَزُّعَ الْفَرْدِ عَلَى الْفَرْدِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَتَمَكَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنِ ابْتِغَاءِ النِّكَاحِ بِمَا يُسَمَّى مَالًا، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَفِي هَذَا الِاسْمِ سَوَاءٌ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ ابْتِغَاءِ النِّكَاحِ بِأَيِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مَالًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ عَنِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِدِرْهَمٍ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْأَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَزَوَّجَ بِهَا رَجُلٌ عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ بِنَعْلَيْنِ» فَقَالَتْ: نَعَمْ فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِيمَةَ النَّعْلَيْنِ تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اللَّذَيْنِ لَا يَكُونُ تَزَوُّجُهُمَا إِلَّا عَلَى النَّعْلَيْنِ يَكُونَانِ فِي غَايَةِ الْفَقْرِ، وَنَعْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ قَلِيلَ الْقِيمَةِ جِدًّا. وَمِنْهَا مَا
رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْطَى امْرَأَةً فِي نِكَاحٍ كَفَّ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ طَعَامٍ فَقَدِ اسْتَحَلَّ»
وَمِنْهَا مَا
رُوِيَ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِمَنْ أَرَادَ التَّزَوُّجَ بِهَا: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ»
وَذَلِكَ لَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَوْ تَزَوَّجَ بِهَا عَلَى تَعْلِيمِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَهْرًا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ حُرًّا لها مَهْرُ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَهَا خِدْمَةُ سَنَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: يَجُوزُ جَعْلُ ذَلِكَ مَهْرًا، احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي حُصُولِ الْحِلِّ أَنْ يَكُونَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ، وَالْمَالُ اسْمٌ لِلْأَعْيَانِ لَا لِلْمَنَافِعِ، الثَّانِي: قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: ٤] وَذَلِكَ صِفَةُ الْأَعْيَانِ.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِالْمَالِ جَائِزٌ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِغَيْرِ الْمَالِ جَائِزٌ أَمْ لَا، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْإِيتَاءِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْأَعْيَانَ يَتَنَاوَلُ الْمَنَافِعَ الْمُلْتَزَمَةَ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ خَرَجَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ:
يَجُوزُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ. احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ التَّحْلِيلَ بِقَيْدٍ، وَهُوَ الِابْتِغَاءُ بِأَمْوَالِهِمْ، وَالدِّرْهَمُ وَالدِّرْهَمَانِ لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ جَعْلُهَا مَهْرًا.
فَإِنْ قِيلَ: وَمَنْ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ، مَعَ أَنَّكُمْ تُجَوِّزُونَ كَوْنَهَا مَهْرًا.
قُلْنَا: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْعَشَرَةُ كَافِيَةً، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهِ، فَتَمَسَّكَ فِي الْأَقَلِّ مِنَ الْعَشَرَةِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِالْأَمْوَالِ جَائِزٌ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ لَا يَجُوزُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَفْهُومِ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ. ثُمَّ نَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الْمَهْرِ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِأَمْوالِكُمْ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَيَقْتَضِي تَوَزُّعَ الْفَرْدِ عَلَى الْفَرْدِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَتَمَكَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنِ ابْتِغَاءِ النِّكَاحِ بِمَا يُسَمَّى مَالًا، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَفِي هَذَا الِاسْمِ سَوَاءٌ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ ابْتِغَاءِ النِّكَاحِ بِأَيِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مَالًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ عَنِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِدِرْهَمٍ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْأَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَزَوَّجَ بِهَا رَجُلٌ عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ بِنَعْلَيْنِ» فَقَالَتْ: نَعَمْ فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِيمَةَ النَّعْلَيْنِ تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اللَّذَيْنِ لَا يَكُونُ تَزَوُّجُهُمَا إِلَّا عَلَى النَّعْلَيْنِ يَكُونَانِ فِي غَايَةِ الْفَقْرِ، وَنَعْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ قَلِيلَ الْقِيمَةِ جِدًّا. وَمِنْهَا مَا
رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْطَى امْرَأَةً فِي نِكَاحٍ كَفَّ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ طَعَامٍ فَقَدِ اسْتَحَلَّ»
وَمِنْهَا مَا
رُوِيَ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِمَنْ أَرَادَ التَّزَوُّجَ بِهَا: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ»
وَذَلِكَ لَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَوْ تَزَوَّجَ بِهَا عَلَى تَعْلِيمِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَهْرًا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ حُرًّا لها مَهْرُ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَهَا خِدْمَةُ سَنَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: يَجُوزُ جَعْلُ ذَلِكَ مَهْرًا، احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي حُصُولِ الْحِلِّ أَنْ يَكُونَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ، وَالْمَالُ اسْمٌ لِلْأَعْيَانِ لَا لِلْمَنَافِعِ، الثَّانِي: قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: ٤] وَذَلِكَ صِفَةُ الْأَعْيَانِ.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِالْمَالِ جَائِزٌ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِغَيْرِ الْمَالِ جَائِزٌ أَمْ لَا، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْإِيتَاءِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْأَعْيَانَ يَتَنَاوَلُ الْمَنَافِعَ الْمُلْتَزَمَةَ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ خَرَجَ
39
الْخِطَابُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، ثُمَّ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْمَنْفَعَةِ صداقا لوجوه:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [الْقَصَصِ: ٢٧] جَعَلَ الصَّدَاقَ تِلْكَ الْمَنَافِعَ وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَنَا الْبَقَاءُ إِلَى أَنْ يَطْرَأَ النَّاسِخُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا،
لَمَّا لَمْ يَجِدِ الرَّجُلُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا شَيْئًا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا، قَالَ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ/ الْقُرْآنِ»
واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ صَدَاقًا لَهَا، لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْبُضْعِ مَالًا، وَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا،
فَذَاكَ مِنْ خَوَاصِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُحْصِنِينَ بِسَبَبِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الْإِحْلَالِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَبْقَى الْآيَةُ عَامَّةً مَعْلُومَةَ الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي تَكُونُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ الْمَذْكُورَ فِيهِ غَيْرُ مُبَيَّنٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الْمُجْمَلِ يَكُونُ مُجْمَلًا، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَعْلُومًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُجْمَلًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاسْتِمْتَاعُ فِي اللُّغَةِ الِانْتِفَاعُ، وَكُلُّ مَا انْتُفِعَ بِهِ فَهُوَ مَتَاعٌ، يُقَالُ: اسْتَمْتَعَ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ، وَيُقَالُ فِيمَنْ مَاتَ فِي زَمَانِ شَبَابِهِ: لَمْ يَتَمَتَّعْ بِشَبَابِهِ. قَالَ تَعَالَى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ [الْأَنْعَامِ: ١٢٨] وَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها [الْأَحْقَافِ: ٢٠] يَعْنِي تَعَجَّلْتُمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَقَالَ:
فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ [التَّوْبَةِ: ٦٩] يَعْنِي بِحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا. وَفِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ عَقْدٍ عَلَيْهِنَّ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسْقَطَ الرَّاجِعَ إِلَى «مَا» لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشُّورَى: ٤٣] فَأُسْقِطَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا وَراءَ ذلِكُمْ بِمَعْنَى النِّسَاءِ وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْهُنَّ لِلتَّبْعِيضِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
بِهِ رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ مَا لِأَنَّهُ وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إِلَى مَعْنَى «مَا» لِأَنَّهُ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: أُجُورَهُنَّ أَيْ مُهُورَهُنَّ، قَالَ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إِلَى قَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النِّسَاءِ: ٢٥] وَهِيَ الْمُهُورُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ هاهنا، وقال تعالى في آية أخرى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الْمُمْتَحَنَةِ: ١٠] وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ أَجْرًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنَافِعِ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، كَمَا سُمِّيَ بَدَلُ مَنَافِعِ الدَّارِ وَالدَّابَّةِ أَجْرًا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُقَرِّرُهُ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُشْعِرٌ بِأَنَّ وُجُوبَ إِيتَائِهِنَّ مُهُورَهُنَّ
الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [الْقَصَصِ: ٢٧] جَعَلَ الصَّدَاقَ تِلْكَ الْمَنَافِعَ وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَنَا الْبَقَاءُ إِلَى أَنْ يَطْرَأَ النَّاسِخُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا،
لَمَّا لَمْ يَجِدِ الرَّجُلُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا شَيْئًا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا، قَالَ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ/ الْقُرْآنِ»
واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ صَدَاقًا لَهَا، لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْبُضْعِ مَالًا، وَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا،
فَذَاكَ مِنْ خَوَاصِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُحْصِنِينَ بِسَبَبِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الْإِحْلَالِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَبْقَى الْآيَةُ عَامَّةً مَعْلُومَةَ الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي تَكُونُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ الْمَذْكُورَ فِيهِ غَيْرُ مُبَيَّنٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الْمُجْمَلِ يَكُونُ مُجْمَلًا، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَعْلُومًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُجْمَلًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاسْتِمْتَاعُ فِي اللُّغَةِ الِانْتِفَاعُ، وَكُلُّ مَا انْتُفِعَ بِهِ فَهُوَ مَتَاعٌ، يُقَالُ: اسْتَمْتَعَ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ، وَيُقَالُ فِيمَنْ مَاتَ فِي زَمَانِ شَبَابِهِ: لَمْ يَتَمَتَّعْ بِشَبَابِهِ. قَالَ تَعَالَى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ [الْأَنْعَامِ: ١٢٨] وَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها [الْأَحْقَافِ: ٢٠] يَعْنِي تَعَجَّلْتُمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَقَالَ:
فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ [التَّوْبَةِ: ٦٩] يَعْنِي بِحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا. وَفِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ عَقْدٍ عَلَيْهِنَّ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسْقَطَ الرَّاجِعَ إِلَى «مَا» لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشُّورَى: ٤٣] فَأُسْقِطَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا وَراءَ ذلِكُمْ بِمَعْنَى النِّسَاءِ وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْهُنَّ لِلتَّبْعِيضِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
بِهِ رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ مَا لِأَنَّهُ وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إِلَى مَعْنَى «مَا» لِأَنَّهُ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: أُجُورَهُنَّ أَيْ مُهُورَهُنَّ، قَالَ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إِلَى قَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النِّسَاءِ: ٢٥] وَهِيَ الْمُهُورُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ هاهنا، وقال تعالى في آية أخرى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الْمُمْتَحَنَةِ: ١٠] وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ أَجْرًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنَافِعِ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، كَمَا سُمِّيَ بَدَلُ مَنَافِعِ الدَّارِ وَالدَّابَّةِ أَجْرًا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُقَرِّرُهُ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُشْعِرٌ بِأَنَّ وُجُوبَ إِيتَائِهِنَّ مُهُورَهُنَّ
40
كَانَ لِأَجْلِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَلَوْ كَانَتِ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ مُقَرِّرَةً لِلْمَهْرِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تَتَقَدَّمُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ، فَكَانَ الْمَهْرُ يَتَقَرَّرُ قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَتَقَرُّرُهُ قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ ذَلِكَ التَّقَرُّرِ بِالِاسْتِمْتَاعِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ تَقَرُّرَ الْمَهْرِ يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِمْتَاعِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ ابْتِغَاءُ النِّسَاءِ بِالْأَمْوَالِ عَلَى طَرِيقِ النِّكَاحِ، وَقَوْلُهُ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ
فَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِالدُّخُولِ بِهَا آتَاهَا الْمَهْرَ بِالتَّمَامِ، وَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ آتَاهَا نِصْفَ الْمَهْرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ الْمُتْعَةِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِمَالٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ فَيُجَامِعَهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ،
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَتِهِ تَزَيَّنَ نِسَاءُ مَكَّةَ، فَشَكَا أَصْحَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُولَ الْعُزُوبَةِ فَقَالَ: اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ نُسِخَتْ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَى أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَقَالَ السَّوَادُ مِنْهُمْ: إِنَّهَا بَقِيَتْ مُبَاحَةً كَمَا كَانَتْ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَعَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا:
الْقَوْلُ بِالْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ، قَالَ عُمَارَةُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُتْعَةِ: أَسِفَاحٌ هِيَ أَمْ نِكَاحٌ؟ قَالَ: لَا سِفَاحٌ وَلَا نِكَاحٌ، قُلْتُ: فَمَا هِيَ؟ قَالَ: هِيَ مُتْعَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى، قُلْتُ: هَلْ لَهَا عِدَّةٌ؟ قَالَ نَعَمْ عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ، قُلْتُ: هَلْ يَتَوَارَثَانِ؟ قَالَ لَا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْهُ: أَنَّ النَّاسَ لَمَّا ذَكَرُوا الْأَشْعَارَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَاتَلَهُمُ اللَّه إِنِّي مَا أَفْتَيْتُ بِإِبَاحَتِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنِّي قُلْتُ: إِنَّهَا تَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ كَمَا تَحِلُّ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ لَهُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً. رَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قَالَ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاقِ: ١] وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ مِنْ قَوْلِي فِي الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ وَأَمَّا عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا آيَةٌ تَنْسَخُهَا/ وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا بِهَا، وَمَاتَ وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. وَأَمَّا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَالشِّيعَةُ يَرْوُونَ عَنْهُ إِبَاحَةَ الْمُتْعَةِ،
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ نَهَى النَّاسَ عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلَّا شَقِيٌّ،
وَرَوَى مُحَمَّدُ بن على المشهور بمحمد بن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَرَّ بِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُفْتِي بِجَوَازِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ:
إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ،
فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّوَايَاتِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى حُرْمَةِ الْمُتْعَةِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إِلَّا فِي الزَّوْجَةِ أَوِ الْمَمْلُوكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: ٢٩، ٣٠]، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً، وَلَيْسَتْ أَيْضًا زَوْجَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَحَصَلَ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النِّسَاءِ: ١٢] وَبِالِاتِّفَاقِ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا، وَثَانِيهَا: وَلَثَبَتَ النَّسَبُ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ»
وَبِالِاتِّفَاقِ لَا يَثْبُتُ، وَثَالِثُهَا: وَلَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ تعالى: وَالَّذِينَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ ابْتِغَاءُ النِّسَاءِ بِالْأَمْوَالِ عَلَى طَرِيقِ النِّكَاحِ، وَقَوْلُهُ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ
فَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِالدُّخُولِ بِهَا آتَاهَا الْمَهْرَ بِالتَّمَامِ، وَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ آتَاهَا نِصْفَ الْمَهْرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ الْمُتْعَةِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِمَالٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ فَيُجَامِعَهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ،
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَتِهِ تَزَيَّنَ نِسَاءُ مَكَّةَ، فَشَكَا أَصْحَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُولَ الْعُزُوبَةِ فَقَالَ: اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ نُسِخَتْ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَى أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَقَالَ السَّوَادُ مِنْهُمْ: إِنَّهَا بَقِيَتْ مُبَاحَةً كَمَا كَانَتْ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَعَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا:
الْقَوْلُ بِالْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ، قَالَ عُمَارَةُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُتْعَةِ: أَسِفَاحٌ هِيَ أَمْ نِكَاحٌ؟ قَالَ: لَا سِفَاحٌ وَلَا نِكَاحٌ، قُلْتُ: فَمَا هِيَ؟ قَالَ: هِيَ مُتْعَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى، قُلْتُ: هَلْ لَهَا عِدَّةٌ؟ قَالَ نَعَمْ عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ، قُلْتُ: هَلْ يَتَوَارَثَانِ؟ قَالَ لَا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْهُ: أَنَّ النَّاسَ لَمَّا ذَكَرُوا الْأَشْعَارَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَاتَلَهُمُ اللَّه إِنِّي مَا أَفْتَيْتُ بِإِبَاحَتِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنِّي قُلْتُ: إِنَّهَا تَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ كَمَا تَحِلُّ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ لَهُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً. رَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قَالَ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاقِ: ١] وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ مِنْ قَوْلِي فِي الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ وَأَمَّا عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا آيَةٌ تَنْسَخُهَا/ وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا بِهَا، وَمَاتَ وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. وَأَمَّا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَالشِّيعَةُ يَرْوُونَ عَنْهُ إِبَاحَةَ الْمُتْعَةِ،
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ نَهَى النَّاسَ عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلَّا شَقِيٌّ،
وَرَوَى مُحَمَّدُ بن على المشهور بمحمد بن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَرَّ بِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُفْتِي بِجَوَازِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ:
إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ،
فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّوَايَاتِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى حُرْمَةِ الْمُتْعَةِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إِلَّا فِي الزَّوْجَةِ أَوِ الْمَمْلُوكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: ٢٩، ٣٠]، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً، وَلَيْسَتْ أَيْضًا زَوْجَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَحَصَلَ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النِّسَاءِ: ١٢] وَبِالِاتِّفَاقِ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا، وَثَانِيهَا: وَلَثَبَتَ النَّسَبُ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ»
وَبِالِاتِّفَاقِ لَا يَثْبُتُ، وَثَالِثُهَا: وَلَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ تعالى: وَالَّذِينَ
41
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً
[الْبَقَرَةِ: ٢٣٤] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ كَلَامٌ حَسَنٌ مُقَرَّرٌ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا، ذُكِرَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَجْمَعِ الصَّحَابَةِ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَالْحَالُ هاهنا لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِحُرْمَةِ الْمُتْعَةِ فَسَكَتُوا، أَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَكِنَّهُمْ سَكَتُوا عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاهَنَةِ، أَوْ مَا عَرَفُوا إِبَاحَتَهَا وَلَا حُرْمَتَهَا. فَسَكَتُوا لِكَوْنِهِمْ مُتَوَقِّفِينَ فِي ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالثَّانِي يُوجِبُ تَكْفِيرَ عُمَرَ، وَتَكْفِيرَ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ مَحْظُورَةٌ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ لَهَا فَهُوَ كَافِرٌ باللَّه، وَمَنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مُخْطِئًا كَافِرًا، كَانَ كَافِرًا أَيْضًا. وَهَذَا يَقْتَضِي تَكْفِيرَ الْأُمَّةِ وَهُوَ عَلَى ضِدِّ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠].
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِكَوْنِ الْمُتْعَةِ مُبَاحَةً أَوْ مَحْظُورَةً فَلِهَذَا سَكَتُوا، فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُتْعَةَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُبَاحَةً تَكُونُ كَالنِّكَاحِ، وَاحْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَالِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَمِثْلُ هَذَا يُمْنَعُ أَنْ يَبْقَى مَخْفِيًّا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَشْتَهِرَ الْعِلْمُ بِهِ، فَكَمَا أَنَّ الْكُلَّ كَانُوا عَارِفِينَ بِأَنَّ النِّكَاحَ مُبَاحٌ، وَأَنَّ إِبَاحَتَهُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْمُتْعَةِ كَذَلِكَ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إِنَّمَا سَكَتُوا عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ الْمُتْعَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي الْإِسْلَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ يَبْطُلُ بِمَا أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إِلَى أَجَلٍ إِلَّا رَجَمْتُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّجْمَ غَيْرُ جَائِزٍ، مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْبَاطِلِ.
قُلْنَا: لَعَلَّهُ كَانَ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ وَالسِّيَاسَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ السِّيَاسَاتِ جَائِزَةٌ لِلْإِمَامِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ، أَلَا تَرَى
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ مَنَعَ مِنَّا الزَّكَاةَ فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْهُ وَشَطْرَ مَالِهِ»
ثُمَّ إِنَّ أَخْذَ شَطْرِ الْمَالِ مِنْ مَانِعِ الزَّكَاةِ غَيْرُ جَائِزٍ، لَكِنَّهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزجر، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ مُحَرَّمَةٌ: مَا
رَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عبد اللَّه والحسن ابني محمد ابن عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ.
وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أَمَرْتُكُمْ بِالِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ أَلَا وَإِنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخْلِ سَبِيلَهَا وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا»
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مُتْعَةُ النِّسَاءِ حَرَامٌ»
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ ذَكَرَهَا الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُسَمَّى اسْتِمْتَاعًا، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ هُوَ التَّلَذُّذُ، وَمُجَرَّدُ النِّكَاحِ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بهذه الآية طريقان:
[الْبَقَرَةِ: ٢٣٤] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ كَلَامٌ حَسَنٌ مُقَرَّرٌ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا، ذُكِرَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَجْمَعِ الصَّحَابَةِ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَالْحَالُ هاهنا لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِحُرْمَةِ الْمُتْعَةِ فَسَكَتُوا، أَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَكِنَّهُمْ سَكَتُوا عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاهَنَةِ، أَوْ مَا عَرَفُوا إِبَاحَتَهَا وَلَا حُرْمَتَهَا. فَسَكَتُوا لِكَوْنِهِمْ مُتَوَقِّفِينَ فِي ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالثَّانِي يُوجِبُ تَكْفِيرَ عُمَرَ، وَتَكْفِيرَ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ مَحْظُورَةٌ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ لَهَا فَهُوَ كَافِرٌ باللَّه، وَمَنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مُخْطِئًا كَافِرًا، كَانَ كَافِرًا أَيْضًا. وَهَذَا يَقْتَضِي تَكْفِيرَ الْأُمَّةِ وَهُوَ عَلَى ضِدِّ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠].
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِكَوْنِ الْمُتْعَةِ مُبَاحَةً أَوْ مَحْظُورَةً فَلِهَذَا سَكَتُوا، فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُتْعَةَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُبَاحَةً تَكُونُ كَالنِّكَاحِ، وَاحْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَالِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَمِثْلُ هَذَا يُمْنَعُ أَنْ يَبْقَى مَخْفِيًّا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَشْتَهِرَ الْعِلْمُ بِهِ، فَكَمَا أَنَّ الْكُلَّ كَانُوا عَارِفِينَ بِأَنَّ النِّكَاحَ مُبَاحٌ، وَأَنَّ إِبَاحَتَهُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْمُتْعَةِ كَذَلِكَ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إِنَّمَا سَكَتُوا عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ الْمُتْعَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي الْإِسْلَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ يَبْطُلُ بِمَا أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إِلَى أَجَلٍ إِلَّا رَجَمْتُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّجْمَ غَيْرُ جَائِزٍ، مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْبَاطِلِ.
قُلْنَا: لَعَلَّهُ كَانَ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ وَالسِّيَاسَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ السِّيَاسَاتِ جَائِزَةٌ لِلْإِمَامِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ، أَلَا تَرَى
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ مَنَعَ مِنَّا الزَّكَاةَ فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْهُ وَشَطْرَ مَالِهِ»
ثُمَّ إِنَّ أَخْذَ شَطْرِ الْمَالِ مِنْ مَانِعِ الزَّكَاةِ غَيْرُ جَائِزٍ، لَكِنَّهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزجر، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ مُحَرَّمَةٌ: مَا
رَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عبد اللَّه والحسن ابني محمد ابن عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ.
وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أَمَرْتُكُمْ بِالِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ أَلَا وَإِنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخْلِ سَبِيلَهَا وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا»
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مُتْعَةُ النِّسَاءِ حَرَامٌ»
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ ذَكَرَهَا الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُسَمَّى اسْتِمْتَاعًا، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ هُوَ التَّلَذُّذُ، وَمُجَرَّدُ النِّكَاحِ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بهذه الآية طريقان:
42
الطريق الأول: أَنْ نَقُولَ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَتَنَاوَلُ مَنِ ابْتَغَى بِمَالِهِ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، وَمَنِ ابْتَغَى بِمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْقِيتِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ دَاخِلًا فِيهِ كَانَ قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَقْتَضِي حِلَّ الْقِسْمَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي حِلَّ الْمُتْعَةِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى بَيَانِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كَانَ يَقْرَأُ (فما استمعتم بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وَهَذَا أَيْضًا هُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأُمَّةُ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ الْمُتْعَةِ وَالصَّحَابَةُ/ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا على صحة ما ذكرنا، وكذا هاهنا، وَإِذَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ صِحَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بَإِيتَائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ يُجَوِّزُ الْوَطْءَ، وَمُجَرَّدُ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ فَهُنَاكَ الْحِلُّ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ، وَمَعَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ، وَمُجَرَّدُ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُتْعَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُوجِبَ إِيتَاءَ الْأُجُورِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّلَذُّذِ وَالِانْتِفَاعِ، فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَإِيتَاءُ الْأُجُورِ لَا يَجِبُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْبَتَّةَ، بَلْ عَلَى النِّكَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ يَلْزَمُ نِصْفُ الْمَهْرِ، فَظَاهِرٌ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُسَمَّى اسْتِمْتَاعًا، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ هُوَ التَّلَذُّذُ. وَمُجَرَّدُ النِّكَاحِ لَي
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى بَيَانِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كَانَ يَقْرَأُ (فما استمعتم بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وَهَذَا أَيْضًا هُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأُمَّةُ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ الْمُتْعَةِ وَالصَّحَابَةُ/ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا على صحة ما ذكرنا، وكذا هاهنا، وَإِذَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ صِحَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بَإِيتَائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ يُجَوِّزُ الْوَطْءَ، وَمُجَرَّدُ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ فَهُنَاكَ الْحِلُّ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ، وَمَعَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ، وَمُجَرَّدُ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُتْعَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُوجِبَ إِيتَاءَ الْأُجُورِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّلَذُّذِ وَالِانْتِفَاعِ، فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَإِيتَاءُ الْأُجُورِ لَا يَجِبُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْبَتَّةَ، بَلْ عَلَى النِّكَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ يَلْزَمُ نِصْفُ الْمَهْرِ، فَظَاهِرٌ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُسَمَّى اسْتِمْتَاعًا، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ هُوَ التَّلَذُّذُ. وَمُجَرَّدُ النِّكَاحِ لَي