تفسير سورة سورة النساء من كتاب تفسير الشعراوي
.
لمؤلفه
الشعراوي
.
المتوفي سنة 1419 هـ
سورة النساء
عرضنا فيما سبق خواطرنا حول تسمية السور، وهنا تأتي سورة النساء والاسم المختار لها اسم مكرم للجنس الآخر من النوع الإنساني، ونلحظ أن الحق لم ينزل سورة باسم سورة الرجال، وجاء بسورة وسماها " سورة النساء " وتتعلق بها أحكام كثيرة، وأيضا سيتكلم في سورة المائدة عن حقوق النساء، وأيضا سيتكلم في سورة الأحزاب عن النساء، وأيضا سيتكلم في سورة الممتحنة عن النساء، وفي سورة المجادلة عن النساء وفي سورة الطلاق، وفي سورة التحريم عن النساء، إنها أحكام منصوص عليها في القرآن عن حقوق المرأة، وهذه الأحكام جاءت لتتكلم عن الوعاء الحاضن للنفس البشرية.
ونحن نعرف أن مهمة الرجل مع الأجناس الدنيا في الحياة مع الجهاد في المعمل، ومع الحيوانات يربى، ومع الزرع يزرع. إن الرجل يعمل مع تلك الأجناس، والأجناس كما نعلم هي : جماد، ونبات، وحيوان، وإنسان، ومجال الإنسان الرجل هو العمل مع الجماد ومع الحيوان، أما مجال المرأة فمع الإنسان، أيوجد تكريم للمرأة أكثر من أن الله جعلها الحاضنة لأكرم مخلوقاته وهو الإنسان ؟
انظر إلى طفولة كل الأشياء، والنبات والحيوان تجدها طفولات قصيرة، هناك حيوانات لا تطول طفولتها لأكثر من شهر، وهناك حيوانات تستمر طفولتها أياما، وهناك نبات تكون طفولته سبع سنين وهذه طفولة الشجر المعمر لكن طفولة الإنسان تستمر من الميلاد حتى أربع عشرة سنة، وهي فترة حضانة طويلة، ولماذا يجعل الله لهذا الإنسان المكرم حضانة طويلة ؟.
إن مهمة الإنسان في الحياة جليلة. إذن فطفولته تحتاج إلى عناية، وفي مرحلة الطفولة يتشرب الإنسان نضج ما حوله ليكون سلوكياته، وعندما يكون في حضن أمه فهو في حضن المرأة، بينما يكدح والده في الحياة، ويأتي لهما بالرزق، ويسكن عند الزوجة.
فالمرأة عندما قاضت الرجل وخاصمته أمام القاضي وهو يريد أن يأخذ ابنه منها، قالت للقاضي : لقد حمله خفا، يعني حمله في ظهره خفيفا لا يدري به ووضعه شهوة، ولكنني حملته كرها على كره ؛ لذلك فبعد أن أنزل الحق في آل عمران سورة وهم قدوة الاصطفاء في الرسالات وفي التكليفات، ومنهم جاء لنا ببعض الرسل، وجاء منهم بمنفذين لمنهج الله مثل امرأة عمران، فلم تكن هي ولا مريم عليهما السلام نبية ولا رسولة ولكن نفذت كل واحدة منهما ما أمرت به.
وبعد تخصيص سورة لآل عمران يأتي لنا الحق بسورة النساء.
والحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب الذين آمنوا فانتظروا منه تكليفا. ساعة يقول :" يا أيها الذين آمنوا " فافهم أنه يريد أن يكلفك. وسبحانه يوضح لك : أنا لا أقتحم عليك اختيارك، ولا أكلفك إلا بما كلفت أنت به نفسك لأنك آمنت بي، وما دمت آمنت بي ربا إلها قادرا حكيما فاسمع مني.
إن الله لم يدخلك في الإيمان فأنت الذي دخلت باختيارك في الإيمان فيجب أن تستمع إلى من آمنت به، وقلنا ؛ ولله المثل الأعلى الإنسان منا عندما يذهب إلى الطبيب فهو يختار هذا الطبيب ؛ لأنه أنسب الأطباء لعلاجه، وساعة يذهب إلى مثل هذا الطبيب فهو يلتزم بأوامره، ويأخذ تذكرة العلاج ويصرفها من الصيدلية، وإن لم يجدها يحتال على أي واحد يسافر للخارج ليأتي بها، وينفذ المريض ما بها من أوامر.
وسبحانه يقول هنا :﴿ يا أيها الناس ﴾ إنه لا يطلب من الإنسان أي تكليفات، لكنه يطلب منك أيها الانسان أن تؤمن. فيوضح " يا أيها الناس ". إنه ينادي الناس : تعالوا إلى جانبي كي تروا أيؤمن بي أم لا يؤمن بي ؟ والمقصود ب " يا أيها الناس " هم آدم وذريته.
عرضنا فيما سبق خواطرنا حول تسمية السور، وهنا تأتي سورة النساء والاسم المختار لها اسم مكرم للجنس الآخر من النوع الإنساني، ونلحظ أن الحق لم ينزل سورة باسم سورة الرجال، وجاء بسورة وسماها " سورة النساء " وتتعلق بها أحكام كثيرة، وأيضا سيتكلم في سورة المائدة عن حقوق النساء، وأيضا سيتكلم في سورة الأحزاب عن النساء، وأيضا سيتكلم في سورة الممتحنة عن النساء، وفي سورة المجادلة عن النساء وفي سورة الطلاق، وفي سورة التحريم عن النساء، إنها أحكام منصوص عليها في القرآن عن حقوق المرأة، وهذه الأحكام جاءت لتتكلم عن الوعاء الحاضن للنفس البشرية.
ونحن نعرف أن مهمة الرجل مع الأجناس الدنيا في الحياة مع الجهاد في المعمل، ومع الحيوانات يربى، ومع الزرع يزرع. إن الرجل يعمل مع تلك الأجناس، والأجناس كما نعلم هي : جماد، ونبات، وحيوان، وإنسان، ومجال الإنسان الرجل هو العمل مع الجماد ومع الحيوان، أما مجال المرأة فمع الإنسان، أيوجد تكريم للمرأة أكثر من أن الله جعلها الحاضنة لأكرم مخلوقاته وهو الإنسان ؟
انظر إلى طفولة كل الأشياء، والنبات والحيوان تجدها طفولات قصيرة، هناك حيوانات لا تطول طفولتها لأكثر من شهر، وهناك حيوانات تستمر طفولتها أياما، وهناك نبات تكون طفولته سبع سنين وهذه طفولة الشجر المعمر لكن طفولة الإنسان تستمر من الميلاد حتى أربع عشرة سنة، وهي فترة حضانة طويلة، ولماذا يجعل الله لهذا الإنسان المكرم حضانة طويلة ؟.
إن مهمة الإنسان في الحياة جليلة. إذن فطفولته تحتاج إلى عناية، وفي مرحلة الطفولة يتشرب الإنسان نضج ما حوله ليكون سلوكياته، وعندما يكون في حضن أمه فهو في حضن المرأة، بينما يكدح والده في الحياة، ويأتي لهما بالرزق، ويسكن عند الزوجة.
فالمرأة عندما قاضت الرجل وخاصمته أمام القاضي وهو يريد أن يأخذ ابنه منها، قالت للقاضي : لقد حمله خفا، يعني حمله في ظهره خفيفا لا يدري به ووضعه شهوة، ولكنني حملته كرها على كره ؛ لذلك فبعد أن أنزل الحق في آل عمران سورة وهم قدوة الاصطفاء في الرسالات وفي التكليفات، ومنهم جاء لنا ببعض الرسل، وجاء منهم بمنفذين لمنهج الله مثل امرأة عمران، فلم تكن هي ولا مريم عليهما السلام نبية ولا رسولة ولكن نفذت كل واحدة منهما ما أمرت به.
وبعد تخصيص سورة لآل عمران يأتي لنا الحق بسورة النساء.
والحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب الذين آمنوا فانتظروا منه تكليفا. ساعة يقول :" يا أيها الذين آمنوا " فافهم أنه يريد أن يكلفك. وسبحانه يوضح لك : أنا لا أقتحم عليك اختيارك، ولا أكلفك إلا بما كلفت أنت به نفسك لأنك آمنت بي، وما دمت آمنت بي ربا إلها قادرا حكيما فاسمع مني.
إن الله لم يدخلك في الإيمان فأنت الذي دخلت باختيارك في الإيمان فيجب أن تستمع إلى من آمنت به، وقلنا ؛ ولله المثل الأعلى الإنسان منا عندما يذهب إلى الطبيب فهو يختار هذا الطبيب ؛ لأنه أنسب الأطباء لعلاجه، وساعة يذهب إلى مثل هذا الطبيب فهو يلتزم بأوامره، ويأخذ تذكرة العلاج ويصرفها من الصيدلية، وإن لم يجدها يحتال على أي واحد يسافر للخارج ليأتي بها، وينفذ المريض ما بها من أوامر.
وسبحانه يقول هنا :﴿ يا أيها الناس ﴾ إنه لا يطلب من الإنسان أي تكليفات، لكنه يطلب منك أيها الانسان أن تؤمن. فيوضح " يا أيها الناس ". إنه ينادي الناس : تعالوا إلى جانبي كي تروا أيؤمن بي أم لا يؤمن بي ؟ والمقصود ب " يا أيها الناس " هم آدم وذريته.
ﰡ
والحق يبدأ سورة النساء بقوله :
وساعة يدعو الله سبحانه الناس إلى تقواه يقول :" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " ومعنى " اتقوا ربكم " أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية، وماذا أفعل لأتقي ربنا ؟.
أول التقوى ان تؤمن به إلها، وتؤمن أنه إله بعقلك، إنه سبحانه يعرض لك القضية العقلية للناس فيقول :" يا أيها الناس اتقوا ربكم " ولم يقل : اتقوا الله، لأن الله مفهومه العبادة، فالإله معبود له أوامر وله نواه، لم يصل الحق بالناس لهذه بعد، انما هم لا يزالون في مرتبة الربوبية، و الرب هو : المتولي تربية الشيء، خلقا من عدم وإمداد من عدم، لكن أليس من حق المتولي خلق الشيء، وتربيته أن يجعل له قانون صيانة ؟.
إن من حقه ومسئوليته أن يضع للمخلوق قانون صيانة. ونحن نرى الآن أن كل مخترع او صانع يضع لاختراعه أو للشيء الذي صنعه قانون صيانة، بالله أيخلق سبحانه البشر من عدم وبعد ذلك يتركهم ليتصرفوا كما يشاءون ؟ أم يقول لهم : اعملوا كذا وكذا ولا تعملوا كذا وكذا، لكي تؤدوا مهمتكم في الحياة ؟ إنه يضع دستور الدعوة للإيمان فقال :" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم ". إذن فالمطلوب منهم أن يتقوا، ومعنى يتقوا أن يقيموا الوقاية لأنفسهم بأن ينفذوا أوامر هذا الرب الإله الذي خلقهم، وبالله أيجعل خلقهم علة إلا إذا كان مشهودا بها له ؟ هو سبحانه يقول :" اتقوا ربكم الذي خلقكم " كان خلقة ربنا لنا مشهود بها، وإلا لو كان مشكوكا فيها لقلنا له : إنك لم تخلقنا ولله المثل الأعلى.
انت تسمع من يقول لك : أحسن مع فلان الذي صنع لك كذا وكذا، فأنت مقر بأنه صنع أم لا ؟ فإذا أقررت بأنه صنع ما صنع فأنت تستجيب لمن يقول لك مثل ذلك الكلام. إذن فقول الله :" ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم " فكأن خلق الله للناس ليس محل جدال ولا شك من احد، فأراد سبحانه أن يجذبنا إليه ويأخذنا إلى جنابه بالشيء الذي نؤمن به جميعا وهو أنه سبحانه خلقنا إلى الشيء الذي يريده وهو ان نتلقى من الله ما يقينا من صفات جلاله، وجاء سبحانه بكلمة " رب " ولم يقل :" اتقوا الله "، لأن مفهوم الرب هو الذي خلق من عدم وأمد من عدم، وتعهد وهو المربي ويبلغ بالإنسان مرتبة الكمال الذي يراد منه وهو الذي خلق كل الكون فأحسن الخلق والصنع، ولذلك يقول الحق :
﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ٦١ ﴾( سورة العنكبوت ).
إذن فقضية الخلق قضية مستقرة. ومادامت قضية مستقرة فمعناها : مادمتم آمنتم بأني خالقكم فلي قدرة إذن، هذه واحدة، وربيتكم إذن فلي حكمة، وإله له قدرة وله حكمة، إما أن نخاف من قدرته فنرهبه وإما أن نشكر حكمته فنقر به، " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ". لو لم يقل الحق :" وجعل منها زوجها " لما كملت، لماذا ؟ لأنه سيقول في آيات أخرى عن الإيجاد :
﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ٤٩ ﴾( سورة الذاريات ).
إذن فخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها هنا، والناس تريد أن تدخل في متاهة. هل خلق منها المقصود به خلق حواء من ضلع آدم أي من نفس آدم ؟ أناس قالوا ذلك، وأناس قالوا : لا، " منها " تعني من جنسها، ودللوا على ذلك قائلين : حين يقول الله :
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾( من الآية ١٢٨ سورة التوبة ).
أأخذ الله محمدا صلى الله عليه وسلم من نفوسنا وكونه ؟ لا، إنما هو رسول من جنسنا البشري، وكأنه سبحانه قد أشار إلى دليل ؛ لأن خلق حواء قد انطمست المعالم عنه، ولأنه أعطانا بيان خلق آدم وتسويته من طين ومراحل خلقه إلى أن صار إنسانا، ولذلك يجوز أن يكون قد جعل خلق آدم هو الصورة لخلق الجنس الأول، وبعد ذلك تكون حواء مثله، فيكون قوله سبحانه :" خلق منها " أي من جنسها، خلقها من طين ثم صورها الخ ؛ ولكن لم يعد علينا التجربة في حواء كما قالها في آدم، أو المراد من قوله :" منها " أي من الضلع، وهذا شيء لم نشهد أوله، والشيء الذي لم يشهده الإنسان فالحجة فيه تكون ممن شهده، وسبحانه أراد أن يرحمنا من متاهات الظنون في هذه المسألة، مسألة كيف خلقنا، وكيف جئنا ؟.
إن كيفية خلقك ليس لك شأن بها، فالذي خلقك هو الذي يقول لك فاسمع كلامه لأن هذه مسألة لا تتعلق بعلم تجريبي ؛ ولذلك عندما جاء " دارون " وأراد أن يتكبر ويتكلم، جاءت النظرية الحديثة لتهدم كلامه، قالت النظرية الحديثة لدارون : إن الأمور التي أثرت في القرد الأول ليكون إنسانا، لماذا لم تؤثر في بقية القرود ليكونوا أناسا وينعدم جنس القرود ؟ ! وهذا سؤال لا يجيب عليه دارون ؛ لذلك نقول : هذا أمر لم نشهده فيجب أن نستمع ممن فعل، والحق سبحانه يقول :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ٥١ ﴾( سورة الكهف ).
ومادام لم يشهدهم، فهل يستطيع أحد منهم أن يأتي بعلم فيها ؟ إن أحدا لا يأتي بعلم فيها، وبعد ذلك يرد على من يجيء بادعاء علم فيقول :" وما كنت متخذ المضلين عضدا "، معنى مضلين أنهم سيضلونكم في الخلق. كأن الله أعطانا مناعة في الأقوال الزائفة التي يمكن أن تنشأ من هذا عندما قال :" وما كنت متخذ المضلين عضدا "، فقد أوضح لنا طبيعة من يضللون في أصل الخلق وفي كيفية الخلق، فهم لم يكونوا مع الله ليعاونوه ساعة الخلق حتى يخبروا البشر بكيفية الخلق. فإن أردتم أن تعرفوا فاعلموا أنه سبحانه الذي يقول كيف خلقتم وعلى أي صورة كنتم، ولكن من يقول كذا وكذا، هم المضللون، و " المضللون " هم الذين يلفتونكم عن الحق إلى الباطل.
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى ؟ لأنه عندما يرد الشيء إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى، وإنما هذه ردت إلى واحدة فقط، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة، أما عن نظرية " دارون " وما قاله من كلام فقد قيض الله لقضية الدين وخاصة قضية الإسلام علماء من غير المسلمين اهتدوا إلى دليل يوافق القرآن، فقام العالم الفرنسي " مونيه "، عندما أراد أن يرد على الخرافات التي يقولونها من أصل الإنسان كذا وكذا، وقال : أنا أعجب ممن يفكرون هذا التفكير، هل توجد المصادفة ما نسميه " ذكرا " ثم توجد المصادفة شخصا نسميه " أنثى " ويكون من جنسه لكنه مختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا جاءا بذكر كالأول أو بأنثى كالثاني ؟.
كيف تفعل المصادفة هذه العملية ؟
سنسلم أن المصادفة خلقت آدم، فهل المصادفة أيضا خلقت له واحدة من جنسه. ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا ينشأ بينهما سيال عاطفي جارف وهو أعنف الغرائز، ثم ينشأ منهما تلقيح ينشئ ذكرا كالأول أو ينشئ أنثى كالثاني ؟ أي مصادفة هذه ؟ هذه المصادفة تكون عاقلة وحكيمة، سموها مصادفة ونحن نسميها الله.
لقد ظن " مونيه " هداه الله إلى الإسلام وغفر له أنه جاء بالدليل الذي يرد به على دارون، نقول له : إن القرآن قد مس هذه المسألة حين قال :" اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها "، وهذه هي العظمة، إنه خلق الرجل وخلق الأنثى ؛ وهي من جنسه، ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا أنشأ الله منهما رجالا ونساء. إذن فهو عملية مقصودة، وعناية وغاية وحكمة، إذن فقول الله سبحانه وتعالى :" الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ". هذه جاءت بالدليل الذي هدي إليه العالم الفرنسي " مونيه " أخيرا.
" وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " وانظروا عظمة الأسلوب في قوله " وبث " أي " نشر " وسنقف عند كلمة " نشر " لأن الخلق يجب أن ينتشروا في الأرض، كي يأخذوا جميعا من خيرات الله في الأرض جميعا.
و " النشر " معناه تفريق المنشور في الحيز، فهناك شيء مطوي وشيء آخر منشور، والشيء المطوي فيه تجمع، والشيء المنشور فيه تفرق وتوزيع، إذن فحيز الشيء المتجمع ضيق، وحيز الشيء المبثوث واسع، معنى هذا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول :" وبث منهما " أي من آدم وحواء " رجالا كثيرا ونساء " واكتفى بأن يقول " نساء " ولم يقل : كثيرات لماذا ؟ لأن المفروض في كل ذكورة أن تكون أقل في العدد من الأنوثة. وأنت إذا نظرت مثلا في حقل فيه نخل، تجد كم ذكرا من النخل وكم أنثى ؟ ستجد ذكرا أو اثنين.
إذن القلة في الذكور مقصودة لأن الذكر مخصب ويستطيع الذكر أن يخصب آلافا، فإذا قال الله :" وبث منهما رجالا كثيرا " فالذكورة هي العنصر الذي يفترض أن يكون أقل كثيرا، فماذا عن العنصر الثاني وهو الأنوثة ؟ لا بد ان يكون أكثر، والقرآن يأتي لينبهك إلى المعطيات في الألفاظ لأن المتكلم الله، ولكن إذا نظرت لقوله :" وبث منهما " أي من آدم وحواء وهما اثنان " رجالا كثيرا ونساء ". فتكون جمعا وهذا ليدلك على أن المتكاثر يبدأ بقلة ثم ينتهي بكثرة.
ونريد أن نفهم هذه كي نأخذ منها الدليل الإحصائي على وجود الخالق، فهو " بث منهما رجالا كثيرا ونساء " والجمع البشري الذي ظهر من الاثنين سيبث منه أكثر.. وبعد ذلك يبث من المبثوث الثاني مبثوثا ثالثا، وكلما امتددنا في البث تنشأ كثرة، وعندما تنظر لأي بلد من البلاد تجد تعداده منذ قرن مضى أقل بكثير جدا من تعداده الآن، مثال ذلك كان تعداد مصر منذ قرن لا يتعدى خمسة ملايين، ومن قرنين كان أقل عددا، ومن عشرة قرون كان أقل، ومن عشرين قرنا كان أقل، إذن فكلما امتد بك المستقبل فالتعداد يزيد، لأنه سبحانه يبث من الذكورة والأنوثة رجالا كثيرا ونساء وسيبث منهم أيضا عددا أكبر.
إذن فكلما تقدم الزمن تحدث زيادة في السكان، ونحن نرى ذلك في الأسرة الواحدة، إن الأسرة الواحدة مكونة عادة من أب وأم، وبعد ذلك يمكن أن نرى منهما أبناء وأحفادا وعندما يطيل الله في عمر أحد الوالدين يرى الأحفاد وقد يرى أحفاد الأحفاد. إذن كلما تقدم الزمن بالمتكاثر من اثنين يزداد وكلما رجعت إلى الماضي يقل ؛ فالذين كانوا مليونا من قرن كانوا نصف مليون من قرنين، وسلسلها حتى يكونوا عشرة فقط، والعشرة كانوا أربعة، والأربعة كانوا اثنين والاثنان هما آدم وحواء.
فعندما يقول الحق : إنه خلق آدم وحواء، وتحاول أنت أن تسلسل العالم كله سترجعه لهما، ومادام التكاثر ينشأ من الإثنين، فمن أين جاءا ؟ الحق سبحانه يوضح لنا ذلك بقوله :" إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " وهو بذلك يريحنا من علم الإحصاء. وكان من الضروري أن تأتي هذه الآية كي تحل لنا اللغز في الإحصاء، وكلما أتى الزمن المستقبل كثر العالم وكلما ذهبنا إلى الماضي قل التعداد إلى أن يصير وينتهي إلى اثنين، وإياك أن تقول إلى واحد، لأن واحدا لاياتي منه تكاثر فالتكاثر ياتي من اثنين ومن اين جاء الاثنان ؟ لابد ان احدا خلقهما، وهو قادر على هذا، ويعلمنا الله ذلك فيقول :" خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " ونأخذ من " بث " " الانتشار "، ولو لم يقل الله هذا لكانت العقول الحديثة تتوه وتقع ف
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث فيهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ١ ﴾.وساعة يدعو الله سبحانه الناس إلى تقواه يقول :" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " ومعنى " اتقوا ربكم " أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية، وماذا أفعل لأتقي ربنا ؟.
أول التقوى ان تؤمن به إلها، وتؤمن أنه إله بعقلك، إنه سبحانه يعرض لك القضية العقلية للناس فيقول :" يا أيها الناس اتقوا ربكم " ولم يقل : اتقوا الله، لأن الله مفهومه العبادة، فالإله معبود له أوامر وله نواه، لم يصل الحق بالناس لهذه بعد، انما هم لا يزالون في مرتبة الربوبية، و الرب هو : المتولي تربية الشيء، خلقا من عدم وإمداد من عدم، لكن أليس من حق المتولي خلق الشيء، وتربيته أن يجعل له قانون صيانة ؟.
إن من حقه ومسئوليته أن يضع للمخلوق قانون صيانة. ونحن نرى الآن أن كل مخترع او صانع يضع لاختراعه أو للشيء الذي صنعه قانون صيانة، بالله أيخلق سبحانه البشر من عدم وبعد ذلك يتركهم ليتصرفوا كما يشاءون ؟ أم يقول لهم : اعملوا كذا وكذا ولا تعملوا كذا وكذا، لكي تؤدوا مهمتكم في الحياة ؟ إنه يضع دستور الدعوة للإيمان فقال :" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم ". إذن فالمطلوب منهم أن يتقوا، ومعنى يتقوا أن يقيموا الوقاية لأنفسهم بأن ينفذوا أوامر هذا الرب الإله الذي خلقهم، وبالله أيجعل خلقهم علة إلا إذا كان مشهودا بها له ؟ هو سبحانه يقول :" اتقوا ربكم الذي خلقكم " كان خلقة ربنا لنا مشهود بها، وإلا لو كان مشكوكا فيها لقلنا له : إنك لم تخلقنا ولله المثل الأعلى.
انت تسمع من يقول لك : أحسن مع فلان الذي صنع لك كذا وكذا، فأنت مقر بأنه صنع أم لا ؟ فإذا أقررت بأنه صنع ما صنع فأنت تستجيب لمن يقول لك مثل ذلك الكلام. إذن فقول الله :" ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم " فكأن خلق الله للناس ليس محل جدال ولا شك من احد، فأراد سبحانه أن يجذبنا إليه ويأخذنا إلى جنابه بالشيء الذي نؤمن به جميعا وهو أنه سبحانه خلقنا إلى الشيء الذي يريده وهو ان نتلقى من الله ما يقينا من صفات جلاله، وجاء سبحانه بكلمة " رب " ولم يقل :" اتقوا الله "، لأن مفهوم الرب هو الذي خلق من عدم وأمد من عدم، وتعهد وهو المربي ويبلغ بالإنسان مرتبة الكمال الذي يراد منه وهو الذي خلق كل الكون فأحسن الخلق والصنع، ولذلك يقول الحق :
﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ٦١ ﴾( سورة العنكبوت ).
إذن فقضية الخلق قضية مستقرة. ومادامت قضية مستقرة فمعناها : مادمتم آمنتم بأني خالقكم فلي قدرة إذن، هذه واحدة، وربيتكم إذن فلي حكمة، وإله له قدرة وله حكمة، إما أن نخاف من قدرته فنرهبه وإما أن نشكر حكمته فنقر به، " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ". لو لم يقل الحق :" وجعل منها زوجها " لما كملت، لماذا ؟ لأنه سيقول في آيات أخرى عن الإيجاد :
﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ٤٩ ﴾( سورة الذاريات ).
إذن فخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها هنا، والناس تريد أن تدخل في متاهة. هل خلق منها المقصود به خلق حواء من ضلع آدم أي من نفس آدم ؟ أناس قالوا ذلك، وأناس قالوا : لا، " منها " تعني من جنسها، ودللوا على ذلك قائلين : حين يقول الله :
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾( من الآية ١٢٨ سورة التوبة ).
أأخذ الله محمدا صلى الله عليه وسلم من نفوسنا وكونه ؟ لا، إنما هو رسول من جنسنا البشري، وكأنه سبحانه قد أشار إلى دليل ؛ لأن خلق حواء قد انطمست المعالم عنه، ولأنه أعطانا بيان خلق آدم وتسويته من طين ومراحل خلقه إلى أن صار إنسانا، ولذلك يجوز أن يكون قد جعل خلق آدم هو الصورة لخلق الجنس الأول، وبعد ذلك تكون حواء مثله، فيكون قوله سبحانه :" خلق منها " أي من جنسها، خلقها من طين ثم صورها الخ ؛ ولكن لم يعد علينا التجربة في حواء كما قالها في آدم، أو المراد من قوله :" منها " أي من الضلع، وهذا شيء لم نشهد أوله، والشيء الذي لم يشهده الإنسان فالحجة فيه تكون ممن شهده، وسبحانه أراد أن يرحمنا من متاهات الظنون في هذه المسألة، مسألة كيف خلقنا، وكيف جئنا ؟.
إن كيفية خلقك ليس لك شأن بها، فالذي خلقك هو الذي يقول لك فاسمع كلامه لأن هذه مسألة لا تتعلق بعلم تجريبي ؛ ولذلك عندما جاء " دارون " وأراد أن يتكبر ويتكلم، جاءت النظرية الحديثة لتهدم كلامه، قالت النظرية الحديثة لدارون : إن الأمور التي أثرت في القرد الأول ليكون إنسانا، لماذا لم تؤثر في بقية القرود ليكونوا أناسا وينعدم جنس القرود ؟ ! وهذا سؤال لا يجيب عليه دارون ؛ لذلك نقول : هذا أمر لم نشهده فيجب أن نستمع ممن فعل، والحق سبحانه يقول :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ٥١ ﴾( سورة الكهف ).
ومادام لم يشهدهم، فهل يستطيع أحد منهم أن يأتي بعلم فيها ؟ إن أحدا لا يأتي بعلم فيها، وبعد ذلك يرد على من يجيء بادعاء علم فيقول :" وما كنت متخذ المضلين عضدا "، معنى مضلين أنهم سيضلونكم في الخلق. كأن الله أعطانا مناعة في الأقوال الزائفة التي يمكن أن تنشأ من هذا عندما قال :" وما كنت متخذ المضلين عضدا "، فقد أوضح لنا طبيعة من يضللون في أصل الخلق وفي كيفية الخلق، فهم لم يكونوا مع الله ليعاونوه ساعة الخلق حتى يخبروا البشر بكيفية الخلق. فإن أردتم أن تعرفوا فاعلموا أنه سبحانه الذي يقول كيف خلقتم وعلى أي صورة كنتم، ولكن من يقول كذا وكذا، هم المضللون، و " المضللون " هم الذين يلفتونكم عن الحق إلى الباطل.
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى ؟ لأنه عندما يرد الشيء إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى، وإنما هذه ردت إلى واحدة فقط، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة، أما عن نظرية " دارون " وما قاله من كلام فقد قيض الله لقضية الدين وخاصة قضية الإسلام علماء من غير المسلمين اهتدوا إلى دليل يوافق القرآن، فقام العالم الفرنسي " مونيه "، عندما أراد أن يرد على الخرافات التي يقولونها من أصل الإنسان كذا وكذا، وقال : أنا أعجب ممن يفكرون هذا التفكير، هل توجد المصادفة ما نسميه " ذكرا " ثم توجد المصادفة شخصا نسميه " أنثى " ويكون من جنسه لكنه مختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا جاءا بذكر كالأول أو بأنثى كالثاني ؟.
كيف تفعل المصادفة هذه العملية ؟
سنسلم أن المصادفة خلقت آدم، فهل المصادفة أيضا خلقت له واحدة من جنسه. ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا ينشأ بينهما سيال عاطفي جارف وهو أعنف الغرائز، ثم ينشأ منهما تلقيح ينشئ ذكرا كالأول أو ينشئ أنثى كالثاني ؟ أي مصادفة هذه ؟ هذه المصادفة تكون عاقلة وحكيمة، سموها مصادفة ونحن نسميها الله.
لقد ظن " مونيه " هداه الله إلى الإسلام وغفر له أنه جاء بالدليل الذي يرد به على دارون، نقول له : إن القرآن قد مس هذه المسألة حين قال :" اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها "، وهذه هي العظمة، إنه خلق الرجل وخلق الأنثى ؛ وهي من جنسه، ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا أنشأ الله منهما رجالا ونساء. إذن فهو عملية مقصودة، وعناية وغاية وحكمة، إذن فقول الله سبحانه وتعالى :" الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ". هذه جاءت بالدليل الذي هدي إليه العالم الفرنسي " مونيه " أخيرا.
" وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " وانظروا عظمة الأسلوب في قوله " وبث " أي " نشر " وسنقف عند كلمة " نشر " لأن الخلق يجب أن ينتشروا في الأرض، كي يأخذوا جميعا من خيرات الله في الأرض جميعا.
و " النشر " معناه تفريق المنشور في الحيز، فهناك شيء مطوي وشيء آخر منشور، والشيء المطوي فيه تجمع، والشيء المنشور فيه تفرق وتوزيع، إذن فحيز الشيء المتجمع ضيق، وحيز الشيء المبثوث واسع، معنى هذا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول :" وبث منهما " أي من آدم وحواء " رجالا كثيرا ونساء " واكتفى بأن يقول " نساء " ولم يقل : كثيرات لماذا ؟ لأن المفروض في كل ذكورة أن تكون أقل في العدد من الأنوثة. وأنت إذا نظرت مثلا في حقل فيه نخل، تجد كم ذكرا من النخل وكم أنثى ؟ ستجد ذكرا أو اثنين.
إذن القلة في الذكور مقصودة لأن الذكر مخصب ويستطيع الذكر أن يخصب آلافا، فإذا قال الله :" وبث منهما رجالا كثيرا " فالذكورة هي العنصر الذي يفترض أن يكون أقل كثيرا، فماذا عن العنصر الثاني وهو الأنوثة ؟ لا بد ان يكون أكثر، والقرآن يأتي لينبهك إلى المعطيات في الألفاظ لأن المتكلم الله، ولكن إذا نظرت لقوله :" وبث منهما " أي من آدم وحواء وهما اثنان " رجالا كثيرا ونساء ". فتكون جمعا وهذا ليدلك على أن المتكاثر يبدأ بقلة ثم ينتهي بكثرة.
ونريد أن نفهم هذه كي نأخذ منها الدليل الإحصائي على وجود الخالق، فهو " بث منهما رجالا كثيرا ونساء " والجمع البشري الذي ظهر من الاثنين سيبث منه أكثر.. وبعد ذلك يبث من المبثوث الثاني مبثوثا ثالثا، وكلما امتددنا في البث تنشأ كثرة، وعندما تنظر لأي بلد من البلاد تجد تعداده منذ قرن مضى أقل بكثير جدا من تعداده الآن، مثال ذلك كان تعداد مصر منذ قرن لا يتعدى خمسة ملايين، ومن قرنين كان أقل عددا، ومن عشرة قرون كان أقل، ومن عشرين قرنا كان أقل، إذن فكلما امتد بك المستقبل فالتعداد يزيد، لأنه سبحانه يبث من الذكورة والأنوثة رجالا كثيرا ونساء وسيبث منهم أيضا عددا أكبر.
إذن فكلما تقدم الزمن تحدث زيادة في السكان، ونحن نرى ذلك في الأسرة الواحدة، إن الأسرة الواحدة مكونة عادة من أب وأم، وبعد ذلك يمكن أن نرى منهما أبناء وأحفادا وعندما يطيل الله في عمر أحد الوالدين يرى الأحفاد وقد يرى أحفاد الأحفاد. إذن كلما تقدم الزمن بالمتكاثر من اثنين يزداد وكلما رجعت إلى الماضي يقل ؛ فالذين كانوا مليونا من قرن كانوا نصف مليون من قرنين، وسلسلها حتى يكونوا عشرة فقط، والعشرة كانوا أربعة، والأربعة كانوا اثنين والاثنان هما آدم وحواء.
فعندما يقول الحق : إنه خلق آدم وحواء، وتحاول أنت أن تسلسل العالم كله سترجعه لهما، ومادام التكاثر ينشأ من الإثنين، فمن أين جاءا ؟ الحق سبحانه يوضح لنا ذلك بقوله :" إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " وهو بذلك يريحنا من علم الإحصاء. وكان من الضروري أن تأتي هذه الآية كي تحل لنا اللغز في الإحصاء، وكلما أتى الزمن المستقبل كثر العالم وكلما ذهبنا إلى الماضي قل التعداد إلى أن يصير وينتهي إلى اثنين، وإياك أن تقول إلى واحد، لأن واحدا لاياتي منه تكاثر فالتكاثر ياتي من اثنين ومن اين جاء الاثنان ؟ لابد ان احدا خلقهما، وهو قادر على هذا، ويعلمنا الله ذلك فيقول :" خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " ونأخذ من " بث " " الانتشار "، ولو لم يقل الله هذا لكانت العقول الحديثة تتوه وتقع ف
والحق سبحانه وتعالى جاء في اليتيم الذي هو مظهر الضعف في الأسوة الإنسانية وأراد أن يقنن له فقال :﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ٢ ﴾.
وكيف نؤتي اليتيم ماله وهو لم يبلغ مبلغ الرجال بعد، ونخشى أن نعطيه المال، فيضيعه ؟.
انظر إلى دقة العبارة في قوله من بعد ذلك :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾( من الآية ٦ سورة النساء ).
وقبل ذلك ماذا نفعل ؟ هل ندفع لهم الأموال ؟ الحق يوضح أنك ساعة تكون وليا على مال اليتيم فاحرص جيدا أن تعطي هذا اليتيم ماله كاملا بعد أن يستكمل نضجه كاملا، فأنت حفيظ على هذا المال، وإياك أن تخلط مالك بماله أو تتبدل منه، أي تأخذ الجميل والثمين من عنده وتعطيه من مالك الأقل جمالا أو فائدة.
إذن فقوله :" وآتوا اليتامى أموالهم " أي أن الله جعل المال لليتيم ولم يجعل للقيم عليه أن يتصرف في هذا المال إلا تصرف صيانة، وأيضا هنا ملحظ آخر هو ما شرحه لنا " وابتلوا اليتامى " فهناك أناس يريدون ان يطيلوا أمد الوصاية على اليتيم، لكي ينتفع الواحد منهم بهذا المال فيوضح سبحانه : لا تنتظر إلى أن يبلغ الرشد ثم تقول ننظره، لا. أنت تدربه بالتجربة في بعض التصرفات وتنظر أسيحسن التصرف أم لا ؟.
إن قول الحق :" وابتلوا اليتامى " أي اختبروهم، هل يستطيعون أن يقوموا بمصالحهم وحدهم ؟ فإن استطاعوا فاطمئنوا إلى أنهم ساعة يصلون إلى حد الحلم سيحسنون التصرف، أعطوهم أموالهم بعد التجربة ؛ لأن اليتيم يعيش في قصور عمري، وهو سبحانه يفرق بين اليتيم والسفيه، فالسفيه لا يعاني من قصور عمري بل من قصور عقلي، وعندما تكلم سبحانه عن هذه المسألة قال :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾( من الآية ٥ سورة النساء ).
فهل هي أموالكم ؟ لا. فحين يكون المرء سفيها فاعلم أنه لا إدارة له على ملكه، وتنتقل إدارة الملكية إلى من يتصرف في المال تصرفا حكيما، فاحرص على أن تدير مال السفيه كأنه مالك ؛ لأنه ليس له قدرة على حسن التصرف. لكن لما يبلغ اليتيم إلى مرحلة الباءة والنكاح والرشد يقول الحق :﴿ فادفعوا إليهم أموالهم ﴾( من الآية ٦ سورة النساء ).
إنه سبحانه يقول مرة في الوصاية :" أموالكم " وفي العطاء يقول :" أموالهم " إذن فهو يريد ألا تبدد المال، ثم يوضح. احرص على ثروة اليتيم أو السفيه وكأنها مالك ؛ لأنه مادام سفيها فمسئولية الولاية مطلوبة منك، والمال ليس ملكا لك. خذ منه ما يقابل إدارة المال وقت السفه أو اليتم، وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعلم القائمين على أمر اليتامى أو على أمر السفهاء الذين لا يحسنون إدارة أموالهم فيقول :﴿ وارزقوهم فيها ﴾( من الآية ٥ سورة النساء ).
اجعلوا الرزق مما يخرج منها، وإياكم أن تبقوها عندكم، وإلا فما قيمة ولايتك ووصايتك وقيامك على أمر السفيه أو اليتيم ؟ إنك تثمر له المال لا ان تأكله أو لا تحسن التصرف فيه بحيث ينقص كل يوم، لا. " وارزقوهم فيها "، و " في " هنا للسببية، أي ارزقوهم بسببها، ارزقوهم رزقا خارجا منها.
" وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " والخبيث هو الحرام والطيب هو الحلال، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، فقد يكون ضمن مال اليتيم شيء جميل فيأخذه الوصي لنفسه ويستبدله بمثل له قبيح، مثال ذلك، أن يكون ضمن مال اليتيم فرس جميل، وعند الوصي فرس قبيح فيأخذه ويقول : فرس بفرس، أو جاموسة مكان جاموسة، أو نخلة طيبة بنخلة لا تثمر، هنا يقول الحق :" ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ".
وقوله سبحانه وتعالى :" ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " يعني إياكم ألا تجعلوا فرقا بين أموالهم وأموالكم فتأكلوا هذه مع تلك، بل فرقوا بين أكل أموالكم والحفاظ على أموالهم لماذا ؟ تأتي الإجابة :" إنه كان حوبا كبيرا " أي إثما فظيعا.
وكيف نؤتي اليتيم ماله وهو لم يبلغ مبلغ الرجال بعد، ونخشى أن نعطيه المال، فيضيعه ؟.
انظر إلى دقة العبارة في قوله من بعد ذلك :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾( من الآية ٦ سورة النساء ).
وقبل ذلك ماذا نفعل ؟ هل ندفع لهم الأموال ؟ الحق يوضح أنك ساعة تكون وليا على مال اليتيم فاحرص جيدا أن تعطي هذا اليتيم ماله كاملا بعد أن يستكمل نضجه كاملا، فأنت حفيظ على هذا المال، وإياك أن تخلط مالك بماله أو تتبدل منه، أي تأخذ الجميل والثمين من عنده وتعطيه من مالك الأقل جمالا أو فائدة.
إذن فقوله :" وآتوا اليتامى أموالهم " أي أن الله جعل المال لليتيم ولم يجعل للقيم عليه أن يتصرف في هذا المال إلا تصرف صيانة، وأيضا هنا ملحظ آخر هو ما شرحه لنا " وابتلوا اليتامى " فهناك أناس يريدون ان يطيلوا أمد الوصاية على اليتيم، لكي ينتفع الواحد منهم بهذا المال فيوضح سبحانه : لا تنتظر إلى أن يبلغ الرشد ثم تقول ننظره، لا. أنت تدربه بالتجربة في بعض التصرفات وتنظر أسيحسن التصرف أم لا ؟.
إن قول الحق :" وابتلوا اليتامى " أي اختبروهم، هل يستطيعون أن يقوموا بمصالحهم وحدهم ؟ فإن استطاعوا فاطمئنوا إلى أنهم ساعة يصلون إلى حد الحلم سيحسنون التصرف، أعطوهم أموالهم بعد التجربة ؛ لأن اليتيم يعيش في قصور عمري، وهو سبحانه يفرق بين اليتيم والسفيه، فالسفيه لا يعاني من قصور عمري بل من قصور عقلي، وعندما تكلم سبحانه عن هذه المسألة قال :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾( من الآية ٥ سورة النساء ).
فهل هي أموالكم ؟ لا. فحين يكون المرء سفيها فاعلم أنه لا إدارة له على ملكه، وتنتقل إدارة الملكية إلى من يتصرف في المال تصرفا حكيما، فاحرص على أن تدير مال السفيه كأنه مالك ؛ لأنه ليس له قدرة على حسن التصرف. لكن لما يبلغ اليتيم إلى مرحلة الباءة والنكاح والرشد يقول الحق :﴿ فادفعوا إليهم أموالهم ﴾( من الآية ٦ سورة النساء ).
إنه سبحانه يقول مرة في الوصاية :" أموالكم " وفي العطاء يقول :" أموالهم " إذن فهو يريد ألا تبدد المال، ثم يوضح. احرص على ثروة اليتيم أو السفيه وكأنها مالك ؛ لأنه مادام سفيها فمسئولية الولاية مطلوبة منك، والمال ليس ملكا لك. خذ منه ما يقابل إدارة المال وقت السفه أو اليتم، وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعلم القائمين على أمر اليتامى أو على أمر السفهاء الذين لا يحسنون إدارة أموالهم فيقول :﴿ وارزقوهم فيها ﴾( من الآية ٥ سورة النساء ).
اجعلوا الرزق مما يخرج منها، وإياكم أن تبقوها عندكم، وإلا فما قيمة ولايتك ووصايتك وقيامك على أمر السفيه أو اليتيم ؟ إنك تثمر له المال لا ان تأكله أو لا تحسن التصرف فيه بحيث ينقص كل يوم، لا. " وارزقوهم فيها "، و " في " هنا للسببية، أي ارزقوهم بسببها، ارزقوهم رزقا خارجا منها.
" وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " والخبيث هو الحرام والطيب هو الحلال، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، فقد يكون ضمن مال اليتيم شيء جميل فيأخذه الوصي لنفسه ويستبدله بمثل له قبيح، مثال ذلك، أن يكون ضمن مال اليتيم فرس جميل، وعند الوصي فرس قبيح فيأخذه ويقول : فرس بفرس، أو جاموسة مكان جاموسة، أو نخلة طيبة بنخلة لا تثمر، هنا يقول الحق :" ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ".
وقوله سبحانه وتعالى :" ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " يعني إياكم ألا تجعلوا فرقا بين أموالهم وأموالكم فتأكلوا هذه مع تلك، بل فرقوا بين أكل أموالكم والحفاظ على أموالهم لماذا ؟ تأتي الإجابة :" إنه كان حوبا كبيرا " أي إثما فظيعا.
ثم ينتقل الحق إلى قضية أخرى يجتمع فيها ضعف اليتم، وضعف النوع : ضعف اليتم سواء أكان ذكرا أم أنثى، وإن كانت أنثى فالبلوى أشد ؛ فهي قد اجتمع عليها ضعف اليتم وضعف النوع، طبعا فاليتيمة عندما تكون تحت وصاية وليها، يجوز أن يقول : إنها تملك مالا فلماذا لا أتزوجها لكي آخذ المال ؟ وهذا يحدث كثيرا.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ٣ ﴾.
هنا يؤكد الحق الأمر بأن ابتعدوا عن اليتامى. فاليتيم مظنة ان يظلم لضعفه، وبخاصة إذا كان أنثى. إن الظلم بعامة محرم في غير اليتامى، ولكن الظلم مع الضعيفة كبير، فهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها، فالمبالغة الرشيدة من النساء قد تستطيع أن تدفع الظلم عن نفسها. وقوله الحق : " وإن خفتم ألا تقسطوا " من " أقسط "، أي عدل، والقسط من الألفاظ التي تختلط الأذهان فيها، و " القسط " مرة يطلق ويراد به " العدل "، إذا كان مكسور القاف، ولذلك يأتي الحق سبحانه فيقول :
﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ١٨ ﴾ ( سورة آل عمران ).
وهكذا نعرف أن كلمة " قسط " تأتي مرة للعدل ومرة للجور.
ف " قسط " " يقسط " " قسطا " و " قسوطا " أي ظلم بفتح القاف في " قسط وضمها في " قسوط ".
والقسط بكسر القاف هو العدل.. والقسط بفتح القاف كما قلنا هو الظلم. وهناك مصدر ثان هو " قسوط " لكن الفعل واحد، وعندما يقول الحق :" وإن خفتم ألا تقسطوا " من أقسط. أي خفتم من عدم العدل وهو الظلم. وهناك في اللغة ما نسميه همزة الإزالة، وهي همزة تدخل على الفعل فتزيله، مثال ذلك : فلان عتب على فلان، أي لامه على تصرف ما، ويقال لمن تلقى العتاب عندما يرد على صاحب العتاب : أعتبه، أي طمأن خاطره وأزال مصدر العتاب.
ويقال : محمد عتب على علي. فماذا كان موقف علي ؟ يقال : أعتب محمدا أي طيب خاطره وأزال العتاب. ويقال أعجم الكتاب. فلا تفهم من ذلك أنه جعل الكتاب معجما، لا، فأعجمه أي أزال إبهامه وغموضه. كذلك " أقسط. أي ازال القسط والظلم اذن القسط هو العدل من اول الامر لكن اقسط إقساطا " تعني انه كان هناك جور أو ظلم وتم رفعه. والأمر ينتهي جميعه إلى العدل. فالعدل إن جاء ابتداء هو : قسط بكسر القاف. وإن جاء بعد جور تمت إزالته فهو إقساط. فحين يقال " أقسط " و " تقسطوا " بالضم، فمعناها انه كان هناك جور وظلم تم رفعه، ولذلك فعندما نقرأ القرآن نجده يقول :
﴿ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ١٥ ﴾( سورة الجن ).
والقاسطون هنا من القسط بالفتح ومن القسوط بالضم، أي من الجور والظلم، ونجد القرآن الكريم يقول أيضا :
﴿ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ﴾ ( من الآية ٤٢ سورة المائدة ).
أي أن الله يحب الذين إن رأوا ظلما أزالوه واحلوا محله العدل.
الحق هنا في سورة النساء يقول :" وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " أي إن خفتم ألا ترفعوا الظلم عن اليتامى، ومعنى أن تخاف من ألا تقسط لأنك بار تعرف كيف تنقذ نفسك من مواطن الزلل. أي فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها. وإن أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء.
ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا، فهو لم يقل : اترك واحدة وخذ واحدة، لكنه أوضح : اترك اليتيمة وأمامك النساء كثيرات. إذن فقد ناسب الحال أن تجيء مسألة التعدد هنا، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولي عن نكاح اليتيمات مخافة أن يظلمهن، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة ؛ لأن النساء غيرها كثيرات. " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ".
وقوله الحق :" ما طاب لكم من النساء " أي غير المحرمات في قوله تعالى :
﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ٢٢ ﴾( سورة النساء ).
وفي قوله سبحانه :
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ٢٣ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ﴾ ( سورة النساء ).
إذن فما طاب لكم من النساء غير المحرمات هن اللاتي يحللن للرجل " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة او ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " وهنا يجب ان نفهم لماذا جاء هذا النص ؛ ولماذا جاء بالمثنى والثلاث والرباع هنا ؟.
إنه سبحانه يريد أن يزهد الناس في نكاح اليتيمات مخافة أن تأتي إلى الرجل لحظة ضعف فيتزوج اليتيمة ظالما لها، فأوضح سبحانه : اترك اليتيمة، والنساء غيرها كثير، فأمامك مثنى وثلاث ورباع، وابتعد عن اليتيمة حتى لا تكون طامعا في مالها أو ناظرا إلى ضعفها أو لأنها لم يعد لها ولي يقوم على شأنها غيرك.
ونريد أن نقف هنا وقفة أمام قوله تعالى :" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ما معنى مثنى ؟ يقال " مثنى " أي اثنين مكررة، كأن يقال : جاء القوم مثنى، أي ساروا في طابور وصف مكون من اثنين اثنين. هذا يدل على الوحدة الجائية.
ويقال : جاء القوم ثلاث، أي ساروا في طابور مكون من ثلاثة ؛ ثلاثة ويقال : جاء القوم رباع. أي جاء القوم في طابور يسير فيه كل أربعة خلف أربعة أخرى.
ولو قال واحد : إن المقصود بالمثنى والثلاث والرباع أن يكون المسموح به تسعة من النساء. نقول له : لو حسبنا بمثل ما تحسب، لكان الأمر شاملا لغير ما قصد الله، فالمثنى تعني أربعة، والثلاث تعني ستة، والرباع تعني ثمانية، وبذلك يكون العدد ثمانية عشر، ولكنك لم تفهم، لأن الله لا يخاطب واحدا، لكن الله يخاطب جماعة، فيقول :" وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ".
فإذا قال مدرس لتلاميذه : افتحوا كتبكم، أيعني هذا الأمر أن يأتي واحد ليفتح كل الكتب ؟ لا، إنه أمر لكل تلميذ بأن يفتح كتابه، لهذا فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا.
وعندما يقول المدرس : أخرجوا أقلامكم. أي على كل تلميذ أن يخرج قلمه.
وعندما يقال : اركبوا سياراتكم، أي أن يركب كل واحد سيارته. إذن فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، وقوله الحق :" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " هو قول يخاطب جماعة، فواحد ينكح اثنتين وآخر ينكح ثلاث نساء وثالث ينكح أربع نساء.
والحق سبحانه وتعالى حينما يشرع الحكم يشرعه مرة إيجابا ومرة يشرعه إباحة، فلم يوجب ذلك الأمر على الرجل، ولكنه أباح للرجل ذلك، وفيه فرق واضح بين الإيجاب وبين الإباحة. والزواج نفسه حتى من واحدة مباح. إذن ففيه فرق بين أن يلزمك الله أن تفعل وأن يبيح لك أن تفعل. وحين يبيح الله لك أن تفعل، ما المرجح في فعلك ؟ إنه مجرد رغبتك.
ولكن إذا أخذت الحكم، فخذ الحكم من كل جوانبه، فلا تأخذ الحكم، بإباحة التعدد ثم تكف عن الحكم بالعدالة، وإلا سينشأ الفساد في الأرض، وأول هذا الفساد أن يتشكك الناس في حكم الله. لماذا ؟ لأنك إن أخذت التعدد، وامتنعت عن العدالة فأنت تكون قد أخذت شقا من الحكم، ولم تأخذ الشق الآخر وهو العدل، فالناس تجنح أما التعدد وتبتعد وتميل عنه لماذا ؟ لأن الناس شقوا كثيرا بالتعدد أخذا لحكم الله في التعدد وتركا لحكم الله في العدالة.
والمنهج الإلهي يجب أن يؤخذ كله، فلماذا تكره الزوجة التعدد ؟ لأنها وجدت أن الزوج إذا ما تزوج واحدة عليها التفت بكليته وبخيره وببسمته وحنانه إلى الزوجة الجديدة، لذلك فلابد للمرأة ان تكره زواج الرجل عليها بامرأة أخرى.
إن الذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب ان يلزموا انفسهم بحكم الله أيضا في العدالة، فان لم يفعلوا فهم يشيعون التمرد على حكم الله، وسيجد الناس حيثيات لهذا التمرد، وسيقال : انظر، إن فلانا تزوج بأخرى وأهمل الأولى، او ترك أولاده دون رعاية واتجه إلى الزوجة الجديدة.
فكيف تأخذ إباحة الله في شيء ولا تأخذ إلزامه في شيء آخر، إن من يفعل ذلك يشكك الناس في حكم الله، ويجعل الناس تتمرد على حكم الله والسطحيون في الفهم يقولون : إنهم معذورون، وهذا منطق لا يتأتى.
إن آفة الأحكام أن يؤخذ حكم جزئي دون مراعاة الظروف كلها، والذي يأخذ حكما عن الله لا بد أن يأخذ كل منهج الله.
هات إنسانا عدل في العشرة وفي النفقة وفي البيتوتة وفي المكان وفي الزمان ولم يرجح واحدة على أخرى، فالزوجة الأولى إن فعلت شيئا فهي لن تجد حيثية لها أمام الناس. أما عندما يكون الأمر غير ذلك فإنها سوف تجد الحيثية للاعتراض، والصراخ الذي نسمعه هذه الأيام إنما نشأ من أن بعضا قد أخذ حكم الله في إباحة التعدد ولم يأخذ حكم الله في عدالة المعدد. والعدالة تكون في الأمور التي للرجل فيها خيار. أما الأمور التي لا خيار للرجل فيها فلم يطالبه الله بها.
ومن السطحيين من يقول : إن الله قال : اعدلوا، ثم حكم أننا لا نستطيع أن نعدل. نقول لهم : بالله أهذا تشريع ؟، أيعطي الله باليمين ويسحب بالشمال ؟ ألم يشرع الحق على عدم الاستطاعة فقال :
﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ١٢٩ ﴾( سورة النساء ).
وما دام قد شرع على عدم الاستطاعة في العدل المطلق فهو قد أبقى الحكم ولم يلغه، وعلى المؤمن ألا يجعل منهج الله له في حركة حياته عضين بمعنى أنه يأخذ حكما في صالحه ويترك حكما إن كان عليه. فالمنهج من الله يؤخذ جملة واحدة من كل الناس ؛ لأن أي انحراف في فرد من أفراد الأمة الإسلامية يصيب المجموع بضرر. فكل حق لك هو واجب عند غيرك، فإن أردت أن تأخذ حقك فأد واجبك. والذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يأخذوا حكم الله أيضا في العدل، وإلا أعطوا خصوم دين الله حججا قوية في إبطال ما شرع الله، وتغير ما شرع الله بحجة ما يرونه من آثار أخذ حكم وإهمال حكم آخر.
والعدل المراد في التعدد هو القسمة بالسوية في المكان، أي أن لكل واحدة من المتعددات مكانا يساوي مكان الأخرى، وفي الزمان، وفي متاع المكان، وفيما يخص الرجل من متاع نفسه، فليس له أن يجعل شيئا له قيمة عند واحدة، وشيئا لا قيمة له عند واحدة أخرى، يأتي مثلا ببجامة " منامة " صوف ويضعها عند واحدة، ويأتي بأخرى من قماش أقل جودة ويضعها عن واحدة، لا. لا بد من المساواة، لا في متاعها فقط، بل متاعك أنت الذي تتمتع به عندها، حتى أن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي بينهن في النعال التي يلبسها في بيته، فيأت
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ٣ ﴾.
هنا يؤكد الحق الأمر بأن ابتعدوا عن اليتامى. فاليتيم مظنة ان يظلم لضعفه، وبخاصة إذا كان أنثى. إن الظلم بعامة محرم في غير اليتامى، ولكن الظلم مع الضعيفة كبير، فهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها، فالمبالغة الرشيدة من النساء قد تستطيع أن تدفع الظلم عن نفسها. وقوله الحق : " وإن خفتم ألا تقسطوا " من " أقسط "، أي عدل، والقسط من الألفاظ التي تختلط الأذهان فيها، و " القسط " مرة يطلق ويراد به " العدل "، إذا كان مكسور القاف، ولذلك يأتي الحق سبحانه فيقول :
﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ١٨ ﴾ ( سورة آل عمران ).
وهكذا نعرف أن كلمة " قسط " تأتي مرة للعدل ومرة للجور.
ف " قسط " " يقسط " " قسطا " و " قسوطا " أي ظلم بفتح القاف في " قسط وضمها في " قسوط ".
والقسط بكسر القاف هو العدل.. والقسط بفتح القاف كما قلنا هو الظلم. وهناك مصدر ثان هو " قسوط " لكن الفعل واحد، وعندما يقول الحق :" وإن خفتم ألا تقسطوا " من أقسط. أي خفتم من عدم العدل وهو الظلم. وهناك في اللغة ما نسميه همزة الإزالة، وهي همزة تدخل على الفعل فتزيله، مثال ذلك : فلان عتب على فلان، أي لامه على تصرف ما، ويقال لمن تلقى العتاب عندما يرد على صاحب العتاب : أعتبه، أي طمأن خاطره وأزال مصدر العتاب.
ويقال : محمد عتب على علي. فماذا كان موقف علي ؟ يقال : أعتب محمدا أي طيب خاطره وأزال العتاب. ويقال أعجم الكتاب. فلا تفهم من ذلك أنه جعل الكتاب معجما، لا، فأعجمه أي أزال إبهامه وغموضه. كذلك " أقسط. أي ازال القسط والظلم اذن القسط هو العدل من اول الامر لكن اقسط إقساطا " تعني انه كان هناك جور أو ظلم وتم رفعه. والأمر ينتهي جميعه إلى العدل. فالعدل إن جاء ابتداء هو : قسط بكسر القاف. وإن جاء بعد جور تمت إزالته فهو إقساط. فحين يقال " أقسط " و " تقسطوا " بالضم، فمعناها انه كان هناك جور وظلم تم رفعه، ولذلك فعندما نقرأ القرآن نجده يقول :
﴿ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ١٥ ﴾( سورة الجن ).
والقاسطون هنا من القسط بالفتح ومن القسوط بالضم، أي من الجور والظلم، ونجد القرآن الكريم يقول أيضا :
﴿ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ﴾ ( من الآية ٤٢ سورة المائدة ).
أي أن الله يحب الذين إن رأوا ظلما أزالوه واحلوا محله العدل.
الحق هنا في سورة النساء يقول :" وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " أي إن خفتم ألا ترفعوا الظلم عن اليتامى، ومعنى أن تخاف من ألا تقسط لأنك بار تعرف كيف تنقذ نفسك من مواطن الزلل. أي فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها. وإن أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء.
ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا، فهو لم يقل : اترك واحدة وخذ واحدة، لكنه أوضح : اترك اليتيمة وأمامك النساء كثيرات. إذن فقد ناسب الحال أن تجيء مسألة التعدد هنا، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولي عن نكاح اليتيمات مخافة أن يظلمهن، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة ؛ لأن النساء غيرها كثيرات. " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ".
وقوله الحق :" ما طاب لكم من النساء " أي غير المحرمات في قوله تعالى :
﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ٢٢ ﴾( سورة النساء ).
وفي قوله سبحانه :
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ٢٣ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ﴾ ( سورة النساء ).
إذن فما طاب لكم من النساء غير المحرمات هن اللاتي يحللن للرجل " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة او ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " وهنا يجب ان نفهم لماذا جاء هذا النص ؛ ولماذا جاء بالمثنى والثلاث والرباع هنا ؟.
إنه سبحانه يريد أن يزهد الناس في نكاح اليتيمات مخافة أن تأتي إلى الرجل لحظة ضعف فيتزوج اليتيمة ظالما لها، فأوضح سبحانه : اترك اليتيمة، والنساء غيرها كثير، فأمامك مثنى وثلاث ورباع، وابتعد عن اليتيمة حتى لا تكون طامعا في مالها أو ناظرا إلى ضعفها أو لأنها لم يعد لها ولي يقوم على شأنها غيرك.
ونريد أن نقف هنا وقفة أمام قوله تعالى :" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ما معنى مثنى ؟ يقال " مثنى " أي اثنين مكررة، كأن يقال : جاء القوم مثنى، أي ساروا في طابور وصف مكون من اثنين اثنين. هذا يدل على الوحدة الجائية.
ويقال : جاء القوم ثلاث، أي ساروا في طابور مكون من ثلاثة ؛ ثلاثة ويقال : جاء القوم رباع. أي جاء القوم في طابور يسير فيه كل أربعة خلف أربعة أخرى.
ولو قال واحد : إن المقصود بالمثنى والثلاث والرباع أن يكون المسموح به تسعة من النساء. نقول له : لو حسبنا بمثل ما تحسب، لكان الأمر شاملا لغير ما قصد الله، فالمثنى تعني أربعة، والثلاث تعني ستة، والرباع تعني ثمانية، وبذلك يكون العدد ثمانية عشر، ولكنك لم تفهم، لأن الله لا يخاطب واحدا، لكن الله يخاطب جماعة، فيقول :" وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ".
فإذا قال مدرس لتلاميذه : افتحوا كتبكم، أيعني هذا الأمر أن يأتي واحد ليفتح كل الكتب ؟ لا، إنه أمر لكل تلميذ بأن يفتح كتابه، لهذا فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا.
وعندما يقول المدرس : أخرجوا أقلامكم. أي على كل تلميذ أن يخرج قلمه.
وعندما يقال : اركبوا سياراتكم، أي أن يركب كل واحد سيارته. إذن فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، وقوله الحق :" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " هو قول يخاطب جماعة، فواحد ينكح اثنتين وآخر ينكح ثلاث نساء وثالث ينكح أربع نساء.
والحق سبحانه وتعالى حينما يشرع الحكم يشرعه مرة إيجابا ومرة يشرعه إباحة، فلم يوجب ذلك الأمر على الرجل، ولكنه أباح للرجل ذلك، وفيه فرق واضح بين الإيجاب وبين الإباحة. والزواج نفسه حتى من واحدة مباح. إذن ففيه فرق بين أن يلزمك الله أن تفعل وأن يبيح لك أن تفعل. وحين يبيح الله لك أن تفعل، ما المرجح في فعلك ؟ إنه مجرد رغبتك.
ولكن إذا أخذت الحكم، فخذ الحكم من كل جوانبه، فلا تأخذ الحكم، بإباحة التعدد ثم تكف عن الحكم بالعدالة، وإلا سينشأ الفساد في الأرض، وأول هذا الفساد أن يتشكك الناس في حكم الله. لماذا ؟ لأنك إن أخذت التعدد، وامتنعت عن العدالة فأنت تكون قد أخذت شقا من الحكم، ولم تأخذ الشق الآخر وهو العدل، فالناس تجنح أما التعدد وتبتعد وتميل عنه لماذا ؟ لأن الناس شقوا كثيرا بالتعدد أخذا لحكم الله في التعدد وتركا لحكم الله في العدالة.
والمنهج الإلهي يجب أن يؤخذ كله، فلماذا تكره الزوجة التعدد ؟ لأنها وجدت أن الزوج إذا ما تزوج واحدة عليها التفت بكليته وبخيره وببسمته وحنانه إلى الزوجة الجديدة، لذلك فلابد للمرأة ان تكره زواج الرجل عليها بامرأة أخرى.
إن الذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب ان يلزموا انفسهم بحكم الله أيضا في العدالة، فان لم يفعلوا فهم يشيعون التمرد على حكم الله، وسيجد الناس حيثيات لهذا التمرد، وسيقال : انظر، إن فلانا تزوج بأخرى وأهمل الأولى، او ترك أولاده دون رعاية واتجه إلى الزوجة الجديدة.
فكيف تأخذ إباحة الله في شيء ولا تأخذ إلزامه في شيء آخر، إن من يفعل ذلك يشكك الناس في حكم الله، ويجعل الناس تتمرد على حكم الله والسطحيون في الفهم يقولون : إنهم معذورون، وهذا منطق لا يتأتى.
إن آفة الأحكام أن يؤخذ حكم جزئي دون مراعاة الظروف كلها، والذي يأخذ حكما عن الله لا بد أن يأخذ كل منهج الله.
هات إنسانا عدل في العشرة وفي النفقة وفي البيتوتة وفي المكان وفي الزمان ولم يرجح واحدة على أخرى، فالزوجة الأولى إن فعلت شيئا فهي لن تجد حيثية لها أمام الناس. أما عندما يكون الأمر غير ذلك فإنها سوف تجد الحيثية للاعتراض، والصراخ الذي نسمعه هذه الأيام إنما نشأ من أن بعضا قد أخذ حكم الله في إباحة التعدد ولم يأخذ حكم الله في عدالة المعدد. والعدالة تكون في الأمور التي للرجل فيها خيار. أما الأمور التي لا خيار للرجل فيها فلم يطالبه الله بها.
ومن السطحيين من يقول : إن الله قال : اعدلوا، ثم حكم أننا لا نستطيع أن نعدل. نقول لهم : بالله أهذا تشريع ؟، أيعطي الله باليمين ويسحب بالشمال ؟ ألم يشرع الحق على عدم الاستطاعة فقال :
﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ١٢٩ ﴾( سورة النساء ).
وما دام قد شرع على عدم الاستطاعة في العدل المطلق فهو قد أبقى الحكم ولم يلغه، وعلى المؤمن ألا يجعل منهج الله له في حركة حياته عضين بمعنى أنه يأخذ حكما في صالحه ويترك حكما إن كان عليه. فالمنهج من الله يؤخذ جملة واحدة من كل الناس ؛ لأن أي انحراف في فرد من أفراد الأمة الإسلامية يصيب المجموع بضرر. فكل حق لك هو واجب عند غيرك، فإن أردت أن تأخذ حقك فأد واجبك. والذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يأخذوا حكم الله أيضا في العدل، وإلا أعطوا خصوم دين الله حججا قوية في إبطال ما شرع الله، وتغير ما شرع الله بحجة ما يرونه من آثار أخذ حكم وإهمال حكم آخر.
والعدل المراد في التعدد هو القسمة بالسوية في المكان، أي أن لكل واحدة من المتعددات مكانا يساوي مكان الأخرى، وفي الزمان، وفي متاع المكان، وفيما يخص الرجل من متاع نفسه، فليس له أن يجعل شيئا له قيمة عند واحدة، وشيئا لا قيمة له عند واحدة أخرى، يأتي مثلا ببجامة " منامة " صوف ويضعها عند واحدة، ويأتي بأخرى من قماش أقل جودة ويضعها عن واحدة، لا. لا بد من المساواة، لا في متاعها فقط، بل متاعك أنت الذي تتمتع به عندها، حتى أن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي بينهن في النعال التي يلبسها في بيته، فيأت
وبعد ذلك يقول الحق :﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ٤ ﴾.
والمقصود ب " صدقاتهن " هو المهور، و " النحلة " هي العطية، وهل الصداق عطية ؟ لا. إنه حق وأجر بضع. ولكن الله يريد أن يوضح لنا : أي فليكن إيتاء المهور للنساء نحلة، أي وازع دين لا حكم قضاء، والنحلة هي العطية.
وانظر إلى اللمسات الإلهية والأداء الإلهي للمعاني، لأنك إن نظرت إلى الواقع فستجد الآتي :
الرجل يتزوج المراة، وللرجل في المرأة متعة، وللمرأة أيضا متعة أي أن كلا منهما له متعة وشركة في ذلك، وفي رغبة الإنجاب، وكان من المفترض ألا تأخذ شيئا، لأنها ستستمتع وأيضا قد تجد ولدا لها، وهي ستعمل في المنزل والرجل سيكدح خارج البيت، ولكن هذه عطية قررها الله كرامة للنساء " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " والأمر في " آتوا " لمن ؟ إما أن يكون للزوج فقوله :" وآتوا النساء صدقاتهن " يدل على أن المرأة صارت زوجة الرجل، وصار الرجل ملزما بالصداق ومن الممكن أن يكون دينا إذا تزوجها بمهر في ذمته يؤديه لها عند يساره، وإما أن يكون الأمر لولي أمرها فالذي كان يزوجه أخته مثلا، كان يأخذ المهر له ويتركها دون أن يعطيها مهرها، والأمر في هذه الآية إذن إما أن يكون للأزواج وإما أن يكون للأولياء. وحين يشرع الحق لحماية الحقوق فإنه يفتح المجال لأريحيات الفضل.
لذلك يقول :" فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ".
لقد عرف الحق الحقوق أولا بمخاطبة الزوج أو ولي الأمر في أن مهر الزوجة لها لأنه أجر البضع. ولكنه سبحانه فتح باب أريحية الفضل فإن تنازلت الزوجة فهذا أمر آخر، وهذا أدعى أن يؤصل العلاقة الزوجية أن يؤدم بينهما. والمراد هنا هو طيب النفس، وإياك أن تأخذ شيئا من مهر الزوجة التي تحث ولايتك بسبب الحياء، فالمهم أن يكون الأمر عن طيب نفس. " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ". والهنيء هو الشيء المأكول وتستسيغه حين يدخل فمك. لكنك قد تأكل شيئا هنيئا في اللذة وفي المضغ وفي الأكل ولكنه يورث متعبة صحية. إنه هنيء، لكنه غير مريء. والمقصود هو أن يكون طيب الطعم وليس له عواقب صحية رديئة. وهو يختلف عن الطعام الهنيء غير المريء الذي يأكله الإنسان فيطلب من بعده العلاج.
إذن فكل أكل يكون هنيئا ليس من الضروري أن يكون مريئا. وعلينا أن نلاحظ في الأكل أن يكون هنيئا مريئا.
والإمام علي رضوان الله عليه وكرم وجهه جاء له رجل يشتكي وجعا، والإمام علي كما نعرف مدينة العلم والفتيا، وهبه الله مقدرة على إبداء الرأي والفتوى.
لم يكن الإمام علي طبيبا.. لكن الرجل كان يطلب علاجا من فهم الإمام على وإشراقا ته.
قال الإمام علي للرجل : خذ من صداق امرأتك درهمين واشتر بهما عسلا، وأذب العسل في ماء مطر نازل لساعته أي قريب عهد بالله واشربه فإني سمعت الله يقول في الماء ينزل من السماء :
﴿ ونزلنا من السماء ماء مباركا ﴾( من الآية ٩ سورة ق ).
وسمعته سبحانه وتعالى يقول في العسل :
﴿ فيه شفاء للناس ﴾( من الآية ٦٩ سورة النحل ).
وسمعته يقول في مهر الزوجة :
﴿ فكلوه هنيئا مريئا ﴾ ( من الآية ٤ سورة النساء ).
فإذا اجتمع في دواء البركة والشفاء الهنيء والمريء عافاك الله إن شاء الله. لقد أخذ الإمام علي رضوان الله عليه وكرم الله وجهه عناصر أربعة ليمزجها ويصنع منها دواء ناجعا، كما يصنع الطبيب العلاج من عناصر مختلفة وقد صنع الإمام علي علاجا من آيات القرآن.
والمقصود ب " صدقاتهن " هو المهور، و " النحلة " هي العطية، وهل الصداق عطية ؟ لا. إنه حق وأجر بضع. ولكن الله يريد أن يوضح لنا : أي فليكن إيتاء المهور للنساء نحلة، أي وازع دين لا حكم قضاء، والنحلة هي العطية.
وانظر إلى اللمسات الإلهية والأداء الإلهي للمعاني، لأنك إن نظرت إلى الواقع فستجد الآتي :
الرجل يتزوج المراة، وللرجل في المرأة متعة، وللمرأة أيضا متعة أي أن كلا منهما له متعة وشركة في ذلك، وفي رغبة الإنجاب، وكان من المفترض ألا تأخذ شيئا، لأنها ستستمتع وأيضا قد تجد ولدا لها، وهي ستعمل في المنزل والرجل سيكدح خارج البيت، ولكن هذه عطية قررها الله كرامة للنساء " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " والأمر في " آتوا " لمن ؟ إما أن يكون للزوج فقوله :" وآتوا النساء صدقاتهن " يدل على أن المرأة صارت زوجة الرجل، وصار الرجل ملزما بالصداق ومن الممكن أن يكون دينا إذا تزوجها بمهر في ذمته يؤديه لها عند يساره، وإما أن يكون الأمر لولي أمرها فالذي كان يزوجه أخته مثلا، كان يأخذ المهر له ويتركها دون أن يعطيها مهرها، والأمر في هذه الآية إذن إما أن يكون للأزواج وإما أن يكون للأولياء. وحين يشرع الحق لحماية الحقوق فإنه يفتح المجال لأريحيات الفضل.
لذلك يقول :" فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ".
لقد عرف الحق الحقوق أولا بمخاطبة الزوج أو ولي الأمر في أن مهر الزوجة لها لأنه أجر البضع. ولكنه سبحانه فتح باب أريحية الفضل فإن تنازلت الزوجة فهذا أمر آخر، وهذا أدعى أن يؤصل العلاقة الزوجية أن يؤدم بينهما. والمراد هنا هو طيب النفس، وإياك أن تأخذ شيئا من مهر الزوجة التي تحث ولايتك بسبب الحياء، فالمهم أن يكون الأمر عن طيب نفس. " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ". والهنيء هو الشيء المأكول وتستسيغه حين يدخل فمك. لكنك قد تأكل شيئا هنيئا في اللذة وفي المضغ وفي الأكل ولكنه يورث متعبة صحية. إنه هنيء، لكنه غير مريء. والمقصود هو أن يكون طيب الطعم وليس له عواقب صحية رديئة. وهو يختلف عن الطعام الهنيء غير المريء الذي يأكله الإنسان فيطلب من بعده العلاج.
إذن فكل أكل يكون هنيئا ليس من الضروري أن يكون مريئا. وعلينا أن نلاحظ في الأكل أن يكون هنيئا مريئا.
والإمام علي رضوان الله عليه وكرم وجهه جاء له رجل يشتكي وجعا، والإمام علي كما نعرف مدينة العلم والفتيا، وهبه الله مقدرة على إبداء الرأي والفتوى.
لم يكن الإمام علي طبيبا.. لكن الرجل كان يطلب علاجا من فهم الإمام على وإشراقا ته.
قال الإمام علي للرجل : خذ من صداق امرأتك درهمين واشتر بهما عسلا، وأذب العسل في ماء مطر نازل لساعته أي قريب عهد بالله واشربه فإني سمعت الله يقول في الماء ينزل من السماء :
﴿ ونزلنا من السماء ماء مباركا ﴾( من الآية ٩ سورة ق ).
وسمعته سبحانه وتعالى يقول في العسل :
﴿ فيه شفاء للناس ﴾( من الآية ٦٩ سورة النحل ).
وسمعته يقول في مهر الزوجة :
﴿ فكلوه هنيئا مريئا ﴾ ( من الآية ٤ سورة النساء ).
فإذا اجتمع في دواء البركة والشفاء الهنيء والمريء عافاك الله إن شاء الله. لقد أخذ الإمام علي رضوان الله عليه وكرم الله وجهه عناصر أربعة ليمزجها ويصنع منها دواء ناجعا، كما يصنع الطبيب العلاج من عناصر مختلفة وقد صنع الإمام علي علاجا من آيات القرآن.
وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضايا اليتامى والسفهاء والمال والوصاية والقوامة، فيقول سبحانه :
﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ٥ ﴾.
ومن هو السفيه ؟ إنه الذي لا صلاح له في عقل ولا يستطيع أن يصرف ماله بالحكمة. ومن الذي يعطى ماله إلى سفيه ؟ إن الحق يقول ذلك ليعلمنا كيفية التصرف في المال ومثال على ذلك يقول الحق :
﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾( من الآية ١١ سورة الحجرات ).
هل أحد منا يلمز نفسه ؟ لا، ولكن الإنسان يلمز خصمه، ولمز الخصم يؤدي إلى لمز النفس لأن خصمه سيلمزه ويعيبه أو لأنكما سواء. إذن فقول الحق : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " يعني أن الله يريد أن يقول : إن السفيه يملك المال، إلا أن سفهه يمنعه من أن يحسن التصرف. وعدم التصرف الحكيم يذهب بالمال ويفسده، وحين يكون سفيها فالمال ليس له تصرفا وإدارة ولكن المال لمن يصلحه بالقوامة.
أو أن الحق سبحانه وتعالى يعالج قضية كان لها وجود في المجتمع وهي أن الرجل إذا ما كان له أبناء، وكبروا قليلا، فهو يحب أن يتملص من حركة الحياة، ويعطى لهم حق التصرف في المال. وإن كان تصرفهم لا يتفق مع الحكمة، فكأنه قال سبحانه :" لا " إياك أن تعطي أموالك للسفهاء بدعوى أنهم أولادك. وإياك أن تملك أولادك ما وهبه الله لك من رزقك ؛ لأن الله جعل من مالك قياما لك، وإياك أن تجعل قيامك أنت في يد غيرك.
" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما. وارزقوهم فيها " وهل السفيه لا يعيش ؟ وهل يأكل السفيه دون أكل الرشيد ؟ أيلبس السفيه دون لبس الرشيد ؟ أيسكن السفيه دون مسكن الرشيد ؟ أيبتسم الإنسان في وجه الرشيد ولا يبتسم في وجه السفيه ؟ لا ؛ لذلك يأمر الحق ويقول :" وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا " ذلك أمر بحسن معاملة السفيه، وإياكم أن تعيروهم بسفههم، ويكفيهم ما هو فيه من سفه.
ويرجع الحق من بعد ذلك إلى اليتامى :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ٦ ﴾.
﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ٥ ﴾.
ومن هو السفيه ؟ إنه الذي لا صلاح له في عقل ولا يستطيع أن يصرف ماله بالحكمة. ومن الذي يعطى ماله إلى سفيه ؟ إن الحق يقول ذلك ليعلمنا كيفية التصرف في المال ومثال على ذلك يقول الحق :
﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾( من الآية ١١ سورة الحجرات ).
هل أحد منا يلمز نفسه ؟ لا، ولكن الإنسان يلمز خصمه، ولمز الخصم يؤدي إلى لمز النفس لأن خصمه سيلمزه ويعيبه أو لأنكما سواء. إذن فقول الحق : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " يعني أن الله يريد أن يقول : إن السفيه يملك المال، إلا أن سفهه يمنعه من أن يحسن التصرف. وعدم التصرف الحكيم يذهب بالمال ويفسده، وحين يكون سفيها فالمال ليس له تصرفا وإدارة ولكن المال لمن يصلحه بالقوامة.
أو أن الحق سبحانه وتعالى يعالج قضية كان لها وجود في المجتمع وهي أن الرجل إذا ما كان له أبناء، وكبروا قليلا، فهو يحب أن يتملص من حركة الحياة، ويعطى لهم حق التصرف في المال. وإن كان تصرفهم لا يتفق مع الحكمة، فكأنه قال سبحانه :" لا " إياك أن تعطي أموالك للسفهاء بدعوى أنهم أولادك. وإياك أن تملك أولادك ما وهبه الله لك من رزقك ؛ لأن الله جعل من مالك قياما لك، وإياك أن تجعل قيامك أنت في يد غيرك.
" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما. وارزقوهم فيها " وهل السفيه لا يعيش ؟ وهل يأكل السفيه دون أكل الرشيد ؟ أيلبس السفيه دون لبس الرشيد ؟ أيسكن السفيه دون مسكن الرشيد ؟ أيبتسم الإنسان في وجه الرشيد ولا يبتسم في وجه السفيه ؟ لا ؛ لذلك يأمر الحق ويقول :" وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا " ذلك أمر بحسن معاملة السفيه، وإياكم أن تعيروهم بسفههم، ويكفيهم ما هو فيه من سفه.
ويرجع الحق من بعد ذلك إلى اليتامى :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ٦ ﴾.
إن الله سبحانه وتعالى يأمر في التعامل مع اليتامى بأن يبدأ الولي في اختبار اليتيم وتدريبه على إدارة أمواله من قبل الرشد، أي لا تنتظر وقت أن يصل اليتيم إلى حد البلوغ ثم تبتليه بعد ذلك، فقبل أن يبلغ الرشد، لا بد أن تجربه في مسائل جزئية فإذا تبين واتضح لك اهتداء منه وحسن تصرف في ماله ؛ لحظتها تجد الحكم جاهزا، فلا تضطر إلى تأخير إيتاء الأموال إلى أن تبتليه في رشده. بل عليك أن تختبره وتدربه وتمتحنه وهو تحت ولايتك حتى يأتي أوان بلوغ الرشد فيستطيع أن يتسلم منك ماله ويديره بنفسه. وحتى لا تمر على المال لحظة من رشد صاحبه وهو عندك.
فسبحانه يقول :" وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا ".
فعندما يبلغ اليتيم الرشد وقد تم تدريبه على حسن إدارة المال. وعرف الوصي أن اليتيم قد استطاع أن يدبر ماله، ومن فور بلوغه الرشد يجب على الوصي أن يدفع إليه ماله، ولا يصح أن يأكل الوصي مال اليتيم إسرافا. والإسراف هو الزيادة في الحد ؛ لأنه ليس ماله، إنه مال اليتيم. وعندما قيل لرجل شره : ماذا تريد أيها الشره ؟ قال الشره :" أريد قصعة من ثريد أضرب فيها بيدي كما يضرب الولي السوء في مال اليتيم ". أنجانا الله وإياكم من هذا الموقف، ونجد الحق يقول :" ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ".
إن الحق سبحانه يحذرنا من الإسراف في مال اليتيم في أثناء مرحلة ما قبل الرشد، وذلك من الخوف أن يكبر اليتيم وله عند الولي شيء من المال أي أن يسرف الولي فينفق كل مال اليتيم قبل أن يكبر اليتيم ويرشد، والله سبحانه وتعالى حين يشرع فهو بجلال كماله يشرع تشريعا لا يمنع قوامة الفقير العادل غير الواجد. كان الحق قادرا أن يقول : لا تعطوا الوصية إلا لإنسان عنده مال لأنه في غنى عن مال اليتيم.
لكن الحق لا يمنع الفقير النزيه صاحب الخبرة والإيمان من الولاية.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن الولي :" ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " فلا يقولن أحد عن أحد آخر : إنه فقير، ولو وضعنا يده على مال اليتيم فإنه يأكله. لا، فهذا قول بمقاييس البشر، لا يجوز أن يمنع أحد فقيرا مؤمنا أن يكون وليا لليتيم ؛ لأننا نريد من يملك رصيدا إيمانيا يعلو به فوق الطمع في المال ؛ لذلك يقول الحق عن الوصي على مال اليتيم : إن عليه مسئولية واضحة.
فإن كان غنيا فليستعفف، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وحددوا المعروف بأن يأخذ أجر مثله في العمل الذي يقوم به.
وكلمة المعروف تعني الأمر المتداول عند الناس، أو أن يأخذ على قدر حاجته. ويقول الحق :" فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا " وانظروا الحماية، هو سبحانه يصنع الحماية للولي أو الوصي، فالحق يعلم خلقه، وخلقه من الأغيار والولي على اليتيم لا بد أن يلي الأمر بحكمة وحرص ؛ حتى لا يكرهه اليتيم. وربما قد يراضيه في كل شيء. نقول له : لا، أعطه بقدر حتى لا تفسده. فإذا ما أعطى الولي اليتيم بقدر ربما كرهه اليتيم ؛ لأن اليتيم قد يرغب في أشياء كمالية لا تصلح له ولا تناسب إمكاناته، وعندما يصل اليتيم إلى سن الرشد قد يتركز كرهه ضد الوصي، فيقول له : لقد أكلت مالي ؛ لذلك يوضح الحق للولي أو الوصي : كما حميت اليتيم بحسن ولايتك أحميك أنا من رشد اليتيم.
لذلك يجب عليك أيها الولي حين تدفع المال إليه أن تشهد عليه، لأنك لا تملك الأغيار النفسية، فربما وجد عليك وكرهك ؛ لأنك كنت حازما معه على ماله، وكنت تضرب على يده إذا انحرف. وإذا ما كرهك ربما التمس فترة من الفترات وقام ضدك واتهمك بما ليس فيك ؛ لذلك لابد من أن تحضر شهودا عدولا لحظة تسليمه المال. وهذه الشهادة لتستبرئ بها من المال فحسب، أما استبراء الدين فموكول إلى الله " وكفى بالله حسيبا ".
هذا وإن سورة النساء تعالج الضعف في المرأة والضعف في اليتيم، لأن الحال في المجتمع الذي جاء عليه الإسلام انهم كانوا لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار الذين لم تشتد أجنحتهم، وكانت القاعدة الغريبة عندهم هي : من لم يطعن برمح ولم يذد عن حريم أو مال ولم يشهد معارك فهو لا يأخذ من التركة. وكانت هذه قمة استضعاف أقوياء لضعفاء. وجاء الإسلام ليصفي هذه القاعدة. بل فرض وأوجب أن تأخذ النساء حقوقهن وكذلك الأطفال، ولهذا قال الحق سبحانه " ﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ٧ ﴾. ".
فسبحانه يقول :" وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا ".
فعندما يبلغ اليتيم الرشد وقد تم تدريبه على حسن إدارة المال. وعرف الوصي أن اليتيم قد استطاع أن يدبر ماله، ومن فور بلوغه الرشد يجب على الوصي أن يدفع إليه ماله، ولا يصح أن يأكل الوصي مال اليتيم إسرافا. والإسراف هو الزيادة في الحد ؛ لأنه ليس ماله، إنه مال اليتيم. وعندما قيل لرجل شره : ماذا تريد أيها الشره ؟ قال الشره :" أريد قصعة من ثريد أضرب فيها بيدي كما يضرب الولي السوء في مال اليتيم ". أنجانا الله وإياكم من هذا الموقف، ونجد الحق يقول :" ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ".
إن الحق سبحانه يحذرنا من الإسراف في مال اليتيم في أثناء مرحلة ما قبل الرشد، وذلك من الخوف أن يكبر اليتيم وله عند الولي شيء من المال أي أن يسرف الولي فينفق كل مال اليتيم قبل أن يكبر اليتيم ويرشد، والله سبحانه وتعالى حين يشرع فهو بجلال كماله يشرع تشريعا لا يمنع قوامة الفقير العادل غير الواجد. كان الحق قادرا أن يقول : لا تعطوا الوصية إلا لإنسان عنده مال لأنه في غنى عن مال اليتيم.
لكن الحق لا يمنع الفقير النزيه صاحب الخبرة والإيمان من الولاية.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن الولي :" ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " فلا يقولن أحد عن أحد آخر : إنه فقير، ولو وضعنا يده على مال اليتيم فإنه يأكله. لا، فهذا قول بمقاييس البشر، لا يجوز أن يمنع أحد فقيرا مؤمنا أن يكون وليا لليتيم ؛ لأننا نريد من يملك رصيدا إيمانيا يعلو به فوق الطمع في المال ؛ لذلك يقول الحق عن الوصي على مال اليتيم : إن عليه مسئولية واضحة.
فإن كان غنيا فليستعفف، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وحددوا المعروف بأن يأخذ أجر مثله في العمل الذي يقوم به.
وكلمة المعروف تعني الأمر المتداول عند الناس، أو أن يأخذ على قدر حاجته. ويقول الحق :" فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا " وانظروا الحماية، هو سبحانه يصنع الحماية للولي أو الوصي، فالحق يعلم خلقه، وخلقه من الأغيار والولي على اليتيم لا بد أن يلي الأمر بحكمة وحرص ؛ حتى لا يكرهه اليتيم. وربما قد يراضيه في كل شيء. نقول له : لا، أعطه بقدر حتى لا تفسده. فإذا ما أعطى الولي اليتيم بقدر ربما كرهه اليتيم ؛ لأن اليتيم قد يرغب في أشياء كمالية لا تصلح له ولا تناسب إمكاناته، وعندما يصل اليتيم إلى سن الرشد قد يتركز كرهه ضد الوصي، فيقول له : لقد أكلت مالي ؛ لذلك يوضح الحق للولي أو الوصي : كما حميت اليتيم بحسن ولايتك أحميك أنا من رشد اليتيم.
لذلك يجب عليك أيها الولي حين تدفع المال إليه أن تشهد عليه، لأنك لا تملك الأغيار النفسية، فربما وجد عليك وكرهك ؛ لأنك كنت حازما معه على ماله، وكنت تضرب على يده إذا انحرف. وإذا ما كرهك ربما التمس فترة من الفترات وقام ضدك واتهمك بما ليس فيك ؛ لذلك لابد من أن تحضر شهودا عدولا لحظة تسليمه المال. وهذه الشهادة لتستبرئ بها من المال فحسب، أما استبراء الدين فموكول إلى الله " وكفى بالله حسيبا ".
هذا وإن سورة النساء تعالج الضعف في المرأة والضعف في اليتيم، لأن الحال في المجتمع الذي جاء عليه الإسلام انهم كانوا لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار الذين لم تشتد أجنحتهم، وكانت القاعدة الغريبة عندهم هي : من لم يطعن برمح ولم يذد عن حريم أو مال ولم يشهد معارك فهو لا يأخذ من التركة. وكانت هذه قمة استضعاف أقوياء لضعفاء. وجاء الإسلام ليصفي هذه القاعدة. بل فرض وأوجب أن تأخذ النساء حقوقهن وكذلك الأطفال، ولهذا قال الحق سبحانه " ﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ٧ ﴾. ".
﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ٧ ﴾.
ومن الذي يفرض هذا النصيب ؟ إنه الله الذي ملك وهو الذي فرض.
هنا نلاحظ أن المرحوم الشهيد صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب لحظ ملحظا جميلا هو : كيف يكون للمتوفى أولاد أو نساء محسوبون عليه ولا يأخذون ؟ إن الصغار كانوا أولى أن يأخذوا لأن الكبار قد اشتدت أعوادهم وسواعدهم، فالصغار أولى بالرعاية، وأيضا إذا كانت قوانين " مندل " في الوراثة توضح أن الاولاد يرثون من أمهاتهم وآبائهم وأجدادهم الخصال الحسنة أو السيئة، أو المرض أو العفة أو الخلقة، فلماذا لا تورثونهم أيضا في الأموال ؟.
وحين نسمع قول الحق :" نصيبا مفروضا " فلا بد أن يوجد فارض، ويوجد مفروض عليه، والفارض هنا هو الله الذي ملك، وفيه فرق دقيق بين " فرض " و " أوجب " فالفرض يكون قادما من أعلى، لكن الواجب قد يكون من الإنسان نفسه، فالإنسان قد يوجب على نفسه شيئا.
وحين يتكلم الحق عن النصيب المفروض، فقد بين أن له قدرا معلوما، ومادام للنصيب قدر معلوم، فلا بد أن يتم إيضاحه.. ولم يبين الحق ذلك إلا بعد أن يدخل في العملية أناسا قد لا يورثهم، وهم ممن حول الميت ممن ليسوا بوارثين.
ومن الذي يفرض هذا النصيب ؟ إنه الله الذي ملك وهو الذي فرض.
هنا نلاحظ أن المرحوم الشهيد صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب لحظ ملحظا جميلا هو : كيف يكون للمتوفى أولاد أو نساء محسوبون عليه ولا يأخذون ؟ إن الصغار كانوا أولى أن يأخذوا لأن الكبار قد اشتدت أعوادهم وسواعدهم، فالصغار أولى بالرعاية، وأيضا إذا كانت قوانين " مندل " في الوراثة توضح أن الاولاد يرثون من أمهاتهم وآبائهم وأجدادهم الخصال الحسنة أو السيئة، أو المرض أو العفة أو الخلقة، فلماذا لا تورثونهم أيضا في الأموال ؟.
وحين نسمع قول الحق :" نصيبا مفروضا " فلا بد أن يوجد فارض، ويوجد مفروض عليه، والفارض هنا هو الله الذي ملك، وفيه فرق دقيق بين " فرض " و " أوجب " فالفرض يكون قادما من أعلى، لكن الواجب قد يكون من الإنسان نفسه، فالإنسان قد يوجب على نفسه شيئا.
وحين يتكلم الحق عن النصيب المفروض، فقد بين أن له قدرا معلوما، ومادام للنصيب قدر معلوم، فلا بد أن يتم إيضاحه.. ولم يبين الحق ذلك إلا بعد أن يدخل في العملية أناسا قد لا يورثهم، وهم ممن حول الميت ممن ليسوا بوارثين.
ويوضح سبحانه الدعوة إلى إعطاء من لا نصيب له، إياكم أن يلهيكم هذا النصيب المفروض عمن لا نصيب له في التركة.
لذلك يقول سبحانه وتعالى :﴿ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ٨ ﴾.
وحين يحضر أولوا القربى واليتامى والمساكين مشهد توزيع المال، وكل واحد من الورثة الذين يتم توزيع مال المورث عليهم انتهت مسائله، قد يقول هؤلاء غير الوارثين : إن الورثة إنما يأخذون غنيمة باردة هبطت عليهم مثل هذا الموقف يترك شيئا في نفوس أولى القربى واليتامى والمساكين.
صحيح أن أولي القربى واليتامى والمساكين ليسوا وارثين، ولن يأخذوا شيئا من التركة فرضا لهم، ولكنهم حضروا القسمة ؛ لذلك يأتي الأمر الحق :" فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " فلو أنهم لم يحضروا القسمة لاختلف الموقف. فيأمر سبحانه بأن نرزق اليتامى وأولي القربى والمساكين حتى نستل منهم الحقد أو الحسد للوارث، أو الضغن على المورث، وبذلك يشيع في الناس شيء من الألفة ومن المحبة ومن حب الخير لأنهم قد نالوا شيئا من الخير مع هؤلاء، فلا يكونون حاقدين على الورثة ولا على المورث، ولا يكتفي الحق بالأمر برزق هؤلاء الأقارب واليتامى والمساكين، ولكن يأمر أن نقول لهم : قولا معروفا، مثل أن ندعو الله لهم أن يزيد من رزقهم، وأن يكون لهم أموال وأن يتركوا أولادا ويورثوهم، ومن الذي يجب عليه أن يقوم بمثل هذا العمل ؟ إنهم الوارثون إن كانوا قد بلغوا الرشد، ولكن ماذا يكون الموقف لو كان الوارث يتيما ؟ فالحضور هم الذين يقولون لأولي القربى واليتامى والمساكين : إنه مال يتيم، وليس لنا ولاية عليه، ولو كان لنا ولاية لأعطيناكم أكثر، وفي مثل هذا القول تطييب للخاطر.
" وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " يجب أن تكونوا في ذلك الموقف ذاكرين أنه إذا كنتم أنتم الضعفاء واليتامى وغير الوارثين فمن المؤكد أن السرور كان سيدخل إلى قلوبكم لو شرعنا لكم نصيبا من الميراث. إذن فليذكر كل منكم أنه حين يطلب الله منه، إنك قد تكون مرة في موقف من يطلب الله له ولأولاده. إذن فالحكم التشريعي لا يؤخذ من جانب واحد، وهو أنه يلزم المؤمن بأشياء، ولكن لنأخذ بجانب ذلك أنه يلزم غيره من المؤمنين للمؤمن بأشياء.
إن الحكم التشريعي يعطيك، ولذلك يأخذ منك. ولهذا قلنا في الزكاة : إياك أن تلحظ يا من تؤدى الزكاة أننا نأخذ منك حيفا ثمرة كدحك وعرقك لنعطيها للناس، نحن نأخذ منك وأنت قادر لنؤمنك إن صرت عاجزا. وسوف نأخذ لك من القادرين. إنه تأمين رباني حكيم..
لذلك يقول سبحانه وتعالى :﴿ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ٨ ﴾.
وحين يحضر أولوا القربى واليتامى والمساكين مشهد توزيع المال، وكل واحد من الورثة الذين يتم توزيع مال المورث عليهم انتهت مسائله، قد يقول هؤلاء غير الوارثين : إن الورثة إنما يأخذون غنيمة باردة هبطت عليهم مثل هذا الموقف يترك شيئا في نفوس أولى القربى واليتامى والمساكين.
صحيح أن أولي القربى واليتامى والمساكين ليسوا وارثين، ولن يأخذوا شيئا من التركة فرضا لهم، ولكنهم حضروا القسمة ؛ لذلك يأتي الأمر الحق :" فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " فلو أنهم لم يحضروا القسمة لاختلف الموقف. فيأمر سبحانه بأن نرزق اليتامى وأولي القربى والمساكين حتى نستل منهم الحقد أو الحسد للوارث، أو الضغن على المورث، وبذلك يشيع في الناس شيء من الألفة ومن المحبة ومن حب الخير لأنهم قد نالوا شيئا من الخير مع هؤلاء، فلا يكونون حاقدين على الورثة ولا على المورث، ولا يكتفي الحق بالأمر برزق هؤلاء الأقارب واليتامى والمساكين، ولكن يأمر أن نقول لهم : قولا معروفا، مثل أن ندعو الله لهم أن يزيد من رزقهم، وأن يكون لهم أموال وأن يتركوا أولادا ويورثوهم، ومن الذي يجب عليه أن يقوم بمثل هذا العمل ؟ إنهم الوارثون إن كانوا قد بلغوا الرشد، ولكن ماذا يكون الموقف لو كان الوارث يتيما ؟ فالحضور هم الذين يقولون لأولي القربى واليتامى والمساكين : إنه مال يتيم، وليس لنا ولاية عليه، ولو كان لنا ولاية لأعطيناكم أكثر، وفي مثل هذا القول تطييب للخاطر.
" وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " يجب أن تكونوا في ذلك الموقف ذاكرين أنه إذا كنتم أنتم الضعفاء واليتامى وغير الوارثين فمن المؤكد أن السرور كان سيدخل إلى قلوبكم لو شرعنا لكم نصيبا من الميراث. إذن فليذكر كل منكم أنه حين يطلب الله منه، إنك قد تكون مرة في موقف من يطلب الله له ولأولاده. إذن فالحكم التشريعي لا يؤخذ من جانب واحد، وهو أنه يلزم المؤمن بأشياء، ولكن لنأخذ بجانب ذلك أنه يلزم غيره من المؤمنين للمؤمن بأشياء.
إن الحكم التشريعي يعطيك، ولذلك يأخذ منك. ولهذا قلنا في الزكاة : إياك أن تلحظ يا من تؤدى الزكاة أننا نأخذ منك حيفا ثمرة كدحك وعرقك لنعطيها للناس، نحن نأخذ منك وأنت قادر لنؤمنك إن صرت عاجزا. وسوف نأخذ لك من القادرين. إنه تأمين رباني حكيم..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ٩ ﴾.
والإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان.
فإن كان عندك أيها المؤمن ذرية ضعيفة وتخاف عليها فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف عليها، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها. واعلم أن ربنا رقيب وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك. وقلنا ذات مرة : إن معاوية وعمرو بن العاص اجتمعا في اواخر حياتهما فقال عمرو بن العاص لمعاوية : يا امير المؤمنين ماذا بقي لك من حظ الدنيا ؟ وكان معاوية قد صار أميرا للمؤمنين ورئيس دولة قوية غنية، فقال معاوية : أما الطعام فقد مللت أطيبه، وأما اللباس فقد سئمت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف.
وصمت معاوية قليلا وسأل عمرا : وأنت يا عمرو ماذا بقي لك من متع الدنيا ؟.
وكان سيدنا عمرو بن العاص صاحب عبقرية تجارية فقال : أنا حظي عين خرارة في أرض خوارة تدر علي حياتي ولولدي بعد مماتي.
إنه يطلب عين ماء مستمر في أرض فيها أنعام وزروع تعطي الخير.
وكان هناك خادم يخدمهما، يقدم لهما المشروبات، فنظر معاوية إلى الخادم وأحب أن يداعبه ليشركه معهما في الحديث.
فقال للخادم : وأنت يا " وردان " ماذا بقي لك من متاع الدنيا ؟ أجاب الخادم : بقي لي من متع الدنيا يا أمير المؤمنين صنيعة معروف أضعها في أعناق قوم كرام لا يؤدونها إلى طول حياتي حتى تكون لعقبى في عقبهم. لقد فهم الخادم عن الله قوله :
﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ٩ ﴾( سورة النساء ).
فالذين يتقون الله في الذرية الضعيفة يضمنون أن الله سيرزقهم بمن يتقي الله في ذريتهم الضعيفة.
وقد تكلمنا مرة عن العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى عليه السلام :﴿ قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ٦٦ قال إنك لن تستطيع معي صبرا ٦٧ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ٦٨ قال ستجدني ان شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ٦٩ قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا٧٠ فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ٧١ ﴾( سورة الكهف ).
لقد جرب العبد الصالح موسى في خرق السفينة كما توضح الآيات فقال العبد الصالح :﴿ قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ٧٢ قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ٧٣ ﴾( سورة الكهف ).
ثم ما كان من أمر الغلام الذي قتله العبد الصالح وقول موسى له :" لقد جئت شيئا نكرا ".
ثم جاءا إلى أهل قرية فطلبا منهم الطعام، وحين يطلب منك ابن سبيل طعاما فاعلم انها الحاجة الملحة ؛ لأنه لو طلب منك مالا فقد تظن أنه يكتنز المال، ولكن إن طلب لقمة يأكلها فهذا أمر واجب عليك.
فماذا فعل أهل القرية حين طلب العبد الصالح وموسى طعاما لهما ؟.
يقول الحق :
﴿ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا ٧٧ ﴾( سورة الكهف ).
إنها قرية لئيمة، ووجد العبد الصالح في القرية جدارا يريد أن يسقط وينقض فأقامه، واعترض موسى ؛ لأن عنده حفيظة على أهل القرية فقد طلبا منهم طعاما فلم يطعموهما، وقال سيدنا موسى : إنك لو شئت لاتخذت عليه أجرا ؛ لأن أهل القرية لئام، وما كان يصح أن تقيم لهم الجدار إلا إذا أخذت منهم أجرا.
لقد غاب عن موسى ما لم يغيب الله سبحانه عن العبد الصالح، فبالله لو أن الجدار وقع وهم لئام لا يطعمون من استطعمهم، ثم رأوا الكنز المتروك لليتامى المساكين، فلا بد أنهم سيغتصبون الكنز. إذن فعندما رأيت الجدار سيقع أقمته حتى أواري الكنز عن هؤلاء اللئام. ويقول الحق سبحانه :
﴿ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ٨٢ ﴾( سورة الكهف ).
إذن فالعلة في هذه العملية هي الحماية لليتيمين، ولنلق بالا ولنهتم بملاحظ النص، لابد أن العبد الصالح قد أقام الجدار بأسلوب جدد عمرا افتراضيا للجدار بحيث إذا بلغ اليتيمان الرشد وقع الجدار أمامهما ؛ ليرى كلاهما الكنز، لقد تم بناء الجدار على مثال القنبلة الموقوتة بحيث إذا بلغا الرشد ينهار الجدار ليأخذوا الكنز. إنه توقيت إلهي أراده الله ؛ لأن والد اليتيمين كان صالحا، اتقى الله فيما تحت يده فأرسل الله له جنودا لا يعلمهم ولم يرتبهم ليحموا الكنز لولديه اليتيمين، لذلك فلنفهم جيدا في معاملتنا، قول الحق :
﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ٩ ﴾( سورة الكهف ).
لماذا ؟ لأن الإنسان عندما يكون شابا فذاتيته تكون هي الموجودة. لكن كلما تقدم الإنسان في السن تقدمت ذاتية أولاده عنده، ويحرم نفسه ليعطي أولاده، وعندما يرى أن عياله مازالوا ضعافا، وجاءت له مقدمات الموت فهو يحزن على مفارقة هؤلاء الضعاف، فيوضح الحق لكل عبد طريق الأمان : إنك تستطيع وأنت موجود أن تعطي للضعاف قوة، قوة مستمدة من الالتحام بمنهج الله وخاصة رعاية ما تحت يدك من يتامى، بذلك تؤمن حياة أولادك من بعدك وتموت وأنت مطمئن عليهم..
والقول السديد من الأوصياء : ألا يؤذوا اليتامى، وأن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بني ويا ولدي.
وحين يتقي المؤمن الله فيما بين يديه يرزقه الله بمن يتقي الله في أولاده.
والإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان.
فإن كان عندك أيها المؤمن ذرية ضعيفة وتخاف عليها فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف عليها، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها. واعلم أن ربنا رقيب وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك. وقلنا ذات مرة : إن معاوية وعمرو بن العاص اجتمعا في اواخر حياتهما فقال عمرو بن العاص لمعاوية : يا امير المؤمنين ماذا بقي لك من حظ الدنيا ؟ وكان معاوية قد صار أميرا للمؤمنين ورئيس دولة قوية غنية، فقال معاوية : أما الطعام فقد مللت أطيبه، وأما اللباس فقد سئمت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف.
وصمت معاوية قليلا وسأل عمرا : وأنت يا عمرو ماذا بقي لك من متع الدنيا ؟.
وكان سيدنا عمرو بن العاص صاحب عبقرية تجارية فقال : أنا حظي عين خرارة في أرض خوارة تدر علي حياتي ولولدي بعد مماتي.
إنه يطلب عين ماء مستمر في أرض فيها أنعام وزروع تعطي الخير.
وكان هناك خادم يخدمهما، يقدم لهما المشروبات، فنظر معاوية إلى الخادم وأحب أن يداعبه ليشركه معهما في الحديث.
فقال للخادم : وأنت يا " وردان " ماذا بقي لك من متاع الدنيا ؟ أجاب الخادم : بقي لي من متع الدنيا يا أمير المؤمنين صنيعة معروف أضعها في أعناق قوم كرام لا يؤدونها إلى طول حياتي حتى تكون لعقبى في عقبهم. لقد فهم الخادم عن الله قوله :
﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ٩ ﴾( سورة النساء ).
فالذين يتقون الله في الذرية الضعيفة يضمنون أن الله سيرزقهم بمن يتقي الله في ذريتهم الضعيفة.
وقد تكلمنا مرة عن العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى عليه السلام :﴿ قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ٦٦ قال إنك لن تستطيع معي صبرا ٦٧ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ٦٨ قال ستجدني ان شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ٦٩ قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا٧٠ فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ٧١ ﴾( سورة الكهف ).
لقد جرب العبد الصالح موسى في خرق السفينة كما توضح الآيات فقال العبد الصالح :﴿ قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ٧٢ قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ٧٣ ﴾( سورة الكهف ).
ثم ما كان من أمر الغلام الذي قتله العبد الصالح وقول موسى له :" لقد جئت شيئا نكرا ".
ثم جاءا إلى أهل قرية فطلبا منهم الطعام، وحين يطلب منك ابن سبيل طعاما فاعلم انها الحاجة الملحة ؛ لأنه لو طلب منك مالا فقد تظن أنه يكتنز المال، ولكن إن طلب لقمة يأكلها فهذا أمر واجب عليك.
فماذا فعل أهل القرية حين طلب العبد الصالح وموسى طعاما لهما ؟.
يقول الحق :
﴿ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا ٧٧ ﴾( سورة الكهف ).
إنها قرية لئيمة، ووجد العبد الصالح في القرية جدارا يريد أن يسقط وينقض فأقامه، واعترض موسى ؛ لأن عنده حفيظة على أهل القرية فقد طلبا منهم طعاما فلم يطعموهما، وقال سيدنا موسى : إنك لو شئت لاتخذت عليه أجرا ؛ لأن أهل القرية لئام، وما كان يصح أن تقيم لهم الجدار إلا إذا أخذت منهم أجرا.
لقد غاب عن موسى ما لم يغيب الله سبحانه عن العبد الصالح، فبالله لو أن الجدار وقع وهم لئام لا يطعمون من استطعمهم، ثم رأوا الكنز المتروك لليتامى المساكين، فلا بد أنهم سيغتصبون الكنز. إذن فعندما رأيت الجدار سيقع أقمته حتى أواري الكنز عن هؤلاء اللئام. ويقول الحق سبحانه :
﴿ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ٨٢ ﴾( سورة الكهف ).
إذن فالعلة في هذه العملية هي الحماية لليتيمين، ولنلق بالا ولنهتم بملاحظ النص، لابد أن العبد الصالح قد أقام الجدار بأسلوب جدد عمرا افتراضيا للجدار بحيث إذا بلغ اليتيمان الرشد وقع الجدار أمامهما ؛ ليرى كلاهما الكنز، لقد تم بناء الجدار على مثال القنبلة الموقوتة بحيث إذا بلغا الرشد ينهار الجدار ليأخذوا الكنز. إنه توقيت إلهي أراده الله ؛ لأن والد اليتيمين كان صالحا، اتقى الله فيما تحت يده فأرسل الله له جنودا لا يعلمهم ولم يرتبهم ليحموا الكنز لولديه اليتيمين، لذلك فلنفهم جيدا في معاملتنا، قول الحق :
﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ٩ ﴾( سورة الكهف ).
لماذا ؟ لأن الإنسان عندما يكون شابا فذاتيته تكون هي الموجودة. لكن كلما تقدم الإنسان في السن تقدمت ذاتية أولاده عنده، ويحرم نفسه ليعطي أولاده، وعندما يرى أن عياله مازالوا ضعافا، وجاءت له مقدمات الموت فهو يحزن على مفارقة هؤلاء الضعاف، فيوضح الحق لكل عبد طريق الأمان : إنك تستطيع وأنت موجود أن تعطي للضعاف قوة، قوة مستمدة من الالتحام بمنهج الله وخاصة رعاية ما تحت يدك من يتامى، بذلك تؤمن حياة أولادك من بعدك وتموت وأنت مطمئن عليهم..
والقول السديد من الأوصياء : ألا يؤذوا اليتامى، وأن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بني ويا ولدي.
وحين يتقي المؤمن الله فيما بين يديه يرزقه الله بمن يتقي الله في أولاده.
ومازال الحق يضع المنهج في أمر اليتامى :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ١٠ ﴾
لماذا يركز القرآن على هذه الجزئية ؟ لأن الله يريد من خلقه أن يستقبلوا قدر الله فيمن يحبون وفيمن يحتاجون إليهم برضا، فإذا كان الطفل صغيرا ويرى أباه يسعى في شأنه ويقدم له كل جميل في الحياة وبعد ذلك يموت، فإن كان هذا الصغير قد رأى واحدا مات أبوه وكفله المجتمع الإيماني الذي يعيش في كفالة عوضته عن أب واحد بآباء إيمانيين متعددين، فإذا مات والد هذا الطفل فإنه يستقبل قدر الله وخطبه بدون فزع. فالذي يجعل الناس تستقبل الخطوب بالفزع والجزع والهلع أنهم يرون ان الطفل إذا ما مات أبوه وصار يتيما فإنه يضيع، ويقول الطفل لنفسه : إن أبي عندما يموت سأصير مضيعا. لكن لو أن المجتمع حمى حق اليتيم وصار كل مؤمن أبا لليتيم وكل مؤمنة اما لليتيم لاختلف الأمر، فإذا ما نزل قضاء الله في أبيه فإنه يستقبل القضاء برضا وتسليم.
﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ١٠ ﴾( سورة النساء ).
إن كل العملية السلبية والنهبية أهم ما فيها هو الأكل ؛ لأن الأكل هو المتكرر عند الناس، وهو يختلف عن اللباس، فكل فصل يحتاج الإنسان إلى ملابس تناسبه، لكن الأكل عملية يومية ؛ لذلك فأي نهب يكون من أجل الأكل. ولذلك نقول في أمثالنا العامية عن النهاب :" فلان بطنه واسعة " إنها مسألة الأكل.
وقد أوضح الحق هذا الأمر لأكل مال اليتيم : أنت تحشو في بطنك نارا. ويعني ذلك أنه يأكل قي بطنه ما يؤدي إلى النار في الآخرة. وهذا قد يحدث عقابا في الدنيا فيصاب آكل مال اليتيم في بطنه بأمراض تحرق أحشاءه، ويوم القيامة يرى المؤمنون هؤلاء القوم الذين أكلوا مال اليتيم، وعليهم سمات أكل مال اليتيم : فالدخان يخرج من أفواههم. وإياك أن تفهم أن البطون هي التي ستكون ممتلئة بالنار فقط، وألا يكون هناك نار أمام العيون. بل سيكون في البطون نار وسيصلون سعيرا.
لماذا يركز القرآن على هذه الجزئية ؟ لأن الله يريد من خلقه أن يستقبلوا قدر الله فيمن يحبون وفيمن يحتاجون إليهم برضا، فإذا كان الطفل صغيرا ويرى أباه يسعى في شأنه ويقدم له كل جميل في الحياة وبعد ذلك يموت، فإن كان هذا الصغير قد رأى واحدا مات أبوه وكفله المجتمع الإيماني الذي يعيش في كفالة عوضته عن أب واحد بآباء إيمانيين متعددين، فإذا مات والد هذا الطفل فإنه يستقبل قدر الله وخطبه بدون فزع. فالذي يجعل الناس تستقبل الخطوب بالفزع والجزع والهلع أنهم يرون ان الطفل إذا ما مات أبوه وصار يتيما فإنه يضيع، ويقول الطفل لنفسه : إن أبي عندما يموت سأصير مضيعا. لكن لو أن المجتمع حمى حق اليتيم وصار كل مؤمن أبا لليتيم وكل مؤمنة اما لليتيم لاختلف الأمر، فإذا ما نزل قضاء الله في أبيه فإنه يستقبل القضاء برضا وتسليم.
﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ١٠ ﴾( سورة النساء ).
إن كل العملية السلبية والنهبية أهم ما فيها هو الأكل ؛ لأن الأكل هو المتكرر عند الناس، وهو يختلف عن اللباس، فكل فصل يحتاج الإنسان إلى ملابس تناسبه، لكن الأكل عملية يومية ؛ لذلك فأي نهب يكون من أجل الأكل. ولذلك نقول في أمثالنا العامية عن النهاب :" فلان بطنه واسعة " إنها مسألة الأكل.
وقد أوضح الحق هذا الأمر لأكل مال اليتيم : أنت تحشو في بطنك نارا. ويعني ذلك أنه يأكل قي بطنه ما يؤدي إلى النار في الآخرة. وهذا قد يحدث عقابا في الدنيا فيصاب آكل مال اليتيم في بطنه بأمراض تحرق أحشاءه، ويوم القيامة يرى المؤمنون هؤلاء القوم الذين أكلوا مال اليتيم، وعليهم سمات أكل مال اليتيم : فالدخان يخرج من أفواههم. وإياك أن تفهم أن البطون هي التي ستكون ممتلئة بالنار فقط، وألا يكون هناك نار أمام العيون. بل سيكون في البطون نار وسيصلون سعيرا.
ويقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ١١ ﴾.
ونعم الرب خالقنا ؛ إنه يوصينا في أولادنا، سبحانه رب العرش العظيم، كأننا عند ربنا أحب منا عند آبائنا. وقوله الكريم :" يوصيكم الله في أولادكم " توضح أنه رحيم بنا ومحب لنا. ومادة الوصية إذا ما استقرأناها في القرآن نجد بالاستقراء أن مادة الوصية مصحوبة بالباء، فقال سبحانه :
﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ﴾( من الآية ١٥٣ سورة النعام ).
وقال سبحانه :
﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ﴾( من الآية ١٣ سورة الشورى ).
وقال الحق أيضا :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ﴾( من الآية ١٤ سورة لقمان ).
كل هذه الآيات جاءت الوصية فيها مصحوبة بالباء التي تأتي للإلصاق.
لكن عندما وصى الآباء على الأبناء قال :" يوصيكم الله في أولادكم " فكأن الوصية مغروسة ومثبتة في الأولاد، فكلما رأيت الظرف وهو الولد ذكرت الوصية وما هي الوصية ؟ إنها " للذكر مثل حظ الأنثيين " وقلنا من قبل " إن الحق قال﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ ( من الآية ٧ سورة النساء ).
ولم يحدد النصيب بعد هذه الآية مباشرة إلا بعد ما جاء بحكاية اليتامى وتحذير الناس من أكل مال اليتيم، لماذا ؟ لأن ذلك يربي في النفس الاشتياق للحكم، وحين تستشرف النفس إلى تفصيل الحكم، ويأتي الحكم بعد طلب النفس له، فإنه يتمكن منها. والشيء حين تطلبه النفس تكون مهيأة لاستقباله، لكن حينما يعرض الأمر بدون طلب، فالنفس تقبله مرة وتعرض عنه مرة أخرى. ونلحظ ذلك في مناسبة تحديد أنصبة الميراث.
فقد قال الحق سبحانه أولا :
﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ ( من الآية ٧ سورة النساء ).
وعرض بعد ذلك أمر القسمة ورعاية اليتامى والمساكين وأولي القربى، ثم يأتي الأمر والحكم برعاية مال اليتيم والتحذير من نهبه، وبعد ذلك يقول :" يوصيكم الله في أولادكم " ويأتي البند الأول في الوصية " للذكر مثل حظ الأنثيين " ولماذا لم يقل " للأنثيين مثل حظ الذكر ". أو " للأنثى نصف حظ الذكر "، هذه معان يمكن أن تعبر عن المطلوب.
لقد أراد الله أن يكون المقياس، أو المكيال هو حظ الأنثى، ويكون حظ الرجل هنا منسوبا إلى الأنثى، لأنه لو قال :" للأنثى نصف حظ الرجل ؟ لكان المقياس هو الرجل، لكنه سبحانه جعل المقياس للأنثى فقال :" للذكر مثل حظ الأنثيين ".
والذين يقولون : هذا أول ظلم يصيب المرأة، نريد المساواة. نقول لهم : انظروا إلى العدالة هنا. فالذكر مطلوب له زوجة ينفق عليها، والأنثى مطلوب لها ذكر ينفق عليها، إذن فنصف حظ الذكر يكفيها إن عاشت دون زواج و إن تزوجت فإن النصف الذي يخصها سيبقى لها، وسيكون لها زوج يعولها.
إذن فأيهما أكثر حظا في القسمة ؟ إنها الأنثى. ولذلك جعلها الله الأصل والمقياس حينما قال :" للذكر مثل حظ الأنثيين " فهل في هذا القول جور أو فيه محاباة للمرأة ؟ إن في هذا القول محاباة للمرأة ؛ لأنه أولا جعل نصيبها المكيال الذي يرد إليه الأمر ؛ لأن الرجل مطلوب منه أن ينفق على الأنثى، وهي مطلوب لها زوج ينفق عليها. إذن فما تأخذه من نصف حظ الذكر يكون خالصا لها، وكان يجب أن تقولوا : لماذا حابى الله المرأة ؟ لقد حابى الله المرأة لأنها عرض، فصانها، فإن لم تتزوج تجد ما تنفقه، وإن تزوجت فهذا فضل من الله، ثم يقول الحق :" فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ".
وأنا أريد أن نستجمع الذهن هنا جيدا لنتعرف تماما على مراد الحق ومسالك القرآن في تنبيه الأذهان لاستقبال كلام الله. فقد كرم الله الإنسان بالعقل، والعقل لا بد له من رياضة. ومعنى الرياضة هو التدريب على حل المسائل، وإن طرأت مشكلات هيأ نفسه لها بالحل، وأن يملك القدرة على الاستنباط والتقييم، كل هذه من مهام العقل. فيأتي الحق في أهم شيء يتعلق بالإنسان وهو الدين، والدليل إلى الدين وحافظ منهجه هو القرآن، فيجعل للعقل مهمة إبداعية.
إنه سبحانه لا يأتي بالنصوص كمواد القانون في الجنايات أو الجنح، ولكنه يعطى في مكان ما جزءا من الحكم، ويترك بقية القانون لتتضح معالمه في موقع آخر من القرآن بجزئية أخرى، لأنه يريد أن يوضح لنا أن المنهج الإلهي كمنهج واحد متكامل، وانه ينقلب من شيء إلى شيء، ويستكمل حكما في أكثر من موقع بالقرآن. وذلك حتى تتعرف على المنهج ككل. وأنك إذا كنت بصدد شيء فلا تظن أن هذا الشيء بمفرده هو المنهج، ولكن هناك أشياء ستأتي استطرادا تتداخل مع الشيء الذي تبحث عن حكم الله فيه، مثال ذلك : مسألة اليتيم التي تتداخل مع أحكام الميراث. وهذه الآية تعطينا مثل هذه المسألة لماذا ؟ لأن الله يريد لك يا صاحب العقل الدربة في الإطار الذي يضم الحياة كلها. وما يهمك أولا هو دينك، فلتعمل عقلك فيه، فإذا أعملت عقلك في الدين أعطيت عقلك النشاط ليعمل في المجال الآخر.
لكن إذا غرق ذهنك في أي أمر جزئي فهذا قد يبعد بك عن الإطار العام لتنشغل بالتفاصيل عن الهدف العام.
وأولادنا من الممكن أن يعلمونا من تجربة من ألعابهم، فالطفل يلعب مع أقرانه " الاستغماية "، ويختبئ كل قرين في مكان، ويبحث الطفل عن أقرانه.
ونحن نلعب أيضا مع أولادنا إخفاء شيء ما في يد ونطبق أيدينا ونترك الابن يخمن بالحدس في أي يد يكون الشيء، إنها دربة للعقل على الاستنباط، فإن كان الولد سريع البديهة قوي الملاحظة ويمتلئ بالذكاء، فهو يرى يدي والده ليقارن أي يد ترتعش قليلا، أو أي يد ليست طبيعية في طريقة إطباق الأب لها فيختارها، وينتصر بذلك ذكاء الولد، وهذه عملية ترويض للطفل على الاستنباط والفهم، وبذلك تعلم الطفل ألا يأخذ المسائل ضربة لازب بدون فكر ولا دربة.
والحق سبحانه أراد ان تكون أحكامه موزعة في المواقع المختلفة، ولننظر إلى قوله :" يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك " أي أنه إن لم ينجب المورث ذكرا وكان له أكثر من اثنتين فلهن ثلثا ما ترك.
أما لو كان معهن ذكر، فالواحدة منهن ستأخذ نصف نصيب الذكر، وإن كانت الوارثة بنتا واحدة، فالآية تعطيها النصف من الميراث " وإن كانت واحدة فلها النصف " وبقي شيء لم يأت الله له بحكم، وهو أن يكون المورث قد ترك ابنتين. وهنا نجد أن الحق قد ضمن للأثنتين في إطار الثلاث بنات أو أكثر أخذ الثلثين من التركة، هكذا قال العلماء، ولماذا لم ينص على ذلك بوضوح ؟ لقد ترك هذه المهمة للعقل، فالبنت حينما ترث مع الذكر تأخذ ثلث التركة، وعندما تكون مع ابنة أخرى دون ذكر، تأخذ الثلث.
فإذا كانت مع الذكر وهو القائم بمسئولية الكدح تأخذ الثلث، ولذلك فمن المنطقي أن تأخذ كل أنثى الثلث إن كان المورث قد ترك ابنتين. وهناك شيء آخر، لتعرف أن القرآن يأتي كله كمنهج متماسك، فهناك آية أخرى في سورة النساء تناقش جزئية من هذا الأمر ليترك للعقل فرصة العمل والبحث، يقول سبحانه :
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ١٧٦ ﴾( سورة النساء ).
لقد جاء الحق هنا بأختي المورث وأوضح أن لهما الثلثين من التركة، فأيهما ألصق بالمورث، البنتان أم الأختان ؟ إن ابنتي المورث ألصق به من أختيه، ولذلك فللبنتين الثلثان، فالابنة إن كانت مع أخيها فستأخذ الثلث، وإن كانت قد ورثت بمفردها فستأخذ النصف. وإن كانت الوارثات من البنات أكثر من اثنتين فسيأخذن الثلثين، وإن كانتا اثنتين فستأخذ كل منهما الثلث، لماذا ؟ لأن الله أعطى الأختين ثلثي ما ترك المورث إن لم يكن له أولاد.
ومن العجيب انه جاء بالجمع في الآية الاولى الخاصة بتوريث البنات، وجاء بالمثنى في الآية التي تورث الأخوات، لنأخذ المثنى هناك في آية توريث الأخوات لينسحب على الجمع هنا، ونأخذ الجمع هنا في آية توريث البنات لينسحب على المثنى هناك.
لقد أراد الحق أن يجعل للعقل مهمة البحث والاستقصاء والاستنباط وذلك حتى تأخذ الأحكام بعشق وحسن فهم، وعندما يقول سبحانه :" يستفتونك " فمعنى يستفتونك أي يطلبون منك الفتوى، وهذا دليل على أن المؤمن الذي سأل وطلب الفتيا قد عشق التكليف، فهو يحب أن يعرف حكم الله، حتى فيما لم يبدأ الله به الحكم. وقد سأل المؤمنون الأوائل وطلبوا الفتيا عشقا في التكليف " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " والكلالة مأخوذة من الإكليل وهو ما يحيط بالرأس، والكلالة هي القرابة التي تحيط بالإنسان وليست من أصله ولا من فصله.
﴿ إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ﴾( من الآية ١٧٦ سورة النساء ).
وهذه الآية تكمل الآية الأولى. ونعود إلى تفصيل الآية الأولى التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها :" ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ".
ومعنى ذلك أن المورث إن لم يكن له أولاد فللأم الثلث، والأب له الثلثان، فإن كان للمورث إخوة أشقاء أو لأب لأم فللأم السدس حسب النص القرآني " فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين "، وذلك بعد أن تنفذ وصية المورث، ويؤدي الدين الذي عليه. والوصية هنا مقدمة على الدين ؛ لأن الدين له مطالب، فهو يستطيع المطالبة بدينه، أما الوصية فليس لها مطالب، وقد قدمها الحق للعناية بها حتى لا نهملها. ويذيل الحق هذه الآية :
﴿ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ﴾( من الآية ١١ سورة النساء ).
فإياك أن تحدد الأنصباء على قدر ما تظن من النفعية في الآباء أو من النفعية في الأبناء، فالنفعية في الآباء تتضح عندما يقول الإنسان :" لقد رباني أبي وهو الذي صنع لي فرص المستقبل ". والنفعية في الأبناء تتضح عندما يقول الإنسان : إن أبي راحل وأبنائي هم الذين سيحملون ذكرى واسمي والحياة مقبلة عليهم. فيوضح الحق : إياك أن تحكم بمثل هذا الحكم ؛ فليس لك شأن بهذا الأمر :" لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ".
وما دمت لا تدري أيهم أقرب لك نفعا فالتزم حكم الله الذي يعلم المصلحة وتوجيهها في الأنصبة كما يجب أن تكون.
ونحن حين نسمع :" إن الله كان عليما حكيما " أو نسمع :" إن الله كان غفورا رحيما " فنحن نسمعها في إطار أن الله لا يتغير، ومادام كان في الأزل عليما حكيما وغفورا رح
﴿ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ١١ ﴾.
ونعم الرب خالقنا ؛ إنه يوصينا في أولادنا، سبحانه رب العرش العظيم، كأننا عند ربنا أحب منا عند آبائنا. وقوله الكريم :" يوصيكم الله في أولادكم " توضح أنه رحيم بنا ومحب لنا. ومادة الوصية إذا ما استقرأناها في القرآن نجد بالاستقراء أن مادة الوصية مصحوبة بالباء، فقال سبحانه :
﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ﴾( من الآية ١٥٣ سورة النعام ).
وقال سبحانه :
﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ﴾( من الآية ١٣ سورة الشورى ).
وقال الحق أيضا :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ﴾( من الآية ١٤ سورة لقمان ).
كل هذه الآيات جاءت الوصية فيها مصحوبة بالباء التي تأتي للإلصاق.
لكن عندما وصى الآباء على الأبناء قال :" يوصيكم الله في أولادكم " فكأن الوصية مغروسة ومثبتة في الأولاد، فكلما رأيت الظرف وهو الولد ذكرت الوصية وما هي الوصية ؟ إنها " للذكر مثل حظ الأنثيين " وقلنا من قبل " إن الحق قال﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ ( من الآية ٧ سورة النساء ).
ولم يحدد النصيب بعد هذه الآية مباشرة إلا بعد ما جاء بحكاية اليتامى وتحذير الناس من أكل مال اليتيم، لماذا ؟ لأن ذلك يربي في النفس الاشتياق للحكم، وحين تستشرف النفس إلى تفصيل الحكم، ويأتي الحكم بعد طلب النفس له، فإنه يتمكن منها. والشيء حين تطلبه النفس تكون مهيأة لاستقباله، لكن حينما يعرض الأمر بدون طلب، فالنفس تقبله مرة وتعرض عنه مرة أخرى. ونلحظ ذلك في مناسبة تحديد أنصبة الميراث.
فقد قال الحق سبحانه أولا :
﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ ( من الآية ٧ سورة النساء ).
وعرض بعد ذلك أمر القسمة ورعاية اليتامى والمساكين وأولي القربى، ثم يأتي الأمر والحكم برعاية مال اليتيم والتحذير من نهبه، وبعد ذلك يقول :" يوصيكم الله في أولادكم " ويأتي البند الأول في الوصية " للذكر مثل حظ الأنثيين " ولماذا لم يقل " للأنثيين مثل حظ الذكر ". أو " للأنثى نصف حظ الذكر "، هذه معان يمكن أن تعبر عن المطلوب.
لقد أراد الله أن يكون المقياس، أو المكيال هو حظ الأنثى، ويكون حظ الرجل هنا منسوبا إلى الأنثى، لأنه لو قال :" للأنثى نصف حظ الرجل ؟ لكان المقياس هو الرجل، لكنه سبحانه جعل المقياس للأنثى فقال :" للذكر مثل حظ الأنثيين ".
والذين يقولون : هذا أول ظلم يصيب المرأة، نريد المساواة. نقول لهم : انظروا إلى العدالة هنا. فالذكر مطلوب له زوجة ينفق عليها، والأنثى مطلوب لها ذكر ينفق عليها، إذن فنصف حظ الذكر يكفيها إن عاشت دون زواج و إن تزوجت فإن النصف الذي يخصها سيبقى لها، وسيكون لها زوج يعولها.
إذن فأيهما أكثر حظا في القسمة ؟ إنها الأنثى. ولذلك جعلها الله الأصل والمقياس حينما قال :" للذكر مثل حظ الأنثيين " فهل في هذا القول جور أو فيه محاباة للمرأة ؟ إن في هذا القول محاباة للمرأة ؛ لأنه أولا جعل نصيبها المكيال الذي يرد إليه الأمر ؛ لأن الرجل مطلوب منه أن ينفق على الأنثى، وهي مطلوب لها زوج ينفق عليها. إذن فما تأخذه من نصف حظ الذكر يكون خالصا لها، وكان يجب أن تقولوا : لماذا حابى الله المرأة ؟ لقد حابى الله المرأة لأنها عرض، فصانها، فإن لم تتزوج تجد ما تنفقه، وإن تزوجت فهذا فضل من الله، ثم يقول الحق :" فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ".
وأنا أريد أن نستجمع الذهن هنا جيدا لنتعرف تماما على مراد الحق ومسالك القرآن في تنبيه الأذهان لاستقبال كلام الله. فقد كرم الله الإنسان بالعقل، والعقل لا بد له من رياضة. ومعنى الرياضة هو التدريب على حل المسائل، وإن طرأت مشكلات هيأ نفسه لها بالحل، وأن يملك القدرة على الاستنباط والتقييم، كل هذه من مهام العقل. فيأتي الحق في أهم شيء يتعلق بالإنسان وهو الدين، والدليل إلى الدين وحافظ منهجه هو القرآن، فيجعل للعقل مهمة إبداعية.
إنه سبحانه لا يأتي بالنصوص كمواد القانون في الجنايات أو الجنح، ولكنه يعطى في مكان ما جزءا من الحكم، ويترك بقية القانون لتتضح معالمه في موقع آخر من القرآن بجزئية أخرى، لأنه يريد أن يوضح لنا أن المنهج الإلهي كمنهج واحد متكامل، وانه ينقلب من شيء إلى شيء، ويستكمل حكما في أكثر من موقع بالقرآن. وذلك حتى تتعرف على المنهج ككل. وأنك إذا كنت بصدد شيء فلا تظن أن هذا الشيء بمفرده هو المنهج، ولكن هناك أشياء ستأتي استطرادا تتداخل مع الشيء الذي تبحث عن حكم الله فيه، مثال ذلك : مسألة اليتيم التي تتداخل مع أحكام الميراث. وهذه الآية تعطينا مثل هذه المسألة لماذا ؟ لأن الله يريد لك يا صاحب العقل الدربة في الإطار الذي يضم الحياة كلها. وما يهمك أولا هو دينك، فلتعمل عقلك فيه، فإذا أعملت عقلك في الدين أعطيت عقلك النشاط ليعمل في المجال الآخر.
لكن إذا غرق ذهنك في أي أمر جزئي فهذا قد يبعد بك عن الإطار العام لتنشغل بالتفاصيل عن الهدف العام.
وأولادنا من الممكن أن يعلمونا من تجربة من ألعابهم، فالطفل يلعب مع أقرانه " الاستغماية "، ويختبئ كل قرين في مكان، ويبحث الطفل عن أقرانه.
ونحن نلعب أيضا مع أولادنا إخفاء شيء ما في يد ونطبق أيدينا ونترك الابن يخمن بالحدس في أي يد يكون الشيء، إنها دربة للعقل على الاستنباط، فإن كان الولد سريع البديهة قوي الملاحظة ويمتلئ بالذكاء، فهو يرى يدي والده ليقارن أي يد ترتعش قليلا، أو أي يد ليست طبيعية في طريقة إطباق الأب لها فيختارها، وينتصر بذلك ذكاء الولد، وهذه عملية ترويض للطفل على الاستنباط والفهم، وبذلك تعلم الطفل ألا يأخذ المسائل ضربة لازب بدون فكر ولا دربة.
والحق سبحانه أراد ان تكون أحكامه موزعة في المواقع المختلفة، ولننظر إلى قوله :" يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك " أي أنه إن لم ينجب المورث ذكرا وكان له أكثر من اثنتين فلهن ثلثا ما ترك.
أما لو كان معهن ذكر، فالواحدة منهن ستأخذ نصف نصيب الذكر، وإن كانت الوارثة بنتا واحدة، فالآية تعطيها النصف من الميراث " وإن كانت واحدة فلها النصف " وبقي شيء لم يأت الله له بحكم، وهو أن يكون المورث قد ترك ابنتين. وهنا نجد أن الحق قد ضمن للأثنتين في إطار الثلاث بنات أو أكثر أخذ الثلثين من التركة، هكذا قال العلماء، ولماذا لم ينص على ذلك بوضوح ؟ لقد ترك هذه المهمة للعقل، فالبنت حينما ترث مع الذكر تأخذ ثلث التركة، وعندما تكون مع ابنة أخرى دون ذكر، تأخذ الثلث.
فإذا كانت مع الذكر وهو القائم بمسئولية الكدح تأخذ الثلث، ولذلك فمن المنطقي أن تأخذ كل أنثى الثلث إن كان المورث قد ترك ابنتين. وهناك شيء آخر، لتعرف أن القرآن يأتي كله كمنهج متماسك، فهناك آية أخرى في سورة النساء تناقش جزئية من هذا الأمر ليترك للعقل فرصة العمل والبحث، يقول سبحانه :
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ١٧٦ ﴾( سورة النساء ).
لقد جاء الحق هنا بأختي المورث وأوضح أن لهما الثلثين من التركة، فأيهما ألصق بالمورث، البنتان أم الأختان ؟ إن ابنتي المورث ألصق به من أختيه، ولذلك فللبنتين الثلثان، فالابنة إن كانت مع أخيها فستأخذ الثلث، وإن كانت قد ورثت بمفردها فستأخذ النصف. وإن كانت الوارثات من البنات أكثر من اثنتين فسيأخذن الثلثين، وإن كانتا اثنتين فستأخذ كل منهما الثلث، لماذا ؟ لأن الله أعطى الأختين ثلثي ما ترك المورث إن لم يكن له أولاد.
ومن العجيب انه جاء بالجمع في الآية الاولى الخاصة بتوريث البنات، وجاء بالمثنى في الآية التي تورث الأخوات، لنأخذ المثنى هناك في آية توريث الأخوات لينسحب على الجمع هنا، ونأخذ الجمع هنا في آية توريث البنات لينسحب على المثنى هناك.
لقد أراد الحق أن يجعل للعقل مهمة البحث والاستقصاء والاستنباط وذلك حتى تأخذ الأحكام بعشق وحسن فهم، وعندما يقول سبحانه :" يستفتونك " فمعنى يستفتونك أي يطلبون منك الفتوى، وهذا دليل على أن المؤمن الذي سأل وطلب الفتيا قد عشق التكليف، فهو يحب أن يعرف حكم الله، حتى فيما لم يبدأ الله به الحكم. وقد سأل المؤمنون الأوائل وطلبوا الفتيا عشقا في التكليف " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " والكلالة مأخوذة من الإكليل وهو ما يحيط بالرأس، والكلالة هي القرابة التي تحيط بالإنسان وليست من أصله ولا من فصله.
﴿ إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ﴾( من الآية ١٧٦ سورة النساء ).
وهذه الآية تكمل الآية الأولى. ونعود إلى تفصيل الآية الأولى التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها :" ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ".
ومعنى ذلك أن المورث إن لم يكن له أولاد فللأم الثلث، والأب له الثلثان، فإن كان للمورث إخوة أشقاء أو لأب لأم فللأم السدس حسب النص القرآني " فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين "، وذلك بعد أن تنفذ وصية المورث، ويؤدي الدين الذي عليه. والوصية هنا مقدمة على الدين ؛ لأن الدين له مطالب، فهو يستطيع المطالبة بدينه، أما الوصية فليس لها مطالب، وقد قدمها الحق للعناية بها حتى لا نهملها. ويذيل الحق هذه الآية :
﴿ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ﴾( من الآية ١١ سورة النساء ).
فإياك أن تحدد الأنصباء على قدر ما تظن من النفعية في الآباء أو من النفعية في الأبناء، فالنفعية في الآباء تتضح عندما يقول الإنسان :" لقد رباني أبي وهو الذي صنع لي فرص المستقبل ". والنفعية في الأبناء تتضح عندما يقول الإنسان : إن أبي راحل وأبنائي هم الذين سيحملون ذكرى واسمي والحياة مقبلة عليهم. فيوضح الحق : إياك أن تحكم بمثل هذا الحكم ؛ فليس لك شأن بهذا الأمر :" لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ".
وما دمت لا تدري أيهم أقرب لك نفعا فالتزم حكم الله الذي يعلم المصلحة وتوجيهها في الأنصبة كما يجب أن تكون.
ونحن حين نسمع :" إن الله كان عليما حكيما " أو نسمع :" إن الله كان غفورا رحيما " فنحن نسمعها في إطار أن الله لا يتغير، ومادام كان في الأزل عليما حكيما وغفورا رح
والحق يقول من بعد ذلك :
﴿ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم١٢ ﴾ :
والآيات تسير في إيضاح حق الذكر مثل حظ الأنثيين ؛ وهذه عدالة ؛ لأن الرجل حين تموت امرأته قد يتزوج حتى يبني حياته، والمرأة حين يموت زوجها فإنها تأخذ ميراثها منه وهي عرضة أن تتزوج وتكون مسئولة من الزوج الجديد.
إن المسألة كما أرادها الله تحقق العدالة الكاملة. والكلالة كما قلنا أنه ليس للمتوفى والد أو ولد، أي لا أصل له ولا فصل متفرع منه.
فإذا كان للرجل الكلالة أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، وذلك أيضا من بعد وصية يوصى بها أو دين. ولماذا يتم تقرير هذا الأمر ؟ لنرجع مرة أخرى إلى آية الكلالة التي جاءت في آخر سورة النساء.
إن الحق يقول فيها :
﴿ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ﴾( من الآية ١٧٦ سورة النساء ).
في الآية الأولى التي نحن بصددها يكون للواحد من الإخوة سدس ما ترك إذا انفرد، فإذا كان معه غيره فهم شركاء في الثلث. هذا إذا كانوا إخوة من الأم. أما الآية التي يختص بها الحق الأختين بالثلثين من التركة إذا لم يكن معهما ما يعصبهما من الذكور فهي في الإخوة الأشقاء أو الأب، هكذا يفصل القرآن ويوضح بدقة مطلقة.
وماذا يعني قوله الحق :" غير مضار وصية من الله والله عليم حليم " ؟.
إنه سبحانه يريد إقامة العدل، فلا ضرر لأحد على الإطلاق في تطبيق شرع الله ؛ لأن الضرر إنما يأتي من الأهواء التي تفسد قسمة الله. فقد يكون هناك من يرغب ألا يرث العم من بنات أخيه الشقيق، أو لأب، أو يريد آخر ألا يدخل أولاد الإخوة الذكور أشقاء أو لأب في ميراث العمة أو بنات العم الشقيق أو لأب، لمثل هؤلاء من أصحاب الهوى نقول : إن الغرم على قدر الغنم، بالله لو أنك مت وتركت بنات ولهن عم، أليس مطلوبا من العم أن يربي البنات ؟ فلماذا يجبر الحق العم على رعاية بنات أخيه إن توفى الأخ ولم يترك شيئا ؟ لذلك يجب أن تلتفت إلى حقيقة الأمر عندما يأتي نصيب للعم في الميراث. وعلينا أن نعرف أن الغرم أمامه الغنم.
وقلنا : إن القرآن الكريم يجب ان يؤخذ جميعه فيما يتعلق بالأحكام، فإذا كان في سورة النساء هذه يقول الحق سبحانه وتعالى في آخر آية منها :
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تصلوا والله بكل شيء عليم ١٧٦ ﴾( سورة النساء ).
فما الفرق بين الكلالة حين يجعل الله للمنفردة النصف وللاثنتين الثلثين، وبين الكلالة التي يجعل الله فيها للمنفرد السدس، ويجعل للأكثر من فرد الاشتراك في الثلث دون تمييز للذكر على الأنثى ؟.
لا بد أن نفرق بين كلالة وكلالة..
هما متحدتان في أنه لا أصل ولا فرع للمتوفى. والمسألة هنا تتعلق بالإخوة.
ونقول : إن الإخوة لها مصادر متعددة. هذه المصادر إما إخوة من أب وأم، وإما إخوة لأب، وإما إخوة لأم. فإذا كان أخ شقيق أو لأب فهو من العصبة الأصيلة، وهما المعنيان في الآية ١٧٦ من السورة نفسها.
وبذلك تكون آية السدس والثلث التي نحن بصددها الآن متعلقة بالإخوة لأم. إذن فالكلالة إما أن يكون الوارث أخا لام فقط، وإما أن يكون أخا لأب، او أخا لأب وأم. فالحكمان لذلك مختلفان ؛ لأن موضع كل منهما مختلف عن الآخر. وإلا لو أن مستشرقا قرأ هذه الآية وقرا الاية الأخرى وكلتاهما متعلقتان بميراث الكلالة، وأراد هذا المستشرق أن يبحث عن شيء يطعن به ديننا ويطعن به القرآن لقال والعياذ بالله : القرآن متضارب، فهو مرة يقول : للكلالة السدس، ومرة يقول : الثلث، ومرة أخرى النصف، ومرة أخرى الثلثان، ومرة للذكر مثل حظ الأنثيين ! ونرد على من يقول ذلك : أنت لم تلاحظ المقصود الفعلي والواقعي للكلالة ؛ لذلك فأنت تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء.
والحق قال :" من بعد وصية يوصي بها أو دين " ولنا أن نلاحظ أن في كل توريث هذه " البعدية " أي أن التوريث لا يتأتى إلا من بعد الوصية الواجبة النفاذ والدين.
ولنا ان نسأل : أيهما ينفذ أولا، الوصية أم الدين ؟.
والإجابة : لا شك أنه الدين ؛ لأن الدين إلزام بحق في الذمة، والوصية تطوع، فكيف تقدم الوصية وهي التطوع على الدين، وهو للإلزام في الذمة.
وعندما يقول :" غير مضار " لا بد أن نعرف جيدا أن شرع الله لن يضر أحدا، وما المقصود بذلك ؟ المقصود به الموصى، ففي بعض الأحيان يكون المورث كارها لبعض المستحقين لحقهم في ميراثه، فيأتي ليوصي بمنع توريثهم أو تقليل الأنصباء، أو يأتي لواحد بعيد يريد أن يعطيه شيئا من الميراث ولا يعطي لمن يكرهه من أهله وأقاربه المستحقين في ميراثه، فيقر لذلك الإنسان بدين، فإذا ما أقر له بدين حتى وإن كان مستغرقا للتركة كلها، فهو يأخذ الدين وبذبك يترك الورثة بلا ميراث.
وهذا يحدث في الحياة ونراه، فبعض من الناس أعطاهم الله البنات ولم يعطهم الله ولدا ذكرا يعصبهم، فيقول الواحد من هؤلاء لنفسه : إن الأعمام ستدخل، وأبناء الأعمام سيدخلون في ميراثي، فيريد أن يوزع التركة على بناته فقط، فيكتب دينا على نفسه للبنات. ونقول لهذا الإنسان : لا تجحف، أنت نظرت إلى أن هؤلاء يرثون منك، ولكن يجب ان تنظر إلى الطرف المقابل وهو أنك إذا مت ولم تترك لبناتك شيئا وهن لا عصبة لهن، فمن المسئول عنهن ؟ إنهم الأعمام، فالغرم هنا مقابل الغنم.. ولماذا تطلب البنات الأعمام أمام القضاة ليأخذن النفقة منهم في حالة وفاة الأب دون ان تكون له ثروة. فكيف تمنع عن إخوتك ما قرره الله لهم ؟.
وهناك بعض من الناس يرغب الواحد منهم ألا يعطى عمومته أو إخوته لأي سبب من الأسباب، فماذا يفعل ؟ إنه يضع الوصية ؛ لذلك حدد الإسلام الوصية بمقدار الثلث، حتى لا تحدث مضارة للورثة.
وقد حاول البعض من هؤلاء الناس أن يدعوا كذبا، أن هناك دينا عليهم، والدين مستغرق للتركة حتى لا يأخذ الأقارب شيئا.
والإنسان في هذا الموقف عليه أن يعرف أنه واقف في كل لحظة في الحياة أو الممات أمام الله، وكل إنسان أمين على نفسه.
لذلك قال الحق سبحانه :
﴿ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ﴾( من الآية ١١ سورة النساء ).
والحق يلفتنا ألا نضر أحدا بأي تصرف ؛ لأنها توصية من الله لكل ما يتعلق بالحكم توريثا ووصية وأداء دين، كل ذلك توصية من الله، والتوصية ليست من مخلوق لمخلوق، ولكنها من الله ؛ لذلك ففيها إلزام وفرض، فسبحانه القائل :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ﴾( من الآية ١٣ سورة الشورى ).
والوصية هنا افتراض، ومثل ذلك يقول الحق :
﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة الأنعام ).
ومادامت التوصية تأتي من المالك الأعلى، فمعنى ذلك انها افتراض، ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية :" والله عليم حليم " أي إياكم أن تتصرفوا تصرفا قد يقره ويمضيه القضاء، ولكنه لا يبرئكم أمام الله ؛ لأنه قد قام على باطل.
مثال ذلك : هناك إنسان يموت وعليه دين، عندئذ يجب تسديد الدين، لكن أن يكتب الرجل دينا على نفسه غير حقيقي ليحرم بعضا من أقاربه من الميراث فعليه أن يعرف أن الله عليم بالنوايا التي وراء التصرفات. فإن عميتم أيها البشر على قضاء الأرض، فلن تعموا على قضاء السماء.
وهذه مسألة تحتاج إلى علم يتغلغل في النوايا، إذن فمسألة القضاء هذه هي خلاف بين البشر والبشر، ولكن مسألة الديانة وما يفترضه الحق، فهو موضوع بين الرب وبين عبيده، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف :" إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها او ليتركها " ١.
إن الرسول يعلمنا أنه بشر، أي أنه لا يملك علم الغيب ومداخل المسائل، وعندما يرفع المسلمون إليه قضاياهم فقد يكون أحدهم أكثر قدرة على الفصاحة وذلاقة اللسان، ويستطيع أن يقلب الباطل حقا، والآخر قليل الحيلة، فيحكم النبي بمقتضى البينة القضائية، ولكن الأمر الواقع يتنافى مع تسلسل الحق ؛ لذلك يعلمنا أنه بشر، وأننا حين نختصم إليه يجب ألا يستخدم واحد منا ذلاقة اللسان في أخذ ما ليس له ؛ لأنه حتى لو أخذ شيئا ليس له بحكم من الرسول صلى اله عليه وسلم، فليعلم أنه يأخذ قطعة من الجحيم.
إذن فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نحذر في الأمور، فلا نعمي ولا نأخذ شيئا بسلطان القضاء ونهمل مسألة الديانة. فالأمور التي تتعلق بالدين لا يجوز للمؤمن المساس بها، إياكم ان تظنوا أن حكم أي حاكم يحلل حراما أو يحرم حلالا، لا. فالحلال بين، والحرام بين، والقاضي عليه أن يحكم بالبينات الواضحة. ومثال على ذلك : هب أنك اقترضت من واحد ألفا من الجنيهات، وأخذ عليك صكا، ثم جاء المقترض وسدد ما عليه من قرض وقال لمن اقترض منه :" عندما تذهب إلى منزلك أرجو أن ترسل لي الصك " ثم سبق قضاء الله، وقال أهل الميت :" إن الصك عندنا " واحتكموا إلى القضاء ليأخذوا الدين. هنا يحكم القضاء بضرورة تسديد الدين مرة أخرى، لكن حكم الدين في ذلك يختلف، فالرجل قد سدد الدين ولا يصح أبدا أن يأخذ الورثة الدين مرة أخرى إذا عملوا أن مورثهم حصل على دينه.
ولذلك يقول لنا الحق :" والله عليم حليم " حتى نفرق بين الديانة وبين القضاء. والحق يقول لنا : إنه " حليم " فإياك أن تغتر بأن واحدا حدث منه ذلك، ولم ينتقم الله منه في الدنيا، فعدم انتقام الله منه في الدنيا لا يدل على أنه تصرف حلالا، لكن هذا حلم من الله وإمهال وإرجاء ولكن هناك عقابا في الآخرة.
﴿ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم١٢ ﴾ :
والآيات تسير في إيضاح حق الذكر مثل حظ الأنثيين ؛ وهذه عدالة ؛ لأن الرجل حين تموت امرأته قد يتزوج حتى يبني حياته، والمرأة حين يموت زوجها فإنها تأخذ ميراثها منه وهي عرضة أن تتزوج وتكون مسئولة من الزوج الجديد.
إن المسألة كما أرادها الله تحقق العدالة الكاملة. والكلالة كما قلنا أنه ليس للمتوفى والد أو ولد، أي لا أصل له ولا فصل متفرع منه.
فإذا كان للرجل الكلالة أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، وذلك أيضا من بعد وصية يوصى بها أو دين. ولماذا يتم تقرير هذا الأمر ؟ لنرجع مرة أخرى إلى آية الكلالة التي جاءت في آخر سورة النساء.
إن الحق يقول فيها :
﴿ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ﴾( من الآية ١٧٦ سورة النساء ).
في الآية الأولى التي نحن بصددها يكون للواحد من الإخوة سدس ما ترك إذا انفرد، فإذا كان معه غيره فهم شركاء في الثلث. هذا إذا كانوا إخوة من الأم. أما الآية التي يختص بها الحق الأختين بالثلثين من التركة إذا لم يكن معهما ما يعصبهما من الذكور فهي في الإخوة الأشقاء أو الأب، هكذا يفصل القرآن ويوضح بدقة مطلقة.
وماذا يعني قوله الحق :" غير مضار وصية من الله والله عليم حليم " ؟.
إنه سبحانه يريد إقامة العدل، فلا ضرر لأحد على الإطلاق في تطبيق شرع الله ؛ لأن الضرر إنما يأتي من الأهواء التي تفسد قسمة الله. فقد يكون هناك من يرغب ألا يرث العم من بنات أخيه الشقيق، أو لأب، أو يريد آخر ألا يدخل أولاد الإخوة الذكور أشقاء أو لأب في ميراث العمة أو بنات العم الشقيق أو لأب، لمثل هؤلاء من أصحاب الهوى نقول : إن الغرم على قدر الغنم، بالله لو أنك مت وتركت بنات ولهن عم، أليس مطلوبا من العم أن يربي البنات ؟ فلماذا يجبر الحق العم على رعاية بنات أخيه إن توفى الأخ ولم يترك شيئا ؟ لذلك يجب أن تلتفت إلى حقيقة الأمر عندما يأتي نصيب للعم في الميراث. وعلينا أن نعرف أن الغرم أمامه الغنم.
وقلنا : إن القرآن الكريم يجب ان يؤخذ جميعه فيما يتعلق بالأحكام، فإذا كان في سورة النساء هذه يقول الحق سبحانه وتعالى في آخر آية منها :
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تصلوا والله بكل شيء عليم ١٧٦ ﴾( سورة النساء ).
فما الفرق بين الكلالة حين يجعل الله للمنفردة النصف وللاثنتين الثلثين، وبين الكلالة التي يجعل الله فيها للمنفرد السدس، ويجعل للأكثر من فرد الاشتراك في الثلث دون تمييز للذكر على الأنثى ؟.
لا بد أن نفرق بين كلالة وكلالة..
هما متحدتان في أنه لا أصل ولا فرع للمتوفى. والمسألة هنا تتعلق بالإخوة.
ونقول : إن الإخوة لها مصادر متعددة. هذه المصادر إما إخوة من أب وأم، وإما إخوة لأب، وإما إخوة لأم. فإذا كان أخ شقيق أو لأب فهو من العصبة الأصيلة، وهما المعنيان في الآية ١٧٦ من السورة نفسها.
وبذلك تكون آية السدس والثلث التي نحن بصددها الآن متعلقة بالإخوة لأم. إذن فالكلالة إما أن يكون الوارث أخا لام فقط، وإما أن يكون أخا لأب، او أخا لأب وأم. فالحكمان لذلك مختلفان ؛ لأن موضع كل منهما مختلف عن الآخر. وإلا لو أن مستشرقا قرأ هذه الآية وقرا الاية الأخرى وكلتاهما متعلقتان بميراث الكلالة، وأراد هذا المستشرق أن يبحث عن شيء يطعن به ديننا ويطعن به القرآن لقال والعياذ بالله : القرآن متضارب، فهو مرة يقول : للكلالة السدس، ومرة يقول : الثلث، ومرة أخرى النصف، ومرة أخرى الثلثان، ومرة للذكر مثل حظ الأنثيين ! ونرد على من يقول ذلك : أنت لم تلاحظ المقصود الفعلي والواقعي للكلالة ؛ لذلك فأنت تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء.
والحق قال :" من بعد وصية يوصي بها أو دين " ولنا أن نلاحظ أن في كل توريث هذه " البعدية " أي أن التوريث لا يتأتى إلا من بعد الوصية الواجبة النفاذ والدين.
ولنا ان نسأل : أيهما ينفذ أولا، الوصية أم الدين ؟.
والإجابة : لا شك أنه الدين ؛ لأن الدين إلزام بحق في الذمة، والوصية تطوع، فكيف تقدم الوصية وهي التطوع على الدين، وهو للإلزام في الذمة.
وعندما يقول :" غير مضار " لا بد أن نعرف جيدا أن شرع الله لن يضر أحدا، وما المقصود بذلك ؟ المقصود به الموصى، ففي بعض الأحيان يكون المورث كارها لبعض المستحقين لحقهم في ميراثه، فيأتي ليوصي بمنع توريثهم أو تقليل الأنصباء، أو يأتي لواحد بعيد يريد أن يعطيه شيئا من الميراث ولا يعطي لمن يكرهه من أهله وأقاربه المستحقين في ميراثه، فيقر لذلك الإنسان بدين، فإذا ما أقر له بدين حتى وإن كان مستغرقا للتركة كلها، فهو يأخذ الدين وبذبك يترك الورثة بلا ميراث.
وهذا يحدث في الحياة ونراه، فبعض من الناس أعطاهم الله البنات ولم يعطهم الله ولدا ذكرا يعصبهم، فيقول الواحد من هؤلاء لنفسه : إن الأعمام ستدخل، وأبناء الأعمام سيدخلون في ميراثي، فيريد أن يوزع التركة على بناته فقط، فيكتب دينا على نفسه للبنات. ونقول لهذا الإنسان : لا تجحف، أنت نظرت إلى أن هؤلاء يرثون منك، ولكن يجب ان تنظر إلى الطرف المقابل وهو أنك إذا مت ولم تترك لبناتك شيئا وهن لا عصبة لهن، فمن المسئول عنهن ؟ إنهم الأعمام، فالغرم هنا مقابل الغنم.. ولماذا تطلب البنات الأعمام أمام القضاة ليأخذن النفقة منهم في حالة وفاة الأب دون ان تكون له ثروة. فكيف تمنع عن إخوتك ما قرره الله لهم ؟.
وهناك بعض من الناس يرغب الواحد منهم ألا يعطى عمومته أو إخوته لأي سبب من الأسباب، فماذا يفعل ؟ إنه يضع الوصية ؛ لذلك حدد الإسلام الوصية بمقدار الثلث، حتى لا تحدث مضارة للورثة.
وقد حاول البعض من هؤلاء الناس أن يدعوا كذبا، أن هناك دينا عليهم، والدين مستغرق للتركة حتى لا يأخذ الأقارب شيئا.
والإنسان في هذا الموقف عليه أن يعرف أنه واقف في كل لحظة في الحياة أو الممات أمام الله، وكل إنسان أمين على نفسه.
لذلك قال الحق سبحانه :
﴿ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ﴾( من الآية ١١ سورة النساء ).
والحق يلفتنا ألا نضر أحدا بأي تصرف ؛ لأنها توصية من الله لكل ما يتعلق بالحكم توريثا ووصية وأداء دين، كل ذلك توصية من الله، والتوصية ليست من مخلوق لمخلوق، ولكنها من الله ؛ لذلك ففيها إلزام وفرض، فسبحانه القائل :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ﴾( من الآية ١٣ سورة الشورى ).
والوصية هنا افتراض، ومثل ذلك يقول الحق :
﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة الأنعام ).
ومادامت التوصية تأتي من المالك الأعلى، فمعنى ذلك انها افتراض، ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية :" والله عليم حليم " أي إياكم أن تتصرفوا تصرفا قد يقره ويمضيه القضاء، ولكنه لا يبرئكم أمام الله ؛ لأنه قد قام على باطل.
مثال ذلك : هناك إنسان يموت وعليه دين، عندئذ يجب تسديد الدين، لكن أن يكتب الرجل دينا على نفسه غير حقيقي ليحرم بعضا من أقاربه من الميراث فعليه أن يعرف أن الله عليم بالنوايا التي وراء التصرفات. فإن عميتم أيها البشر على قضاء الأرض، فلن تعموا على قضاء السماء.
وهذه مسألة تحتاج إلى علم يتغلغل في النوايا، إذن فمسألة القضاء هذه هي خلاف بين البشر والبشر، ولكن مسألة الديانة وما يفترضه الحق، فهو موضوع بين الرب وبين عبيده، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف :" إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها او ليتركها " ١.
إن الرسول يعلمنا أنه بشر، أي أنه لا يملك علم الغيب ومداخل المسائل، وعندما يرفع المسلمون إليه قضاياهم فقد يكون أحدهم أكثر قدرة على الفصاحة وذلاقة اللسان، ويستطيع أن يقلب الباطل حقا، والآخر قليل الحيلة، فيحكم النبي بمقتضى البينة القضائية، ولكن الأمر الواقع يتنافى مع تسلسل الحق ؛ لذلك يعلمنا أنه بشر، وأننا حين نختصم إليه يجب ألا يستخدم واحد منا ذلاقة اللسان في أخذ ما ليس له ؛ لأنه حتى لو أخذ شيئا ليس له بحكم من الرسول صلى اله عليه وسلم، فليعلم أنه يأخذ قطعة من الجحيم.
إذن فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نحذر في الأمور، فلا نعمي ولا نأخذ شيئا بسلطان القضاء ونهمل مسألة الديانة. فالأمور التي تتعلق بالدين لا يجوز للمؤمن المساس بها، إياكم ان تظنوا أن حكم أي حاكم يحلل حراما أو يحرم حلالا، لا. فالحلال بين، والحرام بين، والقاضي عليه أن يحكم بالبينات الواضحة. ومثال على ذلك : هب أنك اقترضت من واحد ألفا من الجنيهات، وأخذ عليك صكا، ثم جاء المقترض وسدد ما عليه من قرض وقال لمن اقترض منه :" عندما تذهب إلى منزلك أرجو أن ترسل لي الصك " ثم سبق قضاء الله، وقال أهل الميت :" إن الصك عندنا " واحتكموا إلى القضاء ليأخذوا الدين. هنا يحكم القضاء بضرورة تسديد الدين مرة أخرى، لكن حكم الدين في ذلك يختلف، فالرجل قد سدد الدين ولا يصح أبدا أن يأخذ الورثة الدين مرة أخرى إذا عملوا أن مورثهم حصل على دينه.
ولذلك يقول لنا الحق :" والله عليم حليم " حتى نفرق بين الديانة وبين القضاء. والحق يقول لنا : إنه " حليم " فإياك أن تغتر بأن واحدا حدث منه ذلك، ولم ينتقم الله منه في الدنيا، فعدم انتقام الله منه في الدنيا لا يدل على أنه تصرف حلالا، لكن هذا حلم من الله وإمهال وإرجاء ولكن هناك عقابا في الآخرة.
١ رواه مالك، وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود عن ام سلمة رضي الله عنها..
وبعد بيان هذه الأمور يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ١٣ ﴾.
الأحكام المتقدمة والأمور السابقة كلها حدود الله، وحين يحد الله حدودا.. أي يمنع أن يلتبس حق بحق، أو أن يلتبس حق بباطل ؛ فهو الذي يضع الحدود وهو الذي فصل حقوقا عن حقوق.
ونحن عندما نقوم بفصل حقوق عن حقوق في البيوت والأراضي فنحن نضع حدودا واضحة، ومعنى " حد " أي فاصل بين حقين بحيث لا يأخذ أحد ما ليس له من آخر. والحدود التي نصنعها نحن والتي قد لا يتنبه إليها كثير من الناس، هي نوعان : نوع لا يتعدى بالبناء، فعندما يريد واحد أن يبني، فالأول يبني على الأرض التي هي حق له، ويكون الجدران ملتصقين بعضهما ببعض. وعندما يزرع فلاح بجانب فلاح آخر فكل فلاح يزرع في أرضه وبين القطعتين حد، وهذا يحدث في النفع.
لكن لنفترض أن فلاحا يريد أن يزرع أرزا، وجاره لن يزرع أرزا، فالذي لن يزرع الأرز قد تأخذ أرضه مياها زائدة، فالمياه تصلح للأرز وقد تفسد غيره، ولذلك يكون الحكم هنا أن يقيم زارع الأرز حدا اسمه " حد الجيرة " ليمنع الضرر، وهو ليس " حد الملكية " فزارع الأرز هنا ينقص من زراعته مسافة مترين، ويصنع بهما حد الجيرة، حتى لا تتعدى المياه التي يروى بها الأرز إلى أرض الجار. إنه حد يمنع الضرر، وهو يختلف عن الحد الذي يمنع التملك.
إذن فمن ناحية حماية الإنسان لنفسه من أن يوقع الضرر بالآخرين عليه أن ينتبه إلى المقولة الواضحة :" لا تجعل حقك عند آخر حدك، بل اجعل حقك في الانتفاع بعيدا عن حدك "، وهذا في الملكية. وذلك إذا كان انتفاعك بما تملكه كله سيضر بجارك. وكذلك يعاملنا الله، ويقول في الأوامر :
﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ﴾( من الآية ٢٢٩ سورة البقرة ).
وفي النواهي يقول سبحانه :
﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها ﴾( من الآية ١٨٧ سورة البقرة ).
أي أنك إذا ما تلقيت أمرا، فلا تتعد هذا الأمر، وهذه هي الملكية، وإذا ما تلقيت نهيا فلا تقرب الأمر المنهي عنه. مثال ذلك النهي عن الخمر، فالحق لا يقول :" لا تشرب الخمر "، وانما يقول :" إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ". أي لا تذهب إلى المكان الذي توجد فيه من الأصل، كن في جانب وهذه الأشياء في جانب آخر.
ولذلك قلنا في قصة أكل آدم من الشجرة : أقال الحق :" لا تأكلا من الشجرة " ؟ أم قال ولا تقربا هذه الشجرة ؟ سبحانه قال :
﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾( من الآية ١٩ من سورة الأعراف ).
وهذا حد اسمه " حد عدم المضارة " إنه أمر بعدم الاقتراب حتى لا يصاب الإنسان بشهوة أو رغبة الأكل من الشجرة. وكذلك مجالس الخمر لأنها قد تغريك. ففي الأوامر يقول سبحانه :" تلك حدود الله فلا تعتدوها " وهذا ما يتعلق بالملكية.
وفي النواهي يقول سبحانه :" تلك حدود الله فلا تقربوها " ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث :" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " ١.
لذلك تجنب حدود الله. مثال ذلك قول الحق :
﴿ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ﴾( من الآية ١٨٧ سورة البقرة ).
إن الحق يأمر المعتكف بالمسجد أنه عندما تأتي له زوجه لتناقشه في أمر ما فعلى المؤمن أن يمتثل لأمر الله بعدم مباشرة الزوجة في المسجد. ولا يجعل المسائل قريبة من المباشرة، لأن ذلك من حدود الله. وسبحانه يقول :" تلك حدود الله فلا تقربوها ".
وهنا في مسائل الميراث يقول الحق :
﴿ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك هو الفوز العظيم ١٣ ﴾( سورة النساء ).
وكان يكفي ان يقول الحق من بعد بيان الحدود : " ومن يطع الله " ولكنه قال " ومن يطع الله ورسوله " وذلك لبيان أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان يضع حدودا من عنده لما حل، وأن يضع حدودا لما حرم. وهذا تفويض من الله لرسوله في أنه يشرع ؛ لذلك فلا تقل في كل شيء :" أريد الحكم من القرآن ".
ونرى من يقول : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مفوض في التشريع وهو القائل :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾( من الآية ٧ سورة الحشر ).
إنه صلى الله عليه وسلم مفوض من الله، وهؤلاء الذين ينادون بالاحتكام إلى القرآن فحسب يريدون أن يشككوا في سنة رسول الله، إنهم يحتكمون إلى كتاب الله، وينسون أو يتجاهلون أن في الكتاب الكريم تفويضا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرع.
هم يقولون : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. وقولهم لمثل هذا الكلام دليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقول، لأنهم لو لم يقولوا لقلنا :
يا رسول الله لقد قلت : روى المقدام بن معدي كرب قال : حرم النبي صلى الله عليه وسلم " أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول : بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله " ٢.
فكيف يا سيدي يا رسول الله ذلك، ولم يقل أحد هذا الكلام ؟.
إذن فقولهم الأحمق دليل على صدق الرسول فيما أخبر. ويسخرهم الحق فينطقون بمثل هذا القول لنستدل من قول خصوم النبي على صدق كلام النبي..
والحق يقول :" ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات " والذي يطيع الله ورسوله في الدنيا هو من أخذ التكليف وطبقه ويكون الجزاء هو دخول الجنة في الآخرة. لكن إدخال الجنة هل هو منهج الدين، أو هو الجزاء على الدين ؟.
إنه الجزاء على الدين، وموضوع الدين هو السلوك في الدنيا، ومن يسير على منهج الله في الدنيا يدخل الجنة في الآخرة، فالآخرة ليست موضوع الدين، لكن موضوع الدين هو الدنيا، فعندما تريد أن تعزل الدنيا عن الدين نقول لك : لم تجعل للدين موضوعا، إياك ؟ أن تقول : موضوع الدين هو الآخرة لأن الآخرة هي دار الجزاء، وفي حياتنا نأخذ هذا المثل : هل الامتحان موضوع المناهج، أو أن المناهج يقرأها الطالب طوال السنة، وهي موضوع الامتحان ؟.
إن المناهج التي يدرسها الطالب هي موضوع الامتحان، وكذلك فالدنيا هي موضوع الدين، والآخرة هي جزاء لمن نجح ولمن رسب في الموضوع ؛ لذلك فإياكم أن تقولوا : دنيا ودين، فلا يوجد فصل بين الدنيا والدين ؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين. فالدنيا تقابلها الآخرة والدين لهما. الدنيا مزرعة والآخرة محصدة. بهذا نرد على من يقول : إن الدنيا منفصلة عن الدين.
ومن يطع الله ورسوله يدخله جنة واحدة أو جنتين أو جنات، وهل دلالة " من " للواحد ؟ لا، إن " من " تدل على الواحد، وتدل على المثنى وتدل على الجمع، مثال ذلك نقول : جاء من لقيته أمس ونقول أيضا : جاء من لقيتهما أمس، وتقول ثالثا : جاء من لقيتهم أمس... إذن ف " من " صالحة للمفرد والمثنى والجمع.
والحق هنا لا يتكلم عن مفرد هنا أو جمع. كما قلنا في أول الفاتحة :
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ٥ ﴾( سورة الفاتحة ).
على الرغم من أن القياس أن تقول :" إياك نعبد وإياك نستعين ". لكن قال الحق سبحانه :" إياك نعبد وإياك نستعين " ليوضح لنا ان المؤمنين كلهم وحدة واحدة في العبادة.
وهناك من يقول إذا دلت :( من ) على المفرد فقد لحظنا لفظها، وإذا دلت على المثنى أو الجمع فقد لحظنا معناها.
ولمن يقول ذلك نقول : إن هذا الكلام غير محقق علميا ؛ لأن لفظ " من " لم يقل أحد إنه للمفرد. بل إنها موضوعة للمفرد والمثنى والجمع. فلا تقل : استعمل لفظ " من " مراعاة للفظ أو مراعاة للمعنى، لأن لفظ " من " موضوع لمعان ثلاثة هي المفرد والمثنى والجمع.
وقد سألني أخ كريم في جلسة من الجلسات : لماذا يقول الحق سبحانه في سورة الرحمن :
﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ٤٦ ﴾( سورة الرحمن ).
فقلت له : إن سورة الرحمن استهلها الحق سبحانه وتعالى :
﴿ الرحمن ١ علم القرآن٢ خلق الإنسان ٣ ﴾( سورة الرحمن ).
وبعد ذلك قال الحق :
﴿ خلق الإنسان من صلصال كالفخار ١٤ وخلق الجان من مارج من نار ١٥ ﴾ ( سورة الرحمن ).
وقال سبحانه :
﴿ سنفرغ لكم أيها الثقلان ٣١ ﴾ ( سورة الرحمن ).
وقال تعالى :﴿ يا معشر الإنس والجن إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ٣٣ ﴾ ( سورة الرحمن ).
إذن فمن خاف مقام ربه، هو من الجن أو من الإنس، إن كان من الجن فله جنة، وإن كان من الإنس فله جنة أخرى. إذن فمن خاف مقام ربه فله جنتان.
وهناك من يقول جنتان لكل واحد من الإنس والجن، لأن الله لا يعاني من أزمة أماكن، فحين شاء أزلا أن يخلق خلقا أحصاهم عدا من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، وعامل الكل على أنه مؤمن مطيع، وأنشأ لكل واحد مكانه في الجنة، وعامل سبحانه الكل على أنه عاص، وأنشأ له مقعدا في النار، وذلك حتى لا يفهم أحد أن المسألة هي أزمة أماكن.
فإذا دخل صاحب الجنة جنته، بقيت جنة الكافر التي كانت معدة له على فرض أنه مؤمن ؛ لذلك يقول الحق :
﴿ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ٧٢ ﴾( سورة الزخرف ).
فيرث المؤمنون ما كان قد أعد لغيرهم لو آمنوا.
إذن فالمعاني نجدها صوابا عند أي أسلوب من أساليب القرآن.
وهنا يقول الحق :" يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار " ويجب ان نفهم ان النهر هو الشق الذي يسيل فيه الماء وليس هو الماء، الحق يقول :" جنات تجري من تحتها الأنهار " فأين تجري الأنهار ؟.
أتجري الأنهار تحت زروعها، ام تحت بنيانها ؟ ونعرف أن الزروع هي التي تحتاج إلى مياه، ونحن نريد أن نبعد المياه عن المباني كيف ؟ ولكن ليس هناك شيء مستحيل على الله ؛ لأنها تصميمات ربانية.
فالخلق قد تشق نهرا، ونجد من بعد ذلك النشع يضرب في المباني، لكن تصميمات الحق بطلاقة القدرة ؛ تكون فيه الجنات تجري من تحتها مياه الأنهار، ولا يحدث منها نشع، سواء من تحت أبنية الجنات أو من تحت زروعها والذي يقبل على أسلوب ربه ويسأله أن يفيض عليه ويلهمه، فهو سبحانه يعطيه ويمنحه فالحق مرة يقول :" جنات تجري من تحتها الأنهار " ومرة أخرى يقول :" جنات تجري تحتها الأنهار " فهذا ممكن وذاك ممكن.
فقوله سبحانه " جنات تجري تحتها الأنهار " قد يشير إلى أن الأنهار تكون آتية من موقع آخر وتجري وتمر من تحت الجنات. لا. هي تجري منها أيضا يقول الله تعالى :" جنات تجري من تحتها الأنهار " حتى لا يظن أحد ان هناك من يستطيع أن يسد عنك المياه من أعلى. إنها انهار ذاتية. وعندما نقرأ أن الأنهار تجري من تحت الجنات بما فيها ومن فيها من قصور فقد يقول قائل : ألا أستطيع أن آخذ من هذه و
الأحكام المتقدمة والأمور السابقة كلها حدود الله، وحين يحد الله حدودا.. أي يمنع أن يلتبس حق بحق، أو أن يلتبس حق بباطل ؛ فهو الذي يضع الحدود وهو الذي فصل حقوقا عن حقوق.
ونحن عندما نقوم بفصل حقوق عن حقوق في البيوت والأراضي فنحن نضع حدودا واضحة، ومعنى " حد " أي فاصل بين حقين بحيث لا يأخذ أحد ما ليس له من آخر. والحدود التي نصنعها نحن والتي قد لا يتنبه إليها كثير من الناس، هي نوعان : نوع لا يتعدى بالبناء، فعندما يريد واحد أن يبني، فالأول يبني على الأرض التي هي حق له، ويكون الجدران ملتصقين بعضهما ببعض. وعندما يزرع فلاح بجانب فلاح آخر فكل فلاح يزرع في أرضه وبين القطعتين حد، وهذا يحدث في النفع.
لكن لنفترض أن فلاحا يريد أن يزرع أرزا، وجاره لن يزرع أرزا، فالذي لن يزرع الأرز قد تأخذ أرضه مياها زائدة، فالمياه تصلح للأرز وقد تفسد غيره، ولذلك يكون الحكم هنا أن يقيم زارع الأرز حدا اسمه " حد الجيرة " ليمنع الضرر، وهو ليس " حد الملكية " فزارع الأرز هنا ينقص من زراعته مسافة مترين، ويصنع بهما حد الجيرة، حتى لا تتعدى المياه التي يروى بها الأرز إلى أرض الجار. إنه حد يمنع الضرر، وهو يختلف عن الحد الذي يمنع التملك.
إذن فمن ناحية حماية الإنسان لنفسه من أن يوقع الضرر بالآخرين عليه أن ينتبه إلى المقولة الواضحة :" لا تجعل حقك عند آخر حدك، بل اجعل حقك في الانتفاع بعيدا عن حدك "، وهذا في الملكية. وذلك إذا كان انتفاعك بما تملكه كله سيضر بجارك. وكذلك يعاملنا الله، ويقول في الأوامر :
﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ﴾( من الآية ٢٢٩ سورة البقرة ).
وفي النواهي يقول سبحانه :
﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها ﴾( من الآية ١٨٧ سورة البقرة ).
أي أنك إذا ما تلقيت أمرا، فلا تتعد هذا الأمر، وهذه هي الملكية، وإذا ما تلقيت نهيا فلا تقرب الأمر المنهي عنه. مثال ذلك النهي عن الخمر، فالحق لا يقول :" لا تشرب الخمر "، وانما يقول :" إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ". أي لا تذهب إلى المكان الذي توجد فيه من الأصل، كن في جانب وهذه الأشياء في جانب آخر.
ولذلك قلنا في قصة أكل آدم من الشجرة : أقال الحق :" لا تأكلا من الشجرة " ؟ أم قال ولا تقربا هذه الشجرة ؟ سبحانه قال :
﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾( من الآية ١٩ من سورة الأعراف ).
وهذا حد اسمه " حد عدم المضارة " إنه أمر بعدم الاقتراب حتى لا يصاب الإنسان بشهوة أو رغبة الأكل من الشجرة. وكذلك مجالس الخمر لأنها قد تغريك. ففي الأوامر يقول سبحانه :" تلك حدود الله فلا تعتدوها " وهذا ما يتعلق بالملكية.
وفي النواهي يقول سبحانه :" تلك حدود الله فلا تقربوها " ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث :" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " ١.
لذلك تجنب حدود الله. مثال ذلك قول الحق :
﴿ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ﴾( من الآية ١٨٧ سورة البقرة ).
إن الحق يأمر المعتكف بالمسجد أنه عندما تأتي له زوجه لتناقشه في أمر ما فعلى المؤمن أن يمتثل لأمر الله بعدم مباشرة الزوجة في المسجد. ولا يجعل المسائل قريبة من المباشرة، لأن ذلك من حدود الله. وسبحانه يقول :" تلك حدود الله فلا تقربوها ".
وهنا في مسائل الميراث يقول الحق :
﴿ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك هو الفوز العظيم ١٣ ﴾( سورة النساء ).
وكان يكفي ان يقول الحق من بعد بيان الحدود : " ومن يطع الله " ولكنه قال " ومن يطع الله ورسوله " وذلك لبيان أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان يضع حدودا من عنده لما حل، وأن يضع حدودا لما حرم. وهذا تفويض من الله لرسوله في أنه يشرع ؛ لذلك فلا تقل في كل شيء :" أريد الحكم من القرآن ".
ونرى من يقول : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مفوض في التشريع وهو القائل :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾( من الآية ٧ سورة الحشر ).
إنه صلى الله عليه وسلم مفوض من الله، وهؤلاء الذين ينادون بالاحتكام إلى القرآن فحسب يريدون أن يشككوا في سنة رسول الله، إنهم يحتكمون إلى كتاب الله، وينسون أو يتجاهلون أن في الكتاب الكريم تفويضا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرع.
هم يقولون : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. وقولهم لمثل هذا الكلام دليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقول، لأنهم لو لم يقولوا لقلنا :
يا رسول الله لقد قلت : روى المقدام بن معدي كرب قال : حرم النبي صلى الله عليه وسلم " أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول : بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله " ٢.
فكيف يا سيدي يا رسول الله ذلك، ولم يقل أحد هذا الكلام ؟.
إذن فقولهم الأحمق دليل على صدق الرسول فيما أخبر. ويسخرهم الحق فينطقون بمثل هذا القول لنستدل من قول خصوم النبي على صدق كلام النبي..
والحق يقول :" ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات " والذي يطيع الله ورسوله في الدنيا هو من أخذ التكليف وطبقه ويكون الجزاء هو دخول الجنة في الآخرة. لكن إدخال الجنة هل هو منهج الدين، أو هو الجزاء على الدين ؟.
إنه الجزاء على الدين، وموضوع الدين هو السلوك في الدنيا، ومن يسير على منهج الله في الدنيا يدخل الجنة في الآخرة، فالآخرة ليست موضوع الدين، لكن موضوع الدين هو الدنيا، فعندما تريد أن تعزل الدنيا عن الدين نقول لك : لم تجعل للدين موضوعا، إياك ؟ أن تقول : موضوع الدين هو الآخرة لأن الآخرة هي دار الجزاء، وفي حياتنا نأخذ هذا المثل : هل الامتحان موضوع المناهج، أو أن المناهج يقرأها الطالب طوال السنة، وهي موضوع الامتحان ؟.
إن المناهج التي يدرسها الطالب هي موضوع الامتحان، وكذلك فالدنيا هي موضوع الدين، والآخرة هي جزاء لمن نجح ولمن رسب في الموضوع ؛ لذلك فإياكم أن تقولوا : دنيا ودين، فلا يوجد فصل بين الدنيا والدين ؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين. فالدنيا تقابلها الآخرة والدين لهما. الدنيا مزرعة والآخرة محصدة. بهذا نرد على من يقول : إن الدنيا منفصلة عن الدين.
ومن يطع الله ورسوله يدخله جنة واحدة أو جنتين أو جنات، وهل دلالة " من " للواحد ؟ لا، إن " من " تدل على الواحد، وتدل على المثنى وتدل على الجمع، مثال ذلك نقول : جاء من لقيته أمس ونقول أيضا : جاء من لقيتهما أمس، وتقول ثالثا : جاء من لقيتهم أمس... إذن ف " من " صالحة للمفرد والمثنى والجمع.
والحق هنا لا يتكلم عن مفرد هنا أو جمع. كما قلنا في أول الفاتحة :
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ٥ ﴾( سورة الفاتحة ).
على الرغم من أن القياس أن تقول :" إياك نعبد وإياك نستعين ". لكن قال الحق سبحانه :" إياك نعبد وإياك نستعين " ليوضح لنا ان المؤمنين كلهم وحدة واحدة في العبادة.
وهناك من يقول إذا دلت :( من ) على المفرد فقد لحظنا لفظها، وإذا دلت على المثنى أو الجمع فقد لحظنا معناها.
ولمن يقول ذلك نقول : إن هذا الكلام غير محقق علميا ؛ لأن لفظ " من " لم يقل أحد إنه للمفرد. بل إنها موضوعة للمفرد والمثنى والجمع. فلا تقل : استعمل لفظ " من " مراعاة للفظ أو مراعاة للمعنى، لأن لفظ " من " موضوع لمعان ثلاثة هي المفرد والمثنى والجمع.
وقد سألني أخ كريم في جلسة من الجلسات : لماذا يقول الحق سبحانه في سورة الرحمن :
﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ٤٦ ﴾( سورة الرحمن ).
فقلت له : إن سورة الرحمن استهلها الحق سبحانه وتعالى :
﴿ الرحمن ١ علم القرآن٢ خلق الإنسان ٣ ﴾( سورة الرحمن ).
وبعد ذلك قال الحق :
﴿ خلق الإنسان من صلصال كالفخار ١٤ وخلق الجان من مارج من نار ١٥ ﴾ ( سورة الرحمن ).
وقال سبحانه :
﴿ سنفرغ لكم أيها الثقلان ٣١ ﴾ ( سورة الرحمن ).
وقال تعالى :﴿ يا معشر الإنس والجن إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ٣٣ ﴾ ( سورة الرحمن ).
إذن فمن خاف مقام ربه، هو من الجن أو من الإنس، إن كان من الجن فله جنة، وإن كان من الإنس فله جنة أخرى. إذن فمن خاف مقام ربه فله جنتان.
وهناك من يقول جنتان لكل واحد من الإنس والجن، لأن الله لا يعاني من أزمة أماكن، فحين شاء أزلا أن يخلق خلقا أحصاهم عدا من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، وعامل الكل على أنه مؤمن مطيع، وأنشأ لكل واحد مكانه في الجنة، وعامل سبحانه الكل على أنه عاص، وأنشأ له مقعدا في النار، وذلك حتى لا يفهم أحد أن المسألة هي أزمة أماكن.
فإذا دخل صاحب الجنة جنته، بقيت جنة الكافر التي كانت معدة له على فرض أنه مؤمن ؛ لذلك يقول الحق :
﴿ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ٧٢ ﴾( سورة الزخرف ).
فيرث المؤمنون ما كان قد أعد لغيرهم لو آمنوا.
إذن فالمعاني نجدها صوابا عند أي أسلوب من أساليب القرآن.
وهنا يقول الحق :" يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار " ويجب ان نفهم ان النهر هو الشق الذي يسيل فيه الماء وليس هو الماء، الحق يقول :" جنات تجري من تحتها الأنهار " فأين تجري الأنهار ؟.
أتجري الأنهار تحت زروعها، ام تحت بنيانها ؟ ونعرف أن الزروع هي التي تحتاج إلى مياه، ونحن نريد أن نبعد المياه عن المباني كيف ؟ ولكن ليس هناك شيء مستحيل على الله ؛ لأنها تصميمات ربانية.
فالخلق قد تشق نهرا، ونجد من بعد ذلك النشع يضرب في المباني، لكن تصميمات الحق بطلاقة القدرة ؛ تكون فيه الجنات تجري من تحتها مياه الأنهار، ولا يحدث منها نشع، سواء من تحت أبنية الجنات أو من تحت زروعها والذي يقبل على أسلوب ربه ويسأله أن يفيض عليه ويلهمه، فهو سبحانه يعطيه ويمنحه فالحق مرة يقول :" جنات تجري من تحتها الأنهار " ومرة أخرى يقول :" جنات تجري تحتها الأنهار " فهذا ممكن وذاك ممكن.
فقوله سبحانه " جنات تجري تحتها الأنهار " قد يشير إلى أن الأنهار تكون آتية من موقع آخر وتجري وتمر من تحت الجنات. لا. هي تجري منها أيضا يقول الله تعالى :" جنات تجري من تحتها الأنهار " حتى لا يظن أحد ان هناك من يستطيع أن يسد عنك المياه من أعلى. إنها انهار ذاتية. وعندما نقرأ أن الأنهار تجري من تحت الجنات بما فيها ومن فيها من قصور فقد يقول قائل : ألا أستطيع أن آخذ من هذه و
١ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن النعمان بن بشير..
٢ رواه الطبراني في الأوسط عن جابر..
٢ رواه الطبراني في الأوسط عن جابر..
وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل : فيقول :﴿ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ١٤ ﴾.
وسبحانه قال من قبل :" تلك حدود الله ". والحدود إما أن تبين الأوامر وحدها وإما ان تبين النواهي وحدها. فهي شاملة أن يطيعها الطائع أو يعصيها العاصي.
فإن كنت تطيع فلك جزاء الطاعة وتأخذ الجنات والخلود والفوز العظيم.
لكن ماذا عمن يعصي ؟ إن له المقابل، وهذا هو موقفه وجزاؤه أن له العذاب.
" ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ".
هنا نجد " نارا " واحدة، وهناك نجد " جنات ". هذا ملحظ أول، وإذا كنا منتبهين ونقبل على كتاب الله، ونعرف أن المتكلم هو الله، فإننا نجد الملحظ الثاني وهو خلود للمؤمنين في الجنات، أما الكافر فسيدخل النار. ولم يقل الحق نيرانا، ولم يقل الحق أيضا :" خالدين " لماذا ؟ لأن المؤمنين سيكونون في الجنة على سرر متقابلين، ويتزاورون، وكل واحد يستمتع بكل الجنان، وأيضا إن المرء إذا كان له من عمله الصالح الكثير وقصر أولاده الذين اشتركوا معه في الإيمان، فإن الحق سبحانه يلحق به ذريته ويكون هو وذريته في النعيم والجنان كرامة له. فتكون الجنات مع بعضها وهذا أدعى للإنس.
ولكن الموقف يختلف مع الكافر، فلن يلحق الله به أحدا وكل واحد سيأخذ ناره، وحتى لا يأنسوا مع بعضهم وهم في النار، فالأنس لن يطولوه أيضا، فكل واحد في ناره تماما مثل الحبس المنفرد في زنزانة. ولن يأنس واحد منهم بمعذب آخر. إذن فهناك " جنات " و " نار " و " خالدين " و " خالدا "، وكل استخدام للكلمة له معنى. والطائع له جنات يأتنس فيها بذريته وإخوته أهل الإيمان ويكونون خالدين جميعا في الجنات، أما العاصي فهو في النار وحده خالدا " وله عذاب مهين ".
إن العذاب يكون مرة أليما، ومثال ذلك أن يؤلم واحد عدوه فيتجلد عدوه لا يرى شماتة الذي يعذبه. ويقول الشاعر :
وتجلدي للشامتين أريهمو *** أنى لريب الدهر لا أتضعضع
فيكتم الألم عن خصمه، لكن هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهناك إهانة في النفس، فعذاب الله يجمع الألم والإهانة، إياك أن تفهم أن هناك من يقدر على أن يتجلد كما يتجلد البشر عند وقوع العذاب في الدنيا إن عذاب الآخرة مهين ومذل للنفس في آن واحد.
وهكذا نجد أن المرحلة الأولى من سورة النساء عالجت وحدة الإنسان أبا، ووحدته أما، وعالجت كيف بث الله منهما رجالا كثيرا ونساء. وعالجت السورة أيضا ما يطرأ مما يجري به قدر الله في بعض خلقه بأن يتركوا أيتاما ضعافا، وأنه سبحانه أراد استبقاء الحياة الكريمة للنفس الإنسانية ؛ لذلك طلب أن نصنع الخير والمودة مع اليتامى، ووضع أسلوب التعامل الإيماني معهم، وأن نكون أوصياء قائمين بالعدالة والإرادة الحسنة العفيفة لأموالهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد فيتسلموها.
وأيضا عالجت السورة أمرا آخر وهو استبقاء الحياة الكريمة للنساء والأطفال ضمن النسيج الاجتماعي. ذلك أن العرب كانوا يمنعون النساء من الميراث، ويمنعون كذلك من الميراث من لم يطعن برمح ولم يضرب بخنجر أو سيف ولم يشترك في رد عدوان. فأراد الله سبحانه لهذه الفئة الذليلة المضطهدة أن تأخذ حقها ليعيش العنصران في كرامة ويستبقيا الحياة في عزة وهمة وفي قوة، فشرع الحق نصيبا محددا للنساء يختلف عن نصيب الرجال مما قل أو كثر، وبعد ذلك استطرد ليتكلم عن الحقوق في المواريث. وأوضح سبحانه الحدود التي شرعها لهذا الأمر، فمن كان يريد جنات الله فليطع الله ورسوله فيما حد من حدود. ومن استغنى عن هذه الجنات فليعص الله ليكون خالدا في النار.
إذن فالحياة الإنسانية هبة من الله لعباده، ومن كرمه سبحانه أن اوجد لها قبل أن يوجدها ما يقيم أود الحياة الكريمة لذلك الإنسان المكرم، فوفد الإنسان على الخير، ولم يفد الخير على الإنسان، أي أن الحق سبحانه لم يخلق الإنسان أولا ثم صنع له من بعد ذلك الشمس والقمر والأرض والعناصر. لا، لقد خلق الله هذه العناصر التي تخدم الإنسان أولا وأعدها لاستقبال الطارق الجديد الإنسان الذي اختاره سبحانه ليكون خليفة في الأرض. فالخير في الأرض الذي نستبقي به الحياة سبق وجود الإنسان، وهذه عناية من الحق الرحمن بمخلوقه المكرم وهو الإنسان. وجعل الله للإنسان وسيلة للتكاثر وربطها بعملية الإمتاع، وهذه الوسيلة في التكاثر تختلف عن وسائل التكاثر في الزروع والحيوانات، فوسيلة التكاثر في كل الكائنات هي لحفظ النوع فقط.
وأراد سبحانه وتعالى أن يكون الإمتاع مصاحبا لوسيلة التكاثر الإنساني، ذلك أن المشقات التي يتطلبها النسل كثيرة، فلا بد أن يجعل الله في عملية التكاثر متعة تغري الإنسان.
وأراد الحق سبحانه بذلك أن يأتي بالضعاف ليجعل منهم حياة قوية.
ويوصينا الحق باليتيم من البشر، وقد يقول قائل :
مادام الحق سبحانه وتعالى يوصينا حتى ننشئ من اليتيم إنسانا قويا وأن نحسن إلى اليتيم، فلماذا أراد الله أن يموت والد اليتيم ؟. نقول : جعل الحق هذا الأمر حتى لا تكون حياة الإنسان ضربة لازب على الله، إنه يخلق الإنسان بعمر محدد معروف له سبحانه ومجهول للإنسان، فالإنسان قد يموت جنينا أو طفلا أو صبيا أو رجلا أو هرما، بل نحن نجد في الحياة إنسانا هرما مازال يحيا بيننا ويموت حفيد حفيده، لماذا ؟.
لأن الله أراد أن يستر قضية الموت عن الناس، فلا معرفة للإنسان بالعمر الذي سوف يحياه ولا بزمان الموت، ولا مكان الموت، حتى يكون الإنسان منا دائما على استعدادا أن يموت في أي لحظة. ومادام الإنسان يعيش مستعدا لأن يموت في أي لحظة، فعليه أن يستحي أن يلقى الله على معصية. وأيضا لنعلم أن المنهج الإيماني ؛ منهج يجعل المؤمنين جميعا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فإذا مات رجل وترك طفلا يتيما، ووجد هذا اليتيم آباء من المجتمع الإيماني، فإن المنهج الإيماني يستقر في قلب اليتيم اطمئنانا ويقينا. ومن حكمة الموت ألا يفتن أحد في أبيه أو في الأسباب الممنوحة من الله للآباء، بل نكون جميعا موصولين بالله.
ومادام الحق سبحانه قد وضع لنا الأسباب لاستبقاء الحياة، ووضع لنا أسلوب السعي في الأرض لتستبقى الحياة بالحركة فيها، فقد وضع أيضا الوسيلة الكريمة لاستبقاء النوع وجعل من حركة الأصل ما يعود على الفرع، فلم يغر الله الإنسان وحده بالحركة لنفسه، ولكن أغراه أن يتحرك في الحياة حركة تسعه وتسع من يعول، و ويوضح الحق للإنسان : أن حركتك في الأرض ستنفع أولادك أيضا.
ولذلك أوجد الله سبحانه في نفس كل والد غريزة الحنان والحب. ونحن نرى هذه الغريزة كآية من آيات الله متمكنة في نفوس الآباء. ولهذا يسعى الأب في الحياة ليستفيد هو وأولاده. والذي يتحرك حركة واسعة في الحياة قد يأتي عليه زمان يكفيه عائد حركته بقية عمره ؛ لأنه تحرك بهمة وإخلاص ؛ وأفاء الله عليه الرزق الوفير، وقد يتحرك رجل لمدة عشرين عاما أو يزيد ويضمن لنفسه ولأولاده من بعده الثروة الوفيرة، وهناك من يكد ويتعب في الحياة ويكسب رزقا يكفيه ويكفي الأبناء والأحفاد.
وهكذا نجد الذين يتحركون لا يستفيدون وحدهم، فقط ولكن المجتمع يستفيد أيضا. وتشاء حكمة الله العالية بأن يفتت الثروة بقوانين الميراث لتنتشر الثروة وتتوزع بين الأبناء فتشيع في المجتمع، وهذا اسمه التفتيت الانسيابي. كأن نجد واحدا يملك مائة فدان وله عدد من الأبناء والبنات. وبعد وفاة الرجل يرث الأبناء والبنات كل تركته، وهكذا تتفتت الثروة بين الأبناء تفتيتا انسيابيا وليس بالتوزيع القهري الذي ينشئ الحقد والعداوة، ويريد الحق أن نحترم حركة المتحرك، وأن تعود له حركة حياته ولمن يعول فقال سبحانه :
﴿ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ٣٦ ﴾ ( سورة محمد ).
هو سبحانه لا يقول لأي واحد : هات المال الذي وهبته لك. وقلت سابقا : إنه سبحانه وتعالى يحنن عبدا على عبد فيقول :
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ١١ ﴾ ( سورة الحديد ).
إن الله سبحانه يحترم حركة العبد، ويحترم ما ملك العبد بعرقه، ويوصي الحق العبد الغني : إن أخاك العبد الفقير في حاجة، فأقرضني أنا الله بإعطائك الصدقة أو الزكاة لأخيك الفقير. ولم يقل للعبد الغني : أقرض أخاك، ولكنه قال أقرضني. لماذا ؟ لأنه سبحانه هو الذي استدعى الخلق إلى الوجود، وهو المتكفل برزقهم جميعا.. المؤمن منهم والكافر. ولذلك ضمن الرزق للجميع وأمر الأسباب بأن تستجيب حتى للكافر، لأنه سبحانه هو الذي استدعاه للوجود.
وسبحانه وضع هذا التوريث، ليصنع التفتيت الانسيابي للملكية حتى لا يأتي التفتيت القسري الذي يجعل بعضا من الأبناء وقد نشأوا في نعمة وأخذوا من مسائل الحياة ما يريدون ؟، وعندما يأتي عليهم هذا التفتيت القسري، يصبحون من المساكين الذين فاجأتهم الأحداث القسرية بالحرمان، فهم لم يستعدوا لهذا الفقر المفاجئ. لكن عندما يأتي التفتيت الانسيابي فكل واحد يعد نفسه لما يستقبله، وبذاتية راضية وبقدره على الحركة، ولذلك قال الحق :
﴿ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ٣٦ ﴾( سورة محمد ).
إنه سبحانه لا يقول : أنا الذي ملكتك هذا المال، ولا أنا الذي رزقتك هذا الرزق، مع أنه سبحانه هو الذي ملكك ورزقك هذا المال حقا ولكنه يوضح لك حقك في الحركة، فيقول بعد ذلك :
﴿ إن يسأ لكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ٣٧ ﴾( سورة محمد ).
ولو ألح عليك فأنت تبخل بها لأنك جنيتها بتعب وعرق. ولكن ما الفرق بين إنسان لم يسرف على نفسه، بل عاش معتدلا، ثم أبقى شيئا لأولاده ؛ والذي جاء بدخله كله وبدده فيما حرمه الله وأسرف على نفسه في المخدرات وغيرها، ما الفرق بين هذا وذاك ؟.
الفرق هو احترام الحق سبحانه لأثر حركة الإنسان في الحياة، لذلك يوضح : انا لا أسألكم أموالكم، لأني إن سألتكم أموالكم فقد تبخلون، لأن مالكم عائد من أعمالكم.
ويقول الحق :" ويخرج أضغانكم " وإذا ظهر وخرج الضغن في المجتمع فالويل للمجتمع كله ؛ ولذلك نجد أن كل حركة من هذه الحركات القسرية ينشأ منها بروز الضغن في المجتمع كله، وساعة يبرز الضغن في المجتمع، انتهى كل شيء جميل. ولذلك وضع الحق أسس ووسائل استبقاء الحياة الكريمة.
وضع أسسا للضعيف بما يحميه، وكذلك للنساء اللاتي كن محرومات من الميراث قبل الإسلام، وجعل الحق سبحانه وتعالى لتوريث الأطفال والأبناء والنساء حدودا " تلك حدود الله " وإياكم أن تتعدوا هذه الحدود ؛ لأن الإنسان إذا ما تعدى هذه الحدود، فلا بد أن يكون من أهل النار والعياذ بالله فقد وضع الله تلك القواعد لاستبقاء حياتك وحياة من تعول.
وهناك لون آخر من الاستبقاء، هو استبقاء النوع، لأن للإنسان عمرا محدودا في الحياة وسينتهي ؛ لذلك يجب أن يستبقي الإنسان النوع في غيره، كيف ؟ نحن نتزوج كي يرزقنا الله بالذرية والبنين والحفدة وتستمر حلقات، وهذا استبقاء للنوع الإنساني.
والحق يريد أن يكون الاستبقاء للنوع كريما ؛ لذلك يأمرنا الحق سبحانه أن نستبقي النوع بأن نخ
وسبحانه قال من قبل :" تلك حدود الله ". والحدود إما أن تبين الأوامر وحدها وإما ان تبين النواهي وحدها. فهي شاملة أن يطيعها الطائع أو يعصيها العاصي.
فإن كنت تطيع فلك جزاء الطاعة وتأخذ الجنات والخلود والفوز العظيم.
لكن ماذا عمن يعصي ؟ إن له المقابل، وهذا هو موقفه وجزاؤه أن له العذاب.
" ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ".
هنا نجد " نارا " واحدة، وهناك نجد " جنات ". هذا ملحظ أول، وإذا كنا منتبهين ونقبل على كتاب الله، ونعرف أن المتكلم هو الله، فإننا نجد الملحظ الثاني وهو خلود للمؤمنين في الجنات، أما الكافر فسيدخل النار. ولم يقل الحق نيرانا، ولم يقل الحق أيضا :" خالدين " لماذا ؟ لأن المؤمنين سيكونون في الجنة على سرر متقابلين، ويتزاورون، وكل واحد يستمتع بكل الجنان، وأيضا إن المرء إذا كان له من عمله الصالح الكثير وقصر أولاده الذين اشتركوا معه في الإيمان، فإن الحق سبحانه يلحق به ذريته ويكون هو وذريته في النعيم والجنان كرامة له. فتكون الجنات مع بعضها وهذا أدعى للإنس.
ولكن الموقف يختلف مع الكافر، فلن يلحق الله به أحدا وكل واحد سيأخذ ناره، وحتى لا يأنسوا مع بعضهم وهم في النار، فالأنس لن يطولوه أيضا، فكل واحد في ناره تماما مثل الحبس المنفرد في زنزانة. ولن يأنس واحد منهم بمعذب آخر. إذن فهناك " جنات " و " نار " و " خالدين " و " خالدا "، وكل استخدام للكلمة له معنى. والطائع له جنات يأتنس فيها بذريته وإخوته أهل الإيمان ويكونون خالدين جميعا في الجنات، أما العاصي فهو في النار وحده خالدا " وله عذاب مهين ".
إن العذاب يكون مرة أليما، ومثال ذلك أن يؤلم واحد عدوه فيتجلد عدوه لا يرى شماتة الذي يعذبه. ويقول الشاعر :
وتجلدي للشامتين أريهمو *** أنى لريب الدهر لا أتضعضع
فيكتم الألم عن خصمه، لكن هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهناك إهانة في النفس، فعذاب الله يجمع الألم والإهانة، إياك أن تفهم أن هناك من يقدر على أن يتجلد كما يتجلد البشر عند وقوع العذاب في الدنيا إن عذاب الآخرة مهين ومذل للنفس في آن واحد.
وهكذا نجد أن المرحلة الأولى من سورة النساء عالجت وحدة الإنسان أبا، ووحدته أما، وعالجت كيف بث الله منهما رجالا كثيرا ونساء. وعالجت السورة أيضا ما يطرأ مما يجري به قدر الله في بعض خلقه بأن يتركوا أيتاما ضعافا، وأنه سبحانه أراد استبقاء الحياة الكريمة للنفس الإنسانية ؛ لذلك طلب أن نصنع الخير والمودة مع اليتامى، ووضع أسلوب التعامل الإيماني معهم، وأن نكون أوصياء قائمين بالعدالة والإرادة الحسنة العفيفة لأموالهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد فيتسلموها.
وأيضا عالجت السورة أمرا آخر وهو استبقاء الحياة الكريمة للنساء والأطفال ضمن النسيج الاجتماعي. ذلك أن العرب كانوا يمنعون النساء من الميراث، ويمنعون كذلك من الميراث من لم يطعن برمح ولم يضرب بخنجر أو سيف ولم يشترك في رد عدوان. فأراد الله سبحانه لهذه الفئة الذليلة المضطهدة أن تأخذ حقها ليعيش العنصران في كرامة ويستبقيا الحياة في عزة وهمة وفي قوة، فشرع الحق نصيبا محددا للنساء يختلف عن نصيب الرجال مما قل أو كثر، وبعد ذلك استطرد ليتكلم عن الحقوق في المواريث. وأوضح سبحانه الحدود التي شرعها لهذا الأمر، فمن كان يريد جنات الله فليطع الله ورسوله فيما حد من حدود. ومن استغنى عن هذه الجنات فليعص الله ليكون خالدا في النار.
إذن فالحياة الإنسانية هبة من الله لعباده، ومن كرمه سبحانه أن اوجد لها قبل أن يوجدها ما يقيم أود الحياة الكريمة لذلك الإنسان المكرم، فوفد الإنسان على الخير، ولم يفد الخير على الإنسان، أي أن الحق سبحانه لم يخلق الإنسان أولا ثم صنع له من بعد ذلك الشمس والقمر والأرض والعناصر. لا، لقد خلق الله هذه العناصر التي تخدم الإنسان أولا وأعدها لاستقبال الطارق الجديد الإنسان الذي اختاره سبحانه ليكون خليفة في الأرض. فالخير في الأرض الذي نستبقي به الحياة سبق وجود الإنسان، وهذه عناية من الحق الرحمن بمخلوقه المكرم وهو الإنسان. وجعل الله للإنسان وسيلة للتكاثر وربطها بعملية الإمتاع، وهذه الوسيلة في التكاثر تختلف عن وسائل التكاثر في الزروع والحيوانات، فوسيلة التكاثر في كل الكائنات هي لحفظ النوع فقط.
وأراد سبحانه وتعالى أن يكون الإمتاع مصاحبا لوسيلة التكاثر الإنساني، ذلك أن المشقات التي يتطلبها النسل كثيرة، فلا بد أن يجعل الله في عملية التكاثر متعة تغري الإنسان.
وأراد الحق سبحانه بذلك أن يأتي بالضعاف ليجعل منهم حياة قوية.
ويوصينا الحق باليتيم من البشر، وقد يقول قائل :
مادام الحق سبحانه وتعالى يوصينا حتى ننشئ من اليتيم إنسانا قويا وأن نحسن إلى اليتيم، فلماذا أراد الله أن يموت والد اليتيم ؟. نقول : جعل الحق هذا الأمر حتى لا تكون حياة الإنسان ضربة لازب على الله، إنه يخلق الإنسان بعمر محدد معروف له سبحانه ومجهول للإنسان، فالإنسان قد يموت جنينا أو طفلا أو صبيا أو رجلا أو هرما، بل نحن نجد في الحياة إنسانا هرما مازال يحيا بيننا ويموت حفيد حفيده، لماذا ؟.
لأن الله أراد أن يستر قضية الموت عن الناس، فلا معرفة للإنسان بالعمر الذي سوف يحياه ولا بزمان الموت، ولا مكان الموت، حتى يكون الإنسان منا دائما على استعدادا أن يموت في أي لحظة. ومادام الإنسان يعيش مستعدا لأن يموت في أي لحظة، فعليه أن يستحي أن يلقى الله على معصية. وأيضا لنعلم أن المنهج الإيماني ؛ منهج يجعل المؤمنين جميعا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فإذا مات رجل وترك طفلا يتيما، ووجد هذا اليتيم آباء من المجتمع الإيماني، فإن المنهج الإيماني يستقر في قلب اليتيم اطمئنانا ويقينا. ومن حكمة الموت ألا يفتن أحد في أبيه أو في الأسباب الممنوحة من الله للآباء، بل نكون جميعا موصولين بالله.
ومادام الحق سبحانه قد وضع لنا الأسباب لاستبقاء الحياة، ووضع لنا أسلوب السعي في الأرض لتستبقى الحياة بالحركة فيها، فقد وضع أيضا الوسيلة الكريمة لاستبقاء النوع وجعل من حركة الأصل ما يعود على الفرع، فلم يغر الله الإنسان وحده بالحركة لنفسه، ولكن أغراه أن يتحرك في الحياة حركة تسعه وتسع من يعول، و ويوضح الحق للإنسان : أن حركتك في الأرض ستنفع أولادك أيضا.
ولذلك أوجد الله سبحانه في نفس كل والد غريزة الحنان والحب. ونحن نرى هذه الغريزة كآية من آيات الله متمكنة في نفوس الآباء. ولهذا يسعى الأب في الحياة ليستفيد هو وأولاده. والذي يتحرك حركة واسعة في الحياة قد يأتي عليه زمان يكفيه عائد حركته بقية عمره ؛ لأنه تحرك بهمة وإخلاص ؛ وأفاء الله عليه الرزق الوفير، وقد يتحرك رجل لمدة عشرين عاما أو يزيد ويضمن لنفسه ولأولاده من بعده الثروة الوفيرة، وهناك من يكد ويتعب في الحياة ويكسب رزقا يكفيه ويكفي الأبناء والأحفاد.
وهكذا نجد الذين يتحركون لا يستفيدون وحدهم، فقط ولكن المجتمع يستفيد أيضا. وتشاء حكمة الله العالية بأن يفتت الثروة بقوانين الميراث لتنتشر الثروة وتتوزع بين الأبناء فتشيع في المجتمع، وهذا اسمه التفتيت الانسيابي. كأن نجد واحدا يملك مائة فدان وله عدد من الأبناء والبنات. وبعد وفاة الرجل يرث الأبناء والبنات كل تركته، وهكذا تتفتت الثروة بين الأبناء تفتيتا انسيابيا وليس بالتوزيع القهري الذي ينشئ الحقد والعداوة، ويريد الحق أن نحترم حركة المتحرك، وأن تعود له حركة حياته ولمن يعول فقال سبحانه :
﴿ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ٣٦ ﴾ ( سورة محمد ).
هو سبحانه لا يقول لأي واحد : هات المال الذي وهبته لك. وقلت سابقا : إنه سبحانه وتعالى يحنن عبدا على عبد فيقول :
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ١١ ﴾ ( سورة الحديد ).
إن الله سبحانه يحترم حركة العبد، ويحترم ما ملك العبد بعرقه، ويوصي الحق العبد الغني : إن أخاك العبد الفقير في حاجة، فأقرضني أنا الله بإعطائك الصدقة أو الزكاة لأخيك الفقير. ولم يقل للعبد الغني : أقرض أخاك، ولكنه قال أقرضني. لماذا ؟ لأنه سبحانه هو الذي استدعى الخلق إلى الوجود، وهو المتكفل برزقهم جميعا.. المؤمن منهم والكافر. ولذلك ضمن الرزق للجميع وأمر الأسباب بأن تستجيب حتى للكافر، لأنه سبحانه هو الذي استدعاه للوجود.
وسبحانه وضع هذا التوريث، ليصنع التفتيت الانسيابي للملكية حتى لا يأتي التفتيت القسري الذي يجعل بعضا من الأبناء وقد نشأوا في نعمة وأخذوا من مسائل الحياة ما يريدون ؟، وعندما يأتي عليهم هذا التفتيت القسري، يصبحون من المساكين الذين فاجأتهم الأحداث القسرية بالحرمان، فهم لم يستعدوا لهذا الفقر المفاجئ. لكن عندما يأتي التفتيت الانسيابي فكل واحد يعد نفسه لما يستقبله، وبذاتية راضية وبقدره على الحركة، ولذلك قال الحق :
﴿ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ٣٦ ﴾( سورة محمد ).
إنه سبحانه لا يقول : أنا الذي ملكتك هذا المال، ولا أنا الذي رزقتك هذا الرزق، مع أنه سبحانه هو الذي ملكك ورزقك هذا المال حقا ولكنه يوضح لك حقك في الحركة، فيقول بعد ذلك :
﴿ إن يسأ لكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ٣٧ ﴾( سورة محمد ).
ولو ألح عليك فأنت تبخل بها لأنك جنيتها بتعب وعرق. ولكن ما الفرق بين إنسان لم يسرف على نفسه، بل عاش معتدلا، ثم أبقى شيئا لأولاده ؛ والذي جاء بدخله كله وبدده فيما حرمه الله وأسرف على نفسه في المخدرات وغيرها، ما الفرق بين هذا وذاك ؟.
الفرق هو احترام الحق سبحانه لأثر حركة الإنسان في الحياة، لذلك يوضح : انا لا أسألكم أموالكم، لأني إن سألتكم أموالكم فقد تبخلون، لأن مالكم عائد من أعمالكم.
ويقول الحق :" ويخرج أضغانكم " وإذا ظهر وخرج الضغن في المجتمع فالويل للمجتمع كله ؛ ولذلك نجد أن كل حركة من هذه الحركات القسرية ينشأ منها بروز الضغن في المجتمع كله، وساعة يبرز الضغن في المجتمع، انتهى كل شيء جميل. ولذلك وضع الحق أسس ووسائل استبقاء الحياة الكريمة.
وضع أسسا للضعيف بما يحميه، وكذلك للنساء اللاتي كن محرومات من الميراث قبل الإسلام، وجعل الحق سبحانه وتعالى لتوريث الأطفال والأبناء والنساء حدودا " تلك حدود الله " وإياكم أن تتعدوا هذه الحدود ؛ لأن الإنسان إذا ما تعدى هذه الحدود، فلا بد أن يكون من أهل النار والعياذ بالله فقد وضع الله تلك القواعد لاستبقاء حياتك وحياة من تعول.
وهناك لون آخر من الاستبقاء، هو استبقاء النوع، لأن للإنسان عمرا محدودا في الحياة وسينتهي ؛ لذلك يجب أن يستبقي الإنسان النوع في غيره، كيف ؟ نحن نتزوج كي يرزقنا الله بالذرية والبنين والحفدة وتستمر حلقات، وهذا استبقاء للنوع الإنساني.
والحق يريد أن يكون الاستبقاء للنوع كريما ؛ لذلك يأمرنا الحق سبحانه أن نستبقي النوع بأن نخ
واسمعوا قول الله :
﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ١٥ ﴾.
و " اللاتي " اسم موصول لجماعة الإناث، وأنا أرى أن ذلك خاص باكتفاء المرأة بالمرأة. وماذا يقصد بقوله :" فاستشهدوا عليهن أربعة " ؟ إنه سبحانه يقصد به حماية الأعراض، فلا يلغ كل واحد في عرض الآخر، بل لا بد أن يضع لها الحق احتياطا قويا، لأن الأعراض ستجرح، ولماذا " أربعة " في الشهادة ؟ لأنهما اثنتان تستمتعان ببعضهما، ومطلوب أن يشهد على كل واحدة اثنان فيكونوا أربعة، وإذا حدث هذا ورأينا وعرفنا وتأكدنا، ماذا نفعل ؟.
قال سبحانه :" فأمسكوهن في البيوت " أي احجزوهن واحبسوهن عن الحركة، ولا تجعلوا لهن وسيلة التقاء إلى أن يتوفاهن الموت " أو يجعل الله لهن سبيلا " وقد جعل الله.
والذين يقولون : إن هذه المسألة خاصة بعملية بين رجل وامرأة، نقول له : إن كلمة " واللاتي " هذه اسم موصول لجماعة الإناث، اما إذا كان هذا بين ذكر وذكر. ففي هذه الحالة يقول الحق :
﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ١٦ ﴾( سورة النساء ).
الآية هنا تختص بلقاء رجل مع رجل، ولذلك تكون المسألة الأولى تخص المرأة مع المرأة، ولماذا يكون العقاب في مسألة لقاء المرأة بالمراة طلبا للمتعة هو الإمساك في البيوت حتى يتوفاهن الموت ؟ لأن هذا شر ووباء يجب أن يحاصر، فهذا الشر معناه الإفساد التام، لأن المرأة ليست محجوبة عن المرأة ؛ فلأن تحبس المرأة حتى تموت خير من أن تتعود على الفاحشة. ونحن لا نعرف ما الذي سوف يحدث من أضرار، والعلم مازال قاصرا، فالذي خلق هو الذي شرع أن يلتقي الرجل بالمرأة في إطار الزواج وما يجب فيه من المهر والشهود، وسبحانه أعد المراة للاستقبال، وأعد الرجل للإرسال، وهذا أمر طبيعي، فإذا دخل إرسال على استقبال ليس له، فالتشويش يحدث.
وإن لم يكن اللقاء على الطريقة الشرعية التي قررها من خلقنا فلا بد أن يحدث أمر خاطئ ومضر، ونحن عندما نصل سلكا كهربائيا بسلك آخر من النوع نفسه.. أي سالب مع سالب أو موجب مع موجب تشب الحرائق، ونقول :" حدث ماس كهربائي "، أي أن التوصيلة الكهربائية كانت خاطئة. فإذا كانت التوصيلة الكهربائية الخاطئة في قليل من الأسلاك قد حدث ما حدث منها من الإضرار، أفلا تكون التوصيلة الخاطئة في العلاقات الجنسية مضرة في البشر ؟.
إنني أقول هذا الكلام ليسجل، لأن العلم سيكشف إن متأخرا أو متقدما أن لله سرا، وحين يتخصص رجل بامرأة بمنهج الله " زوجني.. وتقول له زوجتك " فإن الحق يجعل اللقاء طبيعيا. أما إن حدث اختلاف في الإرسال والاستقبال فلسوف يحدث ماس صاعق ضار، وهذه هي الحرائق في المجتمع.
أكرر هذا الكلام ليسجل وليقال في الأجيال القادمة : إن الذين من قبلنا قد اهتدوا إلى نفحة من نفحات الله، ولم يركنوا إلى الكسل، بل هداهم الإيمان إلى أن يكونوا موصولين بالله، ففطنوا إلى نفحات الله. والحق هو القائل :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾ ( من الآية ٥٣ سورة فصلت ).
فإذا كنا قد اهتدينا إلى معرفة أن اتصال سلك صحيح بسلك صحيح فالكهرباء تعطي نورا جميلا. أما إذا حدث خطأ في الاتصال ؟، فالماس يحدث وتنتج منه حرائق، كذلك في العلاقة البشرية، لن المسألة ذكورة وأنوثة.
والحق سبحانه القائل :
﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾( من الآية ٤٩ سورة الذاريات ).
فإذا كان النور الجميل يحدث من الاتصال الصحيح بين الموجب والسالب في غير الإنسان، وتحدث الحرائق إن كان الاتصال خاطئا، فما بالنا بالإنسان ؟.
وفي بعض رحلاتنا في الخارج، سألنا بعض الناس :
لماذا عددتم للرجل نساء، ولم تعددوا رجالا للمرأة ؟.
هم يريدون أن يثيروا حفيظة المرأة وسخطها على دين الله ؛ حتى تقول المرأة الساذجة متمردة على دينها :" ليس في هذا الدين عدالة " ؛ لذلك سألت من سألوني : أعندكم أماكن يستريح فيها الشباب المتحلل جنسيا ؟.
فكان الجواب : نعم في بعض الولايات هناك مثل هذه الأماكن.
قلت : بماذا احتطتم لصحة الناس ؟.
قالوا : بالكشف الطبي الدوري المفاجئ.
قلت : لماذا ؟.
قالوا : حتى نعزل المصابة بأي مرض.
قلت : أيحدث ذلك مع كل رجل وامرأة متزوجين ؟
قالوا : لا.
قلت : لماذا ؟ ؟ فسكتوا ولم يجيبوا، فقلت : لأن الواقع أن الحياة الزوجية للمرأة مع رجل واحد تكون المرأة وعاء للرجل وحده لا ينشأ منها أمراض، ولكن المرض ينشأ حين يتعدد ماء الرجال في المكان الواحد.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يستبقي النوع بقاء نظيفا ؛ لذلك قال :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ١٥ ﴾( سورة النساء ).
والمقصود ب " نسائكم " هنا المسلمات، لأننا لا نشرع لغيرنا، لانهم غير مؤمنين بالله. وطلب الشهادة يكون من أربعة من المسلمين، لأن المسلم يعرف قيمة العرض والعدالة. وإن شهدوا فليحدث حكم الله بالحبس في البيوت.
وقد عرفنا ذلك فيما يسمى في العصر الحديث بالحجر الصحي الذي نضع فيه أصحاب المرض المعدي. وهناك فرق بين من أصبن ب " مرض معد " ومن أصبن ب " العطب والفضيحة ". فإذا كنا نعزل أصحاب المرض المعدي فكيف لا نعزل اللاتي أصبن بالعطب والفضيحة ؛ لذلك يقول الحق :" فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " أي أن تظل كل منهما في العزل إلى أن يأتي لكل منهن ملك الموت. وحدثتنا كتب التشريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الآية على أنها تختص بزنا يقع بين رجل وامرأة وليس بين امرأتين.
عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" خذوا عني خذوا عني : البكر البكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب الثيب جلد مائة والرجم " ١.
ثم جاء التشريع بعد ذلك فصفى قضية الحدود إلى أن البكر بالبكر جلد.. والثيب بالثيب رجم. وبعض من الناس يقول : إن الرجم لم يرد بالقرآن.
نرد فنقول : ومن قال : إن التشريع جاء فقط بالقرآن ؟ لقد جاء القرآن معجزة ومنهجا للأصول، وكما قلنا من قبل : إن الحق قال :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه ﴾( من الآية ٧ سورة الحشر ).
وبعد ذلك نتناول المسألة : حين يوجد نص ملزم بحكم، قد نفهم الحكم من النص وقد لا نفهمه، فإذا فهمنا فله تطبيق عملي في السيرة النبوية.
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بالنص فقط ولكن جاء بالعمل نفسه، فالأسوة تكون بالفعل في إقامة الحد ؛ لأن الفعل أقوى من النص، فالنص قد يوجد ولا يطبق لسبب كالنسخ للحكم مثلا، أما الفعل فإنه تطبيق، وقد رجم الرسول ماعزا والغا مدية ورجم اليهودي و اليهودية عندما جاءوا يطلبون تعديل حكم الرجم الوارد بالتوراة. إذن فالفعل من الرسول أقوى من النص وخصوصا أن الرسول مشرع أيضا. وقال واحد مرة : إن الرجم لمن تزوج، فماذا نفعل برجل متزوج قد زنا بفتاة بكر ؟.
والحكم هنا : يرجم الرجل وتجلد الفتاة، فإن اتفقا في الحالة، فهما يأخذان حكما واحدا. وإن اختلفا فكل واحد منهما يأخذ الحكم الذي يناسبه.
وحينما تكلم الحق عن الحد في الإماء المملوكات قال :
﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ ( سورة النساء ).
ويفهم من ذلك الجلد فقط، لأن الرجم لا يمكن أن نقوم بتقسيمه إلى نصفين، فالأمة تأخذ في الحد نصف الحرة، لأن الحرة البكر في الزنا تجلد مائة جلدة، والأمة تجلد خمسين جلدة.
ومادام للأمة نصف حد المحصنة، فلا يأتي إذن حد إلا فيما ينصف، والرجم لا ينصف، والدليل أصبح نهائيا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرع وليس مستنبطا، وقد رجم رسول الله. ولماذا تأخذ الأمة نصف عقاب الحرة ؟ لأن الإماء مهدورات الكرامة، أما الحرائر فلا. ولذلك فهند امرأة أبي سفيان قالت : أو تزني الحرة ؟ قالت ذلك وهي في عنف جاهليتها. أي أن الزنا ليس من شيمة الحرائر، أما الأمة فمهدورة الكرامة نظرا لأنه مجترأ عليها وليست عرض أحد.
ولذلك فعليها نصف عقاب المحصنات، وقد تساءل بعضهم عن وضع الأمة المتزوجة التي زنت، والرجم ليس له نصف.
نقول : الرجم فقد للحياة فلا نصف معه، إذن فنصف ما على المحصنات من العذاب، والعذاب هو الذي يؤلم. ونستشهد على ذلك بآية لنبين الرأي القاطع بأن العذاب شيء، والقتل وإزهاق الحياة شيء آخر، ونجد هذه الآية هي قول الحق على لسان سليمان عليه السلام حينما تفقد الطير ولم يجد الهدهد :
﴿ لأعذبنه عذابا أو لأذبحنه ﴾( من الآية ٢١ من سورة النمل ).
إذن، فالعذاب غير الذبح، وكذلك يكون العذاب غير الرجم. فالذي يحتج به البعض ممن يريدون إحداث ضجة بأنه لا يوجد رجم ؛ لأن الأمة عليها نصف ما على المحصنات، والرجم ليس فيه تنصيف نقول له : إن ما تستشهد به باطل ؛ لأن الله فرق بين العذاب وبين الذبح، فقال على لسان سليمان :" لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه " فإذا كان العذاب غير إزهاق الروح بالذبح، والعذاب أيضا غير إزهاق الروح بالرجم. إذن فلا يصح أن يحاول أحد الإفلات من النص وفهمه على غير حقيقته ولنناقش الأمر بالعقل :
حين يعتدي إنسان على بكر، فما دائرة الهجوم على العرض في البكر ؟ إنها أضيق من دائرة الهجوم على الثيب ؛ لأن الثيب تكون متزوجة غالبا، فقصارى ما في البكر أن الاعتداء يكون على عرضها وعرض الأب والأخ. أما الثيب فالاعتداء يكون على عرض الزوج أيضا، وهكذا تكون دائرة الاعتداء أكبر، إنه اعتداء على عرض الأب والأم. والإخوة والأعمام مثل البكر، وزاد على ذلك الزوج والأبناء المتسلسلون. فإذا كان الآباء والأمهات طبقة وتنتهي، فالأبناء طبقة تستديم ؛ لذلك يستديم العار. واستدامة العار لا يصح أن تكون مساوية لرقعة ليس فيها هذا الاتساع، فإن سوينا بين الاثنين بالجلد فهذا يعني أن القائم بالحكم لم يلحظ اتساع جرح العرض.
إن جرح العرض في البكر محصور وقد ينتهي لأنه يكون في معاصرين كالأب والأم والإخوة، لكن ما رأيك أيها القائم بالحكم في الثيب المتزوجة ولها أولاد يتناسلون ؟ إنها رقعة متسعة، فهل يساوي الله وهو العادل بين ثيب وبكر بجلد فقط ؟ إن هذا لا يتأتى أبدا.
إذن فالمسألة يجب أن تؤخذ مما صفاه رسول الله وهو المشرع الثاني الذي امتاز لا بالفهم في النص فقط، ولكن لأن له حق التشريع فيما لم يرد فيه نص ! فسنأخذ بما عمله وقد رجم رسول الله فعلا، وانتهى إلى أن هذا الحكم قد أصبح نهائيا، الثيب بالثيب هو الرجم، والبكر بالبكر هو الجلد، وبكر وثيب كل منهما يأخذ حكمه، ويكون الحكم منطبقا تماما، وبذلك نضمن طهارة حفظ النوع ؛ لأن حفظ النوع هو أمر أساسي في الحياة باستبقاء حياة الفرد واستبقاء نوعه، فاستبقاء حياة الفرد بأن نحافظ عليه، ونحسن تربيته ونطعمه حلالا، ونحفظ النوع بالمحافظة على طهارة المخالطة.
والحق سبحانه وتعالى يمد خلقه حين يغفلون عن منهج الله بما يلفتهم إلى المنهج من غير المؤمنين بمنهج الله، ويأتينا بالدليل منة غير المؤمنين بمنهج الله، فيثبت لك بأن المنهج سليم.
﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ١٥ ﴾.
و " اللاتي " اسم موصول لجماعة الإناث، وأنا أرى أن ذلك خاص باكتفاء المرأة بالمرأة. وماذا يقصد بقوله :" فاستشهدوا عليهن أربعة " ؟ إنه سبحانه يقصد به حماية الأعراض، فلا يلغ كل واحد في عرض الآخر، بل لا بد أن يضع لها الحق احتياطا قويا، لأن الأعراض ستجرح، ولماذا " أربعة " في الشهادة ؟ لأنهما اثنتان تستمتعان ببعضهما، ومطلوب أن يشهد على كل واحدة اثنان فيكونوا أربعة، وإذا حدث هذا ورأينا وعرفنا وتأكدنا، ماذا نفعل ؟.
قال سبحانه :" فأمسكوهن في البيوت " أي احجزوهن واحبسوهن عن الحركة، ولا تجعلوا لهن وسيلة التقاء إلى أن يتوفاهن الموت " أو يجعل الله لهن سبيلا " وقد جعل الله.
والذين يقولون : إن هذه المسألة خاصة بعملية بين رجل وامرأة، نقول له : إن كلمة " واللاتي " هذه اسم موصول لجماعة الإناث، اما إذا كان هذا بين ذكر وذكر. ففي هذه الحالة يقول الحق :
﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ١٦ ﴾( سورة النساء ).
الآية هنا تختص بلقاء رجل مع رجل، ولذلك تكون المسألة الأولى تخص المرأة مع المرأة، ولماذا يكون العقاب في مسألة لقاء المرأة بالمراة طلبا للمتعة هو الإمساك في البيوت حتى يتوفاهن الموت ؟ لأن هذا شر ووباء يجب أن يحاصر، فهذا الشر معناه الإفساد التام، لأن المرأة ليست محجوبة عن المرأة ؛ فلأن تحبس المرأة حتى تموت خير من أن تتعود على الفاحشة. ونحن لا نعرف ما الذي سوف يحدث من أضرار، والعلم مازال قاصرا، فالذي خلق هو الذي شرع أن يلتقي الرجل بالمرأة في إطار الزواج وما يجب فيه من المهر والشهود، وسبحانه أعد المراة للاستقبال، وأعد الرجل للإرسال، وهذا أمر طبيعي، فإذا دخل إرسال على استقبال ليس له، فالتشويش يحدث.
وإن لم يكن اللقاء على الطريقة الشرعية التي قررها من خلقنا فلا بد أن يحدث أمر خاطئ ومضر، ونحن عندما نصل سلكا كهربائيا بسلك آخر من النوع نفسه.. أي سالب مع سالب أو موجب مع موجب تشب الحرائق، ونقول :" حدث ماس كهربائي "، أي أن التوصيلة الكهربائية كانت خاطئة. فإذا كانت التوصيلة الكهربائية الخاطئة في قليل من الأسلاك قد حدث ما حدث منها من الإضرار، أفلا تكون التوصيلة الخاطئة في العلاقات الجنسية مضرة في البشر ؟.
إنني أقول هذا الكلام ليسجل، لأن العلم سيكشف إن متأخرا أو متقدما أن لله سرا، وحين يتخصص رجل بامرأة بمنهج الله " زوجني.. وتقول له زوجتك " فإن الحق يجعل اللقاء طبيعيا. أما إن حدث اختلاف في الإرسال والاستقبال فلسوف يحدث ماس صاعق ضار، وهذه هي الحرائق في المجتمع.
أكرر هذا الكلام ليسجل وليقال في الأجيال القادمة : إن الذين من قبلنا قد اهتدوا إلى نفحة من نفحات الله، ولم يركنوا إلى الكسل، بل هداهم الإيمان إلى أن يكونوا موصولين بالله، ففطنوا إلى نفحات الله. والحق هو القائل :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾ ( من الآية ٥٣ سورة فصلت ).
فإذا كنا قد اهتدينا إلى معرفة أن اتصال سلك صحيح بسلك صحيح فالكهرباء تعطي نورا جميلا. أما إذا حدث خطأ في الاتصال ؟، فالماس يحدث وتنتج منه حرائق، كذلك في العلاقة البشرية، لن المسألة ذكورة وأنوثة.
والحق سبحانه القائل :
﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾( من الآية ٤٩ سورة الذاريات ).
فإذا كان النور الجميل يحدث من الاتصال الصحيح بين الموجب والسالب في غير الإنسان، وتحدث الحرائق إن كان الاتصال خاطئا، فما بالنا بالإنسان ؟.
وفي بعض رحلاتنا في الخارج، سألنا بعض الناس :
لماذا عددتم للرجل نساء، ولم تعددوا رجالا للمرأة ؟.
هم يريدون أن يثيروا حفيظة المرأة وسخطها على دين الله ؛ حتى تقول المرأة الساذجة متمردة على دينها :" ليس في هذا الدين عدالة " ؛ لذلك سألت من سألوني : أعندكم أماكن يستريح فيها الشباب المتحلل جنسيا ؟.
فكان الجواب : نعم في بعض الولايات هناك مثل هذه الأماكن.
قلت : بماذا احتطتم لصحة الناس ؟.
قالوا : بالكشف الطبي الدوري المفاجئ.
قلت : لماذا ؟.
قالوا : حتى نعزل المصابة بأي مرض.
قلت : أيحدث ذلك مع كل رجل وامرأة متزوجين ؟
قالوا : لا.
قلت : لماذا ؟ ؟ فسكتوا ولم يجيبوا، فقلت : لأن الواقع أن الحياة الزوجية للمرأة مع رجل واحد تكون المرأة وعاء للرجل وحده لا ينشأ منها أمراض، ولكن المرض ينشأ حين يتعدد ماء الرجال في المكان الواحد.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يستبقي النوع بقاء نظيفا ؛ لذلك قال :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ١٥ ﴾( سورة النساء ).
والمقصود ب " نسائكم " هنا المسلمات، لأننا لا نشرع لغيرنا، لانهم غير مؤمنين بالله. وطلب الشهادة يكون من أربعة من المسلمين، لأن المسلم يعرف قيمة العرض والعدالة. وإن شهدوا فليحدث حكم الله بالحبس في البيوت.
وقد عرفنا ذلك فيما يسمى في العصر الحديث بالحجر الصحي الذي نضع فيه أصحاب المرض المعدي. وهناك فرق بين من أصبن ب " مرض معد " ومن أصبن ب " العطب والفضيحة ". فإذا كنا نعزل أصحاب المرض المعدي فكيف لا نعزل اللاتي أصبن بالعطب والفضيحة ؛ لذلك يقول الحق :" فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " أي أن تظل كل منهما في العزل إلى أن يأتي لكل منهن ملك الموت. وحدثتنا كتب التشريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الآية على أنها تختص بزنا يقع بين رجل وامرأة وليس بين امرأتين.
عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" خذوا عني خذوا عني : البكر البكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب الثيب جلد مائة والرجم " ١.
ثم جاء التشريع بعد ذلك فصفى قضية الحدود إلى أن البكر بالبكر جلد.. والثيب بالثيب رجم. وبعض من الناس يقول : إن الرجم لم يرد بالقرآن.
نرد فنقول : ومن قال : إن التشريع جاء فقط بالقرآن ؟ لقد جاء القرآن معجزة ومنهجا للأصول، وكما قلنا من قبل : إن الحق قال :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه ﴾( من الآية ٧ سورة الحشر ).
وبعد ذلك نتناول المسألة : حين يوجد نص ملزم بحكم، قد نفهم الحكم من النص وقد لا نفهمه، فإذا فهمنا فله تطبيق عملي في السيرة النبوية.
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بالنص فقط ولكن جاء بالعمل نفسه، فالأسوة تكون بالفعل في إقامة الحد ؛ لأن الفعل أقوى من النص، فالنص قد يوجد ولا يطبق لسبب كالنسخ للحكم مثلا، أما الفعل فإنه تطبيق، وقد رجم الرسول ماعزا والغا مدية ورجم اليهودي و اليهودية عندما جاءوا يطلبون تعديل حكم الرجم الوارد بالتوراة. إذن فالفعل من الرسول أقوى من النص وخصوصا أن الرسول مشرع أيضا. وقال واحد مرة : إن الرجم لمن تزوج، فماذا نفعل برجل متزوج قد زنا بفتاة بكر ؟.
والحكم هنا : يرجم الرجل وتجلد الفتاة، فإن اتفقا في الحالة، فهما يأخذان حكما واحدا. وإن اختلفا فكل واحد منهما يأخذ الحكم الذي يناسبه.
وحينما تكلم الحق عن الحد في الإماء المملوكات قال :
﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ ( سورة النساء ).
ويفهم من ذلك الجلد فقط، لأن الرجم لا يمكن أن نقوم بتقسيمه إلى نصفين، فالأمة تأخذ في الحد نصف الحرة، لأن الحرة البكر في الزنا تجلد مائة جلدة، والأمة تجلد خمسين جلدة.
ومادام للأمة نصف حد المحصنة، فلا يأتي إذن حد إلا فيما ينصف، والرجم لا ينصف، والدليل أصبح نهائيا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرع وليس مستنبطا، وقد رجم رسول الله. ولماذا تأخذ الأمة نصف عقاب الحرة ؟ لأن الإماء مهدورات الكرامة، أما الحرائر فلا. ولذلك فهند امرأة أبي سفيان قالت : أو تزني الحرة ؟ قالت ذلك وهي في عنف جاهليتها. أي أن الزنا ليس من شيمة الحرائر، أما الأمة فمهدورة الكرامة نظرا لأنه مجترأ عليها وليست عرض أحد.
ولذلك فعليها نصف عقاب المحصنات، وقد تساءل بعضهم عن وضع الأمة المتزوجة التي زنت، والرجم ليس له نصف.
نقول : الرجم فقد للحياة فلا نصف معه، إذن فنصف ما على المحصنات من العذاب، والعذاب هو الذي يؤلم. ونستشهد على ذلك بآية لنبين الرأي القاطع بأن العذاب شيء، والقتل وإزهاق الحياة شيء آخر، ونجد هذه الآية هي قول الحق على لسان سليمان عليه السلام حينما تفقد الطير ولم يجد الهدهد :
﴿ لأعذبنه عذابا أو لأذبحنه ﴾( من الآية ٢١ من سورة النمل ).
إذن، فالعذاب غير الذبح، وكذلك يكون العذاب غير الرجم. فالذي يحتج به البعض ممن يريدون إحداث ضجة بأنه لا يوجد رجم ؛ لأن الأمة عليها نصف ما على المحصنات، والرجم ليس فيه تنصيف نقول له : إن ما تستشهد به باطل ؛ لأن الله فرق بين العذاب وبين الذبح، فقال على لسان سليمان :" لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه " فإذا كان العذاب غير إزهاق الروح بالذبح، والعذاب أيضا غير إزهاق الروح بالرجم. إذن فلا يصح أن يحاول أحد الإفلات من النص وفهمه على غير حقيقته ولنناقش الأمر بالعقل :
حين يعتدي إنسان على بكر، فما دائرة الهجوم على العرض في البكر ؟ إنها أضيق من دائرة الهجوم على الثيب ؛ لأن الثيب تكون متزوجة غالبا، فقصارى ما في البكر أن الاعتداء يكون على عرضها وعرض الأب والأخ. أما الثيب فالاعتداء يكون على عرض الزوج أيضا، وهكذا تكون دائرة الاعتداء أكبر، إنه اعتداء على عرض الأب والأم. والإخوة والأعمام مثل البكر، وزاد على ذلك الزوج والأبناء المتسلسلون. فإذا كان الآباء والأمهات طبقة وتنتهي، فالأبناء طبقة تستديم ؛ لذلك يستديم العار. واستدامة العار لا يصح أن تكون مساوية لرقعة ليس فيها هذا الاتساع، فإن سوينا بين الاثنين بالجلد فهذا يعني أن القائم بالحكم لم يلحظ اتساع جرح العرض.
إن جرح العرض في البكر محصور وقد ينتهي لأنه يكون في معاصرين كالأب والأم والإخوة، لكن ما رأيك أيها القائم بالحكم في الثيب المتزوجة ولها أولاد يتناسلون ؟ إنها رقعة متسعة، فهل يساوي الله وهو العادل بين ثيب وبكر بجلد فقط ؟ إن هذا لا يتأتى أبدا.
إذن فالمسألة يجب أن تؤخذ مما صفاه رسول الله وهو المشرع الثاني الذي امتاز لا بالفهم في النص فقط، ولكن لأن له حق التشريع فيما لم يرد فيه نص ! فسنأخذ بما عمله وقد رجم رسول الله فعلا، وانتهى إلى أن هذا الحكم قد أصبح نهائيا، الثيب بالثيب هو الرجم، والبكر بالبكر هو الجلد، وبكر وثيب كل منهما يأخذ حكمه، ويكون الحكم منطبقا تماما، وبذلك نضمن طهارة حفظ النوع ؛ لأن حفظ النوع هو أمر أساسي في الحياة باستبقاء حياة الفرد واستبقاء نوعه، فاستبقاء حياة الفرد بأن نحافظ عليه، ونحسن تربيته ونطعمه حلالا، ونحفظ النوع بالمحافظة على طهارة المخالطة.
والحق سبحانه وتعالى يمد خلقه حين يغفلون عن منهج الله بما يلفتهم إلى المنهج من غير المؤمنين بمنهج الله، ويأتينا بالدليل منة غير المؤمنين بمنهج الله، فيثبت لك بأن المنهج سليم.
١ رواه مسلم عن عبادة بن الصامت.
.
.
وأوضحنا من قبل أن الإنسان حين يجد شابا ينظر إلى إحدى محارمه، فهو يتغير وينفعل ويتمنى الفتك به، لكن إن جاء هذا الشاب بطريق الله المشروع وقال والد الشاب لوالد الفتاة :" أنا أريد خطبة ابنتك لابني " فالموقف يتغير وتنفرج الأسارير ويقام الفرح.
إنها كلمة الله التي أثرت في التكوين الكيميائي للنفس وتصنع كل هذا الإشراق والبشر، وإعلان مثل هذه الأحداث بالطبول والنوار والزينات هو دليل واضح على أن هناك حاجة قد عملت وأحدثت في النفس البشرية مفعولها الذي أراده الله من الاتصال بالطريق النظيف الشريف العفيف.
فكل اتصال عن غير هذا الطريق الشريف والعفيف لا بد أن ينشأ عنه خلل في التكوين الإنساني يؤدي إلى أوبئة نفسية وصحية قد لا يستطيع الإنسان دفعها مثل ما هو كائن الآن.
وعلى هذا فيكون قول الحق سبحانه :
وكانت هذه مرحلة أولية إلى أن طبق الرسول إقامة الحد.
﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ١٦ ﴾.
والحق سبحانه وتعالى تواب ورحيم، ونعرف أن صفة المبالغة بالنسبة لله لا تعني أن هناك صفة لله تكون مرة ضعيفة ومرة قوية، وكل صفات الله واحدة في الكمال المطلق. وقلت من قبل : إنني عندما أقول :" فلان أكال " قد يختلف المعنى عن قولي :" فلان آكل "، فبمثل هذا القول أبالغ في وصف إنسان يأكل بكثرة، فهل هو يأكل كثيرا في الوجبة الواحدة، أو أن الوجبة ميزانها محدود لكن هذا الموصوف يعدد الوجبات، فبدلا من أن يأكل ثلاث مرات فهو يأكل خمس مرات، عندئذ يقال له :" أكال "، أي أنه عدد الوجبات، وإن كانت كل وجبة في ذاتها لم يزد حجمها.
أو هو يأتي في الوجبة الواحدة فيأكل أضعاف ما يأكله الإنسان العادي في الوجبة العادية، فيأكل بدلا من الرغيف أربعة، فنقول : إنه " أكول "، إذن فصيغة المبالغة في الخلق إما أن تنشأ في قوة الحدث الواحد، وإما أن تنشأ من تكرار الحدث الواحد.
إن قولك :" الله تواب " معناه أنه عندما يتوب على هذا وذاك وعلى ملايين الملايين من البشر، فالتوبة تتكرر. وإذا تاب الحق في الكبائر أليست هذه توبة عظيمة ؟ هو تواب ورحيم لأنه سبحانه وتعالى يتصف بعظمة الحكمة والقدرة على الخلق والإبداع، وهو الذي خلق النفس البشرية ثم قنن لها قوانين وبعد ذلك جرم من يخالف هذه القوانين، وبعد أن جرم الخروج عن القوانين وضع عقوبة على الجريمة.
والتقنين في ذاته يقطع العذر، فساعة ان قنن الحق لا يستطيع واحد أن يقول :" لم أكن أعلم " ؛ لأن ذلك هو القانون، وحين يجرم فهذا إيذان منه بأن النفس البشرية قد تضعف، وتأتي بأشياء مخالفة للمنهج، فنحن لسنا ملائكة، وسبحانه حين يقنن يقطع العذر، وحين يجرم فهو إيذان بأن ذلك من الممكن أن يحدث. وبعد ذلك يعاقب، وهناك أفعال مجرمة، ولكن المشرع الأول لم يجرمها ولم يضع لها قانونا ؟، لا عن تقصير منه، ولكن التجريم يأتي كفرع.
إن الله سبحانه قد قدر أن النفس البشرية قد تفعل ذلك، كالسرقة مثلا إنه سبحانه وضع حدا للسرقة، وقد تضعف النفس البشرية فتسرق، أو تزني ؛ لذلك فالحد موجود، لكن هناك أشياء لا يأتي لها بالتجريم والعقوبة، وكأنه سبحانه يريد أن يدلنا من طرف خفي على أنها مسائل ما كان يتصور العقل أن تكون. مثال ذلك اللواط، لم يذكر له حدا، لماذا ؟ لأن الفطرة السليمة لا تفعله، بدليل أن اللواط موجود في البشر وغير موجود في الحيوان.
لكن ليس معنى ألا يجرم الحق عملا أنه لا يدخل في الحساب، لا، إنه داخل في الحساب بصورة أقوى ؛ لأن التجريم والعقوبة على التجريم تدل على أن الفعل من الممكن أن يحدث، و حين يترك هذه المسألة بدون تجريم، فمعنى ذلك أن الفطرة السليمة لا يصح ان تفعلها، ولذلك لم يضع لها حدا أو تجريما، وترك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المكلف بالتشريع أن يضع حدا لهذه المسألة.
إذن فعدم وجود نص على جريمة أو عقوبة على جريمة ليس معناه ألا يوجد حساب عليها، لا. هناك حساب، فقد تكون العقوبة أفظع، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإلقاء الفاعل للواط والمفعول به من أعلى جبل. إن عقوبتهما أن يموتا بالإلقاء من شاهق جبل، إذن فالعقوبة أكثر من الرجم. وهكذا نعرف أن عدم التجريم وعدم التقنين بالعقوبة لأي أمر غير مناسب للعقل وللفطرة السليمة دليل على أن هذا الأمر غير مباح، والحق لم يترك تلك الأمور سكوتا عنها، ولكن هو إيحاء من طرف خفي أن ذلك لا يصح أن يحدث، بدليل انها لا تحدث في الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان.
وبعد ذلك قد يتعلل الإنسان الفاعل لمثل هذا القبح الفاحش بأنها شهوة بهيمية. نقول : يا ليت شهوتك المخطئة في التعبير عن نفسها بهيمية ؛ لأن البهائم لا يحدث منها مثل ذلك الفعل أبدا، فلا أنثى الحيوانات تقترب من أخرى، وكذلك لا يوجد ذكر حيوان يقترب من ذكر آخر، وإذا ما حملت أنثى الحيوان فإنها لا تسمح لأي ذكر من الحيوانات بالاقتراب منها، إذن فالقبح الفاحش من المخالطة على غير ما شرع الله يمكن أن نسميها شهوة إنسانية، فالبهائم لا ترتكب مثل تلك الأفعال الشاذة. ومن يقول عن الشهوة إنها بهيمية فهو يظلم الحيوانات. والحق سبحانه وتعالى على الرغم من هذه الخطايا يوضح لنا : أنه التواب الرحيم، لماذا ؟.
انظر الحكمة في التوبة وفي قبولها، فلو لم تحدث معصية من الإنسان الذي آمن، لفقد التكليف ضرورته. معنى التكليف أنه عملية يزاحم الإنسان فيها نفسه ويجاهدها لمقاومة تنفيذ المعاصي أو لحملها على مشقة الطاعة.
فمقاومة الإنسان للمعاصي خضوعا للتكليف الإيماني دليل على أن التكليف أمر صحيح، اسمه " تكليف " وإلا لخلقنا الله كالملائكة وانتهت المسألة. وحين يشرع الله التوبة، فذلك يدل على أن الإنسان ضعيف، قد يضعف في يوم من الأيام أمام معصية من المعاصي، وليس معنى ذلك أن يطرده الله من عبوديته له سبحانه، بل هو يقنن العقوبة، وتقنين العقوبة للعاصي دليل على أنه سبحانه لم يخرج الذي اختار الإسلام وعصى من حظيرة الإسلام أو التكليف، ولو فرضنا أن الحق سبحانه لم يقنن التوبة لصارت اللعنة مصير كل من يضعف أمام شهوة، ولصار العاصي متمردا لا يأبه ولا يلتفت من بعد ذلك إلى التكليف، يلغ في أعراض الناس ويرتكب كل الشرور.
إذن فساعة شرع الله التوبة سد على الناس باب " الفاقدين " الذين يفعلون ذنبا ثم يستمرون فيه، ومع ذلك فسبحانه حين تاب على العاصي رحم من لم يعص إنه القائل :" إن الله كان توابا رحيما ". ولو قال الحق إنه تواب فقط لأذنب كل واحد منا لكي يكون الوصف معه وقائم به لا محالة، ولكنه أيضا قال :" توابا رحيما " أي أنه يرحم بعضا من خلقه فلا يرتكبون أي معصية من البداية. فالرحمة ألا تقع في المعصية.
إنها كلمة الله التي أثرت في التكوين الكيميائي للنفس وتصنع كل هذا الإشراق والبشر، وإعلان مثل هذه الأحداث بالطبول والنوار والزينات هو دليل واضح على أن هناك حاجة قد عملت وأحدثت في النفس البشرية مفعولها الذي أراده الله من الاتصال بالطريق النظيف الشريف العفيف.
فكل اتصال عن غير هذا الطريق الشريف والعفيف لا بد أن ينشأ عنه خلل في التكوين الإنساني يؤدي إلى أوبئة نفسية وصحية قد لا يستطيع الإنسان دفعها مثل ما هو كائن الآن.
وعلى هذا فيكون قول الحق سبحانه :
وكانت هذه مرحلة أولية إلى أن طبق الرسول إقامة الحد.
﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ١٦ ﴾.
والحق سبحانه وتعالى تواب ورحيم، ونعرف أن صفة المبالغة بالنسبة لله لا تعني أن هناك صفة لله تكون مرة ضعيفة ومرة قوية، وكل صفات الله واحدة في الكمال المطلق. وقلت من قبل : إنني عندما أقول :" فلان أكال " قد يختلف المعنى عن قولي :" فلان آكل "، فبمثل هذا القول أبالغ في وصف إنسان يأكل بكثرة، فهل هو يأكل كثيرا في الوجبة الواحدة، أو أن الوجبة ميزانها محدود لكن هذا الموصوف يعدد الوجبات، فبدلا من أن يأكل ثلاث مرات فهو يأكل خمس مرات، عندئذ يقال له :" أكال "، أي أنه عدد الوجبات، وإن كانت كل وجبة في ذاتها لم يزد حجمها.
أو هو يأتي في الوجبة الواحدة فيأكل أضعاف ما يأكله الإنسان العادي في الوجبة العادية، فيأكل بدلا من الرغيف أربعة، فنقول : إنه " أكول "، إذن فصيغة المبالغة في الخلق إما أن تنشأ في قوة الحدث الواحد، وإما أن تنشأ من تكرار الحدث الواحد.
إن قولك :" الله تواب " معناه أنه عندما يتوب على هذا وذاك وعلى ملايين الملايين من البشر، فالتوبة تتكرر. وإذا تاب الحق في الكبائر أليست هذه توبة عظيمة ؟ هو تواب ورحيم لأنه سبحانه وتعالى يتصف بعظمة الحكمة والقدرة على الخلق والإبداع، وهو الذي خلق النفس البشرية ثم قنن لها قوانين وبعد ذلك جرم من يخالف هذه القوانين، وبعد أن جرم الخروج عن القوانين وضع عقوبة على الجريمة.
والتقنين في ذاته يقطع العذر، فساعة ان قنن الحق لا يستطيع واحد أن يقول :" لم أكن أعلم " ؛ لأن ذلك هو القانون، وحين يجرم فهذا إيذان منه بأن النفس البشرية قد تضعف، وتأتي بأشياء مخالفة للمنهج، فنحن لسنا ملائكة، وسبحانه حين يقنن يقطع العذر، وحين يجرم فهو إيذان بأن ذلك من الممكن أن يحدث. وبعد ذلك يعاقب، وهناك أفعال مجرمة، ولكن المشرع الأول لم يجرمها ولم يضع لها قانونا ؟، لا عن تقصير منه، ولكن التجريم يأتي كفرع.
إن الله سبحانه قد قدر أن النفس البشرية قد تفعل ذلك، كالسرقة مثلا إنه سبحانه وضع حدا للسرقة، وقد تضعف النفس البشرية فتسرق، أو تزني ؛ لذلك فالحد موجود، لكن هناك أشياء لا يأتي لها بالتجريم والعقوبة، وكأنه سبحانه يريد أن يدلنا من طرف خفي على أنها مسائل ما كان يتصور العقل أن تكون. مثال ذلك اللواط، لم يذكر له حدا، لماذا ؟ لأن الفطرة السليمة لا تفعله، بدليل أن اللواط موجود في البشر وغير موجود في الحيوان.
لكن ليس معنى ألا يجرم الحق عملا أنه لا يدخل في الحساب، لا، إنه داخل في الحساب بصورة أقوى ؛ لأن التجريم والعقوبة على التجريم تدل على أن الفعل من الممكن أن يحدث، و حين يترك هذه المسألة بدون تجريم، فمعنى ذلك أن الفطرة السليمة لا يصح ان تفعلها، ولذلك لم يضع لها حدا أو تجريما، وترك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المكلف بالتشريع أن يضع حدا لهذه المسألة.
إذن فعدم وجود نص على جريمة أو عقوبة على جريمة ليس معناه ألا يوجد حساب عليها، لا. هناك حساب، فقد تكون العقوبة أفظع، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإلقاء الفاعل للواط والمفعول به من أعلى جبل. إن عقوبتهما أن يموتا بالإلقاء من شاهق جبل، إذن فالعقوبة أكثر من الرجم. وهكذا نعرف أن عدم التجريم وعدم التقنين بالعقوبة لأي أمر غير مناسب للعقل وللفطرة السليمة دليل على أن هذا الأمر غير مباح، والحق لم يترك تلك الأمور سكوتا عنها، ولكن هو إيحاء من طرف خفي أن ذلك لا يصح أن يحدث، بدليل انها لا تحدث في الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان.
وبعد ذلك قد يتعلل الإنسان الفاعل لمثل هذا القبح الفاحش بأنها شهوة بهيمية. نقول : يا ليت شهوتك المخطئة في التعبير عن نفسها بهيمية ؛ لأن البهائم لا يحدث منها مثل ذلك الفعل أبدا، فلا أنثى الحيوانات تقترب من أخرى، وكذلك لا يوجد ذكر حيوان يقترب من ذكر آخر، وإذا ما حملت أنثى الحيوان فإنها لا تسمح لأي ذكر من الحيوانات بالاقتراب منها، إذن فالقبح الفاحش من المخالطة على غير ما شرع الله يمكن أن نسميها شهوة إنسانية، فالبهائم لا ترتكب مثل تلك الأفعال الشاذة. ومن يقول عن الشهوة إنها بهيمية فهو يظلم الحيوانات. والحق سبحانه وتعالى على الرغم من هذه الخطايا يوضح لنا : أنه التواب الرحيم، لماذا ؟.
انظر الحكمة في التوبة وفي قبولها، فلو لم تحدث معصية من الإنسان الذي آمن، لفقد التكليف ضرورته. معنى التكليف أنه عملية يزاحم الإنسان فيها نفسه ويجاهدها لمقاومة تنفيذ المعاصي أو لحملها على مشقة الطاعة.
فمقاومة الإنسان للمعاصي خضوعا للتكليف الإيماني دليل على أن التكليف أمر صحيح، اسمه " تكليف " وإلا لخلقنا الله كالملائكة وانتهت المسألة. وحين يشرع الله التوبة، فذلك يدل على أن الإنسان ضعيف، قد يضعف في يوم من الأيام أمام معصية من المعاصي، وليس معنى ذلك أن يطرده الله من عبوديته له سبحانه، بل هو يقنن العقوبة، وتقنين العقوبة للعاصي دليل على أنه سبحانه لم يخرج الذي اختار الإسلام وعصى من حظيرة الإسلام أو التكليف، ولو فرضنا أن الحق سبحانه لم يقنن التوبة لصارت اللعنة مصير كل من يضعف أمام شهوة، ولصار العاصي متمردا لا يأبه ولا يلتفت من بعد ذلك إلى التكليف، يلغ في أعراض الناس ويرتكب كل الشرور.
إذن فساعة شرع الله التوبة سد على الناس باب " الفاقدين " الذين يفعلون ذنبا ثم يستمرون فيه، ومع ذلك فسبحانه حين تاب على العاصي رحم من لم يعص إنه القائل :" إن الله كان توابا رحيما ". ولو قال الحق إنه تواب فقط لأذنب كل واحد منا لكي يكون الوصف معه وقائم به لا محالة، ولكنه أيضا قال :" توابا رحيما " أي أنه يرحم بعضا من خلقه فلا يرتكبون أي معصية من البداية. فالرحمة ألا تقع في المعصية.
وبعد ذلك يشرع الحق سبحانه وتعالى للتوبة :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ١٧ ﴾.
ولنلتفت إلى دقة الأداء القرآني، هو سبحانه يقول :" إنما التوبة على الله " وقد يقول واحد : ما دام الحق شرع التوبة، فلأفعل ما أريد من المعاصي وبعد ذلك أتوب. نقول له : إنك لم تلتفت إلى الحكمة في إبهام ساعة الموت، فما الذي أوحى لك أنك ستحيا إلى أن تتوب ؟ فقد يأخذك الموت فجأة وأنت على المعصية، وعليك ان تلتفت إلى دقة النص القرآني :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ١٧ ﴾ ( سورة النساء ).
وفعل السوء بجهالة، أي بعدم استحضار العقوبة المناسبة للذنب، فلو استحضر الإنسان العقوبة لما فعل المعصية. بل هو يتجاهل العقوبة ؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )١.
فلو كان إيمانه صحيحا ويتذكر تماما أن الإيمان يفرض عليه عدم الزنا، وأن عقوبة الزنا هي الجلد أو الرجم، لما قام بذلك الفعل.
والحق قد قال :" إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " فهناك من يفعل المعصية ويخطط لها ويفرح بها ويزهى بما ارتكب ويفخر بزمن المعصية، وهناك من تقع عليه المعصية وبمجرد أن تنتهي يظل نادما ويضرب نفسه ويعذبها ويتساءل لماذا فعلت ذلك ؟.
وأضرب مثلا للتمييز بين الاثنين، نجد اثنين يستعد كل منهما للسفر إلى باريس، واحد منهما يسأل قبل سفره عن خبرة من عاشوا في عاصمة فرنسا، ويحاول أن يحصل على عناوين أماكن اللهو والخلاعة، وما إن يذهب إلى باريس حتى ينغمس في اللهو، وعندما يعود يظل يفاخر بما فعل من المعاصي.
وأما الآخر فقد سافر إلى باريس للدراسة، وبينما هو هناك ارتكب معصية تحت إغراء وتزيين، إذن هو إنسان وقعت عليه المعصية ودون تخطيط، وبعد أن هدأت شرة الشهوة غرق في الندم، وبعد أن عاد استتر من زمن المعصية. هكذا نرى الفارق بين المخطط للمعصية وبين من وقعت عليه المعصية.
والله سبحانه حين قدر أمر التوبة على خلقه رحم الخلق جميعا بتقنين هذه التوبة، وإلا لغرق العالم في شرور لا نهاية لها، بداية من أول واحد انحرف مرة واحدة فيأخذ الانحراف عملا له، والمهم في التائب أن يكون قد عمل السوء بجهالة، ثم تاب من قريب. والرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد معنى " من قريب " قال :
( إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )٢.
والحوار الذي دار بين الحق وبين إبليس :
﴿ قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ٣٩ إلا عبادك منهم المخلصين ٤٠ ﴾ ( سورة الحجر ).
إن إبليس قال ذلك وظن أنه سيهلك البشر جميعا ويوقعهم في المعصية إلا عباد الله الذين اصطفاهم وأخلصهم له، لكن الله سبحانه خيب ظنه وشرع قبول توبة العبد ما لم يغرغر، لم يصل إلى مرحلة خروج الروح من الجسد. فإذا ما قدم العبد التوبة لحظة الغرغرة فماذا يستفيد المجتمع ؟ لن يستفيد المجتمع شيئا من مثل هذه التوبة ؛ لأنه تاب وقت ألا شر له ؛ لذلك فعلى العبد أن يتوب قبل ذلك حتى يرحم المجتمع من شرور المعاصي. " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " هل يتوب أولا، ثم يتوب الله عليه ؟.
أنه سبحانه يقول :
﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ﴾( من الآية ١١٨ سورة التوبة ).
هنا وقف العلماء وحق لهم أن يتساءلوا : هل يتوب العبد أولا وبعد ذلك يقبل الله التوبة ؟ أم أن الله يتوب على العبد أولا ثم يتوب العبد ؟، صريح الآية هو :" ثم تاب عليهم ليتوبوا " ونقول : وهل يتوب واحد ارتجالا منه، أو أن الله شرع التوبة للعباد ؟. لقد شرع الله التوبة فتاب العبد، فقبل الله التوبة.
نحن إذن أمام ثلاثة أمور : هي أن الله شرع التوبة للعباد ولم يرتجل أحد توبته ويفرضها على الله، أي أن أحدا لم يبتكر التوبة، ولكن الذي خلقنا جميعا قدر أن الواحد قد يضعف أمام بعض الشهوات فوضع تشريع التوبة. وهو المقصود بقوله :" ثم تاب عليهم " أي شرع لهم التوبة وبعد ذلك يتوب العبد إلى الله " ليتوبوا " وبعد ذلك يكون القبول من الله وهو القائل :
﴿ غافر الذنب وقابل التوب ﴾ ( من الآية ٣ سورة غافر ).
تأمل كلمة " إنما التوبة على الله " تجدها في منتهى العطاء، فإذا كان الواحد فقيرا ومدينا وأحال دائنه إلى غنى من العباد فإن الدائن يفرح ؛ لأن الغني سيقوم بسداد الدين وأدائه إلى الدائن، فما بالنا بالتوبة التي أحالها الله على ذاته بكل كماله وجماله، إنه قد أحال التوبة على نفسه لا على خلقه، وهو سبحانه أوجب التوبة على نفسه ولا يملك واحد أن يرجع فيها، ثم قال :" ثم يتوبون من قريب " أي أن العبد يرجو التوبة من الله، وحين قال :" فأولئك الذين يتوب الله عليهم " أي أن سبحانه قابل للتوب وغافر للذنب وحين يقول سبحانه :" وكان الله عليما حكيما " فنحن نعلم أن كل تقنين لأي شيء يتطلب علما واسعا بما يمكن أن يكون وينشأ. والذين يتخبطون في تقنيات البشر، لماذا يقنون اليوم ثم يعدلون عن التقنين غدا ؟ لأنهم ساعة قننوا غاب عنهم شيء من الممكن أن يحدث ؟، فلما حدث ما لم يكن في بالهم استدركوا على تقنينهم.
إذن فالاضطراب ينشأ من عدم علم المقنن بكل أحوال من يقنن لهم ماضيا وحاضرا ومستقبلا، والمقنن من البشر قد لا يستوعب الأحداث الماضية، وذلك لأنه لا يستوعبها إلا في بيئته أو في البيئة التي وصلها خبرها، فحتى في الماضي لا يقدر، ولا في المستقبل يقدر، وكذلك في الحاضر أيضا، فالحاضر عند بيئة ما يختلف عن الحاضر في بيئة أخرى. ونحن نعرف أن حواجز الغيب ثلاثة : أي أن ما يجعل الشيء غيبا عن الإنسان هو ثلاثة أمور :
الأمر الأول : هو الزمن الماضي وما حدث فيه من أشياء لم يرها المعاصرون ولم يعرفوها ؛ لذلك فالماضي قد حجز عن البشر بحجاب وقوع الأحداث في ذلك الماضي ؛ ولذلك يلفتنا الله سبحانه وتعالى في تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه :
﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة القصص ).
ورسول الله لم يكن مع موسى ساعة أن قضى الله لموسى الأمر، ومع ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا لا يمكنه أن يقرأ التاريخ أو يتعلمه. ويقول أيضا سبحانه :
﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾ ( من الآية ٤٤ آل عمران ).
أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشهد تلك الأزمان التي يأتيه خبرها عن الله، والرسول أمي بشهادة الجميع ولم يجلس إلى معلم. إذن فالذي اخترق حجاب الزمن وأخبر الرسول بتلك الأحداث هو الله.
والأمر الثاني : هو حجاب الحاضر، حيث يكون الحجاب غير قادم من الزمن لأن الزمن واحد، ولكن الحجاب قادم من اختلاف المكان، فأنا أعرف ما يحدث في مكاني، ولكني لا أعرف ما الذي يحدث في غير المكان الذي أوجد به، ولا يقتصر الحجاب في الحاضر على المكان فقط ولكن في الذات الإنسانية بأن يضمر الشخص الشيء في نفسه. فالحق يقول :
﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ﴾ ( من الآية ٨ سورة المجادلة ).
هنا يخبر الله سبحانه الرسول عن شيء حاضر ومكتوم في نفوس أعدائه. وبالله لو لم يكونوا قد قالوه في أنفسهم، لما صدقوا قول الرسول الذي جاءه إخباره عن الله. وقد خرق الله أمام رسوله حجاب الذات وحجاب المكان.
والأمر الثالث : هو حجاب المستقبل، فيقول القرآن :
﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ٤٥ ﴾( سورة القمر ).
ونلحظ أن كلمة " سيهزم " فيها حرف " السين " التي تنبئ عن المستقبل، وقد نزلت هذه الآية في مكة وقت أن كان المسلمون قلة وهم مضطهدون ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. وعندما يسمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينفعل ويقول لرسول الله : أي جمع هذا ؟.
وجاء الجمع في بدر وولى الدبر. حدث ذلك الإخبار في مكة، ووقعت الأحداث بعد الهجرة. وكانت الهجرة في الترتيب الزمني مستقبلا بالنسبة لوجود المسلمين في مكة.
أكان من الممكن أن يقول سبحانه :" سيهزم الجمع ويولون الدبر " لولا أن ذلك سيحدث بالفعل ؟.
لو حدث غير ذلك لكذبه المؤمنون به.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك إبلاغا عن الله وهو واثق، ويطلقها الله على لسان رسوله حجة فيمسكها الخصم، ثم يثبت صدقها لأن الذي قالها هو من يخلق الأحداث ويعلمها.
ويأتي في الوليد بن المغيرة وهو ضخم وفحل وله مهابة وصيت وسيد من سادة قريش، فيقول الحق :
﴿ سنسمه على الخرطوم ١٦ ﴾ ( سورة القلم ).
أي سنضربه بالسيف ضربة تجعل على أنفه علامة في أعلى منطقة فيه. ويأتي يوم بدر، فيجدون الضربة على أنف الوليد. لقد قالها الحق على لسان رسوله في زمن ماض ويأتي بها الزمن المستقبل، وعندما تحدث هذه المسألة فالذين آمنوا بمحمد وبالقرآن الذي نزل على محمد يتأكدون من صدق رسول الله في كل شيء. ويأخذون الجزئية البسيطة ويرقونها فيصدقون ما يخبرهم به من أمر الدنيا والآخرة. ويقولون :
إذا أخبرنا رسول الله بغيب يحدث في الآخرة فهو الصادق الأمين، ويأخذون من أحداث الدنيا الواقعة ما يكون دليلا على صدق الأحداث في الآخرة.
ويذيل الحق الآية :" وكان الله عليما حكيما " أي عليما بالتقنينات فشرع التوبة لعلمه جل شأنه بأنه لو لم يشرع التوبة، لكان المذنب لمرة واحدة سببا في شقاء العالم ؛ لأنه حينئذ يكون يائسا من رحمة الله.
إذن فرحمة منه سبحانه بالعالم شرع الله التوبة. وهو حكيم فإياك أن يتبادر إلى ذهنك أن الحق قد حمى المجرم فحسب حين شرع له التوبة، إنه سبحانه قد حمى غير المجرم أيضا. وساعة نسمع الزمن في حق الحق سبحانه وتعالى كقوله :" كان " فلا نقول ذلك قياسا على زماننا نحن، أو على قدراتنا نحن، فكل ما هو متعلق بالحق علينا أن نأخذه في نطاق " ليس كمثله شيء ".
فقد يقول كافر :" إن علم الله كان " ويحاول أن يفهمها على أنه علم قد حدث ولا يمكن تكراره الآن، لا، فعلم الله كان ولا يزال ؛ لأن الله لا يتغير، ومادام الله لا يتغير، فالثابت له من قبل أزلا يثبت له أبدا. والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. ومادام قد قدر سبحانه وضع الشيء، فالشيء إنما جاء من علم، وحين يطابق الشيء موضعه فهذه هي مطلق الحكمة.
والحق يقول :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ١٧ ﴾ ( سورة النساء ).
لقد شرع الله سبحانه التوبة ليتوب عباده، فإذا تابوا قبل توبتهم، وهذا مبني على العلم الشامل والحكمة الدقيقة الراسخة. وانظروا إلى دقة العبارة في قوله :" إنما التوبة على الله "، فساعة يوجد فعل إيجابي يقال : على من، لكن عندما لا يأتي بفعل إيجابي لا يقال : على من، بل يقال : ليس بالنفي. إن الحق عندما قرر التوبة عليه سبحانه وأوجبها على نفسه، للذين يعملون السوء بجهالة ويتوبون فورا، إنه يدلنا أيضا على مقابل هؤلاء، فيقول :{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذ
ولنلتفت إلى دقة الأداء القرآني، هو سبحانه يقول :" إنما التوبة على الله " وقد يقول واحد : ما دام الحق شرع التوبة، فلأفعل ما أريد من المعاصي وبعد ذلك أتوب. نقول له : إنك لم تلتفت إلى الحكمة في إبهام ساعة الموت، فما الذي أوحى لك أنك ستحيا إلى أن تتوب ؟ فقد يأخذك الموت فجأة وأنت على المعصية، وعليك ان تلتفت إلى دقة النص القرآني :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ١٧ ﴾ ( سورة النساء ).
وفعل السوء بجهالة، أي بعدم استحضار العقوبة المناسبة للذنب، فلو استحضر الإنسان العقوبة لما فعل المعصية. بل هو يتجاهل العقوبة ؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )١.
فلو كان إيمانه صحيحا ويتذكر تماما أن الإيمان يفرض عليه عدم الزنا، وأن عقوبة الزنا هي الجلد أو الرجم، لما قام بذلك الفعل.
والحق قد قال :" إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " فهناك من يفعل المعصية ويخطط لها ويفرح بها ويزهى بما ارتكب ويفخر بزمن المعصية، وهناك من تقع عليه المعصية وبمجرد أن تنتهي يظل نادما ويضرب نفسه ويعذبها ويتساءل لماذا فعلت ذلك ؟.
وأضرب مثلا للتمييز بين الاثنين، نجد اثنين يستعد كل منهما للسفر إلى باريس، واحد منهما يسأل قبل سفره عن خبرة من عاشوا في عاصمة فرنسا، ويحاول أن يحصل على عناوين أماكن اللهو والخلاعة، وما إن يذهب إلى باريس حتى ينغمس في اللهو، وعندما يعود يظل يفاخر بما فعل من المعاصي.
وأما الآخر فقد سافر إلى باريس للدراسة، وبينما هو هناك ارتكب معصية تحت إغراء وتزيين، إذن هو إنسان وقعت عليه المعصية ودون تخطيط، وبعد أن هدأت شرة الشهوة غرق في الندم، وبعد أن عاد استتر من زمن المعصية. هكذا نرى الفارق بين المخطط للمعصية وبين من وقعت عليه المعصية.
والله سبحانه حين قدر أمر التوبة على خلقه رحم الخلق جميعا بتقنين هذه التوبة، وإلا لغرق العالم في شرور لا نهاية لها، بداية من أول واحد انحرف مرة واحدة فيأخذ الانحراف عملا له، والمهم في التائب أن يكون قد عمل السوء بجهالة، ثم تاب من قريب. والرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد معنى " من قريب " قال :
( إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )٢.
والحوار الذي دار بين الحق وبين إبليس :
﴿ قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ٣٩ إلا عبادك منهم المخلصين ٤٠ ﴾ ( سورة الحجر ).
إن إبليس قال ذلك وظن أنه سيهلك البشر جميعا ويوقعهم في المعصية إلا عباد الله الذين اصطفاهم وأخلصهم له، لكن الله سبحانه خيب ظنه وشرع قبول توبة العبد ما لم يغرغر، لم يصل إلى مرحلة خروج الروح من الجسد. فإذا ما قدم العبد التوبة لحظة الغرغرة فماذا يستفيد المجتمع ؟ لن يستفيد المجتمع شيئا من مثل هذه التوبة ؛ لأنه تاب وقت ألا شر له ؛ لذلك فعلى العبد أن يتوب قبل ذلك حتى يرحم المجتمع من شرور المعاصي. " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " هل يتوب أولا، ثم يتوب الله عليه ؟.
أنه سبحانه يقول :
﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ﴾( من الآية ١١٨ سورة التوبة ).
هنا وقف العلماء وحق لهم أن يتساءلوا : هل يتوب العبد أولا وبعد ذلك يقبل الله التوبة ؟ أم أن الله يتوب على العبد أولا ثم يتوب العبد ؟، صريح الآية هو :" ثم تاب عليهم ليتوبوا " ونقول : وهل يتوب واحد ارتجالا منه، أو أن الله شرع التوبة للعباد ؟. لقد شرع الله التوبة فتاب العبد، فقبل الله التوبة.
نحن إذن أمام ثلاثة أمور : هي أن الله شرع التوبة للعباد ولم يرتجل أحد توبته ويفرضها على الله، أي أن أحدا لم يبتكر التوبة، ولكن الذي خلقنا جميعا قدر أن الواحد قد يضعف أمام بعض الشهوات فوضع تشريع التوبة. وهو المقصود بقوله :" ثم تاب عليهم " أي شرع لهم التوبة وبعد ذلك يتوب العبد إلى الله " ليتوبوا " وبعد ذلك يكون القبول من الله وهو القائل :
﴿ غافر الذنب وقابل التوب ﴾ ( من الآية ٣ سورة غافر ).
تأمل كلمة " إنما التوبة على الله " تجدها في منتهى العطاء، فإذا كان الواحد فقيرا ومدينا وأحال دائنه إلى غنى من العباد فإن الدائن يفرح ؛ لأن الغني سيقوم بسداد الدين وأدائه إلى الدائن، فما بالنا بالتوبة التي أحالها الله على ذاته بكل كماله وجماله، إنه قد أحال التوبة على نفسه لا على خلقه، وهو سبحانه أوجب التوبة على نفسه ولا يملك واحد أن يرجع فيها، ثم قال :" ثم يتوبون من قريب " أي أن العبد يرجو التوبة من الله، وحين قال :" فأولئك الذين يتوب الله عليهم " أي أن سبحانه قابل للتوب وغافر للذنب وحين يقول سبحانه :" وكان الله عليما حكيما " فنحن نعلم أن كل تقنين لأي شيء يتطلب علما واسعا بما يمكن أن يكون وينشأ. والذين يتخبطون في تقنيات البشر، لماذا يقنون اليوم ثم يعدلون عن التقنين غدا ؟ لأنهم ساعة قننوا غاب عنهم شيء من الممكن أن يحدث ؟، فلما حدث ما لم يكن في بالهم استدركوا على تقنينهم.
إذن فالاضطراب ينشأ من عدم علم المقنن بكل أحوال من يقنن لهم ماضيا وحاضرا ومستقبلا، والمقنن من البشر قد لا يستوعب الأحداث الماضية، وذلك لأنه لا يستوعبها إلا في بيئته أو في البيئة التي وصلها خبرها، فحتى في الماضي لا يقدر، ولا في المستقبل يقدر، وكذلك في الحاضر أيضا، فالحاضر عند بيئة ما يختلف عن الحاضر في بيئة أخرى. ونحن نعرف أن حواجز الغيب ثلاثة : أي أن ما يجعل الشيء غيبا عن الإنسان هو ثلاثة أمور :
الأمر الأول : هو الزمن الماضي وما حدث فيه من أشياء لم يرها المعاصرون ولم يعرفوها ؛ لذلك فالماضي قد حجز عن البشر بحجاب وقوع الأحداث في ذلك الماضي ؛ ولذلك يلفتنا الله سبحانه وتعالى في تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه :
﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة القصص ).
ورسول الله لم يكن مع موسى ساعة أن قضى الله لموسى الأمر، ومع ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا لا يمكنه أن يقرأ التاريخ أو يتعلمه. ويقول أيضا سبحانه :
﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾ ( من الآية ٤٤ آل عمران ).
أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشهد تلك الأزمان التي يأتيه خبرها عن الله، والرسول أمي بشهادة الجميع ولم يجلس إلى معلم. إذن فالذي اخترق حجاب الزمن وأخبر الرسول بتلك الأحداث هو الله.
والأمر الثاني : هو حجاب الحاضر، حيث يكون الحجاب غير قادم من الزمن لأن الزمن واحد، ولكن الحجاب قادم من اختلاف المكان، فأنا أعرف ما يحدث في مكاني، ولكني لا أعرف ما الذي يحدث في غير المكان الذي أوجد به، ولا يقتصر الحجاب في الحاضر على المكان فقط ولكن في الذات الإنسانية بأن يضمر الشخص الشيء في نفسه. فالحق يقول :
﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ﴾ ( من الآية ٨ سورة المجادلة ).
هنا يخبر الله سبحانه الرسول عن شيء حاضر ومكتوم في نفوس أعدائه. وبالله لو لم يكونوا قد قالوه في أنفسهم، لما صدقوا قول الرسول الذي جاءه إخباره عن الله. وقد خرق الله أمام رسوله حجاب الذات وحجاب المكان.
والأمر الثالث : هو حجاب المستقبل، فيقول القرآن :
﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ٤٥ ﴾( سورة القمر ).
ونلحظ أن كلمة " سيهزم " فيها حرف " السين " التي تنبئ عن المستقبل، وقد نزلت هذه الآية في مكة وقت أن كان المسلمون قلة وهم مضطهدون ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. وعندما يسمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينفعل ويقول لرسول الله : أي جمع هذا ؟.
وجاء الجمع في بدر وولى الدبر. حدث ذلك الإخبار في مكة، ووقعت الأحداث بعد الهجرة. وكانت الهجرة في الترتيب الزمني مستقبلا بالنسبة لوجود المسلمين في مكة.
أكان من الممكن أن يقول سبحانه :" سيهزم الجمع ويولون الدبر " لولا أن ذلك سيحدث بالفعل ؟.
لو حدث غير ذلك لكذبه المؤمنون به.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك إبلاغا عن الله وهو واثق، ويطلقها الله على لسان رسوله حجة فيمسكها الخصم، ثم يثبت صدقها لأن الذي قالها هو من يخلق الأحداث ويعلمها.
ويأتي في الوليد بن المغيرة وهو ضخم وفحل وله مهابة وصيت وسيد من سادة قريش، فيقول الحق :
﴿ سنسمه على الخرطوم ١٦ ﴾ ( سورة القلم ).
أي سنضربه بالسيف ضربة تجعل على أنفه علامة في أعلى منطقة فيه. ويأتي يوم بدر، فيجدون الضربة على أنف الوليد. لقد قالها الحق على لسان رسوله في زمن ماض ويأتي بها الزمن المستقبل، وعندما تحدث هذه المسألة فالذين آمنوا بمحمد وبالقرآن الذي نزل على محمد يتأكدون من صدق رسول الله في كل شيء. ويأخذون الجزئية البسيطة ويرقونها فيصدقون ما يخبرهم به من أمر الدنيا والآخرة. ويقولون :
إذا أخبرنا رسول الله بغيب يحدث في الآخرة فهو الصادق الأمين، ويأخذون من أحداث الدنيا الواقعة ما يكون دليلا على صدق الأحداث في الآخرة.
ويذيل الحق الآية :" وكان الله عليما حكيما " أي عليما بالتقنينات فشرع التوبة لعلمه جل شأنه بأنه لو لم يشرع التوبة، لكان المذنب لمرة واحدة سببا في شقاء العالم ؛ لأنه حينئذ يكون يائسا من رحمة الله.
إذن فرحمة منه سبحانه بالعالم شرع الله التوبة. وهو حكيم فإياك أن يتبادر إلى ذهنك أن الحق قد حمى المجرم فحسب حين شرع له التوبة، إنه سبحانه قد حمى غير المجرم أيضا. وساعة نسمع الزمن في حق الحق سبحانه وتعالى كقوله :" كان " فلا نقول ذلك قياسا على زماننا نحن، أو على قدراتنا نحن، فكل ما هو متعلق بالحق علينا أن نأخذه في نطاق " ليس كمثله شيء ".
فقد يقول كافر :" إن علم الله كان " ويحاول أن يفهمها على أنه علم قد حدث ولا يمكن تكراره الآن، لا، فعلم الله كان ولا يزال ؛ لأن الله لا يتغير، ومادام الله لا يتغير، فالثابت له من قبل أزلا يثبت له أبدا. والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. ومادام قد قدر سبحانه وضع الشيء، فالشيء إنما جاء من علم، وحين يطابق الشيء موضعه فهذه هي مطلق الحكمة.
والحق يقول :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ١٧ ﴾ ( سورة النساء ).
لقد شرع الله سبحانه التوبة ليتوب عباده، فإذا تابوا قبل توبتهم، وهذا مبني على العلم الشامل والحكمة الدقيقة الراسخة. وانظروا إلى دقة العبارة في قوله :" إنما التوبة على الله "، فساعة يوجد فعل إيجابي يقال : على من، لكن عندما لا يأتي بفعل إيجابي لا يقال : على من، بل يقال : ليس بالنفي. إن الحق عندما قرر التوبة عليه سبحانه وأوجبها على نفسه، للذين يعملون السوء بجهالة ويتوبون فورا، إنه يدلنا أيضا على مقابل هؤلاء، فيقول :{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذ
١ رواه أحمد والبخاري عن أبي هريرة، وفي رواية عن مسلم وأحمد(ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فإياكم إياكم) وزاد عبد الرزاق(ولا ينتهب النهبة وهو مؤمن)..
٢ رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك..
٢ رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك..
هنا يوضح الحق أن توبة هؤلاء الذين يعملون السيئات لم توجد من قريب. وهم يختلفون عن الذين كتب الله قبول توبتهم، هؤلاء الذين يعيشون وتستحضر نفوسهم قيم المنهج، إلا أن النفوس تضعف مرة. أما الذين لا يقبل منهم التوبة فهم أصحاب النفوس التي شردت عن المنهج في جهات متعددة، وهم لم يرتكبوا " سوءا " واحدا بل ارتكبوا السيئات. فالذي ارتكب سوءا واحدا فذلك يعني أنه ضعيف في ناحية واحدة ويبالغ ويجتهد في الزوايا والجوانب الأخرى من الطاعات التي لا ضعف له فيها ليحاول ستر ضعفه.
إنك ترى أمثال هذا الإنسان في هؤلاء الذين يبالغون في إقامة مشروعات الخير، فهذه المشروعات تأتي من أناس أسرفوا على أنفسهم في ناحية لم يقدروا على أنفسهم فيها فيأتوا في نواحي خير كثيرة، ويزيدوا في فعل الخير رجاء أن يمحو الله سيئاتهم التي تركوها وأقلعوا عنها.
ومن ذلك نعلم أن أحدا لا يستطيع أن يمكر مع الله ؛ فالذي أخذ راحته في ناحية، يوضح له الله : أنا سآتي يتعبك من نواح أخرى لصالح منهجي، ويسلط الله عليه الوهم، ويتخيل ماذا ستفعل السيئة به، فيندفع إلى صنع الخير. وكأن الحق يثبت للمسئ : أنت استمتعت بناحية واحدة، ومنهجي وديني استفادا منك كثيرا، فأنت تبني المساجد والمدارس وتتصدق على الفقراء، كل هذا لأن عندك سيئة واحدة.
إذن فلا يمكن لأحد أن يمكر على الله، وعبر القرآن عن صاحب السيئة بوصف هذه الزلة بكلمة " السوء "، ولكنه وصف الشارد الموغل في الشرود عن منهج الله بأنه يفعل " السيئات "، فهو ليس صاحب نقطة ضعف واحدة، لكنه يقترف سيئات متعددة، ويمعن في الضلال، ولا يقتصر الأمر على هذا بل يؤجل التوبة إلى لحظة بلوغ الأجل، بل إنهم قد لا ينسبون الخير الصادر منهم إلى الدين مثلما يفعل الملا حدة، أو الجهلة الذين لا يعلمون بأن كل خير إنما يأمر به الدين.
مثال ذلك مذهب " الماسونية "، يقال : إن هذا المذهب وضعه اليهود، والظاهر في سلوك الماسونيين انهم يجتمعون لفعل خير ما يستفيد منه المجتمع، وما خفي من أفعال قمة أعضاء الماسونية أنهم يخدمون أغراض الصهيونية، وقد ينضم إليهم بعض ممن لا يعرفون أهداف الماسونية الفعلية ليشاركوا في عمل الخير الظاهر. ونقول لكل واحد من هؤلاء : انظر إلى دينك، تجده يحضك على فعل مثل هذا الخير، فلماذا تنسبه إلى الماسونية ولا تفعله على أنه أمر إسلامي. ولماذا لا تنسب هذا الخير إلى الإسلام وتنسبه لغير الإسلام ؟.
وفي هذا العصر هناك ما يسمى بأندية " الروتارى " ويأخذ الإنسان غرور الفخر بالانتماء إلى تلك الأندية، ويقول :" أنا عضو في الروتارى " وعندما تسأله : لماذا ؟ يجيب : إنها أندية تحض على التعاون والتواصل والمودة والرحمة، ونقول له : وهل الإسلام حرم ذلك ؟ لماذا تفعل مثل هذا الخير وتنسبه إلى " الروتارى "، ولا تفعل الخير وتنسبه إلى دينك الإسلام ؟ إذن فهذا عداء للمنهج.
ونجد الشاردين عن المنهج، مثلهم كمثل الرجل الذي قالوا له : ما تريد نفسك الآن ؟ وأراد الرجل أن يحاد الله فقال : تريد نفسي أن أفطر في يوم رمضان، وعلى كأس خمر، وأشترى كأس الخمر هذه بثمن خنزير مسروق.
إنه يريد فطر رمضان وهو محرم، ويفطر على خمر وهي محرمة، وبثمن خنزير والخنزير حرام على المسلم، والخنزير مسروق أيضا. وسألوه : ولماذا كل هذا التعقيد ؟ فقال : حتى تكون هذه الفعلة حراما أربع مرات.
إذن فهذه مضارة لله، وهذا رجل شارد عن المنهج. فهل هذا يتوب الله عليه ؟ لا، " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت " وعند لحظة الموت يبدأ الجبن وتتمثل أخلاق الأرانب، ولماذا لم يصر على موقفه للنهاية ؟ لأنه جاء إلى اللحظة التي لا يمكن أن يكذب فيها الإنسان على نفسه " حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن " لكن التوبة لا تقبل، ولن ينتفع بها المجتمع، وشر مثل هذا الإنسان انتهى، وتوبته تأتي وهو لا يقدر على أي عمل، إذن فهو يستهزئ بالله ؛ فلا تنفعه التوبة.
ولكن انظروا إلى رحمة الله واحترامه للشهادة الإيمانية التي يقر فيها المؤمن بأنه :" لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ".
هذا المؤمن جعله الله في مقابل الكافر، فيأخذ عذابا على قدر ما فعل من ذنوب، ويأتي احترام الحق سبحانه لإيمان القمة لقوله :" أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " فيوضح سبحانه : لن نجعلك كالكافر ؛ بدليل أنه عطف عليه " ولا الذين يموتون وهم كفار "، وإنما يقدر للمؤمن العاصي من العذاب على قدر ما ارتكب من معاص، ويحترم الحق إيمان القمة، فيدخلون الجنة ؛ لذلك لم يقل الحق : إنهم خالدون في النار. وإنما قال :" أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما " و " أولئك " تعني الصنفين المؤمن والكافر فالعذاب لكل واحد حسب ذنبه.
إنك ترى أمثال هذا الإنسان في هؤلاء الذين يبالغون في إقامة مشروعات الخير، فهذه المشروعات تأتي من أناس أسرفوا على أنفسهم في ناحية لم يقدروا على أنفسهم فيها فيأتوا في نواحي خير كثيرة، ويزيدوا في فعل الخير رجاء أن يمحو الله سيئاتهم التي تركوها وأقلعوا عنها.
ومن ذلك نعلم أن أحدا لا يستطيع أن يمكر مع الله ؛ فالذي أخذ راحته في ناحية، يوضح له الله : أنا سآتي يتعبك من نواح أخرى لصالح منهجي، ويسلط الله عليه الوهم، ويتخيل ماذا ستفعل السيئة به، فيندفع إلى صنع الخير. وكأن الحق يثبت للمسئ : أنت استمتعت بناحية واحدة، ومنهجي وديني استفادا منك كثيرا، فأنت تبني المساجد والمدارس وتتصدق على الفقراء، كل هذا لأن عندك سيئة واحدة.
إذن فلا يمكن لأحد أن يمكر على الله، وعبر القرآن عن صاحب السيئة بوصف هذه الزلة بكلمة " السوء "، ولكنه وصف الشارد الموغل في الشرود عن منهج الله بأنه يفعل " السيئات "، فهو ليس صاحب نقطة ضعف واحدة، لكنه يقترف سيئات متعددة، ويمعن في الضلال، ولا يقتصر الأمر على هذا بل يؤجل التوبة إلى لحظة بلوغ الأجل، بل إنهم قد لا ينسبون الخير الصادر منهم إلى الدين مثلما يفعل الملا حدة، أو الجهلة الذين لا يعلمون بأن كل خير إنما يأمر به الدين.
مثال ذلك مذهب " الماسونية "، يقال : إن هذا المذهب وضعه اليهود، والظاهر في سلوك الماسونيين انهم يجتمعون لفعل خير ما يستفيد منه المجتمع، وما خفي من أفعال قمة أعضاء الماسونية أنهم يخدمون أغراض الصهيونية، وقد ينضم إليهم بعض ممن لا يعرفون أهداف الماسونية الفعلية ليشاركوا في عمل الخير الظاهر. ونقول لكل واحد من هؤلاء : انظر إلى دينك، تجده يحضك على فعل مثل هذا الخير، فلماذا تنسبه إلى الماسونية ولا تفعله على أنه أمر إسلامي. ولماذا لا تنسب هذا الخير إلى الإسلام وتنسبه لغير الإسلام ؟.
وفي هذا العصر هناك ما يسمى بأندية " الروتارى " ويأخذ الإنسان غرور الفخر بالانتماء إلى تلك الأندية، ويقول :" أنا عضو في الروتارى " وعندما تسأله : لماذا ؟ يجيب : إنها أندية تحض على التعاون والتواصل والمودة والرحمة، ونقول له : وهل الإسلام حرم ذلك ؟ لماذا تفعل مثل هذا الخير وتنسبه إلى " الروتارى "، ولا تفعل الخير وتنسبه إلى دينك الإسلام ؟ إذن فهذا عداء للمنهج.
ونجد الشاردين عن المنهج، مثلهم كمثل الرجل الذي قالوا له : ما تريد نفسك الآن ؟ وأراد الرجل أن يحاد الله فقال : تريد نفسي أن أفطر في يوم رمضان، وعلى كأس خمر، وأشترى كأس الخمر هذه بثمن خنزير مسروق.
إنه يريد فطر رمضان وهو محرم، ويفطر على خمر وهي محرمة، وبثمن خنزير والخنزير حرام على المسلم، والخنزير مسروق أيضا. وسألوه : ولماذا كل هذا التعقيد ؟ فقال : حتى تكون هذه الفعلة حراما أربع مرات.
إذن فهذه مضارة لله، وهذا رجل شارد عن المنهج. فهل هذا يتوب الله عليه ؟ لا، " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت " وعند لحظة الموت يبدأ الجبن وتتمثل أخلاق الأرانب، ولماذا لم يصر على موقفه للنهاية ؟ لأنه جاء إلى اللحظة التي لا يمكن أن يكذب فيها الإنسان على نفسه " حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن " لكن التوبة لا تقبل، ولن ينتفع بها المجتمع، وشر مثل هذا الإنسان انتهى، وتوبته تأتي وهو لا يقدر على أي عمل، إذن فهو يستهزئ بالله ؛ فلا تنفعه التوبة.
ولكن انظروا إلى رحمة الله واحترامه للشهادة الإيمانية التي يقر فيها المؤمن بأنه :" لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ".
هذا المؤمن جعله الله في مقابل الكافر، فيأخذ عذابا على قدر ما فعل من ذنوب، ويأتي احترام الحق سبحانه لإيمان القمة لقوله :" أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " فيوضح سبحانه : لن نجعلك كالكافر ؛ بدليل أنه عطف عليه " ولا الذين يموتون وهم كفار "، وإنما يقدر للمؤمن العاصي من العذاب على قدر ما ارتكب من معاص، ويحترم الحق إيمان القمة، فيدخلون الجنة ؛ لذلك لم يقل الحق : إنهم خالدون في النار. وإنما قال :" أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما " و " أولئك " تعني الصنفين المؤمن والكافر فالعذاب لكل واحد حسب ذنبه.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ١٩ ﴾.
وقلنا : ساعة ينادي الحق عباده الذين آمنوا به يقول سبحانه :" ياأيها الذين آمنوا "، فمعناها : يا من آمنتم بي بمحض اختياركم، وآمنتم بي إلها له كل صفات العلم والقدرة والحكمة والقيومية، ما دمتم قد آمنتم بهذا الإله اسمعوا من الإله الأحكام التي يطلبها منكم. إذن فهو لم يناد غير مؤمن وانما نادى من آمن باختياره وبترجيح عقله فالحق يقول :
﴿ لا إكراه في الدين ﴾ ( من الآية ١٥٦ سورة البقرة ).
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعالج قضية تتعلق بالنساء وباستضعافهم. لقد جاء الإسلام والنساء في الجاهلية في غبن وظلم وحيف عليهن. و سبحانه قال : " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " وكلمة " ورث " تدل على أن واحدا قد توفى وله وارث، وهناك شيء قد تركه الميت ولا يصح ان يرثه أحد بعده ؛ لأنه عندما يقول :" لا يحل لكم أن ترثوا "، فقد مات مورث ؛ ويخاطب وارثا. إذن فالكلام في الموروث، لكن الموروث مرة يكون حلا، ولذلك شرع الله تقسيمه، وتناولناه من قبل، لكن الكلام هنا في متروك لا يصح أن يكون موروثا، ما هو ؟.
قال سبحانه :" لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها "، وهل المقصود ألا يرث الوارث من مورثه إماء تركهن ؟ لا. إن الوارث يرث من مورثه الإماء اللاتي تركهن، ولكن عندما تنصرف كلمة " النساء " تكون لأشرف مواقعها أي للحرائر، لأن الأخريات تعتبر الواحدة منهن ملك يمين، " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها "، وهل فيه ميراث للنساء برضى ؟ وكيف تورث المرأة ؟.
ننتبه هنا إلى قوله سبحانه " كرها "، وكان الواقع في الجاهلية أن الرجل إذا مات وعنده امرأة جاء وليه، ويلقى ثوبه على امرأته فتصير ملكا له، وإن لم تقبل فإنه يرثها كرها، أو إن لم يكن له هوى فيها فهو يحبسها عنده حتى تموت ويرثها، أو يأتي واحد ويزوجها له ويأخذ مهرها لنفسه ؛ كأنه يتصرف فيها تصرف المالك ؛ لذلك جاء القول الفصل :
" لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن "، و " العضل " في الأصل هو المنع، ويقال :" عضلت المرأة بولدها "، ذلك أصل الاشتقاق بالضبط. فالمرأة ساعة تلد فمن فضل الله عليها أن لها عضلات تنقبض وتنبسط، تنبسط فيتسع مكان خروج الولد، وقد تعضل المرأة أثناء الولادة، فبدلا من أن تنبسط العضلات لتفسح للولد أن يخرج تنقبض، فتأتي هنا العمليات التي يقومون بها مثل القيصرية.
إذن فالعضل معناه مأخوذ من عضلت المرأة بولدها أي انقبضت عضلاتها ولم تنبسط حتى لا يخرج الوليد، وعضلت الدجاجة ببيضها أي أن البيضة عندما تكون في طريقها لتنزل فتنقبض العضلة فلا تنزل البيضة لأن اختلالا وظيفيا قد حدث نتيجة للحركة الناقصة، ولماذا تأتي الحركة ناقصة للبسط ؟ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الأسباب في الكون تعمل آليا وميكانيكيا بحيث إذا وجدت الأسباب يوجد المسبب، لا. ففوق الأسباب مسبب إن شاء قال للأسباب : قفي فتقف.
إذن فكل المخالفات التي نراها تتم على خلاف ما تؤديه الأسباب إنما هي دليل طلاقة القدرة، فلو كانت الأشياء تسير هكذا ميكانيكيا، فسوف يقول الناس : إن الميكانيكا دقيقة لا تتخلف. لكن الحق يلفتنا إلى أنه يزاول سلطانه في ملكه، فهو لم يزاول السلطان مرة واحدة، ثم خلق الميكانيكا في الكون والأسباب ثم تركها تتصرف، لا، هو يوضح لنا : أنا قيوم لا تأخذني سنة ولا نوم، أقول للأسباب اعملي أو لا تعملي، وبذلك نلتفت إلى أنه المسيطر.
وتجد هذه المخالفات في الشواذ في الكون، حتى لا تفتنا رتابة الأسباب، ولنذكر الله باستمرار، ويكون الإنسان على ذكر من واهب الأسباب ومن خالقها، فلا تتولد عندنا بلادة من أن الأسباب مستمرة دائما، ويلفتنا الحق إلى وجوده، فتختلف الأسباب لتلفتك إلى أنها ليست فاعلة بذاتها، بل هي فاعلة لأن الله خلقها وتركها تفعل، ولو شاء لعطلها.
قلنا هذا في معجزة إبراهيم عليه السلام، حيث ألقاه أهله في النار ولم يحرق، كان من الممكن أن ينجي الله إبراهيم بأي طريقة أخرى، ولكن هل المسألة نجاة إبراهيم ؟ إن كانت المسألة كذلك فما كان ليمكنهم منه، لكنه سبحانه مكنهم منه وأمسكوه ولم يفلت منهم، وكان من الممكن أن يأمر السماء فتمطر عندما ألقوه في النار، وكان المطر كفيلا بإطفاء النار، لكن لم تمطر السماء بل وتتأجج النار. وبعد ذلك يقول لها الحق :
﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ٦٩ ﴾ ( سورة إبراهيم ).
بالله أهذا غيظ لهم أم لا ؟ هذا غيظ لهم ؛ فقد قدرتم عليه وألقيتموه في النار، وبعد ذلك لم ينزل مطر ليطفئ النار، والنار موجودة وإبراهيم في النار، لكن النار لا تحرقه. هذه هي عظمة القدرة.
إذن فما معنى " تعضلوهن " ؟ العضل : أخذنا منه كلمة " المنع " ؛ فعضلت المرأة أي قبضت عضلاتها فلم ينزل الوليد، وأنت ستعضلها كيف ؟ بان تمنعها من حقها الطبيعي حين مات زوجها، وان من حقها بعد أن تقضي العدة أن تتزوج من تريد أو من يتقدم لها، وينهى الحق :" ولا تعضلوهن " أي لا تحبسوهن عندكم وتمنعوهن، لماذا تفعلون ذلك ؟ " لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " كان هذا حكم آخر، لا ترثوا النساء كرها هذا حكم، وأيضا لا تعضلوهن حكم ثان.
والمثال عندما يكون الرجل كارها لامرأته فيقول لها : والله لن أطلقك، أنا سأجعلك موقوفة ومعلقة لا أكون أنا لك زوجا ولا أمكنك أيضا من أن تتزوجي. وذلك حتى تفتدي نفسها فتبرئ الرجل من النفقة ومؤخر الصداق ؛ فيحمي الإسلام المرأة ويحرم مثل تلك الأفعال.
ولكن متى تعضلوهن ؟ هنا يقول الحق :" إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " لأنهم سيحبسونهن، وهذا قبل التشريع بالحد. وقال بعض الفقهاء : للزوج أن يأخذ من زوجته ما تفتدي به نفسها منه وذلك يكون بمال أو غيره إذا أتت بفاحشة من زنا أو سوء عشرة، وهذا ما يسمى بالخلع وهو الطلاق بمقابل يطلبه الزوج.
ويتابع الحق :" وعاشروهن بالمعروف " وكلمة " المعروف " أوسع دائرة من كلمة المودة ؛ فالمودة هي أنك تحسن لمن عندك ودادة له وترتاح نفسك لمواددته، أنك فرح به وبوجوده، لكن المعروف قد تبذله ولو لم تكره، وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة، عندما أراد المستشرقون أن يبحثوا في القرآن ليجدوا شيئا يدعون به أن في القرآن تعارضا فيقولون : قرآنكم يقول :
﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ٢٢ ﴾ ( سورة المجادلة ).
كيف لا يواد المؤمن ابنه أو أباه أو أحدا من عشيرته لمجرد كفره. والقرآن في موقع آخر منه يقول ؟.
﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة لقمان ).
ونقول : إن هؤلاء لم يفهموا الفرق بين المودة والمعروف. ف " الود " شيء و " المعروف " شيء آخر. الود يكون عن حب، لكن المعروف ليس ضروريا أن يكون عن حب، ساعة يكون جوعان سأعطيه ليأكل وألبى احتياجاته المادية. هذا هو المعروف، إنما الود هو أن أعمل لإرضاء نفسي. وساعة يعطف الرجل المؤمن على أبيه الكافر لا يعطف عليه نتيجة للود، إنما هو يعطف عليه نتيجة للمعروف ؛ لأنه حتى لو كان كافرا سيعطيه بالمعروف.
ألم يعاتب الحق سبحانه إبراهيم في ضيف جاء له فلم يكرمه لأنه سأله وعرف منه : أنه غير مؤمن لذلك لم يضيفه ؟ فقال له ربنا : أمن أجل ليلة تستقبله فيها تريد ان تغير دينه، بينما أنا أرزقه أربعين سنة وهو كافر ؟ فماذا فعل سيدنا إبراهيم ؟ جرى فلحق بالرجل. وناداه فقال له الرجل : ما الذي جعلها تتغير هذا التغيير المفاجئ فقال له إبراهيم :" والله إن ربي عاتبني لأني صنعت معك هذا. فقال له الرجل : أربك عاتبك وأنت رسول في و أنا كافر به، فنعم الرب رب يعاتب أحبابه في أعدائه، فأسلم.
هذا هو المعروف، الحق يأمرنا أننا يجب أن ننتبه إلى هذه المسائل في أثناء الحياة الزوجية، وهذه قضية يجب أن يتنبه لها المسلمون جميعا كي لا يخربوا البيوت. إنهم يريدون أن يبنوا البيوت على المودة والحب فلو لم تكن المودة والحب في البيت لخرب البيت، نقول لهم : لا. بل " عاشروهن بالمعروف " حتى لو لم تحبوهن، وقد يكون السبب الوحيد أنك تكره المرأة لأن شكلها لا يثير غرائزك، يا هذا أنت لم تفهم عن الله ؛ ليس المفروض في المرأة أن تثير غريزتك، لكن المفروض في المرأة أن تكون مصرفا، إن هاجت غريزتك كيماويا بطبيعتها وجدت لها مصرفا. فأنت لا تحتاج لواحدة تغريك لتحرك فيك الغريزة ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :" إذا رأى أحدكم امرأة حسناء فأعجبته فليأت أهله فإن البضع واحد ومعها مثل الذي معها " ١.
أي أن قطعة اللحم واحدة إن هاجت غريزتك بطبيعتها فأي مصرف يكفيك، ولذلك عندما جاء رجل لسيدنا عمر رضي الله عنه وقال : يا أمير المؤمنين أنا كاره لامرأتي وأريد أن أطلقها، قال له : أو لم تبن البيوت إلا على الحب، فأين القيم ؟.
لقد ظن الرجل أن امرأته ستظل طول عمرها خاطفة لقلبه، ويدخل كل يوم ليقبلها، فيلفته سيدنا عمر إلى أن هذه مسألة وجدت أولا وبعد ذلك تنبت في الأسرة أشياء تربط الرجل بالمرأة وتربط المرأة بالرجل.
لذلك يقول الحق :" وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا "، أنت كرهتها في زاوية وقد تكون الزاوية التي كرهتها فيها هي التي ستجعلها تحسن في عدة زوايا ؛ لكي تعوض بإحسانها في الزوايا الأخرى هذه الزاوية الناقصة، فلا تبن المسألة على أنك تريد امرأة عارضة أزياء لتثير غرائزك عندما تكون هادئا، لا. فالمرأة مصرف طبيعي إن هاجت غرائزك بطبيعتها وجدت لها مصرفا، أما أن ترى في المرأة أنها ملهبة للغرائز فمعنى ذلك أنك تريد من المرأة أن تكون غانية فقط. وأن تعيش معك من أجل العلاقة الجنسية فقط، لكن هناك مسائل أخرى كثيرة، فلا تأخذ من المرأة زاوية واحدة هي زاوية الانفعال الجنسي وخذ زوايا متعددة.
وأعلم أن الله وزع أسباب فضله على خلقه، هذه أعطاها جمالا، وهذه أعطاها عقلا، وهذه أعطاها حكمة، وهذه أعطاها أمانة، وهذه أعطاها وفاء، وهذه أعطاها فلاحا، هناك أسباب كثيرة جدا، فإن كنت تريد أن تكون منصفا حكيما فخذ كل الزوايا، أما أن تنظر للمرأة من زاوية واحدة فقط هي زاوية إهاجة الغريزة، هنا نقول لك : ليست هذه هي الزاوية التي تصلح لتقدير المرأة فقط. " فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ".
وانظر إلى الدقة في العبارة " فعسى أن تكرهوا " فأنت تكره ؛ وقد تكون محقا في الكراهية أو غير محق، إنما إن كرهت شيئا يقول لك الله عنه :" ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " فاطمئن إنك إن كرهت في المرأة شيئا لا يتعلق بدينها، فاعلم أنك إن صبرت عليه يجعل الله لك في بقية الزواي
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ١٩ ﴾.
وقلنا : ساعة ينادي الحق عباده الذين آمنوا به يقول سبحانه :" ياأيها الذين آمنوا "، فمعناها : يا من آمنتم بي بمحض اختياركم، وآمنتم بي إلها له كل صفات العلم والقدرة والحكمة والقيومية، ما دمتم قد آمنتم بهذا الإله اسمعوا من الإله الأحكام التي يطلبها منكم. إذن فهو لم يناد غير مؤمن وانما نادى من آمن باختياره وبترجيح عقله فالحق يقول :
﴿ لا إكراه في الدين ﴾ ( من الآية ١٥٦ سورة البقرة ).
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعالج قضية تتعلق بالنساء وباستضعافهم. لقد جاء الإسلام والنساء في الجاهلية في غبن وظلم وحيف عليهن. و سبحانه قال : " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " وكلمة " ورث " تدل على أن واحدا قد توفى وله وارث، وهناك شيء قد تركه الميت ولا يصح ان يرثه أحد بعده ؛ لأنه عندما يقول :" لا يحل لكم أن ترثوا "، فقد مات مورث ؛ ويخاطب وارثا. إذن فالكلام في الموروث، لكن الموروث مرة يكون حلا، ولذلك شرع الله تقسيمه، وتناولناه من قبل، لكن الكلام هنا في متروك لا يصح أن يكون موروثا، ما هو ؟.
قال سبحانه :" لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها "، وهل المقصود ألا يرث الوارث من مورثه إماء تركهن ؟ لا. إن الوارث يرث من مورثه الإماء اللاتي تركهن، ولكن عندما تنصرف كلمة " النساء " تكون لأشرف مواقعها أي للحرائر، لأن الأخريات تعتبر الواحدة منهن ملك يمين، " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها "، وهل فيه ميراث للنساء برضى ؟ وكيف تورث المرأة ؟.
ننتبه هنا إلى قوله سبحانه " كرها "، وكان الواقع في الجاهلية أن الرجل إذا مات وعنده امرأة جاء وليه، ويلقى ثوبه على امرأته فتصير ملكا له، وإن لم تقبل فإنه يرثها كرها، أو إن لم يكن له هوى فيها فهو يحبسها عنده حتى تموت ويرثها، أو يأتي واحد ويزوجها له ويأخذ مهرها لنفسه ؛ كأنه يتصرف فيها تصرف المالك ؛ لذلك جاء القول الفصل :
" لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن "، و " العضل " في الأصل هو المنع، ويقال :" عضلت المرأة بولدها "، ذلك أصل الاشتقاق بالضبط. فالمرأة ساعة تلد فمن فضل الله عليها أن لها عضلات تنقبض وتنبسط، تنبسط فيتسع مكان خروج الولد، وقد تعضل المرأة أثناء الولادة، فبدلا من أن تنبسط العضلات لتفسح للولد أن يخرج تنقبض، فتأتي هنا العمليات التي يقومون بها مثل القيصرية.
إذن فالعضل معناه مأخوذ من عضلت المرأة بولدها أي انقبضت عضلاتها ولم تنبسط حتى لا يخرج الوليد، وعضلت الدجاجة ببيضها أي أن البيضة عندما تكون في طريقها لتنزل فتنقبض العضلة فلا تنزل البيضة لأن اختلالا وظيفيا قد حدث نتيجة للحركة الناقصة، ولماذا تأتي الحركة ناقصة للبسط ؟ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الأسباب في الكون تعمل آليا وميكانيكيا بحيث إذا وجدت الأسباب يوجد المسبب، لا. ففوق الأسباب مسبب إن شاء قال للأسباب : قفي فتقف.
إذن فكل المخالفات التي نراها تتم على خلاف ما تؤديه الأسباب إنما هي دليل طلاقة القدرة، فلو كانت الأشياء تسير هكذا ميكانيكيا، فسوف يقول الناس : إن الميكانيكا دقيقة لا تتخلف. لكن الحق يلفتنا إلى أنه يزاول سلطانه في ملكه، فهو لم يزاول السلطان مرة واحدة، ثم خلق الميكانيكا في الكون والأسباب ثم تركها تتصرف، لا، هو يوضح لنا : أنا قيوم لا تأخذني سنة ولا نوم، أقول للأسباب اعملي أو لا تعملي، وبذلك نلتفت إلى أنه المسيطر.
وتجد هذه المخالفات في الشواذ في الكون، حتى لا تفتنا رتابة الأسباب، ولنذكر الله باستمرار، ويكون الإنسان على ذكر من واهب الأسباب ومن خالقها، فلا تتولد عندنا بلادة من أن الأسباب مستمرة دائما، ويلفتنا الحق إلى وجوده، فتختلف الأسباب لتلفتك إلى أنها ليست فاعلة بذاتها، بل هي فاعلة لأن الله خلقها وتركها تفعل، ولو شاء لعطلها.
قلنا هذا في معجزة إبراهيم عليه السلام، حيث ألقاه أهله في النار ولم يحرق، كان من الممكن أن ينجي الله إبراهيم بأي طريقة أخرى، ولكن هل المسألة نجاة إبراهيم ؟ إن كانت المسألة كذلك فما كان ليمكنهم منه، لكنه سبحانه مكنهم منه وأمسكوه ولم يفلت منهم، وكان من الممكن أن يأمر السماء فتمطر عندما ألقوه في النار، وكان المطر كفيلا بإطفاء النار، لكن لم تمطر السماء بل وتتأجج النار. وبعد ذلك يقول لها الحق :
﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ٦٩ ﴾ ( سورة إبراهيم ).
بالله أهذا غيظ لهم أم لا ؟ هذا غيظ لهم ؛ فقد قدرتم عليه وألقيتموه في النار، وبعد ذلك لم ينزل مطر ليطفئ النار، والنار موجودة وإبراهيم في النار، لكن النار لا تحرقه. هذه هي عظمة القدرة.
إذن فما معنى " تعضلوهن " ؟ العضل : أخذنا منه كلمة " المنع " ؛ فعضلت المرأة أي قبضت عضلاتها فلم ينزل الوليد، وأنت ستعضلها كيف ؟ بان تمنعها من حقها الطبيعي حين مات زوجها، وان من حقها بعد أن تقضي العدة أن تتزوج من تريد أو من يتقدم لها، وينهى الحق :" ولا تعضلوهن " أي لا تحبسوهن عندكم وتمنعوهن، لماذا تفعلون ذلك ؟ " لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " كان هذا حكم آخر، لا ترثوا النساء كرها هذا حكم، وأيضا لا تعضلوهن حكم ثان.
والمثال عندما يكون الرجل كارها لامرأته فيقول لها : والله لن أطلقك، أنا سأجعلك موقوفة ومعلقة لا أكون أنا لك زوجا ولا أمكنك أيضا من أن تتزوجي. وذلك حتى تفتدي نفسها فتبرئ الرجل من النفقة ومؤخر الصداق ؛ فيحمي الإسلام المرأة ويحرم مثل تلك الأفعال.
ولكن متى تعضلوهن ؟ هنا يقول الحق :" إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " لأنهم سيحبسونهن، وهذا قبل التشريع بالحد. وقال بعض الفقهاء : للزوج أن يأخذ من زوجته ما تفتدي به نفسها منه وذلك يكون بمال أو غيره إذا أتت بفاحشة من زنا أو سوء عشرة، وهذا ما يسمى بالخلع وهو الطلاق بمقابل يطلبه الزوج.
ويتابع الحق :" وعاشروهن بالمعروف " وكلمة " المعروف " أوسع دائرة من كلمة المودة ؛ فالمودة هي أنك تحسن لمن عندك ودادة له وترتاح نفسك لمواددته، أنك فرح به وبوجوده، لكن المعروف قد تبذله ولو لم تكره، وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة، عندما أراد المستشرقون أن يبحثوا في القرآن ليجدوا شيئا يدعون به أن في القرآن تعارضا فيقولون : قرآنكم يقول :
﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ٢٢ ﴾ ( سورة المجادلة ).
كيف لا يواد المؤمن ابنه أو أباه أو أحدا من عشيرته لمجرد كفره. والقرآن في موقع آخر منه يقول ؟.
﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة لقمان ).
ونقول : إن هؤلاء لم يفهموا الفرق بين المودة والمعروف. ف " الود " شيء و " المعروف " شيء آخر. الود يكون عن حب، لكن المعروف ليس ضروريا أن يكون عن حب، ساعة يكون جوعان سأعطيه ليأكل وألبى احتياجاته المادية. هذا هو المعروف، إنما الود هو أن أعمل لإرضاء نفسي. وساعة يعطف الرجل المؤمن على أبيه الكافر لا يعطف عليه نتيجة للود، إنما هو يعطف عليه نتيجة للمعروف ؛ لأنه حتى لو كان كافرا سيعطيه بالمعروف.
ألم يعاتب الحق سبحانه إبراهيم في ضيف جاء له فلم يكرمه لأنه سأله وعرف منه : أنه غير مؤمن لذلك لم يضيفه ؟ فقال له ربنا : أمن أجل ليلة تستقبله فيها تريد ان تغير دينه، بينما أنا أرزقه أربعين سنة وهو كافر ؟ فماذا فعل سيدنا إبراهيم ؟ جرى فلحق بالرجل. وناداه فقال له الرجل : ما الذي جعلها تتغير هذا التغيير المفاجئ فقال له إبراهيم :" والله إن ربي عاتبني لأني صنعت معك هذا. فقال له الرجل : أربك عاتبك وأنت رسول في و أنا كافر به، فنعم الرب رب يعاتب أحبابه في أعدائه، فأسلم.
هذا هو المعروف، الحق يأمرنا أننا يجب أن ننتبه إلى هذه المسائل في أثناء الحياة الزوجية، وهذه قضية يجب أن يتنبه لها المسلمون جميعا كي لا يخربوا البيوت. إنهم يريدون أن يبنوا البيوت على المودة والحب فلو لم تكن المودة والحب في البيت لخرب البيت، نقول لهم : لا. بل " عاشروهن بالمعروف " حتى لو لم تحبوهن، وقد يكون السبب الوحيد أنك تكره المرأة لأن شكلها لا يثير غرائزك، يا هذا أنت لم تفهم عن الله ؛ ليس المفروض في المرأة أن تثير غريزتك، لكن المفروض في المرأة أن تكون مصرفا، إن هاجت غريزتك كيماويا بطبيعتها وجدت لها مصرفا. فأنت لا تحتاج لواحدة تغريك لتحرك فيك الغريزة ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :" إذا رأى أحدكم امرأة حسناء فأعجبته فليأت أهله فإن البضع واحد ومعها مثل الذي معها " ١.
أي أن قطعة اللحم واحدة إن هاجت غريزتك بطبيعتها فأي مصرف يكفيك، ولذلك عندما جاء رجل لسيدنا عمر رضي الله عنه وقال : يا أمير المؤمنين أنا كاره لامرأتي وأريد أن أطلقها، قال له : أو لم تبن البيوت إلا على الحب، فأين القيم ؟.
لقد ظن الرجل أن امرأته ستظل طول عمرها خاطفة لقلبه، ويدخل كل يوم ليقبلها، فيلفته سيدنا عمر إلى أن هذه مسألة وجدت أولا وبعد ذلك تنبت في الأسرة أشياء تربط الرجل بالمرأة وتربط المرأة بالرجل.
لذلك يقول الحق :" وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا "، أنت كرهتها في زاوية وقد تكون الزاوية التي كرهتها فيها هي التي ستجعلها تحسن في عدة زوايا ؛ لكي تعوض بإحسانها في الزوايا الأخرى هذه الزاوية الناقصة، فلا تبن المسألة على أنك تريد امرأة عارضة أزياء لتثير غرائزك عندما تكون هادئا، لا. فالمرأة مصرف طبيعي إن هاجت غرائزك بطبيعتها وجدت لها مصرفا، أما أن ترى في المرأة أنها ملهبة للغرائز فمعنى ذلك أنك تريد من المرأة أن تكون غانية فقط. وأن تعيش معك من أجل العلاقة الجنسية فقط، لكن هناك مسائل أخرى كثيرة، فلا تأخذ من المرأة زاوية واحدة هي زاوية الانفعال الجنسي وخذ زوايا متعددة.
وأعلم أن الله وزع أسباب فضله على خلقه، هذه أعطاها جمالا، وهذه أعطاها عقلا، وهذه أعطاها حكمة، وهذه أعطاها أمانة، وهذه أعطاها وفاء، وهذه أعطاها فلاحا، هناك أسباب كثيرة جدا، فإن كنت تريد أن تكون منصفا حكيما فخذ كل الزوايا، أما أن تنظر للمرأة من زاوية واحدة فقط هي زاوية إهاجة الغريزة، هنا نقول لك : ليست هذه هي الزاوية التي تصلح لتقدير المرأة فقط. " فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ".
وانظر إلى الدقة في العبارة " فعسى أن تكرهوا " فأنت تكره ؛ وقد تكون محقا في الكراهية أو غير محق، إنما إن كرهت شيئا يقول لك الله عنه :" ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " فاطمئن إنك إن كرهت في المرأة شيئا لا يتعلق بدينها، فاعلم أنك إن صبرت عليه يجعل الله لك في بقية الزواي
١ رواه الخطيب عن عمر.
.
.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ٢٠ ﴾.
فإذا ضاقت بك المسائل، بعد أن عاشرت بالمعروف ولم يعد ممكنا أن تستمر الحياة الزوجية في إطار يرضى عنه الله، وتخاف أن تنفلت من نفسك إلى ما حرم الله، ماذا تفعل ؟ يقول سبحانه :" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " أي لك أن تستبدل ما دامت المسألة ستصل إلى جرح منهج الله، وعليك في هذا الاستبدال أن ترعى المنهج الإيماني مثلما أشار به سيدنا الحسن رضي الله عنه على الرجل الذي كان يستشيره في واحد جاء ليخطب ابنته. قال سيدنا الحسن رضي الله عنه : إن جاءك الرجل الصالح فزوجه، فإنه إن أحب ابنتك أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
والحق يقول :" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " فهذا يعني أن الرغبة قد انصرفت عن الأولى نهائيا، ولا يمكن التغلب عليها بغير الانحراف عن المنهج. وقد يحدث أن يضيق الرجل بزوجته وهو لا يعاني من إلحاح في الناحية الغريزية، فيطلقها ولا يتزوج، فما شروط المنهج في هذا الأمر ؟.
يقول الحق :" وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ". كلمة " قنطار " وكلمة " قنطرة " مأخوذة من الشيء العظيم. وقنطار تعني " المال ". وقدروه قديما بأنه ملء مسك البقرة، و " المسك " هو الجلد، فعندما يتم سلخ البقرة يصبح جلدها مثل القربة، وملء مسكها يسمى قنطارا، والقنطار المعروف عندنا الآن له سمة وزنية، والحق حين يعظم المهر بقنطار يقول :" وآتيتم إحداهن قنطارا " فهو يأتي لنا بمثل كبير وينهانا بقوله :" فلا تأخذوا منه
شيئا ". لماذا ؟ لأنك يجب أن تفهم أن المهر الذي تدفعه ليس منساحا على زمن علاقتك بالمرأة إلى أن تنتهي حياتكما، بل المهر مجعول ثمنا للبضع الذي أباحه الله لك ولو للحظة واحدة، فلا تحسبها بمقدار ما مكثت معك، لا، إنما هو ثمن البضع، فقد كشفت نفسها لك وتمكنت منها ولو مرة واحدة.
إذن فهذا القنطار عمره ينتهي في اللحظة الأولى، لحظة تمكنك منها. " وآتيتم إحداهن قنطارا " وهذه هي المسألة التي قال فيها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أخطأ عمر وأصابت امرأة، لأنه كان يتكلم في غلاء المهور ؛ فقالت له المرأة : كيف تقول ذلك والله يقول : " وآتيتم إحداهن قنطارا "، فقال : أصابت امرأة وأخطأ عمر.
عن عمر رضي الله عنه أنه نهى وهو على المنبر عن زيادة صداق المرأة على أربعمائة درهم ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت : أما سمعت الله يقول :﴿ وآتيتم إحداهن قنطارا ﴾ ؟ فقال : اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال :" إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب " ١.
وعن عبد الله بن مصعب أن عمر رضي الله عنه قال :" لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من فضة، فمن زاد أوقية جعلت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة : ما ذاك لك، قال ولم ؟ فقالت : لأن الله تعالى يقول :" وآتيتم إحداهن قنطارا " فقال عمر :" امرأة أصابت ورجل أخطأ ".
ثم ينكر القرآن مجرد فكرة الأخذ فيقول :" أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا " لماذا ؟ لأنه ليس ثمن استمتاعك بها طويلا، بل هو ثمن تمكنك منها، وهذا يحدث أول ما دخلت عليها. وإن أخذت منها شيئا من المهر بعد ذلك فأنت آثم، إلا إذا رضيت بذلك، والإثم المبين هو الإثم المحيط.
﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ٢٠ ﴾.
فإذا ضاقت بك المسائل، بعد أن عاشرت بالمعروف ولم يعد ممكنا أن تستمر الحياة الزوجية في إطار يرضى عنه الله، وتخاف أن تنفلت من نفسك إلى ما حرم الله، ماذا تفعل ؟ يقول سبحانه :" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " أي لك أن تستبدل ما دامت المسألة ستصل إلى جرح منهج الله، وعليك في هذا الاستبدال أن ترعى المنهج الإيماني مثلما أشار به سيدنا الحسن رضي الله عنه على الرجل الذي كان يستشيره في واحد جاء ليخطب ابنته. قال سيدنا الحسن رضي الله عنه : إن جاءك الرجل الصالح فزوجه، فإنه إن أحب ابنتك أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
والحق يقول :" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " فهذا يعني أن الرغبة قد انصرفت عن الأولى نهائيا، ولا يمكن التغلب عليها بغير الانحراف عن المنهج. وقد يحدث أن يضيق الرجل بزوجته وهو لا يعاني من إلحاح في الناحية الغريزية، فيطلقها ولا يتزوج، فما شروط المنهج في هذا الأمر ؟.
يقول الحق :" وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ". كلمة " قنطار " وكلمة " قنطرة " مأخوذة من الشيء العظيم. وقنطار تعني " المال ". وقدروه قديما بأنه ملء مسك البقرة، و " المسك " هو الجلد، فعندما يتم سلخ البقرة يصبح جلدها مثل القربة، وملء مسكها يسمى قنطارا، والقنطار المعروف عندنا الآن له سمة وزنية، والحق حين يعظم المهر بقنطار يقول :" وآتيتم إحداهن قنطارا " فهو يأتي لنا بمثل كبير وينهانا بقوله :" فلا تأخذوا منه
شيئا ". لماذا ؟ لأنك يجب أن تفهم أن المهر الذي تدفعه ليس منساحا على زمن علاقتك بالمرأة إلى أن تنتهي حياتكما، بل المهر مجعول ثمنا للبضع الذي أباحه الله لك ولو للحظة واحدة، فلا تحسبها بمقدار ما مكثت معك، لا، إنما هو ثمن البضع، فقد كشفت نفسها لك وتمكنت منها ولو مرة واحدة.
إذن فهذا القنطار عمره ينتهي في اللحظة الأولى، لحظة تمكنك منها. " وآتيتم إحداهن قنطارا " وهذه هي المسألة التي قال فيها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أخطأ عمر وأصابت امرأة، لأنه كان يتكلم في غلاء المهور ؛ فقالت له المرأة : كيف تقول ذلك والله يقول : " وآتيتم إحداهن قنطارا "، فقال : أصابت امرأة وأخطأ عمر.
عن عمر رضي الله عنه أنه نهى وهو على المنبر عن زيادة صداق المرأة على أربعمائة درهم ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت : أما سمعت الله يقول :﴿ وآتيتم إحداهن قنطارا ﴾ ؟ فقال : اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال :" إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب " ١.
وعن عبد الله بن مصعب أن عمر رضي الله عنه قال :" لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من فضة، فمن زاد أوقية جعلت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة : ما ذاك لك، قال ولم ؟ فقالت : لأن الله تعالى يقول :" وآتيتم إحداهن قنطارا " فقال عمر :" امرأة أصابت ورجل أخطأ ".
ثم ينكر القرآن مجرد فكرة الأخذ فيقول :" أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا " لماذا ؟ لأنه ليس ثمن استمتاعك بها طويلا، بل هو ثمن تمكنك منها، وهذا يحدث أول ما دخلت عليها. وإن أخذت منها شيئا من المهر بعد ذلك فأنت آثم، إلا إذا رضيت بذلك، والإثم المبين هو الإثم المحيط.
١ رواه سعيد بن منصور، وأبو يعلى.
.
.
ويأتي الحق من بعد ذلك بمزيد من الاستنكار فيقول :" وكيف تأخذونه ". إنه استنكار لعملية أخذ شيء من المهر بحيثية الحكم فيقول :
﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ٢١ ﴾.
فلو أدركتم كل الكيفيات فلن تجدوا كيفية تبرز لكم الأخذ، لماذا ؟ لأن الحق قال :" وكيف تأخذونه " وانظر للتعليل :" وقد أفضى بعضكم إلى بعض ". إذن فثمن البضع هو الإفضاء، وكلمة " أفضى بعضكم إلى بعض " كلمة من اله ؛ لذلك تأخذ كل المعاني التي بين الرجل والمرأة، " و " أفضى " مأخوذة من " الفضاء " والفضاء هو المكان الواسع، و " أفضى بعضكم " يعني دخلتم مع بعض دخولا غير مضيق.
إذن فالإفضاء معناه : أنكم دخلتم معا أوسع مداخلة، وحسبك من قمة المداخلة أن عورتها التي تسترها عن أبيها وعن أخيها وحتى عن أمها وأختها تبينها لك، ولا يوجد إفضاء أكثر من هذا، ودخلت معها في الاتصال الواسع، أنفاسك، ملامستك، مباشرتك، معاشرتك، مدخلك، مخرجك، في حمامك، في المطبخ، في كل شيء حدثت إفضاءات، وأنت ما دمت قد أفضيت لها وهي قد أفضت لك كما قال الحق أيضا في المداخلة الشاملة :
﴿ هن لباس لكم أنتم لباس لهن ﴾ ( من الآية ١٨٧ سورة البقرة ).
أي شيء تريد أكثر من هذا ! ؟ ولذلك عندما تشتد امرأة على زوجها، قد يغضب، ونقول له : يكفيك أن الله أحل لك منها ما حرمه على غيرك، وأعطتك عرضها، فحين تشتد عليك لا تغضب، وتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " ١.
" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا " والميثاق هو : العهد يؤخذ بين اثنين، ساعة سألت وليها :" زوجني " فقال لك : زوجتك، ومفهوم أن كلمة الزواج هذه ستعطي أسرة جديدة، وكل ميثاق بين خلق وخلق في غير العرض هو ميثاق عادي، إلا الميثاق بين الرجل والمرأة التي يتزوجها ؛ فهذا هو الميثاق الغليظ، أي غير اللين، والله لم يصف به إلا ميثاق النبيين فوصفه بأنه غليظ٢، ووصف هذا الميثاق بأنه غليظ. ففي هذه الآية " أفضى بعضكم إلى بعض " فهنا إفضاء وفي آية أخرى يكون كل من الزوجين لباسا وسترا للآخر " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " لهذا كان الميثاق غليظا، وهذا الميثاق الغليظ يحتم عليك إن تعثرت العشرة أن تتحملها وتعاملها بالمعروف، وإن تعذرت وليس هناك فائدة من استدامتها فيصح أن تستبدلها، فإن كنت قد أعطيتها قنطارا إياك أن تأخذ منه شيئا، لماذا ؟ لأن ذلك هو ثمن الإفضاء، ومادام هذا القنطار هو ثمن الإفضاء وقد تم، فلا تأخذ منه شيئا، فالإفضاء ليس شائعا في الزمن كي توزعه، لا.
والحق يقول :" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا " هنا يجب أن نفهم أن الحق حين يشرع الحقوق، ولكنه لا يمنع الفضل، بدليل أنه قال :
﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾ ( من الآية ٤ سورة النساء ).
إذن ففيه فرق بين الحق وما طاب لكم، والأثر يحكى عن القاضي الذي قال لقومه : أنتم اخترتموني لأحكم في النزاع القائم بينكم فماذا تريدون مني ؟ ! أأحكم بالعدل أم بما هو خير من العدل ؟ فقالوا له : وهل يوجد خير من العدل ؟ قال : نعم، الفضل. فالعدل : أن كل واحد يأخذ حقه، والفضل : أن تتنازل عن حقك وهو يتنازل عن حقه، وتنتهي المسألة، إذن فالفضل أحسن من العدل، والحق سبحانه وتعالى حين يشرع الحقوق يضع الضمانات، ولكنه لا يمنع الفضل بين الناس :
فيقول جل شأنه :
﴿ ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾ ( من الآية ٢٣٧ سورة البقرة ).
ويقول الحق في آية الدين :
﴿ ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ﴾ ( من الآية ٢٨٢ سورة البقرة ).
ويأمركم الحق أن توثقوا الدين.. لأنكم لا تحمون مال الدائن فحسب بل تحمون المدين نفسه، لأنه حين يعلم أن الدين موثق عليه ومكتوب عليه فلن ينكره، لكن لو لم يكن مكتوبا فقد تحدثه نفسه أن ينكره، إذن فالحق يحمي الدائن والمدين من نفسه قال :" ولا تسأموا أن تكتبوه "، وقال بعدها :
﴿ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ﴾ ( من الآية ٢٨٣ سورة البقرة ).
فقد تقول لمن يستدين منك : لا داعي لكتابة إيصال وصك بيني وبينك، وهذه أريحية لا يمنعها الله فمادام قد أمن بعضكم بعضا فليستح كل منكم وليؤد الذي اؤتمن امانته وليتق الله ربه.
ومادام قد جعل للفضل مجالا مع تسجيل الحقوق فلا تنسوا ذلك. فما بالنا بالميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة.. وغلظ الميثاق إنما يتأتى بما يتطلبه الميثاق، ولا يوجد ميثاق أغلظ مما أخذه الله من النبيين ومما بين الرجل والمرأة ؛ لأنه تعرض لمسألة لا تباح من الزوجة لغير زوجها، ولا من الزوج لغير زوجته. إن على الرجل أن يوفي حق المرأة ولا يصح أن ينقصها شيئا إلا إذا تنازلت هي. فقد سبق أن قال الحق :
﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾ ( من الآية ٤ سورة النساء ).
وما دامت النفس قد طابت، إذن فالرضا بين الطرفين موجود، وذلك استطراق أنسي بين الرجل والمرأة. فالمهر حقها، ولكن لا يجب أن يقبض بالفعل، فهو في ذمة الزوج، إن شاء أعطاه كله أو أخره كله أو أعطى بعضه وأخر بعضه. ولكن حين تنفصل الزوجة بعد الدخول يكون لها الحق كاملا في مهرها، إن كان قد أخره كله فالواجب أن تأخذه، أو تأخذ الباقي لها إن كان قد دفع جزءا منه كمقدم صداق.
ولكن حين تنتقل ملكية المهر إلى الزوجة يفتح الله باب الرضا والتراضي بين الرجل والمرأة فقال :" فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " فهو هبة تخرج عن تراض. وذلك مما يؤكد دوام العشرة والألفة والمودة والرحمة بين الزوجين. وبعد ذلك يبقى حكم آخر. هب أن الخلاف استعر بين الرجل والمرأة.
حالة تكره هي وتحب أن تخرج منه لا جناح أن تفتدى منه نفسها ببعض المال لأنها كارهة، ومادامت هي كارهة، فسيضطر هو إلى أن يبني بزوجة جديدة، إذن فلا مانع أن تختلع المرأة منه بشيء تعطيه للزوج :
﴿ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ ( من الآية ٢٢٩ سورة البقرة ).
والحق سبحانه وتعالى أراد أن يعطينا الدليل على أن حق المرأة يجب أن يحفظ لها، ولذلك جاء بأسلوب تناول مسألة أخذ الزوج لبعض مهر الزوجة في أسلوب التعجب :
﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ٢١ ﴾ ( من الآية ٢١ سورة النساء ).
فكأن " وكيف تأخذونه " هذه دليل على أنه لا يوجد وجه من وجوه الحق يبيح لك أن تأخذ منها مهرها، فساعة يستفهم فيقول :" كيف " فهذا تعجيب من أن تحدث هذه، وقلنا : إن كل المواثيق بين اثنين لا تعطي حقوقا دون العرض، ولكن ميثاق الزواج يعطي حقوقا في العرض، ومن هنا جاء غلظ الميثاق، وكل عهد وميثاق بين اثنين قد ينصب إلى المال، وقد ينصب إلى الخدمة، وقد ينصب إلى أن تعقل عنه الدية، وقد ينصب إلى أنك تعطيه مثلا المعونة، هذه ألوان من المواثيق إلا مسألة العرض، فمسألة العرض عهد خاص بين الزوجين، ومن هنا جاء الميثاق الغليظ.
﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ٢١ ﴾.
فلو أدركتم كل الكيفيات فلن تجدوا كيفية تبرز لكم الأخذ، لماذا ؟ لأن الحق قال :" وكيف تأخذونه " وانظر للتعليل :" وقد أفضى بعضكم إلى بعض ". إذن فثمن البضع هو الإفضاء، وكلمة " أفضى بعضكم إلى بعض " كلمة من اله ؛ لذلك تأخذ كل المعاني التي بين الرجل والمرأة، " و " أفضى " مأخوذة من " الفضاء " والفضاء هو المكان الواسع، و " أفضى بعضكم " يعني دخلتم مع بعض دخولا غير مضيق.
إذن فالإفضاء معناه : أنكم دخلتم معا أوسع مداخلة، وحسبك من قمة المداخلة أن عورتها التي تسترها عن أبيها وعن أخيها وحتى عن أمها وأختها تبينها لك، ولا يوجد إفضاء أكثر من هذا، ودخلت معها في الاتصال الواسع، أنفاسك، ملامستك، مباشرتك، معاشرتك، مدخلك، مخرجك، في حمامك، في المطبخ، في كل شيء حدثت إفضاءات، وأنت ما دمت قد أفضيت لها وهي قد أفضت لك كما قال الحق أيضا في المداخلة الشاملة :
﴿ هن لباس لكم أنتم لباس لهن ﴾ ( من الآية ١٨٧ سورة البقرة ).
أي شيء تريد أكثر من هذا ! ؟ ولذلك عندما تشتد امرأة على زوجها، قد يغضب، ونقول له : يكفيك أن الله أحل لك منها ما حرمه على غيرك، وأعطتك عرضها، فحين تشتد عليك لا تغضب، وتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " ١.
" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا " والميثاق هو : العهد يؤخذ بين اثنين، ساعة سألت وليها :" زوجني " فقال لك : زوجتك، ومفهوم أن كلمة الزواج هذه ستعطي أسرة جديدة، وكل ميثاق بين خلق وخلق في غير العرض هو ميثاق عادي، إلا الميثاق بين الرجل والمرأة التي يتزوجها ؛ فهذا هو الميثاق الغليظ، أي غير اللين، والله لم يصف به إلا ميثاق النبيين فوصفه بأنه غليظ٢، ووصف هذا الميثاق بأنه غليظ. ففي هذه الآية " أفضى بعضكم إلى بعض " فهنا إفضاء وفي آية أخرى يكون كل من الزوجين لباسا وسترا للآخر " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " لهذا كان الميثاق غليظا، وهذا الميثاق الغليظ يحتم عليك إن تعثرت العشرة أن تتحملها وتعاملها بالمعروف، وإن تعذرت وليس هناك فائدة من استدامتها فيصح أن تستبدلها، فإن كنت قد أعطيتها قنطارا إياك أن تأخذ منه شيئا، لماذا ؟ لأن ذلك هو ثمن الإفضاء، ومادام هذا القنطار هو ثمن الإفضاء وقد تم، فلا تأخذ منه شيئا، فالإفضاء ليس شائعا في الزمن كي توزعه، لا.
والحق يقول :" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا " هنا يجب أن نفهم أن الحق حين يشرع الحقوق، ولكنه لا يمنع الفضل، بدليل أنه قال :
﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾ ( من الآية ٤ سورة النساء ).
إذن ففيه فرق بين الحق وما طاب لكم، والأثر يحكى عن القاضي الذي قال لقومه : أنتم اخترتموني لأحكم في النزاع القائم بينكم فماذا تريدون مني ؟ ! أأحكم بالعدل أم بما هو خير من العدل ؟ فقالوا له : وهل يوجد خير من العدل ؟ قال : نعم، الفضل. فالعدل : أن كل واحد يأخذ حقه، والفضل : أن تتنازل عن حقك وهو يتنازل عن حقه، وتنتهي المسألة، إذن فالفضل أحسن من العدل، والحق سبحانه وتعالى حين يشرع الحقوق يضع الضمانات، ولكنه لا يمنع الفضل بين الناس :
فيقول جل شأنه :
﴿ ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾ ( من الآية ٢٣٧ سورة البقرة ).
ويقول الحق في آية الدين :
﴿ ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ﴾ ( من الآية ٢٨٢ سورة البقرة ).
ويأمركم الحق أن توثقوا الدين.. لأنكم لا تحمون مال الدائن فحسب بل تحمون المدين نفسه، لأنه حين يعلم أن الدين موثق عليه ومكتوب عليه فلن ينكره، لكن لو لم يكن مكتوبا فقد تحدثه نفسه أن ينكره، إذن فالحق يحمي الدائن والمدين من نفسه قال :" ولا تسأموا أن تكتبوه "، وقال بعدها :
﴿ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ﴾ ( من الآية ٢٨٣ سورة البقرة ).
فقد تقول لمن يستدين منك : لا داعي لكتابة إيصال وصك بيني وبينك، وهذه أريحية لا يمنعها الله فمادام قد أمن بعضكم بعضا فليستح كل منكم وليؤد الذي اؤتمن امانته وليتق الله ربه.
ومادام قد جعل للفضل مجالا مع تسجيل الحقوق فلا تنسوا ذلك. فما بالنا بالميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة.. وغلظ الميثاق إنما يتأتى بما يتطلبه الميثاق، ولا يوجد ميثاق أغلظ مما أخذه الله من النبيين ومما بين الرجل والمرأة ؛ لأنه تعرض لمسألة لا تباح من الزوجة لغير زوجها، ولا من الزوج لغير زوجته. إن على الرجل أن يوفي حق المرأة ولا يصح أن ينقصها شيئا إلا إذا تنازلت هي. فقد سبق أن قال الحق :
﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾ ( من الآية ٤ سورة النساء ).
وما دامت النفس قد طابت، إذن فالرضا بين الطرفين موجود، وذلك استطراق أنسي بين الرجل والمرأة. فالمهر حقها، ولكن لا يجب أن يقبض بالفعل، فهو في ذمة الزوج، إن شاء أعطاه كله أو أخره كله أو أعطى بعضه وأخر بعضه. ولكن حين تنفصل الزوجة بعد الدخول يكون لها الحق كاملا في مهرها، إن كان قد أخره كله فالواجب أن تأخذه، أو تأخذ الباقي لها إن كان قد دفع جزءا منه كمقدم صداق.
ولكن حين تنتقل ملكية المهر إلى الزوجة يفتح الله باب الرضا والتراضي بين الرجل والمرأة فقال :" فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " فهو هبة تخرج عن تراض. وذلك مما يؤكد دوام العشرة والألفة والمودة والرحمة بين الزوجين. وبعد ذلك يبقى حكم آخر. هب أن الخلاف استعر بين الرجل والمرأة.
حالة تكره هي وتحب أن تخرج منه لا جناح أن تفتدى منه نفسها ببعض المال لأنها كارهة، ومادامت هي كارهة، فسيضطر هو إلى أن يبني بزوجة جديدة، إذن فلا مانع أن تختلع المرأة منه بشيء تعطيه للزوج :
﴿ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ ( من الآية ٢٢٩ سورة البقرة ).
والحق سبحانه وتعالى أراد أن يعطينا الدليل على أن حق المرأة يجب أن يحفظ لها، ولذلك جاء بأسلوب تناول مسألة أخذ الزوج لبعض مهر الزوجة في أسلوب التعجب :
﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ٢١ ﴾ ( من الآية ٢١ سورة النساء ).
فكأن " وكيف تأخذونه " هذه دليل على أنه لا يوجد وجه من وجوه الحق يبيح لك أن تأخذ منها مهرها، فساعة يستفهم فيقول :" كيف " فهذا تعجيب من أن تحدث هذه، وقلنا : إن كل المواثيق بين اثنين لا تعطي حقوقا دون العرض، ولكن ميثاق الزواج يعطي حقوقا في العرض، ومن هنا جاء غلظ الميثاق، وكل عهد وميثاق بين اثنين قد ينصب إلى المال، وقد ينصب إلى الخدمة، وقد ينصب إلى أن تعقل عنه الدية، وقد ينصب إلى أنك تعطيه مثلا المعونة، هذه ألوان من المواثيق إلا مسألة العرض، فمسألة العرض عهد خاص بين الزوجين، ومن هنا جاء الميثاق الغليظ.
١ رواه الترمذي عن عائشة، ورواه ابن ماجة عن ابن عباس ورواه الطبراني في الكبير عن معاوية..
٢ الآية رقم ٧ من سورة الأحزاب..
٢ الآية رقم ٧ من سورة الأحزاب..
وبعد ذلك يتناول الحق سبحانه وتعالى قضية يستديم بها طهر الأسرة وعفافها وكرامتها وعزتها، ويبقى لأطراف الأسرة المحبة والمودة فلا يدخل شيء يقضي على هذه المحبة والمودة ويدخل نزغ الشيطان فيها. قال الحق سبحانه :
﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ٢٢ ﴾.
فكأن هذه مسألة كانت موجودة، كان ينكح الولد زوج أبيه التي هي غير أمه. و " صفوان بن أمية " وهو من سادة قريش قد خلف أباه أمية بن خلف على " فاختة بنت الأسود بن المطلب " كانت تحت أبيه، فلما مات أبوه تزوجها هو، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعد هذه القضية من محيط الأسرة، لماذا ؟. لأن الأب والابن لهما من العلاقات كالمودة والرحمة والحنان والعطف من الأب، والبر والأدب، والاستكانة، وجناح الذل من الابن، فحين يتزوج الرجل امرأة وله ابن، فذلك دليل على أن الأب كان متزوجا أمه قبلها، وكأن الزيجة الجديدة طرأت على الأسرة.
وسبحانه يريد ألا يجعل العين من الولد تتطلع إلى المرأة التي تحت أبيه، وربما راقته، ربما أعجبته، فإذا ما راقته وأعجبته فأقل أنواع التفكير أن يقول بينه وبين نفسه : بعدما يموت أبي أتزوجها، فحين يوجد له الأمل في أنه بعدما يموت والده يتزوجها ؛ ربما يفرح بموت أبيه، هذا إن لم يكن يسعى في التخلص من أبيه، وأنتم تعلمون سعار الغرائز حين تأتي، فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على الولد أمل الالتقاء ولو بالرجاء والتمني، وأنه يجب عليه أن ينظر إلى الجارية أو الزوجة التي تحت أبيه نظرته إلى أمه، حين ينظر إليها هذه النظرة تمتنع نزعات الشيطان.
فيقول الحق : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " والنكاح هنا يطلق فينصرف إلى الوطء والدخول، وقد ينصرف إلى العقد، إلا أن انصرافه إلى الوطء والدخول أي العملية الجنسية هو الشائع والأولى، لأن الله حينما يقول :" الزاني لا ينكح إلا زانية " معناها أنه ينكح دون عقد وأن تتم العملية الجنسية دون زواج.
والحق هنا يقول : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " فما هو السلف هذا ؟ إن ما سلف كان موجودا، أي جاء الإسلام فوجد ذلك الأمر متبعا، وجاء الإسلام بتحريم مثل هذا الأمر. فالزمن الجديد بعد الإسلام لا يحل أن يحدث فيه ذلك وإن كان عقد النكاح قد حدث قبل الإسلام، ولذلك قال سبحانه :" إلا ما قد سلف " فجاء ب( ما ) وهي راجعة للزمن. كأن الزمن الجديد لا يوجد فيه هذا.
هب أن واحدا قد تزوج بامرأة أبيه ثم جاء الحكم.. أيقول سلف أن تزوجتها قبل الحكم ! نقول : لا الزمن انتهى، إذن فقوله :" ما قد سلف " يعني الزمن، ومادام الزمن انتهى يكون الزمن الجديد ليس فيه شيء من مثل تلك الأمور. لذا جاءت ( ما ) ولو جاءت ( من ) بدل ( ما ) لكان الحكم أن ما نكحت قبل الإسلام تبقى معه، لكنه قال( إلا ما قد سلف ) فلا يصح في المستقبل أن يوجد منه شيء البتة ويجب التفريق بين الزوجين فيما كان قائما من هذا الزواج.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه حين يشرع فهو يشرع ما تقتضيه الفطرة السليمة. فلم يقل : إنكم إن فعلتم ذلك يكون فاحشة، بل إنه برغم وجوده من قديم كان فاحشة وكان فعلا قبيحا " إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " وما كان يصح بالفطرة أن تكون هذه المسألة على تلك الصورة، إلا أن الناس عندما فسدت فطرتهم لجأوا إلى أن يتزوج الرجل امرأة أبيه، ولذلك إذا استقرأت التاريخ القديم وجدت أن كل رجل تزوج من أمراة أبيه كان يسمى عندهم نكاح " المقت " والولد الذي ينشأ يسمونه " المقتى " أي المكروه.
إذن فقوله :" إنه كان " أي قبل أن أحكم أنا هذا الحكم " كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ". فالله يوضح : إنني أشرع لكم ما تقتضيه الفطرة. والفطرة قد تنطمس في بعض الأمور، وقد لا تنطمس في البعض الآخر لأن بعض الأمور فاقعة وظاهرة والتحريم فيها يتم بالفطرة.
مثال ذلك : أن واحدا ما تزوج أمه قبل ذلك، أو تزوج ابنته، أو تزوج أخته. إذن ففيه أشياء حتى في الجاهلية ما اجترأ أحد عليها. إذن جاء بالحكم الذي يحرم ما اجترأت عليه الجاهلية وتجاوزت وتخطت فيه الفطرة، فقال سبحانه :" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " أي مضى.
لقد وصف سبحانه نجاح الأبناء لزوجات آبائهم بأنه " كان فاحشة " أي قبحا، و " مقتا " أي مكروها، " وساء سبيلا " أي في بناء الأسرة.
﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ٢٢ ﴾.
فكأن هذه مسألة كانت موجودة، كان ينكح الولد زوج أبيه التي هي غير أمه. و " صفوان بن أمية " وهو من سادة قريش قد خلف أباه أمية بن خلف على " فاختة بنت الأسود بن المطلب " كانت تحت أبيه، فلما مات أبوه تزوجها هو، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعد هذه القضية من محيط الأسرة، لماذا ؟. لأن الأب والابن لهما من العلاقات كالمودة والرحمة والحنان والعطف من الأب، والبر والأدب، والاستكانة، وجناح الذل من الابن، فحين يتزوج الرجل امرأة وله ابن، فذلك دليل على أن الأب كان متزوجا أمه قبلها، وكأن الزيجة الجديدة طرأت على الأسرة.
وسبحانه يريد ألا يجعل العين من الولد تتطلع إلى المرأة التي تحت أبيه، وربما راقته، ربما أعجبته، فإذا ما راقته وأعجبته فأقل أنواع التفكير أن يقول بينه وبين نفسه : بعدما يموت أبي أتزوجها، فحين يوجد له الأمل في أنه بعدما يموت والده يتزوجها ؛ ربما يفرح بموت أبيه، هذا إن لم يكن يسعى في التخلص من أبيه، وأنتم تعلمون سعار الغرائز حين تأتي، فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على الولد أمل الالتقاء ولو بالرجاء والتمني، وأنه يجب عليه أن ينظر إلى الجارية أو الزوجة التي تحت أبيه نظرته إلى أمه، حين ينظر إليها هذه النظرة تمتنع نزعات الشيطان.
فيقول الحق : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " والنكاح هنا يطلق فينصرف إلى الوطء والدخول، وقد ينصرف إلى العقد، إلا أن انصرافه إلى الوطء والدخول أي العملية الجنسية هو الشائع والأولى، لأن الله حينما يقول :" الزاني لا ينكح إلا زانية " معناها أنه ينكح دون عقد وأن تتم العملية الجنسية دون زواج.
والحق هنا يقول : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " فما هو السلف هذا ؟ إن ما سلف كان موجودا، أي جاء الإسلام فوجد ذلك الأمر متبعا، وجاء الإسلام بتحريم مثل هذا الأمر. فالزمن الجديد بعد الإسلام لا يحل أن يحدث فيه ذلك وإن كان عقد النكاح قد حدث قبل الإسلام، ولذلك قال سبحانه :" إلا ما قد سلف " فجاء ب( ما ) وهي راجعة للزمن. كأن الزمن الجديد لا يوجد فيه هذا.
هب أن واحدا قد تزوج بامرأة أبيه ثم جاء الحكم.. أيقول سلف أن تزوجتها قبل الحكم ! نقول : لا الزمن انتهى، إذن فقوله :" ما قد سلف " يعني الزمن، ومادام الزمن انتهى يكون الزمن الجديد ليس فيه شيء من مثل تلك الأمور. لذا جاءت ( ما ) ولو جاءت ( من ) بدل ( ما ) لكان الحكم أن ما نكحت قبل الإسلام تبقى معه، لكنه قال( إلا ما قد سلف ) فلا يصح في المستقبل أن يوجد منه شيء البتة ويجب التفريق بين الزوجين فيما كان قائما من هذا الزواج.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه حين يشرع فهو يشرع ما تقتضيه الفطرة السليمة. فلم يقل : إنكم إن فعلتم ذلك يكون فاحشة، بل إنه برغم وجوده من قديم كان فاحشة وكان فعلا قبيحا " إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " وما كان يصح بالفطرة أن تكون هذه المسألة على تلك الصورة، إلا أن الناس عندما فسدت فطرتهم لجأوا إلى أن يتزوج الرجل امرأة أبيه، ولذلك إذا استقرأت التاريخ القديم وجدت أن كل رجل تزوج من أمراة أبيه كان يسمى عندهم نكاح " المقت " والولد الذي ينشأ يسمونه " المقتى " أي المكروه.
إذن فقوله :" إنه كان " أي قبل أن أحكم أنا هذا الحكم " كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ". فالله يوضح : إنني أشرع لكم ما تقتضيه الفطرة. والفطرة قد تنطمس في بعض الأمور، وقد لا تنطمس في البعض الآخر لأن بعض الأمور فاقعة وظاهرة والتحريم فيها يتم بالفطرة.
مثال ذلك : أن واحدا ما تزوج أمه قبل ذلك، أو تزوج ابنته، أو تزوج أخته. إذن ففيه أشياء حتى في الجاهلية ما اجترأ أحد عليها. إذن جاء بالحكم الذي يحرم ما اجترأت عليه الجاهلية وتجاوزت وتخطت فيه الفطرة، فقال سبحانه :" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " أي مضى.
لقد وصف سبحانه نجاح الأبناء لزوجات آبائهم بأنه " كان فاحشة " أي قبحا، و " مقتا " أي مكروها، " وساء سبيلا " أي في بناء الأسرة.
ثم شرع الحق سبحانه وتعالى يبين لنا المحرمات وإن كانت الجاهلية قد اتفقت فيها، إلا أن الله حين يشرع حكما كانت الجاهلية سائرة فيه لا يشرعه لأن الجاهلية فعلته، لا. هو يشرعه لأن الفطرة تقتضيه، وكون الجاهلية لم تفعله، فهذا دليل على أنها فطرة لم تستطع الجاهلية أن تغيرها، فقال الحق سبحانه وتعالى :
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ٢٣ ﴾.
من الذي يحلل ويحرم ؟ إنه الله، فهم رغم جاهليتهم وغفلتهم عن الدين حرموا زواج المحارم ؛ فحتى الذي لم يتدين بدين الإسلام توجد عنده محرمات لا يقربها. أي أنهم قد حرموا الأم والبنت والأخت... الخ، من أين جاءتهم هذه ؟ الحق يوضح :
﴿ وإن من امة خلا فيها نذير ﴾ ( من الآية ٢٤ سورة فاطر ).
ومنهج السماء أنزله الله من قديم بدليل قوله :
﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ١٢٣ ﴾ ( سورة طه ).
فبمجرد أن خلق الله آدم وخلق زوجته، وأنزل لهما المنهج، هذا المنهج مستوفي الأركان، إذن فبقاء الأشياء التي جاء الإسلام فوجدها على الحكم الذي يريده الإسلام إنما نشأ من رواسب الديانات القديمة، وإن أخذ محل العادة ومحل الفطرة.. أي أن الناس اعتادوه وفطروا عليه ولم يخطر ببالهم أن الله شرعه في ديانات سابقة.
والعلوم الحديثة أعانتنا في فهم كثير من أحكام الله، لأنهم وجدوا أن كل تكاثر سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان أيضا، كلما ابتعد النوعان " الذكورة والأنوثة " فالنسل يجئ قويا في الصفات. أما إذا كان الزوج و الزوجة أو الذكر والأنثى من أي شيء : في النبات، في الحيوان، في الإنسان قريبين من اتصال البنية الدموية والجنسية فالنسل ينشأ ضعيفا، ولذلك يقولون في الزراعة والحيوان :" نهجن " أي نأتي للأنوثة بذكورة من بعيد. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا :
( اغتربوا ولا تضووا ) وقال :" لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا " ١.
فالرسول يأمرنا حين نريد الزواج ألا نأخذ الأقارب، بل علينا الابتعاد، لأننا إن أخذنا الأقارب فالنسل يجيء هزيلا. وبالاستقراء وجد أن العائلات التي جعلت من سنتها في الحياة ألا تنكح إلا منها، فبعد فترة ينشأ فيها ضعف عقلي ؛ أو ضعف جنسي ؛ أو ضعف مناعي، فقول رسول الله :" اغتربوا لا تضووا " أي إن أردتم لزواج فلا تأخذوا من الأقارب، لأنكم إن أخذتم من الأقارب تهزلوا، فإن " ضوى " بمعنى " هزل " فإن أردتم ألا تضووا، أي ألا تهزلوا فابتعدوا، وقبلما يقول النبي هذا الكلام وجد بالاستقراء في البيئة الجاهلية هذا. ولذلك يقول الشاعر الجاهلي :
أنصح من كان بعيد الهم
تزويج أبناء بنات العم
فليس ينجو من ضوى وسقم
فقد يضوى سليل الأقارب، وعندنا في الأحياء الشعبية عندما يمدحون واحدا يقولون :" فتوة " أي فتى لم تلده بنت عم قريبة. وفي النبات يقولون : إن كنت تزرع ذرة في محافظة الغربية لا بد أن تأتي بالتقاوى من محافظة الشرقية مثلا، وكذلك في البطيخ الشيليان. يأتون ببذوره من أمريكا ؛ فيزرعونها فيخرج البطيخ جميلا لذيذا، بعض الناس قد يرفض شراء مثل تلك البذور لغلو ثمنها. فيأخذ من بذور ما زرع ويجعل منه التقاوي، ويخرج المحصول ضعيفا. لكن لو ظل يأتي به من الخارج وإن وصل ثمن الكيلو مبلغا كبيرا فهويأخذ محصولا طبيا.
وكذلك في الحيوانات وكذلك فينا ؛ ولذلك كان العربي يقول : ما دك رءوس الأبطال كابن الأعجمية ؛ لأنه جاء من جنس آخر. أي أن هذا الرجل البطل أخذ الخصائص الكاملة في جنس آخر. فلقاح الخصائص الكاملة بالخصائص الكاملة يعطي الخصائص الأكمل، إذن فتحريم الحق سبحانه وتعالى زواج الأم والأخت وكافة المحارم وإن كانت عملية أدبية إلا أنها أيضا عملية عضوية. " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " لماذا ؟ لأن هذه الصلة صلة أصل، والصلة الأخرى صلة فرع، الأمهات صلة الأصل، والبنات صلة الفرع ؟، " وأخواتكم " وهي صلة الأخ بأخته إنها بنوة من والد واحد، " وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ".
إذن فالمسألة مشتبكة في القرابة القريبة. والله يريد قوة النسل، قوة الإنجاب، ويريد أمرا آخر هو : أن العلاقة الزوجية دائما عرضة للأغيار النفسية، فالرجل يتزوج المرأة وبعد ذلك تأتي أغيار نفسية ويحدث بينهما خلاف مثلما قلنا في قوله تعالى :" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " ؛ ويكره منها كذا وكذا، فكيف تكون العلاقة بين الأم وابنها إذا ما حدث شيء من هذا ؟ ! والمفروض أن لها صلة تحتم عليه أن يظل على وفاء لها، وكذلك الأمر بالنسبة للبنت، أو الأخت، أو العمة، أو الخالة، فيأمر الحق الرجل : ابتعد بهذه المسألة عن مجال الشقاق.
ومن حسن العقل وبعد النظر ألا ندخل المقابلات في الزواج، أو ما يسمى " بزواج البدل "، حيث يتبادل رجلان الزواج، يتزوج كل منهما أخت الآخر مثلا، فإذا حدث الخلاف في شيء حدث ضرورة في مقابله وإن كان الوفاق سائدا. فحسن الفطنة يقول لك : إياك أن تزوج أختك لواحد لأنك ستأخذ أخته، فقد تتفق زوجة مع زوجها، لكن أخته قد لا تتوافق مع زوجها الذي هو شقيق للأخرى. وتصوروا ماذا يكون إحساس الأم حين ترى الغريبة مرتاحة عند ابنها لكن ابنتها تعاني ولا تجد الراحة في بيت زوجها. ماذا يكون الموقف ؟ نكون قد وسعنا دائرة الشقاق والنفاق عند من لا يصح أن يوجد فيه شقاق ولا نفاق.
والحكمة الإلهية ليست في مسألة واحدة، بل الحكمة الإلهية شاملة، تأخذ كل هذه المسائل، " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم " والمحرم هنا بطبيعة الحال هن الأمهات وإن علون، فالتحريم يشمل الجدة سواء كانت جدة من جهة الأب، أو جدة من جهة الأم. وما ينشأ منها. وكل واحدة تكون زوجة لرجل فأمها محرمة عليه، " وبناتكم " وبنات الابن وكل ما ينشأ منها، وكذلك بنات البنت، " وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ".
ولماذا يحرم الحق " أمهاتكم اللاتي أرضعنكم " ؟ لأنها بالإرضاع أسهمت في تكوين خلايا فيمن أرضعته ؟ ففيه بضعة منها، ولهذه البضعة حرمة الأمومة، ولذلك قال العلماء : يحرم زواج الرجل بامرأة جمعه معها رضاعة يغلب على الظن أنها تنشئ خلايا، وحلل البعض زواج من رضع الرجل منها مصة أو مصتين مثلا، إلا أن أبا حنيفة رأى تحريم أي امرأة رضع منها الرجل، وأفتى المحققون وقالوا : لا تحرم المرأة إلا أن تكون قد أرضعت الرجل، أو رضع الرجل معها خمس رضعات مشبعات، أو يرضع من المرأة يوما وليلة ويكتفي بها، وأن يكون ذلك في مدة الرضاع. وهي بنص القرآن سنتان. " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ".
وهذه المسألة حدث الكلام فيها بين سيدنا الإمام علي رضوان الله عليه وكرم الله وجهه وسيدنا عثمان رضي الله عنه حينما جاءوا بامرأة ولدت لستة شهور وكان الحمل الشائع يمكث تسعة أشهر، وأحيانا نادرة يولد الطفل بعد سبعة أشهر، لكن أن تلد امرأة بعد ستة شهور فهذا أمر غير متوقع.. ولذلك أراد عثمان رضي الله عنه أن يقيم الحد عليها ؛ لأنها مادام ولدت لستة أشهر تكون خاطئة، لكن سيدنا علي رضوان الله عليه وكرم الله وجهه أدرك المسألة.
قال : يا أمير المؤمنين، لماذا تقيم عليها الحد ؟ فقال عثمان بن عفان : لأنها ولدت لستة أشهر وهذا لا يكون. وأجرى الله فتوحاته على سيدنا علي، وأجرى النصوص على خياله ساعة الفتيا، وهذا هو الفتح، فقد يوجد النص في القرآن لكن النفس لا تنتبه له، وقد تكون المسألة ليست من نص واحد. بل من اجتماع نصين أو أكثر، ومن الذي يأتي في خاطره ساعة الفتيا أن يطوف بكتاب الله ويأتي بالنص الذي يسعفه ويساعده على الفتيا، إنه الإمام علي، وقال لسيدنا عثمان : الله يقول غير ذلك، قال له : وماذا قال الله في هذا ؟ قال :
﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾ ( من الآية ٢٣٣ سورة البقرة ).
إذن فإتمام الرضاعة يكون في حولين كاملين أي في أربعة وعشرين شهرا، والتاريخ محسوب بالتوقيت العربي والحق سبحانه قال أيضا :
﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
فإذا كان مجموع أشهر الحمل والرضاع، ثلاثين شهرا، والرضاع التام أربعة وعشرون شهرا، إذن فمدة الحمل تساوي ستة أشهر.
هكذا استنبط سيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه والإنسان قد يعرف آية وتغيب عنه آيات، والله لم يختص زمنا معينا بحسن الفتيا وحرم الأزمنة الأخرى، وإنما فيوضات الله تكون لكل الأزمان، فقد يقول قائل : لا يوجد في المسلمين من يصل بعمله إلى مرتبة الصحابة، ومن يقول ذلك ينسى ما قاله الحق في سورة الواقعة :
﴿ والسابقون السابقون ١٠ أولئك المقربون ١١ في جنات النعيم ١٢ ثلة من الأولين ١٣ وقليل من الآخرين ١٤ ﴾ ( سورة الواقعة ).
أي أن الآخرين أيضا لن يحرموا من أن يكون فيهم مقربون قادرون على استيعاب النصوص لاستنباط الحكم، إذن فالرضاع : مصة أو مصتان ؛ هذا مذهب، وعشر رضعات مذهب آخر، وخمس رضعات مشبعات مذهب ثالث، وأخذ جمهور الفقهاء بالمتوسط وهو خمس رضعات مشبعات تحرمن الزواج، لكن بشرط أن تكون في مدة الرضاع، فلو رضع في غير مدة الرضاعة، نقول : إنه استغنى بالأكل وأصبح الأكل هو الذي يعطيه مقويات البنية.
إذن فمسألة الرضاع متشعبة ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال :" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ٢.
والمحرم من الرضاع هو : الأم من الرضاع، والبنت من الرضاع، والأخت من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، وهكذا نرى أنها عملية متشعبة تحتاج من كل أسرة إلى اليقظة، لأننا حين نرى أن بركة الله لا تحوم حول كثير من البيوت لا بد أن ندرك لها أسبابا، أسباب البعد عن استقبال البركة من الله.. فالإرسال الإلهي مستمر، ونحن نريد أجهزة استقبال حساسة تحسن الاستقبال، فإذا كانت أجهزة الاستقبال خربة، والإرسال مستمرا فلن يستفيد أحد من الإرسال، وهب أن محطة الإذاعة تذيع، لكن المذياع خرب، فكيف يصل الإرسال للناس ؟.
إذن فمدد الله وبركات الله المتنزلة موجودة دائما.. ويوجد أناس لا يأخذون هذه البركات ؛ لأن أجهزة استقبالها ليست سليمة، وأول جهاز لاستقبال البركة أن البيت يبنى على حل في كل شيء.. يعني : لقاء الزوج والزوجة على حل، وكثير من الناس يدخلون في الحرمة وإن لم يكن بقصد، وهذا ناشئ من الهوس والاختلاط والفوضى في شأن الرضاعة، والناس يرضعون أبناءهم هكذا دون ضابط وليس الحكم في بالهم. وبعد ذلك نقول لهم : يا قوم أنتم احتطتم لأولادكم فيما يؤدى إلى سلامة بنيتهم، فكان لكل ولد ملف فيه : شهادة الميلاد، وفيه ميعاد تلقى التطعيمات ضد الدفتر يا، وشلل الأطفال وغير ذلك.
فلماذا يا أسرة الإسلام ل
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ٢٣ ﴾.
من الذي يحلل ويحرم ؟ إنه الله، فهم رغم جاهليتهم وغفلتهم عن الدين حرموا زواج المحارم ؛ فحتى الذي لم يتدين بدين الإسلام توجد عنده محرمات لا يقربها. أي أنهم قد حرموا الأم والبنت والأخت... الخ، من أين جاءتهم هذه ؟ الحق يوضح :
﴿ وإن من امة خلا فيها نذير ﴾ ( من الآية ٢٤ سورة فاطر ).
ومنهج السماء أنزله الله من قديم بدليل قوله :
﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ١٢٣ ﴾ ( سورة طه ).
فبمجرد أن خلق الله آدم وخلق زوجته، وأنزل لهما المنهج، هذا المنهج مستوفي الأركان، إذن فبقاء الأشياء التي جاء الإسلام فوجدها على الحكم الذي يريده الإسلام إنما نشأ من رواسب الديانات القديمة، وإن أخذ محل العادة ومحل الفطرة.. أي أن الناس اعتادوه وفطروا عليه ولم يخطر ببالهم أن الله شرعه في ديانات سابقة.
والعلوم الحديثة أعانتنا في فهم كثير من أحكام الله، لأنهم وجدوا أن كل تكاثر سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان أيضا، كلما ابتعد النوعان " الذكورة والأنوثة " فالنسل يجئ قويا في الصفات. أما إذا كان الزوج و الزوجة أو الذكر والأنثى من أي شيء : في النبات، في الحيوان، في الإنسان قريبين من اتصال البنية الدموية والجنسية فالنسل ينشأ ضعيفا، ولذلك يقولون في الزراعة والحيوان :" نهجن " أي نأتي للأنوثة بذكورة من بعيد. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا :
( اغتربوا ولا تضووا ) وقال :" لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا " ١.
فالرسول يأمرنا حين نريد الزواج ألا نأخذ الأقارب، بل علينا الابتعاد، لأننا إن أخذنا الأقارب فالنسل يجيء هزيلا. وبالاستقراء وجد أن العائلات التي جعلت من سنتها في الحياة ألا تنكح إلا منها، فبعد فترة ينشأ فيها ضعف عقلي ؛ أو ضعف جنسي ؛ أو ضعف مناعي، فقول رسول الله :" اغتربوا لا تضووا " أي إن أردتم لزواج فلا تأخذوا من الأقارب، لأنكم إن أخذتم من الأقارب تهزلوا، فإن " ضوى " بمعنى " هزل " فإن أردتم ألا تضووا، أي ألا تهزلوا فابتعدوا، وقبلما يقول النبي هذا الكلام وجد بالاستقراء في البيئة الجاهلية هذا. ولذلك يقول الشاعر الجاهلي :
أنصح من كان بعيد الهم
تزويج أبناء بنات العم
فليس ينجو من ضوى وسقم
فقد يضوى سليل الأقارب، وعندنا في الأحياء الشعبية عندما يمدحون واحدا يقولون :" فتوة " أي فتى لم تلده بنت عم قريبة. وفي النبات يقولون : إن كنت تزرع ذرة في محافظة الغربية لا بد أن تأتي بالتقاوى من محافظة الشرقية مثلا، وكذلك في البطيخ الشيليان. يأتون ببذوره من أمريكا ؛ فيزرعونها فيخرج البطيخ جميلا لذيذا، بعض الناس قد يرفض شراء مثل تلك البذور لغلو ثمنها. فيأخذ من بذور ما زرع ويجعل منه التقاوي، ويخرج المحصول ضعيفا. لكن لو ظل يأتي به من الخارج وإن وصل ثمن الكيلو مبلغا كبيرا فهويأخذ محصولا طبيا.
وكذلك في الحيوانات وكذلك فينا ؛ ولذلك كان العربي يقول : ما دك رءوس الأبطال كابن الأعجمية ؛ لأنه جاء من جنس آخر. أي أن هذا الرجل البطل أخذ الخصائص الكاملة في جنس آخر. فلقاح الخصائص الكاملة بالخصائص الكاملة يعطي الخصائص الأكمل، إذن فتحريم الحق سبحانه وتعالى زواج الأم والأخت وكافة المحارم وإن كانت عملية أدبية إلا أنها أيضا عملية عضوية. " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " لماذا ؟ لأن هذه الصلة صلة أصل، والصلة الأخرى صلة فرع، الأمهات صلة الأصل، والبنات صلة الفرع ؟، " وأخواتكم " وهي صلة الأخ بأخته إنها بنوة من والد واحد، " وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ".
إذن فالمسألة مشتبكة في القرابة القريبة. والله يريد قوة النسل، قوة الإنجاب، ويريد أمرا آخر هو : أن العلاقة الزوجية دائما عرضة للأغيار النفسية، فالرجل يتزوج المرأة وبعد ذلك تأتي أغيار نفسية ويحدث بينهما خلاف مثلما قلنا في قوله تعالى :" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " ؛ ويكره منها كذا وكذا، فكيف تكون العلاقة بين الأم وابنها إذا ما حدث شيء من هذا ؟ ! والمفروض أن لها صلة تحتم عليه أن يظل على وفاء لها، وكذلك الأمر بالنسبة للبنت، أو الأخت، أو العمة، أو الخالة، فيأمر الحق الرجل : ابتعد بهذه المسألة عن مجال الشقاق.
ومن حسن العقل وبعد النظر ألا ندخل المقابلات في الزواج، أو ما يسمى " بزواج البدل "، حيث يتبادل رجلان الزواج، يتزوج كل منهما أخت الآخر مثلا، فإذا حدث الخلاف في شيء حدث ضرورة في مقابله وإن كان الوفاق سائدا. فحسن الفطنة يقول لك : إياك أن تزوج أختك لواحد لأنك ستأخذ أخته، فقد تتفق زوجة مع زوجها، لكن أخته قد لا تتوافق مع زوجها الذي هو شقيق للأخرى. وتصوروا ماذا يكون إحساس الأم حين ترى الغريبة مرتاحة عند ابنها لكن ابنتها تعاني ولا تجد الراحة في بيت زوجها. ماذا يكون الموقف ؟ نكون قد وسعنا دائرة الشقاق والنفاق عند من لا يصح أن يوجد فيه شقاق ولا نفاق.
والحكمة الإلهية ليست في مسألة واحدة، بل الحكمة الإلهية شاملة، تأخذ كل هذه المسائل، " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم " والمحرم هنا بطبيعة الحال هن الأمهات وإن علون، فالتحريم يشمل الجدة سواء كانت جدة من جهة الأب، أو جدة من جهة الأم. وما ينشأ منها. وكل واحدة تكون زوجة لرجل فأمها محرمة عليه، " وبناتكم " وبنات الابن وكل ما ينشأ منها، وكذلك بنات البنت، " وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ".
ولماذا يحرم الحق " أمهاتكم اللاتي أرضعنكم " ؟ لأنها بالإرضاع أسهمت في تكوين خلايا فيمن أرضعته ؟ ففيه بضعة منها، ولهذه البضعة حرمة الأمومة، ولذلك قال العلماء : يحرم زواج الرجل بامرأة جمعه معها رضاعة يغلب على الظن أنها تنشئ خلايا، وحلل البعض زواج من رضع الرجل منها مصة أو مصتين مثلا، إلا أن أبا حنيفة رأى تحريم أي امرأة رضع منها الرجل، وأفتى المحققون وقالوا : لا تحرم المرأة إلا أن تكون قد أرضعت الرجل، أو رضع الرجل معها خمس رضعات مشبعات، أو يرضع من المرأة يوما وليلة ويكتفي بها، وأن يكون ذلك في مدة الرضاع. وهي بنص القرآن سنتان. " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ".
وهذه المسألة حدث الكلام فيها بين سيدنا الإمام علي رضوان الله عليه وكرم الله وجهه وسيدنا عثمان رضي الله عنه حينما جاءوا بامرأة ولدت لستة شهور وكان الحمل الشائع يمكث تسعة أشهر، وأحيانا نادرة يولد الطفل بعد سبعة أشهر، لكن أن تلد امرأة بعد ستة شهور فهذا أمر غير متوقع.. ولذلك أراد عثمان رضي الله عنه أن يقيم الحد عليها ؛ لأنها مادام ولدت لستة أشهر تكون خاطئة، لكن سيدنا علي رضوان الله عليه وكرم الله وجهه أدرك المسألة.
قال : يا أمير المؤمنين، لماذا تقيم عليها الحد ؟ فقال عثمان بن عفان : لأنها ولدت لستة أشهر وهذا لا يكون. وأجرى الله فتوحاته على سيدنا علي، وأجرى النصوص على خياله ساعة الفتيا، وهذا هو الفتح، فقد يوجد النص في القرآن لكن النفس لا تنتبه له، وقد تكون المسألة ليست من نص واحد. بل من اجتماع نصين أو أكثر، ومن الذي يأتي في خاطره ساعة الفتيا أن يطوف بكتاب الله ويأتي بالنص الذي يسعفه ويساعده على الفتيا، إنه الإمام علي، وقال لسيدنا عثمان : الله يقول غير ذلك، قال له : وماذا قال الله في هذا ؟ قال :
﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾ ( من الآية ٢٣٣ سورة البقرة ).
إذن فإتمام الرضاعة يكون في حولين كاملين أي في أربعة وعشرين شهرا، والتاريخ محسوب بالتوقيت العربي والحق سبحانه قال أيضا :
﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
فإذا كان مجموع أشهر الحمل والرضاع، ثلاثين شهرا، والرضاع التام أربعة وعشرون شهرا، إذن فمدة الحمل تساوي ستة أشهر.
هكذا استنبط سيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه والإنسان قد يعرف آية وتغيب عنه آيات، والله لم يختص زمنا معينا بحسن الفتيا وحرم الأزمنة الأخرى، وإنما فيوضات الله تكون لكل الأزمان، فقد يقول قائل : لا يوجد في المسلمين من يصل بعمله إلى مرتبة الصحابة، ومن يقول ذلك ينسى ما قاله الحق في سورة الواقعة :
﴿ والسابقون السابقون ١٠ أولئك المقربون ١١ في جنات النعيم ١٢ ثلة من الأولين ١٣ وقليل من الآخرين ١٤ ﴾ ( سورة الواقعة ).
أي أن الآخرين أيضا لن يحرموا من أن يكون فيهم مقربون قادرون على استيعاب النصوص لاستنباط الحكم، إذن فالرضاع : مصة أو مصتان ؛ هذا مذهب، وعشر رضعات مذهب آخر، وخمس رضعات مشبعات مذهب ثالث، وأخذ جمهور الفقهاء بالمتوسط وهو خمس رضعات مشبعات تحرمن الزواج، لكن بشرط أن تكون في مدة الرضاع، فلو رضع في غير مدة الرضاعة، نقول : إنه استغنى بالأكل وأصبح الأكل هو الذي يعطيه مقويات البنية.
إذن فمسألة الرضاع متشعبة ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال :" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ٢.
والمحرم من الرضاع هو : الأم من الرضاع، والبنت من الرضاع، والأخت من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، وهكذا نرى أنها عملية متشعبة تحتاج من كل أسرة إلى اليقظة، لأننا حين نرى أن بركة الله لا تحوم حول كثير من البيوت لا بد أن ندرك لها أسبابا، أسباب البعد عن استقبال البركة من الله.. فالإرسال الإلهي مستمر، ونحن نريد أجهزة استقبال حساسة تحسن الاستقبال، فإذا كانت أجهزة الاستقبال خربة، والإرسال مستمرا فلن يستفيد أحد من الإرسال، وهب أن محطة الإذاعة تذيع، لكن المذياع خرب، فكيف يصل الإرسال للناس ؟.
إذن فمدد الله وبركات الله المتنزلة موجودة دائما.. ويوجد أناس لا يأخذون هذه البركات ؛ لأن أجهزة استقبالها ليست سليمة، وأول جهاز لاستقبال البركة أن البيت يبنى على حل في كل شيء.. يعني : لقاء الزوج والزوجة على حل، وكثير من الناس يدخلون في الحرمة وإن لم يكن بقصد، وهذا ناشئ من الهوس والاختلاط والفوضى في شأن الرضاعة، والناس يرضعون أبناءهم هكذا دون ضابط وليس الحكم في بالهم. وبعد ذلك نقول لهم : يا قوم أنتم احتطتم لأولادكم فيما يؤدى إلى سلامة بنيتهم، فكان لكل ولد ملف فيه : شهادة الميلاد، وفيه ميعاد تلقى التطعيمات ضد الدفتر يا، وشلل الأطفال وغير ذلك.
فلماذا يا أسرة الإسلام ل
١ رواه إبراهيم الحربي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه موقوفا على عمر، وقد روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن عمر رضي الله عنه قال (يا بني السائب قد أضويتم فانكحوا في الغرائب) من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي".
.
٢ رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عائشة.
.
.
٢ رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عائشة.
.
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما ٢٤ ﴾.
وقول الحق :﴿ والمحصنات من النساء ﴾ هو قول معطوف على ما جاء في الآية السابقة من المحرمات، أي سيضم إلى المحرمات السابقات المحصنات من النساء، ومن هن المحصنات من النساء ؟ الأصل في الاشتقاق عادة يوجد معنى مشتركا. فهذه مأخوذة من " الحصن "، وهو مكان يتحصن فيه القوم من عدوهم، فإذا تحصنوا فيه امتنعوا على عدوهم.. أما إذا لم يكونوا محصنين فهم عرضة أن يغير عليهم عدوهم ويأخذهم، هذا هو أصل الحصن، والاشتقاقات التي أخذت من هذه كثيرة : منها ما جاء في قوله تعالى :
﴿ ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها ﴾ ( من الآية ١٢ سورة التحريم ).
و﴿ أحصنت فرجها ﴾ يعني أنها عفت ومنعت أي إنسان أن يقترب منها، وهنا قوله :﴿ والمحصنات ﴾ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، المقصود بها المتزوجات، فمادامت المرأة متزوجة، فيكون بضعها مشغولا بالغير، فيمتنع أن يأخذه أحد، وهي تمتنع عن أي طارئ جديد يفد على عقدها مع زوجها. هذا معنى " المحصنات من النساء "، فالمحصنات هنا هن العفيفات بالزواج، والحق يقول :
﴿ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ ( من الآية ٢٥ سورة النساء ).
فمادامت الإماء قد أحصن بالزواج، هل يكن من المحصنات كالحرائر ؟ لا، فهذه غير تلك، فهن لا يدخلن في المحصنات من الحرائر، وإلا لو دخلن في المحصنات يكون الحكم واحدا، فهو سبحانه يقول :﴿ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾، وأصل الإحصان وهو العفة.. توصف به الحرة ؛ لأن الحرة عادة لا يقربها أحد. وهذه امرأة أبي سفيان في بيعة النساء قالت : وهل تزني الحرة ؟ كان الزنا كان خاصا بالإماء ؛ لأنهن المهينات. وليس لهن أب أو أم أو عرض، قد يجترئ عليها أي واحد، وليس لها شوكة ولا أهل، ولذلك جاء عقابها نصف عقاب الحرة ؛ لأن الأمة يحوم حولها من الناس من تسول له نفسه فعل الفاحشة.
إذن فالإحصان يطلق ويراد به العفة، ويطلق الإحصان ويراد به أن تكون حرة، ويطلق الإحصان ويقصد به أن تكون متزوجة، وتطلق المحصنات على الحرائر. فالوضع العام للحرة هو الذي يجعل لها أهلا ولا يجترئ عليها أحد، لكن هب أن امرأة متزوجة ثم حدث خلاف أو حرب بين قومها وبين المؤمنين وصارت أسيرة لدى المسلمين مع أنها متزوجة بطريقتهم في بلادها، وهي بالأسر قد انتقلت من هذا الزواج وجاءت في البيئة الإسلامية وصارت مملوكة، ومملوكيتها وأسرها أسقطت عنها الإحصان، فقال :﴿ إلا ما ملكت أيمانكم ﴾. إذن فهي بملك اليمين يسقط عنها الإحصان، وللمسلم أن يتزوجها أو أن يستمتع بها إذا دخلت في ملكه وإن كانت متزوجة لأن هناك اختلافا في الدارين، هي في دار الإسلام، وخرجت من دار حرب فصارت ملك يمين، ولا يكون هذا إلا بعد استبرائها والاستيثاق من خلو رحمها من جنين يكون قد جاءت به من قومها لقوله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس :" لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض " وهذا تكريم لها لأنها عندما بعدت عن زوجها وصارت مملوكة ملك يمين فلم يرد الحق أن يعضلها بل جعلها تتمتع بسيدها وتعيش في كنفه كي لا تكون محرومة من التواصل العاطفي والجسدي، بدلا من أن يلغ سيدها في أعراض الناس.
﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ﴾ و﴿ كتاب الله ﴾ يعني : كتب الله ذلك كتابا عليكم، وهو أمر مسجل موثق، وكما هو كتاب عليكم فهو لكم أيضا، ويقول الحق :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾. إذن فالمحرمات هن : محرمات نسب ؟، ومحرمات رضاع، ومحرمات إحصان بزواج.
﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾ أي أحل لكم أن تتزوجوهن، ولذلك قال :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا ﴾ أي تطلبوا ﴿ بأموالكم محصنين ﴾ والمال نعلم أنه ثمرة الحركة. والحركة تقتضي التعب والمشقة، وكل إنسان يحب ثمرة عمله، وقد يدافع عنها إلى أن يموت دون ماله ؛ لأن المال ما جاء إلا ثمرة جد، وحتى إذا ما جاء المال عن ميراث ؛ فالذي ورثك أيضا ما ورثك إلا نتيجة كد وتعب، وعرفنا أن الذي يتعب مدة من الزمن تساوي عشر سنوات قد يرزقه الله ما يكفيه أن يعيش بعدها مرتاحا، والذي يتعب عشرين سنة قد يرزقه الله ما يكفيه أن يعيش ولده مرتاحا، والذي يتعب ثلاثين سنة يعيش حفيده مرتاحا.
إذن فكل ما تراه من مال موروث كان نتيجة جد وكد ومشقة من الآباء، وإذا ما قال الحق :﴿ أن تبتغوا بأموالكم ﴾ دل على أن مقابل البضع يكون من جهة الرجل.. ﴿ وأن تبتغوا بأموالكم ﴾ التي قال عنها سيدنا رسول الله :( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )١.
ومادام المال عزيزا على الإنسان وأخذه من طريق الحركة وطريق الجد وطريق العرق فيجب ألا ينفعه إلا فيما يعود عليه بالخير العاجل ولا ينسى الخير الآجل، فإن هو حقق به خيرا عاجلا ثم سها وغفل عن شر آجل فهو لم يضع المال في موضعه. ﴿ أن تبتغوا بأموالكم محصنين ﴾ و﴿ محصنين ﴾ كما عرفنا لها معان متعدد.. ﴿ محصنين ﴾ أي متعففين أن تلغوا وتقعوا في أعراض الناس. بأموالكم، أي ضع مالك الذي كسبته بكد فيما يعود عليك بالخير العاجل والآجل، فلا تلغوا به في أعراض الناس ؛ لأنه من الممكن أن يبتغي إنسان لقاء امرأة بأمواله لكنه غير محصن، ونقول له : أنت حققت لذة ونفعا عاجلا ولكنك ذهلت عن شر آجل، يقول فيها ربنا :﴿ محصنين غير مسافحين ﴾ ومنه أخذ السفاح.
فإياك أن تدفع أموالك لكي تأخذ واحدة تقضي معها وطرا. فكلمة " محصنين " تعني التزام العفة، وشرح الحق كلمة محصنين بمقابلها وهو : مسافحين ؟، من السفح وهو : الصب، والصب هطول ونزول الماء بقوة، فالماء قد ينزل نقطة نقطة، إنما السفح صب، ولذلك سمى سفح الجبل بذلك لأن الماء ينزل من كل الجبل مصبوبا.
هنا يلاحظ أن الحق حين يتكلم عن الرجال يقول :" محصنين " بكسر الصاد، وحين يتكلم عن النساء يقول : ّمحصنات " بالفتحة. لم يقل " محصنات " بالكسرة، لأن العادة أن الذكورة هي الطالبة دائما للأنوثة، والأنوثة مطلوبة دائما.
﴿ غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ﴾ والاستمتاع هو إدراك متعة للنفس، والمتعة توجد أولا في الخطبة، فساعة يخطب رجل امرأة فهذا استمتاع، وساعة يعقد عليها وساعة تزف له، هذه كلها مقدمات طويلة في الاستمتاع، لكن الاستمتاع ليس هو الغرض فقط، يقول لك : إذا استمتعت بهن فلا بد أن تعطيهن مهورهن، ولذلك إذا تزوج رجل بامرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها نقول له : ادفع نصف المهر ؛ لأنك أخذت نصف المتعة، فلو أن المتعة هي العملية الجنسية فقط لم يكن قد أخذ شيئا وبالتالي فلا شيء عليه من المهر، لكن نقول : إن المتعة في أنه تقدم إلى بنت فلان وخطب وعقد، كل هذه مقدمات متعة، فعندما يكون ذلك فإنه يكون قد استمتع بعض الشيء.
الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نبني حياة الأسرة على طهر، وعلى أمن ملكات فأنت تجد الرجل حين يكون بين أهله لا يجد غضاضة في أن يغلق عليها الباب، لكن تصور وجوده مع امرأة دون زواج، فالملكات النفسية تتصارع فيه، ويتربص، ويمكننا أن ننظر رجفته إذا سمع أي شيء، لأن ملكاته ليست منسجمة، هو سيمتع ملكة واحدة. لكن الملكات النفسية الباقية ملكات مفزعة، مما يدل على أن ما يفعله ليس أمرا طبيعيا، ومادام ليس أمرا طبيعيا فالملكات النفسية تناقضه، الحق سبحانه وتعالى يريد أن تبنى الأسرة على طهر وعلى أمن، وهذا الأمن النفسي يعطي لكل ملكات النفس متعة.
وقلنا من قبل إن الإنسان إذا كان له بنت ثم رأى شابا يمر كثيرا على البنت ويلتفت كثيرا إلى الشرفة، ثم يقع بصر والد البنت عليه، ماذا يكون موقفه ؟ تهيج كل جوارحه، فإذا ما جاء الولد أو أبوه وطرق الباب وقال : يا فلان أنا أريد أن أخطب ابنتك لنفسي، أو أريد ابنتك لابني. ماذا يكون موقف والد الفتاة ؟ إنه السرور والانشراح وتصبح الملكات راضية والنفس مطمئنة، ويتم إعلان البهجة وهو الذي يدعو الناس ويقيم فرحا ؛ لأن الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى حينما شرع الالتقاء، أعطى في النفس البشرية وفي ذراتها رضا بهذا الحكم بالالتقاء.
ولذلك روي :" جدع الحلال أنف الغيرة ".
أي أن من يغار على ابنته هو الذي يوجه الدعوات لزواجها، فكأن الغيرة فيها حمية، وإن طلب عرض عن غير طريق خالق الأعراض فلا بد أن تهيج النفس، فإن طلبها على وفق ما شرع خالق الأعراض تطمئن النفس. وهذه عملية قد يكون من الصعب تصورها، فما الذي يسبب الرضا، ومن الذي يدفع في القلب الحمية والغضب والثورة ؟ إنه سبحانه هو الذي يفعل ذلك.
والإنسان عليه أن يلتفت إلى كلا منا مكون من ملكات متعددة، فعقد الزواج وقول :" زوجني " و " زوجتك " وحضور الشهود، ماذا يعمل في ذرات تكوين النفس لكي تسر ؟ إنها إرادة الحق. وهذا شيء معروف، وأنت حين يكون لك إنسان تعرفه فقط، والإلف السيال بينك وبينه مازال في أوله، يكفي عندما تقابله أن تلقى عليه السلام وينتهي الأمر، لكن هناك إنسان آخر لا يكفي هذا السيال الودي بينك وبينه، بل لا بد أن تسلم عليه بيدك ؛ لأن هناك جاذبية ومودة ولكل منهما تأثير.
إذن فعملية الود والولاء أمر يصنع تغييرا كيماويا في النفس، ويكون التنافر إذا ما جاء اللقاء عن طريق ما حرم الله، والذي يأتي عن طريق ما شرع الله يحقق التجاذب. والشاعر عندما خاطب من يحبه قال :
بأبي من وددته فافترقنا
وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
وتمنيته فلما التقينا
كان تسليمه على وداعا
كأن الشاعر يريد تطويل أمد التسليم ومسافة كي يغذي ما عنده من الود، وكأنه يريد أن يقول : أنا التقيت مع من أوده فاختفى في اختفيت فيه، وهذا ناشئ من الامتزاج.
إذن فالتكوين العاطفي أو السيال أوجده الله كسيال التقاء. هذا إذا ما كان على شرع الله، أما في الحالة الأخرى فهو سيال كراهية. وما الذي يسبب ذلك ؟ إنه عطاء من الله وهو خالق الرجل وخالق المرأة، فساعة يجيء اللقاء على وفق ما شرع الله فلا تستبعد أن يعدل الخالق الذرات، فعندما يحدث الامتزاج فلا بد أن الوفاء يأتي كنتيجة طبيعية وكذلك الولاء، ويتحقق الانسجام هذا إيجاب، أما إذا كان اللقاء على غير طريق الله فلا انسجام فيه وهذا سلب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يبني الأسرة على هذا المعنى. وأنتم تعلمون أن الالتقاءات التي تحدث عن غير طريق الله إنما تحدث في الخفاء، ومنكورة الثمرة، فإن جاء منها أثر وحمل فسيلقى الوليد في الشارع ويكون لقيطا وقد يميتونه، إنما الثمرة التي تأتي بالحل فالكل يفرح بها.
فالحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ﴾ والاستمتاع أشياء كثيرة، وجاء الشيعة في قوله :﴿ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ﴾. وقالوا : هذا نكاح المتعة بدليل أن
وقول الحق :﴿ والمحصنات من النساء ﴾ هو قول معطوف على ما جاء في الآية السابقة من المحرمات، أي سيضم إلى المحرمات السابقات المحصنات من النساء، ومن هن المحصنات من النساء ؟ الأصل في الاشتقاق عادة يوجد معنى مشتركا. فهذه مأخوذة من " الحصن "، وهو مكان يتحصن فيه القوم من عدوهم، فإذا تحصنوا فيه امتنعوا على عدوهم.. أما إذا لم يكونوا محصنين فهم عرضة أن يغير عليهم عدوهم ويأخذهم، هذا هو أصل الحصن، والاشتقاقات التي أخذت من هذه كثيرة : منها ما جاء في قوله تعالى :
﴿ ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها ﴾ ( من الآية ١٢ سورة التحريم ).
و﴿ أحصنت فرجها ﴾ يعني أنها عفت ومنعت أي إنسان أن يقترب منها، وهنا قوله :﴿ والمحصنات ﴾ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، المقصود بها المتزوجات، فمادامت المرأة متزوجة، فيكون بضعها مشغولا بالغير، فيمتنع أن يأخذه أحد، وهي تمتنع عن أي طارئ جديد يفد على عقدها مع زوجها. هذا معنى " المحصنات من النساء "، فالمحصنات هنا هن العفيفات بالزواج، والحق يقول :
﴿ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ ( من الآية ٢٥ سورة النساء ).
فمادامت الإماء قد أحصن بالزواج، هل يكن من المحصنات كالحرائر ؟ لا، فهذه غير تلك، فهن لا يدخلن في المحصنات من الحرائر، وإلا لو دخلن في المحصنات يكون الحكم واحدا، فهو سبحانه يقول :﴿ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾، وأصل الإحصان وهو العفة.. توصف به الحرة ؛ لأن الحرة عادة لا يقربها أحد. وهذه امرأة أبي سفيان في بيعة النساء قالت : وهل تزني الحرة ؟ كان الزنا كان خاصا بالإماء ؛ لأنهن المهينات. وليس لهن أب أو أم أو عرض، قد يجترئ عليها أي واحد، وليس لها شوكة ولا أهل، ولذلك جاء عقابها نصف عقاب الحرة ؛ لأن الأمة يحوم حولها من الناس من تسول له نفسه فعل الفاحشة.
إذن فالإحصان يطلق ويراد به العفة، ويطلق الإحصان ويراد به أن تكون حرة، ويطلق الإحصان ويقصد به أن تكون متزوجة، وتطلق المحصنات على الحرائر. فالوضع العام للحرة هو الذي يجعل لها أهلا ولا يجترئ عليها أحد، لكن هب أن امرأة متزوجة ثم حدث خلاف أو حرب بين قومها وبين المؤمنين وصارت أسيرة لدى المسلمين مع أنها متزوجة بطريقتهم في بلادها، وهي بالأسر قد انتقلت من هذا الزواج وجاءت في البيئة الإسلامية وصارت مملوكة، ومملوكيتها وأسرها أسقطت عنها الإحصان، فقال :﴿ إلا ما ملكت أيمانكم ﴾. إذن فهي بملك اليمين يسقط عنها الإحصان، وللمسلم أن يتزوجها أو أن يستمتع بها إذا دخلت في ملكه وإن كانت متزوجة لأن هناك اختلافا في الدارين، هي في دار الإسلام، وخرجت من دار حرب فصارت ملك يمين، ولا يكون هذا إلا بعد استبرائها والاستيثاق من خلو رحمها من جنين يكون قد جاءت به من قومها لقوله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس :" لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض " وهذا تكريم لها لأنها عندما بعدت عن زوجها وصارت مملوكة ملك يمين فلم يرد الحق أن يعضلها بل جعلها تتمتع بسيدها وتعيش في كنفه كي لا تكون محرومة من التواصل العاطفي والجسدي، بدلا من أن يلغ سيدها في أعراض الناس.
﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ﴾ و﴿ كتاب الله ﴾ يعني : كتب الله ذلك كتابا عليكم، وهو أمر مسجل موثق، وكما هو كتاب عليكم فهو لكم أيضا، ويقول الحق :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾. إذن فالمحرمات هن : محرمات نسب ؟، ومحرمات رضاع، ومحرمات إحصان بزواج.
﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾ أي أحل لكم أن تتزوجوهن، ولذلك قال :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا ﴾ أي تطلبوا ﴿ بأموالكم محصنين ﴾ والمال نعلم أنه ثمرة الحركة. والحركة تقتضي التعب والمشقة، وكل إنسان يحب ثمرة عمله، وقد يدافع عنها إلى أن يموت دون ماله ؛ لأن المال ما جاء إلا ثمرة جد، وحتى إذا ما جاء المال عن ميراث ؛ فالذي ورثك أيضا ما ورثك إلا نتيجة كد وتعب، وعرفنا أن الذي يتعب مدة من الزمن تساوي عشر سنوات قد يرزقه الله ما يكفيه أن يعيش بعدها مرتاحا، والذي يتعب عشرين سنة قد يرزقه الله ما يكفيه أن يعيش ولده مرتاحا، والذي يتعب ثلاثين سنة يعيش حفيده مرتاحا.
إذن فكل ما تراه من مال موروث كان نتيجة جد وكد ومشقة من الآباء، وإذا ما قال الحق :﴿ أن تبتغوا بأموالكم ﴾ دل على أن مقابل البضع يكون من جهة الرجل.. ﴿ وأن تبتغوا بأموالكم ﴾ التي قال عنها سيدنا رسول الله :( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )١.
ومادام المال عزيزا على الإنسان وأخذه من طريق الحركة وطريق الجد وطريق العرق فيجب ألا ينفعه إلا فيما يعود عليه بالخير العاجل ولا ينسى الخير الآجل، فإن هو حقق به خيرا عاجلا ثم سها وغفل عن شر آجل فهو لم يضع المال في موضعه. ﴿ أن تبتغوا بأموالكم محصنين ﴾ و﴿ محصنين ﴾ كما عرفنا لها معان متعدد.. ﴿ محصنين ﴾ أي متعففين أن تلغوا وتقعوا في أعراض الناس. بأموالكم، أي ضع مالك الذي كسبته بكد فيما يعود عليك بالخير العاجل والآجل، فلا تلغوا به في أعراض الناس ؛ لأنه من الممكن أن يبتغي إنسان لقاء امرأة بأمواله لكنه غير محصن، ونقول له : أنت حققت لذة ونفعا عاجلا ولكنك ذهلت عن شر آجل، يقول فيها ربنا :﴿ محصنين غير مسافحين ﴾ ومنه أخذ السفاح.
فإياك أن تدفع أموالك لكي تأخذ واحدة تقضي معها وطرا. فكلمة " محصنين " تعني التزام العفة، وشرح الحق كلمة محصنين بمقابلها وهو : مسافحين ؟، من السفح وهو : الصب، والصب هطول ونزول الماء بقوة، فالماء قد ينزل نقطة نقطة، إنما السفح صب، ولذلك سمى سفح الجبل بذلك لأن الماء ينزل من كل الجبل مصبوبا.
هنا يلاحظ أن الحق حين يتكلم عن الرجال يقول :" محصنين " بكسر الصاد، وحين يتكلم عن النساء يقول : ّمحصنات " بالفتحة. لم يقل " محصنات " بالكسرة، لأن العادة أن الذكورة هي الطالبة دائما للأنوثة، والأنوثة مطلوبة دائما.
﴿ غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ﴾ والاستمتاع هو إدراك متعة للنفس، والمتعة توجد أولا في الخطبة، فساعة يخطب رجل امرأة فهذا استمتاع، وساعة يعقد عليها وساعة تزف له، هذه كلها مقدمات طويلة في الاستمتاع، لكن الاستمتاع ليس هو الغرض فقط، يقول لك : إذا استمتعت بهن فلا بد أن تعطيهن مهورهن، ولذلك إذا تزوج رجل بامرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها نقول له : ادفع نصف المهر ؛ لأنك أخذت نصف المتعة، فلو أن المتعة هي العملية الجنسية فقط لم يكن قد أخذ شيئا وبالتالي فلا شيء عليه من المهر، لكن نقول : إن المتعة في أنه تقدم إلى بنت فلان وخطب وعقد، كل هذه مقدمات متعة، فعندما يكون ذلك فإنه يكون قد استمتع بعض الشيء.
الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نبني حياة الأسرة على طهر، وعلى أمن ملكات فأنت تجد الرجل حين يكون بين أهله لا يجد غضاضة في أن يغلق عليها الباب، لكن تصور وجوده مع امرأة دون زواج، فالملكات النفسية تتصارع فيه، ويتربص، ويمكننا أن ننظر رجفته إذا سمع أي شيء، لأن ملكاته ليست منسجمة، هو سيمتع ملكة واحدة. لكن الملكات النفسية الباقية ملكات مفزعة، مما يدل على أن ما يفعله ليس أمرا طبيعيا، ومادام ليس أمرا طبيعيا فالملكات النفسية تناقضه، الحق سبحانه وتعالى يريد أن تبنى الأسرة على طهر وعلى أمن، وهذا الأمن النفسي يعطي لكل ملكات النفس متعة.
وقلنا من قبل إن الإنسان إذا كان له بنت ثم رأى شابا يمر كثيرا على البنت ويلتفت كثيرا إلى الشرفة، ثم يقع بصر والد البنت عليه، ماذا يكون موقفه ؟ تهيج كل جوارحه، فإذا ما جاء الولد أو أبوه وطرق الباب وقال : يا فلان أنا أريد أن أخطب ابنتك لنفسي، أو أريد ابنتك لابني. ماذا يكون موقف والد الفتاة ؟ إنه السرور والانشراح وتصبح الملكات راضية والنفس مطمئنة، ويتم إعلان البهجة وهو الذي يدعو الناس ويقيم فرحا ؛ لأن الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى حينما شرع الالتقاء، أعطى في النفس البشرية وفي ذراتها رضا بهذا الحكم بالالتقاء.
ولذلك روي :" جدع الحلال أنف الغيرة ".
أي أن من يغار على ابنته هو الذي يوجه الدعوات لزواجها، فكأن الغيرة فيها حمية، وإن طلب عرض عن غير طريق خالق الأعراض فلا بد أن تهيج النفس، فإن طلبها على وفق ما شرع خالق الأعراض تطمئن النفس. وهذه عملية قد يكون من الصعب تصورها، فما الذي يسبب الرضا، ومن الذي يدفع في القلب الحمية والغضب والثورة ؟ إنه سبحانه هو الذي يفعل ذلك.
والإنسان عليه أن يلتفت إلى كلا منا مكون من ملكات متعددة، فعقد الزواج وقول :" زوجني " و " زوجتك " وحضور الشهود، ماذا يعمل في ذرات تكوين النفس لكي تسر ؟ إنها إرادة الحق. وهذا شيء معروف، وأنت حين يكون لك إنسان تعرفه فقط، والإلف السيال بينك وبينه مازال في أوله، يكفي عندما تقابله أن تلقى عليه السلام وينتهي الأمر، لكن هناك إنسان آخر لا يكفي هذا السيال الودي بينك وبينه، بل لا بد أن تسلم عليه بيدك ؛ لأن هناك جاذبية ومودة ولكل منهما تأثير.
إذن فعملية الود والولاء أمر يصنع تغييرا كيماويا في النفس، ويكون التنافر إذا ما جاء اللقاء عن طريق ما حرم الله، والذي يأتي عن طريق ما شرع الله يحقق التجاذب. والشاعر عندما خاطب من يحبه قال :
بأبي من وددته فافترقنا
وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
وتمنيته فلما التقينا
كان تسليمه على وداعا
كأن الشاعر يريد تطويل أمد التسليم ومسافة كي يغذي ما عنده من الود، وكأنه يريد أن يقول : أنا التقيت مع من أوده فاختفى في اختفيت فيه، وهذا ناشئ من الامتزاج.
إذن فالتكوين العاطفي أو السيال أوجده الله كسيال التقاء. هذا إذا ما كان على شرع الله، أما في الحالة الأخرى فهو سيال كراهية. وما الذي يسبب ذلك ؟ إنه عطاء من الله وهو خالق الرجل وخالق المرأة، فساعة يجيء اللقاء على وفق ما شرع الله فلا تستبعد أن يعدل الخالق الذرات، فعندما يحدث الامتزاج فلا بد أن الوفاء يأتي كنتيجة طبيعية وكذلك الولاء، ويتحقق الانسجام هذا إيجاب، أما إذا كان اللقاء على غير طريق الله فلا انسجام فيه وهذا سلب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يبني الأسرة على هذا المعنى. وأنتم تعلمون أن الالتقاءات التي تحدث عن غير طريق الله إنما تحدث في الخفاء، ومنكورة الثمرة، فإن جاء منها أثر وحمل فسيلقى الوليد في الشارع ويكون لقيطا وقد يميتونه، إنما الثمرة التي تأتي بالحل فالكل يفرح بها.
فالحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ﴾ والاستمتاع أشياء كثيرة، وجاء الشيعة في قوله :﴿ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ﴾. وقالوا : هذا نكاح المتعة بدليل أن
١ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود..
﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم ٢٥ ﴾.
والاستطاعة تعني أن يدخل الشيء في طاعتي فلا يعصي ولا يتأبى على، وافرض أنني أمسكت قطعة حديد ولويتها، هنا تكون قطعة الحديد قد دخلت في طوعي، ومثال ذلك : ابنا آدم، حين قدم كل منهما قربانا لله فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فالذي لم يتقبل الله منه القربان قال :
﴿ لأقتلنك ﴾ ( من الآية ٢٧ سورة المائدة ).
فماذا كان رد الذي تلقى التهديد ؟ قال :
﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين٢٨ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ٢٩ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ٣٠ ﴾ ( سورة المائدة ).
ما معنى " طوعت له " ؟ طوعت يعني : جعلته في استطاعة، وعندما نمعن النظر في " فطوعت له نفسه " نجد أن " الهاء " تشير إليه هو، وذلك يدل على أن الإنسان فيه ملكات متعددة ؛ ملكة تقول : اقتله، وملكة أخرى تقول له : لا تقتله. ضميره يقول له : لا تفعل، والنفس الأمارة بالسوء تقول له : اقتل، ويكون هو مترددا بين الأمرين.
وقوله الحق :﴿ فطوعت له ﴾ دليل على أن نفسه كانت متأبية عليه، لكن النفس الأمارة بالسوء ظلت وراءه بالإلحاح حتى أن نفسه الفاعلة طوعت له أن يقتل أخاه، ومع أن نفسه طوعت له أن يقتل أخاه إلا أنه أصبح بعد ذلك من النادمين، وبعدما أخذ شهوته من القتل ندم، ويأتي هذا الندم على لسانه :
﴿ يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ﴾ ( من الآية ٣١ سورة المائدة ).
أنت الذي قتلته، لكنك أصبحت من النادمين. لماذا ؟ لأن ملكات الخير دائما تصعد عمل الخير وتحبط عمل الشر. والإنسان قد يبدأ شريرا، وإن كانت ملكاته ملكات خير غالبة، فهو ينزل من هذا الشر العالي ويخففه، وإن كانت ملكات الشر غالبة فهو يبدأ في الشر قليلا ثم يصعده، فيقول في نفسه : فلان فعل في كذا وأريد أن أصفعه صفعة، وبعد ذلك قد يرفع من شره فيقول :" أو أضربه ضربة ". لكن إذا ما كان الإنسان خيرا، فيقول :" فلان كاد لي، أريد أن أضربه رصاصة أو أضربه صفعتين أو أوبخه " إنه ينزل من الشر ويصعد من الخير. كما في قصة سيدنا يوسف وإخوته حين قالوا :
﴿ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين ٨ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ٩ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيا بات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ١٠ ﴾ ( سورة يوسف ).
إنهم أسباط، وأولاد النبي يعقوب، فيقللون من الشر، ويخففونه مباشرة قائلين :﴿ أو اطرحوه أرضا ﴾ يعني يلقونه في أرض بعيدة، إذن فخففوا القتل في نفس واحد، كيف تم هذا الانتقال من القتل إلى اطرحوه أرضا ؟ ثم خففوا الأمر ثانية حتى لا يأكله سبع أو يتوه، فقالوا :﴿ وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة ﴾.
إذن فقوله :﴿ ومن لم يستطع منكم ﴾ أي من لم يستطع دخول الشيء في طوعه أو أن تطوله يداه، وهذا هو المقصود بالطول، " فطالته يده " يعني صار في استطاعته، وفلان تطول علي، أي تفضل على بشيء، " وفلان تطاول علي " أي ما كان يصح أن يجترئ علي، وكلها من الطول، و " طولا " : تعني قدرة تطول بها الزواج بمن تحب، أي أنت لا تملك مالا ولا تستطيع الطول، فهناك مرحلة أخرى، لا داعي للحرة لأن مهرها غال غالبا ؛ فخذ من الإماء الأسيرات لأن مؤنتهن ونفقتهن خفيفة، وليس لها عصبة ولا أهل يجادلونك في المهر، فقال :﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾.. والذي نلمحه في الآية. أن نكاح ما ملكت اليمين يكون لغير مالكها ؛ لأن مالكها لا يحتاج ذلك، إنه يستمتع بها ويتغشاها ؛ لأنها ملك يمينه وليست مملوكة للغير.
إذن فقد أباح الله للمسلم أن ينكح مما ملكت يمين غيره على شرط أن يكون ذلك بإذن مولاها ؛ لأنها بالزواج تقتطع جزءا من وقتها وخدمتها لمن يملك رقبتها، فلا بد أن يستأذن حتى يكون أمر انقطاعها إلى الزوج في بعض خدماته مما هو معلوم لأوليائهن، وأمر أيضا سبحانه ألا نستهين بأنها مملوكة ومهينة فلا نأتيها مهرها. بل يجب أن يؤدي لهؤلاء مهورهن بما يعرف، أي بالمتعارف عليه ؛ لأن ذلك عوض البضع، فإذا كان الحق قد أمر بأن نستأذن مواليهن وأمر بأن نأتيهن أجورهن، هنا بعض الإشكال لأن المملوكة لا تملك ؛ لأن العبد وما ملكت يداه لسيده.
نقول له : نعم، ولكن إذا قلت : العبد وما ملكت يداه لسيده فلا بد أن تحقق لها ملكا أولا ثم يكون ما تملكه لسيدها.. أ ما أن تتعداها وتعطي المال لسيدها فإنها في هذه الحالة لم يتحقق لها مهر، فقولك : العبد وما ملكت يداه، أي أعطها فترة وفرصة لتكون مالكة بأن تعطى الأجر تكريما لها، أما كون مالها لسيدها فهذا موضوع آخر. وبعد ذلك تذهب لتتزوجها إن ذلك يصح، فهل نفهم من ذلك أنك إن استطعت طولا لا تنكح الإماء ؟ لا. وهل هذا يقلل من شان الإماء ؟ لا. لماذا ؟ انظر للحكم العالية التي لا يقولها إلا رب.
الله يريد أن يصفي مسألة الرق، فحين يأتي واحد ويتزوج أمة مملوكة لغيره فأولادها يتبعونها في الرق. فالأولاد في الدين تتبع خير الأبوين، وفي الحرية والرق يتبع الأولاد الأم، فإذا ما تزوج إنسان أمة مملوكة لغيره فأولادها الذين سيأتون يكونون عبيدا. وحين يتركها لسيدها ويتزوج غيرها من الحرائر، فمن تلده من سيدها يكون حرا، إذن فسبحانه يريد أن يصفي الرق، هذه واحدة، الشيء الآخر أن الزواج : التقاء الذكر بالأنثى ليكونا نواة أسرة، فإذا ما كان الزوج والزوجة أكفاء. فالزوج لا يجد في نفسه تعاليا على الزوجة، والزوجة لا تجد في نفسها تعاليا على الزوج ؛ لأن كل واحد منهما كفء للآخر، وهذه تضمن اتزان الحياة واتزان التعامل، لكن حين يتزوج واحد أمة ليس لها أهل فقد يستضعفها وقد يستعلي عليها. وقد يذلها. وقد يعيرها، وحين يكون لها أولاد قد يقولون لهم : ليس لكم خال مثلا. والمشرع يريد أن يبني حياة أسرية متزنة، ولذلك اشترط الكفاءة، وقال :
﴿ والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين ﴾ ( من الآية ٢٦ سورة النور ).
وبعض من الناس تفهم عندما ترى طيبة فلا بد أن يتزوجها رجل طيب، نقول لهم : إن هذا تشريع والتشريع تكليف وعرضة أن يطاع وعرضة أن يعصى، فسبحانه حين يشرع أن الطيبات يكن للطيبين والخبيثات للخبيثين، فإن طبقتم التشريع تكون المسائل مستقيمة، وهذا يحمل الرد على من يقولون : مادام ربنا يقول :﴿ الطيبات للطيبين ﴾ فكيف يتزوج فلان بفلانة وأحدهما طيب والآخر خبيث ؟.
ونقول : إن هذا الحكم ليس في قضية كونية حادثة، بل هو قضية تشريعية تقتضي منا أن نتبعه وأن نجعل الطيبين للطيبات والخبيثين للخبيثات ليتحقق التوازن. فإن كان خبيثا وقال لها : أنت كذا وكذا تقول له : أنت كذا وكذا. فلا يقول هذه كي لا تقول له مثلها، أما الإنسان الطيب فهو يلين جانبه مرة وهي طيبة وتلين جانبها مرة.
﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ﴾ كلمة " المحصنات " : تعني هنا الحرائر ؛ لأنها لو كانت متزوجة فلن تكون محل تزويج لآخر. ﴿ فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ وكلمة " فتى " نطلقها في الحر على من له فتوة وشباب، ونطلق كلمة فتاة على أي أمة ولو كانت عجوزا، وعلمنا رسول الله ألا نقول : هذا عبدي وهذه أمتي. وإنما نقول :" فتاي " و " فتاتي ".
﴿ فمن ما ملكت أيمانكم ﴾. ويتساءل البعض : وهل يتزوج الإنسان ممن يملكها ؟ نقول له : لا. إنها حلال له فهي مملوكة له ملك يمين ويستطيع أن يكون له منها ولد، إذن فتكون ما ملكت أيمان غيركم، لأن الله يخاطب المؤمنين على أنهم وحدة بنيانية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضهم بعضا " ١.
ويقول الحق :
﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ ( من الآية ١١ سورة الحجرات ).
ويقول في موضع آخر :
﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله ﴾ ( من الآية ٦١ سورة النور ).
فهل يسلم المؤمن على نفسه أو يسلم على من دخل عليهم ؟.
إن الحق يريد بالتشريع أن يجعل المؤمنين كالجسد الواحد، ولذلك قال أيضا :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة النساء ).
أي لا تقتلوا غيركم، والمعنى هو أن الوحدة الإيمانية يجب أن تجعلنا متكاثفين في وحدة.
﴿ فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم ﴾. وقد تقول :
إن إيمان ملك اليمين ضعيف وتجعلها علة. يقول لك الحق : لا ﴿ والله أعلم بإيمانكم ﴾ ولعل أمة خير في الإيمان منك ؛ لأن هذه مسألة دخائل قلوب، وأنت يكفيك أن تعلم الظاهر.
والحق سبحانه وتعالى حين يعالج الأمر يعالجه معالجة رب. يعلم واقع ما خلق ويعطي كل مطلوبات المخلوق، هو أولا أوضح : أنتم إن كنتم لا تستطيعون طولا أن تنكحوا المحصنات فانكحوا الإماء، وهذا من أجل مزيد من تصفية الرق.
بعد ذلك يقول :﴿ والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ﴾ فإن كنت ستتزوج يجب أن تجعل نصب عينيك أمرا هو : أن﴿ بعضكم من بعض ﴾. أي أنكم جميعا من آدم. وما دمت قد آمنت، فالإيمان سوى بينكم، فإذا ذهبت لتتزوج فلا بد أن تضع هذا نصب عينيك، إنه سبحانه يعالج واقعا.
ويقول بعد ذلك :﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن ﴾. وهذا إشعار بأن من تحت يده فتاة بملك يمينه فعليه أن يعاملها معاملة الأهل ليعوضها عما فقدته عند أهلها هناك، ولتشعر أنها في حضانة الإسلام مثلما كانت في حضانة أهلها وآبائها أو أكثر.
إذن فالذي يملك لا بد أن يجعل نفسه من الأهل، وبذلك يزيد الحق سبحانه وتعالى من أبواب تصفية الرق، وأوضح : فإن لم يدخل واحد منكم من يملكه في هذه المصافي فسوف يبقيه رقيقا، وإذن فعليه أن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه ما لا يطيق، فإن كلفه ما لا يطيق فيدك بيده. وعندما يوجد معك إنسان تلبسه من لبسك وتطعمه من أكلك، وعندما يعمل عملا يصعب عليه فأنت تساعده، فأي معاملة هذه ؟ إنها معاملة أهل.
انظر كم مسألة يعالجها الحق : يعالج طالب الزواج ويعالج المملوكة، ويعالج السادة، إنه تشريع رب الجميع. فلا يشرع لواحد على حساب آخر. ومادامت ملك يمين ولها سيد فهذا السيد له مصالح لا بد أن تستأذنه، فقد لا يستطيع أن يستغني عنها لأنها تخدمه، فقال :﴿ بإذن أهلهن ﴾، لكن في المهور قال " ﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ فالأمة تنكح بإذن من يملكها كي يعرف أن هناك من دخل شريكا له في العملية ويأخذ البضع وهو الزوج، وحين يستأذن السيد ويزوجها فهو يعلم أنها لم تعد له، وبذلك لن يأخذها أحد من خلف ظهره، وهو بالاستئذان والتزويج يرتب نفسه على أن البضع قد أغلق بالنسبة له، وبقيت له ملكية الرقبة. أما ملك البضع فهو للزوج.
﴿ وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ فإياكم أن تقولوا
والاستطاعة تعني أن يدخل الشيء في طاعتي فلا يعصي ولا يتأبى على، وافرض أنني أمسكت قطعة حديد ولويتها، هنا تكون قطعة الحديد قد دخلت في طوعي، ومثال ذلك : ابنا آدم، حين قدم كل منهما قربانا لله فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فالذي لم يتقبل الله منه القربان قال :
﴿ لأقتلنك ﴾ ( من الآية ٢٧ سورة المائدة ).
فماذا كان رد الذي تلقى التهديد ؟ قال :
﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين٢٨ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ٢٩ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ٣٠ ﴾ ( سورة المائدة ).
ما معنى " طوعت له " ؟ طوعت يعني : جعلته في استطاعة، وعندما نمعن النظر في " فطوعت له نفسه " نجد أن " الهاء " تشير إليه هو، وذلك يدل على أن الإنسان فيه ملكات متعددة ؛ ملكة تقول : اقتله، وملكة أخرى تقول له : لا تقتله. ضميره يقول له : لا تفعل، والنفس الأمارة بالسوء تقول له : اقتل، ويكون هو مترددا بين الأمرين.
وقوله الحق :﴿ فطوعت له ﴾ دليل على أن نفسه كانت متأبية عليه، لكن النفس الأمارة بالسوء ظلت وراءه بالإلحاح حتى أن نفسه الفاعلة طوعت له أن يقتل أخاه، ومع أن نفسه طوعت له أن يقتل أخاه إلا أنه أصبح بعد ذلك من النادمين، وبعدما أخذ شهوته من القتل ندم، ويأتي هذا الندم على لسانه :
﴿ يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ﴾ ( من الآية ٣١ سورة المائدة ).
أنت الذي قتلته، لكنك أصبحت من النادمين. لماذا ؟ لأن ملكات الخير دائما تصعد عمل الخير وتحبط عمل الشر. والإنسان قد يبدأ شريرا، وإن كانت ملكاته ملكات خير غالبة، فهو ينزل من هذا الشر العالي ويخففه، وإن كانت ملكات الشر غالبة فهو يبدأ في الشر قليلا ثم يصعده، فيقول في نفسه : فلان فعل في كذا وأريد أن أصفعه صفعة، وبعد ذلك قد يرفع من شره فيقول :" أو أضربه ضربة ". لكن إذا ما كان الإنسان خيرا، فيقول :" فلان كاد لي، أريد أن أضربه رصاصة أو أضربه صفعتين أو أوبخه " إنه ينزل من الشر ويصعد من الخير. كما في قصة سيدنا يوسف وإخوته حين قالوا :
﴿ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين ٨ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ٩ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيا بات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ١٠ ﴾ ( سورة يوسف ).
إنهم أسباط، وأولاد النبي يعقوب، فيقللون من الشر، ويخففونه مباشرة قائلين :﴿ أو اطرحوه أرضا ﴾ يعني يلقونه في أرض بعيدة، إذن فخففوا القتل في نفس واحد، كيف تم هذا الانتقال من القتل إلى اطرحوه أرضا ؟ ثم خففوا الأمر ثانية حتى لا يأكله سبع أو يتوه، فقالوا :﴿ وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة ﴾.
إذن فقوله :﴿ ومن لم يستطع منكم ﴾ أي من لم يستطع دخول الشيء في طوعه أو أن تطوله يداه، وهذا هو المقصود بالطول، " فطالته يده " يعني صار في استطاعته، وفلان تطول علي، أي تفضل على بشيء، " وفلان تطاول علي " أي ما كان يصح أن يجترئ علي، وكلها من الطول، و " طولا " : تعني قدرة تطول بها الزواج بمن تحب، أي أنت لا تملك مالا ولا تستطيع الطول، فهناك مرحلة أخرى، لا داعي للحرة لأن مهرها غال غالبا ؛ فخذ من الإماء الأسيرات لأن مؤنتهن ونفقتهن خفيفة، وليس لها عصبة ولا أهل يجادلونك في المهر، فقال :﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾.. والذي نلمحه في الآية. أن نكاح ما ملكت اليمين يكون لغير مالكها ؛ لأن مالكها لا يحتاج ذلك، إنه يستمتع بها ويتغشاها ؛ لأنها ملك يمينه وليست مملوكة للغير.
إذن فقد أباح الله للمسلم أن ينكح مما ملكت يمين غيره على شرط أن يكون ذلك بإذن مولاها ؛ لأنها بالزواج تقتطع جزءا من وقتها وخدمتها لمن يملك رقبتها، فلا بد أن يستأذن حتى يكون أمر انقطاعها إلى الزوج في بعض خدماته مما هو معلوم لأوليائهن، وأمر أيضا سبحانه ألا نستهين بأنها مملوكة ومهينة فلا نأتيها مهرها. بل يجب أن يؤدي لهؤلاء مهورهن بما يعرف، أي بالمتعارف عليه ؛ لأن ذلك عوض البضع، فإذا كان الحق قد أمر بأن نستأذن مواليهن وأمر بأن نأتيهن أجورهن، هنا بعض الإشكال لأن المملوكة لا تملك ؛ لأن العبد وما ملكت يداه لسيده.
نقول له : نعم، ولكن إذا قلت : العبد وما ملكت يداه لسيده فلا بد أن تحقق لها ملكا أولا ثم يكون ما تملكه لسيدها.. أ ما أن تتعداها وتعطي المال لسيدها فإنها في هذه الحالة لم يتحقق لها مهر، فقولك : العبد وما ملكت يداه، أي أعطها فترة وفرصة لتكون مالكة بأن تعطى الأجر تكريما لها، أما كون مالها لسيدها فهذا موضوع آخر. وبعد ذلك تذهب لتتزوجها إن ذلك يصح، فهل نفهم من ذلك أنك إن استطعت طولا لا تنكح الإماء ؟ لا. وهل هذا يقلل من شان الإماء ؟ لا. لماذا ؟ انظر للحكم العالية التي لا يقولها إلا رب.
الله يريد أن يصفي مسألة الرق، فحين يأتي واحد ويتزوج أمة مملوكة لغيره فأولادها يتبعونها في الرق. فالأولاد في الدين تتبع خير الأبوين، وفي الحرية والرق يتبع الأولاد الأم، فإذا ما تزوج إنسان أمة مملوكة لغيره فأولادها الذين سيأتون يكونون عبيدا. وحين يتركها لسيدها ويتزوج غيرها من الحرائر، فمن تلده من سيدها يكون حرا، إذن فسبحانه يريد أن يصفي الرق، هذه واحدة، الشيء الآخر أن الزواج : التقاء الذكر بالأنثى ليكونا نواة أسرة، فإذا ما كان الزوج والزوجة أكفاء. فالزوج لا يجد في نفسه تعاليا على الزوجة، والزوجة لا تجد في نفسها تعاليا على الزوج ؛ لأن كل واحد منهما كفء للآخر، وهذه تضمن اتزان الحياة واتزان التعامل، لكن حين يتزوج واحد أمة ليس لها أهل فقد يستضعفها وقد يستعلي عليها. وقد يذلها. وقد يعيرها، وحين يكون لها أولاد قد يقولون لهم : ليس لكم خال مثلا. والمشرع يريد أن يبني حياة أسرية متزنة، ولذلك اشترط الكفاءة، وقال :
﴿ والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين ﴾ ( من الآية ٢٦ سورة النور ).
وبعض من الناس تفهم عندما ترى طيبة فلا بد أن يتزوجها رجل طيب، نقول لهم : إن هذا تشريع والتشريع تكليف وعرضة أن يطاع وعرضة أن يعصى، فسبحانه حين يشرع أن الطيبات يكن للطيبين والخبيثات للخبيثين، فإن طبقتم التشريع تكون المسائل مستقيمة، وهذا يحمل الرد على من يقولون : مادام ربنا يقول :﴿ الطيبات للطيبين ﴾ فكيف يتزوج فلان بفلانة وأحدهما طيب والآخر خبيث ؟.
ونقول : إن هذا الحكم ليس في قضية كونية حادثة، بل هو قضية تشريعية تقتضي منا أن نتبعه وأن نجعل الطيبين للطيبات والخبيثين للخبيثات ليتحقق التوازن. فإن كان خبيثا وقال لها : أنت كذا وكذا تقول له : أنت كذا وكذا. فلا يقول هذه كي لا تقول له مثلها، أما الإنسان الطيب فهو يلين جانبه مرة وهي طيبة وتلين جانبها مرة.
﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ﴾ كلمة " المحصنات " : تعني هنا الحرائر ؛ لأنها لو كانت متزوجة فلن تكون محل تزويج لآخر. ﴿ فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ وكلمة " فتى " نطلقها في الحر على من له فتوة وشباب، ونطلق كلمة فتاة على أي أمة ولو كانت عجوزا، وعلمنا رسول الله ألا نقول : هذا عبدي وهذه أمتي. وإنما نقول :" فتاي " و " فتاتي ".
﴿ فمن ما ملكت أيمانكم ﴾. ويتساءل البعض : وهل يتزوج الإنسان ممن يملكها ؟ نقول له : لا. إنها حلال له فهي مملوكة له ملك يمين ويستطيع أن يكون له منها ولد، إذن فتكون ما ملكت أيمان غيركم، لأن الله يخاطب المؤمنين على أنهم وحدة بنيانية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضهم بعضا " ١.
ويقول الحق :
﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ ( من الآية ١١ سورة الحجرات ).
ويقول في موضع آخر :
﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله ﴾ ( من الآية ٦١ سورة النور ).
فهل يسلم المؤمن على نفسه أو يسلم على من دخل عليهم ؟.
إن الحق يريد بالتشريع أن يجعل المؤمنين كالجسد الواحد، ولذلك قال أيضا :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة النساء ).
أي لا تقتلوا غيركم، والمعنى هو أن الوحدة الإيمانية يجب أن تجعلنا متكاثفين في وحدة.
﴿ فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم ﴾. وقد تقول :
إن إيمان ملك اليمين ضعيف وتجعلها علة. يقول لك الحق : لا ﴿ والله أعلم بإيمانكم ﴾ ولعل أمة خير في الإيمان منك ؛ لأن هذه مسألة دخائل قلوب، وأنت يكفيك أن تعلم الظاهر.
والحق سبحانه وتعالى حين يعالج الأمر يعالجه معالجة رب. يعلم واقع ما خلق ويعطي كل مطلوبات المخلوق، هو أولا أوضح : أنتم إن كنتم لا تستطيعون طولا أن تنكحوا المحصنات فانكحوا الإماء، وهذا من أجل مزيد من تصفية الرق.
بعد ذلك يقول :﴿ والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ﴾ فإن كنت ستتزوج يجب أن تجعل نصب عينيك أمرا هو : أن﴿ بعضكم من بعض ﴾. أي أنكم جميعا من آدم. وما دمت قد آمنت، فالإيمان سوى بينكم، فإذا ذهبت لتتزوج فلا بد أن تضع هذا نصب عينيك، إنه سبحانه يعالج واقعا.
ويقول بعد ذلك :﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن ﴾. وهذا إشعار بأن من تحت يده فتاة بملك يمينه فعليه أن يعاملها معاملة الأهل ليعوضها عما فقدته عند أهلها هناك، ولتشعر أنها في حضانة الإسلام مثلما كانت في حضانة أهلها وآبائها أو أكثر.
إذن فالذي يملك لا بد أن يجعل نفسه من الأهل، وبذلك يزيد الحق سبحانه وتعالى من أبواب تصفية الرق، وأوضح : فإن لم يدخل واحد منكم من يملكه في هذه المصافي فسوف يبقيه رقيقا، وإذن فعليه أن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه ما لا يطيق، فإن كلفه ما لا يطيق فيدك بيده. وعندما يوجد معك إنسان تلبسه من لبسك وتطعمه من أكلك، وعندما يعمل عملا يصعب عليه فأنت تساعده، فأي معاملة هذه ؟ إنها معاملة أهل.
انظر كم مسألة يعالجها الحق : يعالج طالب الزواج ويعالج المملوكة، ويعالج السادة، إنه تشريع رب الجميع. فلا يشرع لواحد على حساب آخر. ومادامت ملك يمين ولها سيد فهذا السيد له مصالح لا بد أن تستأذنه، فقد لا يستطيع أن يستغني عنها لأنها تخدمه، فقال :﴿ بإذن أهلهن ﴾، لكن في المهور قال " ﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ فالأمة تنكح بإذن من يملكها كي يعرف أن هناك من دخل شريكا له في العملية ويأخذ البضع وهو الزوج، وحين يستأذن السيد ويزوجها فهو يعلم أنها لم تعد له، وبذلك لن يأخذها أحد من خلف ظهره، وهو بالاستئذان والتزويج يرتب نفسه على أن البضع قد أغلق بالنسبة له، وبقيت له ملكية الرقبة. أما ملك البضع فهو للزوج.
﴿ وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ فإياكم أن تقولوا
١ رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى..
﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ٢٦ ﴾.
ماذا يبين لنا ؟ إنه سبحانه يبين القوانين الحاكمة لانتظام الحياة.. وقلنا إنه لا يمكن أن يوجد تجريم إلا بنص ولا توجد عقوبة إلا بتجريم. فقبلما يعاقبك على أمر فهو يقول لك : هذه جريمة وينص عليها، إنه لا يأتي ليقول لك : فعلت الشيء الفلاني وهذه عقوبته ؛ لأنك قد تقول له : فعلت هذا الفعل من قبل ولم أعرف أنه جريمة وعليه عقوبة. إذن فلا يمكن أن تعاقب إلا إذا أجرمت، ولا يمكن أن تجرم إلا بنص، فيريد الله أن يبصركم ببيان ما تصلح به حركة حياتكم، والله آمن عليكم من أنفسكم، لأنه هو سبحانه الذي خلق وهو يعلم من خلق.
إن سبحانه وحده الذي يقنن ما يصلح مخلوقه، أما أن يخلق هو وأنت تقنن فهذا اعتداء ؛ لأنه سبحانه يقنن لما يعلم ولله المثل الأعلى وقلنا سابقا : إن المهندس الذي يصنع التلفزيون هو الذي يضع له قانون الصيانة ؛ لأنه هو الذي صمم الآلة، وهو الجدير بأن يضع لها قانون صيانتها، فيعلمنا : المفتاح هذا لكذا، وهذا للصورة وهذا للصوت.
إن الذي خلق الإنسان هو الذي يضع قانون صيانته المتمثل في " افعل ولا تفعل "، وترك سبحانه أمورا لم يرد فيها افعل ولا تفعل، وهي متروكة على الإباحة، تفعله أو لا تفعله، إنه سبحانه :﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ﴾، والسنة هي الناموس الحاكم لحركة الحياة. والحق يقول :
﴿ سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ٦٢ ﴾ ( سورة الأحزاب ).
والرسل سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وعرفنا الذين أطاعوا رسلهم ماذا حدث لهم، والذين كذبوا رسلهم ماذا حدث لهم. لقد قال الحق في شأنهم :﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ٤٠ ﴾ ( سورة العنكبوت ).
فالله يريد أن يبين لنا سنن من قبلنا، أي الطرائق التي حكموا بها، وماذا حدث لأهل الحق وماذا حدث لأهل الباطل. إذن فهو ليس تقنينا أصم، بل هو تقنين مسبوق بوقائع تؤكده وتوثقه، ﴿ ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم ﴾ وهو سبحانه يبين ويوضح ويتوب، ﴿ والله عليم ﴾ لأنه خالق، " حكيم " يضع الأمر في موضعه والنهي في موضعه. فالحكمة هي : وضع الشيء في موضعه، وسبحانه يضعه عن علم، فالعلم يقتضي اتساع المعلومات، والحكمة هي وضع كل معلوم في موقعه.
ماذا يبين لنا ؟ إنه سبحانه يبين القوانين الحاكمة لانتظام الحياة.. وقلنا إنه لا يمكن أن يوجد تجريم إلا بنص ولا توجد عقوبة إلا بتجريم. فقبلما يعاقبك على أمر فهو يقول لك : هذه جريمة وينص عليها، إنه لا يأتي ليقول لك : فعلت الشيء الفلاني وهذه عقوبته ؛ لأنك قد تقول له : فعلت هذا الفعل من قبل ولم أعرف أنه جريمة وعليه عقوبة. إذن فلا يمكن أن تعاقب إلا إذا أجرمت، ولا يمكن أن تجرم إلا بنص، فيريد الله أن يبصركم ببيان ما تصلح به حركة حياتكم، والله آمن عليكم من أنفسكم، لأنه هو سبحانه الذي خلق وهو يعلم من خلق.
إن سبحانه وحده الذي يقنن ما يصلح مخلوقه، أما أن يخلق هو وأنت تقنن فهذا اعتداء ؛ لأنه سبحانه يقنن لما يعلم ولله المثل الأعلى وقلنا سابقا : إن المهندس الذي يصنع التلفزيون هو الذي يضع له قانون الصيانة ؛ لأنه هو الذي صمم الآلة، وهو الجدير بأن يضع لها قانون صيانتها، فيعلمنا : المفتاح هذا لكذا، وهذا للصورة وهذا للصوت.
إن الذي خلق الإنسان هو الذي يضع قانون صيانته المتمثل في " افعل ولا تفعل "، وترك سبحانه أمورا لم يرد فيها افعل ولا تفعل، وهي متروكة على الإباحة، تفعله أو لا تفعله، إنه سبحانه :﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ﴾، والسنة هي الناموس الحاكم لحركة الحياة. والحق يقول :
﴿ سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ٦٢ ﴾ ( سورة الأحزاب ).
والرسل سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وعرفنا الذين أطاعوا رسلهم ماذا حدث لهم، والذين كذبوا رسلهم ماذا حدث لهم. لقد قال الحق في شأنهم :﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ٤٠ ﴾ ( سورة العنكبوت ).
فالله يريد أن يبين لنا سنن من قبلنا، أي الطرائق التي حكموا بها، وماذا حدث لأهل الحق وماذا حدث لأهل الباطل. إذن فهو ليس تقنينا أصم، بل هو تقنين مسبوق بوقائع تؤكده وتوثقه، ﴿ ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم ﴾ وهو سبحانه يبين ويوضح ويتوب، ﴿ والله عليم ﴾ لأنه خالق، " حكيم " يضع الأمر في موضعه والنهي في موضعه. فالحكمة هي : وضع الشيء في موضعه، وسبحانه يضعه عن علم، فالعلم يقتضي اتساع المعلومات، والحكمة هي وضع كل معلوم في موقعه.
وبعد ذلك يقول سبحانه :
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ٢٧ ﴾.
سبحانه قال في الآية السابقة :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾، وبعد ذلك يقول :﴿ ويهديكم ﴾، وبعد ذلك :﴿ ويتوب عليكم ﴾، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾، فلماذا جاء أولا ب﴿ ويتوب عليكم ﴾ وجاء هنا ثانيا ب﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ ؟.
نقول : التوبة لا بد أن تكون مشروعة أولا من الله، وإلا فهل لك أن تتوب إلى الله من الذنب لو لم يشرع الله لك التوبة ؟ أتصح هذه التوبة ؟ إنه سبحانه إذن يشرع التوبة أولا، وبعد ذلك أنت تتوب على ضوء ما شرع، ويقبل هو التوبة، وبذلك نكون أمام ثلاث مراحل : أولا مشروعية التوبة من الله رحمة
منه بنا، ثم توبة العبد، وبعد ذلك قبول الله التوبة ممن تاب رحمة منه سبحانه إذن فتوبة العبد بين توبتين من الرب : توبة تشريع، وتوبة قبول.
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾، مادام سبحانه قد شرع التوبة أيشرعها ولا يقبلها ؟ ! لا، فمادام قد شرع وعلمني أن أتوب فمعنى ذلك أنه فتح لي باب التوبة، وفتح باب التوبة من رحمة العليم الحكيم بخلقه ؛ لأن الحق حينما خلق الإنسان زوده دون سائر الأجناس بطاقة من الاختيارات الفاعلة، أي أن الإنسان يستطيع أن يفعل هذه أو يفعل تلك، وجعل أجهزته تصلح للأمر وللنهي، فالعين صالحة أن ترى آية في كون الله تعتبر بها، والعين أيضا صالحة أن تمتد إلى المحارم. واللسان صالح أن تسب به، صالح أن تذكر الله به قائلا : لا إله إلا الله وسائر أنواع الذكر. واليد عضلاتها صالحة أن ترفعها وتضرب بها، وصالحة لأن تقيل وترفع بها عاثرا واقعا في الطريق.
هذا هو معنى الاختيار في القول وفي الفعل وفي الجوارح، فالاختيار طاقة مطلقة توجهها إرادة المختار، وإذا نظرت إلى اليد تجد أنك إذا أردت أن ترفعها، فإنك لا تعرف شيئا عن العضلات التي تستعملها كي ترفع اليد. فالذي يرفع يده ماذا يفعل ؟ وما العضلات التي تخدم هذا الرفع ؟ وأنت ترى ذلك مثلا في الإنسان الميكانيكي أو تراه في رافعة الأثقال الونش التي ترفع الأشياء، انظر كم عملية لتفعل ذلك ؟ أنت لا تعلم شيئا عن هذه المسألة في نفسك، لكنك بمجرد أن تريد تحريك يدك فأنت تحركها وتطيعك. وعندما يريد المهندس أن يحرك الإنسان الآلي فهو يوجهه بحسابات معينة ليفعل كذا وكذا، أما الإنسان فيحرك اليد أو القدم أو العين بمجرد الإرادة.
والحق حين يسلب قدرة الإنسان والعياذ بالله يصيبه بالشلل، إنه يريد فلا تنفعل له اليد أو غيرها ولا يعلم ما الذي تعطل إلى أن يذهب إلى الأطباء ليبحثوا في الجهاز العصبي، ويعرفوا لماذا لم تنفذ أعصابه الأوامر، إنها عملية طويلة. إذن فالإنسان عندما يريد الحركة يوجه الطاقة المخلوقة لله فقط، فليس له فعل في الحقيقة، فأنا إن أثابني الله وجازاني على طاعة فذلك لأني وجهت الآلة الصالحة للفعل إلى عمل الخير، وعندما تسمع أنه لا أحد بيده أن يفعل شيئا فهذا صحيح ؛ لأن أحدا لا يعرف كيف يفعل أي شيء، إنه فقط يريد، فإن وجهت الطاقة للفعل فهذا عملك أنت. فمعنى الاختيار إذن أن تكون صالحا للفعل ومقابل الفعل وهو الانتهاء والترك.
وعندما يبين الحق سبحانه وتعالى لك وينزل لك المنهج الذي يقول لك : وجه طاقتك لهذه ولا توجهها لهذه، معنى ذلك أن طاقتك صالحة للاثنين. إذن فأنت مخلوق على صلاحية أن تفعل وألا تفعل، وما تركه المنهج دون أن يقول لك فيه " افعل " ولا " تفعل " فإن فعلته على أي وجه لا يفسد به الكون ولا تفسد به حركة حياتك فهذا هو المباح لك.
وحينما شرع الحق سبحانه التوبة أوضح : أنه إذا انفعل مريد لعمل شيء فوجه طاقته لعمل شيء مخالف، قد تكون شهوته أو شرته قد غلبت عليه، فتوجه في ساعة ضعف إلى عمل شر ؛ لذلك شرعت التوبة.. لماذا ؟ لأننا لو أخرجنا هذا الإنسان من حظيرة المطيعين بمجرد فعل أول عمل شر لصارت كل انفعالاته من بعد ذلك شرورا، وهذا هو الذي نسميه " فاقدا "، فيشرع الحق : إن فعلت ذنبا فلا تيأس، فنحن سنسامحك ونتوب عليك.
فساعة شرع الله التوبة رحم المجتمع من شراسة أول عاص، فلو لم تأت هذه التوبة لكثرت المعاصي بعد أول معصية. ومقابل قول الحق :﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ وتنبيهه أن الذنوب التي فعلتها قبل ذلك يطهرك منها بالتوبة، مقابل ذلك الذين يتبعون الشهوات ويريدون منك أن تأتي بذنوب جديدة ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ﴾ والميل هو مطلق عمل الذنوب. إنك بذلك تميل عن الحق ؛ لأن الميل هو انحراف عن جادة مرسومة لحكيم، والجادة هي الطريق المستقيم.
هذه الجادة من الذي صنعها ؟ إنه الحكيم.. فإذا مال الإنسان مرة فربنا يعدله على الجادة مرة ثانية، ويقول له :" أنا تبت عليك "، إنه سبحانه يعمل ذلك كي يحمي العالم من شره، لكن الذين يتبعون الشهوات لا يحبون لكم فقط أن تميلوا لمرة واحدة، بل يريدون لكم ميلا موصوفا بأنه ميل عظيم. لماذا ؟.. لأن الإنسان بطبيعته كما قلنا سابقا إن كان يكذب فإنه يحترم الصادق، وإن كان خائنا فهو يحترم الأمين، بدليل أنه إن كان خائنا وعنده شيء يخاف عليه فهو يختار واحدا أمينا ليضع هذا الشيء عنده.
إذن فالأمانة والصدق والوفاء وكل هذه القيم أمور معترف بها بالفطرة، فساعة يوجد إنسان لم يقو على حمل نفسه على جادة القيم، ووجد هذا الإنسان واحدا آخر قدر على أن يحمل نفسه على جادة القيم فهو يصاب بالضيق الشديد، وما الذي يشفيه ويريحه ؟ إنه لا يقدر أن يصوب عمله وسلوكه ويقوم من اعوجاج نفسه ؛ لذلك يحاول أن يجعل صاحب السلوك القويم منحرفا مثله، وإن كانت الصداقة تربط بين اثنين وانحرف أحدهما فالمنحرف يستخذى أمام نفسه بانحرافه، ويحاول أن يشد صديقه إلى الانحراف كي لا يكون مكسور العين أمامه. وهو لا يريده منحرفا مثله فقط بل يريده أشد انحرافا ؛ ليكون هو متميزا عليه. إذن فالقيم معترف بها أيضا حتى لدى المنحرفين، واذكروا جيدا أننا نقرأ في سورة يوسف هذا القول الحكيم :
﴿ ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ٣٦ ﴾. ( سورة يوسف ).
هم في السجن مع يوسف، لكن لكل سبب في أنهم سجنوه، فسبب هؤلاء الذين سألوا يوسف هو أنهم أجرموا، لكن سبب وجود يوسف في السجن أنه بريء. والبريء كل فكره في الله، أما الذين انحرفوا ودخلوا معه السجن عندما ينظرون إليه يجدونه على حالة حسنة، بدليل أن أمرا جذبهم وهمهم في ذاتهم بأن رأوا رؤيا، فذهبوا لمن يعرفون أنه إنسان طيب برغم وجوده معهم في السجن، فقد أعجبوا به بدليل انهم قالوا له :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾. ومن يقول :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ لا بد أن تكون عنده قدرة على تمييز القيم، ثم قاسوا فعل يوسف عليها فوجدوها حسنة، وإلا فكيف يعرف ؟. إذن فالقيم معروفة عندهم، فلما جاء أمر يهمهم في ذاتهم ذهبوا إلى يوسف.
ومثال ذلك : هناك لص لا يمل من السرقة ولا يكف عنها، وبعد ذلك جاء له أمر يستدعيه للسفر إلى مكان غير مأمون، فاللص في هذه الحالة يبحث عن إنسان أمين ليقضي الليل عنده ولا يذهب للص مثله. إذن فالقيم هي القيم، وعندما قال أصحاب يوسف في السجن :{ إنا نراك من المحسنين "، استغل سيدنا يوسف هذه المسألة ووجدهم واثقين فيه فلم يقل لهم عن حكايتهم ابتداء ويؤول لهم الرؤيا، بل استغل حاجتهم إليه وعرض عليهم الإيمان قال :
﴿ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ٣٩ ﴾ ( سورة يوسف ).
لقد نقلهم من حكايتهما لحكايته، فماداما يريدان استغلال إحسانه فلماذا لا يستغل حاجتهما له ويعظهما ويبشرهما بدين الله ؟ وكأنه يقول لهما : أنتما جئتما إلى لأنكما تقولان إنني من المحسنين. وأنتما لم تريا كل ما عندي بل إن الله أعطاني الكثير من فيضه وفضله، ويقول الحق على لسان يوسف :
﴿ لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
أي أن يوسف الصديق عنده الكثير من العلم، ويقر لهما بفضل الله عليه : فليس هذا العلم من عندي :
﴿ ذالكما مما علمني ربي ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
وبعد ذلك يدعوهما لعبادة الإله الواحد كي يستنجدا به بدلا من الآلهة المتعددة التي يتخذانها معبودا لهما وهي لا تضر ولا تنفع.
﴿ أأرباب متفرقون خيرأم الله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة يوسف ).
إذن فالقيم واحدة، والله يريد أن يتوب عليكم، ولكن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلا عظيما، حتى لا تكونوا مميزين عليهم تميزا يحقرهم أمام أنفسهم، فهم يريدون أن تكونوا في الانحراف أكثر منهم، لأنهم يريدون أن يكونوا متميزين في الخير أيضا ويقولون لأنفسهم :" إن كنا شريرين فهناك أناس شر منا ".
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ٢٧ ﴾.
سبحانه قال في الآية السابقة :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾، وبعد ذلك يقول :﴿ ويهديكم ﴾، وبعد ذلك :﴿ ويتوب عليكم ﴾، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾، فلماذا جاء أولا ب﴿ ويتوب عليكم ﴾ وجاء هنا ثانيا ب﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ ؟.
نقول : التوبة لا بد أن تكون مشروعة أولا من الله، وإلا فهل لك أن تتوب إلى الله من الذنب لو لم يشرع الله لك التوبة ؟ أتصح هذه التوبة ؟ إنه سبحانه إذن يشرع التوبة أولا، وبعد ذلك أنت تتوب على ضوء ما شرع، ويقبل هو التوبة، وبذلك نكون أمام ثلاث مراحل : أولا مشروعية التوبة من الله رحمة
منه بنا، ثم توبة العبد، وبعد ذلك قبول الله التوبة ممن تاب رحمة منه سبحانه إذن فتوبة العبد بين توبتين من الرب : توبة تشريع، وتوبة قبول.
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾، مادام سبحانه قد شرع التوبة أيشرعها ولا يقبلها ؟ ! لا، فمادام قد شرع وعلمني أن أتوب فمعنى ذلك أنه فتح لي باب التوبة، وفتح باب التوبة من رحمة العليم الحكيم بخلقه ؛ لأن الحق حينما خلق الإنسان زوده دون سائر الأجناس بطاقة من الاختيارات الفاعلة، أي أن الإنسان يستطيع أن يفعل هذه أو يفعل تلك، وجعل أجهزته تصلح للأمر وللنهي، فالعين صالحة أن ترى آية في كون الله تعتبر بها، والعين أيضا صالحة أن تمتد إلى المحارم. واللسان صالح أن تسب به، صالح أن تذكر الله به قائلا : لا إله إلا الله وسائر أنواع الذكر. واليد عضلاتها صالحة أن ترفعها وتضرب بها، وصالحة لأن تقيل وترفع بها عاثرا واقعا في الطريق.
هذا هو معنى الاختيار في القول وفي الفعل وفي الجوارح، فالاختيار طاقة مطلقة توجهها إرادة المختار، وإذا نظرت إلى اليد تجد أنك إذا أردت أن ترفعها، فإنك لا تعرف شيئا عن العضلات التي تستعملها كي ترفع اليد. فالذي يرفع يده ماذا يفعل ؟ وما العضلات التي تخدم هذا الرفع ؟ وأنت ترى ذلك مثلا في الإنسان الميكانيكي أو تراه في رافعة الأثقال الونش التي ترفع الأشياء، انظر كم عملية لتفعل ذلك ؟ أنت لا تعلم شيئا عن هذه المسألة في نفسك، لكنك بمجرد أن تريد تحريك يدك فأنت تحركها وتطيعك. وعندما يريد المهندس أن يحرك الإنسان الآلي فهو يوجهه بحسابات معينة ليفعل كذا وكذا، أما الإنسان فيحرك اليد أو القدم أو العين بمجرد الإرادة.
والحق حين يسلب قدرة الإنسان والعياذ بالله يصيبه بالشلل، إنه يريد فلا تنفعل له اليد أو غيرها ولا يعلم ما الذي تعطل إلى أن يذهب إلى الأطباء ليبحثوا في الجهاز العصبي، ويعرفوا لماذا لم تنفذ أعصابه الأوامر، إنها عملية طويلة. إذن فالإنسان عندما يريد الحركة يوجه الطاقة المخلوقة لله فقط، فليس له فعل في الحقيقة، فأنا إن أثابني الله وجازاني على طاعة فذلك لأني وجهت الآلة الصالحة للفعل إلى عمل الخير، وعندما تسمع أنه لا أحد بيده أن يفعل شيئا فهذا صحيح ؛ لأن أحدا لا يعرف كيف يفعل أي شيء، إنه فقط يريد، فإن وجهت الطاقة للفعل فهذا عملك أنت. فمعنى الاختيار إذن أن تكون صالحا للفعل ومقابل الفعل وهو الانتهاء والترك.
وعندما يبين الحق سبحانه وتعالى لك وينزل لك المنهج الذي يقول لك : وجه طاقتك لهذه ولا توجهها لهذه، معنى ذلك أن طاقتك صالحة للاثنين. إذن فأنت مخلوق على صلاحية أن تفعل وألا تفعل، وما تركه المنهج دون أن يقول لك فيه " افعل " ولا " تفعل " فإن فعلته على أي وجه لا يفسد به الكون ولا تفسد به حركة حياتك فهذا هو المباح لك.
وحينما شرع الحق سبحانه التوبة أوضح : أنه إذا انفعل مريد لعمل شيء فوجه طاقته لعمل شيء مخالف، قد تكون شهوته أو شرته قد غلبت عليه، فتوجه في ساعة ضعف إلى عمل شر ؛ لذلك شرعت التوبة.. لماذا ؟ لأننا لو أخرجنا هذا الإنسان من حظيرة المطيعين بمجرد فعل أول عمل شر لصارت كل انفعالاته من بعد ذلك شرورا، وهذا هو الذي نسميه " فاقدا "، فيشرع الحق : إن فعلت ذنبا فلا تيأس، فنحن سنسامحك ونتوب عليك.
فساعة شرع الله التوبة رحم المجتمع من شراسة أول عاص، فلو لم تأت هذه التوبة لكثرت المعاصي بعد أول معصية. ومقابل قول الحق :﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ وتنبيهه أن الذنوب التي فعلتها قبل ذلك يطهرك منها بالتوبة، مقابل ذلك الذين يتبعون الشهوات ويريدون منك أن تأتي بذنوب جديدة ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ﴾ والميل هو مطلق عمل الذنوب. إنك بذلك تميل عن الحق ؛ لأن الميل هو انحراف عن جادة مرسومة لحكيم، والجادة هي الطريق المستقيم.
هذه الجادة من الذي صنعها ؟ إنه الحكيم.. فإذا مال الإنسان مرة فربنا يعدله على الجادة مرة ثانية، ويقول له :" أنا تبت عليك "، إنه سبحانه يعمل ذلك كي يحمي العالم من شره، لكن الذين يتبعون الشهوات لا يحبون لكم فقط أن تميلوا لمرة واحدة، بل يريدون لكم ميلا موصوفا بأنه ميل عظيم. لماذا ؟.. لأن الإنسان بطبيعته كما قلنا سابقا إن كان يكذب فإنه يحترم الصادق، وإن كان خائنا فهو يحترم الأمين، بدليل أنه إن كان خائنا وعنده شيء يخاف عليه فهو يختار واحدا أمينا ليضع هذا الشيء عنده.
إذن فالأمانة والصدق والوفاء وكل هذه القيم أمور معترف بها بالفطرة، فساعة يوجد إنسان لم يقو على حمل نفسه على جادة القيم، ووجد هذا الإنسان واحدا آخر قدر على أن يحمل نفسه على جادة القيم فهو يصاب بالضيق الشديد، وما الذي يشفيه ويريحه ؟ إنه لا يقدر أن يصوب عمله وسلوكه ويقوم من اعوجاج نفسه ؛ لذلك يحاول أن يجعل صاحب السلوك القويم منحرفا مثله، وإن كانت الصداقة تربط بين اثنين وانحرف أحدهما فالمنحرف يستخذى أمام نفسه بانحرافه، ويحاول أن يشد صديقه إلى الانحراف كي لا يكون مكسور العين أمامه. وهو لا يريده منحرفا مثله فقط بل يريده أشد انحرافا ؛ ليكون هو متميزا عليه. إذن فالقيم معترف بها أيضا حتى لدى المنحرفين، واذكروا جيدا أننا نقرأ في سورة يوسف هذا القول الحكيم :
﴿ ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ٣٦ ﴾. ( سورة يوسف ).
هم في السجن مع يوسف، لكن لكل سبب في أنهم سجنوه، فسبب هؤلاء الذين سألوا يوسف هو أنهم أجرموا، لكن سبب وجود يوسف في السجن أنه بريء. والبريء كل فكره في الله، أما الذين انحرفوا ودخلوا معه السجن عندما ينظرون إليه يجدونه على حالة حسنة، بدليل أن أمرا جذبهم وهمهم في ذاتهم بأن رأوا رؤيا، فذهبوا لمن يعرفون أنه إنسان طيب برغم وجوده معهم في السجن، فقد أعجبوا به بدليل انهم قالوا له :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾. ومن يقول :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ لا بد أن تكون عنده قدرة على تمييز القيم، ثم قاسوا فعل يوسف عليها فوجدوها حسنة، وإلا فكيف يعرف ؟. إذن فالقيم معروفة عندهم، فلما جاء أمر يهمهم في ذاتهم ذهبوا إلى يوسف.
ومثال ذلك : هناك لص لا يمل من السرقة ولا يكف عنها، وبعد ذلك جاء له أمر يستدعيه للسفر إلى مكان غير مأمون، فاللص في هذه الحالة يبحث عن إنسان أمين ليقضي الليل عنده ولا يذهب للص مثله. إذن فالقيم هي القيم، وعندما قال أصحاب يوسف في السجن :{ إنا نراك من المحسنين "، استغل سيدنا يوسف هذه المسألة ووجدهم واثقين فيه فلم يقل لهم عن حكايتهم ابتداء ويؤول لهم الرؤيا، بل استغل حاجتهم إليه وعرض عليهم الإيمان قال :
﴿ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ٣٩ ﴾ ( سورة يوسف ).
لقد نقلهم من حكايتهما لحكايته، فماداما يريدان استغلال إحسانه فلماذا لا يستغل حاجتهما له ويعظهما ويبشرهما بدين الله ؟ وكأنه يقول لهما : أنتما جئتما إلى لأنكما تقولان إنني من المحسنين. وأنتما لم تريا كل ما عندي بل إن الله أعطاني الكثير من فيضه وفضله، ويقول الحق على لسان يوسف :
﴿ لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
أي أن يوسف الصديق عنده الكثير من العلم، ويقر لهما بفضل الله عليه : فليس هذا العلم من عندي :
﴿ ذالكما مما علمني ربي ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
وبعد ذلك يدعوهما لعبادة الإله الواحد كي يستنجدا به بدلا من الآلهة المتعددة التي يتخذانها معبودا لهما وهي لا تضر ولا تنفع.
﴿ أأرباب متفرقون خيرأم الله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة يوسف ).
إذن فالقيم واحدة، والله يريد أن يتوب عليكم، ولكن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلا عظيما، حتى لا تكونوا مميزين عليهم تميزا يحقرهم أمام أنفسهم، فهم يريدون أن تكونوا في الانحراف أكثر منهم، لأنهم يريدون أن يكونوا متميزين في الخير أيضا ويقولون لأنفسهم :" إن كنا شريرين فهناك أناس شر منا ".
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ٢٨ ﴾.
فسبحانه بعد أن قال :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ ليبصر، و﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ ليغفر، والآن يقول :﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾ لييسر، وهي ثلاثة أمور هامة. ويقول سيدنا ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه :" وفي سورة النساء ثماني آيات لأمة محمد هي خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب :
الأولى قول الحق :
﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ٢٦ ﴾ ( سورة النساء ).
والثانية هي قول الحق :
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ٢٧ ﴾ ( سورة النساء ).
والثالثة هي قول الحق :
﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ٢٨ ﴾ ( سورة النساء ).
والرابعة هي قول الحق :
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ٣١ ﴾ ( سورة النساء ).
والخامسة هي قول الحق :
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ٤٨ ﴾ ( سورة النساء ).
والسادسة هي قوله سبحانه :
﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ﴾ ( سورة النساء ).
والسابعة هي قوله تعالى :
﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ٤٠ ﴾ ( سورة النساء ).
والثامنة هي قوله تعالى :
﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ١٤٧ ﴾ ( سورة النساء ).
هذه هي الآيات الثماني التي لم تؤت مثلها أي أمة إلا أمة محمد عليه الصلاة والسلام. ومنها قول الحق :﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ﴾. وما هو ضعف الإنسان ؟. الضعف هو أن تستميله المغريات ولا يملك القدرة على استصحاب المكافأة على الطاعة أو الجزاء على المعصية، لأن الذي تتفتح نفسه إلى شهوة ما يستبعد غالبا خاطر العقوبة، وعلى سبيل المثال، لو أن السارق وضع في ذهنه أن يده ستقطع إن سرق، فسيتردد في السرقة، لكنه يقدر لنفسه السلامة فيقول : أنا أحتال وأفعل كذا وكذا كي أخرج.
إذن فضعف الإنسان من ناحية أن الله جعله مختارا تستهويه الشهوات العاجلة، لكنه لو جمع الشهوات أو صعد الشهوات فلن يجد شهوة أحظى بالاهتمام من أن يفوز برضاء ولقاء الله في الآخرة.
وقول الحق :﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ نلحظ فيه أن التخفيف مناسب للضعف، والضعف جاء من ناحية أن الإنسان أصبح مختارا وخاصة في أمور التكليف، فالذي جعل فيه الضعف جعله مختارا يفعل كذا أو يفعل كذا ولكل أمر مغرياته، ومغريات الشهوات حاضرة. ومغريات الطاعة مستقبلة. فهو يغلب دائما جانب الحاضر على جانب المستقبل.
﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ٢٨ ﴾.
فسبحانه بعد أن قال :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ ليبصر، و﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ ليغفر، والآن يقول :﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾ لييسر، وهي ثلاثة أمور هامة. ويقول سيدنا ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه :" وفي سورة النساء ثماني آيات لأمة محمد هي خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب :
الأولى قول الحق :
﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ٢٦ ﴾ ( سورة النساء ).
والثانية هي قول الحق :
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ٢٧ ﴾ ( سورة النساء ).
والثالثة هي قول الحق :
﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ٢٨ ﴾ ( سورة النساء ).
والرابعة هي قول الحق :
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ٣١ ﴾ ( سورة النساء ).
والخامسة هي قول الحق :
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ٤٨ ﴾ ( سورة النساء ).
والسادسة هي قوله سبحانه :
﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ﴾ ( سورة النساء ).
والسابعة هي قوله تعالى :
﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ٤٠ ﴾ ( سورة النساء ).
والثامنة هي قوله تعالى :
﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ١٤٧ ﴾ ( سورة النساء ).
هذه هي الآيات الثماني التي لم تؤت مثلها أي أمة إلا أمة محمد عليه الصلاة والسلام. ومنها قول الحق :﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ﴾. وما هو ضعف الإنسان ؟. الضعف هو أن تستميله المغريات ولا يملك القدرة على استصحاب المكافأة على الطاعة أو الجزاء على المعصية، لأن الذي تتفتح نفسه إلى شهوة ما يستبعد غالبا خاطر العقوبة، وعلى سبيل المثال، لو أن السارق وضع في ذهنه أن يده ستقطع إن سرق، فسيتردد في السرقة، لكنه يقدر لنفسه السلامة فيقول : أنا أحتال وأفعل كذا وكذا كي أخرج.
إذن فضعف الإنسان من ناحية أن الله جعله مختارا تستهويه الشهوات العاجلة، لكنه لو جمع الشهوات أو صعد الشهوات فلن يجد شهوة أحظى بالاهتمام من أن يفوز برضاء ولقاء الله في الآخرة.
وقول الحق :﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ نلحظ فيه أن التخفيف مناسب للضعف، والضعف جاء من ناحية أن الإنسان أصبح مختارا وخاصة في أمور التكليف، فالذي جعل فيه الضعف جعله مختارا يفعل كذا أو يفعل كذا ولكل أمر مغرياته، ومغريات الشهوات حاضرة. ومغريات الطاعة مستقبلة. فهو يغلب دائما جانب الحاضر على جانب المستقبل.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ٢٩ ﴾.
وعندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفت خلقه إلى أن يؤمنوا به يلفتهم إلى الكون، ويلفتهم إلى ما خلق الله من ظواهر ليتأكدوا أن هذه الظواهر لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا عن قادر عليم حكيم، فإذا ما انتهوا إلى الإيمان به استقبلوا التكليف الذي يتمثل في افعل كذا ولا تفعل كذا، فحين يخاطبهم بالتكليف يجعل لأمر التكليف مقدمة هي أنك ألزمت نفسك في أن تدخل إلى هذا التكليف، ولم يرغمك الله على أن تكون مكلفا، وإنما أنت دخلت إلى الإيمان بالله باختيارك وطواعيتك. وما دمت قد دخلت على الإيمان باختيارك وطواعيتك فاجعل إيمانك بالله حيثية كل حكم يحكم به الله عليك. من افعل كذا ولا تفعل كذا، ولا تقل : لماذا أفعل كذا يا رب، ولماذا لا أفعل كذا يا رب ؟ بل يكفي أن تقول : الذي آمنت به إلها حكيما قادرا هو سبحانه مأمون على أن يأمرني وأن ينهاني. ولذلك يجيء الحق دائما قبل آيات التكليف بقوله سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فهو لم يكلف مطلق الناس، وإنما كلف من آمن به.
إذن فحين يكلف من آمن به لا يكون قد اشتط وجار عليه لأنه قد آمن به بمحض اختياره.
وإذا لفت إنسانا ونبهته وأمرته بأمر تكليفي مثل صل، أو امتنع عن فعل المنكر فقال لك :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ هنا يجب أن تقول له : أنت لم تفهم معنى قول الحق :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ فأصل التدين والإيمان بالله ألا يكرهك أحد عليه، بل ادخل إلى الإيمان بالله باختيارك، لكن إذا دخلت إلى الإيمان بالله فالتزم بالسماع من الله في " افعل " و " لا تفعل " فحين يقول الحق :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فهو يعطينا حيثيات التكليف، أي علة الحكم. فعلة الحكم أنك آمنت بالله إلها حكيما قادرا.
وما دمت آمنت بالله إلها حكيما قادرا فسلم زمام الأوامر والنواهي له سبحانه، فإن وقفت في أمر بشيء أو نهي عن شيء فراجع إيمانك بالله.
إذن فقوله :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ أي أنك حر على أن تدخل في الإيمان بالله أو لا تدخل، لكن إذا ما دخلت فإياك أن تكسر حكما من أحكام الله الذي آمنت به، وإن كسرت حكما من أحكام الله تدخل معنا في إشكال ارتكاب السيئات أو الذنوب.
والأحكام التي سبقت للذين آمنوا هي أحكام تعلقت بالأعراض وبإنشاء الأسرة على نظام طاهر نقي كي يأتي التكاثر نقيا طاهرا، وتكلمت الآيات عن المحرمات من النساء وكذلك المحللات ؛ وهاهو ذا سبحانه يتكلم عن المال، وهو الذي يقيم الحياة، والمال كما نعرف ثمرة الجهد والمشقة، وكل ما يتمول يعتبر مالا، إلا أن المال ينقسم قسمين : مال يمكن أن تنتفع به مباشرة، فهناك من يملك الطعام، وآخر يملك الشراب، وثالث يملك أثوابا، وهذا نوع من المال ينتفع به مباشرة، وهناك نوع آخر من المال، وهو " النقد " ولا ينتفع به مباشرة، بل ينتفع به بإيجاد ما ينتفع به مباشرة.
وهكذا ينقسم المال إلى رزق مباشر ورزق غير مباشر. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة الحياة، لأنه بحماية حركة الحياة يغري المتحرك بأن يتحرك ويزداد حركة. ولو لم يحم الحق حركة الحياة، وثمرة حركة الحياة فماذا يقع ؟ تتعطل حركة الحياة.
وإننا نلاحظ أن كل مجتمع لا يؤمن فيه على الغاية والثمرة من عمل الإنسان تقل حركة العمل فيه، ويعمل كل واحد على قدر قوته. ويقول لنفسه : لماذا أعمل ؟ لأنه غير آمن. لكن إذا كان آمنا على ثمرة حركته يغريه الأمن على ماله على أن يزيد في حركة العمل، وحين تزيد حركة العمل فالمجتمع ينتفع وإن لم يقصد المتحرك. فليس ضروريا أن يقصد الإنسان بكل حركته أن ينفع المجتمع. لا، اجعله يعمل لنفع نفسه.
لقد ضربنا هذا المثل سابقا : إنسان مثلا عنده آلاف الجنيهات وبعد ذلك وضعها في خزانة ثم تساءل : لماذا أضعها في خزانة ؟ لماذا لا أبني بها بيتا آخر وأكري منه شقتين، فسيأتيني منه عائد ؟ هل كان المجتمع في بال مثل هذا الإنسان ؟ لا، إن باله مشغول بمصلحته ؛ لذلك فلنجعل مصلحة كل إنسان في باله، وهنا سيستفيد المجتمع بحركته قصد أو لم يقصد. لأنه ساعة يأتي ليحفر الأساس سيعطى أناسا أجورهم ؛ وساعة يأتي بالطوب يشتريه بثمن، وساعة يبنى يعطى المهندس والعمال أجورهم ؛ لذلك أقول : اعمل لنفسك في ضوء شرع الله، وسينتفع المجتمع قهرا عنك.
ومن العجيب أنك تريد أن تنفع نفسك فيبين لك ربنا : أنت ستنفع غيرك قبل أن تنتفع بعائد المنزل الذي بنيته، ولا تظن أن أحدا سيأخذ رزق ربنا ولن يجريه على الخلق، لا، إن المجتمع سينتفع بالرغم منك.
إذن فمن حظ المجتمع أن نصون حركة الحياة. ونؤمن كل متحرك في الحياة على ماله. لكن إن كنا حاكمين يجب أن تكون أعيننا مبصرة : أيكسب من حل أم لا ؟ فإذا كان الكسب حلالا نشكره، اما إذا كان يكسب من حرام، فنحن نسائله، وإن عمل على غير هذا توقفت حركة الحياة، وإن توقفت حركة الحياة فهذا أمر ضار بالذين لا يقدرون على الحركة، لماذا ؟ لأن الله قسم المواهب على الناس، فليس كل واحد من الناس يملك الطموح الحركي، ولا يملك كل إنسان فكرا يخطط به، فقد لا يكون في المجتمع إلا قلة تخطط، والباقون هم جوارح تنفعل للفكر المخطط، والفكر يعمل لجوارح كثيرة، فكذلك يكون هناك مفكر واحد هو الذي يضع خطة ينتفع بها الكثير من الناس.
إذن فلا بد أن نرعى حركة المتحرك وننميها ؛ لأن المجتمع ينتفع منها، وإن لم يقصد المتحرك إلا مصلحة نفسه، صحيح أن الذي ليس في باله إلا نفسه إنما يحبط ثواب عمله، وصحيح أن من يضع الناس في باله إنما يعطى ثمرة عمله ويأخذ ثوابا أيضا من الله.
والحق سبحانه وتعالى يأتي في مسائل المال ويوضحها توضيحا تاما ليحمي حركة الحياة ويغري الناس بالحركة وبذلك يتعدد المتحركون وتتعدد الحركات، ويستفيد المجتمع، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ وساعة تجد أمرا لجماعة في جمع مأمور به فقسم الأفراد على الأفراد.
مثال ذلك : عندما نقول لجماعة : اركبوا سياراتكم أي : ليركب كل واحد منكم سيارته، والمدرس يدخل الفصل ويقول للتلاميذ : أخرجوا كتبكم. أي أن كل تلميذ عليه أن يخرج كتابه. فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، وقول الحق :﴿ لا تأكلوا ﴾ فهذا أمر لجمع. و﴿ أموالكم ﴾ أيضا جمع، فيكون معناه : لا يأكل كل واحد ماله، وكيف لا يأكل كل واحد منكم ماله ؟ يوضح الحق : " بالباطل ". فيكون مطلوبا من كل واحد منكم ألا يأكل ماله بالباطل. والإنسان يأكل الشيء لينتفع به. والحق يوصيك ويأمرك : إياك أن تصرف قرشا من مالك وتضيعه إلا في حق، هذا إذا كنا سنقابل المفرد، فلا يأكل واحد منكم ماله بالباطل، بل يوجهه إلى الأمر النافع، الذي ليس فيه حرمة، والذي لا يأتي بعذاب في الآخرة.
وإذا كان المراد أن لا أحد يأكل مال الآخر، فسنوضحه بالمثل الآتي : لنفترض أن تلميذا قال لمدرسه : يا أستاذ قلمي كان هنا وضاع. فيقول الأستاذ للتلاميذ : لا تسرقوا أقلامكم، فهل معنى ذلك أن الأستاذ يقول : لا يسرق كل واحد قلمه أو لا يسرق كل واحد قلم أخيه، إذن فيكون المعنى الثاني﴿ ولا تأكلوا أموالكم ﴾، أي لا يأكل كل واحد منك مال أخيه بالباطل.
وكيف يقول :" أموالكم " ؟ ومادام مالهم فليس عليهم حرج ؟ لا ؛ لأن معناها المقصود : لا يأكل كل واحد منكم مال أخيه. ولماذا لم يقل ذلك وقال :" أموالكم " ؟ لأن عادة الأوامر من الحق ليست موجهة إلى طائفة خلقت على أن تكون آكلة، وطائفة خلقت على أن تكون مأكولة، بل كل واحد عرضة في مرة أن يكون آكلا لمال غيره ؛ ومرة أخرى يكون ماله مأكولا. فأنا إذا أكلت مال غيري فسوف يأكل غيري مالي. فأكون قد عملت له أسوة ويأكل مالي أيضا، فكأنه سبحانه عندما يقول لك : لا تأكل مالك إنما ليحمي لك مالك.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يصنع من المجتمع الإيماني مجتمعا واحدا. ويقول إن المال الذي عند كل واحد هو للكل. وإنك إن حافظت على مال غيرك حافظ غيرك على مالك. وأنت إن اجترأت على مال غيرك فسيجترئ المجموع على مالك. وأنت ساعة تأكل مال واحد تجرئ آلاف الناس على أن يأكلوا مالك. وحين لا تأكل مال غيرك كأنك لم تأكل مالك.
﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾وكلمة " أكل " معناها : الأخذ ؛ لأن الأكل هو أهم ظاهرة من ظواهر الحياة ؛ لأنها الظاهرة المتكررة، فقد تسكن في بيت واحد طوال عمرك، وتلبس جلبابا كل ستة أشهر، لكن أنت تتناول الأكل كل يوم، وحينما نزلت الآية قال المسلمون : نحن لا نأكل أموالنا بالباطل. وتحرجوا أن يأكلوا عند إخوانهم. وبعد ذلك رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوضح أن أكل التكارم ليس بالباطل أنزل الله قوله :
﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ﴾ ( من الآية ٦١ سورة النور ).
هذه رفعت عندهم الحرج، إنما ساعة سمعوا أكل الباطل قالوا : لا آخذ حاجة من أحد إلا بمقابل.
وما هو " الباطل " ؟.. الباطل هو أن تأخذ الشيء بغير حقه. مثال ذلك الربا، لأن معنى " ربا " أن واحدا عنده فائض وآخر يحتاج، والمحتاج ليس عنده الأصل أنطلب منه أن يرد الأصل وزيادة، ويعطى الزيادة لمن عنده ؟.
كيف يتأتى هذا ؟ هذا هو الآخذ بالربا، أو الأخذ بالسرقة، بالاختلاس أو بالرشوة أو بالغش في السلع، كل ذلك هو آكل مال بالباطل، وساعة تريد أن تأكل مالا بالباطل ؛ كأنك تريد أن تتمتع بثمرة عمل غيرك، وأنت بذلك تتعود على التمتع بثمرة عمل غيرك، وتضمحل عندك قدرة العمل ويصير أخذك من غيرك. أخذا لماله كرها وبغير وجه حق وبذلك تتعطل حركة متحرك في الحياة وهو ذلك العاطل " البلطجي "، ويخاف المتحرك في الحياة وهو من تفرض عليه الإتاوة فيقل ويضعف نشاطه في الحياة، كيف يكون شكل هذا المجتمع ؟ إن المجتمع في هذه الحالة سيعاني من كرب وصعوبات في الحياة.
فقوله سبحانه :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ هو أمر لكل مسلم : لا تراب، ولا تسرق، ولا تغش، ولا تدلس، ولا تلعب ميسرا، ولا تختلس، ولا ترتش ؛ لأن كل هذه الأمور هي أكل أموال بالباطل. وعندما ندقق في مسألة لعب الميسر نجد أمرا عجيبا ؛ فالذين يلعبون الميسر يدعون أنهم أصدقاء، وينتظر بعضهم بعضا ويأكلون معا، وكل واحد منهم يجلس أمام الآخر وهو حريص أن يأخذ ما في جيبه، فأي صداقة هذه ؟.
إذن فساعة يقول الحق :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾، وساعة يأمرك الحق : إياك أن يصعب عليك التكليف ؛ لأنه شاق عليك، ولكن قدر ما يأخذه منك التكليف من تضييق حركة تصرفك، وما يعطيك التكليف من تضييق حركة الآخرين، الحق قال لك : لا تأخذ مال غيرك لكي لا يأخذ غيرك مالك، وبذلك تكسب أنت ويكسب كل المجتمع، فحين يصدر أمر لإنسان أن يكف يده عن السرقة فهو أمر للناس جميعا كي يكفوا عن سرقة هذا الإنسان ؛ لذلك فحين تستقبل أي حكم عن الله
وعندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفت خلقه إلى أن يؤمنوا به يلفتهم إلى الكون، ويلفتهم إلى ما خلق الله من ظواهر ليتأكدوا أن هذه الظواهر لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا عن قادر عليم حكيم، فإذا ما انتهوا إلى الإيمان به استقبلوا التكليف الذي يتمثل في افعل كذا ولا تفعل كذا، فحين يخاطبهم بالتكليف يجعل لأمر التكليف مقدمة هي أنك ألزمت نفسك في أن تدخل إلى هذا التكليف، ولم يرغمك الله على أن تكون مكلفا، وإنما أنت دخلت إلى الإيمان بالله باختيارك وطواعيتك. وما دمت قد دخلت على الإيمان باختيارك وطواعيتك فاجعل إيمانك بالله حيثية كل حكم يحكم به الله عليك. من افعل كذا ولا تفعل كذا، ولا تقل : لماذا أفعل كذا يا رب، ولماذا لا أفعل كذا يا رب ؟ بل يكفي أن تقول : الذي آمنت به إلها حكيما قادرا هو سبحانه مأمون على أن يأمرني وأن ينهاني. ولذلك يجيء الحق دائما قبل آيات التكليف بقوله سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فهو لم يكلف مطلق الناس، وإنما كلف من آمن به.
إذن فحين يكلف من آمن به لا يكون قد اشتط وجار عليه لأنه قد آمن به بمحض اختياره.
وإذا لفت إنسانا ونبهته وأمرته بأمر تكليفي مثل صل، أو امتنع عن فعل المنكر فقال لك :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ هنا يجب أن تقول له : أنت لم تفهم معنى قول الحق :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ فأصل التدين والإيمان بالله ألا يكرهك أحد عليه، بل ادخل إلى الإيمان بالله باختيارك، لكن إذا دخلت إلى الإيمان بالله فالتزم بالسماع من الله في " افعل " و " لا تفعل " فحين يقول الحق :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فهو يعطينا حيثيات التكليف، أي علة الحكم. فعلة الحكم أنك آمنت بالله إلها حكيما قادرا.
وما دمت آمنت بالله إلها حكيما قادرا فسلم زمام الأوامر والنواهي له سبحانه، فإن وقفت في أمر بشيء أو نهي عن شيء فراجع إيمانك بالله.
إذن فقوله :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ أي أنك حر على أن تدخل في الإيمان بالله أو لا تدخل، لكن إذا ما دخلت فإياك أن تكسر حكما من أحكام الله الذي آمنت به، وإن كسرت حكما من أحكام الله تدخل معنا في إشكال ارتكاب السيئات أو الذنوب.
والأحكام التي سبقت للذين آمنوا هي أحكام تعلقت بالأعراض وبإنشاء الأسرة على نظام طاهر نقي كي يأتي التكاثر نقيا طاهرا، وتكلمت الآيات عن المحرمات من النساء وكذلك المحللات ؛ وهاهو ذا سبحانه يتكلم عن المال، وهو الذي يقيم الحياة، والمال كما نعرف ثمرة الجهد والمشقة، وكل ما يتمول يعتبر مالا، إلا أن المال ينقسم قسمين : مال يمكن أن تنتفع به مباشرة، فهناك من يملك الطعام، وآخر يملك الشراب، وثالث يملك أثوابا، وهذا نوع من المال ينتفع به مباشرة، وهناك نوع آخر من المال، وهو " النقد " ولا ينتفع به مباشرة، بل ينتفع به بإيجاد ما ينتفع به مباشرة.
وهكذا ينقسم المال إلى رزق مباشر ورزق غير مباشر. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة الحياة، لأنه بحماية حركة الحياة يغري المتحرك بأن يتحرك ويزداد حركة. ولو لم يحم الحق حركة الحياة، وثمرة حركة الحياة فماذا يقع ؟ تتعطل حركة الحياة.
وإننا نلاحظ أن كل مجتمع لا يؤمن فيه على الغاية والثمرة من عمل الإنسان تقل حركة العمل فيه، ويعمل كل واحد على قدر قوته. ويقول لنفسه : لماذا أعمل ؟ لأنه غير آمن. لكن إذا كان آمنا على ثمرة حركته يغريه الأمن على ماله على أن يزيد في حركة العمل، وحين تزيد حركة العمل فالمجتمع ينتفع وإن لم يقصد المتحرك. فليس ضروريا أن يقصد الإنسان بكل حركته أن ينفع المجتمع. لا، اجعله يعمل لنفع نفسه.
لقد ضربنا هذا المثل سابقا : إنسان مثلا عنده آلاف الجنيهات وبعد ذلك وضعها في خزانة ثم تساءل : لماذا أضعها في خزانة ؟ لماذا لا أبني بها بيتا آخر وأكري منه شقتين، فسيأتيني منه عائد ؟ هل كان المجتمع في بال مثل هذا الإنسان ؟ لا، إن باله مشغول بمصلحته ؛ لذلك فلنجعل مصلحة كل إنسان في باله، وهنا سيستفيد المجتمع بحركته قصد أو لم يقصد. لأنه ساعة يأتي ليحفر الأساس سيعطى أناسا أجورهم ؛ وساعة يأتي بالطوب يشتريه بثمن، وساعة يبنى يعطى المهندس والعمال أجورهم ؛ لذلك أقول : اعمل لنفسك في ضوء شرع الله، وسينتفع المجتمع قهرا عنك.
ومن العجيب أنك تريد أن تنفع نفسك فيبين لك ربنا : أنت ستنفع غيرك قبل أن تنتفع بعائد المنزل الذي بنيته، ولا تظن أن أحدا سيأخذ رزق ربنا ولن يجريه على الخلق، لا، إن المجتمع سينتفع بالرغم منك.
إذن فمن حظ المجتمع أن نصون حركة الحياة. ونؤمن كل متحرك في الحياة على ماله. لكن إن كنا حاكمين يجب أن تكون أعيننا مبصرة : أيكسب من حل أم لا ؟ فإذا كان الكسب حلالا نشكره، اما إذا كان يكسب من حرام، فنحن نسائله، وإن عمل على غير هذا توقفت حركة الحياة، وإن توقفت حركة الحياة فهذا أمر ضار بالذين لا يقدرون على الحركة، لماذا ؟ لأن الله قسم المواهب على الناس، فليس كل واحد من الناس يملك الطموح الحركي، ولا يملك كل إنسان فكرا يخطط به، فقد لا يكون في المجتمع إلا قلة تخطط، والباقون هم جوارح تنفعل للفكر المخطط، والفكر يعمل لجوارح كثيرة، فكذلك يكون هناك مفكر واحد هو الذي يضع خطة ينتفع بها الكثير من الناس.
إذن فلا بد أن نرعى حركة المتحرك وننميها ؛ لأن المجتمع ينتفع منها، وإن لم يقصد المتحرك إلا مصلحة نفسه، صحيح أن الذي ليس في باله إلا نفسه إنما يحبط ثواب عمله، وصحيح أن من يضع الناس في باله إنما يعطى ثمرة عمله ويأخذ ثوابا أيضا من الله.
والحق سبحانه وتعالى يأتي في مسائل المال ويوضحها توضيحا تاما ليحمي حركة الحياة ويغري الناس بالحركة وبذلك يتعدد المتحركون وتتعدد الحركات، ويستفيد المجتمع، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ وساعة تجد أمرا لجماعة في جمع مأمور به فقسم الأفراد على الأفراد.
مثال ذلك : عندما نقول لجماعة : اركبوا سياراتكم أي : ليركب كل واحد منكم سيارته، والمدرس يدخل الفصل ويقول للتلاميذ : أخرجوا كتبكم. أي أن كل تلميذ عليه أن يخرج كتابه. فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، وقول الحق :﴿ لا تأكلوا ﴾ فهذا أمر لجمع. و﴿ أموالكم ﴾ أيضا جمع، فيكون معناه : لا يأكل كل واحد ماله، وكيف لا يأكل كل واحد منكم ماله ؟ يوضح الحق : " بالباطل ". فيكون مطلوبا من كل واحد منكم ألا يأكل ماله بالباطل. والإنسان يأكل الشيء لينتفع به. والحق يوصيك ويأمرك : إياك أن تصرف قرشا من مالك وتضيعه إلا في حق، هذا إذا كنا سنقابل المفرد، فلا يأكل واحد منكم ماله بالباطل، بل يوجهه إلى الأمر النافع، الذي ليس فيه حرمة، والذي لا يأتي بعذاب في الآخرة.
وإذا كان المراد أن لا أحد يأكل مال الآخر، فسنوضحه بالمثل الآتي : لنفترض أن تلميذا قال لمدرسه : يا أستاذ قلمي كان هنا وضاع. فيقول الأستاذ للتلاميذ : لا تسرقوا أقلامكم، فهل معنى ذلك أن الأستاذ يقول : لا يسرق كل واحد قلمه أو لا يسرق كل واحد قلم أخيه، إذن فيكون المعنى الثاني﴿ ولا تأكلوا أموالكم ﴾، أي لا يأكل كل واحد منك مال أخيه بالباطل.
وكيف يقول :" أموالكم " ؟ ومادام مالهم فليس عليهم حرج ؟ لا ؛ لأن معناها المقصود : لا يأكل كل واحد منكم مال أخيه. ولماذا لم يقل ذلك وقال :" أموالكم " ؟ لأن عادة الأوامر من الحق ليست موجهة إلى طائفة خلقت على أن تكون آكلة، وطائفة خلقت على أن تكون مأكولة، بل كل واحد عرضة في مرة أن يكون آكلا لمال غيره ؛ ومرة أخرى يكون ماله مأكولا. فأنا إذا أكلت مال غيري فسوف يأكل غيري مالي. فأكون قد عملت له أسوة ويأكل مالي أيضا، فكأنه سبحانه عندما يقول لك : لا تأكل مالك إنما ليحمي لك مالك.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يصنع من المجتمع الإيماني مجتمعا واحدا. ويقول إن المال الذي عند كل واحد هو للكل. وإنك إن حافظت على مال غيرك حافظ غيرك على مالك. وأنت إن اجترأت على مال غيرك فسيجترئ المجموع على مالك. وأنت ساعة تأكل مال واحد تجرئ آلاف الناس على أن يأكلوا مالك. وحين لا تأكل مال غيرك كأنك لم تأكل مالك.
﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾وكلمة " أكل " معناها : الأخذ ؛ لأن الأكل هو أهم ظاهرة من ظواهر الحياة ؛ لأنها الظاهرة المتكررة، فقد تسكن في بيت واحد طوال عمرك، وتلبس جلبابا كل ستة أشهر، لكن أنت تتناول الأكل كل يوم، وحينما نزلت الآية قال المسلمون : نحن لا نأكل أموالنا بالباطل. وتحرجوا أن يأكلوا عند إخوانهم. وبعد ذلك رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوضح أن أكل التكارم ليس بالباطل أنزل الله قوله :
﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ﴾ ( من الآية ٦١ سورة النور ).
هذه رفعت عندهم الحرج، إنما ساعة سمعوا أكل الباطل قالوا : لا آخذ حاجة من أحد إلا بمقابل.
وما هو " الباطل " ؟.. الباطل هو أن تأخذ الشيء بغير حقه. مثال ذلك الربا، لأن معنى " ربا " أن واحدا عنده فائض وآخر يحتاج، والمحتاج ليس عنده الأصل أنطلب منه أن يرد الأصل وزيادة، ويعطى الزيادة لمن عنده ؟.
كيف يتأتى هذا ؟ هذا هو الآخذ بالربا، أو الأخذ بالسرقة، بالاختلاس أو بالرشوة أو بالغش في السلع، كل ذلك هو آكل مال بالباطل، وساعة تريد أن تأكل مالا بالباطل ؛ كأنك تريد أن تتمتع بثمرة عمل غيرك، وأنت بذلك تتعود على التمتع بثمرة عمل غيرك، وتضمحل عندك قدرة العمل ويصير أخذك من غيرك. أخذا لماله كرها وبغير وجه حق وبذلك تتعطل حركة متحرك في الحياة وهو ذلك العاطل " البلطجي "، ويخاف المتحرك في الحياة وهو من تفرض عليه الإتاوة فيقل ويضعف نشاطه في الحياة، كيف يكون شكل هذا المجتمع ؟ إن المجتمع في هذه الحالة سيعاني من كرب وصعوبات في الحياة.
فقوله سبحانه :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ هو أمر لكل مسلم : لا تراب، ولا تسرق، ولا تغش، ولا تدلس، ولا تلعب ميسرا، ولا تختلس، ولا ترتش ؛ لأن كل هذه الأمور هي أكل أموال بالباطل. وعندما ندقق في مسألة لعب الميسر نجد أمرا عجيبا ؛ فالذين يلعبون الميسر يدعون أنهم أصدقاء، وينتظر بعضهم بعضا ويأكلون معا، وكل واحد منهم يجلس أمام الآخر وهو حريص أن يأخذ ما في جيبه، فأي صداقة هذه ؟.
إذن فساعة يقول الحق :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾، وساعة يأمرك الحق : إياك أن يصعب عليك التكليف ؛ لأنه شاق عليك، ولكن قدر ما يأخذه منك التكليف من تضييق حركة تصرفك، وما يعطيك التكليف من تضييق حركة الآخرين، الحق قال لك : لا تأخذ مال غيرك لكي لا يأخذ غيرك مالك، وبذلك تكسب أنت ويكسب كل المجتمع، فحين يصدر أمر لإنسان أن يكف يده عن السرقة فهو أمر للناس جميعا كي يكفوا عن سرقة هذا الإنسان ؛ لذلك فحين تستقبل أي حكم عن الله
ويقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ٣٠ ﴾.
" ذلك " : " ذا " وحدها للإشارة، و " الكاف " للخطاب، والخطاب إذا أفرد، فالمراد به خطاب الله لرسوله، والمؤمنون في طي ذلك الخطاب. ومرة يقول : " ذلكم " أي انه يخاطبنا نحن، مثل :
﴿ ذلكم أزكى لكم ﴾ ( من الآية ٢٣٢ سورة البقرة ).
وذلك إشارة لما تقدم مباشرة في الآية الخاصة بقتل النفس، وكذلك ما قبلها وهو أكل الأموال. والبعض يأخذها لكل ما تقدم من أول قوله :﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ﴾، والبعض الآخر يأخذها من أول الأوامر والنواهي من أول السورة إلى هنا، وكلها تصح.
﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما ﴾. والعدوان هو التعدي، والتعدي قد يكون ظلما وقد يكون نسيانا. ومن يتعدى بالظلم يكون عارفا ويأخذ حق غيره، أما التعدي بالنسيان فيقتضي أن يراجع الإنسان سلوكه، لماذا ؟ لأن العاقبة مريرة.
وقوله تعالى :﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ﴾ والفعل إذا أسند لفاعله أخذ قوته من فاعله. فعندما يقول لك أحد : إن عملت هذه فابني الصغير سيصفعك صفعة، وهو قول يختلف عن التهديد بأن يضربك شاب قوي، لماذا ؟ لأن قوة الحدث نأخذها من فاعل الحدث، من الذي يصلى المعتدى النار ؟ إنه الله، وسبحانه سيجعله يصطلي بها.
ويقول الحق :﴿ وكان ذلك على الله يسيرا ﴾ لأن فعل الله ليس عن معالجة بل ينفذ فورا. ونعلم أن فعل المعالجة هو كل فعل يحتاج لوقت، فهناك عمل يحتاج لساعة وكل دقيقة من هذه الساعة تأخذ جزئية من العمل، وعندما تقسم العمل لستين جزئية، ينتهي العمل في ساعة، وإن كان العمل ينتهي في عشرة أيام تقول له : أسقط أوقات الراحة وعدم مزاولة العمل ؟، وقسم العمل على الباقي من الوقت. هذا هو ما يسمى علاجا ؛ لأن ذلك من عمل الإنسان، لكن عمل الله يختلف، فالحق يقول للشيء :﴿ كن فيكون ﴾ إذن فكل فعل على الله يسير مادامت المسألة :﴿ كن فيكون ﴾ قال سبحانه :
﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾ ( من الآية ٢٨ سورة لقمان ).
وسبحانه يوضح : أنا لا أوجد كل واحد مثلما خلقت آدم وأشكله وأخلقه ثم أبعثه، لا، بل كل الخلق كنفس واحدة.
﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ٣٠ ﴾.
" ذلك " : " ذا " وحدها للإشارة، و " الكاف " للخطاب، والخطاب إذا أفرد، فالمراد به خطاب الله لرسوله، والمؤمنون في طي ذلك الخطاب. ومرة يقول : " ذلكم " أي انه يخاطبنا نحن، مثل :
﴿ ذلكم أزكى لكم ﴾ ( من الآية ٢٣٢ سورة البقرة ).
وذلك إشارة لما تقدم مباشرة في الآية الخاصة بقتل النفس، وكذلك ما قبلها وهو أكل الأموال. والبعض يأخذها لكل ما تقدم من أول قوله :﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ﴾، والبعض الآخر يأخذها من أول الأوامر والنواهي من أول السورة إلى هنا، وكلها تصح.
﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما ﴾. والعدوان هو التعدي، والتعدي قد يكون ظلما وقد يكون نسيانا. ومن يتعدى بالظلم يكون عارفا ويأخذ حق غيره، أما التعدي بالنسيان فيقتضي أن يراجع الإنسان سلوكه، لماذا ؟ لأن العاقبة مريرة.
وقوله تعالى :﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ﴾ والفعل إذا أسند لفاعله أخذ قوته من فاعله. فعندما يقول لك أحد : إن عملت هذه فابني الصغير سيصفعك صفعة، وهو قول يختلف عن التهديد بأن يضربك شاب قوي، لماذا ؟ لأن قوة الحدث نأخذها من فاعل الحدث، من الذي يصلى المعتدى النار ؟ إنه الله، وسبحانه سيجعله يصطلي بها.
ويقول الحق :﴿ وكان ذلك على الله يسيرا ﴾ لأن فعل الله ليس عن معالجة بل ينفذ فورا. ونعلم أن فعل المعالجة هو كل فعل يحتاج لوقت، فهناك عمل يحتاج لساعة وكل دقيقة من هذه الساعة تأخذ جزئية من العمل، وعندما تقسم العمل لستين جزئية، ينتهي العمل في ساعة، وإن كان العمل ينتهي في عشرة أيام تقول له : أسقط أوقات الراحة وعدم مزاولة العمل ؟، وقسم العمل على الباقي من الوقت. هذا هو ما يسمى علاجا ؛ لأن ذلك من عمل الإنسان، لكن عمل الله يختلف، فالحق يقول للشيء :﴿ كن فيكون ﴾ إذن فكل فعل على الله يسير مادامت المسألة :﴿ كن فيكون ﴾ قال سبحانه :
﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾ ( من الآية ٢٨ سورة لقمان ).
وسبحانه يوضح : أنا لا أوجد كل واحد مثلما خلقت آدم وأشكله وأخلقه ثم أبعثه، لا، بل كل الخلق كنفس واحدة.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ٣١ ﴾.
هذه الآية هي إحدى ثماني آيات قال عنها ابن عباس رضي الله عنه : في هذه السورة سورة النساء ثماني آيات خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، وقلنا : إن هذه الآيات تبدأ بقوله سبحانه :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾، ﴿ والله يريد ان يتوب عليكم ﴾، ﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾، ثم جاءت :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾. و " الاجتناب " ليس معناه عدم مزاولة الحدث أو الفعل، ولكن عدم الاقتراب من مظان الحدث أو الفعل حتى يسد المؤمن على نفسه مخايلة شهوة المعصية له وتصوره لها وترائيها له.
هذه الآيات الكريمات كانت خيرا لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، لأنها تحمي من حمق الاختيار الذي وجد في الإنسان حين لا يلتزم بمنهج الله، ولو أن الإنسان كان مسيرا ومكرها على الفعل لارتاح من هذا الاختيار. وتعب الإنسان جاء من ناحية أن اغتر بميزته على سائر خلق الله، والميزة التي ميز الله بها الإنسان هي العقل الذي يختار به بين البديلات. بينما سائر الأجناس كلها رضيت من الله أن تكون مسخرة مقهورة على ما جعلها له بدون اختيار. ونعرف أن الحق قال :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ٧٢ ﴾ ( سورة الأحزاب ).
فالإنسان قد ظلم نفسه، لأنه أرجح نفسه عند اختيار الشهوة أو اختيار مرادات منهج الله، بينما المقهورون أو المسخرون ليست عندهم هذه المسألة. وكل كائن منهم يقوم بعمله آليا وارتاح من حمق الاختيار فهذه الآيات طمأنت الإنسان على أنه إن حمق اختياره في شيء فالله يريد أن يبصره، والله يريد ان يتوب عليه، والله يريد أن يخفف عنه. والله يريد إن اجتنب الكبائر أن يرفع عنه السيئات ويكفرها. كل هذه مطمئنات للنفس البشرية حتى لا تأخذها مسألة اليأس من حمق الاختيار، فيوضح : أنا خالقك وأعرف أنك ضعيف لأن عندك مسلكين : كل مسلك يغريك، تكليف الله بما فيه من الخير لك وما تنتظره من ثواب الله في الآخرة يغرى، وشهوة النفس العاجلة تغرى.
وما دامت المسألة قد تخلخلت بين اختيار واختيار فالضعف ينشأ ؛ لذلك يوضح سبحانه : أنا أحترم هذا فيك لأنه وليد الاختيار، وأنا الذي وهبت لك هذا الاختيار.
والحق حين وهب الاختيار لهذا الجنس الذي هو سيد الأجناس كلها، يحب أن يأتي لربه راغبا محبا : لأن هناك فارقا بين ان يسخر المسخر ولا يستطيع أن ينفلت عما قدر له أن يعمله، وتلك تؤديها صفة القدرة لله، لكن لم تعط لله صفة المحبوبية ؛ لأن المحبوبية أن تكون مختارا أن تطيع ومختارا أن تعصي ثم تطيع، هذه صفة المحبوبية، والله يريد من الإنسان أن يثبت بطاعته صفة المحبوبية له سبحانه، فالإنسان المحب لمولاه برغم أنه مختار أن يفعل الطاعة أولا يفعلها ينحاز بالإيمان إلى جانب الطاعة.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾ كان الله بعد تكليفاته في أمور الأعراض والأموال وتكليفاته في الدماء من قتل النفس وغيرها، أوضح : إياكم أن تستقبلوا الأشياء استقبالا يجعلكم تيأسون من أنكم قد تعجزون عن التكليف لبعض الأمور، فأنا سأرضى باجتناب الكبائر من المساوئ : فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، والجمعة للجمعة كفارة، ومن رمضان لرمضان كفارة، لكن بشرط ألا يكون عندكم إصرار على الصغائر لماذا ؟ لأنك إن قدرت ذلك فقدر أنك لا تقدر على استبقاء حياتك إلى أن تستغفر، فلا تقل : سأفعل الذنب، ثم استغفر هذه لا تضمنها، وأيضا تكون كالمستهزئ بربه.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ في السيئات يقول :﴿ نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ وقلنا : إن " الكفر " هو " الستر " أي يسترها ومعنى نسترها يعني لا نعاقب عليها، فالتكفير إماطة للعقاب، والإحباط إماطة للثواب. فإن ارتكب إنسان أمرا يستحق عليه عقابا وقد اجتنب الكبائر يكفر عنه الله أي يضع ويستر عنه العقاب، أما من عمل حسنة ولم يقبلها الله، فهو يحبطها، إذن فالتكفير كما قلنا إماطة للعقاب، و " والإحباط " إماطة للثواب كما في قوله :
﴿ فأولئك حبطت أعمالهم ﴾ ( من الآية ٢١٧ سورة البقرة ).
أي ليس لهم على تلك الأعمال ثواب ؛ لأنهم فعلوها وليس في بالهم الذي يعطي الثواب وهو الله. بل كان في بالهم الخلق، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( فعلت ليقال وقد قيل ).
أنت فعلت ليقال وقد قيل، وقالوا عنك إنك محسن كبير، قالوا : إنك بنيت المسجد، وقرءوا اللافتة التي وضعتها على المسجد وسط احتفال كبير. ويقول الحق :
﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ٢٣ ﴾ ( سورة الفرقان ).
أنت فعلت ليقال وقد قيل ؛ ولذلك فالذين عملوا مثل هذه ووضعوا لافتات من رخام عليهم أن يفطنوا لهذا الأمر، وإن كان الواحد منهم حريصا على أنه يأخذ الثواب من يد الله فليرفع هذه اللافتة ويسترها وتنتهي المسألة، فالله سبحانه وتعالى يحب ممن يتصدق أن يكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم :
( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )١.
فأنت حين تتصدق لماذا تفضح من يتقبل الصدقة. والحق يقول :﴿ ان تجتنبوا ﴾، و " الاجتناب " هو إعطاء الشيء جانبا. ولذلك يقولون : فلان ازور جانبه عني، أي أنه عندما قابلني أعطاني جانبه، والمراد في قوله :﴿ إن تجتنبوا ﴾ هو التباعد، والحق ساعة يطلب منك ألا تصنع الحدث ويطلب منك بأسلوب آخر أن تجتنبه، فهذا يدل على أن الاجتناب أبلغ، لأن الاجتناب معناه ألا تكون مع المنهي عنه في مكان واحد فعندما يقول الحق :
﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة الحج ).
وعندما يقول :
﴿ واجتنبوا قول الزور ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة الحج ).
فاجتنبوه أي : ابتعدوا عنه. لماذا ؟ لأن حمى الله محارمه..
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه.. }٢.
والحق يقول :
﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ ( من الآية ٩٠ سورة المائدة ).
واجتنابه يكون بألا توجد معه في مكان واحد يخايلك ويشاغلك ويتمثل لك، فعندما تكون مثلا في منطقة الذين يشربون الخمر يقول لك الحق : اجتنبها. أي لا تذهب إليها ؛ لأن الخمر عندما توجد أمامك وترى من يشربون وهم مستريحون مسرورون.. فقد تشربها، لكن عندما تجتنب الخمر ومجالسها فأنت لا تقع في براثنها وإغرائها، ولذلك قلنا : إن الاجتناب أبلغ من التحريم، وهناك أناس يبررون الخمر لأنفسهم ويقولون : إن الخمر لم يرد فيها تحريم بالنص ! ! نقول لكل واحد منهم : حسبك أن شرب الخمر قرن بالرجس من الأوثان، فالحق يقول :
﴿ واجتنبوا الطاغوت ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة النحل ).
فاجتناب الطاغوت ليس معناه ألا تعبده، بل إياك أن تراه، إذن فاجتناب الخمر ليس بألا تشربها، بل إياك أن تكون في محضرها.
" والكبائر " جميع " كبيرة "، ومادام فيه " كبيرة " يكون هناك مقابل لها وهي " صغيرة " و " أصغر " فالأقل من " الكبيرة "، ليس " صغيرة " فقط ؛ لأن فيه " صغيرة "، وفيه " أصغر " من " الصغيرة " وهو " اللمم ".
والحق يقول :" إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } و " السيئات " منوطة بالأمر الصغير وبالأصغر، لكن هذه المسألة وقف فيها العلماء، قالوا : معنى ذلك أننا سنغري الناس بفعل السيئات ماداموا قد اجتنبوا الكبائر فقد يفعلون الصغائر. نقول : لا، فالإصرار على الصغيرة كبيرة من الكبائر ؛ لذلك لا تجز الصغائر لنفسك ؛ فالحق يكفر ما فلت منك فقط ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ ( من الآية ١٧ سورة النساء ).
يفعلون الأمر السيئ بدون ترتيب وتقدير سابق وهو سبحانه قال بعد ذلك :
﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ﴾ ( من الآية ١٨ سورة النساء ).
إذن فمعنى أنك تصر على صغيرة وتكررها إنها بذلك تكون كبيرة، وإن لم نجتنب الكبائر ووقعنا فيها فماذا يكون ؟. يقول العلماء الذين جعلهم الله هبات لطف ورحمة على الخلق : لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. فإن أخذت هذه فخذ تلك، خذ الاثنتين، فلا كبيرة مع الاستغفار، ومقابلها لا صغيرة مع الإصرار. وحينما أراد العلماء أن يعرفوا الكبيرة قالوا : الكبيرة هي ما جاء فيها وعيد من الله بعذاب الآخرة، أو جاء فيها عقوبة كالحد مثلا فهذه كبيرة، والتي لم يأت فيها حد فقد دخلت في عداد السيئة المغفورة باجتناب الكبيرة أو الصغيرة أو الأصغر.
وأن سيدنا عمرو بن عبيد عالم من علماء البصرة وزاهد من زهادها، وهو الذي قال فيه أحد الخلفاء : كلهم طالب صيد غير عمرو بن عبيد، أي أن كل العلماء يذهبون إلى هناك ليأخذوا هبات وهدايا إلا عمرو بن عبيد، إذن فقد شهد له، هذا العالم عندما أراد أن يعرف مدلول الكبيرة، وأصر ألا يعرف مدلولها بكلام علماء، بل قال : أريد أن أعرفها من نص القرآن، الذي يقول لي على الكبيرة يأتيني بنص من القرآن. ودخل ابن عبيد البصري على سيدنا أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، ونعرف سيدنا جعفر الصادق وهو أولى الناس بأن يسأل ؛ لأنه عالم أهل البيت، ولأنه قد بحث في كنوز القرآن وأخرج منها الأسرار وعاش في رحاب الفيض، فقال ابن عبيد : هذا هو من أسأله، فلما سلم وجلس قرأ قول الله سبحانه :
﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة النجم ).
ثم سكت ! ! فقال له سيدنا أبو عبد الله جعفر الصادق : ما أسكتك يا بن عبيد ؟ قال : أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله.
وانظروا إلى الثقة بمعرفة كنوز القرآن، ساعة قال له :" أحب أن اعرف الكبائر من كتاب الله ". قال أبو عبد الله : نعم، أي على خبير بها سقطت، أي جئت لمن يعرفها، ثم قال :" الشرك بالله، قال تعالى :
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ ( من الآية ٤٨ سورة النساء ).
وقال تعالى :
﴿ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ﴾ ( من الآية ٧٢ سورة المائدة ).
وأضاف : واليأس من رحمة الله فإن الحق قال :
﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ ( من الآية ٨٧ سورة يوسف ).
وهكذا جاء سيدنا أبو عبد الله جعفر الصادق بالحكم وجاء بدليله، وأضاف : ومن أمن مكر الله ؛ لأنه سبحانه قال :
﴿ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ ( من الآية ٩٩ سورة الأعراف ).
والكبيرة الرابعة : عقوق الوالدين ؛ لأن الله وصف صاحبها بأنه جبار شقي، قال تعالى :
﴿ وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ٣٢ ﴾ ( سورة مريم ).
وقتل النفس. قال تعالى :
﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾ ( من الآية ٩٣ سورة النساء ).
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. قال تعالى :
{ إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعن
هذه الآية هي إحدى ثماني آيات قال عنها ابن عباس رضي الله عنه : في هذه السورة سورة النساء ثماني آيات خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، وقلنا : إن هذه الآيات تبدأ بقوله سبحانه :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾، ﴿ والله يريد ان يتوب عليكم ﴾، ﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾، ثم جاءت :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾. و " الاجتناب " ليس معناه عدم مزاولة الحدث أو الفعل، ولكن عدم الاقتراب من مظان الحدث أو الفعل حتى يسد المؤمن على نفسه مخايلة شهوة المعصية له وتصوره لها وترائيها له.
هذه الآيات الكريمات كانت خيرا لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، لأنها تحمي من حمق الاختيار الذي وجد في الإنسان حين لا يلتزم بمنهج الله، ولو أن الإنسان كان مسيرا ومكرها على الفعل لارتاح من هذا الاختيار. وتعب الإنسان جاء من ناحية أن اغتر بميزته على سائر خلق الله، والميزة التي ميز الله بها الإنسان هي العقل الذي يختار به بين البديلات. بينما سائر الأجناس كلها رضيت من الله أن تكون مسخرة مقهورة على ما جعلها له بدون اختيار. ونعرف أن الحق قال :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ٧٢ ﴾ ( سورة الأحزاب ).
فالإنسان قد ظلم نفسه، لأنه أرجح نفسه عند اختيار الشهوة أو اختيار مرادات منهج الله، بينما المقهورون أو المسخرون ليست عندهم هذه المسألة. وكل كائن منهم يقوم بعمله آليا وارتاح من حمق الاختيار فهذه الآيات طمأنت الإنسان على أنه إن حمق اختياره في شيء فالله يريد أن يبصره، والله يريد ان يتوب عليه، والله يريد أن يخفف عنه. والله يريد إن اجتنب الكبائر أن يرفع عنه السيئات ويكفرها. كل هذه مطمئنات للنفس البشرية حتى لا تأخذها مسألة اليأس من حمق الاختيار، فيوضح : أنا خالقك وأعرف أنك ضعيف لأن عندك مسلكين : كل مسلك يغريك، تكليف الله بما فيه من الخير لك وما تنتظره من ثواب الله في الآخرة يغرى، وشهوة النفس العاجلة تغرى.
وما دامت المسألة قد تخلخلت بين اختيار واختيار فالضعف ينشأ ؛ لذلك يوضح سبحانه : أنا أحترم هذا فيك لأنه وليد الاختيار، وأنا الذي وهبت لك هذا الاختيار.
والحق حين وهب الاختيار لهذا الجنس الذي هو سيد الأجناس كلها، يحب أن يأتي لربه راغبا محبا : لأن هناك فارقا بين ان يسخر المسخر ولا يستطيع أن ينفلت عما قدر له أن يعمله، وتلك تؤديها صفة القدرة لله، لكن لم تعط لله صفة المحبوبية ؛ لأن المحبوبية أن تكون مختارا أن تطيع ومختارا أن تعصي ثم تطيع، هذه صفة المحبوبية، والله يريد من الإنسان أن يثبت بطاعته صفة المحبوبية له سبحانه، فالإنسان المحب لمولاه برغم أنه مختار أن يفعل الطاعة أولا يفعلها ينحاز بالإيمان إلى جانب الطاعة.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾ كان الله بعد تكليفاته في أمور الأعراض والأموال وتكليفاته في الدماء من قتل النفس وغيرها، أوضح : إياكم أن تستقبلوا الأشياء استقبالا يجعلكم تيأسون من أنكم قد تعجزون عن التكليف لبعض الأمور، فأنا سأرضى باجتناب الكبائر من المساوئ : فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، والجمعة للجمعة كفارة، ومن رمضان لرمضان كفارة، لكن بشرط ألا يكون عندكم إصرار على الصغائر لماذا ؟ لأنك إن قدرت ذلك فقدر أنك لا تقدر على استبقاء حياتك إلى أن تستغفر، فلا تقل : سأفعل الذنب، ثم استغفر هذه لا تضمنها، وأيضا تكون كالمستهزئ بربه.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ في السيئات يقول :﴿ نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ وقلنا : إن " الكفر " هو " الستر " أي يسترها ومعنى نسترها يعني لا نعاقب عليها، فالتكفير إماطة للعقاب، والإحباط إماطة للثواب. فإن ارتكب إنسان أمرا يستحق عليه عقابا وقد اجتنب الكبائر يكفر عنه الله أي يضع ويستر عنه العقاب، أما من عمل حسنة ولم يقبلها الله، فهو يحبطها، إذن فالتكفير كما قلنا إماطة للعقاب، و " والإحباط " إماطة للثواب كما في قوله :
﴿ فأولئك حبطت أعمالهم ﴾ ( من الآية ٢١٧ سورة البقرة ).
أي ليس لهم على تلك الأعمال ثواب ؛ لأنهم فعلوها وليس في بالهم الذي يعطي الثواب وهو الله. بل كان في بالهم الخلق، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( فعلت ليقال وقد قيل ).
أنت فعلت ليقال وقد قيل، وقالوا عنك إنك محسن كبير، قالوا : إنك بنيت المسجد، وقرءوا اللافتة التي وضعتها على المسجد وسط احتفال كبير. ويقول الحق :
﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ٢٣ ﴾ ( سورة الفرقان ).
أنت فعلت ليقال وقد قيل ؛ ولذلك فالذين عملوا مثل هذه ووضعوا لافتات من رخام عليهم أن يفطنوا لهذا الأمر، وإن كان الواحد منهم حريصا على أنه يأخذ الثواب من يد الله فليرفع هذه اللافتة ويسترها وتنتهي المسألة، فالله سبحانه وتعالى يحب ممن يتصدق أن يكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم :
( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )١.
فأنت حين تتصدق لماذا تفضح من يتقبل الصدقة. والحق يقول :﴿ ان تجتنبوا ﴾، و " الاجتناب " هو إعطاء الشيء جانبا. ولذلك يقولون : فلان ازور جانبه عني، أي أنه عندما قابلني أعطاني جانبه، والمراد في قوله :﴿ إن تجتنبوا ﴾ هو التباعد، والحق ساعة يطلب منك ألا تصنع الحدث ويطلب منك بأسلوب آخر أن تجتنبه، فهذا يدل على أن الاجتناب أبلغ، لأن الاجتناب معناه ألا تكون مع المنهي عنه في مكان واحد فعندما يقول الحق :
﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة الحج ).
وعندما يقول :
﴿ واجتنبوا قول الزور ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة الحج ).
فاجتنبوه أي : ابتعدوا عنه. لماذا ؟ لأن حمى الله محارمه..
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه.. }٢.
والحق يقول :
﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ ( من الآية ٩٠ سورة المائدة ).
واجتنابه يكون بألا توجد معه في مكان واحد يخايلك ويشاغلك ويتمثل لك، فعندما تكون مثلا في منطقة الذين يشربون الخمر يقول لك الحق : اجتنبها. أي لا تذهب إليها ؛ لأن الخمر عندما توجد أمامك وترى من يشربون وهم مستريحون مسرورون.. فقد تشربها، لكن عندما تجتنب الخمر ومجالسها فأنت لا تقع في براثنها وإغرائها، ولذلك قلنا : إن الاجتناب أبلغ من التحريم، وهناك أناس يبررون الخمر لأنفسهم ويقولون : إن الخمر لم يرد فيها تحريم بالنص ! ! نقول لكل واحد منهم : حسبك أن شرب الخمر قرن بالرجس من الأوثان، فالحق يقول :
﴿ واجتنبوا الطاغوت ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة النحل ).
فاجتناب الطاغوت ليس معناه ألا تعبده، بل إياك أن تراه، إذن فاجتناب الخمر ليس بألا تشربها، بل إياك أن تكون في محضرها.
" والكبائر " جميع " كبيرة "، ومادام فيه " كبيرة " يكون هناك مقابل لها وهي " صغيرة " و " أصغر " فالأقل من " الكبيرة "، ليس " صغيرة " فقط ؛ لأن فيه " صغيرة "، وفيه " أصغر " من " الصغيرة " وهو " اللمم ".
والحق يقول :" إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } و " السيئات " منوطة بالأمر الصغير وبالأصغر، لكن هذه المسألة وقف فيها العلماء، قالوا : معنى ذلك أننا سنغري الناس بفعل السيئات ماداموا قد اجتنبوا الكبائر فقد يفعلون الصغائر. نقول : لا، فالإصرار على الصغيرة كبيرة من الكبائر ؛ لذلك لا تجز الصغائر لنفسك ؛ فالحق يكفر ما فلت منك فقط ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ ( من الآية ١٧ سورة النساء ).
يفعلون الأمر السيئ بدون ترتيب وتقدير سابق وهو سبحانه قال بعد ذلك :
﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ﴾ ( من الآية ١٨ سورة النساء ).
إذن فمعنى أنك تصر على صغيرة وتكررها إنها بذلك تكون كبيرة، وإن لم نجتنب الكبائر ووقعنا فيها فماذا يكون ؟. يقول العلماء الذين جعلهم الله هبات لطف ورحمة على الخلق : لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. فإن أخذت هذه فخذ تلك، خذ الاثنتين، فلا كبيرة مع الاستغفار، ومقابلها لا صغيرة مع الإصرار. وحينما أراد العلماء أن يعرفوا الكبيرة قالوا : الكبيرة هي ما جاء فيها وعيد من الله بعذاب الآخرة، أو جاء فيها عقوبة كالحد مثلا فهذه كبيرة، والتي لم يأت فيها حد فقد دخلت في عداد السيئة المغفورة باجتناب الكبيرة أو الصغيرة أو الأصغر.
وأن سيدنا عمرو بن عبيد عالم من علماء البصرة وزاهد من زهادها، وهو الذي قال فيه أحد الخلفاء : كلهم طالب صيد غير عمرو بن عبيد، أي أن كل العلماء يذهبون إلى هناك ليأخذوا هبات وهدايا إلا عمرو بن عبيد، إذن فقد شهد له، هذا العالم عندما أراد أن يعرف مدلول الكبيرة، وأصر ألا يعرف مدلولها بكلام علماء، بل قال : أريد أن أعرفها من نص القرآن، الذي يقول لي على الكبيرة يأتيني بنص من القرآن. ودخل ابن عبيد البصري على سيدنا أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، ونعرف سيدنا جعفر الصادق وهو أولى الناس بأن يسأل ؛ لأنه عالم أهل البيت، ولأنه قد بحث في كنوز القرآن وأخرج منها الأسرار وعاش في رحاب الفيض، فقال ابن عبيد : هذا هو من أسأله، فلما سلم وجلس قرأ قول الله سبحانه :
﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة النجم ).
ثم سكت ! ! فقال له سيدنا أبو عبد الله جعفر الصادق : ما أسكتك يا بن عبيد ؟ قال : أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله.
وانظروا إلى الثقة بمعرفة كنوز القرآن، ساعة قال له :" أحب أن اعرف الكبائر من كتاب الله ". قال أبو عبد الله : نعم، أي على خبير بها سقطت، أي جئت لمن يعرفها، ثم قال :" الشرك بالله، قال تعالى :
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ ( من الآية ٤٨ سورة النساء ).
وقال تعالى :
﴿ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ﴾ ( من الآية ٧٢ سورة المائدة ).
وأضاف : واليأس من رحمة الله فإن الحق قال :
﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ ( من الآية ٨٧ سورة يوسف ).
وهكذا جاء سيدنا أبو عبد الله جعفر الصادق بالحكم وجاء بدليله، وأضاف : ومن أمن مكر الله ؛ لأنه سبحانه قال :
﴿ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ ( من الآية ٩٩ سورة الأعراف ).
والكبيرة الرابعة : عقوق الوالدين ؛ لأن الله وصف صاحبها بأنه جبار شقي، قال تعالى :
﴿ وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ٣٢ ﴾ ( سورة مريم ).
وقتل النفس. قال تعالى :
﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾ ( من الآية ٩٣ سورة النساء ).
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. قال تعالى :
{ إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعن
١ رواه البخاري واحمد والنسائي والترمذي..
٢ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة..
٢ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة..
﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ٣٢ ﴾.
الحق سبحانه وتعالى خلق الكون وفيه أجناس، وكل جنس يشمل أنواعا أو نوعين، وتحت كل نوع أفراد. فإذا ما رأيت جنسا من الأجناس انقسم إلى نوعين، فاعلم أنهما يشتركان في مطلوب الجنس، ثم يختلفان في مطلوب النوع، ولو كانا متحدين لما انقسما إلى نوعين. كذلك في الأفراد. وإذا نظرنا إلى الجهاد وجدنا الجماد جنسا عاما ولكنه انقسم إلى عناصر مختلفة، لكل عنصر من هذه العناصر مهمة مختلفة، فمثلا إذا أردنا إقامة بناء، فهذا البناء يتطلب رملا، ويتطلب أسمنتا، ويتطلب آجرا، ويتطلب حديدا، فجنس الجماد كله مشترك في إقامة البناء، ولكن للأسمنت مهمة، وللجبس مهمة، وللرمل مهمة، وللمرو وهو الزلط مهمة، فلا تأخذ شيئا في مهمة شيء آخر. وكذلك انقسم الإنسان إلى نوعين، إلى ذكورة تتمثل في الرجال، وإلى أنوثة تتمثل في النساء، وبينهما قدر مشترك يجمعهما كجنس، ثم بينهما اختلاف باختلاف نوعيهما. فلو أردت أن تضع نوعا مكان نوع لما استطعت.
إذن فمن العبث أن يخلق الله من جنس نوعين، ثم تأتي لتقول : إن هذا النوع يجب أن يكون مثل هذا النوع. وأيضا نعرف ذلك عن الزمن، فالزمن ظرف للأحداث، أي ان كل حدث لا بد له من زمن، لكن لكل زمن حدث يناسبه. فالزمن وهو النهار ظرف للحدث في زمنه، والليل أيضا ظرف للحدث في زمنه. ولكن الليل حدثه السكون والراحة، والنهار حدثه الحركة والنشاط. فإن أردت أن تعكس هذا مكان هذا أحلت وجمعت بين المتناقضين.
لقد أوضحنا أن الله يلفتنا إلى شيء قد نختلف فيه بشيء قد اتفقنا عليه، فيبين لك : هذا الذي تختلف فيه رده إلى المتفق عليه. فالزمن لا خلاف في أنك تجعل الليل سكنا ولباسا وراحة وهدوءا، والنهار للحركة. وكل الناس يصنعون ذلك. فالحق سبحانه وتعالى يوضح : كما جعل الزمن ظرفا لحركة إلا أن حركة هذا تختلف عن حركة هذا، وهل معنى ذلك أن الليل والنهار نقيضان أو ضدان أو متكاملان ؟.
إنهما متكاملان ؛ لأن راحة الليل إنما جعلت لتصح حركة النهار. فأنت تنام وترتاح لتستأنف نشاطا جديدا. إذن فالليل هو الذي يعين النهار على مهمته.. ولوان إنسانا استيقظ ليلة ثم جاء صباحا لما استطاع أن يفعل شيئا. إذن فما الذي أعان حركة النهار ؟.. إنه سكون الليل، فالحق سبحانه وتعالى بين : أن ذلك أمر متفق عليه بين الناس جميعا متدينين وغير متدينين.. فإذا اختلفتم في أن الذكورة والأنوثة يجب أن يتحدا في العمل والحركة والنوع نقول لكم : لا، هذا أمر متفق عليه في الزمن، فخذوا ما اتفقتم عليه دليلا على صحة ما اختلفتم فيه. ولذلك ضرب الله المثل فقال :﴿ والليل إذا يغشى١ ﴾ ( سورة الليل ).
فعندما يغشى الليل يأتي السكون. وقال الحق بعد ذلك :
﴿ والنهار إذا تجلى ٢ ﴾ ( سورة الليل ).
وعندما تبزغ الشمس تدب الحركة، ثم جاء بالشيء المختلف فيه، فأتبع سبحانه ذلك بقوله :
﴿ وما خلق الذكر والأنثى ٣ إن سعيكم لشتى ٤ ﴾ ( سورة الليل ).
أي أن لكل جنس مهمة.
وهكذا نعرف أن الإنسان ينقسم إلى نوعين : الذكورة والأنوثة وفيهما عمل مشترك وخاصية مشتركة. وأن كلا منهما إنسان له كرامة الإنسان وله حرية العقيدة فلا يوجد رجل يرغم امرأة على عقيدة، وضربنا المثل بامرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون.
إذن فالقدر المشترك هو حرية الاعتقاد، فلا سلطان لنوع على نوع، وكذلك حرية التعقل في المهمات، وعرفنا كيف أن أم سلمة رضي الله عنها أشارت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية إشارة أنقذت المسلمين من انقسام فظيع أمام حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا قصة بلقيس ملكة سبأ التي استطاعت أن تبرم أمرا تخلى عنه الرجال، إذن فمن الممكن أن يكون للمرأة تعقل وأن يكون للمرأة فكر، وحتى قبل أن يوجد الإسلام كانت هناك نساء لهن أصالة الرأي، وحكمة المشورة في نوع مهمتها.
فمثلا يحدثنا التاريخ أن ملك " كندة " سمع عن جمال امرأة اسمها " أم إياس " بنت عوف بن محل الشيباني، فأراد أن يتزوجها، فدعا امرأة من " كنده " يقال لها : " عصام " وكانت ذات أدب وبيان وعقل ولسان، وقال لها : اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف. أي أرسلها خاطبة. فلما ذهبت إلى والدة " أم إياس " واسمها " أمامة بنت الحارث " وأعلمتها بما جاءت له. وأرسلت الأم تستدعي الابنة من خيمتها، وقالت لها : هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض شأنك فلا تستري عنها شيئا أرادت النظر إليه من وجه وخلق وناطقيها فيما استنطقتك به. فلما اختلت " عصام " بالبنت فعلت مثل ما أمرتها أمها. وكشفت للخاطبة " عصام " عن كل ما تريد من محاسنها، فقالت الخاطبة كلمتها المشهورة :" ترك الخداع ما انكشف القناع "، وصار هذا القول مثلا، أي أن القناع عندما يزول يرى الإنسان الحقيقة، وعادت الخاطبة " عصام " إلى الملك فسألها : ما وراءك يا " عصام " إنه يسأل : أي خبر جئت به من عند " ام إياس " ؟. فقالت : أبدي المخض عن الزبد. والمخض هو : هز الحليب في القربة ليفصل الزبد عن اللبن. وذلك يعني أن رحلتها قد جاءت بنتيجة.
فقال لها : أخبريني.
قالت : أخبرك حقا وصدقا. ووصفتها من شعرها إلى قدمها وصفا أغرى الملك. فأرسل إلى أبيها وخطبها وزفت إليه.
وفي ليلة الزفاف نرى الأم العاقلة توصي ابنتها في ميدان عملها، في ميدان أمومتها، في ميدان أنوثتها. قالت الأم لابنتها :" أي بنية، إن النصيحة لو تركت لفضل أدب لتركت لذلك منك أي أنها كأم تثق في أدب ابنتها ولا تحتاج في هذا الأمر لنصيحة ولكنها معونة للغافل وتذكرة للعاقل. إنك غدا ستذهبين إلى بيت لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه. فكوني له أمة يكن لك عبدا. واحفظي عني عشر خصال تكن لك ذخرا ".
وانظروا إلى الخصال التي استنبطتها المرأة من ميدان رسالتها، تستمر كلمات الأم :" أما الأولى والثانية : فالمعاشرة له بالسمع والطاعة والرضا بالقناعة، وأما الثالثة والرابعة : فالتعهد لموقع عينه وموضع أنفه فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح. والخامسة والسادسة : التفقد لوقت طعامه والهدوء عند منامه فإن تنغيص النوم مغضبة، وحرارة الجوع ملهبة. أما السابعة والثامنة : فالتدبير لماله والإرعاء على حشمه وعلى عياله. وأما التاسعة والعاشرة : فألا تفشي له سرا ولا تعصي له امرا ؛ فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت امره أوغرت صدره، وإياك بعد ذلك والفرح إن كان ترحا والحزن إن كان فرحا ".
فذهبت أم إياس بهذه النصائح إلى زوجها وأنجبت له البنين والبنات وسعدت معه وسعد معها.
تلك نصيحة من أم تدل على منتهى التعقل، ولكن في أي شيء ؟. في ميدان مهمتها. إذن فالمرأة يمنحها الله ويعطيها أن تتعقل ولها ميدان ولا يأتي هذا التعقل غالبا إلا في ميدانها. لأن ميدان الرجل له حركة تتطلب الحزم، وتتطلب الشدة، والمرأة حركتها تتطلب العطف والحنان ؛ والأمثال في حياتنا اليومية تؤكد ذلك، إن الرجل عندما يدخل بيته ويحب أن ينام، قد يأتي له طفله صارخا باكيا، فيثور الأب على زوجته ويسب الولد ويسب أمه، وقد يقول ألفاظا مثل :" اكتمي أنفاسه إني أريد أن أستريح ". وتأخذ الأم طفلها وتذهب تربت على كتفه وتسكته، ويستجيب لها الطفل، فهذه مهمة الأم، ولذلك نجد أن الأحداث التاريخية العصيبة تبرز الرجل في مكانه والمرأة في مكانها.
فمثلا : سيدنا إبراهيم عليه السلام أسكن هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع، قالت له : أتتركنا في مكان ليس فيه حتى الماء، أهذا نزلته برأيك أم الله أنزلك فيه ؟. قال لها : أنزلني الله هذا المكان. فقالت له : اذهب كما شئت فإنه لا يضيعنا. هذه المهمة للمرأة. هاجر مع طفل في مكان ليس فيه مقوم الحياة الأول وهو الماء. فانظروا عطفها وحنانها، ماذا فعلت ؟ لقد سعت بين الصفا والمروة، صعدت الجبل إلى أن أنهكت قواها.
إن الذي يذهب إلى الحج أو العمرة ويجرب الأشواط السبعة هذه يعرف أقصى ما يمكن أن تتحمله المرأة في سبيل ابنها ؛ لأن هذا موقف عطف وحنان، ابنها يريد أن يشرب. وكأن الله قال لها : إنك قد سعيت ولكني سأجعل رزقك من حيث لا تحتسبين، أنت سعيت بين الصفا والمروة، والماء ينبع تحت قدمي ولدك. إذن فصدقت في قولها : إنه لا يضيعنا، ولو أن سعيها جاء بالماء لظننا جميعا أن السعي هو الذي يأتي بالماء، ولكن اسع ولا تعتقد في السعي، بل اعتقد في الرزاق الأعلى، تلم مسألة ظاهرة في أمنا هاجر.
وحينما جاء موقف الابتلاء بالذبح، اختفت هاجر من المسرح، وجاء دور سيدنا إبراهيم بحزمه وعزمه ونبوته. ورأى في الرؤيا انه يذبح ابنه، أين أمه في هذا ؟ اختفت من المسرح ؛ لأن هذا موقف لا يتفق مع عواطفها وحنانها. إذن فكل واحد منهما له مهمة. والنجاح يكون على قدر هذه المهمة. ولذلك يقول الحق :﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ فساعة ترى جنسا أخذ شيئا وجنسا آخراخذ شيئا اياك ان تشغل بالك وتتمنى وتقول اريد هذه ولكن اسال الله من فضله ؛ لأن كلمة " ولا تتمنوا " هي نهي عن أن تتمنى ما فضل الله به بعضا على بعض، ولذلك يقول :﴿ واسألوا الله من فضله ﴾. وما دمت تسأل الله من فضله ؛ فهنا أمل أن يعطيك.
وقد يرى البعض هنا مشكلة فيتساءل : كيف ينهانا الله عن ان نتمنى ما فضل الله به بعضنا على بعض فقال :﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ مع ان فضل الله من شأنه ان يفضل بعضنا على بعض بدليل قوله :﴿ ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ﴾ فضلا على أنني اطمع في ان أسأل الله ليعطيني ؛ لأنه سبحانه ما أمرنا بالسؤال إلا ليعطينا.
ونقول : لا، التمني عادة أن تطلب شيئا يستحيل أو لم تجر به العادة، إنما السؤال والدعاء هو مجال أن تأتي إلى شيء تستطيع الحصول عليه، فأوضح : لا تذهب إلى منطقة التمني، ولذلك ضربوا المثل للتمني ببيت الشاعر :
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب.
تمنى الشاعر أن يعود الشباب يوما فهل هذا يتأتى ؟ إنه لا يتأتى. أو أن يقول قائل : ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها، هل يمكن أن يحدث ذلك ؟ لا. ولكن هذا القول يدل على أن هذا الشيء محبوب وإن كان لم تجر به العادة، أو هو مستحيل، إذن فالسؤال يجب أن يكون في حدود الممكن بالنسبة لك. والحق يوضح : لا تنظروا على ما فضل الله به بعضكم على بعض. وما دام الله قد فضل بعضا على بعض فليسأل الإنسان لا في منطقة ما فضل الله غيره عليه ويطلبه لنفسه ويسلبه من سواه، ولكن في منطقة أن توفق في إبراز ما فضلك الله به ؛ ولذلك نجد الحق في آيات التفضيل يقول :
﴿ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ﴾ ( من الآية ٧١ سورة النحل ).
وما هو الرزق ؟ هل هو نقود فقط ؟ لا. بل الرزق هو كل ما ينتفع به، فالحلم رزق، والعلم رزق، والشجاعة رزق، كل هذا رزق، وقوله الحق :﴿ ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ يجعلنا نتساءل : من هو المفضل ومن هو المفضل عليه ؟ لأنه قال : " بعضكم ". لم يبينها لنا، إذن فبعض مفضل وبعض مفضل عليه.
وسؤال آخر : وأي بعض مفضل وأي بعض مفضل عليه ؟ إن كل إنسان هو فاضل في شيء ومفضول عليه في ش
الحق سبحانه وتعالى خلق الكون وفيه أجناس، وكل جنس يشمل أنواعا أو نوعين، وتحت كل نوع أفراد. فإذا ما رأيت جنسا من الأجناس انقسم إلى نوعين، فاعلم أنهما يشتركان في مطلوب الجنس، ثم يختلفان في مطلوب النوع، ولو كانا متحدين لما انقسما إلى نوعين. كذلك في الأفراد. وإذا نظرنا إلى الجهاد وجدنا الجماد جنسا عاما ولكنه انقسم إلى عناصر مختلفة، لكل عنصر من هذه العناصر مهمة مختلفة، فمثلا إذا أردنا إقامة بناء، فهذا البناء يتطلب رملا، ويتطلب أسمنتا، ويتطلب آجرا، ويتطلب حديدا، فجنس الجماد كله مشترك في إقامة البناء، ولكن للأسمنت مهمة، وللجبس مهمة، وللرمل مهمة، وللمرو وهو الزلط مهمة، فلا تأخذ شيئا في مهمة شيء آخر. وكذلك انقسم الإنسان إلى نوعين، إلى ذكورة تتمثل في الرجال، وإلى أنوثة تتمثل في النساء، وبينهما قدر مشترك يجمعهما كجنس، ثم بينهما اختلاف باختلاف نوعيهما. فلو أردت أن تضع نوعا مكان نوع لما استطعت.
إذن فمن العبث أن يخلق الله من جنس نوعين، ثم تأتي لتقول : إن هذا النوع يجب أن يكون مثل هذا النوع. وأيضا نعرف ذلك عن الزمن، فالزمن ظرف للأحداث، أي ان كل حدث لا بد له من زمن، لكن لكل زمن حدث يناسبه. فالزمن وهو النهار ظرف للحدث في زمنه، والليل أيضا ظرف للحدث في زمنه. ولكن الليل حدثه السكون والراحة، والنهار حدثه الحركة والنشاط. فإن أردت أن تعكس هذا مكان هذا أحلت وجمعت بين المتناقضين.
لقد أوضحنا أن الله يلفتنا إلى شيء قد نختلف فيه بشيء قد اتفقنا عليه، فيبين لك : هذا الذي تختلف فيه رده إلى المتفق عليه. فالزمن لا خلاف في أنك تجعل الليل سكنا ولباسا وراحة وهدوءا، والنهار للحركة. وكل الناس يصنعون ذلك. فالحق سبحانه وتعالى يوضح : كما جعل الزمن ظرفا لحركة إلا أن حركة هذا تختلف عن حركة هذا، وهل معنى ذلك أن الليل والنهار نقيضان أو ضدان أو متكاملان ؟.
إنهما متكاملان ؛ لأن راحة الليل إنما جعلت لتصح حركة النهار. فأنت تنام وترتاح لتستأنف نشاطا جديدا. إذن فالليل هو الذي يعين النهار على مهمته.. ولوان إنسانا استيقظ ليلة ثم جاء صباحا لما استطاع أن يفعل شيئا. إذن فما الذي أعان حركة النهار ؟.. إنه سكون الليل، فالحق سبحانه وتعالى بين : أن ذلك أمر متفق عليه بين الناس جميعا متدينين وغير متدينين.. فإذا اختلفتم في أن الذكورة والأنوثة يجب أن يتحدا في العمل والحركة والنوع نقول لكم : لا، هذا أمر متفق عليه في الزمن، فخذوا ما اتفقتم عليه دليلا على صحة ما اختلفتم فيه. ولذلك ضرب الله المثل فقال :﴿ والليل إذا يغشى١ ﴾ ( سورة الليل ).
فعندما يغشى الليل يأتي السكون. وقال الحق بعد ذلك :
﴿ والنهار إذا تجلى ٢ ﴾ ( سورة الليل ).
وعندما تبزغ الشمس تدب الحركة، ثم جاء بالشيء المختلف فيه، فأتبع سبحانه ذلك بقوله :
﴿ وما خلق الذكر والأنثى ٣ إن سعيكم لشتى ٤ ﴾ ( سورة الليل ).
أي أن لكل جنس مهمة.
وهكذا نعرف أن الإنسان ينقسم إلى نوعين : الذكورة والأنوثة وفيهما عمل مشترك وخاصية مشتركة. وأن كلا منهما إنسان له كرامة الإنسان وله حرية العقيدة فلا يوجد رجل يرغم امرأة على عقيدة، وضربنا المثل بامرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون.
إذن فالقدر المشترك هو حرية الاعتقاد، فلا سلطان لنوع على نوع، وكذلك حرية التعقل في المهمات، وعرفنا كيف أن أم سلمة رضي الله عنها أشارت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية إشارة أنقذت المسلمين من انقسام فظيع أمام حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا قصة بلقيس ملكة سبأ التي استطاعت أن تبرم أمرا تخلى عنه الرجال، إذن فمن الممكن أن يكون للمرأة تعقل وأن يكون للمرأة فكر، وحتى قبل أن يوجد الإسلام كانت هناك نساء لهن أصالة الرأي، وحكمة المشورة في نوع مهمتها.
فمثلا يحدثنا التاريخ أن ملك " كندة " سمع عن جمال امرأة اسمها " أم إياس " بنت عوف بن محل الشيباني، فأراد أن يتزوجها، فدعا امرأة من " كنده " يقال لها : " عصام " وكانت ذات أدب وبيان وعقل ولسان، وقال لها : اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف. أي أرسلها خاطبة. فلما ذهبت إلى والدة " أم إياس " واسمها " أمامة بنت الحارث " وأعلمتها بما جاءت له. وأرسلت الأم تستدعي الابنة من خيمتها، وقالت لها : هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض شأنك فلا تستري عنها شيئا أرادت النظر إليه من وجه وخلق وناطقيها فيما استنطقتك به. فلما اختلت " عصام " بالبنت فعلت مثل ما أمرتها أمها. وكشفت للخاطبة " عصام " عن كل ما تريد من محاسنها، فقالت الخاطبة كلمتها المشهورة :" ترك الخداع ما انكشف القناع "، وصار هذا القول مثلا، أي أن القناع عندما يزول يرى الإنسان الحقيقة، وعادت الخاطبة " عصام " إلى الملك فسألها : ما وراءك يا " عصام " إنه يسأل : أي خبر جئت به من عند " ام إياس " ؟. فقالت : أبدي المخض عن الزبد. والمخض هو : هز الحليب في القربة ليفصل الزبد عن اللبن. وذلك يعني أن رحلتها قد جاءت بنتيجة.
فقال لها : أخبريني.
قالت : أخبرك حقا وصدقا. ووصفتها من شعرها إلى قدمها وصفا أغرى الملك. فأرسل إلى أبيها وخطبها وزفت إليه.
وفي ليلة الزفاف نرى الأم العاقلة توصي ابنتها في ميدان عملها، في ميدان أمومتها، في ميدان أنوثتها. قالت الأم لابنتها :" أي بنية، إن النصيحة لو تركت لفضل أدب لتركت لذلك منك أي أنها كأم تثق في أدب ابنتها ولا تحتاج في هذا الأمر لنصيحة ولكنها معونة للغافل وتذكرة للعاقل. إنك غدا ستذهبين إلى بيت لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه. فكوني له أمة يكن لك عبدا. واحفظي عني عشر خصال تكن لك ذخرا ".
وانظروا إلى الخصال التي استنبطتها المرأة من ميدان رسالتها، تستمر كلمات الأم :" أما الأولى والثانية : فالمعاشرة له بالسمع والطاعة والرضا بالقناعة، وأما الثالثة والرابعة : فالتعهد لموقع عينه وموضع أنفه فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح. والخامسة والسادسة : التفقد لوقت طعامه والهدوء عند منامه فإن تنغيص النوم مغضبة، وحرارة الجوع ملهبة. أما السابعة والثامنة : فالتدبير لماله والإرعاء على حشمه وعلى عياله. وأما التاسعة والعاشرة : فألا تفشي له سرا ولا تعصي له امرا ؛ فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت امره أوغرت صدره، وإياك بعد ذلك والفرح إن كان ترحا والحزن إن كان فرحا ".
فذهبت أم إياس بهذه النصائح إلى زوجها وأنجبت له البنين والبنات وسعدت معه وسعد معها.
تلك نصيحة من أم تدل على منتهى التعقل، ولكن في أي شيء ؟. في ميدان مهمتها. إذن فالمرأة يمنحها الله ويعطيها أن تتعقل ولها ميدان ولا يأتي هذا التعقل غالبا إلا في ميدانها. لأن ميدان الرجل له حركة تتطلب الحزم، وتتطلب الشدة، والمرأة حركتها تتطلب العطف والحنان ؛ والأمثال في حياتنا اليومية تؤكد ذلك، إن الرجل عندما يدخل بيته ويحب أن ينام، قد يأتي له طفله صارخا باكيا، فيثور الأب على زوجته ويسب الولد ويسب أمه، وقد يقول ألفاظا مثل :" اكتمي أنفاسه إني أريد أن أستريح ". وتأخذ الأم طفلها وتذهب تربت على كتفه وتسكته، ويستجيب لها الطفل، فهذه مهمة الأم، ولذلك نجد أن الأحداث التاريخية العصيبة تبرز الرجل في مكانه والمرأة في مكانها.
فمثلا : سيدنا إبراهيم عليه السلام أسكن هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع، قالت له : أتتركنا في مكان ليس فيه حتى الماء، أهذا نزلته برأيك أم الله أنزلك فيه ؟. قال لها : أنزلني الله هذا المكان. فقالت له : اذهب كما شئت فإنه لا يضيعنا. هذه المهمة للمرأة. هاجر مع طفل في مكان ليس فيه مقوم الحياة الأول وهو الماء. فانظروا عطفها وحنانها، ماذا فعلت ؟ لقد سعت بين الصفا والمروة، صعدت الجبل إلى أن أنهكت قواها.
إن الذي يذهب إلى الحج أو العمرة ويجرب الأشواط السبعة هذه يعرف أقصى ما يمكن أن تتحمله المرأة في سبيل ابنها ؛ لأن هذا موقف عطف وحنان، ابنها يريد أن يشرب. وكأن الله قال لها : إنك قد سعيت ولكني سأجعل رزقك من حيث لا تحتسبين، أنت سعيت بين الصفا والمروة، والماء ينبع تحت قدمي ولدك. إذن فصدقت في قولها : إنه لا يضيعنا، ولو أن سعيها جاء بالماء لظننا جميعا أن السعي هو الذي يأتي بالماء، ولكن اسع ولا تعتقد في السعي، بل اعتقد في الرزاق الأعلى، تلم مسألة ظاهرة في أمنا هاجر.
وحينما جاء موقف الابتلاء بالذبح، اختفت هاجر من المسرح، وجاء دور سيدنا إبراهيم بحزمه وعزمه ونبوته. ورأى في الرؤيا انه يذبح ابنه، أين أمه في هذا ؟ اختفت من المسرح ؛ لأن هذا موقف لا يتفق مع عواطفها وحنانها. إذن فكل واحد منهما له مهمة. والنجاح يكون على قدر هذه المهمة. ولذلك يقول الحق :﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ فساعة ترى جنسا أخذ شيئا وجنسا آخراخذ شيئا اياك ان تشغل بالك وتتمنى وتقول اريد هذه ولكن اسال الله من فضله ؛ لأن كلمة " ولا تتمنوا " هي نهي عن أن تتمنى ما فضل الله به بعضا على بعض، ولذلك يقول :﴿ واسألوا الله من فضله ﴾. وما دمت تسأل الله من فضله ؛ فهنا أمل أن يعطيك.
وقد يرى البعض هنا مشكلة فيتساءل : كيف ينهانا الله عن ان نتمنى ما فضل الله به بعضنا على بعض فقال :﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ مع ان فضل الله من شأنه ان يفضل بعضنا على بعض بدليل قوله :﴿ ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ﴾ فضلا على أنني اطمع في ان أسأل الله ليعطيني ؛ لأنه سبحانه ما أمرنا بالسؤال إلا ليعطينا.
ونقول : لا، التمني عادة أن تطلب شيئا يستحيل أو لم تجر به العادة، إنما السؤال والدعاء هو مجال أن تأتي إلى شيء تستطيع الحصول عليه، فأوضح : لا تذهب إلى منطقة التمني، ولذلك ضربوا المثل للتمني ببيت الشاعر :
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب.
تمنى الشاعر أن يعود الشباب يوما فهل هذا يتأتى ؟ إنه لا يتأتى. أو أن يقول قائل : ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها، هل يمكن أن يحدث ذلك ؟ لا. ولكن هذا القول يدل على أن هذا الشيء محبوب وإن كان لم تجر به العادة، أو هو مستحيل، إذن فالسؤال يجب أن يكون في حدود الممكن بالنسبة لك. والحق يوضح : لا تنظروا على ما فضل الله به بعضكم على بعض. وما دام الله قد فضل بعضا على بعض فليسأل الإنسان لا في منطقة ما فضل الله غيره عليه ويطلبه لنفسه ويسلبه من سواه، ولكن في منطقة أن توفق في إبراز ما فضلك الله به ؛ ولذلك نجد الحق في آيات التفضيل يقول :
﴿ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ﴾ ( من الآية ٧١ سورة النحل ).
وما هو الرزق ؟ هل هو نقود فقط ؟ لا. بل الرزق هو كل ما ينتفع به، فالحلم رزق، والعلم رزق، والشجاعة رزق، كل هذا رزق، وقوله الحق :﴿ ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ يجعلنا نتساءل : من هو المفضل ومن هو المفضل عليه ؟ لأنه قال : " بعضكم ". لم يبينها لنا، إذن فبعض مفضل وبعض مفضل عليه.
وسؤال آخر : وأي بعض مفضل وأي بعض مفضل عليه ؟ إن كل إنسان هو فاضل في شيء ومفضول عليه في ش
وبعد ذلك يقول الحق :
﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ٣٣ ﴾.
وساعة ترى لفظة " لكل " وتجدها منونة، فاعرف أن هناك حاجة مقدرة، وأصلها " لكل إنسان "، وحذف الاسم وجاء بدلا منه التنوين، مثل قوله :
﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم ٨٣ وأنتم حينئذ تنظرون ٨٤ ﴾ ( سورة الواقعة ).
ونجد التنوين في " حينئذ " أي حين بلغت الروح الحلقوم، فحذف حين بلغت الروح الحلقوم وعوض عنها التنوين في " حينئذ " إذن فالتنوين جاء بدلا من المحذوف.
وقول الحق :﴿ ولكل جعلنا موالي ﴾، و " الموالي " جمع " مولى ". وقبل أن تنزل آيات الميراث، آخى النبي بين الأنصار والمهاجرين، فكانوا يتوارثون بهذه المؤاخاة، وكان هناك شيء اسمه " مولى المناصرة " وهو أن يستريح اثنان لبعضهما ويقول كل منهما للآخر : أنا أخوك وأنت أخي، حربي حربك، وسلمي سلمك، ودمي دمك، وترث مني وأرث منك، وتعقل عني وأعقل عنك، أي إن فعلت جناية تدفع عني، وإن فعلت أنت جناية أدفع عنك. مؤاخاة.
هؤلاء كان لهم نصيب في مال المتوفى، فالحق يبين : لكل إنسان من الرجال والنساء جعلنا ورثة مما ترك الوالدان، والأقربون.. أي لهم نصيب من ذلك ولأولياء المناصرة بعض من الميراث كذلك فإياكم أن تأتوا أنتم وتقولوا : لا، لا بد أن تعطوهم نصيبهم الذي كان مشروطا لهم وهو السدس.
لكن أظل ذلك الحكم ؟ لا. لقد نسخ وأنزل الله قوله :
﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ٧٥ ﴾ ( من الآية ٧٥ سورة الأنفال ).
فمادام الله قد قال :﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ﴾. أي ولكل إنسان من الموالي شيء من آثار ما ترك الوالدان والأقربون. فإياكم أن تقولوا : هم ذهبوا فلا نعطيهم شيئا، لا ما كانوا متفقين فيه وعقدوا أيمانهم عليه آتوهم نصيبهم مصداقا لقوله الحق :﴿ فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ﴾ فالله شهيد على هذه. وشهيد على أنكم تنفذون أو لا تنفذون.
﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ٣٣ ﴾.
وساعة ترى لفظة " لكل " وتجدها منونة، فاعرف أن هناك حاجة مقدرة، وأصلها " لكل إنسان "، وحذف الاسم وجاء بدلا منه التنوين، مثل قوله :
﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم ٨٣ وأنتم حينئذ تنظرون ٨٤ ﴾ ( سورة الواقعة ).
ونجد التنوين في " حينئذ " أي حين بلغت الروح الحلقوم، فحذف حين بلغت الروح الحلقوم وعوض عنها التنوين في " حينئذ " إذن فالتنوين جاء بدلا من المحذوف.
وقول الحق :﴿ ولكل جعلنا موالي ﴾، و " الموالي " جمع " مولى ". وقبل أن تنزل آيات الميراث، آخى النبي بين الأنصار والمهاجرين، فكانوا يتوارثون بهذه المؤاخاة، وكان هناك شيء اسمه " مولى المناصرة " وهو أن يستريح اثنان لبعضهما ويقول كل منهما للآخر : أنا أخوك وأنت أخي، حربي حربك، وسلمي سلمك، ودمي دمك، وترث مني وأرث منك، وتعقل عني وأعقل عنك، أي إن فعلت جناية تدفع عني، وإن فعلت أنت جناية أدفع عنك. مؤاخاة.
هؤلاء كان لهم نصيب في مال المتوفى، فالحق يبين : لكل إنسان من الرجال والنساء جعلنا ورثة مما ترك الوالدان، والأقربون.. أي لهم نصيب من ذلك ولأولياء المناصرة بعض من الميراث كذلك فإياكم أن تأتوا أنتم وتقولوا : لا، لا بد أن تعطوهم نصيبهم الذي كان مشروطا لهم وهو السدس.
لكن أظل ذلك الحكم ؟ لا. لقد نسخ وأنزل الله قوله :
﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ٧٥ ﴾ ( من الآية ٧٥ سورة الأنفال ).
فمادام الله قد قال :﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ﴾. أي ولكل إنسان من الموالي شيء من آثار ما ترك الوالدان والأقربون. فإياكم أن تقولوا : هم ذهبوا فلا نعطيهم شيئا، لا ما كانوا متفقين فيه وعقدوا أيمانهم عليه آتوهم نصيبهم مصداقا لقوله الحق :﴿ فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ﴾ فالله شهيد على هذه. وشهيد على أنكم تنفذون أو لا تنفذون.
وبعد ذلك جاء ليتكلم في قضية متصلة بقول الحق سبحانه :﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ فقال :
﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾، أول ما نلتفت إليه أن بعضهم لم يفسروا الآية إلا على الرجل وزوجته على الرغم من أن الآية تكلمت عن مطلق رجال ومطلق نساء، فليست الآية مقصورة على الرجل وزوجه، فالأب قوام على البنات، والأخ على أخواته. ولنفهم أولا " الرجال قوامون " وماذا تعني ؟ وننظر أهذه تعطي النساء التفوق والمركز أم تعطيهن التعب. والحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم قضية كونية، فهو الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه وأوضح القضية الإيمانية " الرجال قوامون على النساء " والذي يخالف فيها عليه أن يوضح إن وجد ما يؤدي إلى المخالفة، والمرأة التي تخاف من هذه الآية، نجد أنها لو لم ترزق بولد ذكر لغضبت، وإذا سألناها : لماذا إذن ؟ تقول : أريد ابنا ليحمينا. كيف وأنت تعارضين في هذا الأمر ؟.
ولنفهم ما معنى " قوام "، القوام هو المبالغ في القيام. وجاء الحق هنا بالقيام الذي فيه تعب، وعندما تقول : فلان يقوم على القوم ؛ أي لا يرتاح أبدا. إذن فلماذا تأخذ " قوامون على النساء " على أنه كتم أنفاس ؟ لماذا لا تأخذها على أنه سعي في مصالحهن ؟ فالرجل مكلف بمهمة القيام على النساء، أي أن يقوم بأداء ما يصلح الأمر. ونجد أن الحق جاء بكلمة " الرجال " على عمومها، وكلمة " النساء " على عمومها، وشيء واحد تكلم فيه بعد ذلك في قوله :﴿ بما فضل الله بعضهم على بعض ﴾ فما وجد التفضيل ؟.
إن وجه التفضيل أن الرجل له الكدح وله الضرب في الأرض وله السعي على المعاش، وذلك حتى يكفل للمرأة سبل الحياة اللائقة عندما يقوم برعايتها. وفي قصة آدم عليه السلام لنا المثل، حين حذر الحق سبحانه آدم وزوجته من الشيطان، إبليس الذي دعي إلى السجود مع الملائكة لآدم فأبى، وبذلك عرفنا العداوة المسبقة من إبليس لآدم، وحيثيتها :
﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا ﴾ ( من الآية ٦١ سورة الإسراء ).
وأوضح الحق لآدم : إذا هبطت إلى الأرض فاذكر هذه العداوة. وأعلم أنه لن يتركك، وسيظل يغويك ويغريك ؛ ؟ لأنه لا يريد أن يكون عاصيا بمفرده، بل يريد أن يضم إليه آخرين من الجنس الذي أبى أن يسجد هو لأبيهم آدم يريد أن يغويهم، كما حاول إغواء آدم :
﴿ إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة ﴾ ( من الآية ١١٧ سورة طه ).
وهل قال الحق بعدها : فتشقيا او فتشقى ؟ قال سبحانه :
﴿ فتشقى ﴾ ( من الآية ١١٧ سورة طه ).
فساعة جاء الشقاء في الأرض والكفاح ستر المرأة وكان الخطاب للرجل. وهذا يدل على أن القوامة تحتاج إلى تعب، وإلى جهد، وإلى سعي، وهذه المهمة تكون للرجل.
ونلحظ أنه ساعة التفضيل قال :﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ﴾ لقد جاء ب " بعضهم " لأنه ساعة فضل الرجل لأنه قوام فضل المرأة أيضا لشيء آخر وهو كونها السكن حين يستريح عندها الرجل وتقوم بمهمتها.
ثم تأتي حيثية القوامة :﴿ وبما أنفقوا من أموالهم ﴾. والمال يأتي نتيجة الحركة ونتيجة التعب، فالذب يتعب نقول له : انت قوام، إذن فالمرأة يجب أن تفرح بذلك ؛ لأنه سبحانه أعطى المشقة وأعطى التعب للجنس المؤهل لذلك. ولكن مهمتها وإن كانت مهمة عظيمة إلا أنها تتناسب والخصلة المطلوبة أولا فيها : الرقة والحنان والعطف والوداعة. فلم يأت بمثل هذا ناحية الرجل ؛ لأن الكسب لا يريد هذه الأمور، بل يحتاج إلى القوة والعزم والشدة، فقول الله :" قوامون " يعني مبالغين في القيام على أمور النساء.
ويوضح للنساء : لا تذكرن فقط أنها حكاية زوج وزوجة. قدرن أن القيام يكون على أمر البنات والأخوات والأمهات. فلا يصح أن تأخذ " قوام " على أنها السيطرة ؛ لأن مهمة القيام جاءت للرجل بمشقة، وهي مهمة صعبة عليه أن يبالغ في القيام على أمر من يتولى شئونهن.
﴿ وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ فإذا كان الزواج متعة للأنثى وللذكر. والاثنان يستمتعان ويريدان النوع في الذرية، فما دامت المتعة مشتركة وطلب الذرية أيضا مشتركا فالتبعات التي تترتب على ذلك لم تقع على كل منهما، ولكنها جاءت على الرجل فقط... صداقا ونفقة حتى ولو كانت المراة غنية لا يفرض عليها الشرع حتى أن تقرض زوجها.
إذن فقوامة الرجال جاءت للنساء براحة ومنعت عنهن المتاعب. فلماذا تحزن المراة منها ؟ ف " الرجال قوامون على النساء " أي قائمون إقامة دائمة ؛ لأنه لا يقال قوام لمطلق قائم، فالقائم يؤدي مهمة لمرة واحدة، لكن " قوام " تعني مستمر في القوامة.
﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ وما دمنا نكدح ونتعب للمرأة فلا بد أن تكون للمرأة مهمة توازي ذلك وهي أن تكون سكنا له، وهذه فيها تفضيل أيضا.
لقد قدم الحق سبحانه وتعالى في صدر الآية مقدمة بحكم يجب أن يلتزم به ؛ لأنه حكم الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه، فأوضح القضية الإيمانية :" الرجال قوامون على النساء " ثم جاء بالحيثيات فقال :﴿ بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ ويتابع الحق :﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب ﴾ والمرأة الصالحة هي المرأة التي استقامت على المنهج الذي وضعه لها من خلقها في نوعها، فمادامت هي صالحة تكون قانتة، والقنوت هو دوام الطاعة لله، ومنه قنوت الفجر الذي نقنته، وندعو ونقف مدة أطول في الصلاة التي فيها قنوت.
والمرأة القانتة خاضعة لله، إذن فحين تكون خاضعة لله تلتزم منهج الله وأمره فيما حكم به من أن الرجال قوامون على النساء، ﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب ﴾ وحافظات للغيب تدل على سلامة العفة. فالمرأة حين يغيب عنها الراعي لها والحامي لعرضها كالأب بالنسبة للبنت والابن بالنسبة للأم، والزوج بالنسبة للزوجة، فكل امرأة في ولاية أحد لا بد أن تحفظ غيبته ؛ ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما حدد المراة الصالحة قال في حديث عن الدنيا :
" الدنيا كلهامتاع، وخير متاع الدنيا المراة الصالحة " ١.
لقد وضع صلى الله عليه وسلم قانونا للمرأة الصالحة يقول فيه :
( خير النساء التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره )٢.
وأي شيء يحتاج الرجل إليه أحسن من ذلك. وكلمة " إن نظرت إليها سرتك " إياك أن توجهها ناحية الجمال فقط، جمال المبنى، لا، فساعة تراها اجمع كل صفات الخير فيها ولا تأخذ صفة وتترك صفة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من أن نأخذ صفة في المراة ونترك صفة أخرى، بل لا بد أن نأخذها في مجموع صفاتها. فقال :
" تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " ٣.
المطلوب ألا تنظر إلى زاوية واحدة في الجمال، بل انظر إلى كل الزوايا، فلو نظرت إلى الزاوية التي تشغل الناس، الزاوية الجمالية، لوجدتها أقل الزوايا بالنسبة إلى تكوين المراة ؛ لأن عمر هذه المسألة " شهر عسل " كما يقولون وتنتهي، ثم بعد ذلك تبدو المقومات الأخرى. فإن دخلت على مقوم واحد وهي أن تكون جميلة فأنت تخدع نفسك، وتظن أنك تريدها سيدة صالون ! ونقول لك : هذه الصفة أمدها بسيط في عمر الزمن، لكن ما يبقى لك هو أن تكون أمينة، أن تكون مخلصة، أن تكون مدبرة ؛ ولذلك فالفشل ينشأ في الأسرة من أن الرجال يدخلون على الزواج بمقياس واحد هو مقياس جمال البنية، وهذا المقياس الواحد عمره قصير، يذهب بعد فترة وتهدأ شرته. وبعد ذلك تستيقظ عيون الرجل لتتطلع إلى نواحي الجمال الأخرى، فلا يجدها. فيحدث الفشل ؛ لذلك لا بد أن تأخذ مجموعة الزوايا كلها. إياك أن تأخذ زاوية واحدة، وخير الزوايا أن يكون لها دين. وكذلك المقياس بالنسبة لقبول المراة للزوج، أيضا خير الزوايا أن يكون له دين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض )٤.
وعندما استشار رجل سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : زوجها من ذي الدين، إن أحبها وأكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
إذن فالدين يرشدنا : لا بد أن ننظر إلى المسألة التي سيكون لها عمر طويل في الحياة الممتدة، وبعد ذلك إذا أرادت أن تكون ناجحة فعليها أن ترى إطار نوعيتها وتنبغ فيه، ومن الممكن إن كان عندها وقت أن توسع دائرة مهمتها في بيتها، فإذا كان عندها أولاد فعليها أن تتعلم الحياكة وتقوم بتفصيل وحياكة ملا بسها وملابس أولادها فتوفر النقود، أو تتعلم التطريز كي لا تدفع أجرة، أو تتعلم التمريض حتى إذا مرض ولدها استطاعت أن تمرضه وترعاه، أن تتعلم كي تغنى عن مدرس خصوصي يأخذ نقودا من دخل الأسرة، وإن بقي عندها وقت فلتتعلم السباكة لتوفر أجرة السباك إذا فسد صنبور ماء، أو تتعلم إصلاح الكهرباء لتصلح مفتاح الإضاءة. وتستطيع المراة أن تقوم بأي عمل وهي جالسة في بيتها وتوفر دخلا لتقابل به المهام التي لا تقدر أن تفعلها، والمرأة تكون من " حافظات الغيب " ليس بارتجال من عندها أو باختيار، بل بالمنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب ؟..
فما المنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب ؟ تحافظ على عرضها وعلى مال زوجها في غيبته، فتنظر المنافذ التي تأتي منها الفتنة وتمتنع عنها، لا تخرج إلى الشوارع إلا لحاجة ماسة أو ضرورة كي لا ترى أحدا يفتنها أو يفتن بها ؛ لأن هذه هي مقدمات الحفظ، ولا تذهب في زحمة الحياة، وبعد ذلك نقول لها :" حافظي على الغيب " بل عليها أن تنظر ما بينه الله في ذلك. فإن اضطررت ان تخرجي فلتغضي البصر ؛ ولذلك قال سبحانه :
﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾ ( من الآية ٣١ سورة النور ).
فالمرأة إن لم تغض النظر يحدث التفات عاطفي ؛ لأن كل شعور في الإنسان له ثلاث مراحل : مرحلة أن يدرك، ومرحلة أن يجد في نفسه، ومرحلة أن ينزع، أي يحول الأمر إلى سلوك، ونضرب دائما المثل بالوردة. وأنت تسير ترى وردة في بستان وبمجرد رؤيتك لها فهذا إدراك، وإذا أعجبتك الوردة وعشقتها وأحببتها فهذا اسمه وجدان. وإذا اتجهت لتقطفها فهذه عملية نزوعية، فكم مرحلة ؟ ثلاث مراحل :
إدراك، فوجدان. فنزوع.
ومتى يتدخل الشرع ؟ الشرع يتدخل في عملية النزوع دائما. يقول لك : أنت نظرت الوردة ولم نعترض على ذلك، أحببتها وأعجبتك فلم نقل لك شيئا، لكن ساعة جئت لتمد يدك لتأخذها قلنا لك : لا، الوردة ليست لك.
إذن فأنت حر في أن تدرك، وحر في أن تجد في نفسك، إنما ساعة تنزع نقول لك : لا، هي ليست لك، وإن أعجبتك فازرع لك وردة في البيت، أو استأذن صاحبها مثلا.
إذن فالتشريع يتدخل في منطقة النزوع، إلا في أمر المرأة فالتشريع يتدخل من أول الإدراك ؛ لأن الذي خلقنا علم أننا إن أدركنا جمالا، نظرنا له، وستتولد عندنا مواجيد بالنسبة للأشياء التي نراها ونشتهيها، وساعة يوجد إدراك واشتهاء، لا يمكن أن ينفصل هذا عن النزوع ؛ لأنك كرجل مركب تركيبا كيميائيا بحيث إذ أدركت جمالا ثم حدث لك وجدان واشتهاء، فالاشتهاء لا يهدأ إلا بنزوع، فيبين لك الشرع : أنا رحمتك من أول الأمر، وتدخلت من اول المسألة. وكل شيء أتدخل فيه عند النزوع إلا المرأة فقد ت
﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾، أول ما نلتفت إليه أن بعضهم لم يفسروا الآية إلا على الرجل وزوجته على الرغم من أن الآية تكلمت عن مطلق رجال ومطلق نساء، فليست الآية مقصورة على الرجل وزوجه، فالأب قوام على البنات، والأخ على أخواته. ولنفهم أولا " الرجال قوامون " وماذا تعني ؟ وننظر أهذه تعطي النساء التفوق والمركز أم تعطيهن التعب. والحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم قضية كونية، فهو الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه وأوضح القضية الإيمانية " الرجال قوامون على النساء " والذي يخالف فيها عليه أن يوضح إن وجد ما يؤدي إلى المخالفة، والمرأة التي تخاف من هذه الآية، نجد أنها لو لم ترزق بولد ذكر لغضبت، وإذا سألناها : لماذا إذن ؟ تقول : أريد ابنا ليحمينا. كيف وأنت تعارضين في هذا الأمر ؟.
ولنفهم ما معنى " قوام "، القوام هو المبالغ في القيام. وجاء الحق هنا بالقيام الذي فيه تعب، وعندما تقول : فلان يقوم على القوم ؛ أي لا يرتاح أبدا. إذن فلماذا تأخذ " قوامون على النساء " على أنه كتم أنفاس ؟ لماذا لا تأخذها على أنه سعي في مصالحهن ؟ فالرجل مكلف بمهمة القيام على النساء، أي أن يقوم بأداء ما يصلح الأمر. ونجد أن الحق جاء بكلمة " الرجال " على عمومها، وكلمة " النساء " على عمومها، وشيء واحد تكلم فيه بعد ذلك في قوله :﴿ بما فضل الله بعضهم على بعض ﴾ فما وجد التفضيل ؟.
إن وجه التفضيل أن الرجل له الكدح وله الضرب في الأرض وله السعي على المعاش، وذلك حتى يكفل للمرأة سبل الحياة اللائقة عندما يقوم برعايتها. وفي قصة آدم عليه السلام لنا المثل، حين حذر الحق سبحانه آدم وزوجته من الشيطان، إبليس الذي دعي إلى السجود مع الملائكة لآدم فأبى، وبذلك عرفنا العداوة المسبقة من إبليس لآدم، وحيثيتها :
﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا ﴾ ( من الآية ٦١ سورة الإسراء ).
وأوضح الحق لآدم : إذا هبطت إلى الأرض فاذكر هذه العداوة. وأعلم أنه لن يتركك، وسيظل يغويك ويغريك ؛ ؟ لأنه لا يريد أن يكون عاصيا بمفرده، بل يريد أن يضم إليه آخرين من الجنس الذي أبى أن يسجد هو لأبيهم آدم يريد أن يغويهم، كما حاول إغواء آدم :
﴿ إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة ﴾ ( من الآية ١١٧ سورة طه ).
وهل قال الحق بعدها : فتشقيا او فتشقى ؟ قال سبحانه :
﴿ فتشقى ﴾ ( من الآية ١١٧ سورة طه ).
فساعة جاء الشقاء في الأرض والكفاح ستر المرأة وكان الخطاب للرجل. وهذا يدل على أن القوامة تحتاج إلى تعب، وإلى جهد، وإلى سعي، وهذه المهمة تكون للرجل.
ونلحظ أنه ساعة التفضيل قال :﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ﴾ لقد جاء ب " بعضهم " لأنه ساعة فضل الرجل لأنه قوام فضل المرأة أيضا لشيء آخر وهو كونها السكن حين يستريح عندها الرجل وتقوم بمهمتها.
ثم تأتي حيثية القوامة :﴿ وبما أنفقوا من أموالهم ﴾. والمال يأتي نتيجة الحركة ونتيجة التعب، فالذب يتعب نقول له : انت قوام، إذن فالمرأة يجب أن تفرح بذلك ؛ لأنه سبحانه أعطى المشقة وأعطى التعب للجنس المؤهل لذلك. ولكن مهمتها وإن كانت مهمة عظيمة إلا أنها تتناسب والخصلة المطلوبة أولا فيها : الرقة والحنان والعطف والوداعة. فلم يأت بمثل هذا ناحية الرجل ؛ لأن الكسب لا يريد هذه الأمور، بل يحتاج إلى القوة والعزم والشدة، فقول الله :" قوامون " يعني مبالغين في القيام على أمور النساء.
ويوضح للنساء : لا تذكرن فقط أنها حكاية زوج وزوجة. قدرن أن القيام يكون على أمر البنات والأخوات والأمهات. فلا يصح أن تأخذ " قوام " على أنها السيطرة ؛ لأن مهمة القيام جاءت للرجل بمشقة، وهي مهمة صعبة عليه أن يبالغ في القيام على أمر من يتولى شئونهن.
﴿ وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ فإذا كان الزواج متعة للأنثى وللذكر. والاثنان يستمتعان ويريدان النوع في الذرية، فما دامت المتعة مشتركة وطلب الذرية أيضا مشتركا فالتبعات التي تترتب على ذلك لم تقع على كل منهما، ولكنها جاءت على الرجل فقط... صداقا ونفقة حتى ولو كانت المراة غنية لا يفرض عليها الشرع حتى أن تقرض زوجها.
إذن فقوامة الرجال جاءت للنساء براحة ومنعت عنهن المتاعب. فلماذا تحزن المراة منها ؟ ف " الرجال قوامون على النساء " أي قائمون إقامة دائمة ؛ لأنه لا يقال قوام لمطلق قائم، فالقائم يؤدي مهمة لمرة واحدة، لكن " قوام " تعني مستمر في القوامة.
﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ وما دمنا نكدح ونتعب للمرأة فلا بد أن تكون للمرأة مهمة توازي ذلك وهي أن تكون سكنا له، وهذه فيها تفضيل أيضا.
لقد قدم الحق سبحانه وتعالى في صدر الآية مقدمة بحكم يجب أن يلتزم به ؛ لأنه حكم الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه، فأوضح القضية الإيمانية :" الرجال قوامون على النساء " ثم جاء بالحيثيات فقال :﴿ بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ ويتابع الحق :﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب ﴾ والمرأة الصالحة هي المرأة التي استقامت على المنهج الذي وضعه لها من خلقها في نوعها، فمادامت هي صالحة تكون قانتة، والقنوت هو دوام الطاعة لله، ومنه قنوت الفجر الذي نقنته، وندعو ونقف مدة أطول في الصلاة التي فيها قنوت.
والمرأة القانتة خاضعة لله، إذن فحين تكون خاضعة لله تلتزم منهج الله وأمره فيما حكم به من أن الرجال قوامون على النساء، ﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب ﴾ وحافظات للغيب تدل على سلامة العفة. فالمرأة حين يغيب عنها الراعي لها والحامي لعرضها كالأب بالنسبة للبنت والابن بالنسبة للأم، والزوج بالنسبة للزوجة، فكل امرأة في ولاية أحد لا بد أن تحفظ غيبته ؛ ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما حدد المراة الصالحة قال في حديث عن الدنيا :
" الدنيا كلهامتاع، وخير متاع الدنيا المراة الصالحة " ١.
لقد وضع صلى الله عليه وسلم قانونا للمرأة الصالحة يقول فيه :
( خير النساء التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره )٢.
وأي شيء يحتاج الرجل إليه أحسن من ذلك. وكلمة " إن نظرت إليها سرتك " إياك أن توجهها ناحية الجمال فقط، جمال المبنى، لا، فساعة تراها اجمع كل صفات الخير فيها ولا تأخذ صفة وتترك صفة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من أن نأخذ صفة في المراة ونترك صفة أخرى، بل لا بد أن نأخذها في مجموع صفاتها. فقال :
" تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " ٣.
المطلوب ألا تنظر إلى زاوية واحدة في الجمال، بل انظر إلى كل الزوايا، فلو نظرت إلى الزاوية التي تشغل الناس، الزاوية الجمالية، لوجدتها أقل الزوايا بالنسبة إلى تكوين المراة ؛ لأن عمر هذه المسألة " شهر عسل " كما يقولون وتنتهي، ثم بعد ذلك تبدو المقومات الأخرى. فإن دخلت على مقوم واحد وهي أن تكون جميلة فأنت تخدع نفسك، وتظن أنك تريدها سيدة صالون ! ونقول لك : هذه الصفة أمدها بسيط في عمر الزمن، لكن ما يبقى لك هو أن تكون أمينة، أن تكون مخلصة، أن تكون مدبرة ؛ ولذلك فالفشل ينشأ في الأسرة من أن الرجال يدخلون على الزواج بمقياس واحد هو مقياس جمال البنية، وهذا المقياس الواحد عمره قصير، يذهب بعد فترة وتهدأ شرته. وبعد ذلك تستيقظ عيون الرجل لتتطلع إلى نواحي الجمال الأخرى، فلا يجدها. فيحدث الفشل ؛ لذلك لا بد أن تأخذ مجموعة الزوايا كلها. إياك أن تأخذ زاوية واحدة، وخير الزوايا أن يكون لها دين. وكذلك المقياس بالنسبة لقبول المراة للزوج، أيضا خير الزوايا أن يكون له دين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض )٤.
وعندما استشار رجل سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : زوجها من ذي الدين، إن أحبها وأكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
إذن فالدين يرشدنا : لا بد أن ننظر إلى المسألة التي سيكون لها عمر طويل في الحياة الممتدة، وبعد ذلك إذا أرادت أن تكون ناجحة فعليها أن ترى إطار نوعيتها وتنبغ فيه، ومن الممكن إن كان عندها وقت أن توسع دائرة مهمتها في بيتها، فإذا كان عندها أولاد فعليها أن تتعلم الحياكة وتقوم بتفصيل وحياكة ملا بسها وملابس أولادها فتوفر النقود، أو تتعلم التطريز كي لا تدفع أجرة، أو تتعلم التمريض حتى إذا مرض ولدها استطاعت أن تمرضه وترعاه، أن تتعلم كي تغنى عن مدرس خصوصي يأخذ نقودا من دخل الأسرة، وإن بقي عندها وقت فلتتعلم السباكة لتوفر أجرة السباك إذا فسد صنبور ماء، أو تتعلم إصلاح الكهرباء لتصلح مفتاح الإضاءة. وتستطيع المراة أن تقوم بأي عمل وهي جالسة في بيتها وتوفر دخلا لتقابل به المهام التي لا تقدر أن تفعلها، والمرأة تكون من " حافظات الغيب " ليس بارتجال من عندها أو باختيار، بل بالمنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب ؟..
فما المنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب ؟ تحافظ على عرضها وعلى مال زوجها في غيبته، فتنظر المنافذ التي تأتي منها الفتنة وتمتنع عنها، لا تخرج إلى الشوارع إلا لحاجة ماسة أو ضرورة كي لا ترى أحدا يفتنها أو يفتن بها ؛ لأن هذه هي مقدمات الحفظ، ولا تذهب في زحمة الحياة، وبعد ذلك نقول لها :" حافظي على الغيب " بل عليها أن تنظر ما بينه الله في ذلك. فإن اضطررت ان تخرجي فلتغضي البصر ؛ ولذلك قال سبحانه :
﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾ ( من الآية ٣١ سورة النور ).
فالمرأة إن لم تغض النظر يحدث التفات عاطفي ؛ لأن كل شعور في الإنسان له ثلاث مراحل : مرحلة أن يدرك، ومرحلة أن يجد في نفسه، ومرحلة أن ينزع، أي يحول الأمر إلى سلوك، ونضرب دائما المثل بالوردة. وأنت تسير ترى وردة في بستان وبمجرد رؤيتك لها فهذا إدراك، وإذا أعجبتك الوردة وعشقتها وأحببتها فهذا اسمه وجدان. وإذا اتجهت لتقطفها فهذه عملية نزوعية، فكم مرحلة ؟ ثلاث مراحل :
إدراك، فوجدان. فنزوع.
ومتى يتدخل الشرع ؟ الشرع يتدخل في عملية النزوع دائما. يقول لك : أنت نظرت الوردة ولم نعترض على ذلك، أحببتها وأعجبتك فلم نقل لك شيئا، لكن ساعة جئت لتمد يدك لتأخذها قلنا لك : لا، الوردة ليست لك.
إذن فأنت حر في أن تدرك، وحر في أن تجد في نفسك، إنما ساعة تنزع نقول لك : لا، هي ليست لك، وإن أعجبتك فازرع لك وردة في البيت، أو استأذن صاحبها مثلا.
إذن فالتشريع يتدخل في منطقة النزوع، إلا في أمر المرأة فالتشريع يتدخل من أول الإدراك ؛ لأن الذي خلقنا علم أننا إن أدركنا جمالا، نظرنا له، وستتولد عندنا مواجيد بالنسبة للأشياء التي نراها ونشتهيها، وساعة يوجد إدراك واشتهاء، لا يمكن أن ينفصل هذا عن النزوع ؛ لأنك كرجل مركب تركيبا كيميائيا بحيث إذ أدركت جمالا ثم حدث لك وجدان واشتهاء، فالاشتهاء لا يهدأ إلا بنزوع، فيبين لك الشرع : أنا رحمتك من أول الأمر، وتدخلت من اول المسألة. وكل شيء أتدخل فيه عند النزوع إلا المرأة فقد ت
١ رواه أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عمرو..
٢ رواه أحمد والنسائي والحاكم..
٣ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة..
٤ رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة..
٢ رواه أحمد والنسائي والحاكم..
٣ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة..
٤ رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة..
وقوله :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما ﴾ يعني أن الشقاق لم يقع بعد، إنما تخافون أن يقع الشقاق، وما هو " الشقاق " ؟ الشقاق مادته من الشق، وشق : أي أبعد شيئا عن شيء، شققت اللوح : أي أبعدت نصفيه عن بعضهما، إذن فكلمة " شقاق بينهما " تدل على أنهما التحما بالزواج وصارا شيئا واحدا، فأي شيء يبعد بين الاثنين يكون " شقاقا " إذ بالزواج والمعاشرة يكون الرجل قد التحم بزوجه هذا ما قاله الله :﴿ وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ﴾( من الآية ٢١ سورة النساء ).
ويتأكد هذا المعنى في آية أخرى :
﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ ( من الآية ١٨٧ سورةالبقرة ).
وهذا يعني أن المرأة مظروفة في الرجل والرجل مظروف فيها. فالرجل ساتر عليها وهي ساترة عليه، فإذا تعداهما الأمر، يقول الحق :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما ﴾ من الذين يخافون ؟.. أهو ولي الأمر أم القرابة القريبة من أولياء أمورها وأموره ؟ أي الناس الذين يهمهم هذه المسألة.
﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ﴾ إنهم البيئة والمجال العائلي، إذن فلا ندع المسائل إلى أن يحدث الشقاق، كان الإسلام والقرآن ينبهنا إلى أن كل أناس في محيط الأسرة يجب أن يكونوا يقظين إلى الحالات النفسية التي تعترض هذه الأسرة، سواء أكان أبا أم أخا أم قريبا عليه أن يكون متنبها لأحوال الأسرة ولا يترك الأمور حتى يحدث الشقاق بدليل أنه قال :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما ﴾.. فالشقاق لم يحدث، ويجب ألا تترك المسالة إلى أن يحدث الشقاق، ﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا ﴾ وهذا القول هو لولي الأمر العام أيضا إذا كانت عيونه يقظة إلى أنه يشرف على علاقات كل البيوت، ولكن هذا أمر غير وارد في ضوء مسئوليات ولي الأمر في العصر الحديث. إذن فلا بد أن الذي سيتيسر له تطبيق هذا الأمر هم البارزون من الأهل هنا وهناك، وعلى كل من لهم وجاهة في الأسرة أن يلاحظوا الخط البياني للأسرة، يقولون : نرى كذا وكذا.
ونأخذ حكما من هنا وحكما من هناك وننظر المسالة التي ستؤدي إلى عاصفة قبل أن تحدث العاصفة ؛ فالمصلحة انتقلت من الزوجين إلى واحد من أهل الزوج وواحد من أهل الزوجة، فهؤلاء ليس بينهما مسألة ظاهرة بأدلتها، ولم تتبلور المشكلة بعد، وليس في صدر أي منهما حكم مسبق، ويجوز أن يكون بين الزوجين أشياء، إنما الحكم من أهل الزوج والحكم من أهل الزوجة ليس في صدر أي منهما شيء، ومادام الاثنان ستوكل إليهما مهمة الحكم. فلا بد أن يتفقا على ما يحدث بحيث إذا رأى الاثنان أنه لا يصلح إلا بأن تطلق، فهما يحكمان بالطلاق، والناس قد تفهم أن الحكم هم أناس يصلحون بين الزوجين فإن لم يعجبهم الحكم بقي الزوجان على الشقاق، لا. فنحن نختار حكما من هنا وحكما من هناك.
إن ما يقوله الحكمان لا بد أن ننفذه، فقد حصرت هذه المسالة في الحكمين فقال :﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾.. فكأن المهمة الأساسية هي الإصلاح وعلى الحكمين أن يدخلا بنية الإصلاح، فإن لم يوفق الله بينهما فكان الحكمين قد دخلا بألا يصلحا.
إن على كل حكم أن يخاف على نفسه ويحاول أن يخلص في سبيل الوصول إلى الإصلاح ؛ لأنه إن لم يخلص فستنتقل المسالة إلى فضيحة له. فالذي خلق الجميع : الزوج والزوجة والحكم من أهل الزوج والحكم من أهل الزوجة قال :﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾ فليذهب الاثنان تحت هذه القضية، ويصرا بإخلاص على التوفيق بينهما ؛ لأن الله حين يطلق قضية كونية، فكل واحد يسوس نفسه وحركته في دائرة هذه القضية. وحين يطلق الله قضية عامة فهو العليم الخبير، ومثال ذلك قوله :
﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ١٧٣ ﴾ ( سورة الصافات ).
إنه سبحانه قال ذلك، فليحرص كل جندي على أن يكون جنديا لله ؛ لأنه إن انهزم فسنقول له : أنت لم تكن جنديا لله، فيخاف من هذه. إذن فوضع القضية الكونية في إطار عقدي كي يجند الإنسان كل ملكاته في إنجاح المهمة، وعندما يقول الله :﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾، فإياك أن تغتر بحزم الحكمين، وبذكاء الحكمين، فهذه أسباب. ونؤكد دائما : إياك أن تغتر بالأسباب ؛ لأن كل شيء من المسبب الأعلى، ولنلحظ دقة القول الحكيم :﴿ يوفق الله بينهما ﴾. فسبحانه لم يقل : إن يريدا إصلاحا يوفقا بينهما. بل احتفظ سبحانه لنفسه بفضل التوفيق بين الزوجين.
ويذيل سبحانه الآية :﴿ إن الله كان عليما خبيرا ﴾ أي بأحوال الزوج، وبأحوال الزوجة، وبأحوال الحكم من أهله، وبأحوال الحكم من أهلها، فهم محوطون بعلمه. وعلى كل واحد أن يحرص على تصرفه ؛ لأنه مسئول عن كل حركة من الحركات التي تكتنف هذه القضية ؛ فربنا عليم وخبير.
وما الفرق بين " عليم " و " خبير " ؟.. فالعلم قد تأخذه من علم غيرك إنما الخبرة فهي لذاتك.
ويتأكد هذا المعنى في آية أخرى :
﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ ( من الآية ١٨٧ سورةالبقرة ).
وهذا يعني أن المرأة مظروفة في الرجل والرجل مظروف فيها. فالرجل ساتر عليها وهي ساترة عليه، فإذا تعداهما الأمر، يقول الحق :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما ﴾ من الذين يخافون ؟.. أهو ولي الأمر أم القرابة القريبة من أولياء أمورها وأموره ؟ أي الناس الذين يهمهم هذه المسألة.
﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ﴾ إنهم البيئة والمجال العائلي، إذن فلا ندع المسائل إلى أن يحدث الشقاق، كان الإسلام والقرآن ينبهنا إلى أن كل أناس في محيط الأسرة يجب أن يكونوا يقظين إلى الحالات النفسية التي تعترض هذه الأسرة، سواء أكان أبا أم أخا أم قريبا عليه أن يكون متنبها لأحوال الأسرة ولا يترك الأمور حتى يحدث الشقاق بدليل أنه قال :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما ﴾.. فالشقاق لم يحدث، ويجب ألا تترك المسالة إلى أن يحدث الشقاق، ﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا ﴾ وهذا القول هو لولي الأمر العام أيضا إذا كانت عيونه يقظة إلى أنه يشرف على علاقات كل البيوت، ولكن هذا أمر غير وارد في ضوء مسئوليات ولي الأمر في العصر الحديث. إذن فلا بد أن الذي سيتيسر له تطبيق هذا الأمر هم البارزون من الأهل هنا وهناك، وعلى كل من لهم وجاهة في الأسرة أن يلاحظوا الخط البياني للأسرة، يقولون : نرى كذا وكذا.
ونأخذ حكما من هنا وحكما من هناك وننظر المسالة التي ستؤدي إلى عاصفة قبل أن تحدث العاصفة ؛ فالمصلحة انتقلت من الزوجين إلى واحد من أهل الزوج وواحد من أهل الزوجة، فهؤلاء ليس بينهما مسألة ظاهرة بأدلتها، ولم تتبلور المشكلة بعد، وليس في صدر أي منهما حكم مسبق، ويجوز أن يكون بين الزوجين أشياء، إنما الحكم من أهل الزوج والحكم من أهل الزوجة ليس في صدر أي منهما شيء، ومادام الاثنان ستوكل إليهما مهمة الحكم. فلا بد أن يتفقا على ما يحدث بحيث إذا رأى الاثنان أنه لا يصلح إلا بأن تطلق، فهما يحكمان بالطلاق، والناس قد تفهم أن الحكم هم أناس يصلحون بين الزوجين فإن لم يعجبهم الحكم بقي الزوجان على الشقاق، لا. فنحن نختار حكما من هنا وحكما من هناك.
إن ما يقوله الحكمان لا بد أن ننفذه، فقد حصرت هذه المسالة في الحكمين فقال :﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾.. فكأن المهمة الأساسية هي الإصلاح وعلى الحكمين أن يدخلا بنية الإصلاح، فإن لم يوفق الله بينهما فكان الحكمين قد دخلا بألا يصلحا.
إن على كل حكم أن يخاف على نفسه ويحاول أن يخلص في سبيل الوصول إلى الإصلاح ؛ لأنه إن لم يخلص فستنتقل المسالة إلى فضيحة له. فالذي خلق الجميع : الزوج والزوجة والحكم من أهل الزوج والحكم من أهل الزوجة قال :﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾ فليذهب الاثنان تحت هذه القضية، ويصرا بإخلاص على التوفيق بينهما ؛ لأن الله حين يطلق قضية كونية، فكل واحد يسوس نفسه وحركته في دائرة هذه القضية. وحين يطلق الله قضية عامة فهو العليم الخبير، ومثال ذلك قوله :
﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ١٧٣ ﴾ ( سورة الصافات ).
إنه سبحانه قال ذلك، فليحرص كل جندي على أن يكون جنديا لله ؛ لأنه إن انهزم فسنقول له : أنت لم تكن جنديا لله، فيخاف من هذه. إذن فوضع القضية الكونية في إطار عقدي كي يجند الإنسان كل ملكاته في إنجاح المهمة، وعندما يقول الله :﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾، فإياك أن تغتر بحزم الحكمين، وبذكاء الحكمين، فهذه أسباب. ونؤكد دائما : إياك أن تغتر بالأسباب ؛ لأن كل شيء من المسبب الأعلى، ولنلحظ دقة القول الحكيم :﴿ يوفق الله بينهما ﴾. فسبحانه لم يقل : إن يريدا إصلاحا يوفقا بينهما. بل احتفظ سبحانه لنفسه بفضل التوفيق بين الزوجين.
ويذيل سبحانه الآية :﴿ إن الله كان عليما خبيرا ﴾ أي بأحوال الزوج، وبأحوال الزوجة، وبأحوال الحكم من أهله، وبأحوال الحكم من أهلها، فهم محوطون بعلمه. وعلى كل واحد أن يحرص على تصرفه ؛ لأنه مسئول عن كل حركة من الحركات التي تكتنف هذه القضية ؛ فربنا عليم وخبير.
وما الفرق بين " عليم " و " خبير " ؟.. فالعلم قد تأخذه من علم غيرك إنما الخبرة فهي لذاتك.
وبعد أن تكلم الحق على ما سبق من الأحكام في الزواج وفي المحرمات، وأخذنا من مقابلها المحللات، وتكلم عمن لا يستطيع طولا وتكلم عن المال.. وحذرنا أن نأكله بالباطل، وتكلم عن الحال بين الرجل والمرأة، وبعد ذلك لفتنا الحق ووجهنا ونبهنا إلى المنهج الأعلى وهو قوله سبحانه :
﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ٣٦ ﴾.
وعندما يقول لنا الحق :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ أي : إياكم أن تدخلوا في قضية من هذه القضايا على غير طاعة الله في منهجه.. والعبادة هي : طاعة العابد للمعبود، فلا تأخذها على أنها العبادات التي نفعلها فقط من : الصلاة والصوم والزكاة والحج ؛ لأن هذه أركان الإسلام، ومادامت هذه هي الاركان والأسس التي بني عليها الإسلام، إذن فالإسلام لا يتكون من الأركان فقط بل الأركان هي الأسس التي بني عليها الإسلام، والأسس التي بني عليها البيت ليست هي كل البيت ؛ لذلك فالإسلام بنيان متعدد. فالذين يحاولون أن يأخذوا من المصطلح التصنيفي، أو المصطلح الفني في العلوم ويقولون : إن العبادات هي الصلاة وما يتعلق بها والزكاة والصوم والحج لانها تسمى في كتب الفقه :" العبادات " فلقد قلنا : إن هذا هو الاسم الاصطلاحي، لكن كل أمر من الله هو العبادة.
ولذلك فبعض الناس يقول : نعبد الله ولا نعمل. نقول لهم : العبادة هي طاعة عابد لأمر معبود، ولا تفهموا العبارة على أساس أنها الشعائر فقط، فالشعائر هي إعلان استدامة الولاء لله. وتعطى شحنة لنستقبل أحداث الحياة، و لكن الشعائر وحدها ليست كل العبادة، فالمعاملات عبادة، والمفهوم الحقيقي للعبادة أنها تشمل عمارة الأرض، فالحق سبحانه وتعالى قال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ﴾ ( من الآية ٩ سورة الجمعة ).
كأنه أخرجهم من البيع إلى الصلاة، ولم يخرجهم من فراغ بل أخرجهم من حركة البيع، وجاء ب " البيع " لأنه العملية التي يأتي ربحها مباشرة ؛ لأنك عندما تزرع زرعاستنتظر مدة تطول او تقصر لتخرج الثمار لكن البيع تاتي ثمرته مباشرة تبيع فتأخذ الربح في الحال. والبيع كما نعلم ينظم كل حركات الحياة، لأن معنى البيع : انه وسيط بين منتج ومستهلك، فعندما تبيع سلعة، هذه السلعة جاءت من منتج، والمنتج يبحث عن وسيط يبيعها لمستهلك، وهذا المستهلك تجده منتجا أيضا، والمنتج تجده أيضا مستهلكا. فالإنتاج والاستهلاك تبادل وحركة الحياة كلها في البيع وفي الشراء، ومادام هناك بيع ففيه شراء. فهذا استمرار لحركة الحياة. والبائع دائما يحب أن يبيع، لكن المشتري قد لا يحب أن يشتري ؛ لأن المشتري سيدفع مالا والبائع يكسب مالا، فيوضح الله : أتركوا هذه العملية التي يأتي ربحها مباشرة، ولبوا النداء لصلاة الجمعة. لكن ماذا بعد الصلاة ؟ يقول الحق :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ١٠ ﴾ ( سورة الجمعة ).
إذن فهذا أمر أيضا. فإن اطعنا الأمر الأول :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ فالأمر في﴿ فانتشروا في الأرض ﴾ يستوجب الطاعة كذلك. إذن فكل هذه عبادة، وتكون حركة الحياة كلها عبادة : إن كانت صلاة فهي عبادة، والصوم عبادة، وبعد ذلك.. ألا تحتاج الصلاة لقوام حياة ؟ لا بد أن تتوافر لك مقومات حياة حتى تصلي. وما هي مقومات حياتك ؟ إنها طعام وشراب ومسكن وملبس، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذن فجماع حركة الحياة كلها سلسلة عبادة، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها ﴾ ( من الآية ٦١ سورة هود ).
إذن فكل عمل يؤدي إلى عمارة الكون واستنباط أسرار الله في الوجود يعتبر عبادة لله ؛ لأنك تخرج من كنوز الله التي أودعها في الأرض ما يلفت الناس إلى الحقيقة الكونية التي جاء بها الإيمان.
وإياك أن تظن أن العبادة هي فقط العبادة التصنيفية التي في الفقه " قسم العبادات " و " قسم المعاملات ".. لا، فكله عبادة، لكن الحركات الحياتية الأخرى لا تظهر فيها العبادة مباشرة ؛ لأنك تعمل لنفعك، أما في الصلاة فأنت تقتطع من وقتك، فسميناها العبادة الصحيحة ؛ لأن العمليات الأخرى يعمل مثلها من لم يؤمن بإله، فهو أيضا يخرج للحياة ويزرع ويصنع.
ولماذا سموها العبادات ؟ لأن مثلها لا يأتي من غير متدين. إنما الأعمال الأخرى من عمارة الكون والمصلحة الدنيوية فغير المتدين يفعلها ولكن كل أمر لله نطيعه فيه اسمه عبادة. هذا مفهوم العبادة الذي يجب أن يتأكد لنا أن نخلص العمل بالعقول التي خلقها الله لنا بالطاقات المخلوقة لنا، في المادة المخلوقة وهي الأرض وعناصرها لنرقى بالوجود إلى مستوى يسعدنا ويرضى الله عنه.
﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾. بعدما قال كل هذا الكلام السابق، لفتنا ربنا إلى قضية يجب أن نلخظها دائما في كل تصرفاتنا هي أن نأتمر بأمر الله في منهجه، وألا نشرك به شيئا ؛ لأن الشرك يضر قضية الإنسان في الوجود، فإن كنت في عمل إياك أن تجعل الأسباب في ذهنك أمام المسبب الأعلى.. بل اقصد في كل عمل وجه الله.
ويضرب الحق المثل لراحة الموحد ولتعب المشرك فقال :
﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ٢٩ ﴾ ( سورة الزمر ).
فهذا عبد مملوك لجماعة، والجماعة مختلفة ومتشاكسة، وهو لا يعرف كيف يوفق بين أوامر كل منهم التي تتضارب، فإن أرضي هذا، وأغضب ذاك. إذن فهو عبد مبدد الطاقة موزع الجهد، مقسم الالتفاتات، ولكن العبد المملوك لواحد، لا يتلقى أمرا إلا من سيد واحد ونهيا من السيد نفسه. والحق يشرع القضية لعباده بصيغة الاستفهام، وهو العليم بكل شيء ليجعل المؤمن به يشاركه في الجواب حتى إذا ما قال الحق :" هل يستويان " ؟ هنا يعرضها الإنسان على عقله ويريد أن يجيب، فماذا يقول ؟ سيجيب بطبيعة الفطرة وطبيعة منطق الحق قائلا : لا يا رب لا يستويان.
إذن فأنت أيها العبد المؤمن قد قلتها، ولم يفرضها الله عليك. وقد طرحها الحق سبحانه سؤالا منه إليك ؛ حتى يكون جوابك الذي لن تجد جوابا سواه. فإذا ما كنت كذلك أيها العبد المؤمن قد ارتحت في الوجود وتوافرت لك طاقتك لأمر واحد ونهي واحد، هنا تصبح سيدا في الكون، فلا تجد في الكون من يأخذ منك عبوديتك للمكون. وتلك هي راحتنا في تنفيذ قول الله :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ لأن الإشراك بالله والعياذ بالله يرهق صاحبه. ويا ليت المشركين حين يشركون يأخذون عون الله، ولا يأخذون عون الشركاء. لكن الله يتخلى عن العبد المشرك، لأنه سبحانه يقول :
( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )١.
الحق إذن يتخلى عن العبد المشرك. وليت العبد المشرك يأخذ حظه من الله كشريك.. وإنما ينعدم عنه حظ الله ؛ لأن الله غني أن يشرك معه أحدا آخر. وهكذا يكون المشرك بلا رصيد إيماني، ويحيا في كد وتعب. ويردف الحق سبحانه وتعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين فيأتي قوله جل شانه :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ والوالدان هما الأب والأم ؛ لأنهما السبب المباشر في وجودك أيها المؤمن. ومادامت عبادتك لله هي فرع وجودك، إذن فإيجادك من أب وأم كسببين يجب أن يلفتك إلى السبب الأول ؛ إن ذلك يلفتك إلى من أوجد السلسلة إلى أن تصل إلى الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام.
﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾.. انظر إلى المنزلة التي أعطاها الله للوالدين، وهما الأب والام. والخطاب لك أيها المسلم لتعبد الله، والتكليف لك وأنت فرع الوجود ؛ لأن الخطاب لمكلف، والتكليف فرع الوجود، والوالدان هما السبب المباشر لوجودك، فإذا صعدت السبب فالوالدان من أين جاءا ؟.. من والدين، وهكذا حتى تصل لله، إذن فانتهت المسألة إلى الواحد ؛ لأن التكليف من المكلف إلى المكلف فرع الوجود. والوجود له سبب ظاهري هما " الوالدان "، وعندما تسلسلها تصل لله إنه سبحانه أمر : اعبدني ولا تشرك بي شيئا، وبعد ذلك.. ﴿ بالوالدين إحسانا ﴾.. كلمة " الإحسان " تدل على المبالغة في العطاء الزائد.. الذي نسميه مقام الإحسان.
﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾.. الحق سبحانه وتعالى حينما قرن الوالدين بعبادته ؛ لأنه إله واحد ولا نشرك به شيئا، لم ينكر أو يتعرض لإيمانهما أو كفرهما ؛ لأن هناك آية أخرى يقول فيها :
﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة لقمان ).
صحيح لا تطعهما ولكن احترمهما ؛ لأنهما السبب المباشر في الوجود وإن كان هذا السبب مخالفا لمن أنشأه وأوجده وهو الله جلت قدرته، ﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ والمعروف يصنعه الإنسان فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، إياك أن يكون قلبك متعلقا بهما إن كانا مشركين، لكن صاحبهما في الدنيا معروفا ؛ ولذلك قال :" وصاحبهما في الدنيا " أي انظر مصلحتهما في أمور الدنيا معروفا منك. والمعروف تصنعه فيمن تحب وفيمن لا تحب. والحق يقول :" وبالوالدين إحسانا ".. ويكررها في آيات متعددة.. فقد سبق في سورة البقرة ان قال لنا :
﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ﴾ ( من الآية ٨٣ سورة البقرة ).
وبعد ذلك تأتي هذه الآية التي نحن بصددها.. ﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ﴾.
وبعد ذلك يأتي أيضا قوله سبحانه :
﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة الأنعام ).
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
ويأتي أيضا في سورة العنكبوت فيقول :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ﴾ ( من الآية ٨ سورة العنكبوت ).
لكن إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، فإن كان الوالدان مشركين فلا بد أن نعطف عليهما معروفا.. والمعروف كما أوضحنا يكون لمن تحب ومن لا تحب، ولكن الممنوع هو : الودادة القلبية ؛ ولذلك قال :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة المجادلة ).
ولا يوجد تناقض أو شبه تناقض بين الآية التي نحن بصددها وبين آية سورة المجادلة. وهناك آيات تكلم فيها الحق وقرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين، وهناك آيتان جاء الأمر فيهما بالتوصية بالوالدين استقلالا.
وذلك في قوله تعالى :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
وفي قوله سبحانه :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ﴾ ( من الآية ٨ سورة العنكبوت ).
ففيه " إحسان "، وفيه " حسن "، " الإحسان " : هو أن تفعل فوق ما كلفك الله مستشعرا أنه يراك. فإن لم تكن تراه فإنه يراك، و " الإحسان " من " أحسن "، فيكون معناها أنه ارتضى التكليف وزاد على ما كلفه. وعندما يزيد الإنسان على ما
﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ٣٦ ﴾.
وعندما يقول لنا الحق :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ أي : إياكم أن تدخلوا في قضية من هذه القضايا على غير طاعة الله في منهجه.. والعبادة هي : طاعة العابد للمعبود، فلا تأخذها على أنها العبادات التي نفعلها فقط من : الصلاة والصوم والزكاة والحج ؛ لأن هذه أركان الإسلام، ومادامت هذه هي الاركان والأسس التي بني عليها الإسلام، إذن فالإسلام لا يتكون من الأركان فقط بل الأركان هي الأسس التي بني عليها الإسلام، والأسس التي بني عليها البيت ليست هي كل البيت ؛ لذلك فالإسلام بنيان متعدد. فالذين يحاولون أن يأخذوا من المصطلح التصنيفي، أو المصطلح الفني في العلوم ويقولون : إن العبادات هي الصلاة وما يتعلق بها والزكاة والصوم والحج لانها تسمى في كتب الفقه :" العبادات " فلقد قلنا : إن هذا هو الاسم الاصطلاحي، لكن كل أمر من الله هو العبادة.
ولذلك فبعض الناس يقول : نعبد الله ولا نعمل. نقول لهم : العبادة هي طاعة عابد لأمر معبود، ولا تفهموا العبارة على أساس أنها الشعائر فقط، فالشعائر هي إعلان استدامة الولاء لله. وتعطى شحنة لنستقبل أحداث الحياة، و لكن الشعائر وحدها ليست كل العبادة، فالمعاملات عبادة، والمفهوم الحقيقي للعبادة أنها تشمل عمارة الأرض، فالحق سبحانه وتعالى قال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ﴾ ( من الآية ٩ سورة الجمعة ).
كأنه أخرجهم من البيع إلى الصلاة، ولم يخرجهم من فراغ بل أخرجهم من حركة البيع، وجاء ب " البيع " لأنه العملية التي يأتي ربحها مباشرة ؛ لأنك عندما تزرع زرعاستنتظر مدة تطول او تقصر لتخرج الثمار لكن البيع تاتي ثمرته مباشرة تبيع فتأخذ الربح في الحال. والبيع كما نعلم ينظم كل حركات الحياة، لأن معنى البيع : انه وسيط بين منتج ومستهلك، فعندما تبيع سلعة، هذه السلعة جاءت من منتج، والمنتج يبحث عن وسيط يبيعها لمستهلك، وهذا المستهلك تجده منتجا أيضا، والمنتج تجده أيضا مستهلكا. فالإنتاج والاستهلاك تبادل وحركة الحياة كلها في البيع وفي الشراء، ومادام هناك بيع ففيه شراء. فهذا استمرار لحركة الحياة. والبائع دائما يحب أن يبيع، لكن المشتري قد لا يحب أن يشتري ؛ لأن المشتري سيدفع مالا والبائع يكسب مالا، فيوضح الله : أتركوا هذه العملية التي يأتي ربحها مباشرة، ولبوا النداء لصلاة الجمعة. لكن ماذا بعد الصلاة ؟ يقول الحق :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ١٠ ﴾ ( سورة الجمعة ).
إذن فهذا أمر أيضا. فإن اطعنا الأمر الأول :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ فالأمر في﴿ فانتشروا في الأرض ﴾ يستوجب الطاعة كذلك. إذن فكل هذه عبادة، وتكون حركة الحياة كلها عبادة : إن كانت صلاة فهي عبادة، والصوم عبادة، وبعد ذلك.. ألا تحتاج الصلاة لقوام حياة ؟ لا بد أن تتوافر لك مقومات حياة حتى تصلي. وما هي مقومات حياتك ؟ إنها طعام وشراب ومسكن وملبس، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذن فجماع حركة الحياة كلها سلسلة عبادة، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها ﴾ ( من الآية ٦١ سورة هود ).
إذن فكل عمل يؤدي إلى عمارة الكون واستنباط أسرار الله في الوجود يعتبر عبادة لله ؛ لأنك تخرج من كنوز الله التي أودعها في الأرض ما يلفت الناس إلى الحقيقة الكونية التي جاء بها الإيمان.
وإياك أن تظن أن العبادة هي فقط العبادة التصنيفية التي في الفقه " قسم العبادات " و " قسم المعاملات ".. لا، فكله عبادة، لكن الحركات الحياتية الأخرى لا تظهر فيها العبادة مباشرة ؛ لأنك تعمل لنفعك، أما في الصلاة فأنت تقتطع من وقتك، فسميناها العبادة الصحيحة ؛ لأن العمليات الأخرى يعمل مثلها من لم يؤمن بإله، فهو أيضا يخرج للحياة ويزرع ويصنع.
ولماذا سموها العبادات ؟ لأن مثلها لا يأتي من غير متدين. إنما الأعمال الأخرى من عمارة الكون والمصلحة الدنيوية فغير المتدين يفعلها ولكن كل أمر لله نطيعه فيه اسمه عبادة. هذا مفهوم العبادة الذي يجب أن يتأكد لنا أن نخلص العمل بالعقول التي خلقها الله لنا بالطاقات المخلوقة لنا، في المادة المخلوقة وهي الأرض وعناصرها لنرقى بالوجود إلى مستوى يسعدنا ويرضى الله عنه.
﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾. بعدما قال كل هذا الكلام السابق، لفتنا ربنا إلى قضية يجب أن نلخظها دائما في كل تصرفاتنا هي أن نأتمر بأمر الله في منهجه، وألا نشرك به شيئا ؛ لأن الشرك يضر قضية الإنسان في الوجود، فإن كنت في عمل إياك أن تجعل الأسباب في ذهنك أمام المسبب الأعلى.. بل اقصد في كل عمل وجه الله.
ويضرب الحق المثل لراحة الموحد ولتعب المشرك فقال :
﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ٢٩ ﴾ ( سورة الزمر ).
فهذا عبد مملوك لجماعة، والجماعة مختلفة ومتشاكسة، وهو لا يعرف كيف يوفق بين أوامر كل منهم التي تتضارب، فإن أرضي هذا، وأغضب ذاك. إذن فهو عبد مبدد الطاقة موزع الجهد، مقسم الالتفاتات، ولكن العبد المملوك لواحد، لا يتلقى أمرا إلا من سيد واحد ونهيا من السيد نفسه. والحق يشرع القضية لعباده بصيغة الاستفهام، وهو العليم بكل شيء ليجعل المؤمن به يشاركه في الجواب حتى إذا ما قال الحق :" هل يستويان " ؟ هنا يعرضها الإنسان على عقله ويريد أن يجيب، فماذا يقول ؟ سيجيب بطبيعة الفطرة وطبيعة منطق الحق قائلا : لا يا رب لا يستويان.
إذن فأنت أيها العبد المؤمن قد قلتها، ولم يفرضها الله عليك. وقد طرحها الحق سبحانه سؤالا منه إليك ؛ حتى يكون جوابك الذي لن تجد جوابا سواه. فإذا ما كنت كذلك أيها العبد المؤمن قد ارتحت في الوجود وتوافرت لك طاقتك لأمر واحد ونهي واحد، هنا تصبح سيدا في الكون، فلا تجد في الكون من يأخذ منك عبوديتك للمكون. وتلك هي راحتنا في تنفيذ قول الله :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ لأن الإشراك بالله والعياذ بالله يرهق صاحبه. ويا ليت المشركين حين يشركون يأخذون عون الله، ولا يأخذون عون الشركاء. لكن الله يتخلى عن العبد المشرك، لأنه سبحانه يقول :
( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )١.
الحق إذن يتخلى عن العبد المشرك. وليت العبد المشرك يأخذ حظه من الله كشريك.. وإنما ينعدم عنه حظ الله ؛ لأن الله غني أن يشرك معه أحدا آخر. وهكذا يكون المشرك بلا رصيد إيماني، ويحيا في كد وتعب. ويردف الحق سبحانه وتعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين فيأتي قوله جل شانه :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ والوالدان هما الأب والأم ؛ لأنهما السبب المباشر في وجودك أيها المؤمن. ومادامت عبادتك لله هي فرع وجودك، إذن فإيجادك من أب وأم كسببين يجب أن يلفتك إلى السبب الأول ؛ إن ذلك يلفتك إلى من أوجد السلسلة إلى أن تصل إلى الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام.
﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾.. انظر إلى المنزلة التي أعطاها الله للوالدين، وهما الأب والام. والخطاب لك أيها المسلم لتعبد الله، والتكليف لك وأنت فرع الوجود ؛ لأن الخطاب لمكلف، والتكليف فرع الوجود، والوالدان هما السبب المباشر لوجودك، فإذا صعدت السبب فالوالدان من أين جاءا ؟.. من والدين، وهكذا حتى تصل لله، إذن فانتهت المسألة إلى الواحد ؛ لأن التكليف من المكلف إلى المكلف فرع الوجود. والوجود له سبب ظاهري هما " الوالدان "، وعندما تسلسلها تصل لله إنه سبحانه أمر : اعبدني ولا تشرك بي شيئا، وبعد ذلك.. ﴿ بالوالدين إحسانا ﴾.. كلمة " الإحسان " تدل على المبالغة في العطاء الزائد.. الذي نسميه مقام الإحسان.
﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾.. الحق سبحانه وتعالى حينما قرن الوالدين بعبادته ؛ لأنه إله واحد ولا نشرك به شيئا، لم ينكر أو يتعرض لإيمانهما أو كفرهما ؛ لأن هناك آية أخرى يقول فيها :
﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة لقمان ).
صحيح لا تطعهما ولكن احترمهما ؛ لأنهما السبب المباشر في الوجود وإن كان هذا السبب مخالفا لمن أنشأه وأوجده وهو الله جلت قدرته، ﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ والمعروف يصنعه الإنسان فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، إياك أن يكون قلبك متعلقا بهما إن كانا مشركين، لكن صاحبهما في الدنيا معروفا ؛ ولذلك قال :" وصاحبهما في الدنيا " أي انظر مصلحتهما في أمور الدنيا معروفا منك. والمعروف تصنعه فيمن تحب وفيمن لا تحب. والحق يقول :" وبالوالدين إحسانا ".. ويكررها في آيات متعددة.. فقد سبق في سورة البقرة ان قال لنا :
﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ﴾ ( من الآية ٨٣ سورة البقرة ).
وبعد ذلك تأتي هذه الآية التي نحن بصددها.. ﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ﴾.
وبعد ذلك يأتي أيضا قوله سبحانه :
﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة الأنعام ).
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
ويأتي أيضا في سورة العنكبوت فيقول :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ﴾ ( من الآية ٨ سورة العنكبوت ).
لكن إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، فإن كان الوالدان مشركين فلا بد أن نعطف عليهما معروفا.. والمعروف كما أوضحنا يكون لمن تحب ومن لا تحب، ولكن الممنوع هو : الودادة القلبية ؛ ولذلك قال :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة المجادلة ).
ولا يوجد تناقض أو شبه تناقض بين الآية التي نحن بصددها وبين آية سورة المجادلة. وهناك آيات تكلم فيها الحق وقرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين، وهناك آيتان جاء الأمر فيهما بالتوصية بالوالدين استقلالا.
وذلك في قوله تعالى :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
وفي قوله سبحانه :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ﴾ ( من الآية ٨ سورة العنكبوت ).
ففيه " إحسان "، وفيه " حسن "، " الإحسان " : هو أن تفعل فوق ما كلفك الله مستشعرا أنه يراك. فإن لم تكن تراه فإنه يراك، و " الإحسان " من " أحسن "، فيكون معناها أنه ارتضى التكليف وزاد على ما كلفه. وعندما يزيد الإنسان على ما
١ رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة..
وتحدث عن البذل والأريحية والجود والسماح وبسط اليد، اتى سبحانه بالحديث عن المقابل وهو :
﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتد نا للكافرين عذابا مهينا ٣٧ ﴾.
وما معنى البخل ؟ إنه مشقة الإعطاء. فعندما يقطع حاجة من خاصة ماله ليعطيها لغيره يجد في ذلك مشقة ولا يقبل عليها، لكن الكريم عنده بسط يد، وأريحية. ويرتاح للمعروف، إذن فالبخل معناه مشقة الإعطاء، وقد يتعدى البخل ويتجاوز الحد بضن الشخص بالشيء الذي لا يضر بذله ولا ينفع منعه ؛ لأنه لا يريد أن يعطى. وهذا البخل والشح يكون في نفس البخيل ؛ لأنه أولا قد بخل على نفسه، فإذا كان قد بخل على نفسه، أتريد أن يجود على الناس ؟.
والشاعر يصور بخيلا اسمه " عيسى " ويريد أن يذمه ؛ لأنه بخيل جدا ؛ ويظهر صورة البخل بأنه ليس على الناس فقط بل على نفسه أيضا، فيما لا يضر بذله ولا ينفعه منعه. ومادام يقتر على نفسه فسيكون تقتيره على غيره أمرا متوقعا :
يقتر عيسى على نفسه **** وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره **** تنفس من منخر واحد
إنه بخيل لدرجة انه يفكر لو استطاع أن يتنفس من فتحة أنف واحدة لفعل ؛ حتى لا يتنفس بفتحتي أنفه.
والشاعر الآخر يأتي بصورة أيضا توضح كيف يمنع البخيل نفسه من الأريحية والإنسانية فيقول :
لو أن بيتك يا بن عم محمد **** إبر يضيق بها فضاء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة **** ليخيط قد قميصه لم تفعل
فالشاعر يصور أن سيدنا يوسف لو جاء إلى هذا البخيل وقال له : أعطني إبرة لكي أخيط قد القميص الذي مزقته زليخاء، وهذا البخيل عنده بيت يمتلئ فناؤه بالإبر، لضن البخيل ورفض.
إذن فالبخيل : هو من يضيق بالإعطاء، حتى أنه يضيق بإعطاء شيء لا يضر أن يبذله ولا ينفعه أن يمنعه، ويقول الحق عن البخلاء :
﴿ ولايحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير ١٨٠ ﴾ ( سورة آل عمران ).
فالحق يجعل للبخيل مما بخل به طوقا حول عنقه، ولو أن البخيل قد بذل قليلا، لكان الطوق خفيفا حول رقبته يوم القيامة. لكن البخيل كلما منع نفسه من العطاء ازداد الطوق ثقلا.
ولقد قال الحق أيضا عن الذين يكنزون الذهب والفضة :
﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ٣٤ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ٣٥ ﴾ ( جزء من الآية ٣٤ والآية ٣٥ سورة التوبة ).
فإن كان اكتنازهم لكميات كبيرة فما سيحمى على النار منها يكون كثيرا، ويكوون به. إذن فالإنسان لا بد أن يخفف عن نفسه الكي، والذين يبخلون لا يكتفون بهذه الخسيسة الخلقية في نفوسهم بل يحبون أن تتعدى إلى سواهم كأنهم عشقوا البخل، ويؤلمهم أن يروا إنسانا جوادا ؛ يقول لك البخيل : لا تنفق ؛ لأنه يتألم حين يرى إنسانا جوادا، ويريد أن يكون الناس كلهم بخلاء ؛ كي لا يكون أحد أحسن منه.
إنه يعرف أن الكرم أحسن، بدليل أنه يريد أن يكون الناس كلهم بخلاء، والبخل : ضن بما أوتيته على من لم يؤت. وهل البخل يكون في المال فقط ؟. لا، بل يكون في كل موهبة أوتيتها وتنقص عند غيرك ويفتقر إليها، إن ضننت بها فأنت داخل في البخل.
إن الذي يبخل بقدرته على معونة العاجز عن القدرة، والذي يبخل بما عنده من علم على من لا يعلم، هذا بخل، والذي يبخل على السفيه حتى بالحلم هذا بخل أيضا، فإن كانت عندك طاقة حلم فابذلها. إذن فالبخل معناه : أنك تمنع شيئا وهبه الله لك عن محتاجه، معلم مثلا عنده عشرة تلاميذ يتعلمون الصنعة، ويحاول أن يستر عنهم أسرار الصنعة ؛ يكون قد بخل.
﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ﴾ والآية معناها يتسع لكل أمر مادي أو قيمي. ونحن نأخذها أيضا في المعاني العالية، فالذين أوتوا الكتاب كانوا يعرفون صفته صلى الله عليه وسلم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلما جاءهم مصدقا لما معهم كفروا برسالته صلى الله عليه وسلم وكتموا معرفتهم به عن الناس، وكتموا معرفتهم بما جاء به من علم وهو الصادق المصدوق. وهذا بخل في القمة، وبعد ذلك استمروا يأمرون الناس بالبخل.
وأنتم تعرفون أن الأنصار كانت عندهم الأريحية الأنصارية، وساعة ذهب إليهم المهاجرون، قاسموهم المال، حتى النعمة التي غرس الله في قلب المؤمن الغيرة عليها من أن ينالها أحد حتى ولو كان كارها لها، وهي نعمة المراة ؛ لأن الرجل حتى وإن كره امرأته فهو يغار أن يأخذها أحد، ولكن الأنصار اقتسموا الزوجات، فكم من رجل كان متزوجا من أكثر من واحدة، طلق زوجة ليزوجها لمهاجر، فالحق سبحانه وتعالى يصعد أريحية الأنصار حتى أن الأنصاري يأتي بالمهاجر ويقول له : انظر إلى إحدى زوجتي أو إحدى زوجاتي فاختر ما يروقك فأطلقها وتتزوجها.
أية أريحية سامية هذه ؟ فإذا كنت ذا نعمة وأنت مؤمن فأنت تحب أن تعدى أثر نعمتك إلى غيرك، فإذا كان عندك سيارة فاخرة قد تحب أن تتصدق بها، لكن المراة، لا. لكن هذه الأريحية جاءت من الأنصار وقالوا : هؤلاء مهاجرون وتاركون أهلهم. وكان هذا ارتقاء إيمانيا في ذات الأنصار.
لقد جاء إليهم المهاجرون وفيهم شباب يمتلئون فتوة، وكانت قريش قد منعت أهليهم عنهم، ليس معهم زوجات. فيقول الأنصاري : لماذا لا أطلق إحدى زوجاتي، و ليتزوجها أخي المهاجر لأنفس عن عواطفه. وأقل ما فيها أن أمنع نظره أن يتحول حراما. لكن اليهود والمشركين والمنافقين يقولون لهم : لا تنفقوا على من عند رسول الله. ويقول القرآن الكريم في هذا الموقف :
﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ٧ ﴾ ( سورة المنافقون ).
لقد اخطئوا الظن بمن آمنوا برسول الله، وظنوا انهم إن لم ينفقوا عليهم فسيرتدون عن إيمانهم. ونسوا أن المؤمنين المهاجرين قد تركوا أموالهم وتركوا بلادهم، فمن ترك أمواله للهجرة في سبيل الله أيكفر به عندما لا يجد شيئا ؟ لا ؛ لأنه ترك كل شيء في سبيل الله. وها هو ذا سيدنا مصعب بن عمير المدلل في قريش، وكانت أمه تغدق عليه النعمة وصاحب العطور، وبعد ذلك يذهب إلى المدينة، فيلبس جلد شاة، فينظر له النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لأصحابه : انظروا كيف صنع الإيمان بصاحبكم، فعندما يقول المنافقون كعبد الله بن أبي للأنصار : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، يظنون أن المؤمنين يمكن أن يبيعوا إيمانهم بلقمة وكأنهم نسوا أن الذي يبيع إيمانه باللقمة هو من يحمل على مبدأ باطل، لكن من يعتنق ويعتقد مبدأ حق يجد حلاوته في النفس، وأجره مدخر عند ربه. إنه لا يتحول عنه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
( فجئت المسجد، فطلع علينا مصعب بن عمير في بردة له مرقوعة بفروه، وكان أنعم غلام بمكة وأرفه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما كان فيه من النعيم، ورأى حاله التي هو عليها فذرفت عيناه عليه، ثم قال : أنتم اليوم خير أم إذا غدى على أحدكم بجفنة من خبز ولحم ؟ فقلنا : نحن يومئذ خير نكفى المؤنة ونتفرغ للعبادة، فقال : " بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ " ١.
وقلنا : يجب أن تذكروا جيدا أن من حلاوة اليقين وحلاوة الإيمان أن المؤمن يضحي بكل شيء في سبيل رفعة الإيمان. لكن أصحاب المبادئ الباطلة لا يدخلون غيرهم فيها إلا إن دفعوا الثمن مقدما، أي أنهم يشترونهم. فإذا رأيت مبدأ من المبادئ يشترى البشر فاعرف أنه مبدأ باطل.. ولو كان مبدأ حق لدفع الإنسان من أجل أن يدخل فيه نفيس ماله، بل ويضحي في سبيله بنفسه أيضا.
ومن عجائب مبادئ الإسلام أن رسول الله صلى اله عليه وسلم حينما أخذ العهد لنفسه في بيعة العقبة، قال له الأنصار : فإن نحن وفينا بهذا فماذا يكون لنا ؟ كأنهم يقولون : أنت أخذت مالك فماذا لنا ؟..
انظروا إلى سمو الإيمان، ويقين المصطفى بأن الإيمان نفسه جائزة، فهل بشرهم بأنهم سيملكون الأرض ؟ هل بشر هم بأن هؤلاء المستضعفين هم الذين سيمكنون فيها ؟ لا، بل قال لهم : لكم الجنة. فلو قال لهم : لكم سيادة الدنيا، لكان في ذلك نظر، صحيح أن الدنيا دانت وخضعت لهم، لكن منهم من مات قبل أن تدنو له الدنيا وتذل، فأين صدق النبوءة ؟.
إذن فقد قال لهم عن الشيء المضمون، الشيء الذي يجد المؤمن فيه نفسه من فور أن يموت. قال لهم : لكم الجنة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه : " تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله ان شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه " ٢.
لم يغرهم بأنهم سيكونون أصحاب سلطان، ولم يقل لهم : أنتم ستجلسون على البسط والدنيا ستدين لكم، إنما قال لهم في أول البيعة : لكم الجنة، فإياكم أن يطمع أحد منكم في شيء إلا في الجنة ؛ ولذلك فالأنصار محبوبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت غزوة حنين وأعطى المهاجرون بعضا من الغنائم ولم يكن للأنصار منها شيء، وجد الأنصار في نفوسهم. فلفتهم رسول الله لفتة إيمانية وقال لهم :
" ألاترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا آخر لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وابناء الانصار وأبناء أبناء الأنصار " ٣.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله قسما وحظا.
أي سمو إيماني هذا ؟ لكن المنافقون قالوا للأنصار : لا تنفقوا أموالكم على من عند رسول الله حتى ينفضوا.
لكن المؤمنين لم ينفضوا. إنهم قد تركوا النعيم والأموال في مكة وجاءوا إلى الهجرة، فهم لم يأتوا ليأخذوا نعيما مظنونا محدودا قليلا، وحسبهم ما وعدوا به من نعيم متيقن عريض باق. لقد عرفوا بالإيمان أن نعيم الدنيا إما أن تفوته بالموت وإما أن يفوتك بالتقلب، لكن نعيم الآخرة ليس له حد ينتهي عنده، ولا يفوتك ولا تفوته.
ثم سبحانه يقول :﴿ ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ﴾، وساعة ترى شيئا يكتم شيئا، لا بد أن تفهم منها أن هذا الكتم معناه : منع شيء يريد أن يخرج بطبيعته، وكما يقولون : اكتم الدم فلو لم تكتمه يستطرق. كأن المال أو العلم يريد أن يخرج للناس ولكن أصحابه يكتمونه. وكان الفطرة الطبيعية في كل رزق سواء أكان رزقا ماديا أم رزقا معنويا أنه يستطرق ؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة الإنسان، فعندما يأتي انسان ويجوز شيئا مما هو مخلوق لخدمة الانسان ويحجبه فهو بذلك يمنع الشيء المكتوم من رسالته ؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة بني آدم، فعندما تعوقه عن هذه الخدمة فالشيء يحزن، وليتسع ظنكم إلى أن الجمادات تحزن أيضا.
﴿ فما بكت عليهم السماء والأرض ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الدخان ).
فالسماء والأرض لهما بكاء، وليس بكاء دموع إنما ب
﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتد نا للكافرين عذابا مهينا ٣٧ ﴾.
وما معنى البخل ؟ إنه مشقة الإعطاء. فعندما يقطع حاجة من خاصة ماله ليعطيها لغيره يجد في ذلك مشقة ولا يقبل عليها، لكن الكريم عنده بسط يد، وأريحية. ويرتاح للمعروف، إذن فالبخل معناه مشقة الإعطاء، وقد يتعدى البخل ويتجاوز الحد بضن الشخص بالشيء الذي لا يضر بذله ولا ينفع منعه ؛ لأنه لا يريد أن يعطى. وهذا البخل والشح يكون في نفس البخيل ؛ لأنه أولا قد بخل على نفسه، فإذا كان قد بخل على نفسه، أتريد أن يجود على الناس ؟.
والشاعر يصور بخيلا اسمه " عيسى " ويريد أن يذمه ؛ لأنه بخيل جدا ؛ ويظهر صورة البخل بأنه ليس على الناس فقط بل على نفسه أيضا، فيما لا يضر بذله ولا ينفعه منعه. ومادام يقتر على نفسه فسيكون تقتيره على غيره أمرا متوقعا :
يقتر عيسى على نفسه **** وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره **** تنفس من منخر واحد
إنه بخيل لدرجة انه يفكر لو استطاع أن يتنفس من فتحة أنف واحدة لفعل ؛ حتى لا يتنفس بفتحتي أنفه.
والشاعر الآخر يأتي بصورة أيضا توضح كيف يمنع البخيل نفسه من الأريحية والإنسانية فيقول :
لو أن بيتك يا بن عم محمد **** إبر يضيق بها فضاء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة **** ليخيط قد قميصه لم تفعل
فالشاعر يصور أن سيدنا يوسف لو جاء إلى هذا البخيل وقال له : أعطني إبرة لكي أخيط قد القميص الذي مزقته زليخاء، وهذا البخيل عنده بيت يمتلئ فناؤه بالإبر، لضن البخيل ورفض.
إذن فالبخيل : هو من يضيق بالإعطاء، حتى أنه يضيق بإعطاء شيء لا يضر أن يبذله ولا ينفعه أن يمنعه، ويقول الحق عن البخلاء :
﴿ ولايحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير ١٨٠ ﴾ ( سورة آل عمران ).
فالحق يجعل للبخيل مما بخل به طوقا حول عنقه، ولو أن البخيل قد بذل قليلا، لكان الطوق خفيفا حول رقبته يوم القيامة. لكن البخيل كلما منع نفسه من العطاء ازداد الطوق ثقلا.
ولقد قال الحق أيضا عن الذين يكنزون الذهب والفضة :
﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ٣٤ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ٣٥ ﴾ ( جزء من الآية ٣٤ والآية ٣٥ سورة التوبة ).
فإن كان اكتنازهم لكميات كبيرة فما سيحمى على النار منها يكون كثيرا، ويكوون به. إذن فالإنسان لا بد أن يخفف عن نفسه الكي، والذين يبخلون لا يكتفون بهذه الخسيسة الخلقية في نفوسهم بل يحبون أن تتعدى إلى سواهم كأنهم عشقوا البخل، ويؤلمهم أن يروا إنسانا جوادا ؛ يقول لك البخيل : لا تنفق ؛ لأنه يتألم حين يرى إنسانا جوادا، ويريد أن يكون الناس كلهم بخلاء ؛ كي لا يكون أحد أحسن منه.
إنه يعرف أن الكرم أحسن، بدليل أنه يريد أن يكون الناس كلهم بخلاء، والبخل : ضن بما أوتيته على من لم يؤت. وهل البخل يكون في المال فقط ؟. لا، بل يكون في كل موهبة أوتيتها وتنقص عند غيرك ويفتقر إليها، إن ضننت بها فأنت داخل في البخل.
إن الذي يبخل بقدرته على معونة العاجز عن القدرة، والذي يبخل بما عنده من علم على من لا يعلم، هذا بخل، والذي يبخل على السفيه حتى بالحلم هذا بخل أيضا، فإن كانت عندك طاقة حلم فابذلها. إذن فالبخل معناه : أنك تمنع شيئا وهبه الله لك عن محتاجه، معلم مثلا عنده عشرة تلاميذ يتعلمون الصنعة، ويحاول أن يستر عنهم أسرار الصنعة ؛ يكون قد بخل.
﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ﴾ والآية معناها يتسع لكل أمر مادي أو قيمي. ونحن نأخذها أيضا في المعاني العالية، فالذين أوتوا الكتاب كانوا يعرفون صفته صلى الله عليه وسلم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلما جاءهم مصدقا لما معهم كفروا برسالته صلى الله عليه وسلم وكتموا معرفتهم به عن الناس، وكتموا معرفتهم بما جاء به من علم وهو الصادق المصدوق. وهذا بخل في القمة، وبعد ذلك استمروا يأمرون الناس بالبخل.
وأنتم تعرفون أن الأنصار كانت عندهم الأريحية الأنصارية، وساعة ذهب إليهم المهاجرون، قاسموهم المال، حتى النعمة التي غرس الله في قلب المؤمن الغيرة عليها من أن ينالها أحد حتى ولو كان كارها لها، وهي نعمة المراة ؛ لأن الرجل حتى وإن كره امرأته فهو يغار أن يأخذها أحد، ولكن الأنصار اقتسموا الزوجات، فكم من رجل كان متزوجا من أكثر من واحدة، طلق زوجة ليزوجها لمهاجر، فالحق سبحانه وتعالى يصعد أريحية الأنصار حتى أن الأنصاري يأتي بالمهاجر ويقول له : انظر إلى إحدى زوجتي أو إحدى زوجاتي فاختر ما يروقك فأطلقها وتتزوجها.
أية أريحية سامية هذه ؟ فإذا كنت ذا نعمة وأنت مؤمن فأنت تحب أن تعدى أثر نعمتك إلى غيرك، فإذا كان عندك سيارة فاخرة قد تحب أن تتصدق بها، لكن المراة، لا. لكن هذه الأريحية جاءت من الأنصار وقالوا : هؤلاء مهاجرون وتاركون أهلهم. وكان هذا ارتقاء إيمانيا في ذات الأنصار.
لقد جاء إليهم المهاجرون وفيهم شباب يمتلئون فتوة، وكانت قريش قد منعت أهليهم عنهم، ليس معهم زوجات. فيقول الأنصاري : لماذا لا أطلق إحدى زوجاتي، و ليتزوجها أخي المهاجر لأنفس عن عواطفه. وأقل ما فيها أن أمنع نظره أن يتحول حراما. لكن اليهود والمشركين والمنافقين يقولون لهم : لا تنفقوا على من عند رسول الله. ويقول القرآن الكريم في هذا الموقف :
﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ٧ ﴾ ( سورة المنافقون ).
لقد اخطئوا الظن بمن آمنوا برسول الله، وظنوا انهم إن لم ينفقوا عليهم فسيرتدون عن إيمانهم. ونسوا أن المؤمنين المهاجرين قد تركوا أموالهم وتركوا بلادهم، فمن ترك أمواله للهجرة في سبيل الله أيكفر به عندما لا يجد شيئا ؟ لا ؛ لأنه ترك كل شيء في سبيل الله. وها هو ذا سيدنا مصعب بن عمير المدلل في قريش، وكانت أمه تغدق عليه النعمة وصاحب العطور، وبعد ذلك يذهب إلى المدينة، فيلبس جلد شاة، فينظر له النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لأصحابه : انظروا كيف صنع الإيمان بصاحبكم، فعندما يقول المنافقون كعبد الله بن أبي للأنصار : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، يظنون أن المؤمنين يمكن أن يبيعوا إيمانهم بلقمة وكأنهم نسوا أن الذي يبيع إيمانه باللقمة هو من يحمل على مبدأ باطل، لكن من يعتنق ويعتقد مبدأ حق يجد حلاوته في النفس، وأجره مدخر عند ربه. إنه لا يتحول عنه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
( فجئت المسجد، فطلع علينا مصعب بن عمير في بردة له مرقوعة بفروه، وكان أنعم غلام بمكة وأرفه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما كان فيه من النعيم، ورأى حاله التي هو عليها فذرفت عيناه عليه، ثم قال : أنتم اليوم خير أم إذا غدى على أحدكم بجفنة من خبز ولحم ؟ فقلنا : نحن يومئذ خير نكفى المؤنة ونتفرغ للعبادة، فقال : " بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ " ١.
وقلنا : يجب أن تذكروا جيدا أن من حلاوة اليقين وحلاوة الإيمان أن المؤمن يضحي بكل شيء في سبيل رفعة الإيمان. لكن أصحاب المبادئ الباطلة لا يدخلون غيرهم فيها إلا إن دفعوا الثمن مقدما، أي أنهم يشترونهم. فإذا رأيت مبدأ من المبادئ يشترى البشر فاعرف أنه مبدأ باطل.. ولو كان مبدأ حق لدفع الإنسان من أجل أن يدخل فيه نفيس ماله، بل ويضحي في سبيله بنفسه أيضا.
ومن عجائب مبادئ الإسلام أن رسول الله صلى اله عليه وسلم حينما أخذ العهد لنفسه في بيعة العقبة، قال له الأنصار : فإن نحن وفينا بهذا فماذا يكون لنا ؟ كأنهم يقولون : أنت أخذت مالك فماذا لنا ؟..
انظروا إلى سمو الإيمان، ويقين المصطفى بأن الإيمان نفسه جائزة، فهل بشرهم بأنهم سيملكون الأرض ؟ هل بشر هم بأن هؤلاء المستضعفين هم الذين سيمكنون فيها ؟ لا، بل قال لهم : لكم الجنة. فلو قال لهم : لكم سيادة الدنيا، لكان في ذلك نظر، صحيح أن الدنيا دانت وخضعت لهم، لكن منهم من مات قبل أن تدنو له الدنيا وتذل، فأين صدق النبوءة ؟.
إذن فقد قال لهم عن الشيء المضمون، الشيء الذي يجد المؤمن فيه نفسه من فور أن يموت. قال لهم : لكم الجنة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه : " تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله ان شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه " ٢.
لم يغرهم بأنهم سيكونون أصحاب سلطان، ولم يقل لهم : أنتم ستجلسون على البسط والدنيا ستدين لكم، إنما قال لهم في أول البيعة : لكم الجنة، فإياكم أن يطمع أحد منكم في شيء إلا في الجنة ؛ ولذلك فالأنصار محبوبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت غزوة حنين وأعطى المهاجرون بعضا من الغنائم ولم يكن للأنصار منها شيء، وجد الأنصار في نفوسهم. فلفتهم رسول الله لفتة إيمانية وقال لهم :
" ألاترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا آخر لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وابناء الانصار وأبناء أبناء الأنصار " ٣.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله قسما وحظا.
أي سمو إيماني هذا ؟ لكن المنافقون قالوا للأنصار : لا تنفقوا أموالكم على من عند رسول الله حتى ينفضوا.
لكن المؤمنين لم ينفضوا. إنهم قد تركوا النعيم والأموال في مكة وجاءوا إلى الهجرة، فهم لم يأتوا ليأخذوا نعيما مظنونا محدودا قليلا، وحسبهم ما وعدوا به من نعيم متيقن عريض باق. لقد عرفوا بالإيمان أن نعيم الدنيا إما أن تفوته بالموت وإما أن يفوتك بالتقلب، لكن نعيم الآخرة ليس له حد ينتهي عنده، ولا يفوتك ولا تفوته.
ثم سبحانه يقول :﴿ ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ﴾، وساعة ترى شيئا يكتم شيئا، لا بد أن تفهم منها أن هذا الكتم معناه : منع شيء يريد أن يخرج بطبيعته، وكما يقولون : اكتم الدم فلو لم تكتمه يستطرق. كأن المال أو العلم يريد أن يخرج للناس ولكن أصحابه يكتمونه. وكان الفطرة الطبيعية في كل رزق سواء أكان رزقا ماديا أم رزقا معنويا أنه يستطرق ؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة الإنسان، فعندما يأتي انسان ويجوز شيئا مما هو مخلوق لخدمة الانسان ويحجبه فهو بذلك يمنع الشيء المكتوم من رسالته ؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة بني آدم، فعندما تعوقه عن هذه الخدمة فالشيء يحزن، وليتسع ظنكم إلى أن الجمادات تحزن أيضا.
﴿ فما بكت عليهم السماء والأرض ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الدخان ).
فالسماء والأرض لهما بكاء، وليس بكاء دموع إنما ب
١ رواه الترمذي في صفة القيامة باب حال مصعب بن عمير بعد الاسلام وأخرجه الحاكم، وأورده ابن سعد في طبقاته وابن الأثير في "أسد الغابة"..
٢ رواه البخاري..
٣ رواه البخاري في كتاب المغازي ورواه مسلم في كتاب الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم..
٢ رواه البخاري..
٣ رواه البخاري في كتاب المغازي ورواه مسلم في كتاب الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم..
فسبحانه يوضح : لن يلقى البخيل العذاب فقط، بل سيلقى عذابا مهينا. ثم يأتي الحق سبحانه بالمقابل، يأتي بغير البخيل، فيقول :
﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ٣٨ ﴾.
إن هذه الآية الكريمة تتحدث عن الذي ينفق، لكن الغاية غير واضحة عنده. الغاية ضعيفة لأنه ينفق رئاء الناس، إنه يريد بالإنفاق مراءاة الناس ؛ ولذلك يقول العارفون بفضل الله : اختر من يثمن عطاءك. فأنت عندما تعطي شيئا لإنسان فهو يثمن هذا الشيء بإمكاناته وقدراته، سواء بكلمة ثناء يقولها مثلا أو بغير ذلك، لكن العطاء لله كيف يثمنه سبحانه ؟ لا بد أن يكون الثمن غاليا.
إذن فالعاقل ينظر لمن سيعطي النعمة، ولنا الأسوة في سيدنا عثمان رضي الله عنه عندما علم التجار أن هناك تجارة آتية له، جاء كل التجار ليشتروا منه البضاعة ثم يبيعوها ليربحوا وقال لهم : جاءني أكثر من ثمنكم، وفي النهاية قال لهم : أنا بعتها لله إذن فقد تاجر سيدنا عثمان مع الله، فرفع من ثمن بضاعته، فالذي يعطي لرئاء الناس نقول له : أنت خائب ؛ لأنك ما ثمنت نعمتك، بل ألقيتها تافهة الثمن، ماذا سيفعل لك الناس ؟ هم قد يحسدونك على نعمتك ويتمنون أن يأخذوها منك، فلماذا ترائيهم ؟ إذن فهذه صفقة فاشلة خاسرة ؛ ولذلك قال الحق :
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ ( من الآية ١١١ من سورة التوبة ).
ومادام سبحانه هو الذي اشترى فلا بد أن الثمن كبير ؛ لأنه يعطي النعيم الذي ليس فيه أغيار، ففي الجنة لا تفوت النعمة مؤمنا، ولا هو يفوتها. فالذي يرائي الناس خاسر، ولا يعرف أصول التجارة ؛ لأنه لم يعرف طعم التجارة مع الله ؛ ولذلك شبه عمله في آية أخرى بقوله :
﴿ كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ﴾ ( من الآية ٢٦٤ سورة البقرة ).
و " الصفوان " هو المروة وجمعه مرو وهي حجارة بيض براقة، والمروة ناعمة وليست خشنة. لكن بها بعض من الثنايا يدخل فيها التراب ؛ ولأن المروة ناعمة جدا فقليل من الماء ولو كان رذاذا يذهب بالتراب. والذي ينفق ماله رئاء الناس هو من تتضح له قضية الإيمان ولكن لم يثبت الإيمان في قلبه بعد، فلو كنت تعلم أنك تريد أن تبيع سلعة وهناك تاجر يعطيك فيها ثمنا أغلى فلماذا تعطيها للأقل ثمنا ؟ إنك إن فعلت فقد خبت وخسرت فأوضح لك الحق : ما دمت تريد رئاء الناس إذن فأنت ليس عندك إيمان بالذي يشتري بأغلى، فتكون في عالم الاقتصاد تاجرا فاشلا، ولذلك قلنا : ليحذر كل واحد حين يعطي أن يخاف من العطاء، فالعطاء يستقبله الله بحسن الأجر، ولكن عليه ألا يعطي بضجيج ودعاية تفضح عطاءه ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :
( رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )١.
إن العبد الصالح حين يعطي فهو يعلم أن يده هي العليا ويده خير من اليد السفلى، فليستر على الناس المحتاجين سفلية أيديهم، ولا يجعلها واضحة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يضيق مجال الإعطاء فقال :
﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ٢٧١ ﴾ ( سورة البقرة ).
فإبداء الصدقات لا مانع منه إن كان من يفعل ذلك يريد أن يكون أسوة، المهم أن يخرج الرياء من القلب لحظة إعطاء الصدقة، فالحق يوضح : إياك أن تنفق وفيك رئاء، أما من يخرج الصدقة وفي قلبه رياء فالله لا يحرم المحتاجين من عطاء معط ؛ لأنه سبحانه يؤكد : خذوا منه وهو الخاسر ؛ لأنه لن يأخذ ثوابا، لكن المجتمع ينتفع.
إن الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس هم من الذين " لا يؤمنون بالله " لأنه سبحانه هو المعطي، وهو يحب أن يضع المسلم عطاءه في يده ﴿ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾فلو كانوا يؤمنون باليوم الآخر لرأوا الجزاء الباقي، فأنت إذا كنت تحب نعمتك فخذ النعمة وحاول أن تجعلها مثمرة.. أي كثيرة الثمار، فالذي لم يتصدق من ماله ولم ينفقه حتى على نفسه يكون قد أنهى مسألة المال وعمر ماله معه عند هذا الحد، أما الذي أنفقه في سبيل الله فسيجده في الآخرة، فيكون قد أطال عمر ماله.
فالبخيل هو عدو ماله ؛ لأنه لم يستطع أن يثمره، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :
( إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟.
قال : بلى يارب، قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له : كذبت وتقول الملائكة : كذبت، ويقول الله له : بل أردت أن يقال : فلان قارئ فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال...... " ٢.
لكن هل قال لك الدين : لا تفعل ؟ لا، افعل لينتفع الناس بالرغم منك.
والبخيل عندما يكثر ماله يكون قد حرم على نفسه هذا المال ثم يأتي ابن له يريد أن يستمتع بالمال، ولذلك يقال في الريف : مال الكنزي للنزهى، ولا أحد بقادر أن يخدع خالقه أبدا ! ! فسبحانه يوضح : أنا أعطيتك نعمة أنت لم تعطها لأحد، لكني سأيسر السبيل لطائع لي، إياك أن تظن أنك خدعتني عندما بخلت، فبخلك يقع عليك. إذن فأنت قد ضيقت رزقك بالبخل ولو أنفقت لأعطاك الله خيرا كثيرا﴿ وما انفقتم من شيء فهو يخلفه ﴾ لكنك تركته لورثتك وسيأخذونه ليكون رزقهم متسعا، وأيضا فإنك حين تمنع المال عن غيرك فأنت قد يسرت سبيلا لمن يبذل.
كيف ؟ لنفترض أن إنسانا كريما، وكرمه لا يدعه يتوارى من السائل، والناس لها أمل فيه. وبعد ذلك لم ينهض دخله بتبعاته، فإن كان عنده " فدانان " فهو يبيع فدانا ليفرح به على المحتاجين، وعندما يبيع الفدان سيشتريه من يكتنز، فيكون المكتنز قد يسر سبيلا للكريم، فإياك أن تظن أنك قادر على خداع من خلقك وخلق الكون وأعطاك هذه النعمة، وهذا يشبه صاحب السيئة الذي من الله عليه بالتوبة والرجوع إلى الله، إننا نقول له : إياك أن تعتقد أنك اختلست شهوة من الله أبدا. أنت اختلست شهوة ستلهبك أخيرا، وتجعلك تفعل حسنات مثلها عشرين مرة، لأنه سبحانه قد قال :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ ( من الآية ١١٤ سورة هود ).
فأنت لن تضحك على خالقك لأنه سيجعلها وراءك، فتعمل خيرا كثيرا، كذلك البخيل نقول له : ستيسر سبيلا لكريم بذال، والحق سبحانه وتعالى بين في آخر الآية السبب الذي حمله على ذلك، إن الأسباب متعددة. لكن تجمعها كلمة " شيطان "، فكل من يمنعك من سبيل الهدى هو شيطان، ابتداء من شهوات نفسك وغفلة عقلك عن المنهج، إنها قرين سوء يزين لك الفحشاء، ويزين لك الإثم، إن وراء كل هذه الأمور شيطانا يوسوس إليك، وكل هؤلاء نسميهم " شيطانا " لأن الشيطان هو من يبعدك عن المنهج، وهناك شياطين من الجن، ، وشياطين من الإنس، فالنفس حين تحدث الإنسان ألا يلتزم بالمنهج ؛ لأن التزامه بالمنهج سيفوت عليه فرصة شهوة هي شيطان. إن النفس التي ترى الشهوة العاجلة وتضيع منها شهوة آجلة لا حدود لها هي شيطان. فالشيطان إذن هو الذي جعلهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.. وهذا الشيطان وساعة يكون قرينا للإنسان، فمعنى ذلك أنه مقترن به، والقرن بكسر القاف هو من تنازله.
وكلمة " قرن " تطلق أيضا على فترة من الزمن هي مائة عام ؛ لأنها تقرن الأجيال ببعضها، فالشيطان قرين اي ملازم لصاحبه ومقترن به، فيقول الحق :﴿ ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ﴾، أي بئس هذا القرين لأنه القرين الذي لا ينفعني ولا يصدني عن مجال ضار.
ولذلك فالناس قد يحب بعضهم بعضا في الدنيا لأنهم يجتمعون على معصية. أما في الآخرة فماذا يفعلون ؟ يقول الحق :
﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ٦٧ ﴾ ( سورة الزخرف ).
لأن المتقين يعين بعضهم بعضا على الطاعة، فالواحد منهم يقول لصاحبه : كنت تعينني على الطاعة، كنت توجهني وتذكرني إن غفلت، فيزداد الحب بينهما. لكن الإنسان يلعن من أغواه وأول من نلعن يوم القيامة نلعن الشيطان، وكذلك الشيطان أول ما يتبرأ يتبرا منا ؛ ولذلك فعندما تحين المجادلة نجد الشيطان يقول لمن أغواهم وأضلهم :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ).
والسلطان هو : القوة العالية التي تجبر من دونها، فالإنسان تجبر مادته وبنيته بسلطان القهر المادي، ويقهر في اعتقاداته بالدليل والحجة. والإكراه في المادة إنما يتحكم في القالب، لكنه لا يتحكم في القلب، فقد تكون ضعيفا أمام واحد قوي ولكنك تمسك له سوطا وتقول له : اسجد لي. اخضع، فيسجد لك ويخضع. وأنت بذلك تقهر القالب، لكنك لم تقهر القلب، هذا هو السلطان المادي الذي يقهر القالب، لكن إذا جاء لك إنسان بالحجج وأقنعك، فهذا قهر إقناع، وقدرة قهر العقول بالإقناع نوع من السلطان أيضا.
إذن فالسلطان يأتي من ناحيتين : سلطان يقهر القالب، وسلطان يقهر فقه القلب، فسلطان القالب يجعلك تخضع قهرا عنك، وسلطان الحجة والبرهان يجعلك تفعل برضا منك، والشيطان يقول لمن اتبعوه : يا من جعلتموني قرينا لكم لا تفارقوني ؛ أنتم أغبياء ؛ فليس لي عليكم سلطان، وما كان لي من القوة بحيث أستطيع أن أرغمكم على أن ترتكبوا المعاصي، وما كان عندي منطق ولا حجة لكي أقنعكم أن تفعلوا المعاصي، لكنكم كنتم غافلين، أنا أشرت لكم فقط فلست أملك قوة أقهر مادتكم بها، ولا برهان عندي لأسيطر على عقولكم :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ).
إذن فالخيبة منكم انتم ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ).
ماذا يعني " بمصرخكم " ؟ إنها استغاثة واحد في أزمة لا يقدر عليها وضاقت به الأسباب، عندئذ يستنصر بغيره، فيصرخ على غيره، أي يناديهم لإنقاذه ولنجدته، فالذي يستجيب له ويأتي لإنقاذه يقال له : أزال صراخه، إذن فأصرخه يعني سارع وأجاب صرخته، والشيطان يقول : إن استنجدتم بي فلن أنجدكم وأنتم لن تنجدوني، فكل واحد منا عرف مسئوليته وقدرته. وبالنسبة للإنسان فقد قال الحق :
﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ﴾ ( من الآية ١٣ سورة الإسراء ).
فمن يتخذ الشيطان قرينا، " فساء قرينا " وكلمة " ساء " مثل كلمة " بئس " كلتاهما تستعمل لذم وتقبيح الشيء أي، فبئس أن يكون الشيطان قرينا لك ؛ لأن الشيطان أخذ على نفسه العهد أمام الله ألا يغوي من يطيعه سبحانه ويغوي من سواهم من الناس أجمعين.
وعندما تتأمل الآية، نجد أن الحق يقول :﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ﴾.
فالآية إذن تتناول لونا من الإنفاق يحبط الله ثوابه. فنفقة المرائي تتعدى إلى نفع غيره لكن لا ينتفع المرائي منها، بل تكون قد أنقصت من ماله ولم تثمر عند ربه.
والحق يلفتنا إلى أن ذلك كله راجع إلى معوقات الإيمان الذي يتطلب من الإنسان أن يكون في كل حركات حيا
﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ٣٨ ﴾.
إن هذه الآية الكريمة تتحدث عن الذي ينفق، لكن الغاية غير واضحة عنده. الغاية ضعيفة لأنه ينفق رئاء الناس، إنه يريد بالإنفاق مراءاة الناس ؛ ولذلك يقول العارفون بفضل الله : اختر من يثمن عطاءك. فأنت عندما تعطي شيئا لإنسان فهو يثمن هذا الشيء بإمكاناته وقدراته، سواء بكلمة ثناء يقولها مثلا أو بغير ذلك، لكن العطاء لله كيف يثمنه سبحانه ؟ لا بد أن يكون الثمن غاليا.
إذن فالعاقل ينظر لمن سيعطي النعمة، ولنا الأسوة في سيدنا عثمان رضي الله عنه عندما علم التجار أن هناك تجارة آتية له، جاء كل التجار ليشتروا منه البضاعة ثم يبيعوها ليربحوا وقال لهم : جاءني أكثر من ثمنكم، وفي النهاية قال لهم : أنا بعتها لله إذن فقد تاجر سيدنا عثمان مع الله، فرفع من ثمن بضاعته، فالذي يعطي لرئاء الناس نقول له : أنت خائب ؛ لأنك ما ثمنت نعمتك، بل ألقيتها تافهة الثمن، ماذا سيفعل لك الناس ؟ هم قد يحسدونك على نعمتك ويتمنون أن يأخذوها منك، فلماذا ترائيهم ؟ إذن فهذه صفقة فاشلة خاسرة ؛ ولذلك قال الحق :
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ ( من الآية ١١١ من سورة التوبة ).
ومادام سبحانه هو الذي اشترى فلا بد أن الثمن كبير ؛ لأنه يعطي النعيم الذي ليس فيه أغيار، ففي الجنة لا تفوت النعمة مؤمنا، ولا هو يفوتها. فالذي يرائي الناس خاسر، ولا يعرف أصول التجارة ؛ لأنه لم يعرف طعم التجارة مع الله ؛ ولذلك شبه عمله في آية أخرى بقوله :
﴿ كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ﴾ ( من الآية ٢٦٤ سورة البقرة ).
و " الصفوان " هو المروة وجمعه مرو وهي حجارة بيض براقة، والمروة ناعمة وليست خشنة. لكن بها بعض من الثنايا يدخل فيها التراب ؛ ولأن المروة ناعمة جدا فقليل من الماء ولو كان رذاذا يذهب بالتراب. والذي ينفق ماله رئاء الناس هو من تتضح له قضية الإيمان ولكن لم يثبت الإيمان في قلبه بعد، فلو كنت تعلم أنك تريد أن تبيع سلعة وهناك تاجر يعطيك فيها ثمنا أغلى فلماذا تعطيها للأقل ثمنا ؟ إنك إن فعلت فقد خبت وخسرت فأوضح لك الحق : ما دمت تريد رئاء الناس إذن فأنت ليس عندك إيمان بالذي يشتري بأغلى، فتكون في عالم الاقتصاد تاجرا فاشلا، ولذلك قلنا : ليحذر كل واحد حين يعطي أن يخاف من العطاء، فالعطاء يستقبله الله بحسن الأجر، ولكن عليه ألا يعطي بضجيج ودعاية تفضح عطاءه ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :
( رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )١.
إن العبد الصالح حين يعطي فهو يعلم أن يده هي العليا ويده خير من اليد السفلى، فليستر على الناس المحتاجين سفلية أيديهم، ولا يجعلها واضحة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يضيق مجال الإعطاء فقال :
﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ٢٧١ ﴾ ( سورة البقرة ).
فإبداء الصدقات لا مانع منه إن كان من يفعل ذلك يريد أن يكون أسوة، المهم أن يخرج الرياء من القلب لحظة إعطاء الصدقة، فالحق يوضح : إياك أن تنفق وفيك رئاء، أما من يخرج الصدقة وفي قلبه رياء فالله لا يحرم المحتاجين من عطاء معط ؛ لأنه سبحانه يؤكد : خذوا منه وهو الخاسر ؛ لأنه لن يأخذ ثوابا، لكن المجتمع ينتفع.
إن الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس هم من الذين " لا يؤمنون بالله " لأنه سبحانه هو المعطي، وهو يحب أن يضع المسلم عطاءه في يده ﴿ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾فلو كانوا يؤمنون باليوم الآخر لرأوا الجزاء الباقي، فأنت إذا كنت تحب نعمتك فخذ النعمة وحاول أن تجعلها مثمرة.. أي كثيرة الثمار، فالذي لم يتصدق من ماله ولم ينفقه حتى على نفسه يكون قد أنهى مسألة المال وعمر ماله معه عند هذا الحد، أما الذي أنفقه في سبيل الله فسيجده في الآخرة، فيكون قد أطال عمر ماله.
فالبخيل هو عدو ماله ؛ لأنه لم يستطع أن يثمره، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :
( إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟.
قال : بلى يارب، قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له : كذبت وتقول الملائكة : كذبت، ويقول الله له : بل أردت أن يقال : فلان قارئ فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال...... " ٢.
لكن هل قال لك الدين : لا تفعل ؟ لا، افعل لينتفع الناس بالرغم منك.
والبخيل عندما يكثر ماله يكون قد حرم على نفسه هذا المال ثم يأتي ابن له يريد أن يستمتع بالمال، ولذلك يقال في الريف : مال الكنزي للنزهى، ولا أحد بقادر أن يخدع خالقه أبدا ! ! فسبحانه يوضح : أنا أعطيتك نعمة أنت لم تعطها لأحد، لكني سأيسر السبيل لطائع لي، إياك أن تظن أنك خدعتني عندما بخلت، فبخلك يقع عليك. إذن فأنت قد ضيقت رزقك بالبخل ولو أنفقت لأعطاك الله خيرا كثيرا﴿ وما انفقتم من شيء فهو يخلفه ﴾ لكنك تركته لورثتك وسيأخذونه ليكون رزقهم متسعا، وأيضا فإنك حين تمنع المال عن غيرك فأنت قد يسرت سبيلا لمن يبذل.
كيف ؟ لنفترض أن إنسانا كريما، وكرمه لا يدعه يتوارى من السائل، والناس لها أمل فيه. وبعد ذلك لم ينهض دخله بتبعاته، فإن كان عنده " فدانان " فهو يبيع فدانا ليفرح به على المحتاجين، وعندما يبيع الفدان سيشتريه من يكتنز، فيكون المكتنز قد يسر سبيلا للكريم، فإياك أن تظن أنك قادر على خداع من خلقك وخلق الكون وأعطاك هذه النعمة، وهذا يشبه صاحب السيئة الذي من الله عليه بالتوبة والرجوع إلى الله، إننا نقول له : إياك أن تعتقد أنك اختلست شهوة من الله أبدا. أنت اختلست شهوة ستلهبك أخيرا، وتجعلك تفعل حسنات مثلها عشرين مرة، لأنه سبحانه قد قال :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ ( من الآية ١١٤ سورة هود ).
فأنت لن تضحك على خالقك لأنه سيجعلها وراءك، فتعمل خيرا كثيرا، كذلك البخيل نقول له : ستيسر سبيلا لكريم بذال، والحق سبحانه وتعالى بين في آخر الآية السبب الذي حمله على ذلك، إن الأسباب متعددة. لكن تجمعها كلمة " شيطان "، فكل من يمنعك من سبيل الهدى هو شيطان، ابتداء من شهوات نفسك وغفلة عقلك عن المنهج، إنها قرين سوء يزين لك الفحشاء، ويزين لك الإثم، إن وراء كل هذه الأمور شيطانا يوسوس إليك، وكل هؤلاء نسميهم " شيطانا " لأن الشيطان هو من يبعدك عن المنهج، وهناك شياطين من الجن، ، وشياطين من الإنس، فالنفس حين تحدث الإنسان ألا يلتزم بالمنهج ؛ لأن التزامه بالمنهج سيفوت عليه فرصة شهوة هي شيطان. إن النفس التي ترى الشهوة العاجلة وتضيع منها شهوة آجلة لا حدود لها هي شيطان. فالشيطان إذن هو الذي جعلهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.. وهذا الشيطان وساعة يكون قرينا للإنسان، فمعنى ذلك أنه مقترن به، والقرن بكسر القاف هو من تنازله.
وكلمة " قرن " تطلق أيضا على فترة من الزمن هي مائة عام ؛ لأنها تقرن الأجيال ببعضها، فالشيطان قرين اي ملازم لصاحبه ومقترن به، فيقول الحق :﴿ ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ﴾، أي بئس هذا القرين لأنه القرين الذي لا ينفعني ولا يصدني عن مجال ضار.
ولذلك فالناس قد يحب بعضهم بعضا في الدنيا لأنهم يجتمعون على معصية. أما في الآخرة فماذا يفعلون ؟ يقول الحق :
﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ٦٧ ﴾ ( سورة الزخرف ).
لأن المتقين يعين بعضهم بعضا على الطاعة، فالواحد منهم يقول لصاحبه : كنت تعينني على الطاعة، كنت توجهني وتذكرني إن غفلت، فيزداد الحب بينهما. لكن الإنسان يلعن من أغواه وأول من نلعن يوم القيامة نلعن الشيطان، وكذلك الشيطان أول ما يتبرأ يتبرا منا ؛ ولذلك فعندما تحين المجادلة نجد الشيطان يقول لمن أغواهم وأضلهم :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ).
والسلطان هو : القوة العالية التي تجبر من دونها، فالإنسان تجبر مادته وبنيته بسلطان القهر المادي، ويقهر في اعتقاداته بالدليل والحجة. والإكراه في المادة إنما يتحكم في القالب، لكنه لا يتحكم في القلب، فقد تكون ضعيفا أمام واحد قوي ولكنك تمسك له سوطا وتقول له : اسجد لي. اخضع، فيسجد لك ويخضع. وأنت بذلك تقهر القالب، لكنك لم تقهر القلب، هذا هو السلطان المادي الذي يقهر القالب، لكن إذا جاء لك إنسان بالحجج وأقنعك، فهذا قهر إقناع، وقدرة قهر العقول بالإقناع نوع من السلطان أيضا.
إذن فالسلطان يأتي من ناحيتين : سلطان يقهر القالب، وسلطان يقهر فقه القلب، فسلطان القالب يجعلك تخضع قهرا عنك، وسلطان الحجة والبرهان يجعلك تفعل برضا منك، والشيطان يقول لمن اتبعوه : يا من جعلتموني قرينا لكم لا تفارقوني ؛ أنتم أغبياء ؛ فليس لي عليكم سلطان، وما كان لي من القوة بحيث أستطيع أن أرغمكم على أن ترتكبوا المعاصي، وما كان عندي منطق ولا حجة لكي أقنعكم أن تفعلوا المعاصي، لكنكم كنتم غافلين، أنا أشرت لكم فقط فلست أملك قوة أقهر مادتكم بها، ولا برهان عندي لأسيطر على عقولكم :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ).
إذن فالخيبة منكم انتم ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ).
ماذا يعني " بمصرخكم " ؟ إنها استغاثة واحد في أزمة لا يقدر عليها وضاقت به الأسباب، عندئذ يستنصر بغيره، فيصرخ على غيره، أي يناديهم لإنقاذه ولنجدته، فالذي يستجيب له ويأتي لإنقاذه يقال له : أزال صراخه، إذن فأصرخه يعني سارع وأجاب صرخته، والشيطان يقول : إن استنجدتم بي فلن أنجدكم وأنتم لن تنجدوني، فكل واحد منا عرف مسئوليته وقدرته. وبالنسبة للإنسان فقد قال الحق :
﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ﴾ ( من الآية ١٣ سورة الإسراء ).
فمن يتخذ الشيطان قرينا، " فساء قرينا " وكلمة " ساء " مثل كلمة " بئس " كلتاهما تستعمل لذم وتقبيح الشيء أي، فبئس أن يكون الشيطان قرينا لك ؛ لأن الشيطان أخذ على نفسه العهد أمام الله ألا يغوي من يطيعه سبحانه ويغوي من سواهم من الناس أجمعين.
وعندما تتأمل الآية، نجد أن الحق يقول :﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ﴾.
فالآية إذن تتناول لونا من الإنفاق يحبط الله ثوابه. فنفقة المرائي تتعدى إلى نفع غيره لكن لا ينتفع المرائي منها، بل تكون قد أنقصت من ماله ولم تثمر عند ربه.
والحق يلفتنا إلى أن ذلك كله راجع إلى معوقات الإيمان الذي يتطلب من الإنسان أن يكون في كل حركات حيا
١ رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة..
٢ رواه الترمذي في الزهد، أخرجه ابن خزيمة ومسلم..
٢ رواه الترمذي في الزهد، أخرجه ابن خزيمة ومسلم..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ٣٩ ﴾.
وقوله سبحانه : " وماذا عليهم " وأي تبعة ومشقة وضرر عليهم من الإيمان والإنفاق في سبيل الله ؟ إنه سبحانه لم يستفهم منهم عما يصيبهم من ذلك ولكنه جل شأنه يذمهم ويوبخهم ويصفهم ويصمهم بالجهل والغفلة عما ينفعهم.
فالتلميذ الذي يلعب، فيرسب تقول له : وماذا عليك لو أنك ذاكرت ؟ ! يعني أي ضرر عليك في هذا، إذن فمعنى ذلك أنها لا تقال إلا لإنسان في قدرته ان يفعل الفعل، فمثل هذا التلميذ يقدر أن يذاكر. لكننا لا نأتي لإنسان فيه صفة لا دخل له فيها كالقصر في القامة مثلا ثم نقول لك : ماذا عليك لو كنت طويلا ؟ ! هذا قول لا ينفع ولا يصح.
إذن فماذا عليك. لا تقال إلا لمن في قدرته الاختيارية أن يكون كذلك، أما من لا يكون في قدرته ألا يكون كذلك فلا تقال له. ونقول ذلك لأن طائفة الجبرية قالت : إن الذي كفر لا يقدر أن يؤمن فالكافر يظل كافرا، لكنهم لم يلفتوا إلى قول ربنا :﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ﴾ فمعنى هذا القول أن الباب مفتوح. وإلا لو كانوا ملزمين بالكفر لما قال ربنا :﴿ وماذا عليهم ﴾. وهذه الآية لا ترد فقط على مذهب الجبرية، بل تهدم مذهب الجبرية كله. فالإنسان ليس مجبرا على فعل وتنتهي المسألة، وكما يقولون : كالريشة في مهب الريح. ومثلما قال الشاعر :
نقول لهم : أنتم نسبتم لله والعياذ بالله الظلم، فالله سبحانه وتعالى لم يطلب من الإنسان أن يؤمن به إلا وقد أودع فيه قوة اختيارية تختار بين البديلات. وأنتم لم تفطنوا إلى حقيقة كتابة كل شيء أزلا فأخذتم منها الشيء الذي لا بد للناس أن تنفذه، ولم تلتفتوا إلى أن هناك فرقا بين أن يكون قد كتب ليلزم، وأن يكون قد كتب لأنه علم.
هو سبحانه كتب لماذا ؟ لأنه علم أزلا أن عبده سيختار كذا ويختار كذا. إذن فالكتابة ليست للإلزام ولكن لسبق العلم. والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير.
وحتى نوضح ذلك نقول : إن الصفات نوعان : صفة تكشف الأشياء على ماهي عليه بصرف النظر عن أن تقهر أو لا تقهر، والقدرة صفة إبراز وليست صفة انكشاف، ومثال ذلك عميد الكلية الذي يأتي فيقول لأستاذ مادة من المواد : جاءت لي مكافأة للطالب النابغ في مادة كذا، فاصنع اختبارا للطلاب حتى نعطي هذه الجائزة لمن يستحقها. فيقول أستاذ المادة : لا ضرورة للاختبار لأنني أعلمهم وأعرف مواقعهم من الجد ومواقعهم من الاجتهاد ومواقعهم من فقه العلم، فلان هو الأول وأعطه الجائزة، فلا يقتنع عميد الكلية، ويضع هو اختبارا أو يأتي بأساتذة آخرين يضعون الاختبار دون هذا الأستاذ. وبعد ذلك يفوز الطالب الذي حدده الأستاذ مسبقا بالدرجة الأولى.
أساعة أجاب الطالب عن الأسئلة التي وضعت له. أكان مع الطالب الذي فاز بالمركز الأول من يرغمه على أن يكتب المادة العلمية التي جعلته يحصل على الجائزة ؟ لا. فلماذا قال الأستاذ عنه ذلك ؟ لأنه علم بمن عنده قدرة من العلم. لقد حكم الأستاذ أولا لأنه يعلم.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فالحق سبحانه وتعالى أعطى للناس الاختيار بين البديلات، لكنه أوضح : أنا أعلم أن عبدي سيختار كذا وكذا. إذن فهذه سبق علم لا قهر قدرة. فالقدرة لها تأثير والعلم لا تأثير له ولا قهر. وقول الله هنا :﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله ﴾ فقوله :﴿ وماذا عليهم ﴾ تعني أي ضرر يلحقهم. كلمة " عليهم " دائما تكشف للإنسان ما عليه ؛ لذلك لا يقول " لهم " بل يقول : أي ضرر كان يلحقهم لو أنهم آمنوا بالله ؛ ولذلك يقول الحق :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة البقرة ).
لم يقل سبحانه : الذين يتيقنون. بل إن مجرد الظن بلقاء الله جعلهم يعملون الأعمال الصالحة، فما بالك إذا كان العبد متيقنا ؟ إن المتيقن يقوم بالعمل الصالح من باب أولى. ولذلك فهذه المسألة أخرجت " المعري " عما اتهموه به من أنه ينكر البعث، صحيح أنه في أول حياته قال :
تحطمنا الأيام حتى كأننا**** زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
فقالوا : إن قوله " لا يعاد له سبك " معناه أنه ينفي قدرة الحق على أن يبعثنا مرة ثانية، مع أنه من الممكن أن يتأول فيها، أي لا يعاد لنا سبك في حياتنا هذه، ونحن لا نرى من مات يعود مرة ثانية. ونقول كذلك : إن هذه قالها في أول حياته. ولكنه قال في آخر الأمر :
زعم المنجم والطبيب كلاهما**** لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر**** أو صح قولي فالخسار عليكما
فهو يطلب من الطبيب والمنجم أن يكفا عن إفساد العقول بالشك. وهب أنه اعتقد ألا بعث، وواحد آخر اعتقد أن فيه بعثا، نقول له : إما أن يجيء بعث فيكذب من قال : لا بعث، وإما ألا يجيء بعث، فإذا لم يجيء البعث، ما الذي ضر من آمن بالبعث ؟ وإذا جاء البعث فمن الذي خسر ؟ سيخسر من أنكره، إذن فالذي ينكر البعث ولا يكسب، ولكن من قال : إن هناك بعثا لا يخسر، وهكذا.
وقول الحق :" وماذا عليهم " إنه تساؤل عن أي ضرر كان يلحقهم " لو أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله " إن من يعطي الصدقة ويضعها في يد الله يستثمرها عند المعطي، لكن عندما يقوم بذلك رئاء الناس فهو يثمر عند من لا يعطي، وبذلك يكونون قد خسروا أموالهم وخسروا تثمير الأموال في يد الله بالثواب في الآخرة. ﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ﴾. وعلم الله متغلغل وسبحانه يعلم الخفايا. وسبحانه محيط بكل شيء علما ؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ٤٠ ﴾.
﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ٣٩ ﴾.
وقوله سبحانه : " وماذا عليهم " وأي تبعة ومشقة وضرر عليهم من الإيمان والإنفاق في سبيل الله ؟ إنه سبحانه لم يستفهم منهم عما يصيبهم من ذلك ولكنه جل شأنه يذمهم ويوبخهم ويصفهم ويصمهم بالجهل والغفلة عما ينفعهم.
فالتلميذ الذي يلعب، فيرسب تقول له : وماذا عليك لو أنك ذاكرت ؟ ! يعني أي ضرر عليك في هذا، إذن فمعنى ذلك أنها لا تقال إلا لإنسان في قدرته ان يفعل الفعل، فمثل هذا التلميذ يقدر أن يذاكر. لكننا لا نأتي لإنسان فيه صفة لا دخل له فيها كالقصر في القامة مثلا ثم نقول لك : ماذا عليك لو كنت طويلا ؟ ! هذا قول لا ينفع ولا يصح.
إذن فماذا عليك. لا تقال إلا لمن في قدرته الاختيارية أن يكون كذلك، أما من لا يكون في قدرته ألا يكون كذلك فلا تقال له. ونقول ذلك لأن طائفة الجبرية قالت : إن الذي كفر لا يقدر أن يؤمن فالكافر يظل كافرا، لكنهم لم يلفتوا إلى قول ربنا :﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ﴾ فمعنى هذا القول أن الباب مفتوح. وإلا لو كانوا ملزمين بالكفر لما قال ربنا :﴿ وماذا عليهم ﴾. وهذه الآية لا ترد فقط على مذهب الجبرية، بل تهدم مذهب الجبرية كله. فالإنسان ليس مجبرا على فعل وتنتهي المسألة، وكما يقولون : كالريشة في مهب الريح. ومثلما قال الشاعر :
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له | إياك إياك أن تبتل بالماء |
هو سبحانه كتب لماذا ؟ لأنه علم أزلا أن عبده سيختار كذا ويختار كذا. إذن فالكتابة ليست للإلزام ولكن لسبق العلم. والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير.
وحتى نوضح ذلك نقول : إن الصفات نوعان : صفة تكشف الأشياء على ماهي عليه بصرف النظر عن أن تقهر أو لا تقهر، والقدرة صفة إبراز وليست صفة انكشاف، ومثال ذلك عميد الكلية الذي يأتي فيقول لأستاذ مادة من المواد : جاءت لي مكافأة للطالب النابغ في مادة كذا، فاصنع اختبارا للطلاب حتى نعطي هذه الجائزة لمن يستحقها. فيقول أستاذ المادة : لا ضرورة للاختبار لأنني أعلمهم وأعرف مواقعهم من الجد ومواقعهم من الاجتهاد ومواقعهم من فقه العلم، فلان هو الأول وأعطه الجائزة، فلا يقتنع عميد الكلية، ويضع هو اختبارا أو يأتي بأساتذة آخرين يضعون الاختبار دون هذا الأستاذ. وبعد ذلك يفوز الطالب الذي حدده الأستاذ مسبقا بالدرجة الأولى.
أساعة أجاب الطالب عن الأسئلة التي وضعت له. أكان مع الطالب الذي فاز بالمركز الأول من يرغمه على أن يكتب المادة العلمية التي جعلته يحصل على الجائزة ؟ لا. فلماذا قال الأستاذ عنه ذلك ؟ لأنه علم بمن عنده قدرة من العلم. لقد حكم الأستاذ أولا لأنه يعلم.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فالحق سبحانه وتعالى أعطى للناس الاختيار بين البديلات، لكنه أوضح : أنا أعلم أن عبدي سيختار كذا وكذا. إذن فهذه سبق علم لا قهر قدرة. فالقدرة لها تأثير والعلم لا تأثير له ولا قهر. وقول الله هنا :﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله ﴾ فقوله :﴿ وماذا عليهم ﴾ تعني أي ضرر يلحقهم. كلمة " عليهم " دائما تكشف للإنسان ما عليه ؛ لذلك لا يقول " لهم " بل يقول : أي ضرر كان يلحقهم لو أنهم آمنوا بالله ؛ ولذلك يقول الحق :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة البقرة ).
لم يقل سبحانه : الذين يتيقنون. بل إن مجرد الظن بلقاء الله جعلهم يعملون الأعمال الصالحة، فما بالك إذا كان العبد متيقنا ؟ إن المتيقن يقوم بالعمل الصالح من باب أولى. ولذلك فهذه المسألة أخرجت " المعري " عما اتهموه به من أنه ينكر البعث، صحيح أنه في أول حياته قال :
تحطمنا الأيام حتى كأننا**** زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
فقالوا : إن قوله " لا يعاد له سبك " معناه أنه ينفي قدرة الحق على أن يبعثنا مرة ثانية، مع أنه من الممكن أن يتأول فيها، أي لا يعاد لنا سبك في حياتنا هذه، ونحن لا نرى من مات يعود مرة ثانية. ونقول كذلك : إن هذه قالها في أول حياته. ولكنه قال في آخر الأمر :
زعم المنجم والطبيب كلاهما**** لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر**** أو صح قولي فالخسار عليكما
فهو يطلب من الطبيب والمنجم أن يكفا عن إفساد العقول بالشك. وهب أنه اعتقد ألا بعث، وواحد آخر اعتقد أن فيه بعثا، نقول له : إما أن يجيء بعث فيكذب من قال : لا بعث، وإما ألا يجيء بعث، فإذا لم يجيء البعث، ما الذي ضر من آمن بالبعث ؟ وإذا جاء البعث فمن الذي خسر ؟ سيخسر من أنكره، إذن فالذي ينكر البعث ولا يكسب، ولكن من قال : إن هناك بعثا لا يخسر، وهكذا.
وقول الحق :" وماذا عليهم " إنه تساؤل عن أي ضرر كان يلحقهم " لو أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله " إن من يعطي الصدقة ويضعها في يد الله يستثمرها عند المعطي، لكن عندما يقوم بذلك رئاء الناس فهو يثمر عند من لا يعطي، وبذلك يكونون قد خسروا أموالهم وخسروا تثمير الأموال في يد الله بالثواب في الآخرة. ﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ﴾. وعلم الله متغلغل وسبحانه يعلم الخفايا. وسبحانه محيط بكل شيء علما ؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ٤٠ ﴾.
﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾.
والظلم : الأصل فيه محبة الانتفاع بجهد غيره، فعندما تظلم واحدا فهذا يعني أنك تأخذ حقه، وحقه ما جاء به بجهده وعرقه، وتأخذه أنت بدون جهد ولا عرق. ويتبع هذا أن يكون الظالم قويا. لكن ماذا عن الذي يظلم إنسانا لحساب إنسان آخر ؟ إنه لم ينتفع بظلمه ولكن غيره هو الذي انتفع. وهذا شر من الأول : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( بادروا بالأعمال ستكون فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا )١.
لأنه ظلم إنسانا لنفع عبد آخر ولم يأخذ هو شيئا لنفسه.
إذن فالظلم إما أن يكون الانتفاع بثمرة جهد غيرك من غير كد، وإما أن تنفع شخصا بجهد غيره، والله سبحانه وتعالى إذا نظرنا إليه وهو قوة القوي إذا أراد أن يظلم وحاشا لله أن يظلم فماذا يكون شكل ظلمه ؟ إن الظلم يتناسب مع قوة الظالم، إذن فقوة القوي عندما تظلم فظلمها لا يطاق، ثم لماذا يظلم ؟ وماذا يريد أن يأخذ وهو من وهب ؟ إنه سبحانه مستغن، ولن يأخذ من هذا ليعطي ذاك، فكلهم بالنسبة له سواء ؛ لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، كلهم متساوون، فلماذا يظلم ؟.
إن الظلم بالنسبة لله محال عقليا ومحال منطقيا، فلا يمكن لله أن يضيع عمل حسنة ولا أن يضاعف سيئة. فهذه لا تتأتى، والله واهب كل النعم للناس جميعا. ومادام هو من وهب كل النعم، فسبحانه غير منتفع بآثاره في خلقه. إن الحق سبحانه وتعالى ينفي عن نفسه الظلم في قوله :﴿ وما ربك بظلام للعبيد ٤٦ ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة فصلت ).
فكلمة " ظلام " مثل قولنا : فلان " أكال " وفلان " نوام ". وهي تختلف عن قولنا : فلان نائم، يعني نام مرة، ولكن " نوام " فهذا يعني مداومته على النوم كثيرا، أي أنه إما أن يكون مبالغا في الحدث، وإما أن يكون مكررا للحدث، فالمبالغة كما نعرف تأتي مرة لأن الحدث واحد لكنه قوي، ومرة يكون الحدث عاديا لكنه مكرر، هذه هي المبالغة، فقوله سبحانه وتعالى :﴿ وما ربك بظلام " نفى للمبالغة، وهذا لا يقتضي نفي غير المبالغة. ونقول : الله لو ظلم لكان ظلمه مناسبا قدرته فيكون كبيرا كثيرا، ولو كان ظالما لشمل ظلمه وعم الخلق جميعا فيكون كذلك كبيرا كثيرا ولكن الله سبحانه يقول :{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾. وسبحانه يحسب السيئة سيئة واحدة. أما الحسنة فيضاعفها، ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ " مثقال " : يعني ثقل ووزن، والثقل هو : مقدار جاذبية الأرض للشيء. فعندما يكون وزن الشيء قليلا وتلقيه من أعلى، فهو ينزل ببطء، أما الشيء الثقيل فعندما تلقيه من أعلى فهو ينزل بسرعة ؛ لأن قوة الجاذبية له تكون أقوى، والإنسان منا حين ينظر إلى كلمة " مثقال " ؛ ويعبر عنها بأنها وزن، فمعيار الميزان هنا " الذرة ". وما " الذرة " ؟.
قال العلماء فيها : هي رأس النملة الصغيرة التي لا تكاد ترى بالعين المجردة، أو النملة نفسها. هذه مقولة، أو الذرة كما قال ابن عباس حين سئل عنها : أخذ شيئا من تراب الأرض ثم نفخه، فلما نفخ تطاير التراب في الهواء، فقال لهم : كل واحدة من هذه اسمها " ذرة " وهو ما نسميه " الهباء "، ونحن الآن الموجودين في مكان واحد لا نرى شيئا في الجو، لكن انظر إلى حزمة ضوئية أي ثقب تدخل منه أشعة الشمس فساعة ترى ثقبا يدخل أشعة الشمس ترى غبارا كثيرا يسبح. والمهم أنك لا تراه جاريا إلا في شعاع الشمس فقط، فهو كان موجودا ونستنشقه، فما الذي جعلني لا أراه ؟. لأنه بلغ من الصغر واللطف مبلغا فوق طوق العين أن تراه، فالذرة واحدة من هذا الغبار، واسمه " الهباء " وواحدة الهباء هي الذرة.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : أن كل شيء موزون إلى أقل درجات الوزن وهو الذرة، وهي الهباء، ونحن لا نراها إلا في نور محجوز، لأننا في النور القوي لا نرى تلك الذرات، بل نراها فقط في نور له مصدر واحد ونافذ، والحق سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، وهذا تمثيل فقط ؛ لأن الذرة يمكن أن تكبر، فالذي يكبر يمكن أن يصغر، وقال الحق ذلك ولم يكن عند الإنسان المقياس الذي يفتت به الذرة، وقد حدث أن استطاع الإنسان ذلك، فبعد الحرب العالمية الأولى صنعت ألمانيا اسطوانات تحطيم الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ كما كان يصفه الفلاسفة قديما، ومعنى جزء لا يتجزأ أي لا يمكن أن يأتي أقل منه. ولم يلتفتوا إلى أن أي شيء له مادة إن كان يقبل التكبير فهو أيضا يقبل التصغير. والمهم أن توجد عند الإنسان الآلة التي تدرك الصغر.
ومثال ذلك عندما صعدت الأقمار الصناعية وأخذوا من الجو صورة لمدينة نيويورك ؛ خرجت الصورة صغيرة لمدينة نيويورك. بعد ذلك كبروا الصورة ؛ فأخرجوا أرقام السيارات التى كانت تسير كيف حدث هذا ؟ لقد كانت الصورة الصغيرة تحتوي تفاصيل اكثر دقة لاتراها العين المجردة وعندما يتم تكبيرها يتضح كل شيء حتى ارقام السيارات وضحت بعد أن كانت غير ظاهرة، وإن كنت موجودا في نيويورك في هذه الساعة أكنت تظهر بها ؟ لا يمكن أن تظهر.. لماذا ؟.. لأن صورتك صغرت إلى الحد والقدر الذي لا يمكنك أن تراها وهي بهذا الحجم وهكذا، فالنور عندما يكون محزوما، فالحزمة الضوئية التي تدخل إلى مكان ما، لها من القوة التي تطهر ذرة الهباء الذي لم تكن تراها.
إذن فنور من الله مخلوق ظهرت فيه الذرة، أيخفى على نور الخالق ذرة ؟ لا يمكن أن تخفى عليه سبحانه ؛ لأن النور الذي خلقه أظهر الذرة والهباء الذي كان موجودا ولا نراه، فلن يخفى على نور النور ذرة في الأرض.
وهكذا نعرف أن المسالة بالنسبة لله عملية قطعية، وعندما اخترعوا اسطوانة تحطيم الجوهر الفرد كانت مثل عصارة القصب، ونحن نعرف أن عود القصب يوضع بين عمودين من الحديد. والعمود الواحد اسمه " اسطوانة " وعندما يضيقون الاسطوانتين ثم يمررون عود القصب بينهما، فلا بد أن تكون المسافة بينهما ضيقة حتى إذا نفذ عود القصب يعصر، إذن فكلما ضيقت بين الاسطوانتين يزداد العصر، ومادامت الاسطوانتان تجري كل واحدة منهما على الأخرى فهنا فراغ ضئيل جدا، وحاول العلماء الألمان تضييق الاسطوانتين تضييقا يفتت لنا هذه الذرة، ونجحوا، وأصبح هناك شيء آخر أقل من الذرة.
وظن السطحيون الذين يتربصون بالإسلام وبكتاب الله الدوائر، ويريدون أن يجدوا فيه منفذا. قالوا : إن الله قال :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ﴾. على أنها أقل شيء وظهر أن هناك أقل من مثقال ذرة ؛ لأن الذرة تحطمت. وقلنا لهؤلاء : أنتم أخذتم آية ونسيتم آيات، فالقرآن قد جاء معجزة ليواجه مجتمعات شتى من لدن رسول الله إلى أن تقوم الساعة، فلا بد أن يكون فيه ما يشبع العقول من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة. ولو أن عطاء القرآن صب مرة واحدة في عصر الرسالة لجاءت القرون التالية وليس للقرآن عطاء. فأراد ربنا أن يكون القرآن هو المعجزة والمنهج المتضمن للأحكام والكليات، وهذه أمور مفهومة بالنسبة لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن تقوم الساعة. لكن لا يزال هناك كونيات ونواميس للحق في الوجود لم تظهر بعد، فسبحانه يعطي كل عصر على قدر اتساع فهمه.
وعندما نعرف أسرار قضية كونية لا يزيد علينا حكم، فعندما نعرف قضية مثلا كقضية الذرة وتفتيتها ووجود إشارات لها في القرآن الكريم لا يزيد ذلك علينا أي حكم. بل ظلت الأحكام كما هي. فالأحكام واضحة كل الوضوح ؛ لأن من يفعلها يثاب، ومن لا يفعلها يعاقب. والناس الذين ستقوم عليهم الساعة مثل الناس الذين عاصروا حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ؛ لذلك لا بد أن تكون الأحكام واحدة، فمن ناحية أن القرآن كتاب أحكام فهذا أمر واضح وضوحا لا زيادة فيه، ولم يفهم المعاصر لرسول الله حكما ثم جاء الإنسان في زماننا ليفهم حكما آخر، بل كل الأحكام سواء.
والقرآن كمعجزة هو أيضا معجزة للجميع. ولا بد أن تكون هناك معجزة لكل جيل. ولكل عصر، ويأتي الإعجاز في الآيات الكونية التي لو لم نعرفها فلن يحدث شيء بالنسبة للأحكام. مثال ذلك : لو لم نعرف أن الأرض تدور أكان انتفاعنا بالأرض يقل ؟ لا.. فنحن ننتفع بالأرض سواء أعلمنا كرويتنا أم لم نعلم، لكن الحق سبحانه وتعالى يواجه العقول بما يمكن أن تطيقه. فإذا ما ارتقت العقول وتنورت واستنارت بمقتضى طموحاتها العلمية في الكون. فالقرآن إن لم يؤيدها فهو لا يعارضها.
وعندما فتتوا الذرة قال المشككون : إن ربنا يضرب بالذرة المثل لأصغر شيء ﴿ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ لكن هناك ما هو أقل من الذرة. ونرد عليهم : أنتم نظرتم إلى آية ونسيتم آيات. أنتم لم تنتبهوا كما قلنا إلى أن من فتتوا الذرة إلى إلكترونات وأيونات وموجب وسالب حاولوا بعد ذلك أن يفتتوا ما فتت. والآية التي نحن بصددها الآن :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ أرضت العقول التي تعرف الذرة الأصلية هذه واحدة، ولماذا لا نسمع قول الله :﴿ وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ٦١ ﴾ 'سورة يونس ).
إذن فهناك ذرة وهناك أصغر من الذرة، ولم تأخذوا في بالكم أن " أصغر " هذه أفعل تفضيل، ولا يوجد أصغر إلاان وجد صغير، إذن فهناك ذرة، وهناك صغير عن الذرة، وهناك أصغر من الصغير، فهناك إذن ثلاث مراحل، فإن فتتوها فلنا رصيد في القرآن يقول بالصغر، فإن فتتم المفتت، فلنا رصيد في القرآن بأصغر ؛، لأن كل أصغر لا بد أن يسبقه صغير، وإن كنت ستفتت المفتت فما زال عندنا رصيد من القرآن يسبق عقولكم في الابتكار، فإن قلت تفتيت جاز، وإن قلت تجميع جاز ؛ لأنها أصغر وأكبر، تفتيت أو تجميع، والمعقول أنك تقول : لا يغيب الأصغر والصغير، والذرة كذلك لا تغيب فكيف يعبر عن الأكبر بأنه لا يغيب مع أنه ظاهر وواضح ؟.
ونقول لك : إن المتكلم هو ربنا، فالشيء لا يدرك إما لأنه لطيف في غاية الدقة بحيث لا تتعلق به الباصرة فلا يرى، وأيضا لا يدرك لأنه كبير بصورة أكبر من أن تحيط به الباصرة، فحين ترى جبلا كبيرا على بعد اثنين من الكيلومترات أو ثلاثة فأنت لا تدركه ؛ لأنه أكبر من أن يحيط به إشعاع بصرك، ولكن الأمر بالنسبة لله يختلف فلا يوجد صغير يدق لا يراه، ولا كبير يكبر لا يراه، إذن فلا بد أن تأتي﴿ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ﴾. وفي آية أخرى يقول سبحانه :
﴿ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور٢ ﴾ ( سورة سبأ ).
وانظروا إلى دقة الحق في الرد على الإنكار للساعة وهي قضية كونية تنسحب على كل العصور.. فيقول سبحانه :
﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا اكبر إلا في كتاب مبين ٣ ﴾ ( سورة سبأ ).
كان يكفي أن يقول : إن الساعة آتية، لكنه أوضح : اعرفوا أن الساعة آتية، وكل ما فعلتموه معروف، ولماذا يقولون : لا تأتي الساعة ؟ إن هذا لون من تكذيب النفس لأنهم لم ي
والظلم : الأصل فيه محبة الانتفاع بجهد غيره، فعندما تظلم واحدا فهذا يعني أنك تأخذ حقه، وحقه ما جاء به بجهده وعرقه، وتأخذه أنت بدون جهد ولا عرق. ويتبع هذا أن يكون الظالم قويا. لكن ماذا عن الذي يظلم إنسانا لحساب إنسان آخر ؟ إنه لم ينتفع بظلمه ولكن غيره هو الذي انتفع. وهذا شر من الأول : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( بادروا بالأعمال ستكون فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا )١.
لأنه ظلم إنسانا لنفع عبد آخر ولم يأخذ هو شيئا لنفسه.
إذن فالظلم إما أن يكون الانتفاع بثمرة جهد غيرك من غير كد، وإما أن تنفع شخصا بجهد غيره، والله سبحانه وتعالى إذا نظرنا إليه وهو قوة القوي إذا أراد أن يظلم وحاشا لله أن يظلم فماذا يكون شكل ظلمه ؟ إن الظلم يتناسب مع قوة الظالم، إذن فقوة القوي عندما تظلم فظلمها لا يطاق، ثم لماذا يظلم ؟ وماذا يريد أن يأخذ وهو من وهب ؟ إنه سبحانه مستغن، ولن يأخذ من هذا ليعطي ذاك، فكلهم بالنسبة له سواء ؛ لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، كلهم متساوون، فلماذا يظلم ؟.
إن الظلم بالنسبة لله محال عقليا ومحال منطقيا، فلا يمكن لله أن يضيع عمل حسنة ولا أن يضاعف سيئة. فهذه لا تتأتى، والله واهب كل النعم للناس جميعا. ومادام هو من وهب كل النعم، فسبحانه غير منتفع بآثاره في خلقه. إن الحق سبحانه وتعالى ينفي عن نفسه الظلم في قوله :﴿ وما ربك بظلام للعبيد ٤٦ ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة فصلت ).
فكلمة " ظلام " مثل قولنا : فلان " أكال " وفلان " نوام ". وهي تختلف عن قولنا : فلان نائم، يعني نام مرة، ولكن " نوام " فهذا يعني مداومته على النوم كثيرا، أي أنه إما أن يكون مبالغا في الحدث، وإما أن يكون مكررا للحدث، فالمبالغة كما نعرف تأتي مرة لأن الحدث واحد لكنه قوي، ومرة يكون الحدث عاديا لكنه مكرر، هذه هي المبالغة، فقوله سبحانه وتعالى :﴿ وما ربك بظلام " نفى للمبالغة، وهذا لا يقتضي نفي غير المبالغة. ونقول : الله لو ظلم لكان ظلمه مناسبا قدرته فيكون كبيرا كثيرا، ولو كان ظالما لشمل ظلمه وعم الخلق جميعا فيكون كذلك كبيرا كثيرا ولكن الله سبحانه يقول :{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾. وسبحانه يحسب السيئة سيئة واحدة. أما الحسنة فيضاعفها، ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ " مثقال " : يعني ثقل ووزن، والثقل هو : مقدار جاذبية الأرض للشيء. فعندما يكون وزن الشيء قليلا وتلقيه من أعلى، فهو ينزل ببطء، أما الشيء الثقيل فعندما تلقيه من أعلى فهو ينزل بسرعة ؛ لأن قوة الجاذبية له تكون أقوى، والإنسان منا حين ينظر إلى كلمة " مثقال " ؛ ويعبر عنها بأنها وزن، فمعيار الميزان هنا " الذرة ". وما " الذرة " ؟.
قال العلماء فيها : هي رأس النملة الصغيرة التي لا تكاد ترى بالعين المجردة، أو النملة نفسها. هذه مقولة، أو الذرة كما قال ابن عباس حين سئل عنها : أخذ شيئا من تراب الأرض ثم نفخه، فلما نفخ تطاير التراب في الهواء، فقال لهم : كل واحدة من هذه اسمها " ذرة " وهو ما نسميه " الهباء "، ونحن الآن الموجودين في مكان واحد لا نرى شيئا في الجو، لكن انظر إلى حزمة ضوئية أي ثقب تدخل منه أشعة الشمس فساعة ترى ثقبا يدخل أشعة الشمس ترى غبارا كثيرا يسبح. والمهم أنك لا تراه جاريا إلا في شعاع الشمس فقط، فهو كان موجودا ونستنشقه، فما الذي جعلني لا أراه ؟. لأنه بلغ من الصغر واللطف مبلغا فوق طوق العين أن تراه، فالذرة واحدة من هذا الغبار، واسمه " الهباء " وواحدة الهباء هي الذرة.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : أن كل شيء موزون إلى أقل درجات الوزن وهو الذرة، وهي الهباء، ونحن لا نراها إلا في نور محجوز، لأننا في النور القوي لا نرى تلك الذرات، بل نراها فقط في نور له مصدر واحد ونافذ، والحق سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، وهذا تمثيل فقط ؛ لأن الذرة يمكن أن تكبر، فالذي يكبر يمكن أن يصغر، وقال الحق ذلك ولم يكن عند الإنسان المقياس الذي يفتت به الذرة، وقد حدث أن استطاع الإنسان ذلك، فبعد الحرب العالمية الأولى صنعت ألمانيا اسطوانات تحطيم الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ كما كان يصفه الفلاسفة قديما، ومعنى جزء لا يتجزأ أي لا يمكن أن يأتي أقل منه. ولم يلتفتوا إلى أن أي شيء له مادة إن كان يقبل التكبير فهو أيضا يقبل التصغير. والمهم أن توجد عند الإنسان الآلة التي تدرك الصغر.
ومثال ذلك عندما صعدت الأقمار الصناعية وأخذوا من الجو صورة لمدينة نيويورك ؛ خرجت الصورة صغيرة لمدينة نيويورك. بعد ذلك كبروا الصورة ؛ فأخرجوا أرقام السيارات التى كانت تسير كيف حدث هذا ؟ لقد كانت الصورة الصغيرة تحتوي تفاصيل اكثر دقة لاتراها العين المجردة وعندما يتم تكبيرها يتضح كل شيء حتى ارقام السيارات وضحت بعد أن كانت غير ظاهرة، وإن كنت موجودا في نيويورك في هذه الساعة أكنت تظهر بها ؟ لا يمكن أن تظهر.. لماذا ؟.. لأن صورتك صغرت إلى الحد والقدر الذي لا يمكنك أن تراها وهي بهذا الحجم وهكذا، فالنور عندما يكون محزوما، فالحزمة الضوئية التي تدخل إلى مكان ما، لها من القوة التي تطهر ذرة الهباء الذي لم تكن تراها.
إذن فنور من الله مخلوق ظهرت فيه الذرة، أيخفى على نور الخالق ذرة ؟ لا يمكن أن تخفى عليه سبحانه ؛ لأن النور الذي خلقه أظهر الذرة والهباء الذي كان موجودا ولا نراه، فلن يخفى على نور النور ذرة في الأرض.
وهكذا نعرف أن المسالة بالنسبة لله عملية قطعية، وعندما اخترعوا اسطوانة تحطيم الجوهر الفرد كانت مثل عصارة القصب، ونحن نعرف أن عود القصب يوضع بين عمودين من الحديد. والعمود الواحد اسمه " اسطوانة " وعندما يضيقون الاسطوانتين ثم يمررون عود القصب بينهما، فلا بد أن تكون المسافة بينهما ضيقة حتى إذا نفذ عود القصب يعصر، إذن فكلما ضيقت بين الاسطوانتين يزداد العصر، ومادامت الاسطوانتان تجري كل واحدة منهما على الأخرى فهنا فراغ ضئيل جدا، وحاول العلماء الألمان تضييق الاسطوانتين تضييقا يفتت لنا هذه الذرة، ونجحوا، وأصبح هناك شيء آخر أقل من الذرة.
وظن السطحيون الذين يتربصون بالإسلام وبكتاب الله الدوائر، ويريدون أن يجدوا فيه منفذا. قالوا : إن الله قال :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ﴾. على أنها أقل شيء وظهر أن هناك أقل من مثقال ذرة ؛ لأن الذرة تحطمت. وقلنا لهؤلاء : أنتم أخذتم آية ونسيتم آيات، فالقرآن قد جاء معجزة ليواجه مجتمعات شتى من لدن رسول الله إلى أن تقوم الساعة، فلا بد أن يكون فيه ما يشبع العقول من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة. ولو أن عطاء القرآن صب مرة واحدة في عصر الرسالة لجاءت القرون التالية وليس للقرآن عطاء. فأراد ربنا أن يكون القرآن هو المعجزة والمنهج المتضمن للأحكام والكليات، وهذه أمور مفهومة بالنسبة لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن تقوم الساعة. لكن لا يزال هناك كونيات ونواميس للحق في الوجود لم تظهر بعد، فسبحانه يعطي كل عصر على قدر اتساع فهمه.
وعندما نعرف أسرار قضية كونية لا يزيد علينا حكم، فعندما نعرف قضية مثلا كقضية الذرة وتفتيتها ووجود إشارات لها في القرآن الكريم لا يزيد ذلك علينا أي حكم. بل ظلت الأحكام كما هي. فالأحكام واضحة كل الوضوح ؛ لأن من يفعلها يثاب، ومن لا يفعلها يعاقب. والناس الذين ستقوم عليهم الساعة مثل الناس الذين عاصروا حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ؛ لذلك لا بد أن تكون الأحكام واحدة، فمن ناحية أن القرآن كتاب أحكام فهذا أمر واضح وضوحا لا زيادة فيه، ولم يفهم المعاصر لرسول الله حكما ثم جاء الإنسان في زماننا ليفهم حكما آخر، بل كل الأحكام سواء.
والقرآن كمعجزة هو أيضا معجزة للجميع. ولا بد أن تكون هناك معجزة لكل جيل. ولكل عصر، ويأتي الإعجاز في الآيات الكونية التي لو لم نعرفها فلن يحدث شيء بالنسبة للأحكام. مثال ذلك : لو لم نعرف أن الأرض تدور أكان انتفاعنا بالأرض يقل ؟ لا.. فنحن ننتفع بالأرض سواء أعلمنا كرويتنا أم لم نعلم، لكن الحق سبحانه وتعالى يواجه العقول بما يمكن أن تطيقه. فإذا ما ارتقت العقول وتنورت واستنارت بمقتضى طموحاتها العلمية في الكون. فالقرآن إن لم يؤيدها فهو لا يعارضها.
وعندما فتتوا الذرة قال المشككون : إن ربنا يضرب بالذرة المثل لأصغر شيء ﴿ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ لكن هناك ما هو أقل من الذرة. ونرد عليهم : أنتم نظرتم إلى آية ونسيتم آيات. أنتم لم تنتبهوا كما قلنا إلى أن من فتتوا الذرة إلى إلكترونات وأيونات وموجب وسالب حاولوا بعد ذلك أن يفتتوا ما فتت. والآية التي نحن بصددها الآن :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ أرضت العقول التي تعرف الذرة الأصلية هذه واحدة، ولماذا لا نسمع قول الله :﴿ وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ٦١ ﴾ 'سورة يونس ).
إذن فهناك ذرة وهناك أصغر من الذرة، ولم تأخذوا في بالكم أن " أصغر " هذه أفعل تفضيل، ولا يوجد أصغر إلاان وجد صغير، إذن فهناك ذرة، وهناك صغير عن الذرة، وهناك أصغر من الصغير، فهناك إذن ثلاث مراحل، فإن فتتوها فلنا رصيد في القرآن يقول بالصغر، فإن فتتم المفتت، فلنا رصيد في القرآن بأصغر ؛، لأن كل أصغر لا بد أن يسبقه صغير، وإن كنت ستفتت المفتت فما زال عندنا رصيد من القرآن يسبق عقولكم في الابتكار، فإن قلت تفتيت جاز، وإن قلت تجميع جاز ؛ لأنها أصغر وأكبر، تفتيت أو تجميع، والمعقول أنك تقول : لا يغيب الأصغر والصغير، والذرة كذلك لا تغيب فكيف يعبر عن الأكبر بأنه لا يغيب مع أنه ظاهر وواضح ؟.
ونقول لك : إن المتكلم هو ربنا، فالشيء لا يدرك إما لأنه لطيف في غاية الدقة بحيث لا تتعلق به الباصرة فلا يرى، وأيضا لا يدرك لأنه كبير بصورة أكبر من أن تحيط به الباصرة، فحين ترى جبلا كبيرا على بعد اثنين من الكيلومترات أو ثلاثة فأنت لا تدركه ؛ لأنه أكبر من أن يحيط به إشعاع بصرك، ولكن الأمر بالنسبة لله يختلف فلا يوجد صغير يدق لا يراه، ولا كبير يكبر لا يراه، إذن فلا بد أن تأتي﴿ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ﴾. وفي آية أخرى يقول سبحانه :
﴿ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور٢ ﴾ ( سورة سبأ ).
وانظروا إلى دقة الحق في الرد على الإنكار للساعة وهي قضية كونية تنسحب على كل العصور.. فيقول سبحانه :
﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا اكبر إلا في كتاب مبين ٣ ﴾ ( سورة سبأ ).
كان يكفي أن يقول : إن الساعة آتية، لكنه أوضح : اعرفوا أن الساعة آتية، وكل ما فعلتموه معروف، ولماذا يقولون : لا تأتي الساعة ؟ إن هذا لون من تكذيب النفس لأنهم لم ي
١ رواه مسلم، والترمذي، وأحمد..
ثم يقول الحق :
﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ٤١ ﴾.
وساعة تسمع كلمة " كيف " فاعرف أن هناك شيئا عجيبا، تقول مثلا : انت سببت السلطان فكيف واجهوك ووجدته أمامك ماذا تفعل ؟ كان مواجهة السلطان ذاتها مسألة فوق التصور.. فكل شيء يتعجب منه يؤتى فيه ب " كيف " ومثال ذلك قوله الحق :
﴿ كيف تكفرون بالله ﴾ ( من الآية ٢٨ سورة البقرة ).
وهذا يعني تعجيبا من مصيبة وكارثة هي الكفر بالله، فقولوا لنا : كيف جاءت هذه ؟ إنها مسألة عجيبة، ونقول : فكيف يكون حال هؤلاء الكافرين، كيف يكون حال هؤلاء العصاة، في يوم العرض الأخير، ﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ﴾ و " الشهيد " هو : الذي يشهد ليقرر حقيقة، ونحن نعلم أن الحق أخبرنا :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾ ( من الآية ٢٤ سورة فاطر ).
وهذا النذير شهيد على تلك الأمة أنه بلغها المنهج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته أنه بلغ، فقوله :﴿ وجئنا بك على هؤلاء ﴾ من هم ؟ ننظر قوله :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ﴾ وهو رسولها الذي بلغ عن الله منهجه، وكيف يكون الموقف إذا جاء وقال : أنا أبلغتهم الموقف ولا عذر لهم لأنني أعلمتهم به، " وجئنا بك " يا محمد صلى الله عليك وسلم " على هؤلاء " فهل المعنى ب " هؤلاء " هم الشهداء الذين هم الرسل أو على هؤلاء المكذبين لك ؟ وتكون أيضا شهيدا على هؤلاء مثلما أنت شهيد على أمتك ؟ إن كلا من الحالين يصح، لماذا ؟.
لأن الله جاء بكتابه المعجزة وفيه ما يثبت أن الرسل قد بلغوا أممهم، فكان الرسول حين سجل في كتابه المعجزة وكتابه المنهج أن الرسل قد بلغوا أممهم فهو سيشهد أيضا : هم بلغوكم بدليل أن ربنا قال لي في كتاب المعجزة وفي المنهج. ويكون رسولنا شهيدا على هؤلاء المكذبين الذين أرسل إليهم وهم أمة الدعوة فالمعنى هذا يصلح، وكذلك يصلح المعنى الآخر. ولا يوجد معنى صحيح يطرد معنى صحيحا في كتاب الله، وهذه هي عظمة القرآن. إن عظمة القرآن هي في أنه يعطي إشعاعات كثيرة مثل فص الماس، فالماس غال ونفيس ؛ لأنه قاس ويكسر به وكل ذرة فيه لها شعاع، المعادن الأخرى لها إشعاع واحد، لكن كل ذرة في الماس لها إشعاع ؛ ولذلك يقولون إنه يضوي ويتلألأ، فكل ذراته تعطي إشعاعا.
والحق سبحانه وتعالى يوضح : أن حال هؤلاء سيكون فظيعا حينما يأتي يوم العرض يوم القيامة، و ويقولون : إننا بلغناكم، أو الحق سبحانه وتعالى عرض هذه المسألة بالنسبة للرسل وأممهم، وبالنسبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته أو للأمم كلها، فنحن أيضا سنكون شهداء :
﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ ( من الآية ١٤٣ سورة البقرة ).
وهذه ميزة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن أمة محمد هي الأمة الوحيدة التي أمنها الله على أن يحملوا المنهج إلى أن تقوم الساعة، فلن يأتي أنبياء أبدا بعد رسول الله، فيقول :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ إذن فنحن بنص هذه الآية أخذنا امتداد الرسالة.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟.
قال : نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا به على هؤلاء شهيدا ) فقال : حسبك، فإذا عيناه تذرفان الدموع " ١.
فإذا كان الشهيد بكى من وقع الآية فكيف يكون حال المشهود عليه ؟ الشهيد الذي سيشهد بكى من الآية، نعم ؛ لأنك تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملئ قلبه رحمة بأمته ؛ ولذلك قلنا : إن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته جعل ربه يعرض عليه أن يتولى أمر أمته، بعد أن علم سبحانه مدى عنايته صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة :
﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ ( سورة الشعراء ).
فأمر أمته صلى الله عليه وسلم كان يقلقه جدا على الرغم من أن الحق سبحانه قد أوضح له : أنت عليك البلاغ وليس عليك أن تهدي بالفعل، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف هذا. إنما حرصه ورحمته بأمته جعله يحب أن يؤمنوا، وعليه الصلاة والسلام خاف على أمته من موقف يشهد فيه عليهم ضمن من سيشهد عليهم يوم الحشر. فلما رأى الحق سبحانه وتعالى أن رسوله مشغول بأمر أمته قال له : لو شئت جعلت أمر أمتك إليك.
وانظر إلى العظمة المحمدية والفهم عن الله، والفطنة، فقال له : لا يارب. أنت أرحم بهم مني. وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول للخالق :" أتنقل مسألتهم في يدي وأنا أخوهم، إنما أنت ربي وربهم، فهل أكون أنا أرحم بهم منك ؟ لقد كان من المتصور أن يقول رسول الله : نعم أعطني أمر أمتي لكنه صلى الله عليه وسلم قال : يا رب أنت أرحم بهم مني. فكيف يكون رد الرب عليه ؟. قال سبحانه : فلا أخزيك فيهم أبدا، وسبحانه يعلم رحمة سيد البشر صلى الله عليه وسلم بأمته.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم :﴿ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني.. ﴾ وقول عيسى عليه السلام :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ فرفع يديه وقال :{ اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز و جل : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك " ؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله :" يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك " ٢.
" فكيف إذا جئنا " أي كيف يكون حال هؤلاء العصاة المكذبين.. " إذا جئنا من كل أمة بشهيد " أنه أدى وبلغ عن الله مراده من خلقه. " وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " ؟.
﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ٤١ ﴾.
وساعة تسمع كلمة " كيف " فاعرف أن هناك شيئا عجيبا، تقول مثلا : انت سببت السلطان فكيف واجهوك ووجدته أمامك ماذا تفعل ؟ كان مواجهة السلطان ذاتها مسألة فوق التصور.. فكل شيء يتعجب منه يؤتى فيه ب " كيف " ومثال ذلك قوله الحق :
﴿ كيف تكفرون بالله ﴾ ( من الآية ٢٨ سورة البقرة ).
وهذا يعني تعجيبا من مصيبة وكارثة هي الكفر بالله، فقولوا لنا : كيف جاءت هذه ؟ إنها مسألة عجيبة، ونقول : فكيف يكون حال هؤلاء الكافرين، كيف يكون حال هؤلاء العصاة، في يوم العرض الأخير، ﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ﴾ و " الشهيد " هو : الذي يشهد ليقرر حقيقة، ونحن نعلم أن الحق أخبرنا :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾ ( من الآية ٢٤ سورة فاطر ).
وهذا النذير شهيد على تلك الأمة أنه بلغها المنهج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته أنه بلغ، فقوله :﴿ وجئنا بك على هؤلاء ﴾ من هم ؟ ننظر قوله :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ﴾ وهو رسولها الذي بلغ عن الله منهجه، وكيف يكون الموقف إذا جاء وقال : أنا أبلغتهم الموقف ولا عذر لهم لأنني أعلمتهم به، " وجئنا بك " يا محمد صلى الله عليك وسلم " على هؤلاء " فهل المعنى ب " هؤلاء " هم الشهداء الذين هم الرسل أو على هؤلاء المكذبين لك ؟ وتكون أيضا شهيدا على هؤلاء مثلما أنت شهيد على أمتك ؟ إن كلا من الحالين يصح، لماذا ؟.
لأن الله جاء بكتابه المعجزة وفيه ما يثبت أن الرسل قد بلغوا أممهم، فكان الرسول حين سجل في كتابه المعجزة وكتابه المنهج أن الرسل قد بلغوا أممهم فهو سيشهد أيضا : هم بلغوكم بدليل أن ربنا قال لي في كتاب المعجزة وفي المنهج. ويكون رسولنا شهيدا على هؤلاء المكذبين الذين أرسل إليهم وهم أمة الدعوة فالمعنى هذا يصلح، وكذلك يصلح المعنى الآخر. ولا يوجد معنى صحيح يطرد معنى صحيحا في كتاب الله، وهذه هي عظمة القرآن. إن عظمة القرآن هي في أنه يعطي إشعاعات كثيرة مثل فص الماس، فالماس غال ونفيس ؛ لأنه قاس ويكسر به وكل ذرة فيه لها شعاع، المعادن الأخرى لها إشعاع واحد، لكن كل ذرة في الماس لها إشعاع ؛ ولذلك يقولون إنه يضوي ويتلألأ، فكل ذراته تعطي إشعاعا.
والحق سبحانه وتعالى يوضح : أن حال هؤلاء سيكون فظيعا حينما يأتي يوم العرض يوم القيامة، و ويقولون : إننا بلغناكم، أو الحق سبحانه وتعالى عرض هذه المسألة بالنسبة للرسل وأممهم، وبالنسبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته أو للأمم كلها، فنحن أيضا سنكون شهداء :
﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ ( من الآية ١٤٣ سورة البقرة ).
وهذه ميزة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن أمة محمد هي الأمة الوحيدة التي أمنها الله على أن يحملوا المنهج إلى أن تقوم الساعة، فلن يأتي أنبياء أبدا بعد رسول الله، فيقول :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ إذن فنحن بنص هذه الآية أخذنا امتداد الرسالة.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟.
قال : نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا به على هؤلاء شهيدا ) فقال : حسبك، فإذا عيناه تذرفان الدموع " ١.
فإذا كان الشهيد بكى من وقع الآية فكيف يكون حال المشهود عليه ؟ الشهيد الذي سيشهد بكى من الآية، نعم ؛ لأنك تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملئ قلبه رحمة بأمته ؛ ولذلك قلنا : إن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته جعل ربه يعرض عليه أن يتولى أمر أمته، بعد أن علم سبحانه مدى عنايته صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة :
﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ ( سورة الشعراء ).
فأمر أمته صلى الله عليه وسلم كان يقلقه جدا على الرغم من أن الحق سبحانه قد أوضح له : أنت عليك البلاغ وليس عليك أن تهدي بالفعل، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف هذا. إنما حرصه ورحمته بأمته جعله يحب أن يؤمنوا، وعليه الصلاة والسلام خاف على أمته من موقف يشهد فيه عليهم ضمن من سيشهد عليهم يوم الحشر. فلما رأى الحق سبحانه وتعالى أن رسوله مشغول بأمر أمته قال له : لو شئت جعلت أمر أمتك إليك.
وانظر إلى العظمة المحمدية والفهم عن الله، والفطنة، فقال له : لا يارب. أنت أرحم بهم مني. وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول للخالق :" أتنقل مسألتهم في يدي وأنا أخوهم، إنما أنت ربي وربهم، فهل أكون أنا أرحم بهم منك ؟ لقد كان من المتصور أن يقول رسول الله : نعم أعطني أمر أمتي لكنه صلى الله عليه وسلم قال : يا رب أنت أرحم بهم مني. فكيف يكون رد الرب عليه ؟. قال سبحانه : فلا أخزيك فيهم أبدا، وسبحانه يعلم رحمة سيد البشر صلى الله عليه وسلم بأمته.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم :﴿ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني.. ﴾ وقول عيسى عليه السلام :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ فرفع يديه وقال :{ اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز و جل : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك " ؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله :" يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك " ٢.
" فكيف إذا جئنا " أي كيف يكون حال هؤلاء العصاة المكذبين.. " إذا جئنا من كل أمة بشهيد " أنه أدى وبلغ عن الله مراده من خلقه. " وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " ؟.
١ رواه البخاري ومسلم وأحمد..
٢ رواه مسلم..
٢ رواه مسلم..
﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ٤٢ ﴾.
وساعة ترى " يومئذ " وتجد فيها هذا لتنوين فاعلم أنه عوض عن شيء محذوف والمحذوف هنا أكثر من جملة ويصبح المعنى : يوم إذ نجئ من كل أمة بشهيد وتكون أنت عليهم شهيدا، وفي هذا اليوم﴿ يود الذين كفروا وعصوا الرسول ﴾ لأنهم فوجئوا بعملية كانوا يكذبونها، فلم يكونوا معتقدين أن الحكاية جادة، كانوا يحسبون أن كلام الرسول مجرد كلام ينتهي، فعندما يفاجئهم يوم القيامة ماذا يكون موقفهم ؟. ﴿ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ﴾ وما معنى " تسوى بهم الأرض " ؟ كما تقول سأسوي بفلان الأرض ؛ أي تدوسه دوسة بحيث يكون في مستوى الأرض.
﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾. فكيف لا يكتمون الله حديثا ؟ وهو قد قال في آية أخرى :
﴿ قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ١٠٨ ﴾ ( سورة المؤمنون ).
قال الحق ذلك عنهم لأن الأمر له مراحل : فمرة يتكلمون، ويكذبون، فهم يكذبون عندما يقولون :
﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ٢٣ ﴾ ( من الآية ٢٣ سورة الأنعام ).
وسيقولون عن الأصنام التي عبدوها :
﴿ وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ( من الآية ٣سورة الزمر ).
إذن فقوله :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ دليل على أن الحديث مندفع ولا يقدر صاحبه أن يكتمه. فالكتم : أن تعوق شيئا يخرج بطبيعته من شيء آخر فتكتمه. والواحد منهم في الآخرة : لا يقدر أن يكتم حديثا ؛ لأن ذاتية النطق ليست في أداة النطق كما كان الأمر في الدنيا فقط، بل سيجدون انفسهم وقد قدموا إقرارات بخطاياهم، وبألسنتهم وبجوارحهم ؛ لأن النطق ليس باللسان فقط، فاللسان سيشهد والجلود تشهد، واليدان تشهدان، بل كل الجوارح تشهد.
إذن فالمسألة ليست تحت سيطرة أحد، لماذا ؟ ؛ لأن هناك ما نسميه " ولاية الاقتدار "، ومعناها أن : هناك قادرا، وهناك مقدور عليه. ولكي نقرب الصورة، عندما توجد كتيبة من الجيش وعليها قائد. وبعد ذلك قامت الكتيبة في مهمة، والقانون العام في هذه المهمة : أن يجعل لهذا القائد قادرية الأوامر وعلى الجنود طاعته ؛ وألا يخالفوا الأوامر العسكرية، فإذا أصدر هذا القائد أمرا تسبب في فشل معركة ما، وذهب الجنود للقائد الأعلى منه، ويسمونه الضابط الأعلى من الضابط الصغير، فيكون للجنود معه كلام آخر، إنهم يقدرون أن يقولوا : هو الذي قال لنا ونفذنا أوامره.
أقول ذلك لتقريب المعنى لحظة الوقوف أمام الحق سبحانه وتعالى. فحينما خلق سبحانه الإنسان خلق جوارحه منفعلة لإرادته، وإرادته مكيفة حسب اختياره. فإرادة الطائع إطاعة أمر واجتناب نهي، وإرادة العاصي على العكس ؛ لا يطيع الأمر ولا يتجنب المنهي عنه. فواحد أراد أن يشرب الخمر، فرجله مشت، ولسانه نطق للرجل الذي يعطيه الكأس، ويده امتدت وأخذت الكأس وشرب، والجوارح التي حين تذهب إلى من دبر هذا الأمر في الآخرة تقول له : يا رب هو عمل بي كذا وكذا، لماذا ؟ لأن قادرية الإرادة امتنعت :
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ١٦ ﴾ ( من الآية ١٦ سورة غافر ).
وليس لي ولا لأحد إرادة في الآخرة، ومادام ليس لي إرادة فاليد تتكلم وتعترف : عمل بي كذا وكذا وكنت يا رب مقهورة لقادرية إرادته التي أعطيتها له فبمجرد ما يريد فأنا أنفذ. عندما أراد أن أضرب واحدا لم أمتنع. ويعترف اللسان بسبه لفلان، أو مدحه لآخر، إذن فكل هذه ولاية القادرية من الإرادة على المقدورات من الجوارح. لكن إذا ما ذهبت إلى من وهب القادرية للإرادة ؛ فلا يوجد أحد له إرادة. فكأن الجوارح حين تصنع غير مرادات الله بحكم أنها خاضعة للمريد وهو غير طائع تكون كارهة ؛ لذلك تفعل أوامر صاحبها وهي كارهة، فإذا ما انحلت إرادته وجدت الفرصة فتقول ما حدث :
﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ ( من الآية٢١ سورة فصلت ).
﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ﴾، لأن الكافر سيقول :
﴿ يا ليتني كنت ترابا ٤٠ ﴾ ( من الآية ٤٠ سورة النبأ ).
وساعة ترى " يومئذ " وتجد فيها هذا لتنوين فاعلم أنه عوض عن شيء محذوف والمحذوف هنا أكثر من جملة ويصبح المعنى : يوم إذ نجئ من كل أمة بشهيد وتكون أنت عليهم شهيدا، وفي هذا اليوم﴿ يود الذين كفروا وعصوا الرسول ﴾ لأنهم فوجئوا بعملية كانوا يكذبونها، فلم يكونوا معتقدين أن الحكاية جادة، كانوا يحسبون أن كلام الرسول مجرد كلام ينتهي، فعندما يفاجئهم يوم القيامة ماذا يكون موقفهم ؟. ﴿ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ﴾ وما معنى " تسوى بهم الأرض " ؟ كما تقول سأسوي بفلان الأرض ؛ أي تدوسه دوسة بحيث يكون في مستوى الأرض.
﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾. فكيف لا يكتمون الله حديثا ؟ وهو قد قال في آية أخرى :
﴿ قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ١٠٨ ﴾ ( سورة المؤمنون ).
قال الحق ذلك عنهم لأن الأمر له مراحل : فمرة يتكلمون، ويكذبون، فهم يكذبون عندما يقولون :
﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ٢٣ ﴾ ( من الآية ٢٣ سورة الأنعام ).
وسيقولون عن الأصنام التي عبدوها :
﴿ وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ( من الآية ٣سورة الزمر ).
إذن فقوله :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ دليل على أن الحديث مندفع ولا يقدر صاحبه أن يكتمه. فالكتم : أن تعوق شيئا يخرج بطبيعته من شيء آخر فتكتمه. والواحد منهم في الآخرة : لا يقدر أن يكتم حديثا ؛ لأن ذاتية النطق ليست في أداة النطق كما كان الأمر في الدنيا فقط، بل سيجدون انفسهم وقد قدموا إقرارات بخطاياهم، وبألسنتهم وبجوارحهم ؛ لأن النطق ليس باللسان فقط، فاللسان سيشهد والجلود تشهد، واليدان تشهدان، بل كل الجوارح تشهد.
إذن فالمسألة ليست تحت سيطرة أحد، لماذا ؟ ؛ لأن هناك ما نسميه " ولاية الاقتدار "، ومعناها أن : هناك قادرا، وهناك مقدور عليه. ولكي نقرب الصورة، عندما توجد كتيبة من الجيش وعليها قائد. وبعد ذلك قامت الكتيبة في مهمة، والقانون العام في هذه المهمة : أن يجعل لهذا القائد قادرية الأوامر وعلى الجنود طاعته ؛ وألا يخالفوا الأوامر العسكرية، فإذا أصدر هذا القائد أمرا تسبب في فشل معركة ما، وذهب الجنود للقائد الأعلى منه، ويسمونه الضابط الأعلى من الضابط الصغير، فيكون للجنود معه كلام آخر، إنهم يقدرون أن يقولوا : هو الذي قال لنا ونفذنا أوامره.
أقول ذلك لتقريب المعنى لحظة الوقوف أمام الحق سبحانه وتعالى. فحينما خلق سبحانه الإنسان خلق جوارحه منفعلة لإرادته، وإرادته مكيفة حسب اختياره. فإرادة الطائع إطاعة أمر واجتناب نهي، وإرادة العاصي على العكس ؛ لا يطيع الأمر ولا يتجنب المنهي عنه. فواحد أراد أن يشرب الخمر، فرجله مشت، ولسانه نطق للرجل الذي يعطيه الكأس، ويده امتدت وأخذت الكأس وشرب، والجوارح التي حين تذهب إلى من دبر هذا الأمر في الآخرة تقول له : يا رب هو عمل بي كذا وكذا، لماذا ؟ لأن قادرية الإرادة امتنعت :
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ١٦ ﴾ ( من الآية ١٦ سورة غافر ).
وليس لي ولا لأحد إرادة في الآخرة، ومادام ليس لي إرادة فاليد تتكلم وتعترف : عمل بي كذا وكذا وكنت يا رب مقهورة لقادرية إرادته التي أعطيتها له فبمجرد ما يريد فأنا أنفذ. عندما أراد أن أضرب واحدا لم أمتنع. ويعترف اللسان بسبه لفلان، أو مدحه لآخر، إذن فكل هذه ولاية القادرية من الإرادة على المقدورات من الجوارح. لكن إذا ما ذهبت إلى من وهب القادرية للإرادة ؛ فلا يوجد أحد له إرادة. فكأن الجوارح حين تصنع غير مرادات الله بحكم أنها خاضعة للمريد وهو غير طائع تكون كارهة ؛ لذلك تفعل أوامر صاحبها وهي كارهة، فإذا ما انحلت إرادته وجدت الفرصة فتقول ما حدث :
﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ ( من الآية٢١ سورة فصلت ).
﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ﴾، لأن الكافر سيقول :
﴿ يا ليتني كنت ترابا ٤٠ ﴾ ( من الآية ٤٠ سورة النبأ ).
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا ٤٣ ﴾.
هنا ينقلنا الحق من الأوامر، من العبادات وعدم الإشراك بالله، من التحذير من النفقة رئاء الناس وأنه سبحانه لا يظلم أحدا وأننا كلنا سنجتمع أمامه يوم لا ظل إلا ظله، بعد ذلك أراد ان يصلنا به وصل العبادية التي تجعلك تعلن ولاءك لله في كل يوم، خمس مرات، وسبحانه يريك أن تقبل عليه بجماع عقلك وفكرك وروحك بحيث لا يغيب منك شيء.
هو سبحانه يقول :﴿ ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ ولم يقل : لا تصلوا وأنتم سكارى ؟ أي لا تقاربوا الصلاة ولا تقوموا إليها واجتنبوها، وفيه إشارة إلى ترك المسكرات، فما معنى " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " ؟ معنى ذلك أنهم إذا كانوا لا يقربون الصلاة إذا ما شربوا الخمر، فيكون تحريم المسكرات لم يأت به التشريع بعد، فقد مر هذا الأمر على مراحل ؛ لأن الدين حينما جاء ليواجه أمة كانت على فترة من الرسل أي بعدت صلتها بالرسل، فيجيء إلى أمر العقائد فيتكلم فيها كلاما حاسما باتا لا مرحلية فيه، فالإيمان بإله واحد وعدم الشرك بالله هذه أمور ليس فيها مراحل، ولا هوادة فيها. لكن المسائل التي تتعلق بإلف العادة، فقد جاءت الأوامر فيها مرحلية. فلا نقسر ولا نكره العادة على غير معتادها بل نحاول أن نتدرج في المسائل الخاضعة للعادة مادام هناك شيء يقود إلى التعود.
إن الحق سبحانه وتعالى من رحمته بمن يشرع لهم جعل في مسائل العادة والرتابة مرحليات، فهذه مرحلة من المراحل :﴿ ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى ﴾، والصلاة هي : الأقوال والأفعال المعروفة المبدوءة بالتكبير والمنتهية بالتسليم بشرائطها الخاصة، هذه هي الصلاة، اصطلاحيا في الإسلام وإن كانت الصلاة في المعنى اللغوي العام هي : مطلق الدعاء.
و " سكارى " جمع " سكران " وهو من شرب ما يستر عقله، وأصل المسألة مأخوذة من السكر ما سد به النهر ؛ فالماء حين ينساب يضعون سدا، هذا السد يمنع تدفق الماء، كذلك الخمر ساعة يشربها تمنع تدفق الفكر والعقل فاخذ من هذا المعنى لاتقربوا الصلاة وانتم سكارى المفهوم أن الصلاة تأخذكم خمسة أوقات للقاء الله، والسكر والخمار ؛ وهو ما يمكث من أثر المسكر في النفس، ومادام لن يقرب الصلاة وهو سكران فيمتنع في الأوقات المتقاربة بالنهار. إذن فقد حملهم على أن يخرقوا العادة بأوقات يطول فيها أمد الابتعاد عن السكر. وماداموا قد اعتادوا أن يتركوها طوال النهار وحتى العشاء، فسيصلي الواحد منهم العشاء ثم يشرب وينام. إذن فقد مكث طوال النهار لم يشرب، هذه مرحلة من المراحل، وأوجد الحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة مرحليات تتقبلها النفس البشرية. فأول ما جاء ليتكلم عن الخمر قال :
﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ﴾ ( من الآية ٦٧ سورة النحل ).
ويلاحظ هنا أن " السكر " مقدم، على الرزق الموصوف بالحسن، ففيه سكر وفيه رزق. كأنهم عندما كانوا يأكلون العنب أو البلح فهذا رزق، ووصف الله الرزق بأنه حسن. لكنهم كانوا أيضا يأخذون العنب ويصنعون منه خمرا، فقدم ربنا " السكر "، لأنهم يفعلون ذلك فيه، ولكنه لم يصفه بالحسن، بل قال :" تتخذون منه سكرا "، لكن كلمة رزق وصفت بالحسن.
بالله عندما نسمع " سكرا ورزقا حسنا " ألا نفهم أن كونه سكرا يعني غير حسن، لأن مقابل الحسن : قبيح. وكأنه قال : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا أي شرابا قبيحا ورزقا حسنا، ولاهتمامكم أنتم بالسكر، قدمه، وبعد ذلك ماذا حدث ؟ عندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يأتي بحكم تكون المقدمة له مثل النصيحة ؛ فالنصيحة ليست حكما شرعيا، والنصيحة أن يبين لك وأنت تختار، يقول الحق :
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ ( من الآية ٢١٩ سورة البقرة ).
هو سبحانه شرح القضية فقط وأنت حر في أن تختار فقال :﴿ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ ولكن الإثم أكبر من النفع، فهل قال لنا ماذا نفعل ؟ لا ؛ لأنه يريد أن يستأنس العقول لترجح من نفسها الحكم، وأن يصل الإنسان إلى الحكم بنفسه، فسبحانه قال :﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ فمادام الإثم أكبر من النفع فما مرجحات البدائل ؟ مرجحات البدائل تظهر لم حين تقارن بين بديلين ثم تعرف أقل البديلين شرا وأكثر البديلين خيرا.
فحين يقول الحق :﴿ فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ إذن فهذه نصيحة، ومادامت نصيحة فالخير أن يتبعها الإنسان ويستأمن الله على نصيحته. لكن لا حكم هنا، فظل هناك ناس يشربون وناس لا يشربون، وبعد ذلك حدثت قصة من جاء يصلي وقرأ سورة الكافرون، ولأن عقله قد سد قال : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فوصلت المسألة ذروتها وهنا جاء الحكم فنحن لا نتدخل معك سواء سكرت أم لا، لكن سكرك لا يصح أن تؤدي بك أن تكفر في الصلاة، فلا تقرب الصلاة وأنت مخمور. هذا نهي، وأمر، وتكليف.
﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ ومادام لا نقرب الصلاة ونحن سكارى فسنأخذ وقتا نمتنع فيه، إذن ففيه إلف بالترك، وبعد ذلك حدثت الحكاية التي طلبوا فيها أن يفتي الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الخمر، فقالوا للنبي : بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزل قوله الحق :
﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ ( من الآية ٩٠سورة المائدة ).
إذن فقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾، مرحلة من مراحل التلطف في تحريم الخمر، فحرمها زمنا، هذا الزمن هو الوقت الذي يلقى الإنسان فيه ربه، إنه أوضح لك : اعملها بعيدا، لكن عندما تأتيني فعليك أن تأتي بجماع فكرك وجماع عقلك، ﴿ حتى تعلموا ما تقولون ﴾ فكأن هذه أعطتنا حكما : أن الذي يسكر لا يعرف ماذا يقول، هذه واحدة، ومادام لا يعرف ما يقوله، إن كان في المسائل العادية فليقل ما يقول، إنما في العبادة وفي القرآن فلا يصح أن يصل إلى هذا الحد، وعندما تصل إلى هذا الحد يتدخل ربنا فيقول :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾.
ثم جاء بحكم آخر. ﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ﴾ ومعروف ما هي الجنابة : إنها الأثر الناتج من التقاء الرجل بالمرأة. ويقال : إنها اللذة التي يغيب فيها الفكر عن خالقه، وهذه لذة يسمونها " جماع اللذات " ؛ لأنها تعمل في البدن تلك الرعشة المخصوصة التي تأخذ خلاصات الجسم ؛ ولذلك قيل : إنه نور عينيك ومخ ساقك فأكثر منه أو أقلل. يعني أنا أعطيك هذه القدرة وأنت حر. ونحن نغتسل لنعيد النشاط إلى النفس البشرية، وليس لأحد شأن بهذه المسائل مادامت تتم في ضوء شريعة الله وشأننا في ذلك أن نأتمر بأمر ربنا ونغتسل من الجنابة سواء فهمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نفهم.
﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل ﴾ إذا كان المراد بالصلاة، فلا تقربوا الصلاة، بالسكر أو الجنابة ولم يقل :" لا تصلوا ". والصلاة مكانها المسجد، فقول :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ﴾، أي لا تقربوا الصلاة، والقرب عرضة أن يكون ذهابا للمسجد، فكأنه يقول : لا تذهب إلا إذا كان المسجد لا طريق للماء إلا منه.
﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر ﴾ أي كان عندكم عذر يمنع من الماء. ﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط ﴾، و " والغائط " هو : الأرض الوطيئة، الهابطة قليلا، وكانوا يقضون فيها حاجاتهم، وأصبح علما على قضاء الحاجة، وكل واحد منا يكنى عنها بأشياء كثيرة فيقول واحد : أنا أريد أن أذهب إلى " بيت الماء " ويتساءل آخر أين " دورة المياه ؟ " وفي هذا تلطف في الإخبار عن عملية تستقذرها النفس ؛ ولذلك نقول في العبارات الشائعة : أنا ذاهب أعمل زى الناس يعني أنا لست بدعا أن أقضي حاجتي، فكل الناس تعمل هذا.
فربنا سبحانه وتعالى يقول :﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ﴾ ومن رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن لطف الحق بها أن التشريع جاء ليقبل عليه الإنسان ؛ لأنه تشريع فلا تقل لي مثلا : أنا أتوضأ لكي أنظف نفسي ولكننا نقول لك : هل تتوضأ لتنظف نفسك وعندما تفقد الماء تأتي بتراب لتضعه على وجهك ؟ فلا تقل لي النظافة أو كذا، إنه استباحة الصلاة بالشيء الذي فرضه الله، فقال لي : توضأ فإن لم تجد ماء فتيمم، أينقلني من الماء الذي ينظف إلى أن أمسح كفي بالتراب ثم ألمس بهما وجهي ؟ ! نعم ؛ لأن المسألة أمر من الله فهمت علته أو لم تفهم ؛ ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا طهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل قبلي وأعطيت الشفاعة وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )١.
﴿ فتيمموا صعيدا طيبا ﴾، أي أن تكون واثقا أنه ليس عليه نجاسة، ﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾، المسألة فيها " جنب " وفيها كذا وكذا.. " وتيمم "، إذن فكلمة﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ ليس ذلك معناه أن التيمم خلف وبديل عن الوضوء فحسب، ففي الوضوء كنت أتمضمض، وكنت أستنشق، وكنت أغسل الوجه، وكنت أغسل اليدين، وأمسح الرأس والأذنين.. مثلا، وأنا أتكلم عن الأركان والسنن. وفي هذه الآية يوضح الحق : مادامت المسألة بصعيد طيب وتراب فذلك يصح سواء أكانت للحدث الأصغر أم للجنابة، إذن فيكفي أن تمسح بالوجه واليدين.
﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ وتساءل بعضهم : أهي ضربة واحدة نلمس بها الأرض أم ضربتان ؟ نقول : سبحانه قال :﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾، وبعض العلماء قال : ضربة واحدة، وبعضهم قال : ضربتان وكلها تيسير. وهذا التخفيف مناسب لكلمة العفو، فيقول الحق :﴿ إن الله كان عفوا غفورا ﴾ ولكن ماذا حدث هنا ليذكر المغفرة ؟ لأنه غفر وستر علينا المشقة في ضرورة البحث عن الماء ويسر ورخص لنا في التيمم.
هنا ينقلنا الحق من الأوامر، من العبادات وعدم الإشراك بالله، من التحذير من النفقة رئاء الناس وأنه سبحانه لا يظلم أحدا وأننا كلنا سنجتمع أمامه يوم لا ظل إلا ظله، بعد ذلك أراد ان يصلنا به وصل العبادية التي تجعلك تعلن ولاءك لله في كل يوم، خمس مرات، وسبحانه يريك أن تقبل عليه بجماع عقلك وفكرك وروحك بحيث لا يغيب منك شيء.
هو سبحانه يقول :﴿ ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ ولم يقل : لا تصلوا وأنتم سكارى ؟ أي لا تقاربوا الصلاة ولا تقوموا إليها واجتنبوها، وفيه إشارة إلى ترك المسكرات، فما معنى " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " ؟ معنى ذلك أنهم إذا كانوا لا يقربون الصلاة إذا ما شربوا الخمر، فيكون تحريم المسكرات لم يأت به التشريع بعد، فقد مر هذا الأمر على مراحل ؛ لأن الدين حينما جاء ليواجه أمة كانت على فترة من الرسل أي بعدت صلتها بالرسل، فيجيء إلى أمر العقائد فيتكلم فيها كلاما حاسما باتا لا مرحلية فيه، فالإيمان بإله واحد وعدم الشرك بالله هذه أمور ليس فيها مراحل، ولا هوادة فيها. لكن المسائل التي تتعلق بإلف العادة، فقد جاءت الأوامر فيها مرحلية. فلا نقسر ولا نكره العادة على غير معتادها بل نحاول أن نتدرج في المسائل الخاضعة للعادة مادام هناك شيء يقود إلى التعود.
إن الحق سبحانه وتعالى من رحمته بمن يشرع لهم جعل في مسائل العادة والرتابة مرحليات، فهذه مرحلة من المراحل :﴿ ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى ﴾، والصلاة هي : الأقوال والأفعال المعروفة المبدوءة بالتكبير والمنتهية بالتسليم بشرائطها الخاصة، هذه هي الصلاة، اصطلاحيا في الإسلام وإن كانت الصلاة في المعنى اللغوي العام هي : مطلق الدعاء.
و " سكارى " جمع " سكران " وهو من شرب ما يستر عقله، وأصل المسألة مأخوذة من السكر ما سد به النهر ؛ فالماء حين ينساب يضعون سدا، هذا السد يمنع تدفق الماء، كذلك الخمر ساعة يشربها تمنع تدفق الفكر والعقل فاخذ من هذا المعنى لاتقربوا الصلاة وانتم سكارى المفهوم أن الصلاة تأخذكم خمسة أوقات للقاء الله، والسكر والخمار ؛ وهو ما يمكث من أثر المسكر في النفس، ومادام لن يقرب الصلاة وهو سكران فيمتنع في الأوقات المتقاربة بالنهار. إذن فقد حملهم على أن يخرقوا العادة بأوقات يطول فيها أمد الابتعاد عن السكر. وماداموا قد اعتادوا أن يتركوها طوال النهار وحتى العشاء، فسيصلي الواحد منهم العشاء ثم يشرب وينام. إذن فقد مكث طوال النهار لم يشرب، هذه مرحلة من المراحل، وأوجد الحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة مرحليات تتقبلها النفس البشرية. فأول ما جاء ليتكلم عن الخمر قال :
﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ﴾ ( من الآية ٦٧ سورة النحل ).
ويلاحظ هنا أن " السكر " مقدم، على الرزق الموصوف بالحسن، ففيه سكر وفيه رزق. كأنهم عندما كانوا يأكلون العنب أو البلح فهذا رزق، ووصف الله الرزق بأنه حسن. لكنهم كانوا أيضا يأخذون العنب ويصنعون منه خمرا، فقدم ربنا " السكر "، لأنهم يفعلون ذلك فيه، ولكنه لم يصفه بالحسن، بل قال :" تتخذون منه سكرا "، لكن كلمة رزق وصفت بالحسن.
بالله عندما نسمع " سكرا ورزقا حسنا " ألا نفهم أن كونه سكرا يعني غير حسن، لأن مقابل الحسن : قبيح. وكأنه قال : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا أي شرابا قبيحا ورزقا حسنا، ولاهتمامكم أنتم بالسكر، قدمه، وبعد ذلك ماذا حدث ؟ عندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يأتي بحكم تكون المقدمة له مثل النصيحة ؛ فالنصيحة ليست حكما شرعيا، والنصيحة أن يبين لك وأنت تختار، يقول الحق :
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ ( من الآية ٢١٩ سورة البقرة ).
هو سبحانه شرح القضية فقط وأنت حر في أن تختار فقال :﴿ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ ولكن الإثم أكبر من النفع، فهل قال لنا ماذا نفعل ؟ لا ؛ لأنه يريد أن يستأنس العقول لترجح من نفسها الحكم، وأن يصل الإنسان إلى الحكم بنفسه، فسبحانه قال :﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ فمادام الإثم أكبر من النفع فما مرجحات البدائل ؟ مرجحات البدائل تظهر لم حين تقارن بين بديلين ثم تعرف أقل البديلين شرا وأكثر البديلين خيرا.
فحين يقول الحق :﴿ فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ إذن فهذه نصيحة، ومادامت نصيحة فالخير أن يتبعها الإنسان ويستأمن الله على نصيحته. لكن لا حكم هنا، فظل هناك ناس يشربون وناس لا يشربون، وبعد ذلك حدثت قصة من جاء يصلي وقرأ سورة الكافرون، ولأن عقله قد سد قال : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فوصلت المسألة ذروتها وهنا جاء الحكم فنحن لا نتدخل معك سواء سكرت أم لا، لكن سكرك لا يصح أن تؤدي بك أن تكفر في الصلاة، فلا تقرب الصلاة وأنت مخمور. هذا نهي، وأمر، وتكليف.
﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ ومادام لا نقرب الصلاة ونحن سكارى فسنأخذ وقتا نمتنع فيه، إذن ففيه إلف بالترك، وبعد ذلك حدثت الحكاية التي طلبوا فيها أن يفتي الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الخمر، فقالوا للنبي : بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزل قوله الحق :
﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ ( من الآية ٩٠سورة المائدة ).
إذن فقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾، مرحلة من مراحل التلطف في تحريم الخمر، فحرمها زمنا، هذا الزمن هو الوقت الذي يلقى الإنسان فيه ربه، إنه أوضح لك : اعملها بعيدا، لكن عندما تأتيني فعليك أن تأتي بجماع فكرك وجماع عقلك، ﴿ حتى تعلموا ما تقولون ﴾ فكأن هذه أعطتنا حكما : أن الذي يسكر لا يعرف ماذا يقول، هذه واحدة، ومادام لا يعرف ما يقوله، إن كان في المسائل العادية فليقل ما يقول، إنما في العبادة وفي القرآن فلا يصح أن يصل إلى هذا الحد، وعندما تصل إلى هذا الحد يتدخل ربنا فيقول :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾.
ثم جاء بحكم آخر. ﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ﴾ ومعروف ما هي الجنابة : إنها الأثر الناتج من التقاء الرجل بالمرأة. ويقال : إنها اللذة التي يغيب فيها الفكر عن خالقه، وهذه لذة يسمونها " جماع اللذات " ؛ لأنها تعمل في البدن تلك الرعشة المخصوصة التي تأخذ خلاصات الجسم ؛ ولذلك قيل : إنه نور عينيك ومخ ساقك فأكثر منه أو أقلل. يعني أنا أعطيك هذه القدرة وأنت حر. ونحن نغتسل لنعيد النشاط إلى النفس البشرية، وليس لأحد شأن بهذه المسائل مادامت تتم في ضوء شريعة الله وشأننا في ذلك أن نأتمر بأمر ربنا ونغتسل من الجنابة سواء فهمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نفهم.
﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل ﴾ إذا كان المراد بالصلاة، فلا تقربوا الصلاة، بالسكر أو الجنابة ولم يقل :" لا تصلوا ". والصلاة مكانها المسجد، فقول :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ﴾، أي لا تقربوا الصلاة، والقرب عرضة أن يكون ذهابا للمسجد، فكأنه يقول : لا تذهب إلا إذا كان المسجد لا طريق للماء إلا منه.
﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر ﴾ أي كان عندكم عذر يمنع من الماء. ﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط ﴾، و " والغائط " هو : الأرض الوطيئة، الهابطة قليلا، وكانوا يقضون فيها حاجاتهم، وأصبح علما على قضاء الحاجة، وكل واحد منا يكنى عنها بأشياء كثيرة فيقول واحد : أنا أريد أن أذهب إلى " بيت الماء " ويتساءل آخر أين " دورة المياه ؟ " وفي هذا تلطف في الإخبار عن عملية تستقذرها النفس ؛ ولذلك نقول في العبارات الشائعة : أنا ذاهب أعمل زى الناس يعني أنا لست بدعا أن أقضي حاجتي، فكل الناس تعمل هذا.
فربنا سبحانه وتعالى يقول :﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ﴾ ومن رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن لطف الحق بها أن التشريع جاء ليقبل عليه الإنسان ؛ لأنه تشريع فلا تقل لي مثلا : أنا أتوضأ لكي أنظف نفسي ولكننا نقول لك : هل تتوضأ لتنظف نفسك وعندما تفقد الماء تأتي بتراب لتضعه على وجهك ؟ فلا تقل لي النظافة أو كذا، إنه استباحة الصلاة بالشيء الذي فرضه الله، فقال لي : توضأ فإن لم تجد ماء فتيمم، أينقلني من الماء الذي ينظف إلى أن أمسح كفي بالتراب ثم ألمس بهما وجهي ؟ ! نعم ؛ لأن المسألة أمر من الله فهمت علته أو لم تفهم ؛ ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا طهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل قبلي وأعطيت الشفاعة وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )١.
﴿ فتيمموا صعيدا طيبا ﴾، أي أن تكون واثقا أنه ليس عليه نجاسة، ﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾، المسألة فيها " جنب " وفيها كذا وكذا.. " وتيمم "، إذن فكلمة﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ ليس ذلك معناه أن التيمم خلف وبديل عن الوضوء فحسب، ففي الوضوء كنت أتمضمض، وكنت أستنشق، وكنت أغسل الوجه، وكنت أغسل اليدين، وأمسح الرأس والأذنين.. مثلا، وأنا أتكلم عن الأركان والسنن. وفي هذه الآية يوضح الحق : مادامت المسألة بصعيد طيب وتراب فذلك يصح سواء أكانت للحدث الأصغر أم للجنابة، إذن فيكفي أن تمسح بالوجه واليدين.
﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ وتساءل بعضهم : أهي ضربة واحدة نلمس بها الأرض أم ضربتان ؟ نقول : سبحانه قال :﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾، وبعض العلماء قال : ضربة واحدة، وبعضهم قال : ضربتان وكلها تيسير. وهذا التخفيف مناسب لكلمة العفو، فيقول الحق :﴿ إن الله كان عفوا غفورا ﴾ ولكن ماذا حدث هنا ليذكر المغفرة ؟ لأنه غفر وستر علينا المشقة في ضرورة البحث عن الماء ويسر ورخص لنا في التيمم.
١ رواه البخاري ومسلم والنسائي عن جابر..
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ٤٤ ﴾.
حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد قضية من قضايا الكون ليمهد لقضية من قضايا العقائد التي تحرس نظام الكون فهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : " ألم تر ". والرؤية عمل العين وعمل العين متعلق بانكشاف الأحداث التي تتعرض لها العين والشيء المرئي دليله معه ؛ لأن الشيء المسموع دليله يؤخذ من صدق قائله، وصدق قائله أمر مضنون، أيكذب أم يصدق ؟ أما المرئي فدليله معه ؛ ولذلك قالوا : ليس مع العين أين، أي أنك إذا رأيت شيئا فلا تقل : أين هو، وليس الخبر كالعيان، فالخبر الذي تسمعه ليس كالمشاهدة، إذن فالمشاهدة دليلها معها، فلا يقال : دلل على أن فلانا يلبس جلبابا أبيض وأنت تراه.
إذن فحين يريد الحق أن يؤكد قضية يقول : أرأيت. ولذلك فأنت إذا حدثت إنسانا عن انحراف إنسان آخر. قد يصدقك وقد لا يصدقك، لكن إذا ما رأيت الإنسان يلعب ميسرا أو يشرب خمرا ثم تقول لمن حدثته من قبل : أرأيت من قلت لك عليه، كان الرؤية دليل. والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله :" أرأيت " ننظر إلى الأمر، فإذا كان مشهودا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يراه بذلك تكون " أرأيت " على حقيقتها، كما يقول له :
﴿ أرأيت الذي ينهى ٩ عبدا إذا صلى ١٠ ﴾ ( سورة العلق ).
هو صلى الله عليه وسلم قد رآه، فتكون " أرأيت " على حقيقتها أم ليست على حقيقتها ؟ ولماذا يأتي بهمزة الاستفهام " أرأيت " ؛ على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم قد رأى من ينهى إنسانا عن الصلاة ولماذا لم يقل :﴿ رأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ﴾، لا ؛ لأن الحق يريد أن يؤكد الخبر بمراحل. فمرة يكون الخبر خبرا تسمعه الأذن، ومرة يكون رؤية تراه، ومرة لا يقول له : أنت رأيت، ولكن يستفهم منه ب " أرأيت " لكي ينتظر منه الجواب. وبذلك يأتي الجواب من المخاطب نفسه وليس من المتكلم، وهذه آكد أنواع البيان وآكد ألوان التحقيق، فحين يخاطب الحق سبحانه وتعالى بقوله :" أرأيت " نقول : أكان ذلك مشهدا لرسول الله رآه، فتكون الرؤية على حقيقتها. فإذا كان الأمر لم يكن معاصرا لرسول الله ثم يخاطب الله رسوله بقوله :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ﴾ ( سورة الفيل ).
ونعلم أن أصحاب الفيل كانوا عام ميلاده صلى الله عليه وسلم، فهو حين يخاطب رسوله لم يكن المشهد أمامه، ف " ألم تر " هنا بمعنى أعلمت، ولماذا عدل هنا عن أعلمت إلى قوله :" ألم تر " ؟. لأن الحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله بأمر منه فهو يوضح له : إن أخبرتك بشيء فاعلم أني أصدق من عينك، فإذا قال سبحانه :" ألم تر " فهذا يعني أنك علمت من الحق سبحانه وتعالى، وإخبار الحق ليس كإخبار الخلق ؛ لأن إخبار الخلق يحتمل الصدق والكذب، لكن إخبار الحق لا يعني إلا الصدق، إذن فرؤية عينك قد تخونك ؛ لأنك قد تكون غافلا فلا ترى كل الحقيقة، لكن إذا أخبرك الحق سبحانه وتعالى فسيخبرك بكل زوايا الحقيقة. إذن فإخبار الحق أوثق وآكد من رؤية العين وسبحانه عندما قال :﴿ أرأيت الذي ينهى ٩ عبدا إذا صلى ١٠ ﴾ ( سورة العلق ).
هذه مثلت الأولى، وحين قال سبحانه :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ﴾ ( سورة الفيل ).
كأنك تراهم الآن، ف " ألم تر " تعني كأن المشهد أمامك.
إذن فوسائل تأكيد الأشياء : خبر من خلق يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. هذه واحدة، ورؤية من خلق تحتمل انها استوعبت كل المرئي أو أحاطت ببعضه، أو خبر من خالق أحاط بكل شيء، فيجب أن يكون الخبر من الخالق أوثق الأخبار في تصديقهم.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ جاءت هذه الآية ورسول الله يعاصره قوم من اليهود. ورأى منهم بالفعل أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ؛ لأنهم أهل كتاب، ومع ذلك يشترون الضلالة ؛ ولا يقولون الحق، فيكون هذا أمرا مشهديا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وحينما أرسل محمدا جعله ختاما للأنبياء وختم به ركب النبوة، وهذا يعني : أن النبوة كان لها ركب. وفي كل عصر من العصور يأتي نبي على مقدار اتساع الحياة، وعلى مقدار التقاء الكائنين في الحياة، وعلى مقدار الداءات والأمراض التي تأتي في المجتمع، ولكن الله علم أزلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي في فترة ورسالته ومنهجه ينتظم ويضم كل قضايا الزمن إلى أن تقوم الساعة. وهو زمن يعلم الله أن فوارق المواصلات فيه ستنتهي، وفوارق الحواجز فيه ستنتهي، فيحدث الخبر في أدنى الشرق وأعلاه فتسمعه في أدنى الغرب وأعلاه، والخبر في الغرب تسمعه في الشرق. والداء يوجد مرة في أمريكا وبعد يوم أو يومين يوجد في أي بلد من البلاد.
إذن فالمسافات انتهت، وجعلت المواصلات العالم كقطعة واحدة، إذن فالداءات في المجتمع القديم لعسر الاتصال كانت تنعزل انعزالا إقليميا وكل داء في جماعة قد لا يصل إلى الجماعة الأخرى، فهؤلاء لهم داء لا يصل إلى الجماعة الأخرى ؛ لذلك كان الحق يرسل رسولا لكل جماعة ليعالج داءاتها، لكن إذا التحم العالم هذا الالتحام ؛ فلا بد أن يأتي رسول واحد جامع للناس جميعا ؛ لأن قضايا الداءات ستكون واحدة. ونحن نرى الآن كل يوم عجبا، كلما تحدث حادثة هناك نجدها عندنا.
إذن فلا بد أن تتوحد الرسالة. وحين تتوحد الرسالة فلا يأتي رسول ليستدرك بعد ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء خاتما ؛ ولذلك أخذ الله العهد على كل رسول أن يبشر قومه بأنه سيأتي رسول خاتم ليكون عند أهل كل ديانة خلفية تطمئنهم على أنه إذا جاء رسول، فقد عرفوا خبر مقدمه ويقولون : لقد قالت لنا رسلنا ؛ ولذلك قال الحق :
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ﴾ ( من الآية ٨١ سورة آل عمران ).
ثم قال :
﴿ قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ٨١ ﴾ ( من الآية ٨١ سورة آل عمران ).
إذن فرسول الله مشهود له من كل الرسل ؛ ولذلك أكد صلى الله عليه وسلم ديانات كل الرسل. وجاء دينه بديانات كل الرسل ؛ لأنهم معه على منهجه الذي نزل به، والذين يلتحمون بالإيمان بالسماء بواسطة الرسل السابقين ؛ إذا ما جاءهم خبر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد يجعلهم تعصبهم لدينهم ينصرفون عنه، فأعطاهم الحق الخميرة الإيمانية وأوضح لهم : سيأتي رسول خاتم فتنبهوا يا كل الأقوام إذا ما جاء الرسول الخاتم فلا بد أن تؤمنوا به. وكان عندهم في كتبهم الدلالات والإخبارات. إذن فالله أعطاهم نصيبا من الكتاب. وانظروا إلى دقة الأداء القرآني : " ألم تر " يا محمد " إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " جاء هذا القول وهو يحمل لهم عذرهم إن فاتهم شيء من الكتاب ؛ لأنه سيقول في آية أخرى :
﴿ ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾ ( من الآية ١٣ سورة المائدة ).
وماداموا قد نسوا فهم معذورون، لكن من عندهم كفاية في العلم من الذين " أوتوا نصيبا من الكتاب "، كان المفروض فيهم أن تكون آذانهم مستشرقة إلى صوت داعية الحق الخاتم، وهذا كان معروفا لهم من قبل ؛ لذلك يقول لنا ربنا :﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ﴾ ( من الآية ٨٩ سورة البقرة ).
فهم كانوا يقولون لعبدة الأوثان من العرب : نحن في انتظار النبي الخاتم الذي سيرسله الله لنسبقكم إلى الإيمان به، فإذا ما سبقناكم إلى الإيمان به وظللتم على كفركم، سنقتلكم به قتل عاد وإرم. إذن فهم معتصمون بالإيمان بالسماء، فقل لي : إذا قالوا هذا القول، وهم معروفون أنهم أهل كتاب فلماذا كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم ؟ إن كفار قريش لم يقولوا : إننا أهل كتاب، بل كانوا على فترة من الرسل، فكان المفروض أنه إذا ما جاء الرسول تسابق أهل الكتاب إلى الإيمان به لأنه سبق لهم أن توعدوا به العرب. لقد أعطاهم الله منزلة عالية لكنهم من لؤمهم لم ينتفعوا بها ؛ فيقول الحق :
﴿ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ٤٣ ﴾ ( سورة الرعد ).
لقد جعلكم الحق شهودا على صدق الدعوة، هو شاهد وأنتم شهود، وهذه منزلة كبيرة، لكنهم لم يلتفتوا إلى تلك المنزلة وركبوا سفينة العناد الغارقة :﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾ ( من الآية ٨٩ سورة البقرة ).
ولكن يجب أن نفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل قضية عقدية في الكون فيخالفها مخالف يظن أنه يضار الله، نقول له : لا. أنت تفعل ذلك لشهوة في نفسك. لكن الحق سيجعلها لنصرة الدين الخاتم، وتكون أنت مغفلا في هذا الموقف. فإياك أن تظن أنك قادر أن تصادر مرادات الله حين كذبت بمحمد وجعلك ربنا تقول هذه الكلمة للمشركين من قريش، فانظر ماذا ستفعل هذه الكلمة ؟. ولكي تعرف أنت بإنكارك ماذا قدمت للإيمان. أنت فهمت أنك صادمت الإيمان. لا. أنت أيدت ونصرت الإيمان لكن بتغفيل ! وعليك وزر.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن دعوته من ربه. قال العرب المشركون الوثنيون : إن هذا النبي هو الذي توعدتنا به اليهود، فهيا نسبق إلى الإيمان به قبل أن يسبقونا.
إذن أخدموا الايمان أم لا ؟.. لقد خدموا الإيمان. إذن فلا يظنن عاص أنه يقدر أن يطفئ نور الله ؛ لأن الله يتم نوره ولو كره الكافرون. ومثال لذلك عندما غير ربنا القبلة ويوضح : يا محمد أنا أعرف أنك مستشرق ومتشوق إلى أن تتوجه إلى الكعبة، وأنا قد وجهتك أولا لبيت المقدس لمعنى. ولكن أنا سأوجهك للكعبة وعليك أن تلاحظ أنني حين أوجهك إلى الكعبة سيقول السفهاء " وهم اليهود " :﴿ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ ( من الآية ١٤٢ سورة البقرة ).
فهم يتساءلون : ما الذي جعلهم يتركون القبلة التي كانوا عليها ؟ فإن كانت قبلة إبراهيم هي الكعبة فلماذا لم يتجه إليها من أول الأمر ؟ هم سيقولون هذا الكلام. ونزل به قرآن يتلى ويسجل. ومن تغفيلهم ساعة تغيرت القبلة قالوا ذلك القول أيضا، ولم يلتفتوا إلى أن الحق قال من قبل :
﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم ﴾ ( من الآية ١٤٢ سورة البقرة ).
فعلى الرغم من ذكائهم إلا أنهم قالوا هذا الكلام، مما يدل على أن الكفر مظلم والكافر في ظلام فلا يعرف كيف ينصر نفسه. وجعل الله الكفر وسيلة للإيمان. فلو أنهم كانوا أذكياء بحق وأصحاب بصيرة لكانوا بمجرد أن قال القرآن :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾، لجمعوا بعضهم وقالوا : القرآن قال : إننا سنقول كذا وكذا، فهيا لا نقول كي يكون القرآن غير صادق، لكنهم لم يقدروا على ذلك. إذن فالكافر مغفل. هم يظنون أنهم بكفرهم يطمسون الإيمان بالله. لا ؛ لأن الله جعل الكفر وسيلة للإيمان، والحديث الشريف يقول :
( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر )١.
فالحق سبحانه وتعالى يبين : هؤلاء أوتوا نصيبا من الكتاب، وكان المفروض لمن أوتوا نصيبا من الكتاب أن يكونوا أول من آمن. لكنهم لم يؤمنوا، هذه أول مرتبة، وليتهم اقتصروا في الشر على هذه، وبذلك تقف المسألة وتظل معلقة بهم، ولكنهم يشترون الضلالة، ليس فقط في نفوسهم بل يريدون أن يضلوا غيرهم، وهذه هي المرحلة الثانية، فهناك من يضل في ذاته وهو حر، لكن أن يحاول إضلال غير
حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد قضية من قضايا الكون ليمهد لقضية من قضايا العقائد التي تحرس نظام الكون فهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : " ألم تر ". والرؤية عمل العين وعمل العين متعلق بانكشاف الأحداث التي تتعرض لها العين والشيء المرئي دليله معه ؛ لأن الشيء المسموع دليله يؤخذ من صدق قائله، وصدق قائله أمر مضنون، أيكذب أم يصدق ؟ أما المرئي فدليله معه ؛ ولذلك قالوا : ليس مع العين أين، أي أنك إذا رأيت شيئا فلا تقل : أين هو، وليس الخبر كالعيان، فالخبر الذي تسمعه ليس كالمشاهدة، إذن فالمشاهدة دليلها معها، فلا يقال : دلل على أن فلانا يلبس جلبابا أبيض وأنت تراه.
إذن فحين يريد الحق أن يؤكد قضية يقول : أرأيت. ولذلك فأنت إذا حدثت إنسانا عن انحراف إنسان آخر. قد يصدقك وقد لا يصدقك، لكن إذا ما رأيت الإنسان يلعب ميسرا أو يشرب خمرا ثم تقول لمن حدثته من قبل : أرأيت من قلت لك عليه، كان الرؤية دليل. والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله :" أرأيت " ننظر إلى الأمر، فإذا كان مشهودا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يراه بذلك تكون " أرأيت " على حقيقتها، كما يقول له :
﴿ أرأيت الذي ينهى ٩ عبدا إذا صلى ١٠ ﴾ ( سورة العلق ).
هو صلى الله عليه وسلم قد رآه، فتكون " أرأيت " على حقيقتها أم ليست على حقيقتها ؟ ولماذا يأتي بهمزة الاستفهام " أرأيت " ؛ على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم قد رأى من ينهى إنسانا عن الصلاة ولماذا لم يقل :﴿ رأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ﴾، لا ؛ لأن الحق يريد أن يؤكد الخبر بمراحل. فمرة يكون الخبر خبرا تسمعه الأذن، ومرة يكون رؤية تراه، ومرة لا يقول له : أنت رأيت، ولكن يستفهم منه ب " أرأيت " لكي ينتظر منه الجواب. وبذلك يأتي الجواب من المخاطب نفسه وليس من المتكلم، وهذه آكد أنواع البيان وآكد ألوان التحقيق، فحين يخاطب الحق سبحانه وتعالى بقوله :" أرأيت " نقول : أكان ذلك مشهدا لرسول الله رآه، فتكون الرؤية على حقيقتها. فإذا كان الأمر لم يكن معاصرا لرسول الله ثم يخاطب الله رسوله بقوله :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ﴾ ( سورة الفيل ).
ونعلم أن أصحاب الفيل كانوا عام ميلاده صلى الله عليه وسلم، فهو حين يخاطب رسوله لم يكن المشهد أمامه، ف " ألم تر " هنا بمعنى أعلمت، ولماذا عدل هنا عن أعلمت إلى قوله :" ألم تر " ؟. لأن الحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله بأمر منه فهو يوضح له : إن أخبرتك بشيء فاعلم أني أصدق من عينك، فإذا قال سبحانه :" ألم تر " فهذا يعني أنك علمت من الحق سبحانه وتعالى، وإخبار الحق ليس كإخبار الخلق ؛ لأن إخبار الخلق يحتمل الصدق والكذب، لكن إخبار الحق لا يعني إلا الصدق، إذن فرؤية عينك قد تخونك ؛ لأنك قد تكون غافلا فلا ترى كل الحقيقة، لكن إذا أخبرك الحق سبحانه وتعالى فسيخبرك بكل زوايا الحقيقة. إذن فإخبار الحق أوثق وآكد من رؤية العين وسبحانه عندما قال :﴿ أرأيت الذي ينهى ٩ عبدا إذا صلى ١٠ ﴾ ( سورة العلق ).
هذه مثلت الأولى، وحين قال سبحانه :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ﴾ ( سورة الفيل ).
كأنك تراهم الآن، ف " ألم تر " تعني كأن المشهد أمامك.
إذن فوسائل تأكيد الأشياء : خبر من خلق يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. هذه واحدة، ورؤية من خلق تحتمل انها استوعبت كل المرئي أو أحاطت ببعضه، أو خبر من خالق أحاط بكل شيء، فيجب أن يكون الخبر من الخالق أوثق الأخبار في تصديقهم.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ جاءت هذه الآية ورسول الله يعاصره قوم من اليهود. ورأى منهم بالفعل أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ؛ لأنهم أهل كتاب، ومع ذلك يشترون الضلالة ؛ ولا يقولون الحق، فيكون هذا أمرا مشهديا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وحينما أرسل محمدا جعله ختاما للأنبياء وختم به ركب النبوة، وهذا يعني : أن النبوة كان لها ركب. وفي كل عصر من العصور يأتي نبي على مقدار اتساع الحياة، وعلى مقدار التقاء الكائنين في الحياة، وعلى مقدار الداءات والأمراض التي تأتي في المجتمع، ولكن الله علم أزلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي في فترة ورسالته ومنهجه ينتظم ويضم كل قضايا الزمن إلى أن تقوم الساعة. وهو زمن يعلم الله أن فوارق المواصلات فيه ستنتهي، وفوارق الحواجز فيه ستنتهي، فيحدث الخبر في أدنى الشرق وأعلاه فتسمعه في أدنى الغرب وأعلاه، والخبر في الغرب تسمعه في الشرق. والداء يوجد مرة في أمريكا وبعد يوم أو يومين يوجد في أي بلد من البلاد.
إذن فالمسافات انتهت، وجعلت المواصلات العالم كقطعة واحدة، إذن فالداءات في المجتمع القديم لعسر الاتصال كانت تنعزل انعزالا إقليميا وكل داء في جماعة قد لا يصل إلى الجماعة الأخرى، فهؤلاء لهم داء لا يصل إلى الجماعة الأخرى ؛ لذلك كان الحق يرسل رسولا لكل جماعة ليعالج داءاتها، لكن إذا التحم العالم هذا الالتحام ؛ فلا بد أن يأتي رسول واحد جامع للناس جميعا ؛ لأن قضايا الداءات ستكون واحدة. ونحن نرى الآن كل يوم عجبا، كلما تحدث حادثة هناك نجدها عندنا.
إذن فلا بد أن تتوحد الرسالة. وحين تتوحد الرسالة فلا يأتي رسول ليستدرك بعد ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء خاتما ؛ ولذلك أخذ الله العهد على كل رسول أن يبشر قومه بأنه سيأتي رسول خاتم ليكون عند أهل كل ديانة خلفية تطمئنهم على أنه إذا جاء رسول، فقد عرفوا خبر مقدمه ويقولون : لقد قالت لنا رسلنا ؛ ولذلك قال الحق :
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ﴾ ( من الآية ٨١ سورة آل عمران ).
ثم قال :
﴿ قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ٨١ ﴾ ( من الآية ٨١ سورة آل عمران ).
إذن فرسول الله مشهود له من كل الرسل ؛ ولذلك أكد صلى الله عليه وسلم ديانات كل الرسل. وجاء دينه بديانات كل الرسل ؛ لأنهم معه على منهجه الذي نزل به، والذين يلتحمون بالإيمان بالسماء بواسطة الرسل السابقين ؛ إذا ما جاءهم خبر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد يجعلهم تعصبهم لدينهم ينصرفون عنه، فأعطاهم الحق الخميرة الإيمانية وأوضح لهم : سيأتي رسول خاتم فتنبهوا يا كل الأقوام إذا ما جاء الرسول الخاتم فلا بد أن تؤمنوا به. وكان عندهم في كتبهم الدلالات والإخبارات. إذن فالله أعطاهم نصيبا من الكتاب. وانظروا إلى دقة الأداء القرآني : " ألم تر " يا محمد " إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " جاء هذا القول وهو يحمل لهم عذرهم إن فاتهم شيء من الكتاب ؛ لأنه سيقول في آية أخرى :
﴿ ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾ ( من الآية ١٣ سورة المائدة ).
وماداموا قد نسوا فهم معذورون، لكن من عندهم كفاية في العلم من الذين " أوتوا نصيبا من الكتاب "، كان المفروض فيهم أن تكون آذانهم مستشرقة إلى صوت داعية الحق الخاتم، وهذا كان معروفا لهم من قبل ؛ لذلك يقول لنا ربنا :﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ﴾ ( من الآية ٨٩ سورة البقرة ).
فهم كانوا يقولون لعبدة الأوثان من العرب : نحن في انتظار النبي الخاتم الذي سيرسله الله لنسبقكم إلى الإيمان به، فإذا ما سبقناكم إلى الإيمان به وظللتم على كفركم، سنقتلكم به قتل عاد وإرم. إذن فهم معتصمون بالإيمان بالسماء، فقل لي : إذا قالوا هذا القول، وهم معروفون أنهم أهل كتاب فلماذا كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم ؟ إن كفار قريش لم يقولوا : إننا أهل كتاب، بل كانوا على فترة من الرسل، فكان المفروض أنه إذا ما جاء الرسول تسابق أهل الكتاب إلى الإيمان به لأنه سبق لهم أن توعدوا به العرب. لقد أعطاهم الله منزلة عالية لكنهم من لؤمهم لم ينتفعوا بها ؛ فيقول الحق :
﴿ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ٤٣ ﴾ ( سورة الرعد ).
لقد جعلكم الحق شهودا على صدق الدعوة، هو شاهد وأنتم شهود، وهذه منزلة كبيرة، لكنهم لم يلتفتوا إلى تلك المنزلة وركبوا سفينة العناد الغارقة :﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾ ( من الآية ٨٩ سورة البقرة ).
ولكن يجب أن نفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل قضية عقدية في الكون فيخالفها مخالف يظن أنه يضار الله، نقول له : لا. أنت تفعل ذلك لشهوة في نفسك. لكن الحق سيجعلها لنصرة الدين الخاتم، وتكون أنت مغفلا في هذا الموقف. فإياك أن تظن أنك قادر أن تصادر مرادات الله حين كذبت بمحمد وجعلك ربنا تقول هذه الكلمة للمشركين من قريش، فانظر ماذا ستفعل هذه الكلمة ؟. ولكي تعرف أنت بإنكارك ماذا قدمت للإيمان. أنت فهمت أنك صادمت الإيمان. لا. أنت أيدت ونصرت الإيمان لكن بتغفيل ! وعليك وزر.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن دعوته من ربه. قال العرب المشركون الوثنيون : إن هذا النبي هو الذي توعدتنا به اليهود، فهيا نسبق إلى الإيمان به قبل أن يسبقونا.
إذن أخدموا الايمان أم لا ؟.. لقد خدموا الإيمان. إذن فلا يظنن عاص أنه يقدر أن يطفئ نور الله ؛ لأن الله يتم نوره ولو كره الكافرون. ومثال لذلك عندما غير ربنا القبلة ويوضح : يا محمد أنا أعرف أنك مستشرق ومتشوق إلى أن تتوجه إلى الكعبة، وأنا قد وجهتك أولا لبيت المقدس لمعنى. ولكن أنا سأوجهك للكعبة وعليك أن تلاحظ أنني حين أوجهك إلى الكعبة سيقول السفهاء " وهم اليهود " :﴿ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ ( من الآية ١٤٢ سورة البقرة ).
فهم يتساءلون : ما الذي جعلهم يتركون القبلة التي كانوا عليها ؟ فإن كانت قبلة إبراهيم هي الكعبة فلماذا لم يتجه إليها من أول الأمر ؟ هم سيقولون هذا الكلام. ونزل به قرآن يتلى ويسجل. ومن تغفيلهم ساعة تغيرت القبلة قالوا ذلك القول أيضا، ولم يلتفتوا إلى أن الحق قال من قبل :
﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم ﴾ ( من الآية ١٤٢ سورة البقرة ).
فعلى الرغم من ذكائهم إلا أنهم قالوا هذا الكلام، مما يدل على أن الكفر مظلم والكافر في ظلام فلا يعرف كيف ينصر نفسه. وجعل الله الكفر وسيلة للإيمان. فلو أنهم كانوا أذكياء بحق وأصحاب بصيرة لكانوا بمجرد أن قال القرآن :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾، لجمعوا بعضهم وقالوا : القرآن قال : إننا سنقول كذا وكذا، فهيا لا نقول كي يكون القرآن غير صادق، لكنهم لم يقدروا على ذلك. إذن فالكافر مغفل. هم يظنون أنهم بكفرهم يطمسون الإيمان بالله. لا ؛ لأن الله جعل الكفر وسيلة للإيمان، والحديث الشريف يقول :
( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر )١.
فالحق سبحانه وتعالى يبين : هؤلاء أوتوا نصيبا من الكتاب، وكان المفروض لمن أوتوا نصيبا من الكتاب أن يكونوا أول من آمن. لكنهم لم يؤمنوا، هذه أول مرتبة، وليتهم اقتصروا في الشر على هذه، وبذلك تقف المسألة وتظل معلقة بهم، ولكنهم يشترون الضلالة، ليس فقط في نفوسهم بل يريدون أن يضلوا غيرهم، وهذه هي المرحلة الثانية، فهناك من يضل في ذاته وهو حر، لكن أن يحاول إضلال غير
١ رواه البخاري..
والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ٤٥ }.
فقد يكون عندكم علم بالأعداء فيقال : أنتم عالمون بأعدائكم. لكن الله أعلم بالأعداء جميعا ؛ لأنه قد تكون لك عداوة بينك وبين نفسك، أو عداوة من زوجتك، أو عداوة من أولادك أو كل هذه العداوات جميعها أو بعضها. وهؤلاء في ظاهر الأمر لا يمكن للإنسان أن يتبين عداوتهم جميعا، لكن الله أعلم بهم وبما يخفون ؛ لذلك يقول :﴿ والله أعلم بأعدائكم ﴾.
وجاء بها بعد قوله :﴿ ويريدون أن تضلوا السبيل ﴾ أي مخافة أن نقول : إن هؤلاء أهل كتاب أو مسلمون مثلنا وكذا وكذا. ومادام الله هو الأعلم بالأعداء. فهو لن يخدعنا ولن يغشنا، فيجب أن ننتبه إلى ما يقوله الحق من أنهم أعداؤنا، ويقول بعدها :﴿ وكفى بالله وليا ﴾ وحين يقول هذا، فالقول يعني أنك لا تريد وليا بعد ذلك، كما يقولون : كفاني فلان ؛ أي أنك قد تحتاج إلى هذا وهذا ثم تقول : لكن فلانا عرفته فكفاني عن كل ذلك، أي لا يحوجني إلى أحد سواه ؛ لأنني أجد عنده الكفاية التي تكفيني في كل حركة حياتي.
﴿ وكفى بالله وليا ﴾.. نعم كفى به وليا لأن غيره من البشر إنما يملكون الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الأسباب، فيملك ما هو فوق الأسباب. ولذلك يقول مطمئنا لنا :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ٢ ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ ( سورة الطلاق ).
و " الولي " دائما هو من يليك مباشرة أي أنه قريب منك. ﴿ وكفى بالله نصيرا ﴾ إذن فهناك قريب، وهناك أيضا نصير، فقد يكون هناك من هو قريب منك ولا ينصرك، لكن الله ولي ونصير، فمادامت المسألة مسألة معركة﴿ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ﴾، كان الحق ينبهنا : إياكم أن تقولوا إننا نلتمس النصرة عند أحد، اصنعوا ما في استطاعتكم أن تصنعوه ثم اتركوا ما فوق الاستطاعة إلى الله. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى أوضح لنا : إياكم ان تتخذوا من أعدائكم أولياء، وإياكم أن تقولوا ؛ ماذا نفعل ونحن ضعفاء، ونريد أن نكون في حمى أحد، وماذا نفعل في أعدائنا ؟ لا تقولوا ذلك ؛ لأن الله أعلمنا : أنا أنصركم بالرعب بأن ألقي في قلوب أعدائكم الخوف فينهزموا من غير سبب وفيهم قوة وغلبة، فإن لم يكن عندكم أسلحة فسأنصركم بالرعب. ومادام سينصرنا بالرعب فهذه كافية ؛ لأنه ساعة ينصرني بالرعب ؛ يلقى عدوى سلاحه وأنا آخذه ؛ ولذلك قال : اعملوا ما في استطاعتكم، ولم يقل : أعدوا لخصومكم ما تحققون به النصر، فهو سبحانه قادر على أن ينصرنا بالرعب :
﴿ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة آل عمران ).
ومادام ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فوسائلهم كلها تكون للمؤمنين وتنتهي المسألة.
فقد يكون عندكم علم بالأعداء فيقال : أنتم عالمون بأعدائكم. لكن الله أعلم بالأعداء جميعا ؛ لأنه قد تكون لك عداوة بينك وبين نفسك، أو عداوة من زوجتك، أو عداوة من أولادك أو كل هذه العداوات جميعها أو بعضها. وهؤلاء في ظاهر الأمر لا يمكن للإنسان أن يتبين عداوتهم جميعا، لكن الله أعلم بهم وبما يخفون ؛ لذلك يقول :﴿ والله أعلم بأعدائكم ﴾.
وجاء بها بعد قوله :﴿ ويريدون أن تضلوا السبيل ﴾ أي مخافة أن نقول : إن هؤلاء أهل كتاب أو مسلمون مثلنا وكذا وكذا. ومادام الله هو الأعلم بالأعداء. فهو لن يخدعنا ولن يغشنا، فيجب أن ننتبه إلى ما يقوله الحق من أنهم أعداؤنا، ويقول بعدها :﴿ وكفى بالله وليا ﴾ وحين يقول هذا، فالقول يعني أنك لا تريد وليا بعد ذلك، كما يقولون : كفاني فلان ؛ أي أنك قد تحتاج إلى هذا وهذا ثم تقول : لكن فلانا عرفته فكفاني عن كل ذلك، أي لا يحوجني إلى أحد سواه ؛ لأنني أجد عنده الكفاية التي تكفيني في كل حركة حياتي.
﴿ وكفى بالله وليا ﴾.. نعم كفى به وليا لأن غيره من البشر إنما يملكون الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الأسباب، فيملك ما هو فوق الأسباب. ولذلك يقول مطمئنا لنا :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ٢ ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ ( سورة الطلاق ).
و " الولي " دائما هو من يليك مباشرة أي أنه قريب منك. ﴿ وكفى بالله نصيرا ﴾ إذن فهناك قريب، وهناك أيضا نصير، فقد يكون هناك من هو قريب منك ولا ينصرك، لكن الله ولي ونصير، فمادامت المسألة مسألة معركة﴿ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ﴾، كان الحق ينبهنا : إياكم أن تقولوا إننا نلتمس النصرة عند أحد، اصنعوا ما في استطاعتكم أن تصنعوه ثم اتركوا ما فوق الاستطاعة إلى الله. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى أوضح لنا : إياكم ان تتخذوا من أعدائكم أولياء، وإياكم أن تقولوا ؛ ماذا نفعل ونحن ضعفاء، ونريد أن نكون في حمى أحد، وماذا نفعل في أعدائنا ؟ لا تقولوا ذلك ؛ لأن الله أعلمنا : أنا أنصركم بالرعب بأن ألقي في قلوب أعدائكم الخوف فينهزموا من غير سبب وفيهم قوة وغلبة، فإن لم يكن عندكم أسلحة فسأنصركم بالرعب. ومادام سينصرنا بالرعب فهذه كافية ؛ لأنه ساعة ينصرني بالرعب ؛ يلقى عدوى سلاحه وأنا آخذه ؛ ولذلك قال : اعملوا ما في استطاعتكم، ولم يقل : أعدوا لخصومكم ما تحققون به النصر، فهو سبحانه قادر على أن ينصرنا بالرعب :
﴿ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة آل عمران ).
ومادام ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فوسائلهم كلها تكون للمؤمنين وتنتهي المسألة.
تكلم الحق في سورة النساء عن الخلق الأول وأوضح : أنني خلقتكم من نفس واحدة وهي " آدم " وبعد ذلك خلقت منها زوجها، ثم بثثت منهما رجالا كثيرا ونساء، والبث الكثير للرجال والنساء لتستديم الخلافة للإنسان، لكن كيف يأتي ذلك ؟ أوضح سبحانه : أريد مجتمعا قويا، وإياكم أن يضيع فيه اليتيم. وبعد ذلك مادمت أريد استدامة هذا الاستخلاف فليأخذ الأيتام نصيبا، وتكلم سبحانه عن التركة، ثم تكلم عن السفهاء غير المؤتمنين على مالهم، وبعد ذلك تكلم عن كيفية الزواج.
إذن فكل هذه العملية ليبني لنا نظام حياة متكاملا ؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي دوام هذه الخلافة بالتكاثر، والتكاثر لا يؤدي مراده إلا إذا كان تكاثر أقوياء، أما تكاثر الضعفاء فهو لا ينفع. فإن كان فيكم يتيم لا بد أن تلاحظوه، وإن كان فيكم سفيه لا يستطيع أن يدبر ماله فدبروا أنتم له ماله ؟، واجتهدوا لتتركوا من حركة حياتكم للناس الذين سيأتون بعدكم إلى أن تقوى نفوسكم على الحركة. وأوضح سبحانه منهاج الميراث، وأمر سبحانه : أن تزاوجوا، لكن للتزاوج شروطه وقد أوضحها، ثم أعطانا المنهج العام :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ﴾، ووضح هذه الأحكام كلها.
وبعد ذلك ما الحكمة في أنه سبحانه يرجع بنا مرة ثانية لليهود ؟ الحق سبحانه وتعالى يوفي الأحكام، وإلقاء الأحكام شيء وحمل النفس على مراد الله في الأحكام شيء آخر، فيوضح لنا : أن هناك ناسا ستعلم الحكم لكنها لا تقدر أن تحمل نفسها عليه، ويعلمون مثلكم تماما، إنما اشتروا الضلالة ؟، إذن فهو شرح لنا ؛ إنه الواقع الملموس ولا يأتينا سبحانه بكلام خبري أو إنشائي، قد تقول : يحدث أو لا يحدث، إنه يأتيك بأحداث من واقع الكون، وينبهنا : إياكم أن تكونوا مثلهم، فقال :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ والتحريف : أنك تأتي باللفظ الذي يحتمل معنيين : معنى خير، ومعنى شر، و لكنك تريد منه الشر، ومثل الذي يقول :" السام عليكم والعياذ بالله " هي في ظاهرها أنه يقول : السلام عليكم، لكنه يقول : السام. يعني " الموت "، إذن ففي اللفظ ما يلحظ ملحظ الخير، ولكن العدو يميله إلى الشر.
ومثل هذا ما قالوه للنبي :" قالوا راعنا " وهي من المراعاة، لكنهم كانوا يأخذونها من الرعونة، فيأتي الأمر : اترك الكلمة التي تحتمل المعنيين. واقطع الطريق على ا لكلمة التي تحتمل التوجهين ؛ لأن المتكلم، قد يريد بها خيرا وقد يريد بها شرا، فمعنى تحريف الكلام أي أن الكلام يحتمل كذا ويحتمل كذا. والمثال على ذلك : الرجل الذي ذهب لخياط ليخيط له قباء١ وكان الخياط كريم العين أي له عين واحدة فلم يعجب الرجل بخياطة القباء فقال : والله ما دمت أفتضح بهذا الثوب الذي خاطه لي أمام الناس فلا بد أن أقول فيه شعرا يفضحه في الناس، فقال :
خاط لي عمرو قباء **** ليت عينيه سواء
فقوله : ليت عينيه سواء يظهر ماذا ؟. هل يا ترى يتمنى له أن تكون عينه المريضة مثل السليمة ؟ أو يتمنى أن تكون العين السليمة مثل المريضة ؟ إذن فالكلام يحتمل الخير والشر، ومثلما حكوا لنا أن واحدا من الولاة طلب من الخطيب أن يسب سيدنا عليا كرم الله وجهه وآله وأن يلعنهم على المنبر.
فقال الخطيب : اعفني.
فقال الوالي : لا، عزمت عليك إلا فعلت.
فقال له الخطيب : إن كنت عزمت على إلا فعلت، فسأصعد المنبر وأقول : طلب مني فلان أن أسب عليا فقولوا معي يلعنه الله.
فقال له : لا تقل شيئا. فقد فهم الوالي مقصد الخطيب وقدرته على استعمال الكلام على معنيين.
والحق يقول :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾. وأريد أن تنتبهوا إلى أن أسلوب القرآن يأتي في بعض المواقع بألفاظ واحدة، ولكنه يعدل عن عبارة إلى عبارة، فيخيل لأصحاب النظرة السطحية أن الأمر تكرار، ولكنه ليس كذلك، مثلما يقول مرة :﴿ يشترون الضلالة بالهدى ﴾ ومرة لا يأتي بالهدى كثمن للضلالة ويقول :﴿ يشترون الضلالة ﴾، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة مطموس عندهم هنا، ومثال آخر هو قول الحق :
﴿ يحرفون الكلم من بعد مواضعه ﴾ ( من الآية ٤١ سورة المائدة ).
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه :﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾، فكان المسالة لها أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله وضع أولا وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه.
أما قوله :﴿ من بعد مواضعه ﴾ فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم، فكأنه كانت له مواضع. وهو جدير بها، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم.
﴿ ويقولون سمعنا وعصينا ﴾. فهم يقولون قولا مسموعا " سمعنا " ثم يقولون في أنفسهم " إنا عصينا ". فقولهم :" سمعنا وعصينا " ففي نيتهم " عصينا "، إذن فقولهم " سمعنا " يعني سماع أذن فقط. إنما " عصينا " فهي تعني : عصيان التكليف، وهم قالوا بالفعل سمعنا جهرا وقالوا عصينا سرا أو هم قالوا : سمعنا، وهم يضمرون المعصية، " واسمع غير مسمع " ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يسمعكم، بدليل أنكم قلتم : سمعنا، فماذا تريدون بقولكم : اسمع ؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول كلاما لا يعجبكم وستردون عليه، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوها أخرى فتقلبونها إلى معان لا تليق، مثل قولكم :" غير مسمع " ما يسرك، أو " غير مسمع " أي لا سمعت ؛ لأنهم يتمنون له معاذ الله الصمم، وقد تكون سبابا من قولهم : أسمع فلان فلانا إذا سبه وشتمه، فالكلام محتمل.
﴿ واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم ﴾ لم يقولوا :" راعنا " من الرعاية بل من الرعونة، فقال : لا. اتركوا هذا اللفظ ؛ لأنهم سيأخذون منه كلمة يريدون منها الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و " اللي " : هو فتل الشيء، والفتل : توجيه شقي الحبل الذي تفتله عن الاستقامة، وهذا الفتل يعطيه القوة، وهم يعملون هذه العمليات لماذا ؟ لأنهم يفهمون أنها تعطي قوة لهم.
﴿ ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ﴾، وماداموا يلوون الكلام عن الاستقامة فهم يريدون شرا ؛ لأن الدين جاء استقامة، فساعة يلويه أحد فماذا يريد ؟.. إنه يريد " طعنا في الدين "، " ولو انهم قالوا سمعنا "، وبدلا من إضمار المعصية يقولون :﴿ وأطعنا واسمع وانظرنا ﴾ بدلا من " راعنا "، ف " انظرنا " لا تحتمل معنى سيئا.
إذن فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبر أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خصومه يأتون بالألفاظ محتملة لذم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك يوضح : احذروا أن تقولوا الألفاظ التي يقولونها ؛ لأنهم يريدون فيها جانب الشر وعليكم أن تبتعدوا عن الألفاظ التي يمكن أن تحول إلى شر. فلو قالوا سمعنا وأطعنا " واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن "، وساعة تسمع كلمة " لكن " فلتعلم أن الأمر جاء على خلاف ما يريده المشرع ؛ لأنه يقول :﴿ ولو أنهم قالوا ﴾، لكنهم لم يقولوا، إذن فالأمر جاء على خلاف مراد المشرع.
﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم ﴾ و " اللعن " هو : الطرد والإبعاد، فهل تجنى الله عليهم في لعنهم وطردهم ؟ لا. هو لم يلعنهم إلا بسبب كفرهم، إذن فلا يقولن أحد : لماذا لعنهم الله وطردهم وما ذنبهم ؟ نقول : لا. هو سبحانه لعنهم بسبب كفرهم، إذن فالذي سبق هو كفرهم، وجاء اللعن والطرد نتيجة للكفر.
﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾. وساعة تسمع نفى حدث " لا يؤمنون " ثم يأتي استثناء " إلا "، فهو يثبت بعض الحدث، تقول مثلا : لا يأكل إلا قليلا، كلمة " لا يأكل " نفث الأكل، " وإلا قليلا " أثبتت بعض الأكل، فهو سبحانه يقول :" فلا يؤمنون إلا قليلا ". والإيمان حدث يقتضى محدثا هو : من آمن، إذن، فعندي حدث وفاعل الحدث، فساعة تسمع استثناء تقول : هذا الاستثناء صالح أن يكون للحدث، صالح أن يكون لفاعل الحدث، كلمة " فلا يؤمنون إلا قليلا " تعني : فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ؛ لأنهم يؤمنون قليلا بالصلاة، وبأنهم لا يعلمون يوم السبت، أما بقية مطلوبات الإيمان فليست في بالهم ولا يؤدونها، أو فلا يؤمنون إلا قليلا فقد يكون بعض منهم هو الذي يؤمن، وهذا صحيح عندما نقوله ؛ لأن بعضا منهم آمن بالفعل، ونجد أيضا أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيكون إيمانهم بالحدث نفسه.
وهناك أناس منهم بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلي القرآن ورأوا صورته فوجدوه مثلما وصف عندهم تماما فآمنوا، ولكن هل آمن كل يهود، او آمن قليل منهم ؟ آمن قليل منهم مثل : عبدا لله بن سلام، وكعب الأحبار، إنما عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود فلم يؤمنوا.
إذن فإن أردت أن بعضا " قليلا منهم " هو الذي آمن فهذا صحيح، ويصح أيضا أن الكافرين منهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وفي ذلك تعبير من الحق سبحانه وتعالى نسميه " صيانة الاحتمال " ؛ لأن القرآن ساعة ينزل بمثل هذا القول فمن الجائز وهذا ما حدث أن هناك أناسا من اليهود يفكرون في أنهم يعلنون الإيمان برسول الله، فلو قال :" فلا يؤمنون " فقط لكان من الصعب عليهم أن يعلنوا الإيمان لكن عندما يقول :" إلا قليلا " فالذي عنده فكرة عن الإيمان يعرف أن الذي يخبر هذا الإخبار عالم بدخائل النفوس، فصان بالاحتمال إعلان هؤلاء القلة للإيمان.
إذن فكل هذه العملية ليبني لنا نظام حياة متكاملا ؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي دوام هذه الخلافة بالتكاثر، والتكاثر لا يؤدي مراده إلا إذا كان تكاثر أقوياء، أما تكاثر الضعفاء فهو لا ينفع. فإن كان فيكم يتيم لا بد أن تلاحظوه، وإن كان فيكم سفيه لا يستطيع أن يدبر ماله فدبروا أنتم له ماله ؟، واجتهدوا لتتركوا من حركة حياتكم للناس الذين سيأتون بعدكم إلى أن تقوى نفوسكم على الحركة. وأوضح سبحانه منهاج الميراث، وأمر سبحانه : أن تزاوجوا، لكن للتزاوج شروطه وقد أوضحها، ثم أعطانا المنهج العام :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ﴾، ووضح هذه الأحكام كلها.
وبعد ذلك ما الحكمة في أنه سبحانه يرجع بنا مرة ثانية لليهود ؟ الحق سبحانه وتعالى يوفي الأحكام، وإلقاء الأحكام شيء وحمل النفس على مراد الله في الأحكام شيء آخر، فيوضح لنا : أن هناك ناسا ستعلم الحكم لكنها لا تقدر أن تحمل نفسها عليه، ويعلمون مثلكم تماما، إنما اشتروا الضلالة ؟، إذن فهو شرح لنا ؛ إنه الواقع الملموس ولا يأتينا سبحانه بكلام خبري أو إنشائي، قد تقول : يحدث أو لا يحدث، إنه يأتيك بأحداث من واقع الكون، وينبهنا : إياكم أن تكونوا مثلهم، فقال :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ والتحريف : أنك تأتي باللفظ الذي يحتمل معنيين : معنى خير، ومعنى شر، و لكنك تريد منه الشر، ومثل الذي يقول :" السام عليكم والعياذ بالله " هي في ظاهرها أنه يقول : السلام عليكم، لكنه يقول : السام. يعني " الموت "، إذن ففي اللفظ ما يلحظ ملحظ الخير، ولكن العدو يميله إلى الشر.
ومثل هذا ما قالوه للنبي :" قالوا راعنا " وهي من المراعاة، لكنهم كانوا يأخذونها من الرعونة، فيأتي الأمر : اترك الكلمة التي تحتمل المعنيين. واقطع الطريق على ا لكلمة التي تحتمل التوجهين ؛ لأن المتكلم، قد يريد بها خيرا وقد يريد بها شرا، فمعنى تحريف الكلام أي أن الكلام يحتمل كذا ويحتمل كذا. والمثال على ذلك : الرجل الذي ذهب لخياط ليخيط له قباء١ وكان الخياط كريم العين أي له عين واحدة فلم يعجب الرجل بخياطة القباء فقال : والله ما دمت أفتضح بهذا الثوب الذي خاطه لي أمام الناس فلا بد أن أقول فيه شعرا يفضحه في الناس، فقال :
خاط لي عمرو قباء **** ليت عينيه سواء
فقوله : ليت عينيه سواء يظهر ماذا ؟. هل يا ترى يتمنى له أن تكون عينه المريضة مثل السليمة ؟ أو يتمنى أن تكون العين السليمة مثل المريضة ؟ إذن فالكلام يحتمل الخير والشر، ومثلما حكوا لنا أن واحدا من الولاة طلب من الخطيب أن يسب سيدنا عليا كرم الله وجهه وآله وأن يلعنهم على المنبر.
فقال الخطيب : اعفني.
فقال الوالي : لا، عزمت عليك إلا فعلت.
فقال له الخطيب : إن كنت عزمت على إلا فعلت، فسأصعد المنبر وأقول : طلب مني فلان أن أسب عليا فقولوا معي يلعنه الله.
فقال له : لا تقل شيئا. فقد فهم الوالي مقصد الخطيب وقدرته على استعمال الكلام على معنيين.
والحق يقول :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾. وأريد أن تنتبهوا إلى أن أسلوب القرآن يأتي في بعض المواقع بألفاظ واحدة، ولكنه يعدل عن عبارة إلى عبارة، فيخيل لأصحاب النظرة السطحية أن الأمر تكرار، ولكنه ليس كذلك، مثلما يقول مرة :﴿ يشترون الضلالة بالهدى ﴾ ومرة لا يأتي بالهدى كثمن للضلالة ويقول :﴿ يشترون الضلالة ﴾، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة مطموس عندهم هنا، ومثال آخر هو قول الحق :
﴿ يحرفون الكلم من بعد مواضعه ﴾ ( من الآية ٤١ سورة المائدة ).
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه :﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾، فكان المسالة لها أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله وضع أولا وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه.
أما قوله :﴿ من بعد مواضعه ﴾ فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم، فكأنه كانت له مواضع. وهو جدير بها، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم.
﴿ ويقولون سمعنا وعصينا ﴾. فهم يقولون قولا مسموعا " سمعنا " ثم يقولون في أنفسهم " إنا عصينا ". فقولهم :" سمعنا وعصينا " ففي نيتهم " عصينا "، إذن فقولهم " سمعنا " يعني سماع أذن فقط. إنما " عصينا " فهي تعني : عصيان التكليف، وهم قالوا بالفعل سمعنا جهرا وقالوا عصينا سرا أو هم قالوا : سمعنا، وهم يضمرون المعصية، " واسمع غير مسمع " ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يسمعكم، بدليل أنكم قلتم : سمعنا، فماذا تريدون بقولكم : اسمع ؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول كلاما لا يعجبكم وستردون عليه، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوها أخرى فتقلبونها إلى معان لا تليق، مثل قولكم :" غير مسمع " ما يسرك، أو " غير مسمع " أي لا سمعت ؛ لأنهم يتمنون له معاذ الله الصمم، وقد تكون سبابا من قولهم : أسمع فلان فلانا إذا سبه وشتمه، فالكلام محتمل.
﴿ واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم ﴾ لم يقولوا :" راعنا " من الرعاية بل من الرعونة، فقال : لا. اتركوا هذا اللفظ ؛ لأنهم سيأخذون منه كلمة يريدون منها الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و " اللي " : هو فتل الشيء، والفتل : توجيه شقي الحبل الذي تفتله عن الاستقامة، وهذا الفتل يعطيه القوة، وهم يعملون هذه العمليات لماذا ؟ لأنهم يفهمون أنها تعطي قوة لهم.
﴿ ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ﴾، وماداموا يلوون الكلام عن الاستقامة فهم يريدون شرا ؛ لأن الدين جاء استقامة، فساعة يلويه أحد فماذا يريد ؟.. إنه يريد " طعنا في الدين "، " ولو انهم قالوا سمعنا "، وبدلا من إضمار المعصية يقولون :﴿ وأطعنا واسمع وانظرنا ﴾ بدلا من " راعنا "، ف " انظرنا " لا تحتمل معنى سيئا.
إذن فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبر أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خصومه يأتون بالألفاظ محتملة لذم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك يوضح : احذروا أن تقولوا الألفاظ التي يقولونها ؛ لأنهم يريدون فيها جانب الشر وعليكم أن تبتعدوا عن الألفاظ التي يمكن أن تحول إلى شر. فلو قالوا سمعنا وأطعنا " واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن "، وساعة تسمع كلمة " لكن " فلتعلم أن الأمر جاء على خلاف ما يريده المشرع ؛ لأنه يقول :﴿ ولو أنهم قالوا ﴾، لكنهم لم يقولوا، إذن فالأمر جاء على خلاف مراد المشرع.
﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم ﴾ و " اللعن " هو : الطرد والإبعاد، فهل تجنى الله عليهم في لعنهم وطردهم ؟ لا. هو لم يلعنهم إلا بسبب كفرهم، إذن فلا يقولن أحد : لماذا لعنهم الله وطردهم وما ذنبهم ؟ نقول : لا. هو سبحانه لعنهم بسبب كفرهم، إذن فالذي سبق هو كفرهم، وجاء اللعن والطرد نتيجة للكفر.
﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾. وساعة تسمع نفى حدث " لا يؤمنون " ثم يأتي استثناء " إلا "، فهو يثبت بعض الحدث، تقول مثلا : لا يأكل إلا قليلا، كلمة " لا يأكل " نفث الأكل، " وإلا قليلا " أثبتت بعض الأكل، فهو سبحانه يقول :" فلا يؤمنون إلا قليلا ". والإيمان حدث يقتضى محدثا هو : من آمن، إذن، فعندي حدث وفاعل الحدث، فساعة تسمع استثناء تقول : هذا الاستثناء صالح أن يكون للحدث، صالح أن يكون لفاعل الحدث، كلمة " فلا يؤمنون إلا قليلا " تعني : فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ؛ لأنهم يؤمنون قليلا بالصلاة، وبأنهم لا يعلمون يوم السبت، أما بقية مطلوبات الإيمان فليست في بالهم ولا يؤدونها، أو فلا يؤمنون إلا قليلا فقد يكون بعض منهم هو الذي يؤمن، وهذا صحيح عندما نقوله ؛ لأن بعضا منهم آمن بالفعل، ونجد أيضا أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيكون إيمانهم بالحدث نفسه.
وهناك أناس منهم بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلي القرآن ورأوا صورته فوجدوه مثلما وصف عندهم تماما فآمنوا، ولكن هل آمن كل يهود، او آمن قليل منهم ؟ آمن قليل منهم مثل : عبدا لله بن سلام، وكعب الأحبار، إنما عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود فلم يؤمنوا.
إذن فإن أردت أن بعضا " قليلا منهم " هو الذي آمن فهذا صحيح، ويصح أيضا أن الكافرين منهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وفي ذلك تعبير من الحق سبحانه وتعالى نسميه " صيانة الاحتمال " ؛ لأن القرآن ساعة ينزل بمثل هذا القول فمن الجائز وهذا ما حدث أن هناك أناسا من اليهود يفكرون في أنهم يعلنون الإيمان برسول الله، فلو قال :" فلا يؤمنون " فقط لكان من الصعب عليهم أن يعلنوا الإيمان لكن عندما يقول :" إلا قليلا " فالذي عنده فكرة عن الإيمان يعرف أن الذي يخبر هذا الإخبار عالم بدخائل النفوس، فصان بالاحتمال إعلان هؤلاء القلة للإيمان.
١ القباء: ثوب فوق الثياب ويتمنطق عليه.. أي يشد عليه حزام، ولعله ما يسمى بالقفطان..
نعلم أن كل التشريعات التي جاءت من السماء لا يوجد فيها تضارب ؛ فالمشرع واحد. ولن يشرع اليوم شريعة ثم يأتي رسول آخر يشرع شريعة أخرى جديدة. فأصول الأديان كلها التي جاء بها ركب الرسالات واحدة، ولا تختلف إلا في بعض الأحكام التي تتطلبها ظروف العصور، وفي التشريع الواحد تتطور الأحكام وخصوصا ما يتعلق بالعادات. وما كان الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده يأتي لمسألة من المسائل تعرض الناس فيها لعادة فتمكنت منهم تلك العادة، وأصبحت تقودهم ان يفعلوها ثم يأتي لينهيها بكلمة. لم تأت الكلمة الفصل إلا في العقيدة. لكن المسائل التي تحتاج إلى التعود فالحق يتلطف في أن يخرجها خروجا ميسورا، بمعنى أنه يجعلها مرحليات كي لا توجد فجوة الانتقال.
ويمكننا أن نشبه فجوة الانتقال : مثلما يكون هناك من يدخن السجائر، ويصل معدل تدخينه في اليوم مائة سيجارة، فإذا قلنا له : اجعله خمسين سيجارة، ثم ثلاثين، وهكذا، وبذلك نكون قد وزعنا عادته على بعض الزمن، وبدلا من أن تكون المسافة بين السيجارة والسيجارة عشر دقائق أو نصف ساعة فلنجعلها ساعة فنكون قد كسرنا جزءا من الاعتياد، وكذلك مرحليات الأمور الاجتماعية التي تنشأ من رتابة التعود.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ﴾. فالحق يوضح : لم نأت بحاجة جديدة، بل كلها مما عندكم. قد يقول قائل : مادامت مما عندهم فما الداعي لها ؟. نقول : لأن هناك جديدا في أقضية العصر التي لم تكن موجودة عندهم، والذي زاد هو معالجة تلك الأقضية الجديدة، ولكن أصل الإيمان موجود بالقرآن المعجز الذي ينزل من السماء ؛ بالمعجزة، بالتوحيد، والقضايا العقدية، كل هذه لا يوجد فيها خلاف.
﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا ﴾، وكلمة " أوتوا الكتاب " إلزام لهم بالحجة، وتعني : نحن لا نكلمكم بكلام لا تعرفونه ؛ لأنه يقول :" مصدقا لما معكم " إنهم يعلمون ما معهم جيدا، فكان من الواجب أن يقارنوا ويوازنوا ما جاء لهم من جديد على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عندهم، فإن وجدوه مصدقا لما عندهم فقد انتهت المسألة.
ثم انظر إلى التهديد﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولا ﴾، سبحانه يناديهم : بادروا، كما نقول مثلا :" الحق نفسك وآمن " ويقول الحق :﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ﴾. والطمس هو : المحو. فالشيء الذي طمس هو الذي محي بعدما كان شيئا مميزا، وكلمة " وجوه " وردت في القرآن بمعان متعددة، فتطلق مرة في البدن على ما يواجه وهو " الوجه " كما في قوله :
﴿ يوم تبيض وجوه ﴾ ( من الآية ١٠٦ سورة آل عمران ).
ونطلق الكلمة مرة على القصد والنية والوجهة، قال تعالى :
﴿ بلى من أسلم وجهه لله ﴾ ( من الآية ١١٢ سورة البقرة ).
و " أسلم وجهه " تعني قصده ووجهته ونيته.
إذن فمرة يطلق الوجه على الوجه الذي به المواجهة، ومرة يطلق على القصد، وما العلاقة بين القصد، والنية، والوجه ؟. لأن الإنسان إذا قصد شيئا اتجه إليه بوجهه، وسار له. إذن فالوجه يطلق على الجارحة " الوجه "، ويطلق على القصد والنية. ومادام يطلق بإطلاقين فيطلق على الوجه المعروف فينا، ويطلق على القصد والنية التي توجهنا فالاثنان يصحان.
وقوله :" نطمس وجوها " لأنه سبحانه أوضح : أنا مكرمكم وجعلت لكم سمات تميزكم، بشكلها : حواجب، وعينين، وأنفا جميلا، وفما، بحيث إنك لو أردت أن تخلق هذه الخلقة، لما استطعت، وسبحانه يعلن : أنا أقدر أن أطمس هذه الوجوه التي تميزكم، بحيث أردها على الأدبار، فيكون الوجه مثل القفا، هذه الوجوه التي تميزكم، بحيث أردها على الأدبار، فيكون الوجه مثل القفا، وتصبح كقطعة اللحم، هذا إن أردنا بقوله :" وجوها "، الوجه الذي في البدن.
وإن أردنا بالوجه " القصد " نقول : الذين يشترون الضلالة، والذين يريدون أن تضلوا السبيل، والذين يحرفون الكلام عن مواضعه، والذين يقولون :" راعنا "، والذين يقولون :" اسمع غير مسمع :. أليس لهم وجهة ؟ وما وجهتهم في هذا الموقف وما قصدهم ؟.
إن قصدهم هو صرف أنفسهم وصرف الناس عن إتباع محمد، فكأنه يقول لهم : بادروا وآمنوا قبل أن نطمس ونمحو قصدكم فلا يصل إلى منتهاه من صدكم عن الإيمان برسول الله، الحقوا أنفسكم قبل أن يحدث ذلك ونلعنكم ونطردكم من رحمتنا، ولذلك نجد سيدنا عبد الله بن سلام عندما سمع الآية، ذهب إلى رسول الله ويده على وجهه وقال : والله لقد خفت قبل أن أسلم أن يطمس وجهي.
وهذا دليل على أنه آمن بأن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنقاذ. وفي عهد سيدنا عمر رضي الله عنه نجد كعب الأحبار يذهب له، ولم تكن الآية قد بلغته، فلما بلغته ذهب إلى سيدنا عمر وهو واضع يده على وجهه خائفا أن يطمس وجهه قبل أن يعلن إسلامه. وذلك دليل على يقينه من أن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ.
وقد يقول قائل : ولكن منهم أناس لم يؤمنوا ولم يحدث لهم هذا الطمس. نقول : أهو قال سنطمس الوجوه فقط ؟ لا، بل قال أيضا :﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾ ويكفي أن هناك أناسا اعتقدوا أن الطمس قد يجيء وهم من وجوه أهل الكتاب ومن أحبارهم، فالذين آمنوا برسول الله من هؤلاء كانوا يعلمون كيد اليهود، فسيدنا عبد الله بن سلام قبل أن يسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أحب أن أسلم، ولكني أخشى إن أسلمت أن يقول اليهود في شرا فقبل أن أسلم أسألهم عني، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبار اليهود : ماذا تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا : سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وحبرنا ومجدوه، فلما سمع ابن سلام منهم هذا الكلام قال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله فقالوا : هو ابن كذا وابن كذا وسبوه، فقال ابن سلام : يا رسول الله ألم أقل لك : إنهم قوم بهت١.
فقد روى أن عبد الله بن سلام لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فنظر إلى وجهه الكريم فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر، فقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول شرائط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ؟ فقال عليه السلام :" أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته " فقال : أشهد أنك رسول الله حقا فقام ثم قال : يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أي رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ قالوا أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا : شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله واحذر. قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ﴾٢.
﴿ ومن قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ﴾ فإن أردنا طمس الوجه حقيقة، فهو الأمر الذي خاف منه عبد الله بن سلام وكعب الأحبار، هذا ذهب إلى رسول الله وذاك ذهب إلى عمر، وكل منهما كان يمسك وجهه خشية أن يطمس، إذن فقوله " نطمس وجوها " أي نجعلها مثل " القفا " مجرد قطعة لحم من غير تمييز، أو نحول بينهم وبين قصدهم أي لا نمكنهم من الوصول إلى ما يريدون من صدهم الناس عن الإيمان برسول الله.. ﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم ﴾ أو أن نطردهم من رحمتنا ومن ساحة إيماننا، فيقول الحق :
﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ ( من الآية ٧ سورة البقرة ).
ماداموا هم قد كفروا نقول لكل منهم : ألم تكن تريد أن تكفر ؟ والله سيزيد لك الختم على قلبك وسنعينك على هذه الحكاية أيضا قال تعالى :
﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ﴾ ( من الآية ١٠ سورة البقرة ).
فإذا كنت أنت تريد هذه فسنعطيك ما في نفسك﴿ فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾ وسبحانه يخاطب اليهود، واليهود يعرفون قصة السبت ويعرفون أنها واقعة حدثت، وطردهم الله وأهلكهم ولعنهم وأعد لهم عذابا عظيما. إذن فهو لا يأتيهم بمسألة وعيد بدون رصيد، لا، فهذا وعيد يسبقه رصيد.. أنتم يا معشر يهود تؤمنون به وتذكرونه وله تاريخ عندكم، ﴿ كما لعنا أصحاب السبت ﴾، وقصة أصحاب السبت معروفة وإن كانت ستأتي في سورة أخرى، و " السبت " وهو السكون والراحة، ومنه السبات أي النوم، فسبت يسبت يعني سكن واستقر وارتاح.
﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾، واللعن قالوا فيه : إنه الطرد والإهانة، وقالوا في معناه : إنه الإهلاك. والذين يحاولون أن يشككوا في مفهومات آيات القرآن يقولون : أنتم لا تقفون عند معنى واحد للكلمة، إما أن يراد كذا، وإما أن يراد كذا. نقول لهم : أنتم ليست لكم ملكة في اللغة حتى وإن تعلمتم اللغة فتعلمكم للغة تعلم صنعة لا تعلم ملكة. وتعلم الصنعة يعطيك القاعدة ولكن لا يعطيك قدرة وضع اللفظ في معناه الحقيقي ولا بيان المراد منه واللعن إذا كان معناه الطرد كان يجب أن تفهموا أن الطرد يقتضي طاردا، ويقتضي مطرودا ويقتضي مطرودا منه.
ومن الذي يطرد ؟.
ومن الذي يطرد ؟.
وعن أي شيء يطرد ؟.
حين تأخذون المعنى على هذا الوضع لا تجدون غضاضة في أن تتعدد معاني الطرد. فهب أنك تجلس للأكل ثم جاءك كلبك الذي تعتز به للحراسة ليحوم حول مائدتك، ماذا تصنع له ؟. تطرده عن المائدة، ذلك طرد. وهب أن ابنك مثلا صنع شيئا وعندك ضيوف فأردت أن تخرجه من المجلس وقلت له : اذهب عند أمك، هذا طرد.
وإذا كان ذنب الابن كبيرا ولك سيطرة فأنت قد تخرجه من البيت فلا يجلس فيه، وهذا طرد. وإذا كان ذنب الابن لا يحتمل فأنت تخرجه من القرية، وهذا طرد. فإذا كان هناك إنسان قد أذنب ذنبا كبيرا وكنت صاحب قوة نافذة فأنت تخرجه من الحياة كلها فتكون قد أبعدته من الحياة كلها. إذن فكل ذلك طرد. فإن أردنا الخزي والهوان يتأتى اللعن، وإن أردنا الإهلاك فقد هلك منهم الكثير في المعارك ونالوا الخزي والهوان ؛ لأننا سبينا نساءهم وبناتهم، وقهرناهم، وأهلكناهم، وأخرجناهم من ديارهم إلى بلاد الشام وإلى أذرعات، وأهلكهم الله بالموت. إذن فكل معاني الطرد تتأتى. فقد جاء يمس كل الذي حدث لهم، ولكنه يختلف باختلاف الطارد، وباختلاف المطرود، وباختلاف المطرود منه.
وحين يقول الحق :﴿ كما لعنا أصحاب السبت ﴾ فهذا يدل على أن اللعن له أشياء مختلفة، أنا سآخذ منها لعن أصحاب السبت، والسبت يوم من أيام الأسبوع، أي وحدة زمنية في الأسبوع، ونلحظ أن بقية أيام الأسبوع السبعة فيها إشارات إلى العدد، يوم الأحد يعني واحدا ويوم الإثنين تعني اثنين. وهكذا في الثلاثاء والأربعاء والخميس، ففيه خمسة أيام بأعدا
ويمكننا أن نشبه فجوة الانتقال : مثلما يكون هناك من يدخن السجائر، ويصل معدل تدخينه في اليوم مائة سيجارة، فإذا قلنا له : اجعله خمسين سيجارة، ثم ثلاثين، وهكذا، وبذلك نكون قد وزعنا عادته على بعض الزمن، وبدلا من أن تكون المسافة بين السيجارة والسيجارة عشر دقائق أو نصف ساعة فلنجعلها ساعة فنكون قد كسرنا جزءا من الاعتياد، وكذلك مرحليات الأمور الاجتماعية التي تنشأ من رتابة التعود.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ﴾. فالحق يوضح : لم نأت بحاجة جديدة، بل كلها مما عندكم. قد يقول قائل : مادامت مما عندهم فما الداعي لها ؟. نقول : لأن هناك جديدا في أقضية العصر التي لم تكن موجودة عندهم، والذي زاد هو معالجة تلك الأقضية الجديدة، ولكن أصل الإيمان موجود بالقرآن المعجز الذي ينزل من السماء ؛ بالمعجزة، بالتوحيد، والقضايا العقدية، كل هذه لا يوجد فيها خلاف.
﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا ﴾، وكلمة " أوتوا الكتاب " إلزام لهم بالحجة، وتعني : نحن لا نكلمكم بكلام لا تعرفونه ؛ لأنه يقول :" مصدقا لما معكم " إنهم يعلمون ما معهم جيدا، فكان من الواجب أن يقارنوا ويوازنوا ما جاء لهم من جديد على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عندهم، فإن وجدوه مصدقا لما عندهم فقد انتهت المسألة.
ثم انظر إلى التهديد﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولا ﴾، سبحانه يناديهم : بادروا، كما نقول مثلا :" الحق نفسك وآمن " ويقول الحق :﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ﴾. والطمس هو : المحو. فالشيء الذي طمس هو الذي محي بعدما كان شيئا مميزا، وكلمة " وجوه " وردت في القرآن بمعان متعددة، فتطلق مرة في البدن على ما يواجه وهو " الوجه " كما في قوله :
﴿ يوم تبيض وجوه ﴾ ( من الآية ١٠٦ سورة آل عمران ).
ونطلق الكلمة مرة على القصد والنية والوجهة، قال تعالى :
﴿ بلى من أسلم وجهه لله ﴾ ( من الآية ١١٢ سورة البقرة ).
و " أسلم وجهه " تعني قصده ووجهته ونيته.
إذن فمرة يطلق الوجه على الوجه الذي به المواجهة، ومرة يطلق على القصد، وما العلاقة بين القصد، والنية، والوجه ؟. لأن الإنسان إذا قصد شيئا اتجه إليه بوجهه، وسار له. إذن فالوجه يطلق على الجارحة " الوجه "، ويطلق على القصد والنية. ومادام يطلق بإطلاقين فيطلق على الوجه المعروف فينا، ويطلق على القصد والنية التي توجهنا فالاثنان يصحان.
وقوله :" نطمس وجوها " لأنه سبحانه أوضح : أنا مكرمكم وجعلت لكم سمات تميزكم، بشكلها : حواجب، وعينين، وأنفا جميلا، وفما، بحيث إنك لو أردت أن تخلق هذه الخلقة، لما استطعت، وسبحانه يعلن : أنا أقدر أن أطمس هذه الوجوه التي تميزكم، بحيث أردها على الأدبار، فيكون الوجه مثل القفا، هذه الوجوه التي تميزكم، بحيث أردها على الأدبار، فيكون الوجه مثل القفا، وتصبح كقطعة اللحم، هذا إن أردنا بقوله :" وجوها "، الوجه الذي في البدن.
وإن أردنا بالوجه " القصد " نقول : الذين يشترون الضلالة، والذين يريدون أن تضلوا السبيل، والذين يحرفون الكلام عن مواضعه، والذين يقولون :" راعنا "، والذين يقولون :" اسمع غير مسمع :. أليس لهم وجهة ؟ وما وجهتهم في هذا الموقف وما قصدهم ؟.
إن قصدهم هو صرف أنفسهم وصرف الناس عن إتباع محمد، فكأنه يقول لهم : بادروا وآمنوا قبل أن نطمس ونمحو قصدكم فلا يصل إلى منتهاه من صدكم عن الإيمان برسول الله، الحقوا أنفسكم قبل أن يحدث ذلك ونلعنكم ونطردكم من رحمتنا، ولذلك نجد سيدنا عبد الله بن سلام عندما سمع الآية، ذهب إلى رسول الله ويده على وجهه وقال : والله لقد خفت قبل أن أسلم أن يطمس وجهي.
وهذا دليل على أنه آمن بأن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنقاذ. وفي عهد سيدنا عمر رضي الله عنه نجد كعب الأحبار يذهب له، ولم تكن الآية قد بلغته، فلما بلغته ذهب إلى سيدنا عمر وهو واضع يده على وجهه خائفا أن يطمس وجهه قبل أن يعلن إسلامه. وذلك دليل على يقينه من أن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ.
وقد يقول قائل : ولكن منهم أناس لم يؤمنوا ولم يحدث لهم هذا الطمس. نقول : أهو قال سنطمس الوجوه فقط ؟ لا، بل قال أيضا :﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾ ويكفي أن هناك أناسا اعتقدوا أن الطمس قد يجيء وهم من وجوه أهل الكتاب ومن أحبارهم، فالذين آمنوا برسول الله من هؤلاء كانوا يعلمون كيد اليهود، فسيدنا عبد الله بن سلام قبل أن يسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أحب أن أسلم، ولكني أخشى إن أسلمت أن يقول اليهود في شرا فقبل أن أسلم أسألهم عني، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبار اليهود : ماذا تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا : سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وحبرنا ومجدوه، فلما سمع ابن سلام منهم هذا الكلام قال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله فقالوا : هو ابن كذا وابن كذا وسبوه، فقال ابن سلام : يا رسول الله ألم أقل لك : إنهم قوم بهت١.
فقد روى أن عبد الله بن سلام لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فنظر إلى وجهه الكريم فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر، فقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول شرائط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ؟ فقال عليه السلام :" أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته " فقال : أشهد أنك رسول الله حقا فقام ثم قال : يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أي رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ قالوا أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا : شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله واحذر. قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ﴾٢.
﴿ ومن قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ﴾ فإن أردنا طمس الوجه حقيقة، فهو الأمر الذي خاف منه عبد الله بن سلام وكعب الأحبار، هذا ذهب إلى رسول الله وذاك ذهب إلى عمر، وكل منهما كان يمسك وجهه خشية أن يطمس، إذن فقوله " نطمس وجوها " أي نجعلها مثل " القفا " مجرد قطعة لحم من غير تمييز، أو نحول بينهم وبين قصدهم أي لا نمكنهم من الوصول إلى ما يريدون من صدهم الناس عن الإيمان برسول الله.. ﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم ﴾ أو أن نطردهم من رحمتنا ومن ساحة إيماننا، فيقول الحق :
﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ ( من الآية ٧ سورة البقرة ).
ماداموا هم قد كفروا نقول لكل منهم : ألم تكن تريد أن تكفر ؟ والله سيزيد لك الختم على قلبك وسنعينك على هذه الحكاية أيضا قال تعالى :
﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ﴾ ( من الآية ١٠ سورة البقرة ).
فإذا كنت أنت تريد هذه فسنعطيك ما في نفسك﴿ فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾ وسبحانه يخاطب اليهود، واليهود يعرفون قصة السبت ويعرفون أنها واقعة حدثت، وطردهم الله وأهلكهم ولعنهم وأعد لهم عذابا عظيما. إذن فهو لا يأتيهم بمسألة وعيد بدون رصيد، لا، فهذا وعيد يسبقه رصيد.. أنتم يا معشر يهود تؤمنون به وتذكرونه وله تاريخ عندكم، ﴿ كما لعنا أصحاب السبت ﴾، وقصة أصحاب السبت معروفة وإن كانت ستأتي في سورة أخرى، و " السبت " وهو السكون والراحة، ومنه السبات أي النوم، فسبت يسبت يعني سكن واستقر وارتاح.
﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾، واللعن قالوا فيه : إنه الطرد والإهانة، وقالوا في معناه : إنه الإهلاك. والذين يحاولون أن يشككوا في مفهومات آيات القرآن يقولون : أنتم لا تقفون عند معنى واحد للكلمة، إما أن يراد كذا، وإما أن يراد كذا. نقول لهم : أنتم ليست لكم ملكة في اللغة حتى وإن تعلمتم اللغة فتعلمكم للغة تعلم صنعة لا تعلم ملكة. وتعلم الصنعة يعطيك القاعدة ولكن لا يعطيك قدرة وضع اللفظ في معناه الحقيقي ولا بيان المراد منه واللعن إذا كان معناه الطرد كان يجب أن تفهموا أن الطرد يقتضي طاردا، ويقتضي مطرودا ويقتضي مطرودا منه.
ومن الذي يطرد ؟.
ومن الذي يطرد ؟.
وعن أي شيء يطرد ؟.
حين تأخذون المعنى على هذا الوضع لا تجدون غضاضة في أن تتعدد معاني الطرد. فهب أنك تجلس للأكل ثم جاءك كلبك الذي تعتز به للحراسة ليحوم حول مائدتك، ماذا تصنع له ؟. تطرده عن المائدة، ذلك طرد. وهب أن ابنك مثلا صنع شيئا وعندك ضيوف فأردت أن تخرجه من المجلس وقلت له : اذهب عند أمك، هذا طرد.
وإذا كان ذنب الابن كبيرا ولك سيطرة فأنت قد تخرجه من البيت فلا يجلس فيه، وهذا طرد. وإذا كان ذنب الابن لا يحتمل فأنت تخرجه من القرية، وهذا طرد. فإذا كان هناك إنسان قد أذنب ذنبا كبيرا وكنت صاحب قوة نافذة فأنت تخرجه من الحياة كلها فتكون قد أبعدته من الحياة كلها. إذن فكل ذلك طرد. فإن أردنا الخزي والهوان يتأتى اللعن، وإن أردنا الإهلاك فقد هلك منهم الكثير في المعارك ونالوا الخزي والهوان ؛ لأننا سبينا نساءهم وبناتهم، وقهرناهم، وأهلكناهم، وأخرجناهم من ديارهم إلى بلاد الشام وإلى أذرعات، وأهلكهم الله بالموت. إذن فكل معاني الطرد تتأتى. فقد جاء يمس كل الذي حدث لهم، ولكنه يختلف باختلاف الطارد، وباختلاف المطرود، وباختلاف المطرود منه.
وحين يقول الحق :﴿ كما لعنا أصحاب السبت ﴾ فهذا يدل على أن اللعن له أشياء مختلفة، أنا سآخذ منها لعن أصحاب السبت، والسبت يوم من أيام الأسبوع، أي وحدة زمنية في الأسبوع، ونلحظ أن بقية أيام الأسبوع السبعة فيها إشارات إلى العدد، يوم الأحد يعني واحدا ويوم الإثنين تعني اثنين. وهكذا في الثلاثاء والأربعاء والخميس، ففيه خمسة أيام بأعدا
١ رواه البخاري ومسلم والنسائي..
٢ قولهم بهت فلان فلانا. قذفه بالباطل وافترى عليه الكذب، واسم الفاعل بهوت والجمع بهت مثل: رسول ورسل.
رواه البخاري ومسلم والنسائي..
٢ قولهم بهت فلان فلانا. قذفه بالباطل وافترى عليه الكذب، واسم الفاعل بهوت والجمع بهت مثل: رسول ورسل.
رواه البخاري ومسلم والنسائي..
وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه إلى قضية عقدية أساسية في صلة الإنسان بالحق سبحانه وتعالى. يقول :
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ٤٨ ﴾.
هذه من أرجى الآيات في كتاب الله، ولذلك فحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما موجبات الإيمان ؟ أي ما الذي يعطينا الإيمان ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ".
وعن عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة " ١.
ونحن نقول إن من يشرك بالله فهو يرتكب الخيانة العقدية العظمى، وقد أخذنا هذا المصطلح من القوانين الوضعية، وإن كانت القوانين الوضعية ليس غرضها أن تؤكد قضايا دينية، لكن غفلتهم تجعلنا نلتقط منها أنها تؤكد القضايا الدينية أيضا. هب أن جماعة قاموا بحركة، وبعد ذلك استغل واحد منهم الحركة في نفع خاص له، وواحد آخر استغل الحركة في أن تكون له لا للآخر، أي ينقلب عليه، فالأول القائم على النظام يسميها خيانة عظمى، أما من لا يقاوم بغرض خلع الحاكم ولكنه يظلم الناس فقد يعاقبه الحاكم على ما حدث منه وليس على الخيانة العظمى. إذن ففي قانون البشر أيضا خيانة عظمى، وفيه انحراف وهو الذي لا يتعرض للسيادة، لكن أي حركة تتعرض للسيادة يكون فيها قطع رقاب، وكل أمر آخر إنما يؤخذ بدرجة من العقوبة تناسب ذنبه.
فالحق سبحانه وتعالى يوضح : أصل القضية الإيمانية أن الله سبحانه وتعالى يريد منكم أن تعترفوا بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له، وحين تعترف بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له. فأنت تدخل حصن الأمان، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :( أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك منهما إلا دخل الجنة )٢.
وأبو ذر عندما قال للنبي في محاورة بينهما حول هذه الآية، قال له :" ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق ( ثلاثا ) ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر٣.
لقد كان أبو ذر غيورا على حدود الله، فهل ساعة قال رسول الله : على رغم أنف أبي ذر ؛ هل هذه أحزنت أبا ذر ؟ لا، لم تحزنه، ولذلك عندما كان يحكيها ويقولها : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن رغم أنف أبي ذر وهو مسرور، لماذا ؟ لأنها فتحت باب رحمة الحق، لأنه إذا لم يكن هذا فما الفارق بين من اعتقدها وقالها وبين من لم يقلها ؟ فلابد أن يكون لها تمييز. وكل جريمة موجودة في الإسلام والحق سبحانه قد جرمها فهذا يعني أنها قد تحدث. مثال ذلك... يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ ( من الآية ٣٨ سورة المائدة ).
وهذا يعني أنه من الجائز أن يسرق المؤمن، وكذلك قد يزني في غفلة من الغفلات، وفي أسس الاستغفار يأتي البيان الواضح : من الصلاة للصلاة كفارة ما بينهما، والجمعة للجمعة كفارة، الحج كفارة، الصوم كفارة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر )٤.
أي أن ربنا قد جعل أبوابا متعددة للمغفرة وللرحمة، وهو سبحانه يقول :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ وهذه المسألة ليست لصالحه إنما لصالحكم أنتم حتى لا تتعدد آلهة البشر في البشر ويرهق الانسان ويشقى من كثرة الخضوع لكل من كان قويا عنه، فأعفاك الله من هذا وأوضح لك : لا، اخضع لواحد فقط يكفك كل الخضوع لغيره، واعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه، وفي ذلك راحة للمؤمن.
إن الإيمان إذن يعلمنا العزة والكرامة، وبدلا من أن تنحني لكل مخلوق اسجد للذي خلق الكون كله بصفات قدرته وكماله، فلم تنشأ له صفة لم تكن موجودة، هل أنتم زدتم له صفة ؟ لا. فهو بصفات الكمال أوجدكم وبصفات الكمال كان قيوما عليكم، فأنتم لم تضيفوا له شيئا، فكونك تشهد أن لا إله إلا الله. ما مصلحتها بالنسبة لله ؟ إن مصلحتها تكون للعبد فحسب.
ولذلك قلنا : إن الحق سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يجتمعوا كل أسبوع مرة ؛ لأنك قد تصلي فرضا فرضا في مصنعك أو في مزرعتك أو في أي مكان، إنما يوم الجمعة لا بد أن تجتمع مع غيرك، لماذا ؟ لأنه من الجائز أنك تذل لله بينك وبينه، تخضع وتسجد وتبكي بينك وبين الله، لكنه يريد هذه الحكاية أمام الناس، لترى كل من له سيادة وجاه يسجد ويخشع معك لله. وفي الحج ترى كل من له جاه ورئاسة يؤدي المناسك مثلك، فتقول بينك وبين نفسك أو تقول له : لقد استوينا في العبودية، فلا يرتفع أحد على أحد ولا يذل له بل كلنا عبيد لله ونخضع له وحده.
إذن فالمسألة في مصلحة العبد، ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾، لأنه لو غفر أن يشرك به لتعدد الشركاء في الأرض، وحين تتعدد الشركاء في الأرض يكون لكل واحد إله، وإذا صار لكل واحد إله تفسد المسألة، لكن الخضوع لإله واحد نأتمر جميعا بأوامره يعزنا جميعا.. فلا سيادة لأحد ولاعبودية لاحد عند أحد، فقوله :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾.. هذا لمصلحتنا.
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أتى وحشي وهو قاتل سيدنا حمزة في غزوة أحد، أتى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله. فقال رسول الله :" قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله قال : فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت هل يقبل الله مني التوبة ؟ فصمت رسول الله حتى نزلت :
﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما ٦٨ يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ٦٩ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما٧٠ ﴾ ( سورة الفرقان ).
فتلاها عليه فقال : أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ٤٨ ﴾ ( سورة النساء ).
فدعا به فتلا عليه قال : فلعلي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت :
﴿ قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ٥٣ ﴾ ( سورة الزمر ).
فقال نعم : الآن لا أرى شرطا فأسلم.
إذن فالمسألة كلها تلطف من الخالق بخلقه، واعتبار عمليات الغفلة عمليات طارئة على البشر، ومادام الحق يقنن تقنينات فمن الجائز أنها تحدث، لكن إذا حدثت معصية من واحد ثم استغفر عنها، إياك أن تأتي بسيرتها عنده مرة أخرى وتذكره بها وافرض أن واحدا شهد زورا، افرض أن واحدا ارتكب ذنبا، ثم استغفر الله منه وتاب. إياك أن تقول له : يا شاهد الزور ؛ لأنه استغفر من يملك المغفرة، فلا تجعله مذنبا عندك ؛ لأن الذي يملكها انتهت عنده المسألة.
لماذا ؟ لكيلا يذل الناس بمعصية فعلت، بل العكس ؛ إن أصحاب المعاصي الذين أسرفوا على أنفسهم يكونون في نظر بعض الناس هينين محقرين. ولذلك نقول : إن الواحد منهم كلما لذعته التوبة وندم على ما فعل كتبت له حسنة، فعلى رغم أنه ذاق المعصية لكنه مع ذلك تاب عنها، وهذا هو السبب في أن الله يبدل سيئاتهم حسنات، وعندما نعلم أن ربنا يبدل سيئاتهم حسنات فليس لنا أن نحتقر المسرفين على أنفسهم. بل علينا أن نفرح بأنهم تابوا، ولا نجعل لهم أثرا رجعيا في الزلة والمعصية.
﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾ و " الافتراء " هو الكذب المتعمد. لأن هناك من يقول لك قضية على حسب اعتقاده، وتكون هذه القضية كاذبة، كان يقول لك : فلان زار فلانا بالأمس.
هو قال ذلك حسب اعتقاده بأن قالوا له أو رأى أثرا للزيارة، على الرغم من أن مثل هذه الزيارة لم تحدث فيكون كذبا فقط، أما الشرك فهو تعمد الكذب على الله وهذا يطلق عليه :﴿ افترى إثما عظيما ﴾ لأنه مخالف لوجدانية الفطرة، كأن وجدانية الفطرة تقول : لا تقل إلا ما تعرفه فعلا وأنت متأكد بل عليك ألا تخالف فطرتك متعمدا وتجعل لله شريكا.
والحق سبحانه وتعالى عندما يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إما أن تكون هذه الكلمة صادقة فننتهي، وإما ألا تكون صادقة والعياذ بالله أي أن هناك أحدا آخر معه، وهذا الآخر سمع أن هناك واحدا يقول : لا إله إلا أنا. أسكت أم لم يسمع ؟ إن لم يكن قد سمع فيكون إلها غافلا، وإن كان قد سمع فلماذا لم يعارض ويقول : لا، لا إله إلا أنا، ويأتي بمعجزة أشد من معجزة الآخر ولم يحدث من ذلك شيء. إذن فهذه لا تنفع وتلك لا تنفع، ف " لا إله إلا الله " حين يطلقها الله ويأتي بها رسول الله ويقول الله : أنا وحدي في الكون ولا شريك لي، ولم ينازعه في ذلك أحد فالمسألة صادقة لله بالبداهة ولا جدال.
﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾ والافتراء كما يكون في الفعل وفي الكلام ويكون في الاعتقاد أيضا. " إثم عظيم "، وهذا يعني أن هناك إثما غير عظيم، " الإثم العظيم " هو الذي يخل قضية عقدية واحدة في الكون تشمل الوجود كله هي أنه لا إله إلا الله.
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ٤٨ ﴾.
هذه من أرجى الآيات في كتاب الله، ولذلك فحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما موجبات الإيمان ؟ أي ما الذي يعطينا الإيمان ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ".
وعن عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة " ١.
ونحن نقول إن من يشرك بالله فهو يرتكب الخيانة العقدية العظمى، وقد أخذنا هذا المصطلح من القوانين الوضعية، وإن كانت القوانين الوضعية ليس غرضها أن تؤكد قضايا دينية، لكن غفلتهم تجعلنا نلتقط منها أنها تؤكد القضايا الدينية أيضا. هب أن جماعة قاموا بحركة، وبعد ذلك استغل واحد منهم الحركة في نفع خاص له، وواحد آخر استغل الحركة في أن تكون له لا للآخر، أي ينقلب عليه، فالأول القائم على النظام يسميها خيانة عظمى، أما من لا يقاوم بغرض خلع الحاكم ولكنه يظلم الناس فقد يعاقبه الحاكم على ما حدث منه وليس على الخيانة العظمى. إذن ففي قانون البشر أيضا خيانة عظمى، وفيه انحراف وهو الذي لا يتعرض للسيادة، لكن أي حركة تتعرض للسيادة يكون فيها قطع رقاب، وكل أمر آخر إنما يؤخذ بدرجة من العقوبة تناسب ذنبه.
فالحق سبحانه وتعالى يوضح : أصل القضية الإيمانية أن الله سبحانه وتعالى يريد منكم أن تعترفوا بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له، وحين تعترف بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له. فأنت تدخل حصن الأمان، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :( أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك منهما إلا دخل الجنة )٢.
وأبو ذر عندما قال للنبي في محاورة بينهما حول هذه الآية، قال له :" ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق ( ثلاثا ) ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر٣.
لقد كان أبو ذر غيورا على حدود الله، فهل ساعة قال رسول الله : على رغم أنف أبي ذر ؛ هل هذه أحزنت أبا ذر ؟ لا، لم تحزنه، ولذلك عندما كان يحكيها ويقولها : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن رغم أنف أبي ذر وهو مسرور، لماذا ؟ لأنها فتحت باب رحمة الحق، لأنه إذا لم يكن هذا فما الفارق بين من اعتقدها وقالها وبين من لم يقلها ؟ فلابد أن يكون لها تمييز. وكل جريمة موجودة في الإسلام والحق سبحانه قد جرمها فهذا يعني أنها قد تحدث. مثال ذلك... يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ ( من الآية ٣٨ سورة المائدة ).
وهذا يعني أنه من الجائز أن يسرق المؤمن، وكذلك قد يزني في غفلة من الغفلات، وفي أسس الاستغفار يأتي البيان الواضح : من الصلاة للصلاة كفارة ما بينهما، والجمعة للجمعة كفارة، الحج كفارة، الصوم كفارة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر )٤.
أي أن ربنا قد جعل أبوابا متعددة للمغفرة وللرحمة، وهو سبحانه يقول :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ وهذه المسألة ليست لصالحه إنما لصالحكم أنتم حتى لا تتعدد آلهة البشر في البشر ويرهق الانسان ويشقى من كثرة الخضوع لكل من كان قويا عنه، فأعفاك الله من هذا وأوضح لك : لا، اخضع لواحد فقط يكفك كل الخضوع لغيره، واعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه، وفي ذلك راحة للمؤمن.
إن الإيمان إذن يعلمنا العزة والكرامة، وبدلا من أن تنحني لكل مخلوق اسجد للذي خلق الكون كله بصفات قدرته وكماله، فلم تنشأ له صفة لم تكن موجودة، هل أنتم زدتم له صفة ؟ لا. فهو بصفات الكمال أوجدكم وبصفات الكمال كان قيوما عليكم، فأنتم لم تضيفوا له شيئا، فكونك تشهد أن لا إله إلا الله. ما مصلحتها بالنسبة لله ؟ إن مصلحتها تكون للعبد فحسب.
ولذلك قلنا : إن الحق سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يجتمعوا كل أسبوع مرة ؛ لأنك قد تصلي فرضا فرضا في مصنعك أو في مزرعتك أو في أي مكان، إنما يوم الجمعة لا بد أن تجتمع مع غيرك، لماذا ؟ لأنه من الجائز أنك تذل لله بينك وبينه، تخضع وتسجد وتبكي بينك وبين الله، لكنه يريد هذه الحكاية أمام الناس، لترى كل من له سيادة وجاه يسجد ويخشع معك لله. وفي الحج ترى كل من له جاه ورئاسة يؤدي المناسك مثلك، فتقول بينك وبين نفسك أو تقول له : لقد استوينا في العبودية، فلا يرتفع أحد على أحد ولا يذل له بل كلنا عبيد لله ونخضع له وحده.
إذن فالمسألة في مصلحة العبد، ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾، لأنه لو غفر أن يشرك به لتعدد الشركاء في الأرض، وحين تتعدد الشركاء في الأرض يكون لكل واحد إله، وإذا صار لكل واحد إله تفسد المسألة، لكن الخضوع لإله واحد نأتمر جميعا بأوامره يعزنا جميعا.. فلا سيادة لأحد ولاعبودية لاحد عند أحد، فقوله :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾.. هذا لمصلحتنا.
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أتى وحشي وهو قاتل سيدنا حمزة في غزوة أحد، أتى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله. فقال رسول الله :" قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله قال : فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت هل يقبل الله مني التوبة ؟ فصمت رسول الله حتى نزلت :
﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما ٦٨ يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ٦٩ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما٧٠ ﴾ ( سورة الفرقان ).
فتلاها عليه فقال : أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ٤٨ ﴾ ( سورة النساء ).
فدعا به فتلا عليه قال : فلعلي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت :
﴿ قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ٥٣ ﴾ ( سورة الزمر ).
فقال نعم : الآن لا أرى شرطا فأسلم.
إذن فالمسألة كلها تلطف من الخالق بخلقه، واعتبار عمليات الغفلة عمليات طارئة على البشر، ومادام الحق يقنن تقنينات فمن الجائز أنها تحدث، لكن إذا حدثت معصية من واحد ثم استغفر عنها، إياك أن تأتي بسيرتها عنده مرة أخرى وتذكره بها وافرض أن واحدا شهد زورا، افرض أن واحدا ارتكب ذنبا، ثم استغفر الله منه وتاب. إياك أن تقول له : يا شاهد الزور ؛ لأنه استغفر من يملك المغفرة، فلا تجعله مذنبا عندك ؛ لأن الذي يملكها انتهت عنده المسألة.
لماذا ؟ لكيلا يذل الناس بمعصية فعلت، بل العكس ؛ إن أصحاب المعاصي الذين أسرفوا على أنفسهم يكونون في نظر بعض الناس هينين محقرين. ولذلك نقول : إن الواحد منهم كلما لذعته التوبة وندم على ما فعل كتبت له حسنة، فعلى رغم أنه ذاق المعصية لكنه مع ذلك تاب عنها، وهذا هو السبب في أن الله يبدل سيئاتهم حسنات، وعندما نعلم أن ربنا يبدل سيئاتهم حسنات فليس لنا أن نحتقر المسرفين على أنفسهم. بل علينا أن نفرح بأنهم تابوا، ولا نجعل لهم أثرا رجعيا في الزلة والمعصية.
﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾ و " الافتراء " هو الكذب المتعمد. لأن هناك من يقول لك قضية على حسب اعتقاده، وتكون هذه القضية كاذبة، كان يقول لك : فلان زار فلانا بالأمس.
هو قال ذلك حسب اعتقاده بأن قالوا له أو رأى أثرا للزيارة، على الرغم من أن مثل هذه الزيارة لم تحدث فيكون كذبا فقط، أما الشرك فهو تعمد الكذب على الله وهذا يطلق عليه :﴿ افترى إثما عظيما ﴾ لأنه مخالف لوجدانية الفطرة، كأن وجدانية الفطرة تقول : لا تقل إلا ما تعرفه فعلا وأنت متأكد بل عليك ألا تخالف فطرتك متعمدا وتجعل لله شريكا.
والحق سبحانه وتعالى عندما يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إما أن تكون هذه الكلمة صادقة فننتهي، وإما ألا تكون صادقة والعياذ بالله أي أن هناك أحدا آخر معه، وهذا الآخر سمع أن هناك واحدا يقول : لا إله إلا أنا. أسكت أم لم يسمع ؟ إن لم يكن قد سمع فيكون إلها غافلا، وإن كان قد سمع فلماذا لم يعارض ويقول : لا، لا إله إلا أنا، ويأتي بمعجزة أشد من معجزة الآخر ولم يحدث من ذلك شيء. إذن فهذه لا تنفع وتلك لا تنفع، ف " لا إله إلا الله " حين يطلقها الله ويأتي بها رسول الله ويقول الله : أنا وحدي في الكون ولا شريك لي، ولم ينازعه في ذلك أحد فالمسألة صادقة لله بالبداهة ولا جدال.
﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾ والافتراء كما يكون في الفعل وفي الكلام ويكون في الاعتقاد أيضا. " إثم عظيم "، وهذا يعني أن هناك إثما غير عظيم، " الإثم العظيم " هو الذي يخل قضية عقدية واحدة في الكون تشمل الوجود كله هي أنه لا إله إلا الله.
١ رواه مسلم..
٢ رواه مسلم..
٣ رواه مسلم..
٤ رواه مسلم والترمذي..
٢ رواه مسلم..
٣ رواه مسلم..
٤ رواه مسلم والترمذي..
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عودا على هؤلاء اليهود :
﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ٤٩ ﴾.
وتقدم أن أشرنا إلى قول الحق :" ألم تر "، فإن كانت الصورة التي يخاطب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرئية أمامه تكن الرؤية على حقيقتها، وإن لم تكن مرئية أمامه وكان مراد الحق سبحانه أن يعلمه بها وهي غير معاصرة لرؤياه فالحق يقول :" ألم تر " يعني : ألم تعلم، وكان العلم بالنسبة لخبر الله يجب أن يكون أصدق مما تراه العين ؛ لأن العين قد تكذبه والبصر قد يخدعه، ﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾ و " التزكية " هي أولا : التطهير من المعايب وهذا يعني سلب النقيصة، وبعد ذلك إيجاب كمالات زائدة فيها نماء، والتزكية التي زكوا بها أنفسهم أنهم قالوا :
﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ ( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
وجاء الرد عليهم في هذه القضية بقوله الحق :
﴿ قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ﴾( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
يعني : إن كنتم أحباءه وأبناءه فلماذا يعذبكم ؟ إذن فهذه قضية باطلة، ثم ما فائدة أن تقولوها لنا ؟ أنملك لكم شيئا ؟ إذا كنتم تكذبونها على من يملك لكم كل شيء وهو الله سبحانه فما بالنا نحن بكم ؟ والتزكية التي فعلوها أنهم مدحوا أنفسهم بالباطل وبرأوا أنفسهم من العيوب وادعوا أنهم أبناء الله وهم ليسوا أبناء الله وليسوا أحباءه، وقالوا أيضا :
﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ ( من الآية ١١١ سورة البقرة ).
وتلك أيضا قضية باطلة، وهنا نسأل : هل إذا زكى الإنسان نفسه بحق تكون تلك التزكية مقبولة ؟. نقول : علينا أن نسأل : ما المراد منها ؟ إن كان المراد منها الفخر تكن باطلة، لكن تكون التزكية للنفس واجبة في أمر يحتم ذلك. مثاله : عندما تركب جماعة زورقا ويكون القائد أو من يجدف أو يمسك الشراع متوسط الموهبة، ثم قامت عاصفة ولا يقوى متوسط الموهبة على قيادتها. هنا يتقدم إنسان يفهم في قيادة الزوارق أثناء العواصف ويقول لمتوسط الموهبة : ابتعد عن القيادة فأنا أكثر فهما وكفاءة وقدرة منك على هذا الأمر ويزحزحه ويمسك القيادة بدلا منه، هذه تزكية للنفس، وهي مطلوبة ؛ لأن الوقت ليس وقت تجربة، وهو يزكي نفسه بحق، إذن فهناك فرق بين التزكية بالباطل وبين التزكية بالحق.
ونحن نعلم قصة سيدنا يوسف، ونعلم قصة رؤيا الملك حيث رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ! ! وكان المفروض العكس، انظر إلى الملحظية ؛ لأن سنين الجدب ستأكل سنين الخصب، لكن من الذي يتنبه إلى رموز الرؤيا. فتعبير الرؤيا ليس علما. بل هبة من الله يمنحها لأناس ويجعلهم خبراء في فك رموز شفرة الرؤيا، ودليل ذلك أن الملك قال هذه الرؤيا للناس فقالوا له :" أضغاث أحلام "، و " أضغاث " مفردها " ضغث " وهو الحشيش المخلوط والمختلف، لكنهم أنصفوا فقالوا :
﴿ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة يوسف ).
لقد أنصفوا في قولهم. لأن الذي يقول لك : لا أعلم فقد أفتى، فمادام قد قال : لا أدري فسيضطرك إلى أن تسأل سواه، لكن إن قال لك أي جواب فستكتفي به وتتورط، إذن فمن قال : لا أدري فقد أجاب. فهم عندما قالوا : أضغاث أحلام فقد احتالوا واحتاطوالانفسهم أيضا وقالوا :﴿ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾، وكان الحق سبحانه وتعالى قد صنع التمهيد ليوسف وهو في السجن عندما دخل عليه الفتيان :
﴿ ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة يوسف ).
ما الذي جعل الفتيين يعرفان أن يوسف المسجون هذا يعرف تأويل الأحلام ؟ لقد قالا وأوضحا العلة :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة يوسف ).
ومعنى ذلك أنهما شهدا سمته وسلوكه، وعرفا أنه إنسان مسالم، فلما حزبهما واشتد عليهما أمر يتعلق بذاتهما قالا : لا يوجد أحسن من هذا الإنسان نسأله، وقلت ولا أزال أكررها : إن القيم هي القيم، والصادق محترم حتى عند الكذاب، والذي لا يشرب الخمر محترم عند من يشرب بدليل أنهما عندما حزبهما أمر قالا :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾.
وهل يحكم واحد على آخر أنه محسن إلا إذا كان عنده مقياس يعرف به الحسن ويميزه عن القبح ؟ وعندما قالا ذلك الأمر لسيدنا يوسف، كان من الممكن أن يجيبهما إلى تأويل رؤياهما، ولكن هذه ليست مهمته، بل فكر : لماذا لا يستغل هو حاجتهما إليه لأمر يتعلق بشخصيهما، وبعد ذلك ينفذ إلى مراده هو منهما قبل أن ينفذا إلى مرادهما منه، فهو نبي ومن سلالة أنبياء فأوضح لهما : وماذا رأيتما من إحساني ؟ إن عندي أشياء كثيرة :
﴿ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ﴾( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
فقد زكى نفسه، لكن انظروا لماذا زكى نفسه ؟ هو يريد أن يأخذ بيدهما إلى ربه هو، بدليل انه قال :﴿ ذلكما مما علمني ربي ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
إذن فالتزكية هنا مطلوبة، وقد ردها لله، وأعلن أن تلك ليست خصوصية لي، بل كل واحد من خلق الله يستطيع أن يكون مثلي :﴿ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
وبعد ذلك قال :
﴿ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ ( من الآية ٣٨ سورة يوسف ).
إذن فمن الممكن أن تكونوا مثلي إذا ما اتبعتم هذا الطريق، بعد ذلك قال لهم :
﴿ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة النجم ).
أي االه واحد احسن ام الهة متعددة ؟ فانتم يااصحاب الالهة المتعددة جئتم لصاحب الاله الواحد مع ان التعدد في الظاهر يعطي القوة لكن هذا التعدد اعطى الضعف لانكم يااصحاب الالهة التعددة لجاتم الى صاحب الاله الواحد :
( ءارباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار ) ( من الاية ٣٩ سورة يوسف ).
إذن فهو زكى نفسه أمامهما لكي يأخذهما إلى جانب من زكى، وهو الحق سبحانه وتعالى، وبعد ذلك عندما علم الملك قال : ائتوني به أستخلصه لنفسي، ويكون مقربا مني. ثم بعد ذلك جاءت سنون الجدب التي تنبأ بها أولا في تفسير الرؤيا، وأشار عليهم بضرورة الادخار من سنين الخصب لسنين الجدب، لقد كانت التجربة إخبارا لأشياء ستحدث، فلما وقعت علم أن المسألة ليست تجارب بل هي مسألة دقيقة.. فقال للملك :﴿ اجعلني على خزائن الأرض ﴾ ( من الآية ٥٥ سورة يوسف ).
إذن فقد زكى نفسه، وجاء بالحيثية :
﴿ إني حفيظ عليم ﴾ ( من الآية ٥٥ سورة يوسف ).
لأن هذه المسألة تحتاج حفظا وعلما، فهي أمر غير خاضع للتجريب، فيجرب واحد فيخيب، ويجرب آخر فيخيب، لا، إنها تحتاج لحفظ وعلم، ومثال ذلك أيضا عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم، قال له المنافقون : اعدل يا محمد ! فيقول لهم : والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، فهو يزكي نفسه، إذن فمتى تكون التزكية مطلوبة ؟ أولا : أن تكون بحق، وأن يكون لها هدف عند من يعلم التزكية وإلى من يعطيك التزكية ويثني عليك بما فيك وما أنت أهل له فتكون هذه تزكية صحيحة ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ٣٢ ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة النجم ).
لأنك تزكي نفسك عند الذي سيعطي الجزاء وهو يعلم، إذن فمن الحمق أن يزكي الإنسان نفسه في غير المواقف التي يحتاج فيها الأمر إلى تزكية تكون لفائدة المسلمين لا لفائدته الخاصة، والحق يقول :
﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ٤٩ ﴾ ( سورة النساء ).
إن الحق سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فمن الممكن أن واحدا يتصنع ويتكلف في نفسه مدة من الزمن أمامك، لكن هناك أشياء أنت لا تدركها، لكن ربنا عندما يزكي تكون تزكيته عن علم وعن خبرة، ومع ذلك أحين يزكون أنفسهم، أهذه محت حسناتهم ؟ لا. فعلى الرغم من أنهم زكوا أنفسهم فالحق لن يأخذهم هكذا، ويضيع حسناتهم ولكنهم " لا يظلمون فتيلا " وهذه مطلق العدالة.
ونعرف أن القرآن نزل بلسان عربي على نبي عربي، والذين باشروه أولا عرب، ونعرف أن أغلب إيحاءاته كانت متوافقة مع البيئة، وكان عندهم " النخل " وهي الشجرة المفضلة ؛ لأنها شجرة لا يسقط ورقها، وكل ما فيها له فائدة، فلا يوجد شيء في النخلة إلا وفيه فائدة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي ؟.
فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة " قال عبد الله فاستحييت، فقالوا : يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" وهي النخلة " قال عبد الله : فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال : لأن تكون قلتها أحب إلى من أن يكون لي كذا وكذا " ١.
وللنخلة فوائد كثيرة، فكل ما نأخذه منها نجد له فائدة حتى الليف حولها يحمل الجريد نأخذه ونصنع منه مكانس وليفا و " مقاطف " و " كراسي ". وحينما يطلب سبحانه وتعالى مثالا على شيء معنوي فهو يأتي بالشيء المحس في البيئة العربية.
" ولا يظلمون فتيلا " و " الفتيل " من " الفتلة "، ومن معناها : الشيء بين الأصابع، فأنت حين تدلك أصابعك مهما كانت نظيفة يخرج بعض " الوساخات مثل الفتلة "، أو " الفتيل " هو : الخيط في شق نواة البلحة ونواة التمرة، وجاء سبحانه وتعالى في القرآن بثلاثة أشياء متصلة بالنواة.
ب " الفتيل " هنا، وجاء ب " النقير " : وهو النقرة الصغيرة في ظهر النواة ومأخوذة من المنقار، كأنها منقورة، وجاء ب " قطمير " : وهي القشرة التي تلف النواة، مثل قشرة البيض الداخلية وهي قشرة ناعمة، إذن ففي النواة ثلاثة أشياء استخدمها الله. الفتيل و " النقير "، و " القطمير ".
والحق يقول :
﴿ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ﴾ ( من الآية ٥٣ سورة النساء ).
إذن فالحق سبحانه وتعالى أخذ من النواة ثلاثة أشياء ويعطينا من الشيء المحس أمامنا أمثالا يراها العربي في كل وقت أمامه ويأخذ الحق أيضا أمثالا من السماء فيأتينا بمثل : " الهلال "، يقول في الهلال وهو صغير :
﴿ كالعرجون القديم ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة يس ).
فسباطة البلح فيها شماريخ، وفيها يد تحمل الشماريخ، فهذا اسمه " العرجون "، والعرجون عندما يكون جديدا يكون مستقيما، لكنه كلما قدم ينثني وينحني، فجاء لهم من الهلال في السماء وأعطاهم مثالا له في الأرض " كالعرجون القديم "، والعرب قد اخذواأمثالا كثيرة، لكن هناك حاجات قد لا يتنبه إليها مثل قول العربي :
وغاب ضوء قمير كنت أرقبه **** مثل القلامة قد قدت من الظفر
فساعة تقص أظافرك تجدها مقوسة. لكن هذه المسألة لا يتنبه لها كل واحد، فهو جاء بشيء واضح وقال :" كالعرجون القديم " إذن فالحق سبحانه وتعالى حين يعطي مثالا لأمر معنوي فهو يأتي من الأمر المحس أمامك ليقرب لك المعنى، وعندما تأكل التمرة لا تلتفت إلى الفتيلة مما يدل على أنها شيء تافه، والنقير والقطمير كذلك. إذن فربنا أخذ من النواة أمثلة، وأخذ من النخلة أمثلة كي يقرب لنا المعاني. " ولا يظلمون فتيلا ".
﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ٤٩ ﴾.
وتقدم أن أشرنا إلى قول الحق :" ألم تر "، فإن كانت الصورة التي يخاطب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرئية أمامه تكن الرؤية على حقيقتها، وإن لم تكن مرئية أمامه وكان مراد الحق سبحانه أن يعلمه بها وهي غير معاصرة لرؤياه فالحق يقول :" ألم تر " يعني : ألم تعلم، وكان العلم بالنسبة لخبر الله يجب أن يكون أصدق مما تراه العين ؛ لأن العين قد تكذبه والبصر قد يخدعه، ﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾ و " التزكية " هي أولا : التطهير من المعايب وهذا يعني سلب النقيصة، وبعد ذلك إيجاب كمالات زائدة فيها نماء، والتزكية التي زكوا بها أنفسهم أنهم قالوا :
﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ ( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
وجاء الرد عليهم في هذه القضية بقوله الحق :
﴿ قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ﴾( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
يعني : إن كنتم أحباءه وأبناءه فلماذا يعذبكم ؟ إذن فهذه قضية باطلة، ثم ما فائدة أن تقولوها لنا ؟ أنملك لكم شيئا ؟ إذا كنتم تكذبونها على من يملك لكم كل شيء وهو الله سبحانه فما بالنا نحن بكم ؟ والتزكية التي فعلوها أنهم مدحوا أنفسهم بالباطل وبرأوا أنفسهم من العيوب وادعوا أنهم أبناء الله وهم ليسوا أبناء الله وليسوا أحباءه، وقالوا أيضا :
﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ ( من الآية ١١١ سورة البقرة ).
وتلك أيضا قضية باطلة، وهنا نسأل : هل إذا زكى الإنسان نفسه بحق تكون تلك التزكية مقبولة ؟. نقول : علينا أن نسأل : ما المراد منها ؟ إن كان المراد منها الفخر تكن باطلة، لكن تكون التزكية للنفس واجبة في أمر يحتم ذلك. مثاله : عندما تركب جماعة زورقا ويكون القائد أو من يجدف أو يمسك الشراع متوسط الموهبة، ثم قامت عاصفة ولا يقوى متوسط الموهبة على قيادتها. هنا يتقدم إنسان يفهم في قيادة الزوارق أثناء العواصف ويقول لمتوسط الموهبة : ابتعد عن القيادة فأنا أكثر فهما وكفاءة وقدرة منك على هذا الأمر ويزحزحه ويمسك القيادة بدلا منه، هذه تزكية للنفس، وهي مطلوبة ؛ لأن الوقت ليس وقت تجربة، وهو يزكي نفسه بحق، إذن فهناك فرق بين التزكية بالباطل وبين التزكية بالحق.
ونحن نعلم قصة سيدنا يوسف، ونعلم قصة رؤيا الملك حيث رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ! ! وكان المفروض العكس، انظر إلى الملحظية ؛ لأن سنين الجدب ستأكل سنين الخصب، لكن من الذي يتنبه إلى رموز الرؤيا. فتعبير الرؤيا ليس علما. بل هبة من الله يمنحها لأناس ويجعلهم خبراء في فك رموز شفرة الرؤيا، ودليل ذلك أن الملك قال هذه الرؤيا للناس فقالوا له :" أضغاث أحلام "، و " أضغاث " مفردها " ضغث " وهو الحشيش المخلوط والمختلف، لكنهم أنصفوا فقالوا :
﴿ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة يوسف ).
لقد أنصفوا في قولهم. لأن الذي يقول لك : لا أعلم فقد أفتى، فمادام قد قال : لا أدري فسيضطرك إلى أن تسأل سواه، لكن إن قال لك أي جواب فستكتفي به وتتورط، إذن فمن قال : لا أدري فقد أجاب. فهم عندما قالوا : أضغاث أحلام فقد احتالوا واحتاطوالانفسهم أيضا وقالوا :﴿ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾، وكان الحق سبحانه وتعالى قد صنع التمهيد ليوسف وهو في السجن عندما دخل عليه الفتيان :
﴿ ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة يوسف ).
ما الذي جعل الفتيين يعرفان أن يوسف المسجون هذا يعرف تأويل الأحلام ؟ لقد قالا وأوضحا العلة :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة يوسف ).
ومعنى ذلك أنهما شهدا سمته وسلوكه، وعرفا أنه إنسان مسالم، فلما حزبهما واشتد عليهما أمر يتعلق بذاتهما قالا : لا يوجد أحسن من هذا الإنسان نسأله، وقلت ولا أزال أكررها : إن القيم هي القيم، والصادق محترم حتى عند الكذاب، والذي لا يشرب الخمر محترم عند من يشرب بدليل أنهما عندما حزبهما أمر قالا :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾.
وهل يحكم واحد على آخر أنه محسن إلا إذا كان عنده مقياس يعرف به الحسن ويميزه عن القبح ؟ وعندما قالا ذلك الأمر لسيدنا يوسف، كان من الممكن أن يجيبهما إلى تأويل رؤياهما، ولكن هذه ليست مهمته، بل فكر : لماذا لا يستغل هو حاجتهما إليه لأمر يتعلق بشخصيهما، وبعد ذلك ينفذ إلى مراده هو منهما قبل أن ينفذا إلى مرادهما منه، فهو نبي ومن سلالة أنبياء فأوضح لهما : وماذا رأيتما من إحساني ؟ إن عندي أشياء كثيرة :
﴿ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ﴾( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
فقد زكى نفسه، لكن انظروا لماذا زكى نفسه ؟ هو يريد أن يأخذ بيدهما إلى ربه هو، بدليل انه قال :﴿ ذلكما مما علمني ربي ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
إذن فالتزكية هنا مطلوبة، وقد ردها لله، وأعلن أن تلك ليست خصوصية لي، بل كل واحد من خلق الله يستطيع أن يكون مثلي :﴿ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
وبعد ذلك قال :
﴿ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ ( من الآية ٣٨ سورة يوسف ).
إذن فمن الممكن أن تكونوا مثلي إذا ما اتبعتم هذا الطريق، بعد ذلك قال لهم :
﴿ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة النجم ).
أي االه واحد احسن ام الهة متعددة ؟ فانتم يااصحاب الالهة المتعددة جئتم لصاحب الاله الواحد مع ان التعدد في الظاهر يعطي القوة لكن هذا التعدد اعطى الضعف لانكم يااصحاب الالهة التعددة لجاتم الى صاحب الاله الواحد :
( ءارباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار ) ( من الاية ٣٩ سورة يوسف ).
إذن فهو زكى نفسه أمامهما لكي يأخذهما إلى جانب من زكى، وهو الحق سبحانه وتعالى، وبعد ذلك عندما علم الملك قال : ائتوني به أستخلصه لنفسي، ويكون مقربا مني. ثم بعد ذلك جاءت سنون الجدب التي تنبأ بها أولا في تفسير الرؤيا، وأشار عليهم بضرورة الادخار من سنين الخصب لسنين الجدب، لقد كانت التجربة إخبارا لأشياء ستحدث، فلما وقعت علم أن المسألة ليست تجارب بل هي مسألة دقيقة.. فقال للملك :﴿ اجعلني على خزائن الأرض ﴾ ( من الآية ٥٥ سورة يوسف ).
إذن فقد زكى نفسه، وجاء بالحيثية :
﴿ إني حفيظ عليم ﴾ ( من الآية ٥٥ سورة يوسف ).
لأن هذه المسألة تحتاج حفظا وعلما، فهي أمر غير خاضع للتجريب، فيجرب واحد فيخيب، ويجرب آخر فيخيب، لا، إنها تحتاج لحفظ وعلم، ومثال ذلك أيضا عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم، قال له المنافقون : اعدل يا محمد ! فيقول لهم : والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، فهو يزكي نفسه، إذن فمتى تكون التزكية مطلوبة ؟ أولا : أن تكون بحق، وأن يكون لها هدف عند من يعلم التزكية وإلى من يعطيك التزكية ويثني عليك بما فيك وما أنت أهل له فتكون هذه تزكية صحيحة ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ٣٢ ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة النجم ).
لأنك تزكي نفسك عند الذي سيعطي الجزاء وهو يعلم، إذن فمن الحمق أن يزكي الإنسان نفسه في غير المواقف التي يحتاج فيها الأمر إلى تزكية تكون لفائدة المسلمين لا لفائدته الخاصة، والحق يقول :
﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ٤٩ ﴾ ( سورة النساء ).
إن الحق سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فمن الممكن أن واحدا يتصنع ويتكلف في نفسه مدة من الزمن أمامك، لكن هناك أشياء أنت لا تدركها، لكن ربنا عندما يزكي تكون تزكيته عن علم وعن خبرة، ومع ذلك أحين يزكون أنفسهم، أهذه محت حسناتهم ؟ لا. فعلى الرغم من أنهم زكوا أنفسهم فالحق لن يأخذهم هكذا، ويضيع حسناتهم ولكنهم " لا يظلمون فتيلا " وهذه مطلق العدالة.
ونعرف أن القرآن نزل بلسان عربي على نبي عربي، والذين باشروه أولا عرب، ونعرف أن أغلب إيحاءاته كانت متوافقة مع البيئة، وكان عندهم " النخل " وهي الشجرة المفضلة ؛ لأنها شجرة لا يسقط ورقها، وكل ما فيها له فائدة، فلا يوجد شيء في النخلة إلا وفيه فائدة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي ؟.
فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة " قال عبد الله فاستحييت، فقالوا : يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" وهي النخلة " قال عبد الله : فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال : لأن تكون قلتها أحب إلى من أن يكون لي كذا وكذا " ١.
وللنخلة فوائد كثيرة، فكل ما نأخذه منها نجد له فائدة حتى الليف حولها يحمل الجريد نأخذه ونصنع منه مكانس وليفا و " مقاطف " و " كراسي ". وحينما يطلب سبحانه وتعالى مثالا على شيء معنوي فهو يأتي بالشيء المحس في البيئة العربية.
" ولا يظلمون فتيلا " و " الفتيل " من " الفتلة "، ومن معناها : الشيء بين الأصابع، فأنت حين تدلك أصابعك مهما كانت نظيفة يخرج بعض " الوساخات مثل الفتلة "، أو " الفتيل " هو : الخيط في شق نواة البلحة ونواة التمرة، وجاء سبحانه وتعالى في القرآن بثلاثة أشياء متصلة بالنواة.
ب " الفتيل " هنا، وجاء ب " النقير " : وهو النقرة الصغيرة في ظهر النواة ومأخوذة من المنقار، كأنها منقورة، وجاء ب " قطمير " : وهي القشرة التي تلف النواة، مثل قشرة البيض الداخلية وهي قشرة ناعمة، إذن ففي النواة ثلاثة أشياء استخدمها الله. الفتيل و " النقير "، و " القطمير ".
والحق يقول :
﴿ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ﴾ ( من الآية ٥٣ سورة النساء ).
إذن فالحق سبحانه وتعالى أخذ من النواة ثلاثة أشياء ويعطينا من الشيء المحس أمامنا أمثالا يراها العربي في كل وقت أمامه ويأخذ الحق أيضا أمثالا من السماء فيأتينا بمثل : " الهلال "، يقول في الهلال وهو صغير :
﴿ كالعرجون القديم ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة يس ).
فسباطة البلح فيها شماريخ، وفيها يد تحمل الشماريخ، فهذا اسمه " العرجون "، والعرجون عندما يكون جديدا يكون مستقيما، لكنه كلما قدم ينثني وينحني، فجاء لهم من الهلال في السماء وأعطاهم مثالا له في الأرض " كالعرجون القديم "، والعرب قد اخذواأمثالا كثيرة، لكن هناك حاجات قد لا يتنبه إليها مثل قول العربي :
وغاب ضوء قمير كنت أرقبه **** مثل القلامة قد قدت من الظفر
فساعة تقص أظافرك تجدها مقوسة. لكن هذه المسألة لا يتنبه لها كل واحد، فهو جاء بشيء واضح وقال :" كالعرجون القديم " إذن فالحق سبحانه وتعالى حين يعطي مثالا لأمر معنوي فهو يأتي من الأمر المحس أمامك ليقرب لك المعنى، وعندما تأكل التمرة لا تلتفت إلى الفتيلة مما يدل على أنها شيء تافه، والنقير والقطمير كذلك. إذن فربنا أخذ من النواة أمثلة، وأخذ من النخلة أمثلة كي يقرب لنا المعاني. " ولا يظلمون فتيلا ".
١ رواه البخاري..
﴿ انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ٥٠ ﴾.
وقول الحق " انظر " هي أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكل خطاب لرسول الله هو خطاب لأمته، وعرفنا من قبل أن " الافتراء " : كذب متعمد { يفترون على الله الكذب " في قولهم عندما أرادوا أن يزكوا أنفسهم :
﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ ( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
وقولهم :
﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ ( من الآية ١١١ سورة البقرة ).
﴿ انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا "، لماذا ؟ لأنك إن تكذب على مثلك ممن قد يصدقك فهذا معقول، لكن إن تكذب على إله فهذه قحة ؛ لذلك قال الحق :{ وكفى به إثما مبينا ﴾.
إذن فالكذب مطلقا هو إثم و الكذب المبين : هو الكذب على الله، والمهم أنه لم يفدك.
وقول الحق " انظر " هي أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكل خطاب لرسول الله هو خطاب لأمته، وعرفنا من قبل أن " الافتراء " : كذب متعمد { يفترون على الله الكذب " في قولهم عندما أرادوا أن يزكوا أنفسهم :
﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ ( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
وقولهم :
﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ ( من الآية ١١١ سورة البقرة ).
﴿ انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا "، لماذا ؟ لأنك إن تكذب على مثلك ممن قد يصدقك فهذا معقول، لكن إن تكذب على إله فهذه قحة ؛ لذلك قال الحق :{ وكفى به إثما مبينا ﴾.
إذن فالكذب مطلقا هو إثم و الكذب المبين : هو الكذب على الله، والمهم أنه لم يفدك.
ثم يقول الحق بعد ذلك :
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ٥١ ﴾.
قوله :﴿ أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ يعني عندهم صلة وعلاقة بالسماء وبالرسل، وبالكتب المنزلة من السماء على الرسل التي تحمل مناهج الله، ولو كانوا أناسا ليس لهم مثل هذا الحظ لكان كلامهم هذا معقولا لانقطاع أسباب السماء عنهم. إنما هؤلاء عندهم نصيب من الكتاب، وأولى مهمات الكتب السماوية أن تربط المخلوق بالخالق، وربط المخلوق بالخالق هو تربيب لقدرات المخلوق وتنميتها ؛ لأن أسباب الله في الكون قد تعز عليك، وقد تقفر يدك منها. فإذا لم يكن لك إله تلجأ إليه عند عزوف الأسباب انهرت، وربما فارقت حياتك منتحرا، لكن المؤمن بالله ساعة تمتنع عنه أسبابه يقول : لا تهمني الأسباب، لأن عندي المسبب.
إذن فالإيمان بالله يعطيك قوة. والإيمان بالله يقف المؤمنين على أرض صلبة، فمهما عزت أسبابك وانتهت فاذكر المسبب. وحين تذكر المسبب تجد آفاق حياتك رحبة، فالذين ينتحرون إنما يفعلون ذلك لأن الأسباب ضاقت عليهم، وعلموا أنه لا مناص من أنهم في عذاب. لكن المؤمن يقول : يارب، ومجرد أنه يقول : يا رب، فهذا قول يريحه حتى قبل أن يجاب ؛ لأنه التفت إلى مسبب الأسباب حين عزت عليه الأسباب.
وساعة يلتفت إلى مسبب الأسباب عند امتناع الأسباب فهو يأخذ قوة الإيمان من حيث لا يحتسب، إنك بمجرد أنك قلت : يارب تجد نفسك قد ارتاحت ؛ لأنك وصلت كل كيانك بالخالق، وكيانك منه ما هو مقهور لك، ومنه ما هو غير مقهور لك. والكيان نفسه سيأتي في الآخرة ويشهد على الإنسان.
ستشهد الأرجل والجلود وغيرها من الأبعاض. لأنها في الدنيا كانت مقهورة لإرادتي، أنا أقول ليدي : افعلي كذا، ولرجلي : اسعي لكذا، وللساني : سب فلانا، فالله سخر الجوارح وأمرها : يا جوارح أنت خاضعة لإرادة صاحبك في الدنيا. لكن في يوم القيامة أيكون لي إرادة على جوارحي ؟ لا، ستتمرد علي جوارحي :
﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ ( من الآية ٢١ سورة فصلت ).
وتقول الجوارح لنا : أنتم استخدمتمونا في الدنيا وحملتمونا أن نفعل أشياء نحن نكرهها، فدعونا اليوم لنشهد، إنها تخرج أسرارها ؛ لأن الملك الآن للواحد القهار :
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ١٦ سورة غافر ).
انتهت سيطرة الإنسان وليس لأحد غير الله إرادة على الأبعاض.
إذن فالنصيب من الكتاب هو أول شيء يربط المخلوق بالخالق، فإذا ارتبط المخلوق بالخالق قويت أسبابه، ويستقبل الأحداث بثبات، ويأتيه فرج ربنا، وعندما نقرأ القرآن يجب أن نلتفت إلى اللقطات العقدية فيه، فقد عرفنا مثلا : أن سيدنا موسى عندما أراد أن يأخذ بني إسرائيل من فرعون ويخرج بهم، وقبل أن يصل بهم إلى البحر تنبه لهم قوم فرعون وجاءوا بجيوشهم، وكان قوم فرعون من ورائهم والبحر من أمامهم، فقال قوم موسى إيمانا بالأسباب :
﴿ إنا لمدركون ﴾ ( من الآية ٦١ سورة الشعراء ).
بالله أأحد يكذب هذه المقولة ؟ ! لا، فماذا قال موسى عليه السلام ؟ لم يقل مثلما قال قومه، ولكنه نظر للمسبب الأعلى فقال بملء فيه :
﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ﴾ ( من الآية ٦٢ سورة الشعراء ).
وهل تكذب مقولته ؟ لا. لا تكذب ؛ لأنه لم يقل :" كلا " اعتمادا على أسبابه. فليس من محيط أسبابه أن يخرج من مثل هذا الموقف، بل قال :﴿ إن معي ربي سيهدين ﴾، هذه ثمرة الإيمان، فلما قال :﴿ إن معي ربي سيهدين ﴾، ماذا قال له الله ؟.
قال له :﴿ اضرب بعصاك البحر ﴾ ( من الآية ٦٣ سورة الشعراء ).
لم يقل له : اهجم عليهم واغلبهم، لا. بل قال :﴿ اضرب بعصاك البحر ﴾ ؛ كي يعطي الشيء ونقيضه، ولتعرف أن مرادات الحق سبحانه وتعالى تعطي الشيء ونقيضه، ولا أحد من البشر يقدر أن يصنع مثل ذلك، فلما قال له : اضرب بعصاك البحر، ضرب موسى البحر بالعصا، وكان موسى يعلم قانون الماء استطراقا وسيولة، لكن هاهي ذي المعجزة تتحقق :
﴿ فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ ( من الآية ٦٣ سورة الشعراء ).
و " الطود " هو الجبل، والجبل فيه صلابة، والماء فيه رخاوة. فكيف انتقلت الرخاوة إلى صلابة ؟ إن الماء مهمته الاستطراق، أي لا يمكن أن توجد منطقة منخفضة والماء أعلاها، بل لابد أن ينفذ منها، وعندما أطاع موسى أمر الله أراد أن يطمئن بأسباب البشر، فأراد أن يضرب البحر كي يعود البحر مثلما كان ؛ حتى لا يأتي قوم فرعون وراءه فقال له ربنا :
﴿ واترك البحر رهوا ﴾ ( من الآية٢٤ سورة الدخان ).
أي : اتركه كما على هيئته قارا ساكنا ؛ لأنني أريد أن يغريهم ما يرون من اليبس في البحر فينزلوا، فأعيد الماء إلى استطراقه وأطبقه عليهم، فأكون قد أنجيت وأهلكت بالشيء الواحد.
يقول الحق :﴿ الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ وكيف ذلك ؟.
بعد موقعة أحد جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق، وأبو رافع. هؤلاء هم صناديد اليهود، وأخذوا أيضا سبعين من اليهود معهم ونزلوا على أهل مكة، ونقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله. وبعد ذلك نزل كعب ابن الأشرف زعيمهم على أبي سفيان وقال له : نريد أن نتعاهد على أننا نقف أمام محمد. فقال أبو سفيان : أنت صاحب كتاب، وعندك توراة، وعندك إيمان بالسماء، وعندك رسول، ونحن ليس عندنا هذا، و " محمد " يقول : إنه صاحب كتاب ورسول، إذن فبينكما علاقة الاتصال بالسماء، فما الذي يدرينا أنك متفق معه علينا في هذه الحكاية ؟ إننا لا نامن مكرك، ولن نصدق كلامك هذا إلا إذا جئت لآلهتنا وأقمت مراسم العبادة عندها فسجدت لها.
و " الجبت والطاغوت " هما صنمان لقريش، وذهب إليهما اليهود أصحاب التوراة الذين عندهم نصيب من الكتاب وخضعوا لهما، أو " الجبت " هو كل من يدعو لغير الله سواء أكان شيطانا أم كاهنا أم ساحرا، فإذا كان هذا هو " الجبت ". ف " الطاغوت " من " طغى " وهو اسم مبالغة وليس " طاغيا ".. بل " طاغوت " وهو الذي كلما أطعته في ظلم ارتقى إلى ظلم أكثر.. وسواء أكان الجبت والطاغوت صنمين أم إلهين من الآلهة التي يتبعونها، المهم أن وفد اليهود خضعوا لهم وسجدوا، لكي تصدق قريش عداء اليهود لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك سأل كعب بن الأشرف أبا سفيان : ماذا فعل محمد معكم ؟ قال له : فارق دين آبائه، وقطع رحمه وتركهم وفر إلى المدينة، ونحن على غير ذلك. نحن نسقي الحجيج، ونقري الضيف، ونفك العاني الأسير ونصل الرحم، ونعمر البيت ونطوف به. وعظم أبو سفيان في أفعال قريش !، فقال الذين أوتوا الكتاب لعداوتهم لمحمد قالوا لأبي سفيان وقومه : أنتم أهدى من محمد سبيلا !.
ويوضح ربنا : يا محمد انظر لعجائبهم ؛ إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، ومع ذلك فعداوتهم لك ووقوفهم أمام دينك وأمام النور الذي جئت به، جعلهم ينسون نصيبهم من الكتاب، ويؤمنون بالجبت والطاغوت ؛ وهم القوم أنفسهم الذين كانوا يقولون للعرب قديما : إنه سيأتي نبي منكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. لكن هاهم أولاء يذهبون ويؤمنون بالطاغوت والجبت، فهل عند مثل هؤلاء شيء من الدين ؟.
إن الحق سبحانه يريد أن يطمئن رسول الله بأن هؤلاء انعزلوا عن مدد السماء، فإن نشب بينك وبينهم حرب أو خلاف فاعلم أن الله قد تخلى عنهم لأنهم تركوا النصيب من الكتاب الذي أوتوه. وإياك أن يأتي في بالك أن هؤلاء أصحاب كتاب.
إن الحق يطمئن رسوله أنه سبحانه قد تخلى عنهم وأن الله ناصرك يا محمد فلا يغرنك أنهم أصحاب مال او اصحاب علم او أصحاب ثروات، فكل هذا إلى زوال ؛ لأن حظهم من السماء قد انقطع ؛ ولأن الشرك قد حازهم وملكهم وضمهم إليه وقد جعلوا العداوة لك والانضمام إلى الكفار الذين كانوا يستفتحون عليهم، ببعثك ورسالتك، ثمنا لأن يتركوا الإيمان.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ٥١ ﴾.
قوله :﴿ أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ يعني عندهم صلة وعلاقة بالسماء وبالرسل، وبالكتب المنزلة من السماء على الرسل التي تحمل مناهج الله، ولو كانوا أناسا ليس لهم مثل هذا الحظ لكان كلامهم هذا معقولا لانقطاع أسباب السماء عنهم. إنما هؤلاء عندهم نصيب من الكتاب، وأولى مهمات الكتب السماوية أن تربط المخلوق بالخالق، وربط المخلوق بالخالق هو تربيب لقدرات المخلوق وتنميتها ؛ لأن أسباب الله في الكون قد تعز عليك، وقد تقفر يدك منها. فإذا لم يكن لك إله تلجأ إليه عند عزوف الأسباب انهرت، وربما فارقت حياتك منتحرا، لكن المؤمن بالله ساعة تمتنع عنه أسبابه يقول : لا تهمني الأسباب، لأن عندي المسبب.
إذن فالإيمان بالله يعطيك قوة. والإيمان بالله يقف المؤمنين على أرض صلبة، فمهما عزت أسبابك وانتهت فاذكر المسبب. وحين تذكر المسبب تجد آفاق حياتك رحبة، فالذين ينتحرون إنما يفعلون ذلك لأن الأسباب ضاقت عليهم، وعلموا أنه لا مناص من أنهم في عذاب. لكن المؤمن يقول : يارب، ومجرد أنه يقول : يا رب، فهذا قول يريحه حتى قبل أن يجاب ؛ لأنه التفت إلى مسبب الأسباب حين عزت عليه الأسباب.
وساعة يلتفت إلى مسبب الأسباب عند امتناع الأسباب فهو يأخذ قوة الإيمان من حيث لا يحتسب، إنك بمجرد أنك قلت : يارب تجد نفسك قد ارتاحت ؛ لأنك وصلت كل كيانك بالخالق، وكيانك منه ما هو مقهور لك، ومنه ما هو غير مقهور لك. والكيان نفسه سيأتي في الآخرة ويشهد على الإنسان.
ستشهد الأرجل والجلود وغيرها من الأبعاض. لأنها في الدنيا كانت مقهورة لإرادتي، أنا أقول ليدي : افعلي كذا، ولرجلي : اسعي لكذا، وللساني : سب فلانا، فالله سخر الجوارح وأمرها : يا جوارح أنت خاضعة لإرادة صاحبك في الدنيا. لكن في يوم القيامة أيكون لي إرادة على جوارحي ؟ لا، ستتمرد علي جوارحي :
﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ ( من الآية ٢١ سورة فصلت ).
وتقول الجوارح لنا : أنتم استخدمتمونا في الدنيا وحملتمونا أن نفعل أشياء نحن نكرهها، فدعونا اليوم لنشهد، إنها تخرج أسرارها ؛ لأن الملك الآن للواحد القهار :
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ١٦ سورة غافر ).
انتهت سيطرة الإنسان وليس لأحد غير الله إرادة على الأبعاض.
إذن فالنصيب من الكتاب هو أول شيء يربط المخلوق بالخالق، فإذا ارتبط المخلوق بالخالق قويت أسبابه، ويستقبل الأحداث بثبات، ويأتيه فرج ربنا، وعندما نقرأ القرآن يجب أن نلتفت إلى اللقطات العقدية فيه، فقد عرفنا مثلا : أن سيدنا موسى عندما أراد أن يأخذ بني إسرائيل من فرعون ويخرج بهم، وقبل أن يصل بهم إلى البحر تنبه لهم قوم فرعون وجاءوا بجيوشهم، وكان قوم فرعون من ورائهم والبحر من أمامهم، فقال قوم موسى إيمانا بالأسباب :
﴿ إنا لمدركون ﴾ ( من الآية ٦١ سورة الشعراء ).
بالله أأحد يكذب هذه المقولة ؟ ! لا، فماذا قال موسى عليه السلام ؟ لم يقل مثلما قال قومه، ولكنه نظر للمسبب الأعلى فقال بملء فيه :
﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ﴾ ( من الآية ٦٢ سورة الشعراء ).
وهل تكذب مقولته ؟ لا. لا تكذب ؛ لأنه لم يقل :" كلا " اعتمادا على أسبابه. فليس من محيط أسبابه أن يخرج من مثل هذا الموقف، بل قال :﴿ إن معي ربي سيهدين ﴾، هذه ثمرة الإيمان، فلما قال :﴿ إن معي ربي سيهدين ﴾، ماذا قال له الله ؟.
قال له :﴿ اضرب بعصاك البحر ﴾ ( من الآية ٦٣ سورة الشعراء ).
لم يقل له : اهجم عليهم واغلبهم، لا. بل قال :﴿ اضرب بعصاك البحر ﴾ ؛ كي يعطي الشيء ونقيضه، ولتعرف أن مرادات الحق سبحانه وتعالى تعطي الشيء ونقيضه، ولا أحد من البشر يقدر أن يصنع مثل ذلك، فلما قال له : اضرب بعصاك البحر، ضرب موسى البحر بالعصا، وكان موسى يعلم قانون الماء استطراقا وسيولة، لكن هاهي ذي المعجزة تتحقق :
﴿ فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ ( من الآية ٦٣ سورة الشعراء ).
و " الطود " هو الجبل، والجبل فيه صلابة، والماء فيه رخاوة. فكيف انتقلت الرخاوة إلى صلابة ؟ إن الماء مهمته الاستطراق، أي لا يمكن أن توجد منطقة منخفضة والماء أعلاها، بل لابد أن ينفذ منها، وعندما أطاع موسى أمر الله أراد أن يطمئن بأسباب البشر، فأراد أن يضرب البحر كي يعود البحر مثلما كان ؛ حتى لا يأتي قوم فرعون وراءه فقال له ربنا :
﴿ واترك البحر رهوا ﴾ ( من الآية٢٤ سورة الدخان ).
أي : اتركه كما على هيئته قارا ساكنا ؛ لأنني أريد أن يغريهم ما يرون من اليبس في البحر فينزلوا، فأعيد الماء إلى استطراقه وأطبقه عليهم، فأكون قد أنجيت وأهلكت بالشيء الواحد.
يقول الحق :﴿ الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ وكيف ذلك ؟.
بعد موقعة أحد جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق، وأبو رافع. هؤلاء هم صناديد اليهود، وأخذوا أيضا سبعين من اليهود معهم ونزلوا على أهل مكة، ونقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله. وبعد ذلك نزل كعب ابن الأشرف زعيمهم على أبي سفيان وقال له : نريد أن نتعاهد على أننا نقف أمام محمد. فقال أبو سفيان : أنت صاحب كتاب، وعندك توراة، وعندك إيمان بالسماء، وعندك رسول، ونحن ليس عندنا هذا، و " محمد " يقول : إنه صاحب كتاب ورسول، إذن فبينكما علاقة الاتصال بالسماء، فما الذي يدرينا أنك متفق معه علينا في هذه الحكاية ؟ إننا لا نامن مكرك، ولن نصدق كلامك هذا إلا إذا جئت لآلهتنا وأقمت مراسم العبادة عندها فسجدت لها.
و " الجبت والطاغوت " هما صنمان لقريش، وذهب إليهما اليهود أصحاب التوراة الذين عندهم نصيب من الكتاب وخضعوا لهما، أو " الجبت " هو كل من يدعو لغير الله سواء أكان شيطانا أم كاهنا أم ساحرا، فإذا كان هذا هو " الجبت ". ف " الطاغوت " من " طغى " وهو اسم مبالغة وليس " طاغيا ".. بل " طاغوت " وهو الذي كلما أطعته في ظلم ارتقى إلى ظلم أكثر.. وسواء أكان الجبت والطاغوت صنمين أم إلهين من الآلهة التي يتبعونها، المهم أن وفد اليهود خضعوا لهم وسجدوا، لكي تصدق قريش عداء اليهود لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك سأل كعب بن الأشرف أبا سفيان : ماذا فعل محمد معكم ؟ قال له : فارق دين آبائه، وقطع رحمه وتركهم وفر إلى المدينة، ونحن على غير ذلك. نحن نسقي الحجيج، ونقري الضيف، ونفك العاني الأسير ونصل الرحم، ونعمر البيت ونطوف به. وعظم أبو سفيان في أفعال قريش !، فقال الذين أوتوا الكتاب لعداوتهم لمحمد قالوا لأبي سفيان وقومه : أنتم أهدى من محمد سبيلا !.
ويوضح ربنا : يا محمد انظر لعجائبهم ؛ إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، ومع ذلك فعداوتهم لك ووقوفهم أمام دينك وأمام النور الذي جئت به، جعلهم ينسون نصيبهم من الكتاب، ويؤمنون بالجبت والطاغوت ؛ وهم القوم أنفسهم الذين كانوا يقولون للعرب قديما : إنه سيأتي نبي منكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. لكن هاهم أولاء يذهبون ويؤمنون بالطاغوت والجبت، فهل عند مثل هؤلاء شيء من الدين ؟.
إن الحق سبحانه يريد أن يطمئن رسول الله بأن هؤلاء انعزلوا عن مدد السماء، فإن نشب بينك وبينهم حرب أو خلاف فاعلم أن الله قد تخلى عنهم لأنهم تركوا النصيب من الكتاب الذي أوتوه. وإياك أن يأتي في بالك أن هؤلاء أصحاب كتاب.
إن الحق يطمئن رسوله أنه سبحانه قد تخلى عنهم وأن الله ناصرك يا محمد فلا يغرنك أنهم أصحاب مال او اصحاب علم او أصحاب ثروات، فكل هذا إلى زوال ؛ لأن حظهم من السماء قد انقطع ؛ ولأن الشرك قد حازهم وملكهم وضمهم إليه وقد جعلوا العداوة لك والانضمام إلى الكفار الذين كانوا يستفتحون عليهم، ببعثك ورسالتك، ثمنا لأن يتركوا الإيمان.
وقوله :" أولئك " هي اسم إشارة مكون من " أولاء " التي للجمع، ومن " الكاف " التي هي لخطاب رسول الله، ونحن المسلمين في طي خطابه صلى الله عليه وسلم، " أولئك " هي للذين أوتوا نصيبا من الكتاب ويؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أو " أولئك " لكل من اليهود والمشركين، ولنأخذها إشارة لهم جميعا، في قوله تعالى :﴿ أولئك الذين لعنهم الله ﴾ و " اللعن " إما أن يكون " الطرد "، وإما أن يكون " الخزي " وإما أن يكون " الإهلاك.
وكيف يلحق الله الخزي بالكافرين ؟ لأنك تجد المد الإسلامي كل يوم يزداد وهم تتناقص أرضهم :﴿ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ﴾ ( من الآية سورة الرعد ).
﴿ أولئك الذين لعنهم الله ﴾.. إذن فالطارد هو الله، فحين يكون الطارد مساويا للمطرود، ربما صادف من يعينه، لكن إذا كان الطارد هو الله فلا معين للمطرود، " ومن يلعن الله " أي من يطرده ربنا " فلن تجد له نصيرا " ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى مادام قد طرده.. فسبحانه يدخل في روع الناس كلهم أن يتخلوا عنه لأي سبب من الأسباب فلا ينصره أحد ﴿ أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ﴾.
وكيف يلحق الله الخزي بالكافرين ؟ لأنك تجد المد الإسلامي كل يوم يزداد وهم تتناقص أرضهم :﴿ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ﴾ ( من الآية سورة الرعد ).
﴿ أولئك الذين لعنهم الله ﴾.. إذن فالطارد هو الله، فحين يكون الطارد مساويا للمطرود، ربما صادف من يعينه، لكن إذا كان الطارد هو الله فلا معين للمطرود، " ومن يلعن الله " أي من يطرده ربنا " فلن تجد له نصيرا " ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى مادام قد طرده.. فسبحانه يدخل في روع الناس كلهم أن يتخلوا عنه لأي سبب من الأسباب فلا ينصره أحد ﴿ أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ﴾.
وما هي حكاية قوله :﴿ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ﴾ ؟.
إنه سبحانه يصفهم بفرط البخل وشدة الشح، أي أنهم في واقع الأمر ليس لهم ملك الدنيا وليس لهم أيضا ملك الله ؛ فالملك له وحده جل شأنه يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ولكنهم لو أعطوا ملك الدنيا وملك الله لبخلوا وضنوا بما في أيديهم. كما جاء في قوله سبحانه :
﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ١٠٠ ﴾ ( سورة الإسراء ).
أي إنكم تخشون الإنفاق حتى لا تقل الأموال عندكم، فلو أخذتم خزائن ربنا فستقولون لو أخذنا منها وأعطينا الناس لقلت ! وفحوى العبارة : أن كل هؤلاء سواء أكانوا كفار قريش أم كبراء اليهود، كانوا يحافظون على مكانتهم وأموالهم ؛ لأن رسول الله صلى اله عليه وسلم جاء ليسوي بين الناس، فمن الذي يحزن ؟ الذي يحزن هم الذين كانت لهم السيادة لأنهم لا يريدون أن تتساوى الرءوس، ويا ليتهم عندما أخذوا السيادة جعلوها خيرا للناس، لكنهم لم يفعلوا. فلو كان لهم الملك والأموال لن يعطوا للناس نقيرا ؛ لأن الإنسان بطبيعته لا ينزل عن جبروته ؛ لأن هذا الجبروت يعطيه سلطانا، ومادام الجبروت أعطاه سلطانا فلا يلتفت إلى حقيقة الإيمان، فإن خير الخير أن يدوم الخير، فليس فقط أن تكون في خير وسلطة لكن اضمن إنه يدوم، وهذا الدوام ستأخذه بعمر الدنيا وأمدها قليل وعمرك فيها غير مضمون، إذن فدوام الخير هناك في الآخرة :
﴿ لا مقطوعة ولا ممنوعة ٣٣ ﴾ ( سورة الواقعة ).
فأنتم إن كنتم تحرصون على هذا الجاه، وتريدون أن يكون لكم هذا الملك والجاه والعظمة فهل أنتم تعطون الناس من خيركم هذا حتى يكون هناك عذر لكم في الحرص على المال بأن الناس تستفيد منكم ؟.
فلماذا تريدون أن يديم ربنا عليكم هذه وأنتم في قمة البخل والشح ؟ لا يمكن أن يديمها عليكم.
ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الفجر يوضح هذه العملية :
﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ١٥ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ١٦ ﴾ ( سورة الفجر ).
إذن فالذي عنده نعمة يقول } ربي أكرمن }، والذي ليس عنده نعمة يقول :﴿ ربي أهانن ﴾، فيقول الحق تعقيبا على القضيتين ( كلا ).
ومادام سبحانه يقول تعقيبا على القضيتين ( كلا ) فمعنى هذا أن كلا الطرفين كاذب ؛ فأنت تكذب يا من قلت : إن النعمة التي أخذتها دليل الإكرام، وأنت كذاب أيضا يا من قلت : عدم المال دليل الإهانة، فلا إعطاء المال دليل الإكرام، ولا سلب المال دليل الإهانة. وهي قضية صادقة وخاطئة من أساسها. وقال الحق في حيثيات ذلك :
﴿ كلا بل لا تكرمون اليتيم ١٧ ﴾ ( سورة الفجر ).
أي عندكم المال ولا تكرمون اليتيم، إذن فهذا المال هو حجة عليكم، فهو ليس إكراما لكم بل سيعذبكم به. ويضيف سبحانه :
﴿ ولا تحاضون على طعام المسكين ١٨ ﴾ ( سورة الفجر ).
فكيف يكون المال إذن إكراما وهو سيأتيك بمصيبة ؟ فعدمه أفضل ؛ فالمال الذي يوجد عند إنسان ولا يرعى حق الضعفاء فيه هو وبال وشر ؛ لأن الحق يقول :
﴿ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ ( من الآية ١٨٠ سورة آل عمران ).
فإن بخلت كثيرا فستطوق بغل أشد ؛ ولذلك عندما يشتد عليه الغل يقول : ياليتني خففت هذا الغل، والحق يتساءل في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لماذا يتفقون مع معسكر الشرك، ويتركون النصيب الذي أعطوه من الكتاب، ويذهبون ليقولوا للذين كفروا : أنتم أهدى من محمد سبيلا مع أنهم يعلمون بحكم ما عندهم من نصيب الكتاب أن محمدا على حق ؟.
لقد كانوا يحافظون على سيادتهم، ومعسكر الشرك يحافظ على سيادته، ونعلم أن اليهود كانوا في المدينة من أصحاب الثروات، وكانوا يعيشون على الربا، وهم أصحاب الحصون، وأصحاب الزراعات وأصحاب العلم، إذن فقد أخذوا كل عناصر السيادة. وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تزلزلت كل هذه المسائل من تحت أقدامهم، وحزنوا. وكذلك كفار قريش : كانت لهم السيادة على كل الجزيرة، فلا يستطيع أحد من أي قبيلة في الجزيرة أن يتعرض لقافلة قريش ؛ لأن القبائل تخاف من التعرض لهم، ففي موسم الحج تذهب كل القبائل في حضن قريش. والمهابة المأخوذة لهم جاءت لهم من البيت الحرام الذي حفظه الله ورعاه وهزم من أراده بسوء ورد كيده ودمره تدميرا تاما. كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ألم يجعل كيدهم في تضليل ٢ وأرسل عليهم طيرا أبابيل ٣ ترميهم بحجارة من سجيل ٤ فجعلهم كعصف مأكول ٥ ﴾ ( سورة الفيل ).
وعلة هذه العملية تأتي في السورة التالية لها، وهي قوله سبحانه :
﴿ لإيلاف قريش ١ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ٢ ﴾ ( سورة قريش ).
فلولا أنه سبحانه جعل هذا البيت لعبادته لانتهى وانتهت منهم السيادة فلا يقدرون أن يذهبوا إلى رحلة الشتاء ولا إلى رحلة الصيف ؛ ولذلك يقول سبحانه :
﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ٣ ﴾ ( سورة قريش ).
فسبحانه الذي جعل لهم السيادة والعز. وهو :
﴿ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ٤ ﴾ ( سورة قريش ).
وجاء لهم بثمرات كل شيء، وآمنهم من خوف حين تسير قوافلهم في الشمال وفي الجنوب.
﴿ أم لهم نصيب من الملك ﴾ فإذا كان لهم هذا النصيب، فلا يأتون الناس نقيرا أي لا يعطونهم الشيء التافه.
إنه سبحانه يصفهم بفرط البخل وشدة الشح، أي أنهم في واقع الأمر ليس لهم ملك الدنيا وليس لهم أيضا ملك الله ؛ فالملك له وحده جل شأنه يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ولكنهم لو أعطوا ملك الدنيا وملك الله لبخلوا وضنوا بما في أيديهم. كما جاء في قوله سبحانه :
﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ١٠٠ ﴾ ( سورة الإسراء ).
أي إنكم تخشون الإنفاق حتى لا تقل الأموال عندكم، فلو أخذتم خزائن ربنا فستقولون لو أخذنا منها وأعطينا الناس لقلت ! وفحوى العبارة : أن كل هؤلاء سواء أكانوا كفار قريش أم كبراء اليهود، كانوا يحافظون على مكانتهم وأموالهم ؛ لأن رسول الله صلى اله عليه وسلم جاء ليسوي بين الناس، فمن الذي يحزن ؟ الذي يحزن هم الذين كانت لهم السيادة لأنهم لا يريدون أن تتساوى الرءوس، ويا ليتهم عندما أخذوا السيادة جعلوها خيرا للناس، لكنهم لم يفعلوا. فلو كان لهم الملك والأموال لن يعطوا للناس نقيرا ؛ لأن الإنسان بطبيعته لا ينزل عن جبروته ؛ لأن هذا الجبروت يعطيه سلطانا، ومادام الجبروت أعطاه سلطانا فلا يلتفت إلى حقيقة الإيمان، فإن خير الخير أن يدوم الخير، فليس فقط أن تكون في خير وسلطة لكن اضمن إنه يدوم، وهذا الدوام ستأخذه بعمر الدنيا وأمدها قليل وعمرك فيها غير مضمون، إذن فدوام الخير هناك في الآخرة :
﴿ لا مقطوعة ولا ممنوعة ٣٣ ﴾ ( سورة الواقعة ).
فأنتم إن كنتم تحرصون على هذا الجاه، وتريدون أن يكون لكم هذا الملك والجاه والعظمة فهل أنتم تعطون الناس من خيركم هذا حتى يكون هناك عذر لكم في الحرص على المال بأن الناس تستفيد منكم ؟.
فلماذا تريدون أن يديم ربنا عليكم هذه وأنتم في قمة البخل والشح ؟ لا يمكن أن يديمها عليكم.
ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الفجر يوضح هذه العملية :
﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ١٥ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ١٦ ﴾ ( سورة الفجر ).
إذن فالذي عنده نعمة يقول } ربي أكرمن }، والذي ليس عنده نعمة يقول :﴿ ربي أهانن ﴾، فيقول الحق تعقيبا على القضيتين ( كلا ).
ومادام سبحانه يقول تعقيبا على القضيتين ( كلا ) فمعنى هذا أن كلا الطرفين كاذب ؛ فأنت تكذب يا من قلت : إن النعمة التي أخذتها دليل الإكرام، وأنت كذاب أيضا يا من قلت : عدم المال دليل الإهانة، فلا إعطاء المال دليل الإكرام، ولا سلب المال دليل الإهانة. وهي قضية صادقة وخاطئة من أساسها. وقال الحق في حيثيات ذلك :
﴿ كلا بل لا تكرمون اليتيم ١٧ ﴾ ( سورة الفجر ).
أي عندكم المال ولا تكرمون اليتيم، إذن فهذا المال هو حجة عليكم، فهو ليس إكراما لكم بل سيعذبكم به. ويضيف سبحانه :
﴿ ولا تحاضون على طعام المسكين ١٨ ﴾ ( سورة الفجر ).
فكيف يكون المال إذن إكراما وهو سيأتيك بمصيبة ؟ فعدمه أفضل ؛ فالمال الذي يوجد عند إنسان ولا يرعى حق الضعفاء فيه هو وبال وشر ؛ لأن الحق يقول :
﴿ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ ( من الآية ١٨٠ سورة آل عمران ).
فإن بخلت كثيرا فستطوق بغل أشد ؛ ولذلك عندما يشتد عليه الغل يقول : ياليتني خففت هذا الغل، والحق يتساءل في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لماذا يتفقون مع معسكر الشرك، ويتركون النصيب الذي أعطوه من الكتاب، ويذهبون ليقولوا للذين كفروا : أنتم أهدى من محمد سبيلا مع أنهم يعلمون بحكم ما عندهم من نصيب الكتاب أن محمدا على حق ؟.
لقد كانوا يحافظون على سيادتهم، ومعسكر الشرك يحافظ على سيادته، ونعلم أن اليهود كانوا في المدينة من أصحاب الثروات، وكانوا يعيشون على الربا، وهم أصحاب الحصون، وأصحاب الزراعات وأصحاب العلم، إذن فقد أخذوا كل عناصر السيادة. وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تزلزلت كل هذه المسائل من تحت أقدامهم، وحزنوا. وكذلك كفار قريش : كانت لهم السيادة على كل الجزيرة، فلا يستطيع أحد من أي قبيلة في الجزيرة أن يتعرض لقافلة قريش ؛ لأن القبائل تخاف من التعرض لهم، ففي موسم الحج تذهب كل القبائل في حضن قريش. والمهابة المأخوذة لهم جاءت لهم من البيت الحرام الذي حفظه الله ورعاه وهزم من أراده بسوء ورد كيده ودمره تدميرا تاما. كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ألم يجعل كيدهم في تضليل ٢ وأرسل عليهم طيرا أبابيل ٣ ترميهم بحجارة من سجيل ٤ فجعلهم كعصف مأكول ٥ ﴾ ( سورة الفيل ).
وعلة هذه العملية تأتي في السورة التالية لها، وهي قوله سبحانه :
﴿ لإيلاف قريش ١ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ٢ ﴾ ( سورة قريش ).
فلولا أنه سبحانه جعل هذا البيت لعبادته لانتهى وانتهت منهم السيادة فلا يقدرون أن يذهبوا إلى رحلة الشتاء ولا إلى رحلة الصيف ؛ ولذلك يقول سبحانه :
﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ٣ ﴾ ( سورة قريش ).
فسبحانه الذي جعل لهم السيادة والعز. وهو :
﴿ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ٤ ﴾ ( سورة قريش ).
وجاء لهم بثمرات كل شيء، وآمنهم من خوف حين تسير قوافلهم في الشمال وفي الجنوب.
﴿ أم لهم نصيب من الملك ﴾ فإذا كان لهم هذا النصيب، فلا يأتون الناس نقيرا أي لا يعطونهم الشيء التافه.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ٥٤ ﴾.
والحسد هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لان ربنا قد اصطفاه واختاره للرسالة ولذلك قال بعض منهم :
﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ ﴾ ( سورة الزخرف ).
إذن فالقرآن مقبول في نظرهم، لكن الذي يحزنهم أنه نزل على محمد، وهذا من تغفيلهم، وهو مثل تغفيل من قالوا :
﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأنفال ).
لقد تمنوا الموت والقتل رميا بالحجارة من السماء ولم يتمنوا إتباع الحق، وهذا قمة التغفيل الدال على أنها عصبية مجنونة، ولذلك يقول الحق :
﴿ أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الزخرف ).
وسبحانه يؤكد لنا أنه يختص برحمته من يشاء، فلماذا الحسد إذن ؟ إنهم يحسدون الناس أن جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولو أنهم استقبلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم استقبالا عادلا بعين الإنصاف لوجدوا أن كل ما جاء به هو كلام جميل. من يتبعه تتجمل به حياته. وكان مقتضى من آتاهم الله من فضله علما من الكتاب أن يبشروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما دعاهم إلى ذلك ما نزل عليهم في كتابهم وأن يكونوا أول المصدقين به، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كذبوا وصدوا عن سبيله وفضلوا عليه الكافرين الوثنيين. فقالوا إنهم أهدى من محمد سبيلا.
والحق سبحانه وتعالى حي يتفضل على بعض خلقه بخصوصيات يحب سبحانه أن تتعدى الخصوصيات إلى خلق الله ؛ لأننا نعرف أن في كل خلق من خلق الله خصوصية مواهب، فإذا ما تفضل المتفضل بموهبته على الخلق تفضل بقية الخلق عليه بمواهبهم، إذن فقد أخذ مواهب الجميع حين يعطي الجميع.
وهؤلاء قوم آتاهم الله نصيبا فبخلوا وضنوا أن وليتهم ضنوا على أمر يتعلق بهم، بل على الأمر الذي وصلهم بالإله، وهو أنهم أصحاب كتاب عرفوا عن الله منهجه، وعرفوا عن الله ترتيب مواكب رسله فيريد الحق سبحانه أن يقول لهم : أنتم أوتيتم نصيبا من الكتاب فلم تؤدوا حقه، وأيضا أنكم لو ملكتم الملك فإنكم لن تؤدوا حقه، ولن تعطوا أحدا مقدار نقير وهو النقرة على ظهر النواة، ولذلك قال :
﴿ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ٥٣ ﴾ ( سورة النساء ).
إذن فلا هم في المعنويات والقيم معطون، ولا هم في الماديات معطون. فإذا كانوا قد بخلوا بما عندهم من القيم فهم أولى أن يبخلوا بما عندهم من المادة، وبذلك صاروا قوما لا خير فيهم أبدا.
ثم يوضح الحق : إذا كان هؤلاء قد أوتوا نصيبا من الكتاب يعرفهم سمات الرسول المقبل الخاتم فما الذي منعهم أن يؤمنوا به أولا ويؤيدوه ؟. لا شك أنه الحسد، على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم، جاء مصدقا لما معهم انهم لاشك حسدوا الرسول صلى الله عليه وسلم والحسد لا يتأتى إلا عن قلب حاقد، قلب متمرد على قسمة الله في خلقه ؛ لأن الحسد كما قالوا : هو أن تتمنى زوال نعمة غيرك، ويقابله " الغبطة " وهي أن تتمنى مثل ما لغيرك، فغيرك يظل بنعمة الله عليه، ولكنك تريد مثلها. وأنت إن أردت مثلها من الله فلا بد أن تغبطه، والحق يقول :
﴿ ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ﴾( من الآية ٩٦ سورة النحل ).
ولذلك يجب أن يكون الناس في عطاء الله غير حاسدين وغير حاقدين. لكن بعض الناس ربما حسدوا غيرهم من الذين يعطيهم الأغنياء رغبة في أن يكون ذلك لهم وحدهم فإنك إن كان عندك كم من المال ثم اتصل بك قوم في حاجة فأعطيتهم منه، ربما قال الآخرون ممن يرغبون في عطائك ويأملون في خيرك : إنك ستنقص مما عندك بقدر ما تعطي هؤلاء ؛ لأن ما عندك محدود، ولكن هنا العطاء ممن لا ينفذ ما عنده، إذن فيعطيك ويعطي الآخرين ولا ينقص مما عنده شيء.
إذن فالغبطة أمر بديهي عند المؤمن ؛ لأنه يعلم أن عطاء الله لواحد لا يمنع أن يعطي الآخر، ولو أعطى سبحانه كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، وذلك كما جاء في الحديث القدسي :" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر " ١.
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم ﴾، فالحسد كما عرفنا هو : أن يتمنى إنسان زوال نعمة غيره، هذا التمني معناه أنك تكره أن تكون عند غيرك نعمة، ولا تكره أن يكون عند غيرك نعمة إلا إذا كنت متمردا على من يعطي النعم.
إن أول خطأ يقع فيه الحاسد هو : رده لقدر الله في خلق الله، وثاني ما يصيبه أنه قبل أن ينال المحسود بشر منه ؛ فقلبه يحترق حقدا. ولذلك قالوا : الحسد هو الذنب أو الجريمة التي تسبقها عقوبتها ؛ لأن كل جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحسد، فقبل أن يرتكب الحاسد الحسد تناله العقوبة ؛ لأن الحقد يحرق قلبه وربما قال قائل : وما ذنب المحسود ؟.. ونقول : إن الله جعل في بعض خلقه داء يصيب الناس، والحسد يصيبهم قي نعمهم وفي عافيتهم. وما ذنب المقتول حين يوجه القاتل مسدسه ليقتله به ؟ هذه مثل تلك. فالمسدس نعمة من نعم الله عند إنسان ليحمي نفسه به، وليس له ان يستعمله في باطل.
وهب أن الله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان شيئا يكره النعمة عند غيره، فلماذا لا يتذكر الإنسان حين يستقبل نعمة عند غيرك أن يقرنها بقوله :﴿ ما شاء الله لا قوة إلا بالله ﴾. فلو قارنت كل نعمة عند غيرك بما شاء الله الذي لا قوة إلا به لرددت عن قلبك سم حقدك. فأنت تتذكر أن الإنسان لم يعط نفسه أي نعمة. إنما ربنا هو الذي أعطاه، وسبحانه قادر على كل عطاء، ومن الممكن أن يحسد الإنسان. لكن الذي يجد الحسد في نفسه ويريد أن يطفئه، عليه أن يرد كل شيء إلى الله، ومادام قد رد كل شيء إلى الله فقد عمل وقاية لنفسه من أن يكون حاسدا. ووقاية للنعمة عند غيره من أن تكون محسودة، والحق سبحانه وتعالى يبين لنا ذلك في قوله سبحانه :﴿ ومن شر حاسد إذا حسد ٥ ﴾ ( سورة الفلق ).
إذن فمن الممكن أن يمتلئ قلب أي واحد منا بالحقد على نعمة وبعد ذلك يحدث منها حسد، وعلى كل واحد منا أن يمنع نفسه من أن يدخل تيار الحقد على قلبه ؛ لأن تيار الحقد يحدث تغييرا كيماويا في تكوين الإنسان وهذا التغير الكيماوي هو الذى يسبب التعب للانسان، وما يدرينا أن هذا التوتر الكيماوي من النعمة عند غيره تجعل في نفس الإنسان وفي مادته تفاعلات، وهذه التفاعلات يخرج منها إشعاع يذهب للمحسود فيقتله ؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ ومن شر حاسد إذا حسد ٥ ﴾ ( سورة الفلق ).
وعندما تستعيذ بالله من شر الحاسد ألا يصيبك، قد يصيبك، ولكن استعاذتك من شره تعني أنه إن أصابك فعليك أن تسترجع، فتقول ﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ وتعلم أن ذلك خير لك ؛ فإن أصابك في نعمة فاعلم أن هذه المصيبة فيها خير، فالحاسد إذا أصابك في شيء من نعم الله عليك، فالشر هو أن تحرم الثواب عليها ! !.. فالمصاب هو من حرم الثواب، فإذا جاءت مصيبة لأي واحد وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم إنك ربي وإنك لا تحب لي إلا الخير لأني صنعتك ولم تجر علي إلا الخير.. لكنني قد لا أستطيع أن أفهم ذلك الخير.
إن المسلم إذا صنع ذلك فالله سبحانه وتعالى يبين له فيما بعد أنها كانت خيرا له، فإن أصابه في ولده وقال : من يدريني لعل ولدي الذي أماته الله كان سيفتنني فأكفر أو أسرق له وآخذ رشوة من أجله. لكن الله أخذه مني ومنع عني ذلك الشر، أو أن النعمة قد تطغيني، وقد تجعلني أتجبر على الناس، وقد تجعلني أتطاول وأعتدي على الخلق، فيقول لي ربنا : امرض قليلا واهدأ. وهكذا نرى أن المصاب لابد أن يتوقع الخير وأن يسترجع وأن يقول : لابد أنه سيأتيني من الابتلاء خير، وقد يقول قائل : نحن نقول :
﴿ قل أعوذ برب الفلق ١ من شر ما خلق ٢ ومن شر غاسق إذا وقب ٣ ومن شر النفاثات في العقد ٤ ومن شر حاسد إذا حسد ٥ ﴾ ( سورة الفلق ).
نقرأ ونكرر هذه السورة ولم يعذنا الله من شر الحاسدين. ويحسدنا الحاسدون أيضا !.
نقول له : أنت لم تفهم معنى قوله :﴿ من شر حاسد إذا حسد ﴾. إنك تفهمه على أساس ألا يصيبك حسده، لا.. إن حسده قد يصيبك، لكن عليك أن تعرف قدر الله في تلك الإصابة وتقول : يا رب إنك أجريتها علي لخير عندك لي. فإن فعلت ذلك فقد كفيت شرا.
ونحن نعيش في عالم نرى فيه أنه كلما ارتقت الدنيا في العلم بين لنا ربنا آيات في كونه وفي أسرار الوجود تقرب لنا كثيرا من المعاني ؛ فالذين يصنعون الآن أسلحة الفتك والتدمير، كلما يلطف السلاح ويدق ولا يكون داخلا تحت مرائى البصر كان عنيفا ويختلف عن أسلحة الأزمنة القديمة حيث كان الإنسان يرمي آخر بحجر، ثم آخر يرمي بمسدس، ثم صار في قدرة دولة أن تصنع قنبلة ذرية لا ينوب أي فرد منها إلا قدر رأس مسمار لكنها تقتل، إذن فأسلحة الفتك كلما لطفت أي دقت عنفت. ونرى الآن الأسلحة كلها بإشعاع، والإشعاع ليس جرما وعمل الإشعاع نافذ لكن لا يوجد له جرم وكما يقول الأطباء : نجري العملية من غير أن نسيل دما بواسطة الأشعة، ومثال ذلك أشعة الليزر، إذن فكلما دق السلاح كان عنيفا وفتاكا.
وهذا مثال يوضح ذلك : لنفرض أنك أردت أن تبني لك قصرا في خلاء، ثم مر عليك صديق فقال : لماذا لم تضع لنوافذ الدور الأول حديدا ؟ تقول له : لماذا ؟. ويقول لك : هنا سباع وذئاب. فتضع الحديد ليمنع الذئاب، وآخر يمر على قصرك فيقول : إن فتحات الحديد واسعة وهنا توجد ثعابين كثيرة، فتضيق الحديد. وثالث يقول : هناك بعوض يلسع ويحمل الميكروبات. فتضع سلكا على النوافذ.
إذن فكلما دق العدو كان عنيفا فيحتاج احتياطا أكبر. ونحن نعلم أن الميكروب الذي لا يرى يأتي فيفتك بالناس، فالآفة التي تصيب الناس كلما لطفت، أي دقت وصغرت عنفت، فلو كانت ضخمة فمن الممكن أن يدفعها الإنسان قليلا قليلا، لكن عندما تصل إلى مرتبة من الدقة والصغر، هنا لا يستطيع الإنسان أن يدفعها. وأفتك الميكروبات هي التي تدق لدرجة أن الأطباء يقولون عن بعض الأمراض : لا نعرف لها فيروسا ؛ بمعنى ان هذا الفيروس المسبب للمرض صار دقيقا جدا حتى عن معايير المجاهر.
إذن فما الذي يجعلنا نضيق ذرعا بأن نقدر أن هناك شرارة من ميكروب تخرج من كيماوية الإنسان الحاقد الحاسد الذي تشقيه النعمة عند غيره، وشرارة الميكروب هذه مثل أشعة الليزر تتجه لشيء فتفتك به ! ! ما المانع من هذا ؟ ! إننا نفعل ذلك الآن ونسلط الأشعة على أي شيء، والأشعة هي من أفتك الأسلحة في زماننا، ولماذا لا نصدق أن كيماوية الحاسد عندما تهيج يتكون منها إشعاع يذهب إلى المحسود فيفتك به ؟ ومثلها مثل أي نعمة ينعمها ربنا عليك، وبعد ذلك تستعملها في الضرر. ومثال ذلك الرجل الذي عنده بعض من المال ؛ ومع ذلك يغلي حقدا على خصومه فيشتري مسدسا أو بندقية ليقتلهم ؛ إنه يأخذ النعمة ويجعلها وسائل انتقام، وهذا ياتي من هيجان الغريزة الداخلية المدبرة لانفعالات الإنسان.
إذن فهؤلاء القوم عندما جاء رسول الله مصدقا بما عندهم، ما الذي منعهم أن يصدقوه ؟. لاشك أنهم حسدوه في أن يأخذ هذه النعمة، ونظروا إلى نعمة الرسالة على أنها مزية للرسل وهل كان ذلك صحيحا
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ٥٤ ﴾.
والحسد هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لان ربنا قد اصطفاه واختاره للرسالة ولذلك قال بعض منهم :
﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ ﴾ ( سورة الزخرف ).
إذن فالقرآن مقبول في نظرهم، لكن الذي يحزنهم أنه نزل على محمد، وهذا من تغفيلهم، وهو مثل تغفيل من قالوا :
﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأنفال ).
لقد تمنوا الموت والقتل رميا بالحجارة من السماء ولم يتمنوا إتباع الحق، وهذا قمة التغفيل الدال على أنها عصبية مجنونة، ولذلك يقول الحق :
﴿ أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الزخرف ).
وسبحانه يؤكد لنا أنه يختص برحمته من يشاء، فلماذا الحسد إذن ؟ إنهم يحسدون الناس أن جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولو أنهم استقبلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم استقبالا عادلا بعين الإنصاف لوجدوا أن كل ما جاء به هو كلام جميل. من يتبعه تتجمل به حياته. وكان مقتضى من آتاهم الله من فضله علما من الكتاب أن يبشروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما دعاهم إلى ذلك ما نزل عليهم في كتابهم وأن يكونوا أول المصدقين به، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كذبوا وصدوا عن سبيله وفضلوا عليه الكافرين الوثنيين. فقالوا إنهم أهدى من محمد سبيلا.
والحق سبحانه وتعالى حي يتفضل على بعض خلقه بخصوصيات يحب سبحانه أن تتعدى الخصوصيات إلى خلق الله ؛ لأننا نعرف أن في كل خلق من خلق الله خصوصية مواهب، فإذا ما تفضل المتفضل بموهبته على الخلق تفضل بقية الخلق عليه بمواهبهم، إذن فقد أخذ مواهب الجميع حين يعطي الجميع.
وهؤلاء قوم آتاهم الله نصيبا فبخلوا وضنوا أن وليتهم ضنوا على أمر يتعلق بهم، بل على الأمر الذي وصلهم بالإله، وهو أنهم أصحاب كتاب عرفوا عن الله منهجه، وعرفوا عن الله ترتيب مواكب رسله فيريد الحق سبحانه أن يقول لهم : أنتم أوتيتم نصيبا من الكتاب فلم تؤدوا حقه، وأيضا أنكم لو ملكتم الملك فإنكم لن تؤدوا حقه، ولن تعطوا أحدا مقدار نقير وهو النقرة على ظهر النواة، ولذلك قال :
﴿ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ٥٣ ﴾ ( سورة النساء ).
إذن فلا هم في المعنويات والقيم معطون، ولا هم في الماديات معطون. فإذا كانوا قد بخلوا بما عندهم من القيم فهم أولى أن يبخلوا بما عندهم من المادة، وبذلك صاروا قوما لا خير فيهم أبدا.
ثم يوضح الحق : إذا كان هؤلاء قد أوتوا نصيبا من الكتاب يعرفهم سمات الرسول المقبل الخاتم فما الذي منعهم أن يؤمنوا به أولا ويؤيدوه ؟. لا شك أنه الحسد، على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم، جاء مصدقا لما معهم انهم لاشك حسدوا الرسول صلى الله عليه وسلم والحسد لا يتأتى إلا عن قلب حاقد، قلب متمرد على قسمة الله في خلقه ؛ لأن الحسد كما قالوا : هو أن تتمنى زوال نعمة غيرك، ويقابله " الغبطة " وهي أن تتمنى مثل ما لغيرك، فغيرك يظل بنعمة الله عليه، ولكنك تريد مثلها. وأنت إن أردت مثلها من الله فلا بد أن تغبطه، والحق يقول :
﴿ ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ﴾( من الآية ٩٦ سورة النحل ).
ولذلك يجب أن يكون الناس في عطاء الله غير حاسدين وغير حاقدين. لكن بعض الناس ربما حسدوا غيرهم من الذين يعطيهم الأغنياء رغبة في أن يكون ذلك لهم وحدهم فإنك إن كان عندك كم من المال ثم اتصل بك قوم في حاجة فأعطيتهم منه، ربما قال الآخرون ممن يرغبون في عطائك ويأملون في خيرك : إنك ستنقص مما عندك بقدر ما تعطي هؤلاء ؛ لأن ما عندك محدود، ولكن هنا العطاء ممن لا ينفذ ما عنده، إذن فيعطيك ويعطي الآخرين ولا ينقص مما عنده شيء.
إذن فالغبطة أمر بديهي عند المؤمن ؛ لأنه يعلم أن عطاء الله لواحد لا يمنع أن يعطي الآخر، ولو أعطى سبحانه كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، وذلك كما جاء في الحديث القدسي :" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر " ١.
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم ﴾، فالحسد كما عرفنا هو : أن يتمنى إنسان زوال نعمة غيره، هذا التمني معناه أنك تكره أن تكون عند غيرك نعمة، ولا تكره أن يكون عند غيرك نعمة إلا إذا كنت متمردا على من يعطي النعم.
إن أول خطأ يقع فيه الحاسد هو : رده لقدر الله في خلق الله، وثاني ما يصيبه أنه قبل أن ينال المحسود بشر منه ؛ فقلبه يحترق حقدا. ولذلك قالوا : الحسد هو الذنب أو الجريمة التي تسبقها عقوبتها ؛ لأن كل جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحسد، فقبل أن يرتكب الحاسد الحسد تناله العقوبة ؛ لأن الحقد يحرق قلبه وربما قال قائل : وما ذنب المحسود ؟.. ونقول : إن الله جعل في بعض خلقه داء يصيب الناس، والحسد يصيبهم قي نعمهم وفي عافيتهم. وما ذنب المقتول حين يوجه القاتل مسدسه ليقتله به ؟ هذه مثل تلك. فالمسدس نعمة من نعم الله عند إنسان ليحمي نفسه به، وليس له ان يستعمله في باطل.
وهب أن الله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان شيئا يكره النعمة عند غيره، فلماذا لا يتذكر الإنسان حين يستقبل نعمة عند غيرك أن يقرنها بقوله :﴿ ما شاء الله لا قوة إلا بالله ﴾. فلو قارنت كل نعمة عند غيرك بما شاء الله الذي لا قوة إلا به لرددت عن قلبك سم حقدك. فأنت تتذكر أن الإنسان لم يعط نفسه أي نعمة. إنما ربنا هو الذي أعطاه، وسبحانه قادر على كل عطاء، ومن الممكن أن يحسد الإنسان. لكن الذي يجد الحسد في نفسه ويريد أن يطفئه، عليه أن يرد كل شيء إلى الله، ومادام قد رد كل شيء إلى الله فقد عمل وقاية لنفسه من أن يكون حاسدا. ووقاية للنعمة عند غيره من أن تكون محسودة، والحق سبحانه وتعالى يبين لنا ذلك في قوله سبحانه :﴿ ومن شر حاسد إذا حسد ٥ ﴾ ( سورة الفلق ).
إذن فمن الممكن أن يمتلئ قلب أي واحد منا بالحقد على نعمة وبعد ذلك يحدث منها حسد، وعلى كل واحد منا أن يمنع نفسه من أن يدخل تيار الحقد على قلبه ؛ لأن تيار الحقد يحدث تغييرا كيماويا في تكوين الإنسان وهذا التغير الكيماوي هو الذى يسبب التعب للانسان، وما يدرينا أن هذا التوتر الكيماوي من النعمة عند غيره تجعل في نفس الإنسان وفي مادته تفاعلات، وهذه التفاعلات يخرج منها إشعاع يذهب للمحسود فيقتله ؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ ومن شر حاسد إذا حسد ٥ ﴾ ( سورة الفلق ).
وعندما تستعيذ بالله من شر الحاسد ألا يصيبك، قد يصيبك، ولكن استعاذتك من شره تعني أنه إن أصابك فعليك أن تسترجع، فتقول ﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ وتعلم أن ذلك خير لك ؛ فإن أصابك في نعمة فاعلم أن هذه المصيبة فيها خير، فالحاسد إذا أصابك في شيء من نعم الله عليك، فالشر هو أن تحرم الثواب عليها ! !.. فالمصاب هو من حرم الثواب، فإذا جاءت مصيبة لأي واحد وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم إنك ربي وإنك لا تحب لي إلا الخير لأني صنعتك ولم تجر علي إلا الخير.. لكنني قد لا أستطيع أن أفهم ذلك الخير.
إن المسلم إذا صنع ذلك فالله سبحانه وتعالى يبين له فيما بعد أنها كانت خيرا له، فإن أصابه في ولده وقال : من يدريني لعل ولدي الذي أماته الله كان سيفتنني فأكفر أو أسرق له وآخذ رشوة من أجله. لكن الله أخذه مني ومنع عني ذلك الشر، أو أن النعمة قد تطغيني، وقد تجعلني أتجبر على الناس، وقد تجعلني أتطاول وأعتدي على الخلق، فيقول لي ربنا : امرض قليلا واهدأ. وهكذا نرى أن المصاب لابد أن يتوقع الخير وأن يسترجع وأن يقول : لابد أنه سيأتيني من الابتلاء خير، وقد يقول قائل : نحن نقول :
﴿ قل أعوذ برب الفلق ١ من شر ما خلق ٢ ومن شر غاسق إذا وقب ٣ ومن شر النفاثات في العقد ٤ ومن شر حاسد إذا حسد ٥ ﴾ ( سورة الفلق ).
نقرأ ونكرر هذه السورة ولم يعذنا الله من شر الحاسدين. ويحسدنا الحاسدون أيضا !.
نقول له : أنت لم تفهم معنى قوله :﴿ من شر حاسد إذا حسد ﴾. إنك تفهمه على أساس ألا يصيبك حسده، لا.. إن حسده قد يصيبك، لكن عليك أن تعرف قدر الله في تلك الإصابة وتقول : يا رب إنك أجريتها علي لخير عندك لي. فإن فعلت ذلك فقد كفيت شرا.
ونحن نعيش في عالم نرى فيه أنه كلما ارتقت الدنيا في العلم بين لنا ربنا آيات في كونه وفي أسرار الوجود تقرب لنا كثيرا من المعاني ؛ فالذين يصنعون الآن أسلحة الفتك والتدمير، كلما يلطف السلاح ويدق ولا يكون داخلا تحت مرائى البصر كان عنيفا ويختلف عن أسلحة الأزمنة القديمة حيث كان الإنسان يرمي آخر بحجر، ثم آخر يرمي بمسدس، ثم صار في قدرة دولة أن تصنع قنبلة ذرية لا ينوب أي فرد منها إلا قدر رأس مسمار لكنها تقتل، إذن فأسلحة الفتك كلما لطفت أي دقت عنفت. ونرى الآن الأسلحة كلها بإشعاع، والإشعاع ليس جرما وعمل الإشعاع نافذ لكن لا يوجد له جرم وكما يقول الأطباء : نجري العملية من غير أن نسيل دما بواسطة الأشعة، ومثال ذلك أشعة الليزر، إذن فكلما دق السلاح كان عنيفا وفتاكا.
وهذا مثال يوضح ذلك : لنفرض أنك أردت أن تبني لك قصرا في خلاء، ثم مر عليك صديق فقال : لماذا لم تضع لنوافذ الدور الأول حديدا ؟ تقول له : لماذا ؟. ويقول لك : هنا سباع وذئاب. فتضع الحديد ليمنع الذئاب، وآخر يمر على قصرك فيقول : إن فتحات الحديد واسعة وهنا توجد ثعابين كثيرة، فتضيق الحديد. وثالث يقول : هناك بعوض يلسع ويحمل الميكروبات. فتضع سلكا على النوافذ.
إذن فكلما دق العدو كان عنيفا فيحتاج احتياطا أكبر. ونحن نعلم أن الميكروب الذي لا يرى يأتي فيفتك بالناس، فالآفة التي تصيب الناس كلما لطفت، أي دقت وصغرت عنفت، فلو كانت ضخمة فمن الممكن أن يدفعها الإنسان قليلا قليلا، لكن عندما تصل إلى مرتبة من الدقة والصغر، هنا لا يستطيع الإنسان أن يدفعها. وأفتك الميكروبات هي التي تدق لدرجة أن الأطباء يقولون عن بعض الأمراض : لا نعرف لها فيروسا ؛ بمعنى ان هذا الفيروس المسبب للمرض صار دقيقا جدا حتى عن معايير المجاهر.
إذن فما الذي يجعلنا نضيق ذرعا بأن نقدر أن هناك شرارة من ميكروب تخرج من كيماوية الإنسان الحاقد الحاسد الذي تشقيه النعمة عند غيره، وشرارة الميكروب هذه مثل أشعة الليزر تتجه لشيء فتفتك به ! ! ما المانع من هذا ؟ ! إننا نفعل ذلك الآن ونسلط الأشعة على أي شيء، والأشعة هي من أفتك الأسلحة في زماننا، ولماذا لا نصدق أن كيماوية الحاسد عندما تهيج يتكون منها إشعاع يذهب إلى المحسود فيفتك به ؟ ومثلها مثل أي نعمة ينعمها ربنا عليك، وبعد ذلك تستعملها في الضرر. ومثال ذلك الرجل الذي عنده بعض من المال ؛ ومع ذلك يغلي حقدا على خصومه فيشتري مسدسا أو بندقية ليقتلهم ؛ إنه يأخذ النعمة ويجعلها وسائل انتقام، وهذا ياتي من هيجان الغريزة الداخلية المدبرة لانفعالات الإنسان.
إذن فهؤلاء القوم عندما جاء رسول الله مصدقا بما عندهم، ما الذي منعهم أن يصدقوه ؟. لاشك أنهم حسدوه في أن يأخذ هذه النعمة، ونظروا إلى نعمة الرسالة على أنها مزية للرسل وهل كان ذلك صحيحا
١ رواه مسلم في باب تحريم الظلم، ورواه أحمد..
وقوله سبحانه :﴿ فمنهم من آمن به ﴾. والمقصود الإيمان بما جاء في منهج إبراهيم والرسل الذين جاءوا من بعده الذين آتاهم الله النبوة والملك، أو " منهم " أي من أهل الكتاب الذين نتكلم عنهم من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار مثلا، و " منهم من صد عنه " أي أن منهم من كفر بمنهج الله ؛ لذلك يقول سبحانه بعدها :﴿ وكفى بجهنم سعيرا ﴾ فكأن نتيجة الصد عن المنهج أنه لا يأتي بعده إلا العذاب بجهنم ليصلوا بنارها، وتكون مسعرة عليهم جزاء على ما فعلوا.
وبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى موكب الرسل حينما أرسله الله على تتابع في كونه، جاء ليذكر الناس بالمنهج، فالمنهج هو الأصل الأصيل في مهمة آدم وذريته ؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال :﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ﴾ ( من الآية ١٢٣ سورة طه ).
وينقل آدم إلى ذريته معلوماته عن حركة الحياة وعن الحق وعن المنهج. إلا أن الله قدر الغفلة في خلقه عن منهجه فهذه المناهج تأتي دائما ضد شهوات النفس الحمقاء العاجلة، لكن لو نظرت إلى حقيقة المنهج الإلهي فأنت تجده يعطي النفس شهوات لكنها معلاة مثال ذلك عندما يقول :﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ ( من الاية٩ سورة الحشر ).
وكل واحد عنده أشياء ويحتاج إليها، لكنه يجد أخاه المؤمن يحتاج إليها أكثر منه فيؤثره على نفسه أهو يفضله عن نفسه ؟ لا لكنه يعطي هذا الشيء القليل في الفانية كي ياخذه في الباقية فاخذ شهوة نفسه لكن بشهوة معلاة، والذي قلنا له : غض طرفك عن محارم غيرك. ظاهر هذا الأمر أننا نحجبه عن شهوة يشتهيها لكننا ساعة نحجبك عن شهوة تشتهيها في حرام الفانية، نريد أن نحقق لك شهوة في حلال الخالدة. فأيهما أعشق للجمال ؟ الذي ينظر بتفحص للمرأة الجميلة وهي تسير، أم الذي يغض عينه عنها ؟ الأعشق للجمال هو الذي غض بصره.
إن الدين لم يأت إلا ضد النفس الحمقاء التي تريد عاجل الأمر وإن كان تافها. ويوضح له : كن للآجل ومعه ؛ لأنه يبقى فلا يتركك ولا تتركه، أما أي شهوة تأخذها في هذه الدنيا فإما أن تتركها وإما أن تتركك، لكن في الآخرة لا تتركها ولا تتركك.
لقد عرف الصالحون الورعون كيف يستفيدون، لكن الآخرين هم الحمقى الذين لم يستفيدوا، فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الحسرة تكون لمن أراح نفسه بشهوة عاجلة ثم أعقبها العذاب الآجل المقيم، فهذه هي الخيبة الحقة، فالدنيا دار الأغيار، يأتي للإنسان فيها ما يؤلمه وما يسره، وليس فيها دوام حال أبدا ؛ لأنها دنيا الأغيار، وما دامت دنيا الأغيار فيكون كل شيء فيها متغيرا. ومادام كل شيء فيها متغيرا إذن فالذي في نعمة قد يصيبه شيء من الضر، والذي في قوة قد يصيبه شيء من الضعف، والذي في ضعف قد تأتيه قوة، وإلا لو ظل الضعيف ضعيفا وظل القوي قويا لما كانت الدنيا أغيارا.
ولذلك يقولون : احذر أن تريد من الله أن يتم عليك نعمته كلها ؛ لأنها لو تمت لك النعمة كلها وأنت في دار الأغيار فانتظر الموت ؛ فتمام النعمة هو صعود لأعلى منطقة في الجبل وأنت في دار الأغيار، فهل تظل على القمة ؟ لا، بل لابد أن تنزل، فإياك أن تسر عندما تبلغ المسألة ذروتها ؛ لأنه سبحانه وتعالى يوضح : إنكم لابد أن تأخذوا هذه الدنيا على أنها معبر، والذي يتعب الناس أنهم لا يحددون الغاية البعيدة، بل إنهم يحددون الغايات القريبة.
إن من حمق بعض الناس أن يحزن الواحد منهم على فراق حبيب أو قريب له، وخذها بالمنطق : ما غايتنا جميعا ؟ إنها الموت ونعود إلى خالقنا. وهل عندما نعود إلى خالقنا نحزن ؟ لا، بل يجب أن نسر ؛ لأننا في الدنيا مع الأسباب، أما بعد أن ننتقل إلى الآخرة فنكون مع المسبب. ففي الدنيا تكون مع النعمة وستصبح بعد ذلك مع المنعم، فما يحزنك في هذا ؟ إن هذا يحزنك ساعة أن كنت مع النعمة ولم تراع المنعم، لكن لو كنت مع النعمة وراعيت المنعم لسررت أنك ذاهب للمنعم.
وإن كانت المسالة هي أن نصل إلى المنعم الحق ونكون في حضانته فلماذا الحزن إذن ؟ ومن الحمق أن بعض الناس لا تعامل الحق سبحانه وتعالى كما يعاملون أنفسهم.
هب أن إنسانا من غايته أن يخرج من أسوان إلى القاهرة، إذن فالقاهرة هي الغاية. ثم جاء واحد وقال له : سنذهب سيرا على الأقدام، وقال الآخر : أنا سآتي بمطايا حسنة نركبها. وقال ثالث : سآتي بعربة، وقال رابع : سنسافر بطائرة وقال خامس : سنسافر بصاروخ، إذن فكل وسيلة تقرب من الغاية تكون محمودة، ومادامت غايتنا أن نعود إلى الحق فلماذا نحزن عندما يموت واحد منا ؟ أنت إذن تحزن على نفسك ولا تحزن على من مات، إن الذي يموت بعد أن يرعى حق الله في الدنيا يكون مسرورا لأنه في حضانة الحق ومع المنعم، وأنت مع النعمة الموقوتة إنه يسخر منك لأنك حزنت، ويقول : انظر إلى الساذج الغافل، كان يريدني أن أبقى مع الأسباب وأترك المسبب !.
إننا نجد الذين يحزنون على أحبائهم لا يرونهم في المنام أبدا ؛ لأن الميت لا تأتي روحه لزيارة من حزن لأنه ذهب إلى المنعم، وعلى الناس أن تدرك الغاية من الوجود بأن تكون مع أسباب الحق في الدنيا ثم تصير مع الحق، والموت هو النقلة التي تنقلك من الأسباب إلى المسبب، فما الذي يحزنك في هذا ؟.
نحن نقصر عليك المسافة.. فبدلا من أن تقابلك عقبات الطريق، وقد تنجح أو لا تنجح، وبعضهم يقول : مات وهو صغير ولم ير الدنيا، نقول لهم : وهل هذه تكون خيرا له أو لا ؟ أنت مثلا كبرت وقد تكون مقترفا للمعاصي ؛ فلعل الله أخذ الصغير حتى لا يعرضه للتجربة، ضع المسألة أمامك واجعلها حقيقة.
عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟ فقال : أصبحت مؤمنا حقا. قال :" انظر ما تقول ؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون١ فيها فقال :" يا حارث عرفت فالزم، ثلاثا " ٢.
ولنا العبرة في سيدنا حذيفة رضي الله عنه حينما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : كيف أصبحت ؟ أي كيف حالك الإيماني ؟ قال حذيفة : يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها أي أن الذهب تساوي مع الحصى، هذه هي مسألة الدنيا وأضاف حذيفة : وكأني أنظر أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون.
وساعة لا تغيب عن بال سيدنا الحارث صورة الآخرة، فهو يسير في الحياة مستقيما.. فقال له النبي صلى اله عليه وسلم :" عرفت فالزم ".
وبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى موكب الرسل حينما أرسله الله على تتابع في كونه، جاء ليذكر الناس بالمنهج، فالمنهج هو الأصل الأصيل في مهمة آدم وذريته ؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال :﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ﴾ ( من الآية ١٢٣ سورة طه ).
وينقل آدم إلى ذريته معلوماته عن حركة الحياة وعن الحق وعن المنهج. إلا أن الله قدر الغفلة في خلقه عن منهجه فهذه المناهج تأتي دائما ضد شهوات النفس الحمقاء العاجلة، لكن لو نظرت إلى حقيقة المنهج الإلهي فأنت تجده يعطي النفس شهوات لكنها معلاة مثال ذلك عندما يقول :﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ ( من الاية٩ سورة الحشر ).
وكل واحد عنده أشياء ويحتاج إليها، لكنه يجد أخاه المؤمن يحتاج إليها أكثر منه فيؤثره على نفسه أهو يفضله عن نفسه ؟ لا لكنه يعطي هذا الشيء القليل في الفانية كي ياخذه في الباقية فاخذ شهوة نفسه لكن بشهوة معلاة، والذي قلنا له : غض طرفك عن محارم غيرك. ظاهر هذا الأمر أننا نحجبه عن شهوة يشتهيها لكننا ساعة نحجبك عن شهوة تشتهيها في حرام الفانية، نريد أن نحقق لك شهوة في حلال الخالدة. فأيهما أعشق للجمال ؟ الذي ينظر بتفحص للمرأة الجميلة وهي تسير، أم الذي يغض عينه عنها ؟ الأعشق للجمال هو الذي غض بصره.
إن الدين لم يأت إلا ضد النفس الحمقاء التي تريد عاجل الأمر وإن كان تافها. ويوضح له : كن للآجل ومعه ؛ لأنه يبقى فلا يتركك ولا تتركه، أما أي شهوة تأخذها في هذه الدنيا فإما أن تتركها وإما أن تتركك، لكن في الآخرة لا تتركها ولا تتركك.
لقد عرف الصالحون الورعون كيف يستفيدون، لكن الآخرين هم الحمقى الذين لم يستفيدوا، فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الحسرة تكون لمن أراح نفسه بشهوة عاجلة ثم أعقبها العذاب الآجل المقيم، فهذه هي الخيبة الحقة، فالدنيا دار الأغيار، يأتي للإنسان فيها ما يؤلمه وما يسره، وليس فيها دوام حال أبدا ؛ لأنها دنيا الأغيار، وما دامت دنيا الأغيار فيكون كل شيء فيها متغيرا. ومادام كل شيء فيها متغيرا إذن فالذي في نعمة قد يصيبه شيء من الضر، والذي في قوة قد يصيبه شيء من الضعف، والذي في ضعف قد تأتيه قوة، وإلا لو ظل الضعيف ضعيفا وظل القوي قويا لما كانت الدنيا أغيارا.
ولذلك يقولون : احذر أن تريد من الله أن يتم عليك نعمته كلها ؛ لأنها لو تمت لك النعمة كلها وأنت في دار الأغيار فانتظر الموت ؛ فتمام النعمة هو صعود لأعلى منطقة في الجبل وأنت في دار الأغيار، فهل تظل على القمة ؟ لا، بل لابد أن تنزل، فإياك أن تسر عندما تبلغ المسألة ذروتها ؛ لأنه سبحانه وتعالى يوضح : إنكم لابد أن تأخذوا هذه الدنيا على أنها معبر، والذي يتعب الناس أنهم لا يحددون الغاية البعيدة، بل إنهم يحددون الغايات القريبة.
إن من حمق بعض الناس أن يحزن الواحد منهم على فراق حبيب أو قريب له، وخذها بالمنطق : ما غايتنا جميعا ؟ إنها الموت ونعود إلى خالقنا. وهل عندما نعود إلى خالقنا نحزن ؟ لا، بل يجب أن نسر ؛ لأننا في الدنيا مع الأسباب، أما بعد أن ننتقل إلى الآخرة فنكون مع المسبب. ففي الدنيا تكون مع النعمة وستصبح بعد ذلك مع المنعم، فما يحزنك في هذا ؟ إن هذا يحزنك ساعة أن كنت مع النعمة ولم تراع المنعم، لكن لو كنت مع النعمة وراعيت المنعم لسررت أنك ذاهب للمنعم.
وإن كانت المسالة هي أن نصل إلى المنعم الحق ونكون في حضانته فلماذا الحزن إذن ؟ ومن الحمق أن بعض الناس لا تعامل الحق سبحانه وتعالى كما يعاملون أنفسهم.
هب أن إنسانا من غايته أن يخرج من أسوان إلى القاهرة، إذن فالقاهرة هي الغاية. ثم جاء واحد وقال له : سنذهب سيرا على الأقدام، وقال الآخر : أنا سآتي بمطايا حسنة نركبها. وقال ثالث : سآتي بعربة، وقال رابع : سنسافر بطائرة وقال خامس : سنسافر بصاروخ، إذن فكل وسيلة تقرب من الغاية تكون محمودة، ومادامت غايتنا أن نعود إلى الحق فلماذا نحزن عندما يموت واحد منا ؟ أنت إذن تحزن على نفسك ولا تحزن على من مات، إن الذي يموت بعد أن يرعى حق الله في الدنيا يكون مسرورا لأنه في حضانة الحق ومع المنعم، وأنت مع النعمة الموقوتة إنه يسخر منك لأنك حزنت، ويقول : انظر إلى الساذج الغافل، كان يريدني أن أبقى مع الأسباب وأترك المسبب !.
إننا نجد الذين يحزنون على أحبائهم لا يرونهم في المنام أبدا ؛ لأن الميت لا تأتي روحه لزيارة من حزن لأنه ذهب إلى المنعم، وعلى الناس أن تدرك الغاية من الوجود بأن تكون مع أسباب الحق في الدنيا ثم تصير مع الحق، والموت هو النقلة التي تنقلك من الأسباب إلى المسبب، فما الذي يحزنك في هذا ؟.
نحن نقصر عليك المسافة.. فبدلا من أن تقابلك عقبات الطريق، وقد تنجح أو لا تنجح، وبعضهم يقول : مات وهو صغير ولم ير الدنيا، نقول لهم : وهل هذه تكون خيرا له أو لا ؟ أنت مثلا كبرت وقد تكون مقترفا للمعاصي ؛ فلعل الله أخذ الصغير حتى لا يعرضه للتجربة، ضع المسألة أمامك واجعلها حقيقة.
عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟ فقال : أصبحت مؤمنا حقا. قال :" انظر ما تقول ؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون١ فيها فقال :" يا حارث عرفت فالزم، ثلاثا " ٢.
ولنا العبرة في سيدنا حذيفة رضي الله عنه حينما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : كيف أصبحت ؟ أي كيف حالك الإيماني ؟ قال حذيفة : يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها أي أن الذهب تساوي مع الحصى، هذه هي مسألة الدنيا وأضاف حذيفة : وكأني أنظر أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون.
وساعة لا تغيب عن بال سيدنا الحارث صورة الآخرة، فهو يسير في الحياة مستقيما.. فقال له النبي صلى اله عليه وسلم :" عرفت فالزم ".
١ يتضاغون: يصيحون من الأم..
٢ رواه الطبراني..
٢ رواه الطبراني..
الحق سبحانه وتعالى حين يذكر لنا بعض الأحكام يذكر لنا أيضا خبر بعض الناس الذين يتمردون على الأحكام، ثم يذكرنا بحكاية الجنة والنار ؛ ولذلك يقول لنا :
﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ٥٦ ﴾.
و " نصليهم " من الاصطلاء، قد يقول قائل : مادام يصلى النار وكلنا يعرف أن نار الدنيا حين تحرق شيئا ينتهي إلى عدم، وحين ينتهي إلى عدم إذن فلا يوجد ألم ! ونقول : لتنتبه إلى ان الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا الأمر﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾.. إذن فالعذاب ليس كنار الدنيا، لأن نار الدنيا تحرق وتنتهي المسالة. أما نار الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾.. فإذا ما حرقت الجلود فإن جلودا أخرى ستأتي، أهي عين الأولى أم غيرها ؟ وحتى أوضح ذلك : أنت عندما يكون عندك خاتم مثلا، ثم تقول : أنا صنعت من الخاتم خاتما آخر، فالمادة واحدة أيضا، فهل التعذيب للجلود أو للأعضاء ؟ إن العذاب دائما للنفس الواعية، بدليل أن الإنسان قد يصيبه ورم فيه بعض الصديد " دمل " يتعبه ولا يقدر على ألمه.. وبعد ذلك يغفل فينام، بمجرد أن ينام فلا ألم. لكن عندما يستيقظ يتألم من جديد.
إذن فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية، بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب، قلنا إن النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به، ويفتح " الدمل " بالمشرط ولا يحس صاحبه بأي ألم. وهكذا تجد أن الجلود والأعضاء ليس لها شأن بالعذاب، إنما هي موصلة للمعذب، والمعذب هي النفس الواعية.. بدليل أنها ستشهد علينا يوم القيامة.. تشهد الجلود والجوارح، وستكون آلة لتوصيل العذاب.. ومسرورة لأنها توصل لهم العذاب.
إنه نظام إلهي فلا تتعجبوا من القرآن، فإن العلم كلما تقدم هدانا إلى شيء من آيات الله في الكون. أنتم الآن تخدرون النفس الواعية وتشقون الجسد بالمشارط كما يحلو لكم فلا يحدث له ألم، وعرفتم أن الألم ليس للعضو، إنما الألم للنفس الواعية، إذن فكل الجوارح هي آلات توصل الألم للنفس الواعية، وتكون مسرورة ؛ لأن النفس الواعية تعذب، وهذه يشبهونها مثلا بواحد عنده " حكة " في جلده، فيهرش، والهرش يسيل دمه فيكون مستلذا.
إذن فقوله :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾ أي أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل العذاب للنفس الواعية، وهكذا.
﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾. نحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى أنزل كتابا هو القرآن، وجعله معجزة ومنهجا، وهذه هي الميزة التي امتاز بها الإسلام. فمنهج الإسلام هو عين المعجزة، وكل رسول من الرسل كان منهجه شيئا ومعجزته كانت شيئا آخر.
إن سيدنا موسى منهجه التوراة ومعجزته : العصا، وسيدنا عيسى منهجه : الإنجيل، ومعجزته : إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، لكن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت القرآن ؛ لأن دينه سيكون الامتداد النهائي لآخر الدنيا، ولذلك جعل الله منهجه هو عين معجزته، لتكون المعجزة دليلا على صدق المنهج في أي وقت، ولا يستطيع واحد من أتباع أي نبي سابق على رسول الله أن يقول : إن معجزة الرسول الذي أتبعه هي منهجه ؛ لأن معجزات الرسل السابقين على رسول الله كانت عمليات كونية انتهت مثل عود كبريت احترق، فمن رآه رآه وانتهى، لكن المسلم يستطيع أن يقف ويعلن بملء فيه : إن محمدا رسول الله وصادق، وتلك معجزته. فمعجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية بقاء أبديا، ومتصلة به أبدا. أما معجزة كل رسول سبق رسول الله فقد أدت مهمتها لمن رآها وانتهت، وانفصلت معجزة كل رسول سابق على رسول الله عن منهجه.
والمنهج القرآني فيه أحكام، والأحكام معناها ؛ افعل كذا، ولا تفعل كذا. وهي واضحة كل الوضوح منذ أن أنزل الله القرآن على رسوله وحتى تقوم الساعة. ومن فعل مطلوب الأحكام يثاب، ومن لم يفعله يعاقب. وكل الناس سواسية في مطلوب الأحكام إلى أن تقوم الساعة.
أما آيات الله الكونية التي لا تتأثر.. فأي فائدة للإنسان إن عرفها أو لم يعرفها : فقد طمرها الله وسترها في القرآن مع إشارة إليها، لأن العقل المعاصر لنزول الكتاب لم يكن قادرا على استيعابها في زمن الرسالة. ولو أن القرآن جاء بآية واضحة تقول : إن الأرض كروية وتدور، بالله ماذا كان المعاصرون لرسول الله يقولون ؟ إن بعضا من البشر الآن يكذبون ذلك، فما بالنا بالبشر المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لو قال لهم رسول الله ذلك لانصرفوا عن إتباع ما جاء به.
لقد كانوا يستفيدون من كروية الأرض، مثلما يستفيد منها الفلاح أو البدوي، ومثلما يستفيد الناس الآن الذين لم يدرسوا الكهرباء برؤية التلفزيون وضوء المصباح الكهربائي وغير ذلك من الاستخدامات، دون معرفة علمية بتفاصيل ذلك، إن الشمس تسطع على الدنيا فيتبخر الماء من الأنهار والمحيطات والبحار ليصير سحابا، ثم ينزل المطر من السحاب. وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع العقول، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث العلمي.
وعندما نتعرف نحن المسلمين على اكتشاف علمي جديد في الكون، نقول : إن القرآن قد أشار له، لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز، فسبحانه القائل :
﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة يونس ).
لو أن القرآن قال : إن كل شيء في الوجود يتكاثر، وفيه موجب وفيه سالب، ذكر وأنثى، أكانوا يصدقون ذلك ؟. لا ؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الذكر والأنثى إلا في الرجل والمرأة، ويعرفون ذلك في الحيوانات ؛ وأيضا في بعض النباتات مثل النخل، لكن هناك نباتات كثيرة لا يعرفون حكاية التكاثر فيها، ومثال ذلك القمح الذي نزرعه ونأكله، وكذلك الذرة، لم يكونوا عارفين بأن عنصر الذكورة يوجد في " الشواشي " العليا في كوز الذرة وأن الهواء يضرب تلك الشواشي فتنزل منها حبوب اللقاح فيخرج الحب، ولذلك نجد الزارع الذكي هو الذي يفتح " كوز الذرة " من أعلاه قليلا حتى يتيح لحبوب اللقاح أن تصل إلى موقعها. وقد يفتح الفلاح أحد " كيزان الذرة " فيجد حبة ميتة وسط الحبوب المتراصة ويكتشف أنها حبة ليس لها خيط أي لم تتصل بحبوب اللقاح وهو ما يقولون عنه في الريف " سنة عجوز ".
إذن فكل تكاثر له ذكورة وأنوثة، ولذلك يقول ربنا :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون٣٦ ﴾ ( سورة يس ).
وكنا نعرف الأزواج في الأنفس، ثم عرفناها في النبات، وجاء الحق ب﴿ مما لا يعلمون ﴾ لتدخل كل شيء، وتكشف الموجب والسالب في الكهرباء، وصرنا نعرف أن كل كائن فيه ذكر وأنثى، وكلما تقدم العلم فهو يشرح الآيات الكونية.
ومن رحمة الحق سبحانه بعقول الأمة المكلفة برسالة محمد لم يشأ أن يجعل نواميسه في الكون واضحة صريحة حتى لا تقف العقول فيها وتعجز عن فهمها، وخاصة أن الكتاب واجه أمة أمية ؛ ليست لها ثقافة. وهب أنه واجه العالم المعاصر، إن هناك قضايا في الكون لا يعلمها العالم المعاصر، فلو أن القرآن تعرض لها بصراحة لكانت سببا من الأسباب التي تصرف الناس عن الكتاب. والقرآن جاء كتاب منهج، والمعجزة أمر جاء لتأييد المنهج، فلم يشأ أن يجعل من المعجزة ما يعوق عن المنهج، لكنه ترك في الكون طموحات للعقل المخلوق لله والمادة الكونية المخلوقة لله، وكل يوم يكتشف العقل البشري أشياء، وهذا الاكتشاف لا يأتي من فراغ، بل يأتي من أشياء موجودة.
إذن فلو رددت أدق أقضية العلم التي يصل إليها العقل المعاصر، ونسبتها في الكون لرجعت إلى الأمر البديهي. فلا يوجد صاحب عقل ابتكر أو جاء بحاجة جديدة، إنما هو أعمل عقله في موجود فاستنبط من مقدمات الموجودة قضية معدومة، ثم أصبحت القضية المعدومة مقدمة معلومة ليستنبط منها من يجيء بعد ذلك. ولذلك فالعلماء عادة قوم يغلبهم طابع التهذيب عندما يقولون : اكتشفنا الأمر الفلاني، يعني كأنه موجدا.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا فكرة تقرب لنا الفهم، فنحن عندما كنا نتعلم الهندسة مثلا ؛ عرفنا أن الهندسة مكونة من نظريات، تبدأ من نظرية " واحد "، وتنتهي إلى ما لا نهاية، وحين جاء لنا مدرس ليبرهن لنا على نظرية " مائة "، استخدم في البرهان على ذلك النظرية التسع والتسعين، وعندما كان يبرهن على النظرية " التسع والتسعين " استعمل ما قبلها.
إذن فكل برهان على نظرية يستند إلى ما قبلها، والعقل الواعي المفكر المستنبط هو الذي يرتب المقدمات ويستخلص منها النتائج. وكل شيء في الكون يشترك فيه كل الناس. لكن العقل الذي يرتب ويستنبط يخيل إليه وإلى الناس أنه جاء بجديد، وهو لم يأت بجديد. بل ولد من الموجود جديدا، مثال ذلك الطفل عندما يولد من أبويه، هل هما جاءا به من عدم ؟ لا، بل جاء الولد من تزاوج، وعندما نسلسل الأمر نصل إلى آدم، فمن الذي جاء بآدم ؟. إنه الله ؟.
إذن فالبديهيات التي في الكون هي خميرة كل تقدمي وهي من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعا، وكل نظرية مهما كانت معقدة في الكون منشؤها من الأمر البديهي، مثال ذلك البخار ؛ عندما اكتشفوه وقبل أن يسيروا به الآلات ماذا حدث ؟. كان هناك من يجلس فالتفت فوجد الإناء الذي به الماء يغلي ثم وجد غطاء الإناء يرتفع وينخفض، وعندما تعرف على السر، اكتشف أن كل بخار يستطيع أن يعطي قوة دافعة، وبذلك بدأ عصر البخار. إذن فهو ذكي، وقد أخذ اكتشافه من بديهية موجودة في الكون، فإياك أن تغتر وتقول : إن العقل هو الذي اخترع، ولكن العقل عمل بالجهد في مطمورات الله في الوجود، ورتب ورتب ثم أخرج الاكتشاف.
لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئا جديدا نقول له : أنت لم تبتكر، بل اكتشفت فقط، والحق سبحانه وتعالى يترك هذه العملية في الوجود. ويقول :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾ ( من الآية ٥٣ سورة فصلت ).
والبشرية عندما تكتشف شيئا جديدا، نقول لهم : القرآن مسها وجاء بها، فيقولون : عجبا هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرنا، على الرغم من أنه نزل ليخاطب أمه أمية، وجاء على لسان رسول أمي. ونقول : نعم.
والآية التي نحن بصددها فيها هذا :
﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ﴾ ( من الآية ٥٦ سورة النساء ).
والجلود والأحاسيس شرحناها من قبل، ونظرية " الحس " كما نعرف شغلت العلماء الماديين، وأرادوا أن يعرفوا كيف نحس ؟ منهم من قال : نحن نحس بالمخ. نقول لهم : لكن هناك مسائل لا تصل للمخ ونحس بها، بدليل أنه عندما يأتي واحد أمام عيني ويوجه أصبعه ليفتحها ويثقبها فقبلما يصل أصبعه أغلق عيني أي أن شيئا لم يصل للمخ حتى أحس. وبعض العلماء قال : إن الإحساس يتم عن طريق النخاع الشوكي والحركة العكسية، ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات حسية منبطحة مع الجلد ؛ بدليل أنك عندما تأخذ حقن
﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ٥٦ ﴾.
و " نصليهم " من الاصطلاء، قد يقول قائل : مادام يصلى النار وكلنا يعرف أن نار الدنيا حين تحرق شيئا ينتهي إلى عدم، وحين ينتهي إلى عدم إذن فلا يوجد ألم ! ونقول : لتنتبه إلى ان الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا الأمر﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾.. إذن فالعذاب ليس كنار الدنيا، لأن نار الدنيا تحرق وتنتهي المسالة. أما نار الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾.. فإذا ما حرقت الجلود فإن جلودا أخرى ستأتي، أهي عين الأولى أم غيرها ؟ وحتى أوضح ذلك : أنت عندما يكون عندك خاتم مثلا، ثم تقول : أنا صنعت من الخاتم خاتما آخر، فالمادة واحدة أيضا، فهل التعذيب للجلود أو للأعضاء ؟ إن العذاب دائما للنفس الواعية، بدليل أن الإنسان قد يصيبه ورم فيه بعض الصديد " دمل " يتعبه ولا يقدر على ألمه.. وبعد ذلك يغفل فينام، بمجرد أن ينام فلا ألم. لكن عندما يستيقظ يتألم من جديد.
إذن فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية، بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب، قلنا إن النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به، ويفتح " الدمل " بالمشرط ولا يحس صاحبه بأي ألم. وهكذا تجد أن الجلود والأعضاء ليس لها شأن بالعذاب، إنما هي موصلة للمعذب، والمعذب هي النفس الواعية.. بدليل أنها ستشهد علينا يوم القيامة.. تشهد الجلود والجوارح، وستكون آلة لتوصيل العذاب.. ومسرورة لأنها توصل لهم العذاب.
إنه نظام إلهي فلا تتعجبوا من القرآن، فإن العلم كلما تقدم هدانا إلى شيء من آيات الله في الكون. أنتم الآن تخدرون النفس الواعية وتشقون الجسد بالمشارط كما يحلو لكم فلا يحدث له ألم، وعرفتم أن الألم ليس للعضو، إنما الألم للنفس الواعية، إذن فكل الجوارح هي آلات توصل الألم للنفس الواعية، وتكون مسرورة ؛ لأن النفس الواعية تعذب، وهذه يشبهونها مثلا بواحد عنده " حكة " في جلده، فيهرش، والهرش يسيل دمه فيكون مستلذا.
إذن فقوله :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾ أي أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل العذاب للنفس الواعية، وهكذا.
﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾. نحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى أنزل كتابا هو القرآن، وجعله معجزة ومنهجا، وهذه هي الميزة التي امتاز بها الإسلام. فمنهج الإسلام هو عين المعجزة، وكل رسول من الرسل كان منهجه شيئا ومعجزته كانت شيئا آخر.
إن سيدنا موسى منهجه التوراة ومعجزته : العصا، وسيدنا عيسى منهجه : الإنجيل، ومعجزته : إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، لكن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت القرآن ؛ لأن دينه سيكون الامتداد النهائي لآخر الدنيا، ولذلك جعل الله منهجه هو عين معجزته، لتكون المعجزة دليلا على صدق المنهج في أي وقت، ولا يستطيع واحد من أتباع أي نبي سابق على رسول الله أن يقول : إن معجزة الرسول الذي أتبعه هي منهجه ؛ لأن معجزات الرسل السابقين على رسول الله كانت عمليات كونية انتهت مثل عود كبريت احترق، فمن رآه رآه وانتهى، لكن المسلم يستطيع أن يقف ويعلن بملء فيه : إن محمدا رسول الله وصادق، وتلك معجزته. فمعجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية بقاء أبديا، ومتصلة به أبدا. أما معجزة كل رسول سبق رسول الله فقد أدت مهمتها لمن رآها وانتهت، وانفصلت معجزة كل رسول سابق على رسول الله عن منهجه.
والمنهج القرآني فيه أحكام، والأحكام معناها ؛ افعل كذا، ولا تفعل كذا. وهي واضحة كل الوضوح منذ أن أنزل الله القرآن على رسوله وحتى تقوم الساعة. ومن فعل مطلوب الأحكام يثاب، ومن لم يفعله يعاقب. وكل الناس سواسية في مطلوب الأحكام إلى أن تقوم الساعة.
أما آيات الله الكونية التي لا تتأثر.. فأي فائدة للإنسان إن عرفها أو لم يعرفها : فقد طمرها الله وسترها في القرآن مع إشارة إليها، لأن العقل المعاصر لنزول الكتاب لم يكن قادرا على استيعابها في زمن الرسالة. ولو أن القرآن جاء بآية واضحة تقول : إن الأرض كروية وتدور، بالله ماذا كان المعاصرون لرسول الله يقولون ؟ إن بعضا من البشر الآن يكذبون ذلك، فما بالنا بالبشر المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لو قال لهم رسول الله ذلك لانصرفوا عن إتباع ما جاء به.
لقد كانوا يستفيدون من كروية الأرض، مثلما يستفيد منها الفلاح أو البدوي، ومثلما يستفيد الناس الآن الذين لم يدرسوا الكهرباء برؤية التلفزيون وضوء المصباح الكهربائي وغير ذلك من الاستخدامات، دون معرفة علمية بتفاصيل ذلك، إن الشمس تسطع على الدنيا فيتبخر الماء من الأنهار والمحيطات والبحار ليصير سحابا، ثم ينزل المطر من السحاب. وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع العقول، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث العلمي.
وعندما نتعرف نحن المسلمين على اكتشاف علمي جديد في الكون، نقول : إن القرآن قد أشار له، لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز، فسبحانه القائل :
﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة يونس ).
لو أن القرآن قال : إن كل شيء في الوجود يتكاثر، وفيه موجب وفيه سالب، ذكر وأنثى، أكانوا يصدقون ذلك ؟. لا ؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الذكر والأنثى إلا في الرجل والمرأة، ويعرفون ذلك في الحيوانات ؛ وأيضا في بعض النباتات مثل النخل، لكن هناك نباتات كثيرة لا يعرفون حكاية التكاثر فيها، ومثال ذلك القمح الذي نزرعه ونأكله، وكذلك الذرة، لم يكونوا عارفين بأن عنصر الذكورة يوجد في " الشواشي " العليا في كوز الذرة وأن الهواء يضرب تلك الشواشي فتنزل منها حبوب اللقاح فيخرج الحب، ولذلك نجد الزارع الذكي هو الذي يفتح " كوز الذرة " من أعلاه قليلا حتى يتيح لحبوب اللقاح أن تصل إلى موقعها. وقد يفتح الفلاح أحد " كيزان الذرة " فيجد حبة ميتة وسط الحبوب المتراصة ويكتشف أنها حبة ليس لها خيط أي لم تتصل بحبوب اللقاح وهو ما يقولون عنه في الريف " سنة عجوز ".
إذن فكل تكاثر له ذكورة وأنوثة، ولذلك يقول ربنا :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون٣٦ ﴾ ( سورة يس ).
وكنا نعرف الأزواج في الأنفس، ثم عرفناها في النبات، وجاء الحق ب﴿ مما لا يعلمون ﴾ لتدخل كل شيء، وتكشف الموجب والسالب في الكهرباء، وصرنا نعرف أن كل كائن فيه ذكر وأنثى، وكلما تقدم العلم فهو يشرح الآيات الكونية.
ومن رحمة الحق سبحانه بعقول الأمة المكلفة برسالة محمد لم يشأ أن يجعل نواميسه في الكون واضحة صريحة حتى لا تقف العقول فيها وتعجز عن فهمها، وخاصة أن الكتاب واجه أمة أمية ؛ ليست لها ثقافة. وهب أنه واجه العالم المعاصر، إن هناك قضايا في الكون لا يعلمها العالم المعاصر، فلو أن القرآن تعرض لها بصراحة لكانت سببا من الأسباب التي تصرف الناس عن الكتاب. والقرآن جاء كتاب منهج، والمعجزة أمر جاء لتأييد المنهج، فلم يشأ أن يجعل من المعجزة ما يعوق عن المنهج، لكنه ترك في الكون طموحات للعقل المخلوق لله والمادة الكونية المخلوقة لله، وكل يوم يكتشف العقل البشري أشياء، وهذا الاكتشاف لا يأتي من فراغ، بل يأتي من أشياء موجودة.
إذن فلو رددت أدق أقضية العلم التي يصل إليها العقل المعاصر، ونسبتها في الكون لرجعت إلى الأمر البديهي. فلا يوجد صاحب عقل ابتكر أو جاء بحاجة جديدة، إنما هو أعمل عقله في موجود فاستنبط من مقدمات الموجودة قضية معدومة، ثم أصبحت القضية المعدومة مقدمة معلومة ليستنبط منها من يجيء بعد ذلك. ولذلك فالعلماء عادة قوم يغلبهم طابع التهذيب عندما يقولون : اكتشفنا الأمر الفلاني، يعني كأنه موجدا.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا فكرة تقرب لنا الفهم، فنحن عندما كنا نتعلم الهندسة مثلا ؛ عرفنا أن الهندسة مكونة من نظريات، تبدأ من نظرية " واحد "، وتنتهي إلى ما لا نهاية، وحين جاء لنا مدرس ليبرهن لنا على نظرية " مائة "، استخدم في البرهان على ذلك النظرية التسع والتسعين، وعندما كان يبرهن على النظرية " التسع والتسعين " استعمل ما قبلها.
إذن فكل برهان على نظرية يستند إلى ما قبلها، والعقل الواعي المفكر المستنبط هو الذي يرتب المقدمات ويستخلص منها النتائج. وكل شيء في الكون يشترك فيه كل الناس. لكن العقل الذي يرتب ويستنبط يخيل إليه وإلى الناس أنه جاء بجديد، وهو لم يأت بجديد. بل ولد من الموجود جديدا، مثال ذلك الطفل عندما يولد من أبويه، هل هما جاءا به من عدم ؟ لا، بل جاء الولد من تزاوج، وعندما نسلسل الأمر نصل إلى آدم، فمن الذي جاء بآدم ؟. إنه الله ؟.
إذن فالبديهيات التي في الكون هي خميرة كل تقدمي وهي من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعا، وكل نظرية مهما كانت معقدة في الكون منشؤها من الأمر البديهي، مثال ذلك البخار ؛ عندما اكتشفوه وقبل أن يسيروا به الآلات ماذا حدث ؟. كان هناك من يجلس فالتفت فوجد الإناء الذي به الماء يغلي ثم وجد غطاء الإناء يرتفع وينخفض، وعندما تعرف على السر، اكتشف أن كل بخار يستطيع أن يعطي قوة دافعة، وبذلك بدأ عصر البخار. إذن فهو ذكي، وقد أخذ اكتشافه من بديهية موجودة في الكون، فإياك أن تغتر وتقول : إن العقل هو الذي اخترع، ولكن العقل عمل بالجهد في مطمورات الله في الوجود، ورتب ورتب ثم أخرج الاكتشاف.
لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئا جديدا نقول له : أنت لم تبتكر، بل اكتشفت فقط، والحق سبحانه وتعالى يترك هذه العملية في الوجود. ويقول :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾ ( من الآية ٥٣ سورة فصلت ).
والبشرية عندما تكتشف شيئا جديدا، نقول لهم : القرآن مسها وجاء بها، فيقولون : عجبا هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرنا، على الرغم من أنه نزل ليخاطب أمه أمية، وجاء على لسان رسول أمي. ونقول : نعم.
والآية التي نحن بصددها فيها هذا :
﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ﴾ ( من الآية ٥٦ سورة النساء ).
والجلود والأحاسيس شرحناها من قبل، ونظرية " الحس " كما نعرف شغلت العلماء الماديين، وأرادوا أن يعرفوا كيف نحس ؟ منهم من قال : نحن نحس بالمخ. نقول لهم : لكن هناك مسائل لا تصل للمخ ونحس بها، بدليل أنه عندما يأتي واحد أمام عيني ويوجه أصبعه ليفتحها ويثقبها فقبلما يصل أصبعه أغلق عيني أي أن شيئا لم يصل للمخ حتى أحس. وبعض العلماء قال : إن الإحساس يتم عن طريق النخاع الشوكي والحركة العكسية، ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات حسية منبطحة مع الجلد ؛ بدليل أنك عندما تأخذ حقن
وبعد أن جاء بالعذاب أو بالجزاء المناسب لمن رفضوا الإيمان، لم ينس المقابل ؛ لكي يكون البيان للغايتين : غاية الملتزم وغاية المنحرف. ولذلك يقول الحق بعد ذلك :
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا ٥٧ ﴾.
وفي هذه الآية يصف الحق ثواب الفئة المقابلة للفئة السابقة وهم الذين آمنوا، ونعلم أن آخر موكب من مواكب الرسالة هو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. إذن فأمة سيدنا محمد هي أقرب الأمم إلى لقاء الله. فالأمم من أيام آدم أخذت زمنا طويلا، لكننا نحن المسلمين قريبون، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :{ بعثت أنا والساعة كهاتين )١، .
ولذلك لم يقل الحق في هذه الآية : سوف ندخلهم. بل قال :" سندخلهم "، أما مع الآخرين فاستخدم سبحانه " سوف " لأنها بعيدة، أو أن هذا كناية وإشارة من الله لإمهال الكفار ليتوبوا، وعندما يقرب لنا سبحانه المسافة فإنه يغرينا بالطاعة، المسألة ليست بعيدة، بل قريبة ؛ لذلك يعبر عنها :﴿ سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾.
إن كلمة " الجنة " مأخوذة من " الجن "، والستر، و " الجنة " هي البستان الذي به شجر إذا سار فيه الإنسان يستره، وهو غير البساتين الزهرية التي تخرج زهرا قريبا من الأرض تمثل ترفا للعيون فقط، أما الجنة ففيها أشجار عالية كثيفة بحيث لو سار فيها أحد يستر، ففيها الاقتيات وفيها كل شيء، فهي تسترك عن أن تلتفت إلى غيرها لأن فيها ما يكفيك، فالذي عنده حاجة لا تكفيه يتطلع إلى ما يكفيه، لكن من عنده حاجة تكفيه فقد انستر عن بقية الوجود، والحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة عن شيء هو الآن عنا غيب، وسيصير بإذن الله وبمشيئته مشهدا، ونحن نعرف أن الجنة بها كل ما تتمناه النفس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل :
﴿ أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴾٢ مصداق ذلك في كتاب الله { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ".
ونعلم أن الكائنات الوجودية يعرفها الإنسان بما يناسب إدراكه.. فقال :﴿ مالا عين رأت ولا أذن سمعت ﴾، والعين حين ترى تكون محدودة، لكن السمع دائرته أوسع من الرؤية، لأنه سيسمع ممن رأى، إنه سمع فوق ما رأى، إذن فدائرة الإدراكات تأتي أولا : بأن يرى الإنسان، ثم بأن يسمع، وهو يسمع أكثر مما يرى، وعلى سبيل المثال قد أرى أسوان لكنني أسمع عن أمريكا، فدائرة السماع أوسع.
وبعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( ولا خطر على قلب بشر ) أي أن ما في الجنة أكبر من التخيلات، إذن فكم صفة هنا للجنة ؟ الأولى قوله : مالا عين رأت والعين مهما رأت فدائرتها محدودة، والثانية : قوله : ولا أذن سمعت. والأذن إن سمعت فدائرتها أوسع قليلا. والثالثة : قوله : ولا خطر على قلب بشر، وهذا أوسع من التخيلات، فإذا كنت يا حق سبحانك ستعطينا في الجنة : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فبأي الألفاظ يا ربي تؤدي لنا هذه الأشياء، وألفاظ اللغة إنما وضعت لمعان معروفة، ومادمت ستأتي بحاجة لم ترها عين، ولم تسمعها إذن ولم تخطر على قلب بشر، فأي الألفاظ ستؤدي هذه المعاني ؟.
لقد أوضح صلى الله عليه وسلم : أنه لا توجد ألفاظ ؛ لأن المعنى يعرف أولا ثم يوضع له اللفظ، فكل لفظ وضع في اللغة معروف أن له معنى، لكن ما دامت الجنة هذه لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على قلب بشر، فلا توجد كلمات تعبر عنها، لذلك لم يقل صلى الله عليه وسلم : إن الجنة هكذا بل قال :" مثل الجنة " أما الجنة نفسها، فليس في لغتنا ألفاظ تؤدي هذه المعاني، وحيث إن هذه المعاني لا رأتها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على قلب بشر ؛ لذلك فليس في لغة البشر ما يعطينا صورة عن الجنة، وأوضح الحق سبحانه : سأختار أمرا هو أحسن ما عندكم وأعطيكم به مثلا فقال :
﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم ﴾ ( من الآية ١٥ سورة محمد ).
ونحن نرى الأنهار، والحق يطمئننا هنا بأن أنهار الجنة ستختلف فهو سبحانه سينزع منها الصفة التي قد تعكر نهريتها ؛ فقد تقف مياه النهر وتصبح آسنة متغيرة، فيقول :﴿ أنهار من ماء غير آسن ﴾، إذن فهو يعطيني اسما موجودا وهو النهر، وكلنا نعرفه، لكنه يوضح : أنا سأنزع منه الأكدار التي تراها في النهر الحادث في الحياة الدنيا، وأيضا فأنهار الدنيا تسير وتجري في شق بين شاطئين، لكن أنهار الجنة سترى الماء فيها وليس لها شطوط تحجز الماء لأنها محجوزة بالقدرة.. وستجد أيضا أنهارا من لبن لم يتغير طعمه.
إن العربي كان يأخذ اللبن من الإبل ويخزنه في القرب، وبعد ذلك ترحل الإبل بعيدا إلى المراعي وإلى حيث تسافر، وعندما كان الأعرابي يحتاج إلى اللبن فلم يكن أمامه غير اللبن المخزن في القرب، ويجده متغير الطعم لكن لا يجد غيره ؛ لذلك يوضح الحق : سأعطيكم انهارا من لبن في الجنة لم يتغير طعمه، ثم يقول :﴿ وانهار من خمر ﴾ وهم يعرفون الخمر ولنفهم انها ليست كخمر الدنيا ؛ لأنه يقول :" مثل ".. ولم يقل الحقيقة فقال : أنهار من خمر لكنها خمر ﴿ لذة للشاربين ﴾، وخمر الدنيا لا يشربها الناس بلذة، بدليل أنك عندما ترى من يشرب كاس خمر.. فهو يسكبه في فمه مرة واحدة ! ليس كما تشرب أنت كوبا من مانجو وتتلذذ به، إنه يأخذه دفعة واحدة ليقلل سرعة مروره على مذاقا ته لأنه لاذع ومحمض ؛ وتغتال العقول وتفسدها. لكن خمر الآخرة لا اغتيال فيها للعقول.
إذن فحين يعطيني الحق مثلا للجنة.. فهو ينفي عن المثل الشوائب، ولذلك نجد الأمثال تتنوع في هذا المجال ؛ فالعربي عندما كان يمشي في الهاجرة، ويجد شجرة " نبق " ويقال لها :" سدر " كان يعتبرها واحة يستريح عندها، ويجد عليها النبق الجميل، فهو يمد يده ليأكل منها لكنه قد يجد شوكا فيتفادى الشوك، وفي بعض الأحيان تشكه شوكة، وعندما لا يجد في هذا الشجر شوكا يقول : هنا " سدر مخضوض " أي شجرة نبق لا شوك فيها، والحق يأتي بكل الآفات التي في الدنيا وينفيها عن جنة الآخرة.
﴿ وأنهار من عسل مصفى ﴾ وكان العرب يأخذون العسل من الجبال فالنحل يصنع خلاياه داخل شقوق الجبال، وعندما كانوا يخرجون العسل من الجبال يجدون فيه رملا وحصى، فأوضح الحق : ما يعكر عليك العسل هنا في الدنيا أنا أصفيه لك هناك، ومع انه مثل لكنه يصفيه أيضا، ولماذا مثل ؟.. لأنه مادام نعيم الجنة " لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".. فتكون لغة البشر كلها لا تؤدي ما فيها.. لكنه سبحانه يعطينا صورة مقربة، ويضرب الله المثل بالصورة المقربة للأشياء التي تتعالى عن الفهم ليقربها من العقل، ومثال ذلك عندما أراد سبحانه أن يعطينا صورة لتنوير الله للكون، وليس لنور الله الذاتي، بل لتنوير الله للكون، فيقول :
﴿ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة ﴾ ( من الآية ٣٥ سورة النور ).
إنه يعطينا مثلا مقربا لأن لغتك ليس فيها الألفاظ التي تؤدي الحقيقة، ولذلك يقول :
﴿ وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ ( من الآية ١٠٠ سورة التوبة ).
ومادامت جنات ففيها شجر ملتف وعال، ونحن نعرف ان الشجر لابد أن يكون في منطقة فيها مياه ؛ لذلك قال :﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾، ومرة يقول :﴿ تجري تحتها الأنهار ﴾ لأن ما يجري تحتها قد يكون آتيا من مكان آخر، ويكون منبعها من مكان بعيد وتجري الأنهار تحت جنتك، وقد تظن ان بإمكان صاحب النبع ان يسدها على جنتك، فيشرح الحق : لا هي جاءت من تحتها مباشرة.
ويقول الحق عن أهل الجنة :﴿ خالدين فيها ﴾ وهو سبحانه وتعالى يخاطب قوما شهدوا بعض النعيم في دنياهم من آثار نعمه عليهم، لكنهم شهدوا أيضا أن النعمة تزول عن الناس، أو شهدوا أناسا يزولون عن النعمة، فقال سبحانه عن جنة الآخرة :﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ فلا هي تزول عنهم ولا هم يزحزحون عنها.
ويعطينا سبحانه أيضا صورة من النعيم الذي يوجد عندنا في الدنيا لكنه يزول أيضا أو نزول نحن عنه :﴿ ولهم فيها أزواج مطهرة ﴾ وأزواج جمع " زوج "، وعندما يصف الحق سبحانه وتعالى جمعا فهو يأتي في الصفة بجمع أيضا مثل قوله :
﴿ وقدور راسيات ﴾ ( من الآية ١٣ سورة سبأ ).
لأن " قدور " جمع " قدر "، ولم يقل هنا : وأزواج مطهرات وجاء بها مفردة لأن الرجل في الدنيا قد يتزوج بأكثر من واحدة فينشأ بين الزوجات المتعددات ظلال الشقاق فكأنهن متنافرات، فقال : إنهن كلهن سيكن أزواجا على صورة واحدة من الطهر، وليس في أي منهن ما يعكر صفو الأزواج كما يكون الأمر في الدنيا، ولا يقولن واحد :" كيف تقبل المرأة أن يكون لها ضرة في الآخرة ؟ " لأن الحق سبحانه نزع من الصدور كل ما كان يكدر صفو النفوس في الدنيا فقال :﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ ( من الآية ٤٣ سورة الأعراف ).
إذن فكأنهن وإن تعددن في سياق واحد من الطهر مما لا يعكر صفو الزوج، إنه يعجبك شكلها، ستعجبك، أخلاقها ليس فيها عيب ولا نقص مما كان يوجد في الدنيا إنها مطهرة من ذلك كله. إذن فهو يعطيني خلاصة ما يمكن أن يتصور من النعيم في الأزواج.
ويكمل الحق :﴿ وندخلهم ظلا ظليلا ﴾. ولغة العرب إذا أرادت أن تؤكد معنى فهي تأتي بالتوكيد من اللفظ نفسه، فيقول العربي مثلا :" هذا ليل أليل " أي ليل حالك، وعندما يبالغ في " الظل " يقول :" ظليل ". وما هو " الظل " ؟. " الظل " هو : انحسار الشمس عن مكان كانت فيه أو لم تدخله الشمس أصلا كان يكون الإنسان داخل كهف أو غار مثلا.
إن كلمة ظل ظليل يعرفها الذين يعيشون في الصحراء، فساعة يرى الإنسان هناك شجرة فهو يجلس تحتها ويتمتع بظلها، والظل نفسه قد يكون ظليلا، مثال ذلك " الخيام المكيفة " التي يصنعونها الآن، وتكون من طبقتين : الطبقة الاولى تتعرض للشمس فتتحمل السخونة والطبقة الثانية تحجز السخونة ويسمون هذا السقف " السقف المزدوج ". ويوجد خاصة في الأماكن العالية ؛ لأن الشقة على سبيل المثال التي تعلوها أدوار تكون محمية، لكن الشقق الموجودة في آخر دور خصوصا في البلاد الحارة تكون السخونة فيها صعبة وشديدة ؛ لذلك يصنعون سقفا فوق السقف ؟، وبذلك يكون الظل نفسه في ظل.
ولماذا الإنسان يسعد بالظل تحت شجرة أكثر من سعادته بالظل في جدار ؟ لأن الظل في جدار مكون من طبقة واحدة، صحيح أنه يمنع عنا الشمس لكنه أيضا يحجب الهواء، لكن الجلوس في ظل الشجرة يتميز بأن كل ورقة من أوراق الشجرة فوقها ورقة، وأوراقها بعضها فوق بعض، وكل ورقة في ظل الورقة الأعلى. ولأن كل ورقة خفيفة لذلك يداعبها الهواء، فتحجب عن الجالس تحت الشجرة حرارة الشمس، وتعطيه هواء أيضا، هذا هو معنى قوله :﴿ ظلا ظليلا ﴾.
ولذلك فعندما أراد الشاعر أن يصف الروضة قال :
وقانا لفحة الرمضاء واد *** سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحة فحنا علينا *** حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا *** ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا *** فيحجبها ويأذن للنسيم
والشاعر هنا يصف الموقف حين يسير الإنسان في صحراء ث
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا ٥٧ ﴾.
وفي هذه الآية يصف الحق ثواب الفئة المقابلة للفئة السابقة وهم الذين آمنوا، ونعلم أن آخر موكب من مواكب الرسالة هو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. إذن فأمة سيدنا محمد هي أقرب الأمم إلى لقاء الله. فالأمم من أيام آدم أخذت زمنا طويلا، لكننا نحن المسلمين قريبون، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :{ بعثت أنا والساعة كهاتين )١، .
ولذلك لم يقل الحق في هذه الآية : سوف ندخلهم. بل قال :" سندخلهم "، أما مع الآخرين فاستخدم سبحانه " سوف " لأنها بعيدة، أو أن هذا كناية وإشارة من الله لإمهال الكفار ليتوبوا، وعندما يقرب لنا سبحانه المسافة فإنه يغرينا بالطاعة، المسألة ليست بعيدة، بل قريبة ؛ لذلك يعبر عنها :﴿ سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾.
إن كلمة " الجنة " مأخوذة من " الجن "، والستر، و " الجنة " هي البستان الذي به شجر إذا سار فيه الإنسان يستره، وهو غير البساتين الزهرية التي تخرج زهرا قريبا من الأرض تمثل ترفا للعيون فقط، أما الجنة ففيها أشجار عالية كثيفة بحيث لو سار فيها أحد يستر، ففيها الاقتيات وفيها كل شيء، فهي تسترك عن أن تلتفت إلى غيرها لأن فيها ما يكفيك، فالذي عنده حاجة لا تكفيه يتطلع إلى ما يكفيه، لكن من عنده حاجة تكفيه فقد انستر عن بقية الوجود، والحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة عن شيء هو الآن عنا غيب، وسيصير بإذن الله وبمشيئته مشهدا، ونحن نعرف أن الجنة بها كل ما تتمناه النفس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل :
﴿ أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴾٢ مصداق ذلك في كتاب الله { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ".
ونعلم أن الكائنات الوجودية يعرفها الإنسان بما يناسب إدراكه.. فقال :﴿ مالا عين رأت ولا أذن سمعت ﴾، والعين حين ترى تكون محدودة، لكن السمع دائرته أوسع من الرؤية، لأنه سيسمع ممن رأى، إنه سمع فوق ما رأى، إذن فدائرة الإدراكات تأتي أولا : بأن يرى الإنسان، ثم بأن يسمع، وهو يسمع أكثر مما يرى، وعلى سبيل المثال قد أرى أسوان لكنني أسمع عن أمريكا، فدائرة السماع أوسع.
وبعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( ولا خطر على قلب بشر ) أي أن ما في الجنة أكبر من التخيلات، إذن فكم صفة هنا للجنة ؟ الأولى قوله : مالا عين رأت والعين مهما رأت فدائرتها محدودة، والثانية : قوله : ولا أذن سمعت. والأذن إن سمعت فدائرتها أوسع قليلا. والثالثة : قوله : ولا خطر على قلب بشر، وهذا أوسع من التخيلات، فإذا كنت يا حق سبحانك ستعطينا في الجنة : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فبأي الألفاظ يا ربي تؤدي لنا هذه الأشياء، وألفاظ اللغة إنما وضعت لمعان معروفة، ومادمت ستأتي بحاجة لم ترها عين، ولم تسمعها إذن ولم تخطر على قلب بشر، فأي الألفاظ ستؤدي هذه المعاني ؟.
لقد أوضح صلى الله عليه وسلم : أنه لا توجد ألفاظ ؛ لأن المعنى يعرف أولا ثم يوضع له اللفظ، فكل لفظ وضع في اللغة معروف أن له معنى، لكن ما دامت الجنة هذه لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على قلب بشر، فلا توجد كلمات تعبر عنها، لذلك لم يقل صلى الله عليه وسلم : إن الجنة هكذا بل قال :" مثل الجنة " أما الجنة نفسها، فليس في لغتنا ألفاظ تؤدي هذه المعاني، وحيث إن هذه المعاني لا رأتها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على قلب بشر ؛ لذلك فليس في لغة البشر ما يعطينا صورة عن الجنة، وأوضح الحق سبحانه : سأختار أمرا هو أحسن ما عندكم وأعطيكم به مثلا فقال :
﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم ﴾ ( من الآية ١٥ سورة محمد ).
ونحن نرى الأنهار، والحق يطمئننا هنا بأن أنهار الجنة ستختلف فهو سبحانه سينزع منها الصفة التي قد تعكر نهريتها ؛ فقد تقف مياه النهر وتصبح آسنة متغيرة، فيقول :﴿ أنهار من ماء غير آسن ﴾، إذن فهو يعطيني اسما موجودا وهو النهر، وكلنا نعرفه، لكنه يوضح : أنا سأنزع منه الأكدار التي تراها في النهر الحادث في الحياة الدنيا، وأيضا فأنهار الدنيا تسير وتجري في شق بين شاطئين، لكن أنهار الجنة سترى الماء فيها وليس لها شطوط تحجز الماء لأنها محجوزة بالقدرة.. وستجد أيضا أنهارا من لبن لم يتغير طعمه.
إن العربي كان يأخذ اللبن من الإبل ويخزنه في القرب، وبعد ذلك ترحل الإبل بعيدا إلى المراعي وإلى حيث تسافر، وعندما كان الأعرابي يحتاج إلى اللبن فلم يكن أمامه غير اللبن المخزن في القرب، ويجده متغير الطعم لكن لا يجد غيره ؛ لذلك يوضح الحق : سأعطيكم انهارا من لبن في الجنة لم يتغير طعمه، ثم يقول :﴿ وانهار من خمر ﴾ وهم يعرفون الخمر ولنفهم انها ليست كخمر الدنيا ؛ لأنه يقول :" مثل ".. ولم يقل الحقيقة فقال : أنهار من خمر لكنها خمر ﴿ لذة للشاربين ﴾، وخمر الدنيا لا يشربها الناس بلذة، بدليل أنك عندما ترى من يشرب كاس خمر.. فهو يسكبه في فمه مرة واحدة ! ليس كما تشرب أنت كوبا من مانجو وتتلذذ به، إنه يأخذه دفعة واحدة ليقلل سرعة مروره على مذاقا ته لأنه لاذع ومحمض ؛ وتغتال العقول وتفسدها. لكن خمر الآخرة لا اغتيال فيها للعقول.
إذن فحين يعطيني الحق مثلا للجنة.. فهو ينفي عن المثل الشوائب، ولذلك نجد الأمثال تتنوع في هذا المجال ؛ فالعربي عندما كان يمشي في الهاجرة، ويجد شجرة " نبق " ويقال لها :" سدر " كان يعتبرها واحة يستريح عندها، ويجد عليها النبق الجميل، فهو يمد يده ليأكل منها لكنه قد يجد شوكا فيتفادى الشوك، وفي بعض الأحيان تشكه شوكة، وعندما لا يجد في هذا الشجر شوكا يقول : هنا " سدر مخضوض " أي شجرة نبق لا شوك فيها، والحق يأتي بكل الآفات التي في الدنيا وينفيها عن جنة الآخرة.
﴿ وأنهار من عسل مصفى ﴾ وكان العرب يأخذون العسل من الجبال فالنحل يصنع خلاياه داخل شقوق الجبال، وعندما كانوا يخرجون العسل من الجبال يجدون فيه رملا وحصى، فأوضح الحق : ما يعكر عليك العسل هنا في الدنيا أنا أصفيه لك هناك، ومع انه مثل لكنه يصفيه أيضا، ولماذا مثل ؟.. لأنه مادام نعيم الجنة " لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".. فتكون لغة البشر كلها لا تؤدي ما فيها.. لكنه سبحانه يعطينا صورة مقربة، ويضرب الله المثل بالصورة المقربة للأشياء التي تتعالى عن الفهم ليقربها من العقل، ومثال ذلك عندما أراد سبحانه أن يعطينا صورة لتنوير الله للكون، وليس لنور الله الذاتي، بل لتنوير الله للكون، فيقول :
﴿ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة ﴾ ( من الآية ٣٥ سورة النور ).
إنه يعطينا مثلا مقربا لأن لغتك ليس فيها الألفاظ التي تؤدي الحقيقة، ولذلك يقول :
﴿ وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ ( من الآية ١٠٠ سورة التوبة ).
ومادامت جنات ففيها شجر ملتف وعال، ونحن نعرف ان الشجر لابد أن يكون في منطقة فيها مياه ؛ لذلك قال :﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾، ومرة يقول :﴿ تجري تحتها الأنهار ﴾ لأن ما يجري تحتها قد يكون آتيا من مكان آخر، ويكون منبعها من مكان بعيد وتجري الأنهار تحت جنتك، وقد تظن ان بإمكان صاحب النبع ان يسدها على جنتك، فيشرح الحق : لا هي جاءت من تحتها مباشرة.
ويقول الحق عن أهل الجنة :﴿ خالدين فيها ﴾ وهو سبحانه وتعالى يخاطب قوما شهدوا بعض النعيم في دنياهم من آثار نعمه عليهم، لكنهم شهدوا أيضا أن النعمة تزول عن الناس، أو شهدوا أناسا يزولون عن النعمة، فقال سبحانه عن جنة الآخرة :﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ فلا هي تزول عنهم ولا هم يزحزحون عنها.
ويعطينا سبحانه أيضا صورة من النعيم الذي يوجد عندنا في الدنيا لكنه يزول أيضا أو نزول نحن عنه :﴿ ولهم فيها أزواج مطهرة ﴾ وأزواج جمع " زوج "، وعندما يصف الحق سبحانه وتعالى جمعا فهو يأتي في الصفة بجمع أيضا مثل قوله :
﴿ وقدور راسيات ﴾ ( من الآية ١٣ سورة سبأ ).
لأن " قدور " جمع " قدر "، ولم يقل هنا : وأزواج مطهرات وجاء بها مفردة لأن الرجل في الدنيا قد يتزوج بأكثر من واحدة فينشأ بين الزوجات المتعددات ظلال الشقاق فكأنهن متنافرات، فقال : إنهن كلهن سيكن أزواجا على صورة واحدة من الطهر، وليس في أي منهن ما يعكر صفو الأزواج كما يكون الأمر في الدنيا، ولا يقولن واحد :" كيف تقبل المرأة أن يكون لها ضرة في الآخرة ؟ " لأن الحق سبحانه نزع من الصدور كل ما كان يكدر صفو النفوس في الدنيا فقال :﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ ( من الآية ٤٣ سورة الأعراف ).
إذن فكأنهن وإن تعددن في سياق واحد من الطهر مما لا يعكر صفو الزوج، إنه يعجبك شكلها، ستعجبك، أخلاقها ليس فيها عيب ولا نقص مما كان يوجد في الدنيا إنها مطهرة من ذلك كله. إذن فهو يعطيني خلاصة ما يمكن أن يتصور من النعيم في الأزواج.
ويكمل الحق :﴿ وندخلهم ظلا ظليلا ﴾. ولغة العرب إذا أرادت أن تؤكد معنى فهي تأتي بالتوكيد من اللفظ نفسه، فيقول العربي مثلا :" هذا ليل أليل " أي ليل حالك، وعندما يبالغ في " الظل " يقول :" ظليل ". وما هو " الظل " ؟. " الظل " هو : انحسار الشمس عن مكان كانت فيه أو لم تدخله الشمس أصلا كان يكون الإنسان داخل كهف أو غار مثلا.
إن كلمة ظل ظليل يعرفها الذين يعيشون في الصحراء، فساعة يرى الإنسان هناك شجرة فهو يجلس تحتها ويتمتع بظلها، والظل نفسه قد يكون ظليلا، مثال ذلك " الخيام المكيفة " التي يصنعونها الآن، وتكون من طبقتين : الطبقة الاولى تتعرض للشمس فتتحمل السخونة والطبقة الثانية تحجز السخونة ويسمون هذا السقف " السقف المزدوج ". ويوجد خاصة في الأماكن العالية ؛ لأن الشقة على سبيل المثال التي تعلوها أدوار تكون محمية، لكن الشقق الموجودة في آخر دور خصوصا في البلاد الحارة تكون السخونة فيها صعبة وشديدة ؛ لذلك يصنعون سقفا فوق السقف ؟، وبذلك يكون الظل نفسه في ظل.
ولماذا الإنسان يسعد بالظل تحت شجرة أكثر من سعادته بالظل في جدار ؟ لأن الظل في جدار مكون من طبقة واحدة، صحيح أنه يمنع عنا الشمس لكنه أيضا يحجب الهواء، لكن الجلوس في ظل الشجرة يتميز بأن كل ورقة من أوراق الشجرة فوقها ورقة، وأوراقها بعضها فوق بعض، وكل ورقة في ظل الورقة الأعلى. ولأن كل ورقة خفيفة لذلك يداعبها الهواء، فتحجب عن الجالس تحت الشجرة حرارة الشمس، وتعطيه هواء أيضا، هذا هو معنى قوله :﴿ ظلا ظليلا ﴾.
ولذلك فعندما أراد الشاعر أن يصف الروضة قال :
وقانا لفحة الرمضاء واد *** سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحة فحنا علينا *** حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا *** ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا *** فيحجبها ويأذن للنسيم
والشاعر هنا يصف الموقف حين يسير الإنسان في صحراء ث
١ رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس..
٢ رواه مسلم في صفة الجنة..
٢ رواه مسلم في صفة الجنة..
فالحق سبحانه وتعالى بعدما تكلم عن النار وعن الجنة وجعل هذا الأمر مستقرا في بؤرة شعورهم ينزل الأحكام بعد ذلك، ولذلك تجد دائما بعد أن يذكر سبحانه الجنة والنار يأتي بعدها بأمهات الأحكام التي إذا نفذوها نالوا الجنة وابتعدوا عن النار. فبعدما شحنت بؤرة الشعور بالجنة والنار بالغاية المنفردة والغاية المرغبة، هنا يأتي الحكم، فيقول الله تعالى :
﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ٥٨ ﴾.
وقوله سبحانه :﴿ أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾، أوجز الله فيها كل تكاليف السماء لأهل الأرض، لأن الأمانات هي : الأمانة العليا وهي الإيمان بالله، والأمانة التي تتعلق ببنى الجنس، والأمانة التي على النفس لكل الأجناس.
ومعنى الأمانة هو : ما يكون لغيرك عندك من حقوق وأنت أمين عليها، إن شئت فعلتها، وإن شئت لم تفعلها، أنت تقول : أنا أودعت عند فلان أمانة، هذه الأمانة لو كانت بإيصال لما كانت أمانة ؛ لأن هناك دليلا، ولو كان ما أودعته عند ذلك الإنسان عليه شهود لا تكون أمانة. فالأمانة : أن تودع عنده شيئا، وضميره هو الحكم، إن شاء أقر بما عنده لك حين تطلبه، وإن شاء لم يقر به، قال الحق :
﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ٧٢ ﴾ ( سورة الأحزاب ).
فما هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبت أن تحملها ثم حملها الإنسان، وعلة تحمله لها أنه كان ظلوما جهولا ؟ إن الكون كما نعلم فيه أجناس، أدناها الجماد، وأوسطها النبات، وأعلى من الأوسط الحيوان ثم الإنسان، والإنسان هو سيد هذه الأجناس، لأنها تخدمه جميعها، لكن الجماد والنبات والحيوان لا اختيار لأي منها في أن يفعل أو لا يفعل، وإنما كل جنس منها قد خلق لشيء ليؤديه، ولا اختيار له في أن يمتنع عن الأداء.
الأرض والسماوات والجبال لم تقبل أن تكون مختارة أو أن تحمل أمانة وتكون المسألة فيها راجعة إلى اختيارها إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل. وأشفقت الأرض والسماوات والجبال من حمل الأمانة لعدم الثقة بحالة النفس وقت أداء الأمانة. فيجوز أن يعقد الكائن العزم عند تحمل الأمانة أن يؤديها، ولكن عند أدائها لا يملك نفسه، فربما خانته نفسه وجعلته لا يقر بها. لقد احتاطت السماوات والأرض والجبال وقالوا : لا نريد هذه الأمانة ولا نريد أن نكون مختارين بين أن نفعل أو نترك، نطيع أو نعصي، وإنما يارب نريد أن نكون مسخرين لما تحب دون اختيار لنا. فسلمت الأرض والسماوات والجبال، لكن الإنسان بما فيه من فكر يرجح الاختيار بين البديلات قال : أنا أقبلها وإن فكري سيخطط لأدائها. ولم يلتفت الإنسان ساعة تحمله الأمانة إلى حالة أدائه لها.
ومثال ذلك : من الجائز أن يعرض عليك إنسان مبلغا من المال كأمانة عندك، فأخذته وأنت واثق أنك ستؤديه حين يطلبه منك، ولكنك ساعة الأداء قد لا تملك نفسك، فقد تمر بك ظروف فتصرف شيئا من المال، أو أن تكون والعياذ بالله قد خربت ذمتك.
إذن فالإنسان لا يملك نفسه وقت الأداء وإن ملك نفسه وقت الأخذ، فالذين يحتاطون يقولون : أبعد عنا تحمل الأمانة، فلا نريد أن نحمل لك شيئا ولكن الإنسان قبل تحمل الأمانة ؛ لأنه " كان ظلوما جهولا " ظلم نفسه وجهل بحالته وقت الأداء، إذن فالأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان هي أمانة الاختيار التي يترتب عليها التكليف من الله.
إن التكليف محصور في " افعل " و " لا تفعل "، فإن شئت فعلت في " افعل "، وإن شئت لم تفعل في " لا تفعل ". وإن شئت العكس، ومعنى ذلك أن الأمانة في هذا المعنى مقصورة على ما طلبه الله من الإنسان وقت العرض. لكنها لم تتعرض للأمانات التي توجد بيننا، والأمانة كذلك هي ما يتعلق بذمتك بحق غيرك ؛ لذلك فحين يعطي إنسان إنسانا شيئا يصير الآخذ مؤتمنا فإن شاء أدى وإن شاء لم يؤد.
لكن هناك أمانات أخرى لم يعطها إنسان لإنسان، وإنما أعطاها رب الإنسان لكل إنسان، فالعلم الذي أعطاه الله للناس أمانة. فهل الذي علمك علما وأعطاه لك وبعد ذلك قال لك : أده لي، كمثل من يكون مأمونا على مال ؟.
نقول للعالم : العلم ليس من عندك حتى تعطيه لغيرك وبعد ذلك يرده لك ولكن الله يجازيك عليه ثوابا وكذلك في الحلم والشجاعة، ولا تتضح هذه المسائل بين العبد والعبد إلا في المال، لكن في بقية الأشياء ؛ نقول لك : أنت أمين عليها أمام خالقك، وقد أمنك ربنا على هذه الأشياء كي تؤديها إلى من لا يعلم، فأمنك على قدرة وأمرك : أعطها لمن لا يقدر، وأمنك على علم وأوضح لك : أعطه لمن لا علم له..
إذن فمن الذي أعطاك هذه الأمانة ؟ الله. فليس ضروريا أن تكون الأمانة من صاحبها الذي أعطاها لك لتردها إليه، فالأمانة : ما تصير مأمونا عليه ممن خلق أو من مخلوق، فأدها، والأمانة بهذا المعنى أمرها واسع، فاستحقاق الله للتوحيد أمانة عندك، أهليتك للتكليف من الله حين كلفك أمانة عندك، وأهليتك في المواهب المختلفة أمانة عندك، فكل إنسان عنده موهبة هو أمين عليها ولابد أن يؤديها وينقل آثارها لمن لا توجد عنده هذه الموهبة. فربنا أعطى رابعا علما. كل هذه الأشياء أمانات أودعها الله في خلقه ليتكامل الخلق، فحين يؤدي كل إنسان أمانته لكل إنسان يصبح كل إنسان عنده مواهب كل الآخرين.
والحق سبحانه وتعالى حينما يقول :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ نتذكر على الفور قمة الأمانة أن تعبده ولا تشرك به أحدا، والأمانة في التكاليف التي كلفك الله بها ؛ لأنها أمانة لغيرك عندك، وأمانة عندك لغيرك. فحين يكلفك الله بألا تسرق، يكون قد كلف الناس كلهم ألا يسرقوك.
إن كل أمانة عند غيرك تقابلها أمانة عندك، فإن أديت مطلوبات الأمانة عندك أدى المجتمع الذي يحيط بك الأمانة التي عنده، وهكذا تكون الأمانة هي : أداء حق في ذمتك لغيرك.
وقوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ قيل نزلت في عثمان ابن طلحة ابن أبي طلحة وكان سادن خادم الكعبة وحين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى ان يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية فأمر أن يرده إلى عثمان رضي الله عنه ويعتذر له فقال عثمان لعلي، أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال لقد أنزل الله فيك قرآنا وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان وهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السجانة في أولاد عثمان أبدا.
وهذا ويقابل الأمانة شيء بعد ذلك اسمه العدل، فلو أدى كل واحد ما لغيره عنده من حق لما احتجنا إلى عدل، فالعدل إنما ينشأ من خصومة وتقاض، والتقاضي معناه : أن واحدا أنكر حق غيره. فلو أدى كل واحد منا ما في ذمته من حق لغيره لما وجد تقاض، ولما وجدت خصومة فلا ضرورة إلى العدل حينئذ.
ولكن الحق الذي خلق الخلق وعلم الأغيار فيهم قدر أن بعض الناس يغفل عن هذه القضية وينشأ منها أن الإنسان قد لا يعطي الحق الذي في ذمته لغيره، فقضى سبحانه بشيء آخر اسمه " العدل ". ولو أن المسألة الأولى انتهت لما احتجنا للعدل.
إذن فالعدل هو علاج للغفلة التي تصيب البشر من الأغيار التي تطرأ على نفوسهم، فشاء الله أن يقول :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾، في الأولى لم يقل : إذا أئتمنتم فأدوا، لا. بل قال :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا ﴾. فإذا حدثت منكم غفلة عن هذه فما الذي يحمي هذه المسألة ؟ هنا يأتي العدل وهو أن تقضي بحق في ذمة غيرك لغيره، أي في ذمتك أنت ؛ لأنك تحكم كي ترجح مسألة وتضع الأمر في نصابه.
وبذلك نعرف أن مطلوبات أداء الأمانة تكون في شيء عندك تؤديه لغيرك، لكن مطلوبات العدل : تكون في أشياء في ذمة غيرك لغيرك. ولذلك قال الحق :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾، وكما أن آية أداء الأمانة عامة، كان لابد أن تكون آية العدل عامة أيضا.
إن قوله تعالى :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ ليست خاصة للحاكم فقط، بل إن كل إنسان مطالب بالعدل، فلو كنت محكما من طرف قوم ورضوا بك أن تحكم فاحكم بالعدل حتى ولو كان الحكم في الأمور التي يتعلق بها التكريم والشرف والموهبة ؛ فليس ضروريا أن يكون الحكم بالعدل في أمر له قيمة مادية، مثلا : سيدنا الإمام على رضوان الله عليه وكرم الله وجهه يرى غلامين يتحاكمان إلى ابنه الحسن ؛ ليحكم بينهما أي الخطين أجمل من الآخر، وهذه مسالة قد ينظر لها الناس على أنها مسالة تافهة لكنها مادامت شغلت الطفلين وأراد كل واحد منهما أن يكون خطه أجمل، فلابد أن يكون الحكم بالعدل. فقال الإمام علي لابنه الحسن : يا بني انظر كيف تقضي، فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة.
إن هذا يعطينا صورة في دقة العدل حتى ولو كان الأمر صغيرا. وفي مباريات كرة القدم تجد الحكم الذي يقول هذه اللعبة تحتسب هدفا أولا تحتسب، هذا الحكم يحتاج إلى مهارة لأنه سيترتب عليها فوز فريق أو هزيمته، بدليل أنك حتى وأنت تراقب الكرة ثم وجدت الحكم لم يحتسب خطا تثور عليه.
وهنا أتساءل : لماذا طبقتم قانون الجد في اللعب، ثم تركتم الجد بدون قانون ؟ وهذا ما يحدث. نحن ننقل قوانين الجد إلى اللعب، ونترك الجد في بعض الأحيان بدون قانون، ولو اعتنينا بهذه كما اعتنينا بتلك. لتساوت الأمور، فالعدل إذن هو حق في ذمة غير لغير حتى ولو كانت مباراة في اللعب، ومادام الأمر قد شغل طرفين، وجعل بينهما نزاعا وخلافا وتسابقا فعليك أن تنهي هذا الخلاف بالعدل.
ويتابع الحق :﴿ إن الله نعما يعظكم به ﴾ و " نعما " يعني نعم ما يعظكم به الله، أي لا يوجد أفضل من هذه العظة التي هي : أداء الأمانة والحكم بالعدل، فبهذا تستقيم حركة الحياة. فإذا أدى الناس الأمانة فلا نزاع ولا خلاف، وإذا أدوا عدالة الحكم فإن كان هناك خلاف ينتهي. وقال العلماء : إذا علم المجتمع أن عدلا يحرس حقوق الناس عند الناس فلن يجري ذلك ظالما على أن يظلم بعد ذلك، فيقول الظالم : فلان ظلم ولم يحاكم، فيغري ذلك الظالم أن يزيد في ظلمه، لكن ساعة يرى الناس أحدا يأخذ حق غيره ثم جاء الحاكم فردعه، ورد الحق لصاحبه فلن يظلم أحد أحدا.
وسبحانه في أمره هذا لا حاجة له في أن تفعلوا أولا تفعلوا، فهي أشياء لا تؤثر عنده في شيء، إنما هي في مصالحكم أنتم بعضكم مع بعض، وأحسن ألوان الأمر هو ما لا يعود على الآمر بفائدة، لأن الأمر إذا ما كان فيه عود بالفائدة على الآمر قد يشكك في الأمر. لكن أن تأمر بأمر ليس لك فيه فائدة فهذا قمة العدل. وقد يوجد إنسان يأمر بما لا فائدة له فيه، لكنه قد لا يكون واسع العلم ولا واسع الحكمة، والأمر هنا يختلف لأن الله سبحانه وتعالى ليس له مصلحة في الأمر، هذه واحدة، وأيضا فهو سبحانه واسع العلم والحكمة ؛ لذلك كانت
﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ٥٨ ﴾.
وقوله سبحانه :﴿ أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾، أوجز الله فيها كل تكاليف السماء لأهل الأرض، لأن الأمانات هي : الأمانة العليا وهي الإيمان بالله، والأمانة التي تتعلق ببنى الجنس، والأمانة التي على النفس لكل الأجناس.
ومعنى الأمانة هو : ما يكون لغيرك عندك من حقوق وأنت أمين عليها، إن شئت فعلتها، وإن شئت لم تفعلها، أنت تقول : أنا أودعت عند فلان أمانة، هذه الأمانة لو كانت بإيصال لما كانت أمانة ؛ لأن هناك دليلا، ولو كان ما أودعته عند ذلك الإنسان عليه شهود لا تكون أمانة. فالأمانة : أن تودع عنده شيئا، وضميره هو الحكم، إن شاء أقر بما عنده لك حين تطلبه، وإن شاء لم يقر به، قال الحق :
﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ٧٢ ﴾ ( سورة الأحزاب ).
فما هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبت أن تحملها ثم حملها الإنسان، وعلة تحمله لها أنه كان ظلوما جهولا ؟ إن الكون كما نعلم فيه أجناس، أدناها الجماد، وأوسطها النبات، وأعلى من الأوسط الحيوان ثم الإنسان، والإنسان هو سيد هذه الأجناس، لأنها تخدمه جميعها، لكن الجماد والنبات والحيوان لا اختيار لأي منها في أن يفعل أو لا يفعل، وإنما كل جنس منها قد خلق لشيء ليؤديه، ولا اختيار له في أن يمتنع عن الأداء.
الأرض والسماوات والجبال لم تقبل أن تكون مختارة أو أن تحمل أمانة وتكون المسألة فيها راجعة إلى اختيارها إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل. وأشفقت الأرض والسماوات والجبال من حمل الأمانة لعدم الثقة بحالة النفس وقت أداء الأمانة. فيجوز أن يعقد الكائن العزم عند تحمل الأمانة أن يؤديها، ولكن عند أدائها لا يملك نفسه، فربما خانته نفسه وجعلته لا يقر بها. لقد احتاطت السماوات والأرض والجبال وقالوا : لا نريد هذه الأمانة ولا نريد أن نكون مختارين بين أن نفعل أو نترك، نطيع أو نعصي، وإنما يارب نريد أن نكون مسخرين لما تحب دون اختيار لنا. فسلمت الأرض والسماوات والجبال، لكن الإنسان بما فيه من فكر يرجح الاختيار بين البديلات قال : أنا أقبلها وإن فكري سيخطط لأدائها. ولم يلتفت الإنسان ساعة تحمله الأمانة إلى حالة أدائه لها.
ومثال ذلك : من الجائز أن يعرض عليك إنسان مبلغا من المال كأمانة عندك، فأخذته وأنت واثق أنك ستؤديه حين يطلبه منك، ولكنك ساعة الأداء قد لا تملك نفسك، فقد تمر بك ظروف فتصرف شيئا من المال، أو أن تكون والعياذ بالله قد خربت ذمتك.
إذن فالإنسان لا يملك نفسه وقت الأداء وإن ملك نفسه وقت الأخذ، فالذين يحتاطون يقولون : أبعد عنا تحمل الأمانة، فلا نريد أن نحمل لك شيئا ولكن الإنسان قبل تحمل الأمانة ؛ لأنه " كان ظلوما جهولا " ظلم نفسه وجهل بحالته وقت الأداء، إذن فالأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان هي أمانة الاختيار التي يترتب عليها التكليف من الله.
إن التكليف محصور في " افعل " و " لا تفعل "، فإن شئت فعلت في " افعل "، وإن شئت لم تفعل في " لا تفعل ". وإن شئت العكس، ومعنى ذلك أن الأمانة في هذا المعنى مقصورة على ما طلبه الله من الإنسان وقت العرض. لكنها لم تتعرض للأمانات التي توجد بيننا، والأمانة كذلك هي ما يتعلق بذمتك بحق غيرك ؛ لذلك فحين يعطي إنسان إنسانا شيئا يصير الآخذ مؤتمنا فإن شاء أدى وإن شاء لم يؤد.
لكن هناك أمانات أخرى لم يعطها إنسان لإنسان، وإنما أعطاها رب الإنسان لكل إنسان، فالعلم الذي أعطاه الله للناس أمانة. فهل الذي علمك علما وأعطاه لك وبعد ذلك قال لك : أده لي، كمثل من يكون مأمونا على مال ؟.
نقول للعالم : العلم ليس من عندك حتى تعطيه لغيرك وبعد ذلك يرده لك ولكن الله يجازيك عليه ثوابا وكذلك في الحلم والشجاعة، ولا تتضح هذه المسائل بين العبد والعبد إلا في المال، لكن في بقية الأشياء ؛ نقول لك : أنت أمين عليها أمام خالقك، وقد أمنك ربنا على هذه الأشياء كي تؤديها إلى من لا يعلم، فأمنك على قدرة وأمرك : أعطها لمن لا يقدر، وأمنك على علم وأوضح لك : أعطه لمن لا علم له..
إذن فمن الذي أعطاك هذه الأمانة ؟ الله. فليس ضروريا أن تكون الأمانة من صاحبها الذي أعطاها لك لتردها إليه، فالأمانة : ما تصير مأمونا عليه ممن خلق أو من مخلوق، فأدها، والأمانة بهذا المعنى أمرها واسع، فاستحقاق الله للتوحيد أمانة عندك، أهليتك للتكليف من الله حين كلفك أمانة عندك، وأهليتك في المواهب المختلفة أمانة عندك، فكل إنسان عنده موهبة هو أمين عليها ولابد أن يؤديها وينقل آثارها لمن لا توجد عنده هذه الموهبة. فربنا أعطى رابعا علما. كل هذه الأشياء أمانات أودعها الله في خلقه ليتكامل الخلق، فحين يؤدي كل إنسان أمانته لكل إنسان يصبح كل إنسان عنده مواهب كل الآخرين.
والحق سبحانه وتعالى حينما يقول :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ نتذكر على الفور قمة الأمانة أن تعبده ولا تشرك به أحدا، والأمانة في التكاليف التي كلفك الله بها ؛ لأنها أمانة لغيرك عندك، وأمانة عندك لغيرك. فحين يكلفك الله بألا تسرق، يكون قد كلف الناس كلهم ألا يسرقوك.
إن كل أمانة عند غيرك تقابلها أمانة عندك، فإن أديت مطلوبات الأمانة عندك أدى المجتمع الذي يحيط بك الأمانة التي عنده، وهكذا تكون الأمانة هي : أداء حق في ذمتك لغيرك.
وقوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ قيل نزلت في عثمان ابن طلحة ابن أبي طلحة وكان سادن خادم الكعبة وحين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى ان يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية فأمر أن يرده إلى عثمان رضي الله عنه ويعتذر له فقال عثمان لعلي، أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال لقد أنزل الله فيك قرآنا وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان وهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السجانة في أولاد عثمان أبدا.
وهذا ويقابل الأمانة شيء بعد ذلك اسمه العدل، فلو أدى كل واحد ما لغيره عنده من حق لما احتجنا إلى عدل، فالعدل إنما ينشأ من خصومة وتقاض، والتقاضي معناه : أن واحدا أنكر حق غيره. فلو أدى كل واحد منا ما في ذمته من حق لغيره لما وجد تقاض، ولما وجدت خصومة فلا ضرورة إلى العدل حينئذ.
ولكن الحق الذي خلق الخلق وعلم الأغيار فيهم قدر أن بعض الناس يغفل عن هذه القضية وينشأ منها أن الإنسان قد لا يعطي الحق الذي في ذمته لغيره، فقضى سبحانه بشيء آخر اسمه " العدل ". ولو أن المسألة الأولى انتهت لما احتجنا للعدل.
إذن فالعدل هو علاج للغفلة التي تصيب البشر من الأغيار التي تطرأ على نفوسهم، فشاء الله أن يقول :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾، في الأولى لم يقل : إذا أئتمنتم فأدوا، لا. بل قال :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا ﴾. فإذا حدثت منكم غفلة عن هذه فما الذي يحمي هذه المسألة ؟ هنا يأتي العدل وهو أن تقضي بحق في ذمة غيرك لغيره، أي في ذمتك أنت ؛ لأنك تحكم كي ترجح مسألة وتضع الأمر في نصابه.
وبذلك نعرف أن مطلوبات أداء الأمانة تكون في شيء عندك تؤديه لغيرك، لكن مطلوبات العدل : تكون في أشياء في ذمة غيرك لغيرك. ولذلك قال الحق :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾، وكما أن آية أداء الأمانة عامة، كان لابد أن تكون آية العدل عامة أيضا.
إن قوله تعالى :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ ليست خاصة للحاكم فقط، بل إن كل إنسان مطالب بالعدل، فلو كنت محكما من طرف قوم ورضوا بك أن تحكم فاحكم بالعدل حتى ولو كان الحكم في الأمور التي يتعلق بها التكريم والشرف والموهبة ؛ فليس ضروريا أن يكون الحكم بالعدل في أمر له قيمة مادية، مثلا : سيدنا الإمام على رضوان الله عليه وكرم الله وجهه يرى غلامين يتحاكمان إلى ابنه الحسن ؛ ليحكم بينهما أي الخطين أجمل من الآخر، وهذه مسالة قد ينظر لها الناس على أنها مسالة تافهة لكنها مادامت شغلت الطفلين وأراد كل واحد منهما أن يكون خطه أجمل، فلابد أن يكون الحكم بالعدل. فقال الإمام علي لابنه الحسن : يا بني انظر كيف تقضي، فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة.
إن هذا يعطينا صورة في دقة العدل حتى ولو كان الأمر صغيرا. وفي مباريات كرة القدم تجد الحكم الذي يقول هذه اللعبة تحتسب هدفا أولا تحتسب، هذا الحكم يحتاج إلى مهارة لأنه سيترتب عليها فوز فريق أو هزيمته، بدليل أنك حتى وأنت تراقب الكرة ثم وجدت الحكم لم يحتسب خطا تثور عليه.
وهنا أتساءل : لماذا طبقتم قانون الجد في اللعب، ثم تركتم الجد بدون قانون ؟ وهذا ما يحدث. نحن ننقل قوانين الجد إلى اللعب، ونترك الجد في بعض الأحيان بدون قانون، ولو اعتنينا بهذه كما اعتنينا بتلك. لتساوت الأمور، فالعدل إذن هو حق في ذمة غير لغير حتى ولو كانت مباراة في اللعب، ومادام الأمر قد شغل طرفين، وجعل بينهما نزاعا وخلافا وتسابقا فعليك أن تنهي هذا الخلاف بالعدل.
ويتابع الحق :﴿ إن الله نعما يعظكم به ﴾ و " نعما " يعني نعم ما يعظكم به الله، أي لا يوجد أفضل من هذه العظة التي هي : أداء الأمانة والحكم بالعدل، فبهذا تستقيم حركة الحياة. فإذا أدى الناس الأمانة فلا نزاع ولا خلاف، وإذا أدوا عدالة الحكم فإن كان هناك خلاف ينتهي. وقال العلماء : إذا علم المجتمع أن عدلا يحرس حقوق الناس عند الناس فلن يجري ذلك ظالما على أن يظلم بعد ذلك، فيقول الظالم : فلان ظلم ولم يحاكم، فيغري ذلك الظالم أن يزيد في ظلمه، لكن ساعة يرى الناس أحدا يأخذ حق غيره ثم جاء الحاكم فردعه، ورد الحق لصاحبه فلن يظلم أحد أحدا.
وسبحانه في أمره هذا لا حاجة له في أن تفعلوا أولا تفعلوا، فهي أشياء لا تؤثر عنده في شيء، إنما هي في مصالحكم أنتم بعضكم مع بعض، وأحسن ألوان الأمر هو ما لا يعود على الآمر بفائدة، لأن الأمر إذا ما كان فيه عود بالفائدة على الآمر قد يشكك في الأمر. لكن أن تأمر بأمر ليس لك فيه فائدة فهذا قمة العدل. وقد يوجد إنسان يأمر بما لا فائدة له فيه، لكنه قد لا يكون واسع العلم ولا واسع الحكمة، والأمر هنا يختلف لأن الله سبحانه وتعالى ليس له مصلحة في الأمر، هذه واحدة، وأيضا فهو سبحانه واسع العلم والحكمة ؛ لذلك كانت
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ٥٩ ﴾.
هذه الآية كثر كلامنا فيها، وفي كل مناسبة من المناسبات جاء الكلام عنها، ولكن علينا أيضا أن نعيد بشيء من الإيجاز ما سبق أن قلناه فيها، الله سبحانه وتعالى يقول :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾، ولماذا أطيع الله وأطيع الرسول ؟ لأن فيه الحيثيات المقدمة، فأنت عندما ترى حكما من القاضي تجد أن هناك حيثيات الحكم أي التبرير القانوني للعقوبة أو للبراءة ؛ فيقول القاضي : بما أنه حدث كذا فقانونه كذا حسب المادة كذا هذه هي الحيثيات. و " الحيثيات : مأخوذة من : حيث إنه حدث كذا فحكمنا بكذا. أو حيث إنه لم يحدث كذا فحكمنا بكذا، إذن فحيثيات الحكم معناها : التبريرات التي تدل على سند الحكم لمن حكم.
هنا يقول سبحانه :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾. وهل الحق سبحانه وتعالى قال : يا أيها الناس أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ؟ لا. لم يقل ذلك، لقد قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾. إذن فمادمت قد آمنت بالله إلها حكيما خالقا عالما مكلفا فاسمع ما يريد أن يقوله لك، فلم يكلف الله مطلق أناس بأن يطيعوه، إنما دعا مطلق الناس أن يؤمنوا به. ومن يؤمن يقول له : أطعني مادمت قد آمنت بي.
إذن فحيثية الطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم نشأت من الإيمان بالله وبالرسول. وهذه عدالة كاملة ؛ لأنه سبحانه لا يكلف واحدا أن يفعل فعلا إلا إذا كان قد آمن به سبحانه مكلفا، آمن به آمرا، أما الذي لا يؤمن به فهو لا يقول له : افعل كذا ولا تفعل كذا، إنه سبحانه يطالبه أن يؤمن به أولا، فإذا ما آمن به يقول له : استمع إلى، ولذلك تجد كل تكليف يصدر بقوله سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾.
إن حيثية إطاعة الله وإطاعة الرسول هي : الإيمان به، هذه هي الحيثية الإيمانية الأولى، أما إن جال ذهنك لتدرك سر الطاعة، فهذا موضوع آخر، ولذلك أوضح : إياكم أن تقبلوا على أحكام الله بالبحث فيها أولا فإن اقتنعتم بها أخذتموها وإن لم تقتنعوا بها تركتموها، لا. إن مثل هذا التصرف معناه أنك شككت في الحكم. بل عليك أن تقبل على تنفيذ أحكامه ؛ لأنه سبحانه قالها وأنت مؤمن بأنه إله حكيم. لكن هل ذلك يمنع عقلك من أن يجول ليفهم الحكمة ؟.
نقول لك : أنت قد تفهم بعض الحكمة، ولكن ليست كل الحكمة ؛ لأن كمالات حكمة الله لا تتناهى، فقد تعرف جزءا من الحكمة وغيرك يعرف جزءا آخر، ولذلك قالوا : إن الفرق بين أمر البشر للبشر، وأمر الله للمؤمنين به شيء يسير جدا هو : أمر الله للبشر تسبقه العلة وهي أنك آمنت به، أما أمر البشر للبشر فأنت تقول لمن يأمرك : أقنعني لماذا أفعل هذه ؟ ؛ لأن عقلك ليس أرقى من عقلي. فأنت لا تصنع شيئا إلا إذا اقتنعت به. وتكون التجارب قد أثبتت لك أصالة رأى من تستمع له وأنه لن يغشك.
وهكذا نرى أن طاعتنا لله تختلف عن طاعتنا للمخلوق ؛ فنحن نطيع الله لأننا آمنا به وحينما يطلب سبحانه منا أن نطيعه، ننظر هل هذه الطاعة لصالحنا أو لصالحه ؟ فإذا وثقنا أنه بكل صفات الكمال الموجودة له خلقنا ؛ إذن فسبحانه لا يريد صفة جديدة تكون له ؛ لأنه لم يخلقنا إلا بصفات الكمال فيه، وسبحانه قد خلقك دون أن يكون لك حق الخلق عنده، خلقك بقدرته، وأمدك لاستبقاء حياتك بقيوميته، فحين يطلب منك الإله الذي يتصف بتلك الكمالات شيئا فهو يطلبه لصالحك، كما ترى أي إنسان من البشر ولله المثل الأعلى يعني بصنعته ويحب أن تكون صنعته متميزة، فكذلك الحق سبحانه وتعالى يريد أن يباهي بهذا الخلق. ويباهي بهذا الخلق ليس بالإكراه على أن يفعلوا ما يأمر به بالتسخير لا. بل بالمحبوبية لأمر الله وأن نعلن بسلوكنا : نحن نحبك يا ربنا. وإلا فأنت أيها الإنسان قد تختار أن تكون عاصيا. ومادمت مخيرا أن تكون عاصيا ثم أطعت، فهذه تثبت لله صفة المحبوبية لأنه ؛ كما نعرف هناك فرق بين من يقهر بقدرته ومن يعطيك الاختيار حتى تأتيه وأنت محب، على الرغم من أنه قادر على أن يقهرك.
فساعة قال الحق :﴿ أطيعوا الله ﴾ معناها : أنه لم يطلب منا شططا، وكيف نطيع الله ؟. أن نطيعه في كل أمر، وهل أمر الله خلقه منفردين ؟. لا، بل أمرهم كأفراد وكجماعة، وأعطاهم الإيمان الفطري الذي يثبت أن وراء الكون قوة أخرى خلقته. وهذه القوة لا يعرف أحد اسمها، ولا مطلوباتها، أو ماذا ستعطي لمن يعطيها ؛ إذن فلابد أن يوجد مبلغ. ولذلك فأنا أرى أن بعض الفلاسفة قد جانبوا الصواب عندما قالوا : إن العقل كاف في إدراك الدين، وأقول لهم : لا. العقل كاف في إدراك من ندين له، ولكن العقل لا يأتي لنا بكيفية الدين ومنهجه.
لذلك لابد من بلاغ عنه يقول : افعلوا كذا وكذا وكذا، نقول لهؤلاء الفلاسفة : إن العقل كاف في استنباط وجود قوة وراء هذا الكون، أما شكل هذه القوة، واسمها وماذا تريد ؛ فلا أحد يعرف ذلك إلا أن يوجد مبلغ عن هذه القوة، ولابد أن تكون القوة التي آمنت بها بفطرتك قد أرسلت من يقول : اسمه كذا، ومطلوبة كذا، إذن فقوله :﴿ أطيعوا الله ﴾ يلزم منها إطاعة الرسول.
وبعد ذلك قال :﴿ وأولي الأمر ﴾ واولي الامر هنا لم يتكرر لهم الفعل، فلم يقل : وأطيعوا أولي الأمر لنفهم أن أولي الأمر لا طاعة لهم إلا من باطن الطاعتين : طاعة الله وطاعة الرسول، ونعلم أن الطاعة تأتي في أساليب القرآن بثلاثة أساليب :﴿ أطيعوا الله والرسول ﴾ و﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾، وأطيعوا الرسول فقط. إذن فثلاثة أساليب في الطاعة :
الأسلوب الأول : أطيعوا الله والرسول ؛ فأمر الطاعة واحد والمطاع هو الله والرسول.
والأسلوب الثاني : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.
والأسلوب الثالث : أطيعوا الرسول، نعم. فالتكليفات يأمر بها الحق سبحانه وتتأكد بحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعله أو تقريره، وهنا تكون الطاعة في الأمر لله وللرسول، أو أن الحق قد أمر إجمالا والرسول عين تفصيلا ؛ فقد أطعنا الله في الإجمال وأطعنا الرسول في التفصيل فتكون الطاعة لله، وتكون الطاعة للرسول، أو أن كان هناك أمر لم يتكلم فيه الله وتكلم الرسول فقط. ويثبت ذلك بقول الحق :
﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ ( من الآية ٨٠سورة النساء ).
وقوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ ( من الآية ٧ سورة الحشر ).
إذن فهذه تثبت أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة ملاحظ في التشريع : ملحظ يشرع فيه ما شرع الله تأكيدا له أو أن الله قد شرع إجمالا، والرسول عين تفصيلا. والأمثلة على ذلك : أن الله فرض علينا خمس صلوات، وفرض علينا الزكاة، وهذه تكليفات قالها ربنا ؛ والرسول يوضحها : النصاب كذا، والسهم كذا، إذن فنحن نطيع ربنا في الأمر إجمالا، ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، أو أن الأمر لم يتكلم فيه الله حكما، وإنما جاء من الرسول بتفويض من الله، ولذلك فإن قال لك أي إنسان عن أي حكم من الأحكام : هات دليله من القرآن ولم تجد دليلا من القرآن فقل له : دليل أي أمر قال به الرسول من القرآن هو قول الحق :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ ( من الآية ٧ سورة الحشر ).
هذا دليل كل أمر تكليفي صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد يقول قائل : هناك فارق بين الأمر الثابت بالسنة والفرض. نقول : لا تخلط بين السنة وهي الأمر الذي ان فعلته تثاب وإن لم تفعله لا تعاقب، والفرض الذي يجب على المكلف أن يفعله، فإن تركه أثم وعوقب على الترك، وهذا الفرض جاء به الحق وأثبته بالدليل كالصلوات الخمس وعدد الركعات في كل صلاة، فالدليل في الفرض هنا ثبت بالسنة وهذا ما يسمى سنية الدليل ؛ وهناك فرق بين سنية الحكم كأن يصلي المسلم قبل الظهر ركعتين وقبل الصبح ركعتين وفرضية الحكم كصلاة الصبح والظهر.. إذن ففيه فرق بين الشيء الذي إن فعلته تثاب عليه وإن لم تفعله لا تعاقب عليه والشيء الذي يفرض عليك أداؤه، فإن تركته أثمت وعوقبت، وأما سنية الدليل فهي شرح ما جاءت به الفروض شرحا تطبيقيا ليتبعه المسلمون.
أما الأمر بطاعة أولي الأمر فقد جاءت بالعطف على المطاع دون أمر بالطاعة، مما يدل على أن طاعة ولي الأمر ملزمة إن كانت من باطن طاعة الله وطاعة رسوله، وفي ذلك عصمة للمجتمع الإيماني من الحكام المتسلطين الذين يحاولون أن يستذلوا الناس بقول الله :﴿ وأولي الأمر ﴾ ويدعون أن طاعتهم واجبة، يقول الواحد منهم : ألست ولي أمر ؟. فيرد العلماء : نعم أنت ولي أمر ولكنك معطوف على المطاع ولم يتكرر لك أمر الطاعة، فدل ذلك على أن طاعتك واجبة إن كانت من باطن الطاعتين. فإن لم تكن من باطن الطاعتين فلا طاعة لك، لأن القاعدة هي﴿ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ﴾، هكذا قال أبو حازم لمسلمة بن عبد الملك حينما قال له : ألسنا ولاة الأمر وقد قال الله :﴿ وأولي الأمر ﴾. قال : ويجب أن نفطن أيضا إلى أنها نزعت في قوله سبحانه :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول ﴾. إذن فالحاكم المسلم مطالب أولا بأداء الأمانة، ومطالب بالعدل، ومطالب أيضا أن تكون طاعته من باطن طاعة الله وطاعة رسوله. فإن لم تكن فيه هذه الشروط، فهو حاكم متسلط. ﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ إذن فالتنازع لا بد من أن يكون في قضية داخلة في نطاق مأمورات الطاعة، ويجب أن يكون لها مرد ينهى هذا التنازع ﴿ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾.
والذين يعرفون هذه الأحكام هم العلماء، فإن تنازع المحكوم مع الحاكم نذهب إلى العلماء ليبينوا لنا حكم الله في هذه المسألة، إذن فإن أريد ب﴿ أولي الأمر ﴾ الحاكم، نقول له :﴿ فردوه إلى الله والرسول ﴾ أي على الحاكم أن يتبع ما ثبت عن الله والرسول، والحجة في ذلك هم العلماء المشتغلون بهذا الأمر، وهم الملاحظون لتنفيذ حكم الله بما يعرفونه عن الدين. والحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا ذلك، يريد أن ينهى مسألة التنازع، لأن التنازع يجعل حركات الحياة متضاربة، هذا بقول بكذا وذلك يقول بكذا، فلابد أن نرده إلى مرد أعلى، والحق يقول :
﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ ( من الآية ٨٣ سورة النساء ).
إذن فقد يكون المراد بأولي الأمر " العلماء ".
نقول : إن الآية الأولى عامة وهي التي جاءت بها طاعة ولي الأمر ضمن طاعة الله والرسول، والثانية التي تخص الاستنباط يكون المقصود بأولي الأمر هم العلماء.
وأولوا الأمر في القضية الأولى التي عندما نتنازع معهم في أمر نرده إلى الله والرسول هم الذين يشرفون على تنفيذ أحكام الله، وهذه سلطة تنفيذية، أما سلطة العلماء فهي تشريعية إيمانية.
﴿ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ إذن فالذي لا يفعل ذلك يجازف بأن يدخل في دائرة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ونقول لكل منهم : راجع إيمانك بالله واليوم الآخر ابتداء في تلقي الحكم، وإيمانا باليوم الآخر لتلقي الجزاء على مخالفة الحكم، فالحق لم يجعل الدنيا دار الجزاء.
وينبهنا الحق في ختام الآ
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ٥٩ ﴾.
هذه الآية كثر كلامنا فيها، وفي كل مناسبة من المناسبات جاء الكلام عنها، ولكن علينا أيضا أن نعيد بشيء من الإيجاز ما سبق أن قلناه فيها، الله سبحانه وتعالى يقول :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾، ولماذا أطيع الله وأطيع الرسول ؟ لأن فيه الحيثيات المقدمة، فأنت عندما ترى حكما من القاضي تجد أن هناك حيثيات الحكم أي التبرير القانوني للعقوبة أو للبراءة ؛ فيقول القاضي : بما أنه حدث كذا فقانونه كذا حسب المادة كذا هذه هي الحيثيات. و " الحيثيات : مأخوذة من : حيث إنه حدث كذا فحكمنا بكذا. أو حيث إنه لم يحدث كذا فحكمنا بكذا، إذن فحيثيات الحكم معناها : التبريرات التي تدل على سند الحكم لمن حكم.
هنا يقول سبحانه :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾. وهل الحق سبحانه وتعالى قال : يا أيها الناس أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ؟ لا. لم يقل ذلك، لقد قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾. إذن فمادمت قد آمنت بالله إلها حكيما خالقا عالما مكلفا فاسمع ما يريد أن يقوله لك، فلم يكلف الله مطلق أناس بأن يطيعوه، إنما دعا مطلق الناس أن يؤمنوا به. ومن يؤمن يقول له : أطعني مادمت قد آمنت بي.
إذن فحيثية الطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم نشأت من الإيمان بالله وبالرسول. وهذه عدالة كاملة ؛ لأنه سبحانه لا يكلف واحدا أن يفعل فعلا إلا إذا كان قد آمن به سبحانه مكلفا، آمن به آمرا، أما الذي لا يؤمن به فهو لا يقول له : افعل كذا ولا تفعل كذا، إنه سبحانه يطالبه أن يؤمن به أولا، فإذا ما آمن به يقول له : استمع إلى، ولذلك تجد كل تكليف يصدر بقوله سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾.
إن حيثية إطاعة الله وإطاعة الرسول هي : الإيمان به، هذه هي الحيثية الإيمانية الأولى، أما إن جال ذهنك لتدرك سر الطاعة، فهذا موضوع آخر، ولذلك أوضح : إياكم أن تقبلوا على أحكام الله بالبحث فيها أولا فإن اقتنعتم بها أخذتموها وإن لم تقتنعوا بها تركتموها، لا. إن مثل هذا التصرف معناه أنك شككت في الحكم. بل عليك أن تقبل على تنفيذ أحكامه ؛ لأنه سبحانه قالها وأنت مؤمن بأنه إله حكيم. لكن هل ذلك يمنع عقلك من أن يجول ليفهم الحكمة ؟.
نقول لك : أنت قد تفهم بعض الحكمة، ولكن ليست كل الحكمة ؛ لأن كمالات حكمة الله لا تتناهى، فقد تعرف جزءا من الحكمة وغيرك يعرف جزءا آخر، ولذلك قالوا : إن الفرق بين أمر البشر للبشر، وأمر الله للمؤمنين به شيء يسير جدا هو : أمر الله للبشر تسبقه العلة وهي أنك آمنت به، أما أمر البشر للبشر فأنت تقول لمن يأمرك : أقنعني لماذا أفعل هذه ؟ ؛ لأن عقلك ليس أرقى من عقلي. فأنت لا تصنع شيئا إلا إذا اقتنعت به. وتكون التجارب قد أثبتت لك أصالة رأى من تستمع له وأنه لن يغشك.
وهكذا نرى أن طاعتنا لله تختلف عن طاعتنا للمخلوق ؛ فنحن نطيع الله لأننا آمنا به وحينما يطلب سبحانه منا أن نطيعه، ننظر هل هذه الطاعة لصالحنا أو لصالحه ؟ فإذا وثقنا أنه بكل صفات الكمال الموجودة له خلقنا ؛ إذن فسبحانه لا يريد صفة جديدة تكون له ؛ لأنه لم يخلقنا إلا بصفات الكمال فيه، وسبحانه قد خلقك دون أن يكون لك حق الخلق عنده، خلقك بقدرته، وأمدك لاستبقاء حياتك بقيوميته، فحين يطلب منك الإله الذي يتصف بتلك الكمالات شيئا فهو يطلبه لصالحك، كما ترى أي إنسان من البشر ولله المثل الأعلى يعني بصنعته ويحب أن تكون صنعته متميزة، فكذلك الحق سبحانه وتعالى يريد أن يباهي بهذا الخلق. ويباهي بهذا الخلق ليس بالإكراه على أن يفعلوا ما يأمر به بالتسخير لا. بل بالمحبوبية لأمر الله وأن نعلن بسلوكنا : نحن نحبك يا ربنا. وإلا فأنت أيها الإنسان قد تختار أن تكون عاصيا. ومادمت مخيرا أن تكون عاصيا ثم أطعت، فهذه تثبت لله صفة المحبوبية لأنه ؛ كما نعرف هناك فرق بين من يقهر بقدرته ومن يعطيك الاختيار حتى تأتيه وأنت محب، على الرغم من أنه قادر على أن يقهرك.
فساعة قال الحق :﴿ أطيعوا الله ﴾ معناها : أنه لم يطلب منا شططا، وكيف نطيع الله ؟. أن نطيعه في كل أمر، وهل أمر الله خلقه منفردين ؟. لا، بل أمرهم كأفراد وكجماعة، وأعطاهم الإيمان الفطري الذي يثبت أن وراء الكون قوة أخرى خلقته. وهذه القوة لا يعرف أحد اسمها، ولا مطلوباتها، أو ماذا ستعطي لمن يعطيها ؛ إذن فلابد أن يوجد مبلغ. ولذلك فأنا أرى أن بعض الفلاسفة قد جانبوا الصواب عندما قالوا : إن العقل كاف في إدراك الدين، وأقول لهم : لا. العقل كاف في إدراك من ندين له، ولكن العقل لا يأتي لنا بكيفية الدين ومنهجه.
لذلك لابد من بلاغ عنه يقول : افعلوا كذا وكذا وكذا، نقول لهؤلاء الفلاسفة : إن العقل كاف في استنباط وجود قوة وراء هذا الكون، أما شكل هذه القوة، واسمها وماذا تريد ؛ فلا أحد يعرف ذلك إلا أن يوجد مبلغ عن هذه القوة، ولابد أن تكون القوة التي آمنت بها بفطرتك قد أرسلت من يقول : اسمه كذا، ومطلوبة كذا، إذن فقوله :﴿ أطيعوا الله ﴾ يلزم منها إطاعة الرسول.
وبعد ذلك قال :﴿ وأولي الأمر ﴾ واولي الامر هنا لم يتكرر لهم الفعل، فلم يقل : وأطيعوا أولي الأمر لنفهم أن أولي الأمر لا طاعة لهم إلا من باطن الطاعتين : طاعة الله وطاعة الرسول، ونعلم أن الطاعة تأتي في أساليب القرآن بثلاثة أساليب :﴿ أطيعوا الله والرسول ﴾ و﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾، وأطيعوا الرسول فقط. إذن فثلاثة أساليب في الطاعة :
الأسلوب الأول : أطيعوا الله والرسول ؛ فأمر الطاعة واحد والمطاع هو الله والرسول.
والأسلوب الثاني : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.
والأسلوب الثالث : أطيعوا الرسول، نعم. فالتكليفات يأمر بها الحق سبحانه وتتأكد بحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعله أو تقريره، وهنا تكون الطاعة في الأمر لله وللرسول، أو أن الحق قد أمر إجمالا والرسول عين تفصيلا ؛ فقد أطعنا الله في الإجمال وأطعنا الرسول في التفصيل فتكون الطاعة لله، وتكون الطاعة للرسول، أو أن كان هناك أمر لم يتكلم فيه الله وتكلم الرسول فقط. ويثبت ذلك بقول الحق :
﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ ( من الآية ٨٠سورة النساء ).
وقوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ ( من الآية ٧ سورة الحشر ).
إذن فهذه تثبت أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة ملاحظ في التشريع : ملحظ يشرع فيه ما شرع الله تأكيدا له أو أن الله قد شرع إجمالا، والرسول عين تفصيلا. والأمثلة على ذلك : أن الله فرض علينا خمس صلوات، وفرض علينا الزكاة، وهذه تكليفات قالها ربنا ؛ والرسول يوضحها : النصاب كذا، والسهم كذا، إذن فنحن نطيع ربنا في الأمر إجمالا، ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، أو أن الأمر لم يتكلم فيه الله حكما، وإنما جاء من الرسول بتفويض من الله، ولذلك فإن قال لك أي إنسان عن أي حكم من الأحكام : هات دليله من القرآن ولم تجد دليلا من القرآن فقل له : دليل أي أمر قال به الرسول من القرآن هو قول الحق :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ ( من الآية ٧ سورة الحشر ).
هذا دليل كل أمر تكليفي صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد يقول قائل : هناك فارق بين الأمر الثابت بالسنة والفرض. نقول : لا تخلط بين السنة وهي الأمر الذي ان فعلته تثاب وإن لم تفعله لا تعاقب، والفرض الذي يجب على المكلف أن يفعله، فإن تركه أثم وعوقب على الترك، وهذا الفرض جاء به الحق وأثبته بالدليل كالصلوات الخمس وعدد الركعات في كل صلاة، فالدليل في الفرض هنا ثبت بالسنة وهذا ما يسمى سنية الدليل ؛ وهناك فرق بين سنية الحكم كأن يصلي المسلم قبل الظهر ركعتين وقبل الصبح ركعتين وفرضية الحكم كصلاة الصبح والظهر.. إذن ففيه فرق بين الشيء الذي إن فعلته تثاب عليه وإن لم تفعله لا تعاقب عليه والشيء الذي يفرض عليك أداؤه، فإن تركته أثمت وعوقبت، وأما سنية الدليل فهي شرح ما جاءت به الفروض شرحا تطبيقيا ليتبعه المسلمون.
أما الأمر بطاعة أولي الأمر فقد جاءت بالعطف على المطاع دون أمر بالطاعة، مما يدل على أن طاعة ولي الأمر ملزمة إن كانت من باطن طاعة الله وطاعة رسوله، وفي ذلك عصمة للمجتمع الإيماني من الحكام المتسلطين الذين يحاولون أن يستذلوا الناس بقول الله :﴿ وأولي الأمر ﴾ ويدعون أن طاعتهم واجبة، يقول الواحد منهم : ألست ولي أمر ؟. فيرد العلماء : نعم أنت ولي أمر ولكنك معطوف على المطاع ولم يتكرر لك أمر الطاعة، فدل ذلك على أن طاعتك واجبة إن كانت من باطن الطاعتين. فإن لم تكن من باطن الطاعتين فلا طاعة لك، لأن القاعدة هي﴿ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ﴾، هكذا قال أبو حازم لمسلمة بن عبد الملك حينما قال له : ألسنا ولاة الأمر وقد قال الله :﴿ وأولي الأمر ﴾. قال : ويجب أن نفطن أيضا إلى أنها نزعت في قوله سبحانه :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول ﴾. إذن فالحاكم المسلم مطالب أولا بأداء الأمانة، ومطالب بالعدل، ومطالب أيضا أن تكون طاعته من باطن طاعة الله وطاعة رسوله. فإن لم تكن فيه هذه الشروط، فهو حاكم متسلط. ﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ إذن فالتنازع لا بد من أن يكون في قضية داخلة في نطاق مأمورات الطاعة، ويجب أن يكون لها مرد ينهى هذا التنازع ﴿ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾.
والذين يعرفون هذه الأحكام هم العلماء، فإن تنازع المحكوم مع الحاكم نذهب إلى العلماء ليبينوا لنا حكم الله في هذه المسألة، إذن فإن أريد ب﴿ أولي الأمر ﴾ الحاكم، نقول له :﴿ فردوه إلى الله والرسول ﴾ أي على الحاكم أن يتبع ما ثبت عن الله والرسول، والحجة في ذلك هم العلماء المشتغلون بهذا الأمر، وهم الملاحظون لتنفيذ حكم الله بما يعرفونه عن الدين. والحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا ذلك، يريد أن ينهى مسألة التنازع، لأن التنازع يجعل حركات الحياة متضاربة، هذا بقول بكذا وذلك يقول بكذا، فلابد أن نرده إلى مرد أعلى، والحق يقول :
﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ ( من الآية ٨٣ سورة النساء ).
إذن فقد يكون المراد بأولي الأمر " العلماء ".
نقول : إن الآية الأولى عامة وهي التي جاءت بها طاعة ولي الأمر ضمن طاعة الله والرسول، والثانية التي تخص الاستنباط يكون المقصود بأولي الأمر هم العلماء.
وأولوا الأمر في القضية الأولى التي عندما نتنازع معهم في أمر نرده إلى الله والرسول هم الذين يشرفون على تنفيذ أحكام الله، وهذه سلطة تنفيذية، أما سلطة العلماء فهي تشريعية إيمانية.
﴿ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ إذن فالذي لا يفعل ذلك يجازف بأن يدخل في دائرة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ونقول لكل منهم : راجع إيمانك بالله واليوم الآخر ابتداء في تلقي الحكم، وإيمانا باليوم الآخر لتلقي الجزاء على مخالفة الحكم، فالحق لم يجعل الدنيا دار الجزاء.
وينبهنا الحق في ختام الآ
نعرف أن ﴿ ألم تر ﴾ تعني : ألم تعلم، إن كان المعلوم قد سبق الحديث عنه، أو إن كان المعلوم ظاهرا حادثا بحيث تراه، ونعرف أن الحق عبر ب " ألم تر " في كثير من القضايا التي لم يدركها المخاطب وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدلنا على أن ما يقوله الله وإن كان خبرا عما مضى يجب أن تؤمن به إيمانك بالمرئي لك الآن، لأن الله أوثق في الصدق من عينيك ؛ فعينك قد تخدعك، لكن حاشا أن يخدعنا الله.
﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ والمراد هم المنافقون وبعض من أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. و " الزعم " : مطية الكذب، فهم " يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " وهو القرآن ؛ ﴿ وما أنزل من قبلك ﴾، وهو التوراة والإنجيل و " يريدون " بعد ادعاء الإيمان ؛ ﴿ أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾، والتحاكم إلى شيء هو : الاستغاثة أو اللجوء إلى ذلك الشيء لينهى قضية الخلاف. فعندما نقول :" تحاكمنا إلى فلان "، فمعنى قولنا هذا : أننا سئمنا من آثار الخلاف من شحناء وبغضاء، ونريد أن نتفق إلى أن نتحاكم، ولا يتفق الخصمان ان يتحاكمان الى شيء الا اذا كان الطرفان قد اجهدهما الخصام فهما مختلفان على قضية، وأصاب التعب كلا منهما.
﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾. و " الطاغوت " كما عرفنا هو الشخص الذي تزيده الطاعة طغيانا، فهناك طاغ أي ظالم، ولما رأى الناس تخافه استمرأ واستساغ الظلم مصداقا لقول الحق :﴿ فاستخف قومه فأطاعوه ﴾ ( من الآية ٥٤ سورة الزخرف ).
وهذا اسمه " طاغوت مبالغة في الطغيان. والطاغوت يطلق على المعتدي الكثير الطغيان سواء أكان أناسا يعبدون من دون الله ولهم تشريعات ويأمرون وينهون، أم كان الشيطان الذي يغري الناس، أم كان حاكما جبارا يخاف الناس شره، وأي مظهر من تلك المظاهر يعتبر طاغوتا. وقالوا : لفظ الطاغوت يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع فنقول : رجل طاغوت، ورجلان طاغوت، ورجال طاغوت، يأتي للجمع كقوله الحق :
﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ﴾ ( من الآية ٢٥٧ سورة البقرة ).
ويأتي للمفرد كقوله الحق :﴿ وقد أمروا أن يكفروا به ﴾ ( من الآية ٦٠ سورة النساء ).
إذن فمرة يأتي للجمع ومرة يأتي للمفرد، وفي كل حكم قرآني قد نجد سببا مخصوصا نزل من أجله الحكم، فلا يصح أن نقول : إن حكما نزل لقضية معينة ولا يعدى إلى غيرها، وهو يعدى إلى غيرها إذا اشترك معها في الأسباب والظروف، فالعبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب.
لقد نزلت هذه الآية في قضية منافق اسمه " بشر ". حدث خلاف بينه وبين يهودي، وأراد اليهودي أن يتحاكم إلى رسول الله، وأراد المنافق أن يتحاكم إلى " كعب بن الأشرف "، وكان اليهودي واثقا أن الحق له ولم يطلب التحاكم إلى النبي حبا فيه، بل حبا في عدله، ولذلك آثر من يعدل، فطلب حكم رسول الله، أما المنافق الذي يعلن إسلامه ويبطن ويخفى كفره فهو الذي قال : نذهب إلى كعب بن الأشرف الطاغوت، وهذه تعطينا حيثية لصدق رسول الله في البلاغ عن الله في قوله :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾.
وكون اليهودي يريد أن يتحاكم إلى رسول الله، فهذه تدل على ثقته في أن رسول الله لن يضيع عنده الحق، ولم يطلب التحاكم إلى كبير من كبراء اليهود مثل " كعب بن الأشرف " لأنه يعرف أنه يرتشي.
ويختم الحق الآية :﴿ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ فهما حين يتحاكمان إلى الطاغوت وهو " كعب بن الأشرف " ؛ وبعد ذلك يقضي لمن ليس له حق، سيغري مثل هذا الحكم كل من له رغبة في الظلم أن يظلم، ويذهب له ليتحاكم إليه ! فالضلال البعيد جاء هنا لأن الظلم سيتسلسل، فيكون على القاضي غير العادل وزر كل قضية يحكم فيها بالباطل، هذا هو معنى " الضلال البعيد "، وليت الضلال يقتصر عليهم، ولكن الضلال سيكون ممتدا.
﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ والمراد هم المنافقون وبعض من أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. و " الزعم " : مطية الكذب، فهم " يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " وهو القرآن ؛ ﴿ وما أنزل من قبلك ﴾، وهو التوراة والإنجيل و " يريدون " بعد ادعاء الإيمان ؛ ﴿ أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾، والتحاكم إلى شيء هو : الاستغاثة أو اللجوء إلى ذلك الشيء لينهى قضية الخلاف. فعندما نقول :" تحاكمنا إلى فلان "، فمعنى قولنا هذا : أننا سئمنا من آثار الخلاف من شحناء وبغضاء، ونريد أن نتفق إلى أن نتحاكم، ولا يتفق الخصمان ان يتحاكمان الى شيء الا اذا كان الطرفان قد اجهدهما الخصام فهما مختلفان على قضية، وأصاب التعب كلا منهما.
﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾. و " الطاغوت " كما عرفنا هو الشخص الذي تزيده الطاعة طغيانا، فهناك طاغ أي ظالم، ولما رأى الناس تخافه استمرأ واستساغ الظلم مصداقا لقول الحق :﴿ فاستخف قومه فأطاعوه ﴾ ( من الآية ٥٤ سورة الزخرف ).
وهذا اسمه " طاغوت مبالغة في الطغيان. والطاغوت يطلق على المعتدي الكثير الطغيان سواء أكان أناسا يعبدون من دون الله ولهم تشريعات ويأمرون وينهون، أم كان الشيطان الذي يغري الناس، أم كان حاكما جبارا يخاف الناس شره، وأي مظهر من تلك المظاهر يعتبر طاغوتا. وقالوا : لفظ الطاغوت يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع فنقول : رجل طاغوت، ورجلان طاغوت، ورجال طاغوت، يأتي للجمع كقوله الحق :
﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ﴾ ( من الآية ٢٥٧ سورة البقرة ).
ويأتي للمفرد كقوله الحق :﴿ وقد أمروا أن يكفروا به ﴾ ( من الآية ٦٠ سورة النساء ).
إذن فمرة يأتي للجمع ومرة يأتي للمفرد، وفي كل حكم قرآني قد نجد سببا مخصوصا نزل من أجله الحكم، فلا يصح أن نقول : إن حكما نزل لقضية معينة ولا يعدى إلى غيرها، وهو يعدى إلى غيرها إذا اشترك معها في الأسباب والظروف، فالعبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب.
لقد نزلت هذه الآية في قضية منافق اسمه " بشر ". حدث خلاف بينه وبين يهودي، وأراد اليهودي أن يتحاكم إلى رسول الله، وأراد المنافق أن يتحاكم إلى " كعب بن الأشرف "، وكان اليهودي واثقا أن الحق له ولم يطلب التحاكم إلى النبي حبا فيه، بل حبا في عدله، ولذلك آثر من يعدل، فطلب حكم رسول الله، أما المنافق الذي يعلن إسلامه ويبطن ويخفى كفره فهو الذي قال : نذهب إلى كعب بن الأشرف الطاغوت، وهذه تعطينا حيثية لصدق رسول الله في البلاغ عن الله في قوله :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾.
وكون اليهودي يريد أن يتحاكم إلى رسول الله، فهذه تدل على ثقته في أن رسول الله لن يضيع عنده الحق، ولم يطلب التحاكم إلى كبير من كبراء اليهود مثل " كعب بن الأشرف " لأنه يعرف أنه يرتشي.
ويختم الحق الآية :﴿ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ فهما حين يتحاكمان إلى الطاغوت وهو " كعب بن الأشرف " ؛ وبعد ذلك يقضي لمن ليس له حق، سيغري مثل هذا الحكم كل من له رغبة في الظلم أن يظلم، ويذهب له ليتحاكم إليه ! فالضلال البعيد جاء هنا لأن الظلم سيتسلسل، فيكون على القاضي غير العادل وزر كل قضية يحكم فيها بالباطل، هذا هو معنى " الضلال البعيد "، وليت الضلال يقتصر عليهم، ولكن الضلال سيكون ممتدا.
وعندما نسمع قول الحق :" تعالوا "، فهذا يعني نداء بمعنى : اقبلوا، ولكن كلمة " أقبلوا " تعني الإقبال على المساوي لك، أما كلمة " تعالوا " فهي تعني الإقبال على الأعلى. فكأن لقضايا البشر تشريعا هابطا ؛ لأنه من صناعة العقل البشري، وصناعة العقل البشري في قوانين صيانة المجتمعات على فرض أننا أثبتنا حسن نياتهم وإخلاصهم تكون على قدر مستوياتهم في الاستنباط واستقراء الأحداث.
لكن التشريع حينما يأتي من الله يكون عاليا ؛ لأنه سبحانه لا تغيب عنه جزئية مهما صغرت، لكن التقنين البشري يوضع لحالة راهنة وتأتي أحداث بعدها تستوجب تعديله، وتعديل القانون معناه أن الأحداث قد أثبتت قصور القانون وأنه قانون غير مستوعب للجديد، وهذا ناشئ من أن أحداثا جدت لم تكن في بال من قنن لصيانة المجتمع، وكان ذهن مشرع القانون الوضعي قاصرا عنها، كما أن تعديل أي قانون لا يحدث إلا بعد أن يرى المشرع الآثار الضارة في المجتمع، تلك الآثار التي نشأت من قانونه الأول، وضغطت أحداث الحياة ضغطا كبيرا ليعدلوا في الأحكام والقوانين.
أما تشريع الله فهو يحمي المجتمع من أن تقع هذه الأحداث من البداية، هذا هو الفارق بين تشريع وضعي بشري جاء لينقذنا من الأحداث، وتشريع رباني إلهي يقينا من تلك الأحداث. فالتشريع البشري كمثل الطب العلاجي. أما التشريع السماوي فهو كالطب الوقائي، والوقاية خير من العلاج.
لذلك جاء الحق سبحانه بالتشريعات التي تقينا وتحمينا من شر الأحداث، أي أنه يمنع عن الإنسان الضرر قبل أن يوجد ؛ وبذلك تتحقق رحمته سبحانه لطائفة من البشر عن أن تعضهم الأحداث، بينما نجد للقانون الوضعي ضحايا، فيرق قلب المشرعين بعد رؤية هؤلاء الضحايا ليضعوا التعديل لأحكام وضعوها من قبل، ففي القانون الوضعي نجد بشرا يقع عليهم عبء الظلم لأنه قانون لا يستوعب صيانة الإنسان صيانة شاملة، وبعد حين من الزمن يتدخل المشرعون لتعديل قوانينهم، وإلى أن يتم التقنين يقع البشر في دائرة الغبن وعدم الحصول على العدل. أما الخالق سبحانه فقد برأ وخلق صنعته وهو أعلم بها ؛ لذلك لم يغبن أحدا على حساب أحد ؛ فوضع تشريعاته السماوية، ولذلك يقول الحق :
﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ﴾ ( من الآية ٨٢ سورة الإسراء ).
" شفاء " إذا وجد الداء من غفلة تطرأ علينا، " ورحمة " وذلك حتى لا يأتي الداء. الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾. إنه سبحانه يضع من الأحداث ما يفضحهم فيتصرفون بما يكشف نفاقهم، وبعد ذلك يخطرهم الرسول ويعرف عنهم المجتمع أنهم منافقون.
وهم ﴿ يصدون عنك صدودا ﴾ أي يعرضون عنك يا رسول الله لأنهم منافقون، وكل منافق عنده قضيتان : قضية لسانية وقضية قلبية ؛ فهو باللسان يعلن إيمانه بالله وبرسول الله، وفي القلب تتعارض ملكاته عكس المؤمن أو الكافر، فالمؤمن ملكاته متساندة ؛ لأن قلبه انعقد على الإيمان ويقود انسجام الملكات إلى الهدى، والكافر أيضا ملكاته متساندة ؛ لأنه قال : إنه لم يؤمن ويقوده انسجام ملكاته إلى الضلال، لكن المنافق يبعثر ملكاته ! ! ملكة هنا وملكة هناك، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار، الكافر منطقي مع نفسه، فلم يعلن الإيمان ؛ لأن قلبه لم يقتنع، وكان من الممكن أن يقول كلمة الإيمان لكن لسانه لا يرضى أن ينطق عكس ما في القلب، وعداوته للإسلام واضحة. أما المنافق فيقول : يا لساني.. أعلن كلمة الإيمان ظاهرا ؛ كي أنفذ من هذا الإعلان إلى أغراضي وأن تطبق علي أحكام الإسلام فأنتفع بأحكام الإسلام، وأنا من صميم نفسي إن وجدت فرصة ضد الإسلام فسأنتهزها. ولذلك يقول الحق :﴿ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ٦٢ ﴾.
لكن التشريع حينما يأتي من الله يكون عاليا ؛ لأنه سبحانه لا تغيب عنه جزئية مهما صغرت، لكن التقنين البشري يوضع لحالة راهنة وتأتي أحداث بعدها تستوجب تعديله، وتعديل القانون معناه أن الأحداث قد أثبتت قصور القانون وأنه قانون غير مستوعب للجديد، وهذا ناشئ من أن أحداثا جدت لم تكن في بال من قنن لصيانة المجتمع، وكان ذهن مشرع القانون الوضعي قاصرا عنها، كما أن تعديل أي قانون لا يحدث إلا بعد أن يرى المشرع الآثار الضارة في المجتمع، تلك الآثار التي نشأت من قانونه الأول، وضغطت أحداث الحياة ضغطا كبيرا ليعدلوا في الأحكام والقوانين.
أما تشريع الله فهو يحمي المجتمع من أن تقع هذه الأحداث من البداية، هذا هو الفارق بين تشريع وضعي بشري جاء لينقذنا من الأحداث، وتشريع رباني إلهي يقينا من تلك الأحداث. فالتشريع البشري كمثل الطب العلاجي. أما التشريع السماوي فهو كالطب الوقائي، والوقاية خير من العلاج.
لذلك جاء الحق سبحانه بالتشريعات التي تقينا وتحمينا من شر الأحداث، أي أنه يمنع عن الإنسان الضرر قبل أن يوجد ؛ وبذلك تتحقق رحمته سبحانه لطائفة من البشر عن أن تعضهم الأحداث، بينما نجد للقانون الوضعي ضحايا، فيرق قلب المشرعين بعد رؤية هؤلاء الضحايا ليضعوا التعديل لأحكام وضعوها من قبل، ففي القانون الوضعي نجد بشرا يقع عليهم عبء الظلم لأنه قانون لا يستوعب صيانة الإنسان صيانة شاملة، وبعد حين من الزمن يتدخل المشرعون لتعديل قوانينهم، وإلى أن يتم التقنين يقع البشر في دائرة الغبن وعدم الحصول على العدل. أما الخالق سبحانه فقد برأ وخلق صنعته وهو أعلم بها ؛ لذلك لم يغبن أحدا على حساب أحد ؛ فوضع تشريعاته السماوية، ولذلك يقول الحق :
﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ﴾ ( من الآية ٨٢ سورة الإسراء ).
" شفاء " إذا وجد الداء من غفلة تطرأ علينا، " ورحمة " وذلك حتى لا يأتي الداء. الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾. إنه سبحانه يضع من الأحداث ما يفضحهم فيتصرفون بما يكشف نفاقهم، وبعد ذلك يخطرهم الرسول ويعرف عنهم المجتمع أنهم منافقون.
وهم ﴿ يصدون عنك صدودا ﴾ أي يعرضون عنك يا رسول الله لأنهم منافقون، وكل منافق عنده قضيتان : قضية لسانية وقضية قلبية ؛ فهو باللسان يعلن إيمانه بالله وبرسول الله، وفي القلب تتعارض ملكاته عكس المؤمن أو الكافر، فالمؤمن ملكاته متساندة ؛ لأن قلبه انعقد على الإيمان ويقود انسجام الملكات إلى الهدى، والكافر أيضا ملكاته متساندة ؛ لأنه قال : إنه لم يؤمن ويقوده انسجام ملكاته إلى الضلال، لكن المنافق يبعثر ملكاته ! ! ملكة هنا وملكة هناك، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار، الكافر منطقي مع نفسه، فلم يعلن الإيمان ؛ لأن قلبه لم يقتنع، وكان من الممكن أن يقول كلمة الإيمان لكن لسانه لا يرضى أن ينطق عكس ما في القلب، وعداوته للإسلام واضحة. أما المنافق فيقول : يا لساني.. أعلن كلمة الإيمان ظاهرا ؛ كي أنفذ من هذا الإعلان إلى أغراضي وأن تطبق علي أحكام الإسلام فأنتفع بأحكام الإسلام، وأنا من صميم نفسي إن وجدت فرصة ضد الإسلام فسأنتهزها. ولذلك يقول الحق :﴿ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ٦٢ ﴾.
والمنافقون يواجهون تساؤلا : لماذا ذهبتم للطاغوت ليحكم بينكم وتركتم رسول الله ؟. فقالوا : نحن أردنا إحسانا، وأن نرفق بك فلا تتعب نفسك بمشكلاتنا، ونريد أن نوفق توفيقا بعيدا عنك كيلا تصلك المسائل فتشق عليك، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطا على حكمك ؛ وهم يقولون هذا بعد أن انفضحوا أمام الناس.
﴿ فكيف إذا أصابتهم مصيبة ﴾ والمصيبة هي الأمر يطرأ على الإنسان بما يضره في عرفه ؛ ولأنهم منافقون فهم يريدون أن يكون هذا النفاق مكتوما، فإذا جاءت حادثة لتفضحهم صارت مصيبة. على الرغم من أن الحادثة في واقعها ليست مصيبة. فعندما نعرف المنافقين ونظهرهم أمام أنفسهم وأمام الناس فنحن نكفي أنفسنا شرهم. وهم يريدون بالنفاق أمورا لأنفسهم.
وهكذا يكون الكشف لنفاقهم مصيبة بالنسبة لهم، هم يرون النفاق نفعا لهم ؛ فبه يستفيدون من أحكام الإسلام وإجرائها وتطبيقها عليهم، وعندما ينفضح نفاقهم يشعرون بالمصيبة، مثلهم كمثل الذي ذهب ليسرق، ثم فوجئ وهو داخل المكان ليسرق أن الشرطة موجودة لتقبض عليه، وهذا في الواقع نعمة لأنها تضرب على أيدي المجرم العابث، لكنها بالنسبة له مصيبة.
﴿ فكيف إذا أصابتهم مصيبة ﴾ والمصيبة هي الأمر يطرأ على الإنسان بما يضره في عرفه ؛ ولأنهم منافقون فهم يريدون أن يكون هذا النفاق مكتوما، فإذا جاءت حادثة لتفضحهم صارت مصيبة. على الرغم من أن الحادثة في واقعها ليست مصيبة. فعندما نعرف المنافقين ونظهرهم أمام أنفسهم وأمام الناس فنحن نكفي أنفسنا شرهم. وهم يريدون بالنفاق أمورا لأنفسهم.
وهكذا يكون الكشف لنفاقهم مصيبة بالنسبة لهم، هم يرون النفاق نفعا لهم ؛ فبه يستفيدون من أحكام الإسلام وإجرائها وتطبيقها عليهم، وعندما ينفضح نفاقهم يشعرون بالمصيبة، مثلهم كمثل الذي ذهب ليسرق، ثم فوجئ وهو داخل المكان ليسرق أن الشرطة موجودة لتقبض عليه، وهذا في الواقع نعمة لأنها تضرب على أيدي المجرم العابث، لكنها بالنسبة له مصيبة.
وعندما تحدث لهؤلاء المنافقين مصيبة فهم يحلفون بالله كذبا لأنهم يريدون استدامة نفاقهم.. ويحاولون أن يعتذروا عما حدث، يحلفون بالله إنهم بالذهاب إلى الطاغوت وأرادوا الإحسان والتوفيق بينهم وبين خصومهم. لكن الحق يعلم ما يخفون وما يعلنون.
فيقول سبحانه :
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ٦٣ ﴾.
وناهيك بعلم الله، ولذلك يقول ربنا :
﴿ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ﴾ ( من الآية ٣٠سورة محمد ).
يعني : نحن لو شئنا أن نقول لك من هم لقلنا لك ودللناك عليهم حتى تعرفهم بأعيانهم، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم لعلهم يتوبون، ولتعرفنهم من فحوى كلامهم وأسلوبهم.
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ لقد ذهبوا ليتحاكموا إلى الطاغوت، وقد ذهبوا إلى هناك لعلمهم انهم ليسوا على حق، ولأنهم إن ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيحكم بالحق، والحق يضارهم ويضايقهم، فهل كانوا بالفعل يريدون إحسانا وتوفيقا، أو كانوا لا يريدون الحق ؟. لقد أرادوا الحكم المزور.
لذلك يأتي الأمر من الحق لرسوله :﴿ فأعرض عنهم ﴾ ؛ لأنك إن عاقبتهم فقد أخذت منهم حقك، والله يريد أن يبقى حقك ليقتص سبحانه لك منهم، وأعرض أيضا عنهم لأننا نريد أن يظهر منهم في كل فترة شيئا لنعلم المجتمع الإيماني اليقظة إلى أن هناك أناسا مدسوسين بينهم، لذلك لابد من الحذر والتدبر. كما أنك إذا أعرضت عنهم أسقطتهم من حساب دعوتك.
" وعظهم " أي قل لهم : استحوا من أفعالكم. ﴿ وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ أي قل لهم قولا يبلغ الغاية من النفس البشرية ويبلغ الغاية من الوعظ، أي يوعدهم الوعيد الذي يخيفهم كي يبلغ من أنفسهم مبلغا، أو ﴿ قل لهم في أنفسهم ﴾ أي أفضح لهم ما يسترون ؛ كي يعرفوا أن الله مطلعك على ما في أنفسهم فيستحوا من فعلهم ولا يفعلوه، قل لهم ذلك بدون أن تفضحهم أمام الناس ؛ لأن عدم فضحهم أمام الناس يجعل فيهم شيئا من الحياء، وأيضا لأن العظة تكون ذات أثر طيب إذا كان الواعظ في خلوة مع الموعوظ فيناجيه ولا يفضحه، ففضح الموعوظ أمام الناس ربما أثار فيه غريزة العناد، لكن عندما تعظه في السر يعرف أنك لا تزال به رحيما، ولا تزال تعامله بالرفق والحسنى.
﴿ وعظهم وقل لهم في أنفسهم ﴾ وإنك لو فعلت ذلك علنا فستعطي الأسوة لغيرك أن يفعل. والله قد أطلعك على ما في قلوب هؤلاء من الكفر أما غيرك فلا يطلعه الله على غيب ولو رمى أحدا بذنب أو كفر فلعله لا يصادف الحق والواقع وتشريعنا يقول لنا :" ادرءوا الحدود بالشبهات ".
والتطبيق لهذا التشريع نجده عندما يتم القبض على سارق، لكن هناك شبهة في الاتهام، هذه الشبهة يجب أن تفسر في صالح المتهم، وندرأ الحد لوجود شبهة ؛ فليس من مصلحة المسلمين أن نقول كل يوم : إننا قطعنا يد سارق أو رجمنا زانية. لكن إذا افتضحت الجرائم وليس في ارتكابها شبهة والمسألة واضحة فلابد أن نضرب على أيدي المجرمين. فنحن ندرأ الحد بالشبهة حتى لا نلحق ضررا أو ننال من برئ، ونطبق الحد حتى يرتدع كل من تسول له نفسه أمرا محرما حتى لا يرتكب الأمر المحرم. وعندما يقام الحد في أي بيئة ؟، فإنه لا يقام إلا لفترة قليلة وتتراجع بعدها الجرائم، ولا يرى أحد سارقا أو زانيا.
إذن فقول الله :﴿ وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ يعني : قل لهم ما يهددهم تهديدا يصل إلى أعماق نفوسهم، أو﴿ وقل لهم في أنفسهم ﴾ بأن تكشف مستورات عيوبهم أو قل لهم في أنفسهم بينك وبينهم ؛ لأن هذا أدعى إلى أن يتقبلوه منك ولا يوغر صدورهم ويثير فيهم غريزة العناد.
فيقول سبحانه :
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ٦٣ ﴾.
وناهيك بعلم الله، ولذلك يقول ربنا :
﴿ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ﴾ ( من الآية ٣٠سورة محمد ).
يعني : نحن لو شئنا أن نقول لك من هم لقلنا لك ودللناك عليهم حتى تعرفهم بأعيانهم، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم لعلهم يتوبون، ولتعرفنهم من فحوى كلامهم وأسلوبهم.
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ لقد ذهبوا ليتحاكموا إلى الطاغوت، وقد ذهبوا إلى هناك لعلمهم انهم ليسوا على حق، ولأنهم إن ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيحكم بالحق، والحق يضارهم ويضايقهم، فهل كانوا بالفعل يريدون إحسانا وتوفيقا، أو كانوا لا يريدون الحق ؟. لقد أرادوا الحكم المزور.
لذلك يأتي الأمر من الحق لرسوله :﴿ فأعرض عنهم ﴾ ؛ لأنك إن عاقبتهم فقد أخذت منهم حقك، والله يريد أن يبقى حقك ليقتص سبحانه لك منهم، وأعرض أيضا عنهم لأننا نريد أن يظهر منهم في كل فترة شيئا لنعلم المجتمع الإيماني اليقظة إلى أن هناك أناسا مدسوسين بينهم، لذلك لابد من الحذر والتدبر. كما أنك إذا أعرضت عنهم أسقطتهم من حساب دعوتك.
" وعظهم " أي قل لهم : استحوا من أفعالكم. ﴿ وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ أي قل لهم قولا يبلغ الغاية من النفس البشرية ويبلغ الغاية من الوعظ، أي يوعدهم الوعيد الذي يخيفهم كي يبلغ من أنفسهم مبلغا، أو ﴿ قل لهم في أنفسهم ﴾ أي أفضح لهم ما يسترون ؛ كي يعرفوا أن الله مطلعك على ما في أنفسهم فيستحوا من فعلهم ولا يفعلوه، قل لهم ذلك بدون أن تفضحهم أمام الناس ؛ لأن عدم فضحهم أمام الناس يجعل فيهم شيئا من الحياء، وأيضا لأن العظة تكون ذات أثر طيب إذا كان الواعظ في خلوة مع الموعوظ فيناجيه ولا يفضحه، ففضح الموعوظ أمام الناس ربما أثار فيه غريزة العناد، لكن عندما تعظه في السر يعرف أنك لا تزال به رحيما، ولا تزال تعامله بالرفق والحسنى.
﴿ وعظهم وقل لهم في أنفسهم ﴾ وإنك لو فعلت ذلك علنا فستعطي الأسوة لغيرك أن يفعل. والله قد أطلعك على ما في قلوب هؤلاء من الكفر أما غيرك فلا يطلعه الله على غيب ولو رمى أحدا بذنب أو كفر فلعله لا يصادف الحق والواقع وتشريعنا يقول لنا :" ادرءوا الحدود بالشبهات ".
والتطبيق لهذا التشريع نجده عندما يتم القبض على سارق، لكن هناك شبهة في الاتهام، هذه الشبهة يجب أن تفسر في صالح المتهم، وندرأ الحد لوجود شبهة ؛ فليس من مصلحة المسلمين أن نقول كل يوم : إننا قطعنا يد سارق أو رجمنا زانية. لكن إذا افتضحت الجرائم وليس في ارتكابها شبهة والمسألة واضحة فلابد أن نضرب على أيدي المجرمين. فنحن ندرأ الحد بالشبهة حتى لا نلحق ضررا أو ننال من برئ، ونطبق الحد حتى يرتدع كل من تسول له نفسه أمرا محرما حتى لا يرتكب الأمر المحرم. وعندما يقام الحد في أي بيئة ؟، فإنه لا يقام إلا لفترة قليلة وتتراجع بعدها الجرائم، ولا يرى أحد سارقا أو زانيا.
إذن فقول الله :﴿ وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ يعني : قل لهم ما يهددهم تهديدا يصل إلى أعماق نفوسهم، أو﴿ وقل لهم في أنفسهم ﴾ بأن تكشف مستورات عيوبهم أو قل لهم في أنفسهم بينك وبينهم ؛ لأن هذا أدعى إلى أن يتقبلوه منك ولا يوغر صدورهم ويثير فيهم غريزة العناد.
والغرض من إرسال الحق للرسول هو أن يعلم الناس شرع الله المتمثل في المنهج، وأن يهديهم إلى دين الحق. والمنهج يحمل قواعد هي : افعل، ولا تفعل، وما لا يرد فيه " افعل ولا تفعل " من أمور الحياة فالإنسان حر في اختيار ما يلائمه. وأي رسول لا يأتي بتكليفات من ذاته، بل إن التكليفات تجيء بإذن الله. وهو لا يطاع إلا بإذن من الله. فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء بطاعة الله إلا أن يفوض من الله في أمور أخرى، وقد فوض الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله الحق :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ ( من الآية ٧سورة الحشر ).
فالمؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إذن عليهم طاعة الرسول في إطار ما فوضه الله والله أذن له أن يشرع.
ويتابع الحق :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ﴾. وظلم النفس : أن تحقق لها شهوة عاجلة لتورثها شقاء دائما. وظلم النفس أشقى أنواع الظلم، فمن المعقول أن يظلم الإنسان غيره، أما أن يظلم نفسه فليس معقولا. وأي عاص يترك واجبا تكليفيا ويقبل على أمر منهي عنه، قد يظن في ظاهر الأمر أنه يحقق لنفسه متعة، بينما هو يظلم نفسه ظلما قاسيا ؛ فالذي يترك الصلاة ويتكاسل أو يشرب الخمر أو يرتكب أي معصية نقول له : أنت ظلمت نفسك ؛ لأنك ظننت أنك تحقق لنفسك متعة بينما أورثتها شقاء أعنف وأبقى وأخلد، ولست أمينا على نفسك.
والنفس كما نعلم تطلق على اجتماع الروح بالمادة، وهذا الاجتماع هو ما يعطي النفس الإنسانية صفة الاطمئنان أو صفة الأمارة بالسوء، أو صفة النفس اللوامة. وساعة تأتي الروح مع المادة تنشأ النفس البشرية. والروح قبلما تتصل بالمادة هي خيرة بطبيعتها، والمادة قبلما تتصل بالروح خيرة بطبيعتها ؛ فالمادة مقهورة لإرادة قاهرها وتفعل كل ما يطلبه منها. فإياك أن تقول : الحياة المادية والحياة الروحية، وهذه كذا وكذا. لا.
إن المادة على إطلاقها خيرة، طائعة، مسخرة، عابدة، مسبحة. والروح على إطلاقها كذلك، فمتى يأتي الفساد ؟. ساعة تلتقي الروح بالمادة ويوجد هذا التفاعل نقول : أنت يا مكلف ستطمئن إلى حكم الله وتنتهي المسالة أم ستبقى نفسك لوامة أم ستستمرئ المعصية وتكون نفسك أمارة بالسوء ؟.
فمن يظلم من إذن ؟. إنه هواك في المخالفة الذي يظلم مجموع النفس من روحها ومادتها، فأنت في ظاهر الأمر تحقق شهوة لنفسك بالمخالفة، لكن في واقع الأمر أنك تتعب نفسك، ﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ﴾. ولنعلم أن هناك فرقا بين أن يأتي الفاحشة إنسان ليحقق لنفسه شهوة. وأن يظلم نفسه، فالحق يقول :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ ( من الآية١٣٥ سورة آل عمران ).
إذن فارتكاب الفاحشة شيء وظلم النفس شيء آخر، " فعل الفاحشة " قد متع إنسان نفسه قليلا، لكن كم ظلم نفسه لم يفعل ذلك. فهو لم يمتعها ولم يتركها على حالها، إذن فقد ظلم نفسه ؛ لا أعطاها شهوة في الدنيا ؛ ولم يرحمها من عذاب الآخرة، فمثلا شاهد الزور الذي يشهد ليأخذ واحد حق آخر، هذا ظلم قاس للنفس، ولذلك قال الرسول :
( بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا )١.
﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله ﴾. وظلم النفس أيضا بأن يرفع الإنسان أمره إلى الطاغوت مثلا، لكن عندما يرفع الإنسان أمره للحاكم، لا تعرف أيحكم لنا أم لا ؛ وقد يهديه الله ساعة الحكم.
إن قوله :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ﴾ فالمسألة أنهم امتنعوا من المجيء إليك يا رسول الله ؛ فأول مرتبة أن يرجعوا عما فعلوه، وبعد ذلك يستغفرون الله ؛ لأن الذنب بالنسبة لعدم مجيئهم للرسول قبل أن يتعلق بالرسول تعلق بمن بعث الرسول، ولذلك يقولون : إهانة الرسول تكون إهانة للمرسل ؛ فصحيح أن عدم ذهابهم للرسول هو أمر متعلق بالرسول ولكن إذا صعدته تجده متعلقا بمن بعث الرسول وهو الله، لأن الرسول لم يأت بشيء من عنده، وبعد أن تطيب نفس الرسول فيستغفر الله لهم، إذن فأولا : يجيئون، وثانيا : يستغفرون الله وثالثا : يستغفر لهم الرسول.
وبعد ذلك يقول سبحانه :﴿ لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ إذن فوجدان الله توابا رحيما مشروط بعودتهم للرسول بدلا من الإعراض عنه ثم أن يستغفروا الله ؛ لأن الله ما أرسل من رسول إلا ليطاع بإذنه، فعندما تختلف معه لا تقل : إنني اختلفت مع الرسول ؛ لا. إنك إن اختلفت معه تكون قد اختلفت مع من أرسله وعليك أن تستغفر الله.
ولو أنك استغفرت الله دون ترضية الرسول فلن يقبل الله ذلك منك. فلا يقدر أحد أبدا أن يصلح ما بينه وبين الله من وراء محمد عليه الصلاة والسلام.
وحين يفعلون ذلك من الجيء الى الرسول واستغفارهم الله واستغفار الرسول لهم سيجدون الله توابا رحيما، وكلمة " تواب : مبالغة في التوبة فتشير إلى أن ذنبهم كبير.
إن الحق سبحانه وتعالى خلق خلقه ويعلم أن الأغيار تأتي في خواطرهم وفي نفوسهم وأن شهواتهم قد تستيقظ في بعض الأوقات فتنقلب إلى بعض الذنوب، ولأنه رب رحيم بين لنا ما يمحص كل هذه الغفلة، فإذا أذنب العبد ذنبا أربه الرحيم يتركه هكذا للذنب ؟ لا. إنه سبحانه شرع له العودة إليه ؛ لأن الله يحب أن يئوب عبده ويرجع إليه وإن غفل بمعصيته.
إن الحق سبحانه وتعالى يعلمنا كيف نزيل عنا آثار المعاصي، فقال :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ﴾ فالعلاج من هذه أن يجيئوك لأنهم غفلوا عن أنك تنطق وتبلغ من قبل الحق في التشريع وفي الحكم، وبعد المجيء يستغفرون الله ويستغفر لهم الرسول، تأييدا لاستغفارهم لله، حينئذ الله توابا رحيما.
فالمؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إذن عليهم طاعة الرسول في إطار ما فوضه الله والله أذن له أن يشرع.
ويتابع الحق :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ﴾. وظلم النفس : أن تحقق لها شهوة عاجلة لتورثها شقاء دائما. وظلم النفس أشقى أنواع الظلم، فمن المعقول أن يظلم الإنسان غيره، أما أن يظلم نفسه فليس معقولا. وأي عاص يترك واجبا تكليفيا ويقبل على أمر منهي عنه، قد يظن في ظاهر الأمر أنه يحقق لنفسه متعة، بينما هو يظلم نفسه ظلما قاسيا ؛ فالذي يترك الصلاة ويتكاسل أو يشرب الخمر أو يرتكب أي معصية نقول له : أنت ظلمت نفسك ؛ لأنك ظننت أنك تحقق لنفسك متعة بينما أورثتها شقاء أعنف وأبقى وأخلد، ولست أمينا على نفسك.
والنفس كما نعلم تطلق على اجتماع الروح بالمادة، وهذا الاجتماع هو ما يعطي النفس الإنسانية صفة الاطمئنان أو صفة الأمارة بالسوء، أو صفة النفس اللوامة. وساعة تأتي الروح مع المادة تنشأ النفس البشرية. والروح قبلما تتصل بالمادة هي خيرة بطبيعتها، والمادة قبلما تتصل بالروح خيرة بطبيعتها ؛ فالمادة مقهورة لإرادة قاهرها وتفعل كل ما يطلبه منها. فإياك أن تقول : الحياة المادية والحياة الروحية، وهذه كذا وكذا. لا.
إن المادة على إطلاقها خيرة، طائعة، مسخرة، عابدة، مسبحة. والروح على إطلاقها كذلك، فمتى يأتي الفساد ؟. ساعة تلتقي الروح بالمادة ويوجد هذا التفاعل نقول : أنت يا مكلف ستطمئن إلى حكم الله وتنتهي المسالة أم ستبقى نفسك لوامة أم ستستمرئ المعصية وتكون نفسك أمارة بالسوء ؟.
فمن يظلم من إذن ؟. إنه هواك في المخالفة الذي يظلم مجموع النفس من روحها ومادتها، فأنت في ظاهر الأمر تحقق شهوة لنفسك بالمخالفة، لكن في واقع الأمر أنك تتعب نفسك، ﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ﴾. ولنعلم أن هناك فرقا بين أن يأتي الفاحشة إنسان ليحقق لنفسه شهوة. وأن يظلم نفسه، فالحق يقول :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ ( من الآية١٣٥ سورة آل عمران ).
إذن فارتكاب الفاحشة شيء وظلم النفس شيء آخر، " فعل الفاحشة " قد متع إنسان نفسه قليلا، لكن كم ظلم نفسه لم يفعل ذلك. فهو لم يمتعها ولم يتركها على حالها، إذن فقد ظلم نفسه ؛ لا أعطاها شهوة في الدنيا ؛ ولم يرحمها من عذاب الآخرة، فمثلا شاهد الزور الذي يشهد ليأخذ واحد حق آخر، هذا ظلم قاس للنفس، ولذلك قال الرسول :
( بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا )١.
﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله ﴾. وظلم النفس أيضا بأن يرفع الإنسان أمره إلى الطاغوت مثلا، لكن عندما يرفع الإنسان أمره للحاكم، لا تعرف أيحكم لنا أم لا ؛ وقد يهديه الله ساعة الحكم.
إن قوله :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ﴾ فالمسألة أنهم امتنعوا من المجيء إليك يا رسول الله ؛ فأول مرتبة أن يرجعوا عما فعلوه، وبعد ذلك يستغفرون الله ؛ لأن الذنب بالنسبة لعدم مجيئهم للرسول قبل أن يتعلق بالرسول تعلق بمن بعث الرسول، ولذلك يقولون : إهانة الرسول تكون إهانة للمرسل ؛ فصحيح أن عدم ذهابهم للرسول هو أمر متعلق بالرسول ولكن إذا صعدته تجده متعلقا بمن بعث الرسول وهو الله، لأن الرسول لم يأت بشيء من عنده، وبعد أن تطيب نفس الرسول فيستغفر الله لهم، إذن فأولا : يجيئون، وثانيا : يستغفرون الله وثالثا : يستغفر لهم الرسول.
وبعد ذلك يقول سبحانه :﴿ لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ إذن فوجدان الله توابا رحيما مشروط بعودتهم للرسول بدلا من الإعراض عنه ثم أن يستغفروا الله ؛ لأن الله ما أرسل من رسول إلا ليطاع بإذنه، فعندما تختلف معه لا تقل : إنني اختلفت مع الرسول ؛ لا. إنك إن اختلفت معه تكون قد اختلفت مع من أرسله وعليك أن تستغفر الله.
ولو أنك استغفرت الله دون ترضية الرسول فلن يقبل الله ذلك منك. فلا يقدر أحد أبدا أن يصلح ما بينه وبين الله من وراء محمد عليه الصلاة والسلام.
وحين يفعلون ذلك من الجيء الى الرسول واستغفارهم الله واستغفار الرسول لهم سيجدون الله توابا رحيما، وكلمة " تواب : مبالغة في التوبة فتشير إلى أن ذنبهم كبير.
إن الحق سبحانه وتعالى خلق خلقه ويعلم أن الأغيار تأتي في خواطرهم وفي نفوسهم وأن شهواتهم قد تستيقظ في بعض الأوقات فتنقلب إلى بعض الذنوب، ولأنه رب رحيم بين لنا ما يمحص كل هذه الغفلة، فإذا أذنب العبد ذنبا أربه الرحيم يتركه هكذا للذنب ؟ لا. إنه سبحانه شرع له العودة إليه ؛ لأن الله يحب أن يئوب عبده ويرجع إليه وإن غفل بمعصيته.
إن الحق سبحانه وتعالى يعلمنا كيف نزيل عنا آثار المعاصي، فقال :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ﴾ فالعلاج من هذه أن يجيئوك لأنهم غفلوا عن أنك تنطق وتبلغ من قبل الحق في التشريع وفي الحكم، وبعد المجيء يستغفرون الله ويستغفر لهم الرسول، تأييدا لاستغفارهم لله، حينئذ الله توابا رحيما.
١ رواه مسلم..
إذن لابد أن نستقبل الإيمان بالاقبال على كل ما جاء به رسول الله، فساعة حكم المنافقون غيره برغم إعلانهم للإسلام جاء الحكم بخروجهم من دائرة الإيمان، وعلى المؤمنين أن يتعظوا بذلك.
ونلحظ في قول الحق :﴿ فلا وربك ﴾ وجود " لا " نافية، وأنه سبحانه أقسم بقوله :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ﴾، ونعلم أن المنافقين قد ذهبوا فحكموا غير رسول الله، مع أنهم شاهدون بأنه رسول الله فكيف يشهدون أنه رسول الله، ثم يحكمون غيره ولا يرضون بقضائه ؟ وتلك قضية يحكم الحق فيها فيقول : لا. هذه لا تكون أبدا. إذن ف " لا " النافية جاءت هنا لتنفي إيمانهم وشهادتهم أنه رسول الله ؛ لأنهم حكموا غيره. فإذا ثبت أنهم شهدوا أنه رسول الله ثم ذهبوا لغيره ليقضي بينهم إذا حدث هذا. فحكمنا في القضية هو : لا يكون لهم أبدا شرف شهادة أنه رسول الله.
وبعد ذلك أقسم الحق فقال :﴿ وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ ونحن الخلق لا نقسم إلا بالله، لكنه سبحانه له أن يقسم بما شاء على من يشاء، يقسم بالمادة الجبلية :
﴿ والطور١ ﴾ ( سورة الطور ).
ويقسم بالذاريات :
﴿ والذاريات ذروا ١ ﴾ ( سورة الذاريات ).
والذاريات هي الرياح، ويقسم بالنبات :
﴿ والتين والزيتون ١ ﴾ ( سورة التين ).
ويقسم بالملائكة :﴿ والصافات صفا ١ ﴾ ( سورة الصافات ).
ولكنك إن نظرت إلى الإنس فلن تجده أقسم بأحد من سيد هذا الكون وهو الإنسان إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم بحياته فقال :
﴿ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون٧٢ ﴾ ( سورة الحجر ).
و " لعمرك " يعني : وحياتك يا محمد إنهم في سكرتهم يعمهون، أي هم في غوايتهم وضلالهم يتحيرون فلا يهتدون إلى الحق، وأقسم الله بعد ذلك بنفسه، فقال :
﴿ فورب السماء والأرض إنه لحق ﴾ ( من الآية ٢٣ سورة الذاريات ).
وساعة يقول :﴿ فورب السماء والأرض ﴾. فلابد أن يأتي بربوبيته لخلق عظيم نراه نحن، ولذلك قال :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾ ( من الآية ٥٧ سورة غافر ).
يعني إذا فكرت أيها الإنسان في خلق السماوات والأرض لوجدته أكبر من خلق الناس.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله تعالى :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ وهذا تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن محمدا عليه الصلاة والسلام ذو منزلة عالية، إياكم أن تظنوا انه حين قال :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾ أن محمدا قد دخل في الناس، إنه سبحانه يوضح : لا، سأقسم به كما أقسمت بالسماء والأرض، ﴿ فوربك لنسألنهم ﴾، ولماذا يقسم برب السماء والأرض ؛ لأن الرب به قدرة عظيمة هائلة، فهو يخلق ويربي، ويتعهد ويؤدب.
إن خلق السماوات والأرض يكفي فيها الخلق وناموس الكون والتسخير. لكن عندما يخلق محمدا فلا يريد الخلق والإيجاد فقط، بل يريد تربية فيها ارتقاءات النبوة مكتملة فيقول له : فوربك الذي خلقك، والذي سواك والذي رباك، والذي أهلك لأن تكون خير خلق الله وأن تكون خاتم الرسل، ولأن تكون رحمة الله للعالمين، يقسم بهذا كله فيقول :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ أبعد ما يدخل سبحانه فينا هذه المهابة بالقسم برب رسول الله نقول : لا نحكم محمدا ومنهجه في حياتنا ؟. إذن فقوله :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ وحكم كل مادتها مثل " الحكم " و " التحكيم " و " الحكمة " و " التحكم " وكل هذا مأخوذ من الحكمة وهي حديدة اللجام الذي يوضع في فم الفرس يمنعه به صاحبه أن يشرد، ويتحكم فيه يمينا ويسارا، فكذلك " الحكمة " تعوق كل واحد عن شروده في أخذ حق غيره، فالتحكيم والحكم، والحكمة كلها توحي بأن تضع الشيء في موضعه الصحيح.
وكلمة " شجر " مأخوذة من مادة ( الشين والجيم والراء ) وإذا رأيتها فافهم أنها مأخوذة من الشجر الذي تعرفه. وهناك نباتات لا تلتصق ببعضها، وهناك نباتات تكبر فيلتصق بعضها ببعض فتتشابك، كما نرى مثلا شجرا متشابكا قي بعضه، وتداخلت الأفرع مع بعضها بحيث لا تستطيع أيها الناظر أن تقول : إن هذه ورقة هذه الشجرة أو ورقة تلك الشجرة. وإذا ما أثمرتا وكانتا من نوع واحد لا تقدر أن تقول : إن هذه الثمرة من هذه الشجرة، ولا هذه الثمرة من تلك الشجرة، أي أن الأمر قد اختلط.
﴿ وشجر بينهم ﴾ أي قام نزاع واختلاط في أمر، فأنت تذهب لتفصل هذه الشجرة عن تلك، وهذه الثمرة عن تلك الثمرة، وساعة ترى أشجارا من نوع واحد، وتداخلت مع بعضها واختلطت، لا يعنيك إن كنت جاني الثمرة أن تكون هذه الثمرة التي قطفتها من هنا أو من هناك فأنت تأخذ الثمرة حيث وجدت، لا يعنيك أن تكون من هذه أو من تلك، وإن كنت تستظل تحت شجر لا يعنيك أن تعرف هل جاء هذا الظل من ورق هذه الشجرة أو من تلك الشجرة، فهذه فائدة اختلاط المتساوي، لكن إذا أردت ورقة شجرة من نوع معين فأنتقيها لأنني أريدها لأمر خاص.
والخلق كلهم متساوون فكان يجب إن اختلطوا أن تكون المسألة مشاعا بينهم لكن طبيعة النفس الشح، فتنازعوا، ولذلك فالقاضي الذكي يقول للمتخاصمين أتريدان أن أحكم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل ؟. فيفزعان ويقولان أهناك خير من العدل ؟. يقول : نعم إنه الفضل فما دامت المسألة أخوة واحدة، والخير عندك كالخير عندي فلا نزاع، أما إذا حدث الشجار فلابد من الفصل.
ومن الذي يفصل ؟. إنه سيدنا رسول الله بحكم قول الحق :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾.. فالإيمان ليس قولة تقال فحسب وإنما هو قولة لها وظيفة، فأن تقول : لا إله إلا الله وتشهد أن محمدا رسول الله فلابد أن لهذا القول وظيفة، وأن تحكم حركة حياتك على ضوء هذا القول فلا معبود إلا الله، ولا آمر إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا مشرع إلا الله، فهي ليست كلمة تقولها فقط ! وينتهي الأمر، ثم عندما يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفر منه. ﴿ فلا وربك لا يؤمنون ﴾ بمنهج الإسلام ﴿ حتى يحكموك ﴾ فهذا هو التطبيق :﴿ فيما شجر بينهم ﴾ ولا يصح أن يحكموك صوريا، بل لابد أن يحكموك برضا في التحكيم، ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ﴾ أي ضيقا ﴿ مما قضيت ﴾. فعندما يحكم رسول الله لا تتوانوا عن حكمه، ولا تضيقوا به ﴿ ويسلموا تسليما ﴾ أي يذعنوا إذعانا.
إذن فالإيمان لا يتمثل في قول يقال وإنما في توظيف ذلك القول. بأن تلجأ إليه في العمليات الحركية في الحياة، ﴿ فلا وربك لا يؤمنون ﴾ حتى يترجم الإيمان إلى قضية واقعية اختار الحق لها أعنف ساعات الحرج في النفس البشرية وهي ساعة الخصومة التي تولد اللدد والميل عن الحق، ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ﴾ لأنه قد يجد حرجا ولا يتكلم.
وانظروا إلى الثلاثة : الأولى :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ﴾، هذه واحدة، ﴿ فاستغفروا الله ﴾ هذه هي الثانية، ﴿ واستغفر لهم الرسول ﴾ هذه هي الثالثة، هذه ممحصات الذنوب، والذي يدخلك في حظيرة الإيمان ثلاثة أيضا :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ هذه هي الأولى، ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ﴾هذه هي الثانية، و﴿ يسلموا تسليما ﴾ هذه هي الثالثة. إذن فالقولان في رسول الله صلى الله عليه وسلم : دخول في حظيرة إيمان، وخروج من غل ذنب.
وهنا وقفة لا أبالغ إذا قلت : إنها شغلتني أكثر من عشر سنين، هذه الوقفة حول قول الله :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ ذلك يا رب تمحيص من عاصر رسولك صلى الله عليه وسلم، فما بال الذين لم يعاصروه ؟ فأين الممحص الذي يقابل هذا لمن لم يعاصر حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول إنما جاء للناس جميعا، فكيف يوجد ممحص لقوم عاصروا رسول الله ثم يحرم من جاءوا بعد رسول الله من هذا التمحيص ؟.
هذه مسألة ظلت في ذهني ولا أجد لها جوابا، إلا أني قلت : لقد ثبت عندي وعند بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطمئنا المؤمنين في كافة العصور :
( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرت لكم )١.
انظر إلى التطمين في قوله صلى الله عليه وسلم :( تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم )٢.
فاستغفار الرسول لنا موجود. إذن فما بقي منها إلا أن نستغفر الله، وما بقي إلا ﴿ جاءوك ﴾ أي يجيئون لسنتك ولما تركت منها فصلى الله عليه وسلم هو القائل :
( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض )٣.
فكما كان الأحياء يجيئونه، فنحن نجيء إلى حكمه وسنته وتشريعه، وهو يستغفر لنا جميعا، إذن فهذه منتهية، فبقي أن نستغفر الله قائلين : نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.. نفعل ذلك إن شاء الله.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ أي لا يجدوا حرجا عندما يذعنون لأي حكم تكليفي أو حكم قضائي، والحكم التكليفي نعرفه في : افعل ولا تفعل، أما الحكم القضائي فهو عندما يتنازع اثنان في شيء وهذا يقتضي أن نقبل الحكم في النزاع إذا ما صدر عن رسول الله أو عن منهجه. إذن فلابد أن نسلم تسليما في الاثنين : في الحكم التكليفي، وفي الحكم القضائي.
ونلحظ في قول الحق :﴿ فلا وربك ﴾ وجود " لا " نافية، وأنه سبحانه أقسم بقوله :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ﴾، ونعلم أن المنافقين قد ذهبوا فحكموا غير رسول الله، مع أنهم شاهدون بأنه رسول الله فكيف يشهدون أنه رسول الله، ثم يحكمون غيره ولا يرضون بقضائه ؟ وتلك قضية يحكم الحق فيها فيقول : لا. هذه لا تكون أبدا. إذن ف " لا " النافية جاءت هنا لتنفي إيمانهم وشهادتهم أنه رسول الله ؛ لأنهم حكموا غيره. فإذا ثبت أنهم شهدوا أنه رسول الله ثم ذهبوا لغيره ليقضي بينهم إذا حدث هذا. فحكمنا في القضية هو : لا يكون لهم أبدا شرف شهادة أنه رسول الله.
وبعد ذلك أقسم الحق فقال :﴿ وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ ونحن الخلق لا نقسم إلا بالله، لكنه سبحانه له أن يقسم بما شاء على من يشاء، يقسم بالمادة الجبلية :
﴿ والطور١ ﴾ ( سورة الطور ).
ويقسم بالذاريات :
﴿ والذاريات ذروا ١ ﴾ ( سورة الذاريات ).
والذاريات هي الرياح، ويقسم بالنبات :
﴿ والتين والزيتون ١ ﴾ ( سورة التين ).
ويقسم بالملائكة :﴿ والصافات صفا ١ ﴾ ( سورة الصافات ).
ولكنك إن نظرت إلى الإنس فلن تجده أقسم بأحد من سيد هذا الكون وهو الإنسان إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم بحياته فقال :
﴿ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون٧٢ ﴾ ( سورة الحجر ).
و " لعمرك " يعني : وحياتك يا محمد إنهم في سكرتهم يعمهون، أي هم في غوايتهم وضلالهم يتحيرون فلا يهتدون إلى الحق، وأقسم الله بعد ذلك بنفسه، فقال :
﴿ فورب السماء والأرض إنه لحق ﴾ ( من الآية ٢٣ سورة الذاريات ).
وساعة يقول :﴿ فورب السماء والأرض ﴾. فلابد أن يأتي بربوبيته لخلق عظيم نراه نحن، ولذلك قال :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾ ( من الآية ٥٧ سورة غافر ).
يعني إذا فكرت أيها الإنسان في خلق السماوات والأرض لوجدته أكبر من خلق الناس.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله تعالى :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ وهذا تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن محمدا عليه الصلاة والسلام ذو منزلة عالية، إياكم أن تظنوا انه حين قال :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾ أن محمدا قد دخل في الناس، إنه سبحانه يوضح : لا، سأقسم به كما أقسمت بالسماء والأرض، ﴿ فوربك لنسألنهم ﴾، ولماذا يقسم برب السماء والأرض ؛ لأن الرب به قدرة عظيمة هائلة، فهو يخلق ويربي، ويتعهد ويؤدب.
إن خلق السماوات والأرض يكفي فيها الخلق وناموس الكون والتسخير. لكن عندما يخلق محمدا فلا يريد الخلق والإيجاد فقط، بل يريد تربية فيها ارتقاءات النبوة مكتملة فيقول له : فوربك الذي خلقك، والذي سواك والذي رباك، والذي أهلك لأن تكون خير خلق الله وأن تكون خاتم الرسل، ولأن تكون رحمة الله للعالمين، يقسم بهذا كله فيقول :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ أبعد ما يدخل سبحانه فينا هذه المهابة بالقسم برب رسول الله نقول : لا نحكم محمدا ومنهجه في حياتنا ؟. إذن فقوله :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ وحكم كل مادتها مثل " الحكم " و " التحكيم " و " الحكمة " و " التحكم " وكل هذا مأخوذ من الحكمة وهي حديدة اللجام الذي يوضع في فم الفرس يمنعه به صاحبه أن يشرد، ويتحكم فيه يمينا ويسارا، فكذلك " الحكمة " تعوق كل واحد عن شروده في أخذ حق غيره، فالتحكيم والحكم، والحكمة كلها توحي بأن تضع الشيء في موضعه الصحيح.
وكلمة " شجر " مأخوذة من مادة ( الشين والجيم والراء ) وإذا رأيتها فافهم أنها مأخوذة من الشجر الذي تعرفه. وهناك نباتات لا تلتصق ببعضها، وهناك نباتات تكبر فيلتصق بعضها ببعض فتتشابك، كما نرى مثلا شجرا متشابكا قي بعضه، وتداخلت الأفرع مع بعضها بحيث لا تستطيع أيها الناظر أن تقول : إن هذه ورقة هذه الشجرة أو ورقة تلك الشجرة. وإذا ما أثمرتا وكانتا من نوع واحد لا تقدر أن تقول : إن هذه الثمرة من هذه الشجرة، ولا هذه الثمرة من تلك الشجرة، أي أن الأمر قد اختلط.
﴿ وشجر بينهم ﴾ أي قام نزاع واختلاط في أمر، فأنت تذهب لتفصل هذه الشجرة عن تلك، وهذه الثمرة عن تلك الثمرة، وساعة ترى أشجارا من نوع واحد، وتداخلت مع بعضها واختلطت، لا يعنيك إن كنت جاني الثمرة أن تكون هذه الثمرة التي قطفتها من هنا أو من هناك فأنت تأخذ الثمرة حيث وجدت، لا يعنيك أن تكون من هذه أو من تلك، وإن كنت تستظل تحت شجر لا يعنيك أن تعرف هل جاء هذا الظل من ورق هذه الشجرة أو من تلك الشجرة، فهذه فائدة اختلاط المتساوي، لكن إذا أردت ورقة شجرة من نوع معين فأنتقيها لأنني أريدها لأمر خاص.
والخلق كلهم متساوون فكان يجب إن اختلطوا أن تكون المسألة مشاعا بينهم لكن طبيعة النفس الشح، فتنازعوا، ولذلك فالقاضي الذكي يقول للمتخاصمين أتريدان أن أحكم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل ؟. فيفزعان ويقولان أهناك خير من العدل ؟. يقول : نعم إنه الفضل فما دامت المسألة أخوة واحدة، والخير عندك كالخير عندي فلا نزاع، أما إذا حدث الشجار فلابد من الفصل.
ومن الذي يفصل ؟. إنه سيدنا رسول الله بحكم قول الحق :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾.. فالإيمان ليس قولة تقال فحسب وإنما هو قولة لها وظيفة، فأن تقول : لا إله إلا الله وتشهد أن محمدا رسول الله فلابد أن لهذا القول وظيفة، وأن تحكم حركة حياتك على ضوء هذا القول فلا معبود إلا الله، ولا آمر إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا مشرع إلا الله، فهي ليست كلمة تقولها فقط ! وينتهي الأمر، ثم عندما يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفر منه. ﴿ فلا وربك لا يؤمنون ﴾ بمنهج الإسلام ﴿ حتى يحكموك ﴾ فهذا هو التطبيق :﴿ فيما شجر بينهم ﴾ ولا يصح أن يحكموك صوريا، بل لابد أن يحكموك برضا في التحكيم، ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ﴾ أي ضيقا ﴿ مما قضيت ﴾. فعندما يحكم رسول الله لا تتوانوا عن حكمه، ولا تضيقوا به ﴿ ويسلموا تسليما ﴾ أي يذعنوا إذعانا.
إذن فالإيمان لا يتمثل في قول يقال وإنما في توظيف ذلك القول. بأن تلجأ إليه في العمليات الحركية في الحياة، ﴿ فلا وربك لا يؤمنون ﴾ حتى يترجم الإيمان إلى قضية واقعية اختار الحق لها أعنف ساعات الحرج في النفس البشرية وهي ساعة الخصومة التي تولد اللدد والميل عن الحق، ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ﴾ لأنه قد يجد حرجا ولا يتكلم.
وانظروا إلى الثلاثة : الأولى :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ﴾، هذه واحدة، ﴿ فاستغفروا الله ﴾ هذه هي الثانية، ﴿ واستغفر لهم الرسول ﴾ هذه هي الثالثة، هذه ممحصات الذنوب، والذي يدخلك في حظيرة الإيمان ثلاثة أيضا :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ هذه هي الأولى، ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ﴾هذه هي الثانية، و﴿ يسلموا تسليما ﴾ هذه هي الثالثة. إذن فالقولان في رسول الله صلى الله عليه وسلم : دخول في حظيرة إيمان، وخروج من غل ذنب.
وهنا وقفة لا أبالغ إذا قلت : إنها شغلتني أكثر من عشر سنين، هذه الوقفة حول قول الله :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ ذلك يا رب تمحيص من عاصر رسولك صلى الله عليه وسلم، فما بال الذين لم يعاصروه ؟ فأين الممحص الذي يقابل هذا لمن لم يعاصر حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول إنما جاء للناس جميعا، فكيف يوجد ممحص لقوم عاصروا رسول الله ثم يحرم من جاءوا بعد رسول الله من هذا التمحيص ؟.
هذه مسألة ظلت في ذهني ولا أجد لها جوابا، إلا أني قلت : لقد ثبت عندي وعند بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطمئنا المؤمنين في كافة العصور :
( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرت لكم )١.
انظر إلى التطمين في قوله صلى الله عليه وسلم :( تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم )٢.
فاستغفار الرسول لنا موجود. إذن فما بقي منها إلا أن نستغفر الله، وما بقي إلا ﴿ جاءوك ﴾ أي يجيئون لسنتك ولما تركت منها فصلى الله عليه وسلم هو القائل :
( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض )٣.
فكما كان الأحياء يجيئونه، فنحن نجيء إلى حكمه وسنته وتشريعه، وهو يستغفر لنا جميعا، إذن فهذه منتهية، فبقي أن نستغفر الله قائلين : نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.. نفعل ذلك إن شاء الله.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ أي لا يجدوا حرجا عندما يذعنون لأي حكم تكليفي أو حكم قضائي، والحكم التكليفي نعرفه في : افعل ولا تفعل، أما الحكم القضائي فهو عندما يتنازع اثنان في شيء وهذا يقتضي أن نقبل الحكم في النزاع إذا ما صدر عن رسول الله أو عن منهجه. إذن فلابد أن نسلم تسليما في الاثنين : في الحكم التكليفي، وفي الحكم القضائي.
١ رواه ابن سعد عن بكر بن عبد الله مرسلا ورمز السيوطي له بالحسن..
٢ رواه ابن سعد..
٣ رواه الحاكم عن أبي هريرة..
٢ رواه ابن سعد..
٣ رواه الحاكم عن أبي هريرة..
وهنا يساوي الحق بين الأمر بقتل النفس والأمر بالإخراج من الديار، فالقتل خروج الروح من الجسد بقوة قسرية غير الموت الطبيعي، والإخراج من الديار هو الترحيل القسري بقوة قسرية خارج الأرض التي يعيش فيها الإنسان، إذن فعملية القتل قرينة لعملية الإخراج من الديار، فساعة يقتل الإنسان فهو يتألم، وساعة يخرج من وطنه فهو يتألم، وكلاهما شاق على الإنسان، ويأتي الحق بهذين الحكمين اللذين سبقا في قوم موسى عليه السلام، فالحق يقول :﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾ ( من الآية ٥٤ سورة البقرة ).
ويقال : إن قوم موسى عندما سمعوا هذا الحكم قام سبعون ألفا منهم بقتل أنفسهم، ونعلم أيضا أن قوم موسى أخرجوا من ديارهم وذهبوا في التيه. يقول سبحانه وتعالى :﴿ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ﴾ ( من الآية ٢٦ سورة المائدة ).
أي لا يدخلونها ولا يملكونها. والحق هنا يوضح : أن الإسلام لم يأت بمثل ما جاءت به الشرائع السابقة التي كانت التوبة فيها تقتضي قتل النفس، تلك الشرائع التي رأت أن النفس تغوى صاحبها بمخالفة المنهج فلابد أن يضيعها. ومن لطف الله أنه سبحانه لم يصدر علينا مثل هذا الحكم، ولذلك فسيدنا عبد الله ابن مسعود، وسيدنا عمار بن ياسر، وثابت بن قيس ؛ كل هؤلاء قالوا : والله لو أمرنا بهذا لفعلنا، وقال سيدنا عمر : والله لو أمرنا بهذا لفعلنا والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك. إذن فهذا لطف، إنه بين لهم : لو كتبنا عليهم أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم كما حدث لقوم موسى. ماذا كانوا يفعلون ؟ لكن ربنا استجاب لدعائهم :﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ ( من الآية ٢٨٦ سورة البقرة ).
لقد استجاب الحق لهم، لكن ماذا كان يحدث منكم لو كتب عليكم ذلك ؟ وسبب هذه الحكاية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم له ابن عمة اسمه " الزبير بن العوام " وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهناك واحد آخر اسمه " حاطب بن أبي بلتعة " كانا في المدينة، ومن زار المدينة المنورة يجد هناك منطقة اسمها " الحرة " وأرضها من حجارة سوداء كأنها محروقة، وفيها بعض " الحيطان " أي : البساتين ؛ لأنهم يسمون البستان " حائطا "، فقد كانوا يخافون من طغيان السيل فيبنون حول الأرض المزروعة حائطا، يرد عنها عنف السيل ويحدد الحيازة فيها، فكان لحاطب بن أبي بلتعة أرض زراعية منخفضة عن أرض الزبير بن العوام، فالسيل يأتي أولا من عند أرض الزبير ثم ينزل إلى أرض حاطب، ونعلم أن الأمطار تنزل متفرقة في مكان ثم يتجمع الماء في جدول صغير يسمونه " شراج " ومنه يروون بساتينهم.
فلما جاء السيل وأرادوا أن يرووا بساتينهم حدث خلاف بين الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، فأرض الزبير تعلو أرض حاطب، وحاطب يريد أن تمر المياه لأرضه أولا ثم يروي الزبير أرضه بعد ذلك. فلما تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم للزبير فقد كان الحق معه، ولم يكن الرسول ليلوي الحق لمجرد القرابة، فمن الناس من يحكم بالظلم ليشتهر بين الناس بالعدل، فقد يتخاصم ابنه مع واحد آخر والحق مع ابنه، فلكيلا يقول الناس : إنه جامل ابنه. يحكم على ابنه ! وهذا ليس عدلا ؛ فالعدل أن تحكم بالحق ثم تطلب من ابنك أن يتنازل عن حقه ليصبح عطاؤه لغيره فضلا. فالشجاعة هي أن تحكم بالحق، وهناك شجاعة أقوى وهي أن تحكم بالحق وإن كان على نفسك، لأن الحق أعز من نفسك.
ونص هذه الواقعة كما أوردها الإمام البخاري في صحيحه بسنده قال :" حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كان يسقيان به كلاهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال : يا رسول آن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : اسق ثم احبس حتى يبلغ الجدر فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة : قال الزبير : والله ما احسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾١.
فلما حكم رسول الله للزبير بأن يسقي زرعه ثم يرسل الماء إلى جاره لم يعجب ذلك حاطب بن أبي بلتعة، فقال : لأن كان ابن عمتك، والعربي يقول الكلمة ويترك لنباهة السامع أن يستنبط الباقي، وكأنه يعني : حكمت له لأنه ابن عمتك. ولوى شدقيه، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة علمه أن ابن أبي بلتعة لم يقدر عدالة الحق والحكم.. وكان كثير من الناس ممن كانوا يتصيدون للإسلام يقولون : هو قد حكم أولا أن يروي الزبير ثم يطلق الماء لحاطب، فلما غضب حاطب بن أبي بلتعة قال له : اسق يا زبير واستوف حقك، وخذ من الماء ما يكفيك ثم أرسله لجارك، فقالوا : لماذا حكم أولا بأن يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره ثم عدل في الحكم ؟. الناس لم تفهم أن أرض الزبير عالية بينما أرض حاطب منخفضة، وأنتم إذا نظرتم إلى أي واد ؛ تجدون الخضرة والخصب في بطن الوادي وليس في السفح ؛ لأن الماء وإن جاء من الأرض العالية سينزل إلى الأرض المنخفضة، وإذا رويت المنخفض أولا وأعطيته لا يصيب العالي شيء.
إذن فالحكم الأول كان مبنيا على التيسير والفضل من الزبير، والحكم الثاني جاء مبنيا على العدل، ورسول الله بالحكم الثاني وهو أن يستوفي الزبير حقه ويأخذ من الماء ما يكفيه كأنه قال له : سنعدل معك بعدما كنا نجاملك، فقال الحق سبحانه وتعالى :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾.
وإذا كان هذا هو الأمر فكيف لو فعلنا بهم مثلما فعل الرسول من الأمم السابقة ؟ عندما أمروهم أن يقتلوا أنفسهم أو أن يخرجوا من ديارهم، هذا الحكم لم ينفذه إلا عدد قليل منهم وهم الثابتون في الإيمان. وهكذا نعلم أن الحق لم يخل الأمة من ممتثلين ملتزمين يؤدون أمر الله كما يجب.
﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ﴾ ولو فرضنا أن الله قال : اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ثم بعد ذلك فعلوه لوجدوا في ذلك الخير عما كان في بالهم ؛ لأن الناس يجب أن تفطن إلى أن تسأل نفسها ما غاية المؤمن حين يؤمن بإله ؟ وما غاية هذا الإيمان ؟.
أنت في دنياك تعيش مع أسباب الله المخلوقة لك، وحين تنتقل إلى الله تعيش مع المسبب، فما الذي يحزنك عندما قال لك : أقتل نفسك ؟ إنه قال لك : اقتل نفسك لماذا ؟ لأنك تنتقل للمسبب وتحيى دون تعب.
إن الحكم من الله هو ارتقاء بالإنسان، ونحن في حياتنا الدنيا نجد من يدق الجرس فيأتيه الطعام، ويدق الجرس فيأتيه الشاي، ويدق الجرس فتاتيه الحلوى. لكن لا يمكن أن ترتقي الدنيا إلى أن يوجد ارتقاء بحيث إذا خطر الشيء ببال الإنسان وجد الشيء أمامه، فلا يدق جرسا ولا يجهد نفسه، فبالله الذي يعيش في الأسباب ثم نريد أن ننقله إلى أن يعيش مع المسبب، فهل هذه تحزنه ؟ لا ؛ لأنهم سيجدون خيرا أكثر.
إنك : لو قارنت الأمر لوجدت الدنيا عمرها بالنسبة لك مظنون، ومحدود، ونعيمك على قدر إمكاناتك. لكنك حين تنتقل إلى لقاء الله لا تكون محدودا، لا بعمرك ولا بإمكاناتك بل تعيش زمنا ليس له حدود، وتنعم فيه على قدر سعة فضل الله.
﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ﴾.. وهذا الخير أشد تثبيتا لغيرهم ؛ لأن من يرونهم ينفذون حكم الله. فلابد أنهم وثقوا أنهم سيذهبون إلى خير مما عندهم. إذن فهو يثبت من بعدهم. أو المعنى : لو أنهم فعلوا ما أمروا به من إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته والانقياد لما يراه ويحكم به لأنه الذي لا ينطق عن الهوى لكان ذلك خيرا لهم في دنياهم وأخراهم وأقوى وأشد تثبيتا واستقرارا للإيمان في قلوبهم وأبعد عن الاضطراب فيه.
ويقال : إن قوم موسى عندما سمعوا هذا الحكم قام سبعون ألفا منهم بقتل أنفسهم، ونعلم أيضا أن قوم موسى أخرجوا من ديارهم وذهبوا في التيه. يقول سبحانه وتعالى :﴿ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ﴾ ( من الآية ٢٦ سورة المائدة ).
أي لا يدخلونها ولا يملكونها. والحق هنا يوضح : أن الإسلام لم يأت بمثل ما جاءت به الشرائع السابقة التي كانت التوبة فيها تقتضي قتل النفس، تلك الشرائع التي رأت أن النفس تغوى صاحبها بمخالفة المنهج فلابد أن يضيعها. ومن لطف الله أنه سبحانه لم يصدر علينا مثل هذا الحكم، ولذلك فسيدنا عبد الله ابن مسعود، وسيدنا عمار بن ياسر، وثابت بن قيس ؛ كل هؤلاء قالوا : والله لو أمرنا بهذا لفعلنا، وقال سيدنا عمر : والله لو أمرنا بهذا لفعلنا والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك. إذن فهذا لطف، إنه بين لهم : لو كتبنا عليهم أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم كما حدث لقوم موسى. ماذا كانوا يفعلون ؟ لكن ربنا استجاب لدعائهم :﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ ( من الآية ٢٨٦ سورة البقرة ).
لقد استجاب الحق لهم، لكن ماذا كان يحدث منكم لو كتب عليكم ذلك ؟ وسبب هذه الحكاية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم له ابن عمة اسمه " الزبير بن العوام " وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهناك واحد آخر اسمه " حاطب بن أبي بلتعة " كانا في المدينة، ومن زار المدينة المنورة يجد هناك منطقة اسمها " الحرة " وأرضها من حجارة سوداء كأنها محروقة، وفيها بعض " الحيطان " أي : البساتين ؛ لأنهم يسمون البستان " حائطا "، فقد كانوا يخافون من طغيان السيل فيبنون حول الأرض المزروعة حائطا، يرد عنها عنف السيل ويحدد الحيازة فيها، فكان لحاطب بن أبي بلتعة أرض زراعية منخفضة عن أرض الزبير بن العوام، فالسيل يأتي أولا من عند أرض الزبير ثم ينزل إلى أرض حاطب، ونعلم أن الأمطار تنزل متفرقة في مكان ثم يتجمع الماء في جدول صغير يسمونه " شراج " ومنه يروون بساتينهم.
فلما جاء السيل وأرادوا أن يرووا بساتينهم حدث خلاف بين الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، فأرض الزبير تعلو أرض حاطب، وحاطب يريد أن تمر المياه لأرضه أولا ثم يروي الزبير أرضه بعد ذلك. فلما تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم للزبير فقد كان الحق معه، ولم يكن الرسول ليلوي الحق لمجرد القرابة، فمن الناس من يحكم بالظلم ليشتهر بين الناس بالعدل، فقد يتخاصم ابنه مع واحد آخر والحق مع ابنه، فلكيلا يقول الناس : إنه جامل ابنه. يحكم على ابنه ! وهذا ليس عدلا ؛ فالعدل أن تحكم بالحق ثم تطلب من ابنك أن يتنازل عن حقه ليصبح عطاؤه لغيره فضلا. فالشجاعة هي أن تحكم بالحق، وهناك شجاعة أقوى وهي أن تحكم بالحق وإن كان على نفسك، لأن الحق أعز من نفسك.
ونص هذه الواقعة كما أوردها الإمام البخاري في صحيحه بسنده قال :" حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كان يسقيان به كلاهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال : يا رسول آن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : اسق ثم احبس حتى يبلغ الجدر فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة : قال الزبير : والله ما احسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾١.
فلما حكم رسول الله للزبير بأن يسقي زرعه ثم يرسل الماء إلى جاره لم يعجب ذلك حاطب بن أبي بلتعة، فقال : لأن كان ابن عمتك، والعربي يقول الكلمة ويترك لنباهة السامع أن يستنبط الباقي، وكأنه يعني : حكمت له لأنه ابن عمتك. ولوى شدقيه، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة علمه أن ابن أبي بلتعة لم يقدر عدالة الحق والحكم.. وكان كثير من الناس ممن كانوا يتصيدون للإسلام يقولون : هو قد حكم أولا أن يروي الزبير ثم يطلق الماء لحاطب، فلما غضب حاطب بن أبي بلتعة قال له : اسق يا زبير واستوف حقك، وخذ من الماء ما يكفيك ثم أرسله لجارك، فقالوا : لماذا حكم أولا بأن يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره ثم عدل في الحكم ؟. الناس لم تفهم أن أرض الزبير عالية بينما أرض حاطب منخفضة، وأنتم إذا نظرتم إلى أي واد ؛ تجدون الخضرة والخصب في بطن الوادي وليس في السفح ؛ لأن الماء وإن جاء من الأرض العالية سينزل إلى الأرض المنخفضة، وإذا رويت المنخفض أولا وأعطيته لا يصيب العالي شيء.
إذن فالحكم الأول كان مبنيا على التيسير والفضل من الزبير، والحكم الثاني جاء مبنيا على العدل، ورسول الله بالحكم الثاني وهو أن يستوفي الزبير حقه ويأخذ من الماء ما يكفيه كأنه قال له : سنعدل معك بعدما كنا نجاملك، فقال الحق سبحانه وتعالى :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾.
وإذا كان هذا هو الأمر فكيف لو فعلنا بهم مثلما فعل الرسول من الأمم السابقة ؟ عندما أمروهم أن يقتلوا أنفسهم أو أن يخرجوا من ديارهم، هذا الحكم لم ينفذه إلا عدد قليل منهم وهم الثابتون في الإيمان. وهكذا نعلم أن الحق لم يخل الأمة من ممتثلين ملتزمين يؤدون أمر الله كما يجب.
﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ﴾ ولو فرضنا أن الله قال : اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ثم بعد ذلك فعلوه لوجدوا في ذلك الخير عما كان في بالهم ؛ لأن الناس يجب أن تفطن إلى أن تسأل نفسها ما غاية المؤمن حين يؤمن بإله ؟ وما غاية هذا الإيمان ؟.
أنت في دنياك تعيش مع أسباب الله المخلوقة لك، وحين تنتقل إلى الله تعيش مع المسبب، فما الذي يحزنك عندما قال لك : أقتل نفسك ؟ إنه قال لك : اقتل نفسك لماذا ؟ لأنك تنتقل للمسبب وتحيى دون تعب.
إن الحكم من الله هو ارتقاء بالإنسان، ونحن في حياتنا الدنيا نجد من يدق الجرس فيأتيه الطعام، ويدق الجرس فيأتيه الشاي، ويدق الجرس فتاتيه الحلوى. لكن لا يمكن أن ترتقي الدنيا إلى أن يوجد ارتقاء بحيث إذا خطر الشيء ببال الإنسان وجد الشيء أمامه، فلا يدق جرسا ولا يجهد نفسه، فبالله الذي يعيش في الأسباب ثم نريد أن ننقله إلى أن يعيش مع المسبب، فهل هذه تحزنه ؟ لا ؛ لأنهم سيجدون خيرا أكثر.
إنك : لو قارنت الأمر لوجدت الدنيا عمرها بالنسبة لك مظنون، ومحدود، ونعيمك على قدر إمكاناتك. لكنك حين تنتقل إلى لقاء الله لا تكون محدودا، لا بعمرك ولا بإمكاناتك بل تعيش زمنا ليس له حدود، وتنعم فيه على قدر سعة فضل الله.
﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ﴾.. وهذا الخير أشد تثبيتا لغيرهم ؛ لأن من يرونهم ينفذون حكم الله. فلابد أنهم وثقوا أنهم سيذهبون إلى خير مما عندهم. إذن فهو يثبت من بعدهم. أو المعنى : لو أنهم فعلوا ما أمروا به من إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته والانقياد لما يراه ويحكم به لأنه الذي لا ينطق عن الهوى لكان ذلك خيرا لهم في دنياهم وأخراهم وأقوى وأشد تثبيتا واستقرارا للإيمان في قلوبهم وأبعد عن الاضطراب فيه.
١ رواه البخاري في الصلح ومسلم في الفضائل، والترمذي في الأحكام والنسائي في القضاة وابن ماجة في المقدمة..
فهم إذا فعلوا ما يوعظون به، ﴿ وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾ وساعة تسمع ﴿ من لدنا ﴾ اعرف أنها ليست من شأن ولا فعل الخلق. بل من تفضل الخالق. فالحق سبحانه وتعالى يرسل لنا منهجه بوساطة الرسل، لكنه يوضح أن بعضا من الناس منحهم عطفا وأعطاهم من لدنه علما، فهو القائل :﴿ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ٦٥ ﴾ ( سورة الكهف ).
أي أن العلم الذي أعطاه الله لذلك العبد لم يعلمه موسى، وعطاء الله للعلم خاضع لمشيئته، ونعرف من قبل أن الحسنات والعمال لها نظام، فمن يعمل خيرا يأخذ مقابله كذا حسنة، ولكن هناك أعمال حسناتها من غير حساب ويجازي عليها الحق بفضله هو. وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نحن نجد ذلك متمثلا لنا في كثير من تصرفاتنا، تقول لابنك مثلا : يا بني كم أجرك عندي من هذا العمل ؟ فيقول لك : مائة جنيه. فتقول له : هذه مائة هي أجرك، وفوقها خمسون من عندي أنا، ماذا تعني " من عندي أنا " هذه ؟ إنها تعني أنه مبلغ ليس له دخل بأجر العمل.
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ﴾ لقد عرفنا من قبل أن هناك فرقا بين القتل والموت، صحيح أن كليهما فيه إذهاب للحياة، لكن الموت : إذهاب للحياة بدون نقض البنية للجسم، ولكن القتل : إذهاب للحياة بنقض البنية كان يكسر إنسان رأس إنسان آخر، أو يطلق رصاصة توقف قلبه، وهذا هدم للبنية، والروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات، والروح لم تذهب أولا. بل أن البنية هدمت أولا. فلم تعد صالحة لسكنى الروح، والمثل المعروف هو مصباح الكهرباء : إنك إن رميت عليه حجرا صغيرا، ينكسر وينطفئ النور برغم أن الكهرباء موجودة لكنها لا تعطي نورا إلا في وعاء له مواصفات خاصة، فإذا ذهبت هذه المواصفات الخاصة يذهب النور، فتاتي بمصباح جديد له المواصفات الخاصة الصالحة فتجد النور قد جاء.
وكذلك الروح لا تسكن إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإن جئت لهذه المواصفات الخاصة وسيدها المخ، وضربته ضربة قاسية، فقد نقضت البنية، وفي هذه الحالة تغادر الروح الجسد لأنه غير صالح لها، لكن الموت يأتي من غير نقض للبنية، ومصداق ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ ( من الآية ١٤٤ سورة آل عمران ).
أي أن هناك أمرين : هناك موت، وهناك قتل، فالموت هو سلب الحياة، والقتل هو سلب الحياة، ولكن القتل سلب الحياة بعد نقض البنية التي تسكن فيها الروح، ويختلف عن الموت لأن الموت هو خروج الروح دون قتل، ولذلك يقولون : مات حتف انفه. أي مات على فراشه ولم يحدث له أي شيء.
والذي يقتل في الشهادة يقول فيه ربنا :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩ ﴾ ( سورة آل عمران ).
فإذا كان من يقاتل في سبيل الله قد امتثل لأمر الله فسوف يجد فضلا أكثر، فكيف يكون جزاء من يقتل نفسه امتثالا لأمر ربه ؟ إن امتحان النفس يكون بالنفس، وليس امتحان النفس بالعدو. وما الميزة في سيدنا إبراهيم ؟ هل قال له الحق : أنا سأميت ولدك ؟ أقال له إن واحدا آخر سيقتل ابنك ؟ لا، بل قال له : اذبحه أنت. وهذه هي ارتقاء قتل النفس، فيفدي الحق إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. إذن فإذا جاء الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه فلابد أن هناك مرتبة أعلى. ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾.
ونحن أمام أمرين : إما أن يقتلوا، وإما أن يخرجوا من ديارهم، فقوله :﴿ ولهديناهم صراطا مستقيما ﴾ لمن ؟ للذي قتل أم لمن خرج ؟ هو قول لمن أخرج من دياره لأنه ما زال على قيد الحياة.
أي أن العلم الذي أعطاه الله لذلك العبد لم يعلمه موسى، وعطاء الله للعلم خاضع لمشيئته، ونعرف من قبل أن الحسنات والعمال لها نظام، فمن يعمل خيرا يأخذ مقابله كذا حسنة، ولكن هناك أعمال حسناتها من غير حساب ويجازي عليها الحق بفضله هو. وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نحن نجد ذلك متمثلا لنا في كثير من تصرفاتنا، تقول لابنك مثلا : يا بني كم أجرك عندي من هذا العمل ؟ فيقول لك : مائة جنيه. فتقول له : هذه مائة هي أجرك، وفوقها خمسون من عندي أنا، ماذا تعني " من عندي أنا " هذه ؟ إنها تعني أنه مبلغ ليس له دخل بأجر العمل.
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ﴾ لقد عرفنا من قبل أن هناك فرقا بين القتل والموت، صحيح أن كليهما فيه إذهاب للحياة، لكن الموت : إذهاب للحياة بدون نقض البنية للجسم، ولكن القتل : إذهاب للحياة بنقض البنية كان يكسر إنسان رأس إنسان آخر، أو يطلق رصاصة توقف قلبه، وهذا هدم للبنية، والروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات، والروح لم تذهب أولا. بل أن البنية هدمت أولا. فلم تعد صالحة لسكنى الروح، والمثل المعروف هو مصباح الكهرباء : إنك إن رميت عليه حجرا صغيرا، ينكسر وينطفئ النور برغم أن الكهرباء موجودة لكنها لا تعطي نورا إلا في وعاء له مواصفات خاصة، فإذا ذهبت هذه المواصفات الخاصة يذهب النور، فتاتي بمصباح جديد له المواصفات الخاصة الصالحة فتجد النور قد جاء.
وكذلك الروح لا تسكن إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإن جئت لهذه المواصفات الخاصة وسيدها المخ، وضربته ضربة قاسية، فقد نقضت البنية، وفي هذه الحالة تغادر الروح الجسد لأنه غير صالح لها، لكن الموت يأتي من غير نقض للبنية، ومصداق ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ ( من الآية ١٤٤ سورة آل عمران ).
أي أن هناك أمرين : هناك موت، وهناك قتل، فالموت هو سلب الحياة، والقتل هو سلب الحياة، ولكن القتل سلب الحياة بعد نقض البنية التي تسكن فيها الروح، ويختلف عن الموت لأن الموت هو خروج الروح دون قتل، ولذلك يقولون : مات حتف انفه. أي مات على فراشه ولم يحدث له أي شيء.
والذي يقتل في الشهادة يقول فيه ربنا :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩ ﴾ ( سورة آل عمران ).
فإذا كان من يقاتل في سبيل الله قد امتثل لأمر الله فسوف يجد فضلا أكثر، فكيف يكون جزاء من يقتل نفسه امتثالا لأمر ربه ؟ إن امتحان النفس يكون بالنفس، وليس امتحان النفس بالعدو. وما الميزة في سيدنا إبراهيم ؟ هل قال له الحق : أنا سأميت ولدك ؟ أقال له إن واحدا آخر سيقتل ابنك ؟ لا، بل قال له : اذبحه أنت. وهذه هي ارتقاء قتل النفس، فيفدي الحق إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. إذن فإذا جاء الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه فلابد أن هناك مرتبة أعلى. ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾.
ونحن أمام أمرين : إما أن يقتلوا، وإما أن يخرجوا من ديارهم، فقوله :﴿ ولهديناهم صراطا مستقيما ﴾ لمن ؟ للذي قتل أم لمن خرج ؟ هو قول لمن أخرج من دياره لأنه ما زال على قيد الحياة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:فهم إذا فعلوا ما يوعظون به، ﴿ وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾ وساعة تسمع ﴿ من لدنا ﴾ اعرف أنها ليست من شأن ولا فعل الخلق. بل من تفضل الخالق. فالحق سبحانه وتعالى يرسل لنا منهجه بوساطة الرسل، لكنه يوضح أن بعضا من الناس منحهم عطفا وأعطاهم من لدنه علما، فهو القائل :﴿ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ٦٥ ﴾ ( سورة الكهف ).
أي أن العلم الذي أعطاه الله لذلك العبد لم يعلمه موسى، وعطاء الله للعلم خاضع لمشيئته، ونعرف من قبل أن الحسنات والعمال لها نظام، فمن يعمل خيرا يأخذ مقابله كذا حسنة، ولكن هناك أعمال حسناتها من غير حساب ويجازي عليها الحق بفضله هو. وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نحن نجد ذلك متمثلا لنا في كثير من تصرفاتنا، تقول لابنك مثلا : يا بني كم أجرك عندي من هذا العمل ؟ فيقول لك : مائة جنيه. فتقول له : هذه مائة هي أجرك، وفوقها خمسون من عندي أنا، ماذا تعني " من عندي أنا " هذه ؟ إنها تعني أنه مبلغ ليس له دخل بأجر العمل.
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ﴾ لقد عرفنا من قبل أن هناك فرقا بين القتل والموت، صحيح أن كليهما فيه إذهاب للحياة، لكن الموت : إذهاب للحياة بدون نقض البنية للجسم، ولكن القتل : إذهاب للحياة بنقض البنية كان يكسر إنسان رأس إنسان آخر، أو يطلق رصاصة توقف قلبه، وهذا هدم للبنية، والروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات، والروح لم تذهب أولا. بل أن البنية هدمت أولا. فلم تعد صالحة لسكنى الروح، والمثل المعروف هو مصباح الكهرباء : إنك إن رميت عليه حجرا صغيرا، ينكسر وينطفئ النور برغم أن الكهرباء موجودة لكنها لا تعطي نورا إلا في وعاء له مواصفات خاصة، فإذا ذهبت هذه المواصفات الخاصة يذهب النور، فتاتي بمصباح جديد له المواصفات الخاصة الصالحة فتجد النور قد جاء.
وكذلك الروح لا تسكن إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإن جئت لهذه المواصفات الخاصة وسيدها المخ، وضربته ضربة قاسية، فقد نقضت البنية، وفي هذه الحالة تغادر الروح الجسد لأنه غير صالح لها، لكن الموت يأتي من غير نقض للبنية، ومصداق ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ ( من الآية ١٤٤ سورة آل عمران ).
أي أن هناك أمرين : هناك موت، وهناك قتل، فالموت هو سلب الحياة، والقتل هو سلب الحياة، ولكن القتل سلب الحياة بعد نقض البنية التي تسكن فيها الروح، ويختلف عن الموت لأن الموت هو خروج الروح دون قتل، ولذلك يقولون : مات حتف انفه. أي مات على فراشه ولم يحدث له أي شيء.
والذي يقتل في الشهادة يقول فيه ربنا :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩ ﴾ ( سورة آل عمران ).
فإذا كان من يقاتل في سبيل الله قد امتثل لأمر الله فسوف يجد فضلا أكثر، فكيف يكون جزاء من يقتل نفسه امتثالا لأمر ربه ؟ إن امتحان النفس يكون بالنفس، وليس امتحان النفس بالعدو. وما الميزة في سيدنا إبراهيم ؟ هل قال له الحق : أنا سأميت ولدك ؟ أقال له إن واحدا آخر سيقتل ابنك ؟ لا، بل قال له : اذبحه أنت. وهذه هي ارتقاء قتل النفس، فيفدي الحق إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. إذن فإذا جاء الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه فلابد أن هناك مرتبة أعلى. ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾.
ونحن أمام أمرين : إما أن يقتلوا، وإما أن يخرجو
أي أن العلم الذي أعطاه الله لذلك العبد لم يعلمه موسى، وعطاء الله للعلم خاضع لمشيئته، ونعرف من قبل أن الحسنات والعمال لها نظام، فمن يعمل خيرا يأخذ مقابله كذا حسنة، ولكن هناك أعمال حسناتها من غير حساب ويجازي عليها الحق بفضله هو. وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نحن نجد ذلك متمثلا لنا في كثير من تصرفاتنا، تقول لابنك مثلا : يا بني كم أجرك عندي من هذا العمل ؟ فيقول لك : مائة جنيه. فتقول له : هذه مائة هي أجرك، وفوقها خمسون من عندي أنا، ماذا تعني " من عندي أنا " هذه ؟ إنها تعني أنه مبلغ ليس له دخل بأجر العمل.
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ﴾ لقد عرفنا من قبل أن هناك فرقا بين القتل والموت، صحيح أن كليهما فيه إذهاب للحياة، لكن الموت : إذهاب للحياة بدون نقض البنية للجسم، ولكن القتل : إذهاب للحياة بنقض البنية كان يكسر إنسان رأس إنسان آخر، أو يطلق رصاصة توقف قلبه، وهذا هدم للبنية، والروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات، والروح لم تذهب أولا. بل أن البنية هدمت أولا. فلم تعد صالحة لسكنى الروح، والمثل المعروف هو مصباح الكهرباء : إنك إن رميت عليه حجرا صغيرا، ينكسر وينطفئ النور برغم أن الكهرباء موجودة لكنها لا تعطي نورا إلا في وعاء له مواصفات خاصة، فإذا ذهبت هذه المواصفات الخاصة يذهب النور، فتاتي بمصباح جديد له المواصفات الخاصة الصالحة فتجد النور قد جاء.
وكذلك الروح لا تسكن إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإن جئت لهذه المواصفات الخاصة وسيدها المخ، وضربته ضربة قاسية، فقد نقضت البنية، وفي هذه الحالة تغادر الروح الجسد لأنه غير صالح لها، لكن الموت يأتي من غير نقض للبنية، ومصداق ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ ( من الآية ١٤٤ سورة آل عمران ).
أي أن هناك أمرين : هناك موت، وهناك قتل، فالموت هو سلب الحياة، والقتل هو سلب الحياة، ولكن القتل سلب الحياة بعد نقض البنية التي تسكن فيها الروح، ويختلف عن الموت لأن الموت هو خروج الروح دون قتل، ولذلك يقولون : مات حتف انفه. أي مات على فراشه ولم يحدث له أي شيء.
والذي يقتل في الشهادة يقول فيه ربنا :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩ ﴾ ( سورة آل عمران ).
فإذا كان من يقاتل في سبيل الله قد امتثل لأمر الله فسوف يجد فضلا أكثر، فكيف يكون جزاء من يقتل نفسه امتثالا لأمر ربه ؟ إن امتحان النفس يكون بالنفس، وليس امتحان النفس بالعدو. وما الميزة في سيدنا إبراهيم ؟ هل قال له الحق : أنا سأميت ولدك ؟ أقال له إن واحدا آخر سيقتل ابنك ؟ لا، بل قال له : اذبحه أنت. وهذه هي ارتقاء قتل النفس، فيفدي الحق إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. إذن فإذا جاء الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه فلابد أن هناك مرتبة أعلى. ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾.
ونحن أمام أمرين : إما أن يقتلوا، وإما أن يخرجو