عرضنا فيما سبق خواطرنا حول تسمية السور، وهنا تأتي سورة النساء والاسم المختار لها اسم مكرم للجنس الآخر من النوع الإنساني، ونلحظ أن الحق لم ينزل سورة باسم سورة الرجال، وجاء بسورة وسماها " سورة النساء " وتتعلق بها أحكام كثيرة، وأيضا سيتكلم في سورة المائدة عن حقوق النساء، وأيضا سيتكلم في سورة الأحزاب عن النساء، وأيضا سيتكلم في سورة الممتحنة عن النساء، وفي سورة المجادلة عن النساء وفي سورة الطلاق، وفي سورة التحريم عن النساء، إنها أحكام منصوص عليها في القرآن عن حقوق المرأة، وهذه الأحكام جاءت لتتكلم عن الوعاء الحاضن للنفس البشرية.
ونحن نعرف أن مهمة الرجل مع الأجناس الدنيا في الحياة مع الجهاد في المعمل، ومع الحيوانات يربى، ومع الزرع يزرع. إن الرجل يعمل مع تلك الأجناس، والأجناس كما نعلم هي : جماد، ونبات، وحيوان، وإنسان، ومجال الإنسان الرجل هو العمل مع الجماد ومع الحيوان، أما مجال المرأة فمع الإنسان، أيوجد تكريم للمرأة أكثر من أن الله جعلها الحاضنة لأكرم مخلوقاته وهو الإنسان ؟
انظر إلى طفولة كل الأشياء، والنبات والحيوان تجدها طفولات قصيرة، هناك حيوانات لا تطول طفولتها لأكثر من شهر، وهناك حيوانات تستمر طفولتها أياما، وهناك نبات تكون طفولته سبع سنين وهذه طفولة الشجر المعمر لكن طفولة الإنسان تستمر من الميلاد حتى أربع عشرة سنة، وهي فترة حضانة طويلة، ولماذا يجعل الله لهذا الإنسان المكرم حضانة طويلة ؟.
إن مهمة الإنسان في الحياة جليلة. إذن فطفولته تحتاج إلى عناية، وفي مرحلة الطفولة يتشرب الإنسان نضج ما حوله ليكون سلوكياته، وعندما يكون في حضن أمه فهو في حضن المرأة، بينما يكدح والده في الحياة، ويأتي لهما بالرزق، ويسكن عند الزوجة.
فالمرأة عندما قاضت الرجل وخاصمته أمام القاضي وهو يريد أن يأخذ ابنه منها، قالت للقاضي : لقد حمله خفا، يعني حمله في ظهره خفيفا لا يدري به ووضعه شهوة، ولكنني حملته كرها على كره ؛ لذلك فبعد أن أنزل الحق في آل عمران سورة وهم قدوة الاصطفاء في الرسالات وفي التكليفات، ومنهم جاء لنا ببعض الرسل، وجاء منهم بمنفذين لمنهج الله مثل امرأة عمران، فلم تكن هي ولا مريم عليهما السلام نبية ولا رسولة ولكن نفذت كل واحدة منهما ما أمرت به.
وبعد تخصيص سورة لآل عمران يأتي لنا الحق بسورة النساء.
والحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب الذين آمنوا فانتظروا منه تكليفا. ساعة يقول :" يا أيها الذين آمنوا " فافهم أنه يريد أن يكلفك. وسبحانه يوضح لك : أنا لا أقتحم عليك اختيارك، ولا أكلفك إلا بما كلفت أنت به نفسك لأنك آمنت بي، وما دمت آمنت بي ربا إلها قادرا حكيما فاسمع مني.
إن الله لم يدخلك في الإيمان فأنت الذي دخلت باختيارك في الإيمان فيجب أن تستمع إلى من آمنت به، وقلنا ؛ ولله المثل الأعلى الإنسان منا عندما يذهب إلى الطبيب فهو يختار هذا الطبيب ؛ لأنه أنسب الأطباء لعلاجه، وساعة يذهب إلى مثل هذا الطبيب فهو يلتزم بأوامره، ويأخذ تذكرة العلاج ويصرفها من الصيدلية، وإن لم يجدها يحتال على أي واحد يسافر للخارج ليأتي بها، وينفذ المريض ما بها من أوامر.
وسبحانه يقول هنا :﴿ يا أيها الناس ﴾ إنه لا يطلب من الإنسان أي تكليفات، لكنه يطلب منك أيها الانسان أن تؤمن. فيوضح " يا أيها الناس ". إنه ينادي الناس : تعالوا إلى جانبي كي تروا أيؤمن بي أم لا يؤمن بي ؟ والمقصود ب " يا أيها الناس " هم آدم وذريته.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث فيهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ١ ﴾.وساعة يدعو الله سبحانه الناس إلى تقواه يقول :" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " ومعنى " اتقوا ربكم " أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية، وماذا أفعل لأتقي ربنا ؟.
أول التقوى ان تؤمن به إلها، وتؤمن أنه إله بعقلك، إنه سبحانه يعرض لك القضية العقلية للناس فيقول :" يا أيها الناس اتقوا ربكم " ولم يقل : اتقوا الله، لأن الله مفهومه العبادة، فالإله معبود له أوامر وله نواه، لم يصل الحق بالناس لهذه بعد، انما هم لا يزالون في مرتبة الربوبية، و الرب هو : المتولي تربية الشيء، خلقا من عدم وإمداد من عدم، لكن أليس من حق المتولي خلق الشيء، وتربيته أن يجعل له قانون صيانة ؟.
إن من حقه ومسئوليته أن يضع للمخلوق قانون صيانة. ونحن نرى الآن أن كل مخترع او صانع يضع لاختراعه أو للشيء الذي صنعه قانون صيانة، بالله أيخلق سبحانه البشر من عدم وبعد ذلك يتركهم ليتصرفوا كما يشاءون ؟ أم يقول لهم : اعملوا كذا وكذا ولا تعملوا كذا وكذا، لكي تؤدوا مهمتكم في الحياة ؟ إنه يضع دستور الدعوة للإيمان فقال :" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم ". إذن فالمطلوب منهم أن يتقوا، ومعنى يتقوا أن يقيموا الوقاية لأنفسهم بأن ينفذوا أوامر هذا الرب الإله الذي خلقهم، وبالله أيجعل خلقهم علة إلا إذا كان مشهودا بها له ؟ هو سبحانه يقول :" اتقوا ربكم الذي خلقكم " كان خلقة ربنا لنا مشهود بها، وإلا لو كان مشكوكا فيها لقلنا له : إنك لم تخلقنا ولله المثل الأعلى.
انت تسمع من يقول لك : أحسن مع فلان الذي صنع لك كذا وكذا، فأنت مقر بأنه صنع أم لا ؟ فإذا أقررت بأنه صنع ما صنع فأنت تستجيب لمن يقول لك مثل ذلك الكلام. إذن فقول الله :" ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم " فكأن خلق الله للناس ليس محل جدال ولا شك من احد، فأراد سبحانه أن يجذبنا إليه ويأخذنا إلى جنابه بالشيء الذي نؤمن به جميعا وهو أنه سبحانه خلقنا إلى الشيء الذي يريده وهو ان نتلقى من الله ما يقينا من صفات جلاله، وجاء سبحانه بكلمة " رب " ولم يقل :" اتقوا الله "، لأن مفهوم الرب هو الذي خلق من عدم وأمد من عدم، وتعهد وهو المربي ويبلغ بالإنسان مرتبة الكمال الذي يراد منه وهو الذي خلق كل الكون فأحسن الخلق والصنع، ولذلك يقول الحق :
﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ٦١ ﴾( سورة العنكبوت ).
إذن فقضية الخلق قضية مستقرة. ومادامت قضية مستقرة فمعناها : مادمتم آمنتم بأني خالقكم فلي قدرة إذن، هذه واحدة، وربيتكم إذن فلي حكمة، وإله له قدرة وله حكمة، إما أن نخاف من قدرته فنرهبه وإما أن نشكر حكمته فنقر به، " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ". لو لم يقل الحق :" وجعل منها زوجها " لما كملت، لماذا ؟ لأنه سيقول في آيات أخرى عن الإيجاد :
﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ٤٩ ﴾( سورة الذاريات ).
إذن فخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها هنا، والناس تريد أن تدخل في متاهة. هل خلق منها المقصود به خلق حواء من ضلع آدم أي من نفس آدم ؟ أناس قالوا ذلك، وأناس قالوا : لا، " منها " تعني من جنسها، ودللوا على ذلك قائلين : حين يقول الله :
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾( من الآية ١٢٨ سورة التوبة ).
أأخذ الله محمدا صلى الله عليه وسلم من نفوسنا وكونه ؟ لا، إنما هو رسول من جنسنا البشري، وكأنه سبحانه قد أشار إلى دليل ؛ لأن خلق حواء قد انطمست المعالم عنه، ولأنه أعطانا بيان خلق آدم وتسويته من طين ومراحل خلقه إلى أن صار إنسانا، ولذلك يجوز أن يكون قد جعل خلق آدم هو الصورة لخلق الجنس الأول، وبعد ذلك تكون حواء مثله، فيكون قوله سبحانه :" خلق منها " أي من جنسها، خلقها من طين ثم صورها الخ ؛ ولكن لم يعد علينا التجربة في حواء كما قالها في آدم، أو المراد من قوله :" منها " أي من الضلع، وهذا شيء لم نشهد أوله، والشيء الذي لم يشهده الإنسان فالحجة فيه تكون ممن شهده، وسبحانه أراد أن يرحمنا من متاهات الظنون في هذه المسألة، مسألة كيف خلقنا، وكيف جئنا ؟.
إن كيفية خلقك ليس لك شأن بها، فالذي خلقك هو الذي يقول لك فاسمع كلامه لأن هذه مسألة لا تتعلق بعلم تجريبي ؛ ولذلك عندما جاء " دارون " وأراد أن يتكبر ويتكلم، جاءت النظرية الحديثة لتهدم كلامه، قالت النظرية الحديثة لدارون : إن الأمور التي أثرت في القرد الأول ليكون إنسانا، لماذا لم تؤثر في بقية القرود ليكونوا أناسا وينعدم جنس القرود ؟ ! وهذا سؤال لا يجيب عليه دارون ؛ لذلك نقول : هذا أمر لم نشهده فيجب أن نستمع ممن فعل، والحق سبحانه يقول :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ٥١ ﴾( سورة الكهف ).
ومادام لم يشهدهم، فهل يستطيع أحد منهم أن يأتي بعلم فيها ؟ إن أحدا لا يأتي بعلم فيها، وبعد ذلك يرد على من يجيء بادعاء علم فيقول :" وما كنت متخذ المضلين عضدا "، معنى مضلين أنهم سيضلونكم في الخلق. كأن الله أعطانا مناعة في الأقوال الزائفة التي يمكن أن تنشأ من هذا عندما قال :" وما كنت متخذ المضلين عضدا "، فقد أوضح لنا طبيعة من يضللون في أصل الخلق وفي كيفية الخلق، فهم لم يكونوا مع الله ليعاونوه ساعة الخلق حتى يخبروا البشر بكيفية الخلق. فإن أردتم أن تعرفوا فاعلموا أنه سبحانه الذي يقول كيف خلقتم وعلى أي صورة كنتم، ولكن من يقول كذا وكذا، هم المضللون، و " المضللون " هم الذين يلفتونكم عن الحق إلى الباطل.
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى ؟ لأنه عندما يرد الشيء إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى، وإنما هذه ردت إلى واحدة فقط، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة، أما عن نظرية " دارون " وما قاله من كلام فقد قيض الله لقضية الدين وخاصة قضية الإسلام علماء من غير المسلمين اهتدوا إلى دليل يوافق القرآن، فقام العالم الفرنسي " مونيه "، عندما أراد أن يرد على الخرافات التي يقولونها من أصل الإنسان كذا وكذا، وقال : أنا أعجب ممن يفكرون هذا التفكير، هل توجد المصادفة ما نسميه " ذكرا " ثم توجد المصادفة شخصا نسميه " أنثى " ويكون من جنسه لكنه مختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا جاءا بذكر كالأول أو بأنثى كالثاني ؟.
كيف تفعل المصادفة هذه العملية ؟
سنسلم أن المصادفة خلقت آدم، فهل المصادفة أيضا خلقت له واحدة من جنسه. ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا ينشأ بينهما سيال عاطفي جارف وهو أعنف الغرائز، ثم ينشأ منهما تلقيح ينشئ ذكرا كالأول أو ينشئ أنثى كالثاني ؟ أي مصادفة هذه ؟ هذه المصادفة تكون عاقلة وحكيمة، سموها مصادفة ونحن نسميها الله.
لقد ظن " مونيه " هداه الله إلى الإسلام وغفر له أنه جاء بالدليل الذي يرد به على دارون، نقول له : إن القرآن قد مس هذه المسألة حين قال :" اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها "، وهذه هي العظمة، إنه خلق الرجل وخلق الأنثى ؛ وهي من جنسه، ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا أنشأ الله منهما رجالا ونساء. إذن فهو عملية مقصودة، وعناية وغاية وحكمة، إذن فقول الله سبحانه وتعالى :" الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ". هذه جاءت بالدليل الذي هدي إليه العالم الفرنسي " مونيه " أخيرا.
" وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " وانظروا عظمة الأسلوب في قوله " وبث " أي " نشر " وسنقف عند كلمة " نشر " لأن الخلق يجب أن ينتشروا في الأرض، كي يأخذوا جميعا من خيرات الله في الأرض جميعا.
و " النشر " معناه تفريق المنشور في الحيز، فهناك شيء مطوي وشيء آخر منشور، والشيء المطوي فيه تجمع، والشيء المنشور فيه تفرق وتوزيع، إذن فحيز الشيء المتجمع ضيق، وحيز الشيء المبثوث واسع، معنى هذا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول :" وبث منهما " أي من آدم وحواء " رجالا كثيرا ونساء " واكتفى بأن يقول " نساء " ولم يقل : كثيرات لماذا ؟ لأن المفروض في كل ذكورة أن تكون أقل في العدد من الأنوثة. وأنت إذا نظرت مثلا في حقل فيه نخل، تجد كم ذكرا من النخل وكم أنثى ؟ ستجد ذكرا أو اثنين.
إذن القلة في الذكور مقصودة لأن الذكر مخصب ويستطيع الذكر أن يخصب آلافا، فإذا قال الله :" وبث منهما رجالا كثيرا " فالذكورة هي العنصر الذي يفترض أن يكون أقل كثيرا، فماذا عن العنصر الثاني وهو الأنوثة ؟ لا بد ان يكون أكثر، والقرآن يأتي لينبهك إلى المعطيات في الألفاظ لأن المتكلم الله، ولكن إذا نظرت لقوله :" وبث منهما " أي من آدم وحواء وهما اثنان " رجالا كثيرا ونساء ". فتكون جمعا وهذا ليدلك على أن المتكاثر يبدأ بقلة ثم ينتهي بكثرة.
ونريد أن نفهم هذه كي نأخذ منها الدليل الإحصائي على وجود الخالق، فهو " بث منهما رجالا كثيرا ونساء " والجمع البشري الذي ظهر من الاثنين سيبث منه أكثر.. وبعد ذلك يبث من المبثوث الثاني مبثوثا ثالثا، وكلما امتددنا في البث تنشأ كثرة، وعندما تنظر لأي بلد من البلاد تجد تعداده منذ قرن مضى أقل بكثير جدا من تعداده الآن، مثال ذلك كان تعداد مصر منذ قرن لا يتعدى خمسة ملايين، ومن قرنين كان أقل عددا، ومن عشرة قرون كان أقل، ومن عشرين قرنا كان أقل، إذن فكلما امتد بك المستقبل فالتعداد يزيد، لأنه سبحانه يبث من الذكورة والأنوثة رجالا كثيرا ونساء وسيبث منهم أيضا عددا أكبر.
إذن فكلما تقدم الزمن تحدث زيادة في السكان، ونحن نرى ذلك في الأسرة الواحدة، إن الأسرة الواحدة مكونة عادة من أب وأم، وبعد ذلك يمكن أن نرى منهما أبناء وأحفادا وعندما يطيل الله في عمر أحد الوالدين يرى الأحفاد وقد يرى أحفاد الأحفاد. إذن كلما تقدم الزمن بالمتكاثر من اثنين يزداد وكلما رجعت إلى الماضي يقل ؛ فالذين كانوا مليونا من قرن كانوا نصف مليون من قرنين، وسلسلها حتى يكونوا عشرة فقط، والعشرة كانوا أربعة، والأربعة كانوا اثنين والاثنان هما آدم وحواء.
فعندما يقول الحق : إنه خلق آدم وحواء، وتحاول أنت أن تسلسل العالم كله سترجعه لهما، ومادام التكاثر ينشأ من الإثنين، فمن أين جاءا ؟ الحق سبحانه يوضح لنا ذلك بقوله :" إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " وهو بذلك يريحنا من علم الإحصاء. وكان من الضروري أن تأتي هذه الآية كي تحل لنا اللغز في الإحصاء، وكلما أتى الزمن المستقبل كثر العالم وكلما ذهبنا إلى الماضي قل التعداد إلى أن يصير وينتهي إلى اثنين، وإياك أن تقول إلى واحد، لأن واحدا لاياتي منه تكاثر فالتكاثر ياتي من اثنين ومن اين جاء الاثنان ؟ لابد ان احدا خلقهما، وهو قادر على هذا، ويعلمنا الله ذلك فيقول :" خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " ونأخذ من " بث " " الانتشار "، ولو لم يقل الله هذا لكانت العقول الحديثة تتوه وتقع ف
وكيف نؤتي اليتيم ماله وهو لم يبلغ مبلغ الرجال بعد، ونخشى أن نعطيه المال، فيضيعه ؟.
انظر إلى دقة العبارة في قوله من بعد ذلك :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾( من الآية ٦ سورة النساء ).
وقبل ذلك ماذا نفعل ؟ هل ندفع لهم الأموال ؟ الحق يوضح أنك ساعة تكون وليا على مال اليتيم فاحرص جيدا أن تعطي هذا اليتيم ماله كاملا بعد أن يستكمل نضجه كاملا، فأنت حفيظ على هذا المال، وإياك أن تخلط مالك بماله أو تتبدل منه، أي تأخذ الجميل والثمين من عنده وتعطيه من مالك الأقل جمالا أو فائدة.
إذن فقوله :" وآتوا اليتامى أموالهم " أي أن الله جعل المال لليتيم ولم يجعل للقيم عليه أن يتصرف في هذا المال إلا تصرف صيانة، وأيضا هنا ملحظ آخر هو ما شرحه لنا " وابتلوا اليتامى " فهناك أناس يريدون ان يطيلوا أمد الوصاية على اليتيم، لكي ينتفع الواحد منهم بهذا المال فيوضح سبحانه : لا تنتظر إلى أن يبلغ الرشد ثم تقول ننظره، لا. أنت تدربه بالتجربة في بعض التصرفات وتنظر أسيحسن التصرف أم لا ؟.
إن قول الحق :" وابتلوا اليتامى " أي اختبروهم، هل يستطيعون أن يقوموا بمصالحهم وحدهم ؟ فإن استطاعوا فاطمئنوا إلى أنهم ساعة يصلون إلى حد الحلم سيحسنون التصرف، أعطوهم أموالهم بعد التجربة ؛ لأن اليتيم يعيش في قصور عمري، وهو سبحانه يفرق بين اليتيم والسفيه، فالسفيه لا يعاني من قصور عمري بل من قصور عقلي، وعندما تكلم سبحانه عن هذه المسألة قال :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾( من الآية ٥ سورة النساء ).
فهل هي أموالكم ؟ لا. فحين يكون المرء سفيها فاعلم أنه لا إدارة له على ملكه، وتنتقل إدارة الملكية إلى من يتصرف في المال تصرفا حكيما، فاحرص على أن تدير مال السفيه كأنه مالك ؛ لأنه ليس له قدرة على حسن التصرف. لكن لما يبلغ اليتيم إلى مرحلة الباءة والنكاح والرشد يقول الحق :﴿ فادفعوا إليهم أموالهم ﴾( من الآية ٦ سورة النساء ).
إنه سبحانه يقول مرة في الوصاية :" أموالكم " وفي العطاء يقول :" أموالهم " إذن فهو يريد ألا تبدد المال، ثم يوضح. احرص على ثروة اليتيم أو السفيه وكأنها مالك ؛ لأنه مادام سفيها فمسئولية الولاية مطلوبة منك، والمال ليس ملكا لك. خذ منه ما يقابل إدارة المال وقت السفه أو اليتم، وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعلم القائمين على أمر اليتامى أو على أمر السفهاء الذين لا يحسنون إدارة أموالهم فيقول :﴿ وارزقوهم فيها ﴾( من الآية ٥ سورة النساء ).
اجعلوا الرزق مما يخرج منها، وإياكم أن تبقوها عندكم، وإلا فما قيمة ولايتك ووصايتك وقيامك على أمر السفيه أو اليتيم ؟ إنك تثمر له المال لا ان تأكله أو لا تحسن التصرف فيه بحيث ينقص كل يوم، لا. " وارزقوهم فيها "، و " في " هنا للسببية، أي ارزقوهم بسببها، ارزقوهم رزقا خارجا منها.
" وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " والخبيث هو الحرام والطيب هو الحلال، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، فقد يكون ضمن مال اليتيم شيء جميل فيأخذه الوصي لنفسه ويستبدله بمثل له قبيح، مثال ذلك، أن يكون ضمن مال اليتيم فرس جميل، وعند الوصي فرس قبيح فيأخذه ويقول : فرس بفرس، أو جاموسة مكان جاموسة، أو نخلة طيبة بنخلة لا تثمر، هنا يقول الحق :" ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ".
وقوله سبحانه وتعالى :" ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " يعني إياكم ألا تجعلوا فرقا بين أموالهم وأموالكم فتأكلوا هذه مع تلك، بل فرقوا بين أكل أموالكم والحفاظ على أموالهم لماذا ؟ تأتي الإجابة :" إنه كان حوبا كبيرا " أي إثما فظيعا.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ٣ ﴾.
هنا يؤكد الحق الأمر بأن ابتعدوا عن اليتامى. فاليتيم مظنة ان يظلم لضعفه، وبخاصة إذا كان أنثى. إن الظلم بعامة محرم في غير اليتامى، ولكن الظلم مع الضعيفة كبير، فهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها، فالمبالغة الرشيدة من النساء قد تستطيع أن تدفع الظلم عن نفسها. وقوله الحق : " وإن خفتم ألا تقسطوا " من " أقسط "، أي عدل، والقسط من الألفاظ التي تختلط الأذهان فيها، و " القسط " مرة يطلق ويراد به " العدل "، إذا كان مكسور القاف، ولذلك يأتي الحق سبحانه فيقول :
﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ١٨ ﴾ ( سورة آل عمران ).
وهكذا نعرف أن كلمة " قسط " تأتي مرة للعدل ومرة للجور.
ف " قسط " " يقسط " " قسطا " و " قسوطا " أي ظلم بفتح القاف في " قسط وضمها في " قسوط ".
والقسط بكسر القاف هو العدل.. والقسط بفتح القاف كما قلنا هو الظلم. وهناك مصدر ثان هو " قسوط " لكن الفعل واحد، وعندما يقول الحق :" وإن خفتم ألا تقسطوا " من أقسط. أي خفتم من عدم العدل وهو الظلم. وهناك في اللغة ما نسميه همزة الإزالة، وهي همزة تدخل على الفعل فتزيله، مثال ذلك : فلان عتب على فلان، أي لامه على تصرف ما، ويقال لمن تلقى العتاب عندما يرد على صاحب العتاب : أعتبه، أي طمأن خاطره وأزال مصدر العتاب.
ويقال : محمد عتب على علي. فماذا كان موقف علي ؟ يقال : أعتب محمدا أي طيب خاطره وأزال العتاب. ويقال أعجم الكتاب. فلا تفهم من ذلك أنه جعل الكتاب معجما، لا، فأعجمه أي أزال إبهامه وغموضه. كذلك " أقسط. أي ازال القسط والظلم اذن القسط هو العدل من اول الامر لكن اقسط إقساطا " تعني انه كان هناك جور أو ظلم وتم رفعه. والأمر ينتهي جميعه إلى العدل. فالعدل إن جاء ابتداء هو : قسط بكسر القاف. وإن جاء بعد جور تمت إزالته فهو إقساط. فحين يقال " أقسط " و " تقسطوا " بالضم، فمعناها انه كان هناك جور وظلم تم رفعه، ولذلك فعندما نقرأ القرآن نجده يقول :
﴿ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ١٥ ﴾( سورة الجن ).
والقاسطون هنا من القسط بالفتح ومن القسوط بالضم، أي من الجور والظلم، ونجد القرآن الكريم يقول أيضا :
﴿ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ﴾ ( من الآية ٤٢ سورة المائدة ).
أي أن الله يحب الذين إن رأوا ظلما أزالوه واحلوا محله العدل.
الحق هنا في سورة النساء يقول :" وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " أي إن خفتم ألا ترفعوا الظلم عن اليتامى، ومعنى أن تخاف من ألا تقسط لأنك بار تعرف كيف تنقذ نفسك من مواطن الزلل. أي فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها. وإن أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء.
ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا، فهو لم يقل : اترك واحدة وخذ واحدة، لكنه أوضح : اترك اليتيمة وأمامك النساء كثيرات. إذن فقد ناسب الحال أن تجيء مسألة التعدد هنا، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولي عن نكاح اليتيمات مخافة أن يظلمهن، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة ؛ لأن النساء غيرها كثيرات. " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ".
وقوله الحق :" ما طاب لكم من النساء " أي غير المحرمات في قوله تعالى :
﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ٢٢ ﴾( سورة النساء ).
وفي قوله سبحانه :
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ٢٣ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ﴾ ( سورة النساء ).
إذن فما طاب لكم من النساء غير المحرمات هن اللاتي يحللن للرجل " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة او ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " وهنا يجب ان نفهم لماذا جاء هذا النص ؛ ولماذا جاء بالمثنى والثلاث والرباع هنا ؟.
إنه سبحانه يريد أن يزهد الناس في نكاح اليتيمات مخافة أن تأتي إلى الرجل لحظة ضعف فيتزوج اليتيمة ظالما لها، فأوضح سبحانه : اترك اليتيمة، والنساء غيرها كثير، فأمامك مثنى وثلاث ورباع، وابتعد عن اليتيمة حتى لا تكون طامعا في مالها أو ناظرا إلى ضعفها أو لأنها لم يعد لها ولي يقوم على شأنها غيرك.
ونريد أن نقف هنا وقفة أمام قوله تعالى :" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ما معنى مثنى ؟ يقال " مثنى " أي اثنين مكررة، كأن يقال : جاء القوم مثنى، أي ساروا في طابور وصف مكون من اثنين اثنين. هذا يدل على الوحدة الجائية.
ويقال : جاء القوم ثلاث، أي ساروا في طابور مكون من ثلاثة ؛ ثلاثة ويقال : جاء القوم رباع. أي جاء القوم في طابور يسير فيه كل أربعة خلف أربعة أخرى.
ولو قال واحد : إن المقصود بالمثنى والثلاث والرباع أن يكون المسموح به تسعة من النساء. نقول له : لو حسبنا بمثل ما تحسب، لكان الأمر شاملا لغير ما قصد الله، فالمثنى تعني أربعة، والثلاث تعني ستة، والرباع تعني ثمانية، وبذلك يكون العدد ثمانية عشر، ولكنك لم تفهم، لأن الله لا يخاطب واحدا، لكن الله يخاطب جماعة، فيقول :" وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ".
فإذا قال مدرس لتلاميذه : افتحوا كتبكم، أيعني هذا الأمر أن يأتي واحد ليفتح كل الكتب ؟ لا، إنه أمر لكل تلميذ بأن يفتح كتابه، لهذا فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا.
وعندما يقول المدرس : أخرجوا أقلامكم. أي على كل تلميذ أن يخرج قلمه.
وعندما يقال : اركبوا سياراتكم، أي أن يركب كل واحد سيارته. إذن فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، وقوله الحق :" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " هو قول يخاطب جماعة، فواحد ينكح اثنتين وآخر ينكح ثلاث نساء وثالث ينكح أربع نساء.
والحق سبحانه وتعالى حينما يشرع الحكم يشرعه مرة إيجابا ومرة يشرعه إباحة، فلم يوجب ذلك الأمر على الرجل، ولكنه أباح للرجل ذلك، وفيه فرق واضح بين الإيجاب وبين الإباحة. والزواج نفسه حتى من واحدة مباح. إذن ففيه فرق بين أن يلزمك الله أن تفعل وأن يبيح لك أن تفعل. وحين يبيح الله لك أن تفعل، ما المرجح في فعلك ؟ إنه مجرد رغبتك.
ولكن إذا أخذت الحكم، فخذ الحكم من كل جوانبه، فلا تأخذ الحكم، بإباحة التعدد ثم تكف عن الحكم بالعدالة، وإلا سينشأ الفساد في الأرض، وأول هذا الفساد أن يتشكك الناس في حكم الله. لماذا ؟ لأنك إن أخذت التعدد، وامتنعت عن العدالة فأنت تكون قد أخذت شقا من الحكم، ولم تأخذ الشق الآخر وهو العدل، فالناس تجنح أما التعدد وتبتعد وتميل عنه لماذا ؟ لأن الناس شقوا كثيرا بالتعدد أخذا لحكم الله في التعدد وتركا لحكم الله في العدالة.
والمنهج الإلهي يجب أن يؤخذ كله، فلماذا تكره الزوجة التعدد ؟ لأنها وجدت أن الزوج إذا ما تزوج واحدة عليها التفت بكليته وبخيره وببسمته وحنانه إلى الزوجة الجديدة، لذلك فلابد للمرأة ان تكره زواج الرجل عليها بامرأة أخرى.
إن الذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب ان يلزموا انفسهم بحكم الله أيضا في العدالة، فان لم يفعلوا فهم يشيعون التمرد على حكم الله، وسيجد الناس حيثيات لهذا التمرد، وسيقال : انظر، إن فلانا تزوج بأخرى وأهمل الأولى، او ترك أولاده دون رعاية واتجه إلى الزوجة الجديدة.
فكيف تأخذ إباحة الله في شيء ولا تأخذ إلزامه في شيء آخر، إن من يفعل ذلك يشكك الناس في حكم الله، ويجعل الناس تتمرد على حكم الله والسطحيون في الفهم يقولون : إنهم معذورون، وهذا منطق لا يتأتى.
إن آفة الأحكام أن يؤخذ حكم جزئي دون مراعاة الظروف كلها، والذي يأخذ حكما عن الله لا بد أن يأخذ كل منهج الله.
هات إنسانا عدل في العشرة وفي النفقة وفي البيتوتة وفي المكان وفي الزمان ولم يرجح واحدة على أخرى، فالزوجة الأولى إن فعلت شيئا فهي لن تجد حيثية لها أمام الناس. أما عندما يكون الأمر غير ذلك فإنها سوف تجد الحيثية للاعتراض، والصراخ الذي نسمعه هذه الأيام إنما نشأ من أن بعضا قد أخذ حكم الله في إباحة التعدد ولم يأخذ حكم الله في عدالة المعدد. والعدالة تكون في الأمور التي للرجل فيها خيار. أما الأمور التي لا خيار للرجل فيها فلم يطالبه الله بها.
ومن السطحيين من يقول : إن الله قال : اعدلوا، ثم حكم أننا لا نستطيع أن نعدل. نقول لهم : بالله أهذا تشريع ؟، أيعطي الله باليمين ويسحب بالشمال ؟ ألم يشرع الحق على عدم الاستطاعة فقال :
﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ١٢٩ ﴾( سورة النساء ).
وما دام قد شرع على عدم الاستطاعة في العدل المطلق فهو قد أبقى الحكم ولم يلغه، وعلى المؤمن ألا يجعل منهج الله له في حركة حياته عضين بمعنى أنه يأخذ حكما في صالحه ويترك حكما إن كان عليه. فالمنهج من الله يؤخذ جملة واحدة من كل الناس ؛ لأن أي انحراف في فرد من أفراد الأمة الإسلامية يصيب المجموع بضرر. فكل حق لك هو واجب عند غيرك، فإن أردت أن تأخذ حقك فأد واجبك. والذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يأخذوا حكم الله أيضا في العدل، وإلا أعطوا خصوم دين الله حججا قوية في إبطال ما شرع الله، وتغير ما شرع الله بحجة ما يرونه من آثار أخذ حكم وإهمال حكم آخر.
والعدل المراد في التعدد هو القسمة بالسوية في المكان، أي أن لكل واحدة من المتعددات مكانا يساوي مكان الأخرى، وفي الزمان، وفي متاع المكان، وفيما يخص الرجل من متاع نفسه، فليس له أن يجعل شيئا له قيمة عند واحدة، وشيئا لا قيمة له عند واحدة أخرى، يأتي مثلا ببجامة " منامة " صوف ويضعها عند واحدة، ويأتي بأخرى من قماش أقل جودة ويضعها عن واحدة، لا. لا بد من المساواة، لا في متاعها فقط، بل متاعك أنت الذي تتمتع به عندها، حتى أن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي بينهن في النعال التي يلبسها في بيته، فيأت
والمقصود ب " صدقاتهن " هو المهور، و " النحلة " هي العطية، وهل الصداق عطية ؟ لا. إنه حق وأجر بضع. ولكن الله يريد أن يوضح لنا : أي فليكن إيتاء المهور للنساء نحلة، أي وازع دين لا حكم قضاء، والنحلة هي العطية.
وانظر إلى اللمسات الإلهية والأداء الإلهي للمعاني، لأنك إن نظرت إلى الواقع فستجد الآتي :
الرجل يتزوج المراة، وللرجل في المرأة متعة، وللمرأة أيضا متعة أي أن كلا منهما له متعة وشركة في ذلك، وفي رغبة الإنجاب، وكان من المفترض ألا تأخذ شيئا، لأنها ستستمتع وأيضا قد تجد ولدا لها، وهي ستعمل في المنزل والرجل سيكدح خارج البيت، ولكن هذه عطية قررها الله كرامة للنساء " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " والأمر في " آتوا " لمن ؟ إما أن يكون للزوج فقوله :" وآتوا النساء صدقاتهن " يدل على أن المرأة صارت زوجة الرجل، وصار الرجل ملزما بالصداق ومن الممكن أن يكون دينا إذا تزوجها بمهر في ذمته يؤديه لها عند يساره، وإما أن يكون الأمر لولي أمرها فالذي كان يزوجه أخته مثلا، كان يأخذ المهر له ويتركها دون أن يعطيها مهرها، والأمر في هذه الآية إذن إما أن يكون للأزواج وإما أن يكون للأولياء. وحين يشرع الحق لحماية الحقوق فإنه يفتح المجال لأريحيات الفضل.
لذلك يقول :" فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ".
لقد عرف الحق الحقوق أولا بمخاطبة الزوج أو ولي الأمر في أن مهر الزوجة لها لأنه أجر البضع. ولكنه سبحانه فتح باب أريحية الفضل فإن تنازلت الزوجة فهذا أمر آخر، وهذا أدعى أن يؤصل العلاقة الزوجية أن يؤدم بينهما. والمراد هنا هو طيب النفس، وإياك أن تأخذ شيئا من مهر الزوجة التي تحث ولايتك بسبب الحياء، فالمهم أن يكون الأمر عن طيب نفس. " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ". والهنيء هو الشيء المأكول وتستسيغه حين يدخل فمك. لكنك قد تأكل شيئا هنيئا في اللذة وفي المضغ وفي الأكل ولكنه يورث متعبة صحية. إنه هنيء، لكنه غير مريء. والمقصود هو أن يكون طيب الطعم وليس له عواقب صحية رديئة. وهو يختلف عن الطعام الهنيء غير المريء الذي يأكله الإنسان فيطلب من بعده العلاج.
إذن فكل أكل يكون هنيئا ليس من الضروري أن يكون مريئا. وعلينا أن نلاحظ في الأكل أن يكون هنيئا مريئا.
والإمام علي رضوان الله عليه وكرم وجهه جاء له رجل يشتكي وجعا، والإمام علي كما نعرف مدينة العلم والفتيا، وهبه الله مقدرة على إبداء الرأي والفتوى.
لم يكن الإمام علي طبيبا.. لكن الرجل كان يطلب علاجا من فهم الإمام على وإشراقا ته.
قال الإمام علي للرجل : خذ من صداق امرأتك درهمين واشتر بهما عسلا، وأذب العسل في ماء مطر نازل لساعته أي قريب عهد بالله واشربه فإني سمعت الله يقول في الماء ينزل من السماء :
﴿ ونزلنا من السماء ماء مباركا ﴾( من الآية ٩ سورة ق ).
وسمعته سبحانه وتعالى يقول في العسل :
﴿ فيه شفاء للناس ﴾( من الآية ٦٩ سورة النحل ).
وسمعته يقول في مهر الزوجة :
﴿ فكلوه هنيئا مريئا ﴾ ( من الآية ٤ سورة النساء ).
فإذا اجتمع في دواء البركة والشفاء الهنيء والمريء عافاك الله إن شاء الله. لقد أخذ الإمام علي رضوان الله عليه وكرم الله وجهه عناصر أربعة ليمزجها ويصنع منها دواء ناجعا، كما يصنع الطبيب العلاج من عناصر مختلفة وقد صنع الإمام علي علاجا من آيات القرآن.
﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ٥ ﴾.
ومن هو السفيه ؟ إنه الذي لا صلاح له في عقل ولا يستطيع أن يصرف ماله بالحكمة. ومن الذي يعطى ماله إلى سفيه ؟ إن الحق يقول ذلك ليعلمنا كيفية التصرف في المال ومثال على ذلك يقول الحق :
﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾( من الآية ١١ سورة الحجرات ).
هل أحد منا يلمز نفسه ؟ لا، ولكن الإنسان يلمز خصمه، ولمز الخصم يؤدي إلى لمز النفس لأن خصمه سيلمزه ويعيبه أو لأنكما سواء. إذن فقول الحق : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " يعني أن الله يريد أن يقول : إن السفيه يملك المال، إلا أن سفهه يمنعه من أن يحسن التصرف. وعدم التصرف الحكيم يذهب بالمال ويفسده، وحين يكون سفيها فالمال ليس له تصرفا وإدارة ولكن المال لمن يصلحه بالقوامة.
أو أن الحق سبحانه وتعالى يعالج قضية كان لها وجود في المجتمع وهي أن الرجل إذا ما كان له أبناء، وكبروا قليلا، فهو يحب أن يتملص من حركة الحياة، ويعطى لهم حق التصرف في المال. وإن كان تصرفهم لا يتفق مع الحكمة، فكأنه قال سبحانه :" لا " إياك أن تعطي أموالك للسفهاء بدعوى أنهم أولادك. وإياك أن تملك أولادك ما وهبه الله لك من رزقك ؛ لأن الله جعل من مالك قياما لك، وإياك أن تجعل قيامك أنت في يد غيرك.
" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما. وارزقوهم فيها " وهل السفيه لا يعيش ؟ وهل يأكل السفيه دون أكل الرشيد ؟ أيلبس السفيه دون لبس الرشيد ؟ أيسكن السفيه دون مسكن الرشيد ؟ أيبتسم الإنسان في وجه الرشيد ولا يبتسم في وجه السفيه ؟ لا ؛ لذلك يأمر الحق ويقول :" وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا " ذلك أمر بحسن معاملة السفيه، وإياكم أن تعيروهم بسفههم، ويكفيهم ما هو فيه من سفه.
ويرجع الحق من بعد ذلك إلى اليتامى :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ٦ ﴾.
فسبحانه يقول :" وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا ".
فعندما يبلغ اليتيم الرشد وقد تم تدريبه على حسن إدارة المال. وعرف الوصي أن اليتيم قد استطاع أن يدبر ماله، ومن فور بلوغه الرشد يجب على الوصي أن يدفع إليه ماله، ولا يصح أن يأكل الوصي مال اليتيم إسرافا. والإسراف هو الزيادة في الحد ؛ لأنه ليس ماله، إنه مال اليتيم. وعندما قيل لرجل شره : ماذا تريد أيها الشره ؟ قال الشره :" أريد قصعة من ثريد أضرب فيها بيدي كما يضرب الولي السوء في مال اليتيم ". أنجانا الله وإياكم من هذا الموقف، ونجد الحق يقول :" ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ".
إن الحق سبحانه يحذرنا من الإسراف في مال اليتيم في أثناء مرحلة ما قبل الرشد، وذلك من الخوف أن يكبر اليتيم وله عند الولي شيء من المال أي أن يسرف الولي فينفق كل مال اليتيم قبل أن يكبر اليتيم ويرشد، والله سبحانه وتعالى حين يشرع فهو بجلال كماله يشرع تشريعا لا يمنع قوامة الفقير العادل غير الواجد. كان الحق قادرا أن يقول : لا تعطوا الوصية إلا لإنسان عنده مال لأنه في غنى عن مال اليتيم.
لكن الحق لا يمنع الفقير النزيه صاحب الخبرة والإيمان من الولاية.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن الولي :" ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " فلا يقولن أحد عن أحد آخر : إنه فقير، ولو وضعنا يده على مال اليتيم فإنه يأكله. لا، فهذا قول بمقاييس البشر، لا يجوز أن يمنع أحد فقيرا مؤمنا أن يكون وليا لليتيم ؛ لأننا نريد من يملك رصيدا إيمانيا يعلو به فوق الطمع في المال ؛ لذلك يقول الحق عن الوصي على مال اليتيم : إن عليه مسئولية واضحة.
فإن كان غنيا فليستعفف، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وحددوا المعروف بأن يأخذ أجر مثله في العمل الذي يقوم به.
وكلمة المعروف تعني الأمر المتداول عند الناس، أو أن يأخذ على قدر حاجته. ويقول الحق :" فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا " وانظروا الحماية، هو سبحانه يصنع الحماية للولي أو الوصي، فالحق يعلم خلقه، وخلقه من الأغيار والولي على اليتيم لا بد أن يلي الأمر بحكمة وحرص ؛ حتى لا يكرهه اليتيم. وربما قد يراضيه في كل شيء. نقول له : لا، أعطه بقدر حتى لا تفسده. فإذا ما أعطى الولي اليتيم بقدر ربما كرهه اليتيم ؛ لأن اليتيم قد يرغب في أشياء كمالية لا تصلح له ولا تناسب إمكاناته، وعندما يصل اليتيم إلى سن الرشد قد يتركز كرهه ضد الوصي، فيقول له : لقد أكلت مالي ؛ لذلك يوضح الحق للولي أو الوصي : كما حميت اليتيم بحسن ولايتك أحميك أنا من رشد اليتيم.
لذلك يجب عليك أيها الولي حين تدفع المال إليه أن تشهد عليه، لأنك لا تملك الأغيار النفسية، فربما وجد عليك وكرهك ؛ لأنك كنت حازما معه على ماله، وكنت تضرب على يده إذا انحرف. وإذا ما كرهك ربما التمس فترة من الفترات وقام ضدك واتهمك بما ليس فيك ؛ لذلك لابد من أن تحضر شهودا عدولا لحظة تسليمه المال. وهذه الشهادة لتستبرئ بها من المال فحسب، أما استبراء الدين فموكول إلى الله " وكفى بالله حسيبا ".
هذا وإن سورة النساء تعالج الضعف في المرأة والضعف في اليتيم، لأن الحال في المجتمع الذي جاء عليه الإسلام انهم كانوا لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار الذين لم تشتد أجنحتهم، وكانت القاعدة الغريبة عندهم هي : من لم يطعن برمح ولم يذد عن حريم أو مال ولم يشهد معارك فهو لا يأخذ من التركة. وكانت هذه قمة استضعاف أقوياء لضعفاء. وجاء الإسلام ليصفي هذه القاعدة. بل فرض وأوجب أن تأخذ النساء حقوقهن وكذلك الأطفال، ولهذا قال الحق سبحانه " ﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ٧ ﴾. ".
ومن الذي يفرض هذا النصيب ؟ إنه الله الذي ملك وهو الذي فرض.
هنا نلاحظ أن المرحوم الشهيد صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب لحظ ملحظا جميلا هو : كيف يكون للمتوفى أولاد أو نساء محسوبون عليه ولا يأخذون ؟ إن الصغار كانوا أولى أن يأخذوا لأن الكبار قد اشتدت أعوادهم وسواعدهم، فالصغار أولى بالرعاية، وأيضا إذا كانت قوانين " مندل " في الوراثة توضح أن الاولاد يرثون من أمهاتهم وآبائهم وأجدادهم الخصال الحسنة أو السيئة، أو المرض أو العفة أو الخلقة، فلماذا لا تورثونهم أيضا في الأموال ؟.
وحين نسمع قول الحق :" نصيبا مفروضا " فلا بد أن يوجد فارض، ويوجد مفروض عليه، والفارض هنا هو الله الذي ملك، وفيه فرق دقيق بين " فرض " و " أوجب " فالفرض يكون قادما من أعلى، لكن الواجب قد يكون من الإنسان نفسه، فالإنسان قد يوجب على نفسه شيئا.
وحين يتكلم الحق عن النصيب المفروض، فقد بين أن له قدرا معلوما، ومادام للنصيب قدر معلوم، فلا بد أن يتم إيضاحه.. ولم يبين الحق ذلك إلا بعد أن يدخل في العملية أناسا قد لا يورثهم، وهم ممن حول الميت ممن ليسوا بوارثين.
لذلك يقول سبحانه وتعالى :﴿ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ٨ ﴾.
وحين يحضر أولوا القربى واليتامى والمساكين مشهد توزيع المال، وكل واحد من الورثة الذين يتم توزيع مال المورث عليهم انتهت مسائله، قد يقول هؤلاء غير الوارثين : إن الورثة إنما يأخذون غنيمة باردة هبطت عليهم مثل هذا الموقف يترك شيئا في نفوس أولى القربى واليتامى والمساكين.
صحيح أن أولي القربى واليتامى والمساكين ليسوا وارثين، ولن يأخذوا شيئا من التركة فرضا لهم، ولكنهم حضروا القسمة ؛ لذلك يأتي الأمر الحق :" فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " فلو أنهم لم يحضروا القسمة لاختلف الموقف. فيأمر سبحانه بأن نرزق اليتامى وأولي القربى والمساكين حتى نستل منهم الحقد أو الحسد للوارث، أو الضغن على المورث، وبذلك يشيع في الناس شيء من الألفة ومن المحبة ومن حب الخير لأنهم قد نالوا شيئا من الخير مع هؤلاء، فلا يكونون حاقدين على الورثة ولا على المورث، ولا يكتفي الحق بالأمر برزق هؤلاء الأقارب واليتامى والمساكين، ولكن يأمر أن نقول لهم : قولا معروفا، مثل أن ندعو الله لهم أن يزيد من رزقهم، وأن يكون لهم أموال وأن يتركوا أولادا ويورثوهم، ومن الذي يجب عليه أن يقوم بمثل هذا العمل ؟ إنهم الوارثون إن كانوا قد بلغوا الرشد، ولكن ماذا يكون الموقف لو كان الوارث يتيما ؟ فالحضور هم الذين يقولون لأولي القربى واليتامى والمساكين : إنه مال يتيم، وليس لنا ولاية عليه، ولو كان لنا ولاية لأعطيناكم أكثر، وفي مثل هذا القول تطييب للخاطر.
" وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " يجب أن تكونوا في ذلك الموقف ذاكرين أنه إذا كنتم أنتم الضعفاء واليتامى وغير الوارثين فمن المؤكد أن السرور كان سيدخل إلى قلوبكم لو شرعنا لكم نصيبا من الميراث. إذن فليذكر كل منكم أنه حين يطلب الله منه، إنك قد تكون مرة في موقف من يطلب الله له ولأولاده. إذن فالحكم التشريعي لا يؤخذ من جانب واحد، وهو أنه يلزم المؤمن بأشياء، ولكن لنأخذ بجانب ذلك أنه يلزم غيره من المؤمنين للمؤمن بأشياء.
إن الحكم التشريعي يعطيك، ولذلك يأخذ منك. ولهذا قلنا في الزكاة : إياك أن تلحظ يا من تؤدى الزكاة أننا نأخذ منك حيفا ثمرة كدحك وعرقك لنعطيها للناس، نحن نأخذ منك وأنت قادر لنؤمنك إن صرت عاجزا. وسوف نأخذ لك من القادرين. إنه تأمين رباني حكيم..
والإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان.
فإن كان عندك أيها المؤمن ذرية ضعيفة وتخاف عليها فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف عليها، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها. واعلم أن ربنا رقيب وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك. وقلنا ذات مرة : إن معاوية وعمرو بن العاص اجتمعا في اواخر حياتهما فقال عمرو بن العاص لمعاوية : يا امير المؤمنين ماذا بقي لك من حظ الدنيا ؟ وكان معاوية قد صار أميرا للمؤمنين ورئيس دولة قوية غنية، فقال معاوية : أما الطعام فقد مللت أطيبه، وأما اللباس فقد سئمت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف.
وصمت معاوية قليلا وسأل عمرا : وأنت يا عمرو ماذا بقي لك من متع الدنيا ؟.
وكان سيدنا عمرو بن العاص صاحب عبقرية تجارية فقال : أنا حظي عين خرارة في أرض خوارة تدر علي حياتي ولولدي بعد مماتي.
إنه يطلب عين ماء مستمر في أرض فيها أنعام وزروع تعطي الخير.
وكان هناك خادم يخدمهما، يقدم لهما المشروبات، فنظر معاوية إلى الخادم وأحب أن يداعبه ليشركه معهما في الحديث.
فقال للخادم : وأنت يا " وردان " ماذا بقي لك من متاع الدنيا ؟ أجاب الخادم : بقي لي من متع الدنيا يا أمير المؤمنين صنيعة معروف أضعها في أعناق قوم كرام لا يؤدونها إلى طول حياتي حتى تكون لعقبى في عقبهم. لقد فهم الخادم عن الله قوله :
﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ٩ ﴾( سورة النساء ).
فالذين يتقون الله في الذرية الضعيفة يضمنون أن الله سيرزقهم بمن يتقي الله في ذريتهم الضعيفة.
وقد تكلمنا مرة عن العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى عليه السلام :﴿ قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ٦٦ قال إنك لن تستطيع معي صبرا ٦٧ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ٦٨ قال ستجدني ان شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ٦٩ قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا٧٠ فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ٧١ ﴾( سورة الكهف ).
لقد جرب العبد الصالح موسى في خرق السفينة كما توضح الآيات فقال العبد الصالح :﴿ قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ٧٢ قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ٧٣ ﴾( سورة الكهف ).
ثم ما كان من أمر الغلام الذي قتله العبد الصالح وقول موسى له :" لقد جئت شيئا نكرا ".
ثم جاءا إلى أهل قرية فطلبا منهم الطعام، وحين يطلب منك ابن سبيل طعاما فاعلم انها الحاجة الملحة ؛ لأنه لو طلب منك مالا فقد تظن أنه يكتنز المال، ولكن إن طلب لقمة يأكلها فهذا أمر واجب عليك.
فماذا فعل أهل القرية حين طلب العبد الصالح وموسى طعاما لهما ؟.
يقول الحق :
﴿ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا ٧٧ ﴾( سورة الكهف ).
إنها قرية لئيمة، ووجد العبد الصالح في القرية جدارا يريد أن يسقط وينقض فأقامه، واعترض موسى ؛ لأن عنده حفيظة على أهل القرية فقد طلبا منهم طعاما فلم يطعموهما، وقال سيدنا موسى : إنك لو شئت لاتخذت عليه أجرا ؛ لأن أهل القرية لئام، وما كان يصح أن تقيم لهم الجدار إلا إذا أخذت منهم أجرا.
لقد غاب عن موسى ما لم يغيب الله سبحانه عن العبد الصالح، فبالله لو أن الجدار وقع وهم لئام لا يطعمون من استطعمهم، ثم رأوا الكنز المتروك لليتامى المساكين، فلا بد أنهم سيغتصبون الكنز. إذن فعندما رأيت الجدار سيقع أقمته حتى أواري الكنز عن هؤلاء اللئام. ويقول الحق سبحانه :
﴿ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ٨٢ ﴾( سورة الكهف ).
إذن فالعلة في هذه العملية هي الحماية لليتيمين، ولنلق بالا ولنهتم بملاحظ النص، لابد أن العبد الصالح قد أقام الجدار بأسلوب جدد عمرا افتراضيا للجدار بحيث إذا بلغ اليتيمان الرشد وقع الجدار أمامهما ؛ ليرى كلاهما الكنز، لقد تم بناء الجدار على مثال القنبلة الموقوتة بحيث إذا بلغا الرشد ينهار الجدار ليأخذوا الكنز. إنه توقيت إلهي أراده الله ؛ لأن والد اليتيمين كان صالحا، اتقى الله فيما تحت يده فأرسل الله له جنودا لا يعلمهم ولم يرتبهم ليحموا الكنز لولديه اليتيمين، لذلك فلنفهم جيدا في معاملتنا، قول الحق :
﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ٩ ﴾( سورة الكهف ).
لماذا ؟ لأن الإنسان عندما يكون شابا فذاتيته تكون هي الموجودة. لكن كلما تقدم الإنسان في السن تقدمت ذاتية أولاده عنده، ويحرم نفسه ليعطي أولاده، وعندما يرى أن عياله مازالوا ضعافا، وجاءت له مقدمات الموت فهو يحزن على مفارقة هؤلاء الضعاف، فيوضح الحق لكل عبد طريق الأمان : إنك تستطيع وأنت موجود أن تعطي للضعاف قوة، قوة مستمدة من الالتحام بمنهج الله وخاصة رعاية ما تحت يدك من يتامى، بذلك تؤمن حياة أولادك من بعدك وتموت وأنت مطمئن عليهم..
والقول السديد من الأوصياء : ألا يؤذوا اليتامى، وأن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بني ويا ولدي.
وحين يتقي المؤمن الله فيما بين يديه يرزقه الله بمن يتقي الله في أولاده.
لماذا يركز القرآن على هذه الجزئية ؟ لأن الله يريد من خلقه أن يستقبلوا قدر الله فيمن يحبون وفيمن يحتاجون إليهم برضا، فإذا كان الطفل صغيرا ويرى أباه يسعى في شأنه ويقدم له كل جميل في الحياة وبعد ذلك يموت، فإن كان هذا الصغير قد رأى واحدا مات أبوه وكفله المجتمع الإيماني الذي يعيش في كفالة عوضته عن أب واحد بآباء إيمانيين متعددين، فإذا مات والد هذا الطفل فإنه يستقبل قدر الله وخطبه بدون فزع. فالذي يجعل الناس تستقبل الخطوب بالفزع والجزع والهلع أنهم يرون ان الطفل إذا ما مات أبوه وصار يتيما فإنه يضيع، ويقول الطفل لنفسه : إن أبي عندما يموت سأصير مضيعا. لكن لو أن المجتمع حمى حق اليتيم وصار كل مؤمن أبا لليتيم وكل مؤمنة اما لليتيم لاختلف الأمر، فإذا ما نزل قضاء الله في أبيه فإنه يستقبل القضاء برضا وتسليم.
﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ١٠ ﴾( سورة النساء ).
إن كل العملية السلبية والنهبية أهم ما فيها هو الأكل ؛ لأن الأكل هو المتكرر عند الناس، وهو يختلف عن اللباس، فكل فصل يحتاج الإنسان إلى ملابس تناسبه، لكن الأكل عملية يومية ؛ لذلك فأي نهب يكون من أجل الأكل. ولذلك نقول في أمثالنا العامية عن النهاب :" فلان بطنه واسعة " إنها مسألة الأكل.
وقد أوضح الحق هذا الأمر لأكل مال اليتيم : أنت تحشو في بطنك نارا. ويعني ذلك أنه يأكل قي بطنه ما يؤدي إلى النار في الآخرة. وهذا قد يحدث عقابا في الدنيا فيصاب آكل مال اليتيم في بطنه بأمراض تحرق أحشاءه، ويوم القيامة يرى المؤمنون هؤلاء القوم الذين أكلوا مال اليتيم، وعليهم سمات أكل مال اليتيم : فالدخان يخرج من أفواههم. وإياك أن تفهم أن البطون هي التي ستكون ممتلئة بالنار فقط، وألا يكون هناك نار أمام العيون. بل سيكون في البطون نار وسيصلون سعيرا.
﴿ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ١١ ﴾.
ونعم الرب خالقنا ؛ إنه يوصينا في أولادنا، سبحانه رب العرش العظيم، كأننا عند ربنا أحب منا عند آبائنا. وقوله الكريم :" يوصيكم الله في أولادكم " توضح أنه رحيم بنا ومحب لنا. ومادة الوصية إذا ما استقرأناها في القرآن نجد بالاستقراء أن مادة الوصية مصحوبة بالباء، فقال سبحانه :
﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ﴾( من الآية ١٥٣ سورة النعام ).
وقال سبحانه :
﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ﴾( من الآية ١٣ سورة الشورى ).
وقال الحق أيضا :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ﴾( من الآية ١٤ سورة لقمان ).
كل هذه الآيات جاءت الوصية فيها مصحوبة بالباء التي تأتي للإلصاق.
لكن عندما وصى الآباء على الأبناء قال :" يوصيكم الله في أولادكم " فكأن الوصية مغروسة ومثبتة في الأولاد، فكلما رأيت الظرف وهو الولد ذكرت الوصية وما هي الوصية ؟ إنها " للذكر مثل حظ الأنثيين " وقلنا من قبل " إن الحق قال﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ ( من الآية ٧ سورة النساء ).
ولم يحدد النصيب بعد هذه الآية مباشرة إلا بعد ما جاء بحكاية اليتامى وتحذير الناس من أكل مال اليتيم، لماذا ؟ لأن ذلك يربي في النفس الاشتياق للحكم، وحين تستشرف النفس إلى تفصيل الحكم، ويأتي الحكم بعد طلب النفس له، فإنه يتمكن منها. والشيء حين تطلبه النفس تكون مهيأة لاستقباله، لكن حينما يعرض الأمر بدون طلب، فالنفس تقبله مرة وتعرض عنه مرة أخرى. ونلحظ ذلك في مناسبة تحديد أنصبة الميراث.
فقد قال الحق سبحانه أولا :
﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ ( من الآية ٧ سورة النساء ).
وعرض بعد ذلك أمر القسمة ورعاية اليتامى والمساكين وأولي القربى، ثم يأتي الأمر والحكم برعاية مال اليتيم والتحذير من نهبه، وبعد ذلك يقول :" يوصيكم الله في أولادكم " ويأتي البند الأول في الوصية " للذكر مثل حظ الأنثيين " ولماذا لم يقل " للأنثيين مثل حظ الذكر ". أو " للأنثى نصف حظ الذكر "، هذه معان يمكن أن تعبر عن المطلوب.
لقد أراد الله أن يكون المقياس، أو المكيال هو حظ الأنثى، ويكون حظ الرجل هنا منسوبا إلى الأنثى، لأنه لو قال :" للأنثى نصف حظ الرجل ؟ لكان المقياس هو الرجل، لكنه سبحانه جعل المقياس للأنثى فقال :" للذكر مثل حظ الأنثيين ".
والذين يقولون : هذا أول ظلم يصيب المرأة، نريد المساواة. نقول لهم : انظروا إلى العدالة هنا. فالذكر مطلوب له زوجة ينفق عليها، والأنثى مطلوب لها ذكر ينفق عليها، إذن فنصف حظ الذكر يكفيها إن عاشت دون زواج و إن تزوجت فإن النصف الذي يخصها سيبقى لها، وسيكون لها زوج يعولها.
إذن فأيهما أكثر حظا في القسمة ؟ إنها الأنثى. ولذلك جعلها الله الأصل والمقياس حينما قال :" للذكر مثل حظ الأنثيين " فهل في هذا القول جور أو فيه محاباة للمرأة ؟ إن في هذا القول محاباة للمرأة ؛ لأنه أولا جعل نصيبها المكيال الذي يرد إليه الأمر ؛ لأن الرجل مطلوب منه أن ينفق على الأنثى، وهي مطلوب لها زوج ينفق عليها. إذن فما تأخذه من نصف حظ الذكر يكون خالصا لها، وكان يجب أن تقولوا : لماذا حابى الله المرأة ؟ لقد حابى الله المرأة لأنها عرض، فصانها، فإن لم تتزوج تجد ما تنفقه، وإن تزوجت فهذا فضل من الله، ثم يقول الحق :" فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ".
وأنا أريد أن نستجمع الذهن هنا جيدا لنتعرف تماما على مراد الحق ومسالك القرآن في تنبيه الأذهان لاستقبال كلام الله. فقد كرم الله الإنسان بالعقل، والعقل لا بد له من رياضة. ومعنى الرياضة هو التدريب على حل المسائل، وإن طرأت مشكلات هيأ نفسه لها بالحل، وأن يملك القدرة على الاستنباط والتقييم، كل هذه من مهام العقل. فيأتي الحق في أهم شيء يتعلق بالإنسان وهو الدين، والدليل إلى الدين وحافظ منهجه هو القرآن، فيجعل للعقل مهمة إبداعية.
إنه سبحانه لا يأتي بالنصوص كمواد القانون في الجنايات أو الجنح، ولكنه يعطى في مكان ما جزءا من الحكم، ويترك بقية القانون لتتضح معالمه في موقع آخر من القرآن بجزئية أخرى، لأنه يريد أن يوضح لنا أن المنهج الإلهي كمنهج واحد متكامل، وانه ينقلب من شيء إلى شيء، ويستكمل حكما في أكثر من موقع بالقرآن. وذلك حتى تتعرف على المنهج ككل. وأنك إذا كنت بصدد شيء فلا تظن أن هذا الشيء بمفرده هو المنهج، ولكن هناك أشياء ستأتي استطرادا تتداخل مع الشيء الذي تبحث عن حكم الله فيه، مثال ذلك : مسألة اليتيم التي تتداخل مع أحكام الميراث. وهذه الآية تعطينا مثل هذه المسألة لماذا ؟ لأن الله يريد لك يا صاحب العقل الدربة في الإطار الذي يضم الحياة كلها. وما يهمك أولا هو دينك، فلتعمل عقلك فيه، فإذا أعملت عقلك في الدين أعطيت عقلك النشاط ليعمل في المجال الآخر.
لكن إذا غرق ذهنك في أي أمر جزئي فهذا قد يبعد بك عن الإطار العام لتنشغل بالتفاصيل عن الهدف العام.
وأولادنا من الممكن أن يعلمونا من تجربة من ألعابهم، فالطفل يلعب مع أقرانه " الاستغماية "، ويختبئ كل قرين في مكان، ويبحث الطفل عن أقرانه.
ونحن نلعب أيضا مع أولادنا إخفاء شيء ما في يد ونطبق أيدينا ونترك الابن يخمن بالحدس في أي يد يكون الشيء، إنها دربة للعقل على الاستنباط، فإن كان الولد سريع البديهة قوي الملاحظة ويمتلئ بالذكاء، فهو يرى يدي والده ليقارن أي يد ترتعش قليلا، أو أي يد ليست طبيعية في طريقة إطباق الأب لها فيختارها، وينتصر بذلك ذكاء الولد، وهذه عملية ترويض للطفل على الاستنباط والفهم، وبذلك تعلم الطفل ألا يأخذ المسائل ضربة لازب بدون فكر ولا دربة.
والحق سبحانه أراد ان تكون أحكامه موزعة في المواقع المختلفة، ولننظر إلى قوله :" يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك " أي أنه إن لم ينجب المورث ذكرا وكان له أكثر من اثنتين فلهن ثلثا ما ترك.
أما لو كان معهن ذكر، فالواحدة منهن ستأخذ نصف نصيب الذكر، وإن كانت الوارثة بنتا واحدة، فالآية تعطيها النصف من الميراث " وإن كانت واحدة فلها النصف " وبقي شيء لم يأت الله له بحكم، وهو أن يكون المورث قد ترك ابنتين. وهنا نجد أن الحق قد ضمن للأثنتين في إطار الثلاث بنات أو أكثر أخذ الثلثين من التركة، هكذا قال العلماء، ولماذا لم ينص على ذلك بوضوح ؟ لقد ترك هذه المهمة للعقل، فالبنت حينما ترث مع الذكر تأخذ ثلث التركة، وعندما تكون مع ابنة أخرى دون ذكر، تأخذ الثلث.
فإذا كانت مع الذكر وهو القائم بمسئولية الكدح تأخذ الثلث، ولذلك فمن المنطقي أن تأخذ كل أنثى الثلث إن كان المورث قد ترك ابنتين. وهناك شيء آخر، لتعرف أن القرآن يأتي كله كمنهج متماسك، فهناك آية أخرى في سورة النساء تناقش جزئية من هذا الأمر ليترك للعقل فرصة العمل والبحث، يقول سبحانه :
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ١٧٦ ﴾( سورة النساء ).
لقد جاء الحق هنا بأختي المورث وأوضح أن لهما الثلثين من التركة، فأيهما ألصق بالمورث، البنتان أم الأختان ؟ إن ابنتي المورث ألصق به من أختيه، ولذلك فللبنتين الثلثان، فالابنة إن كانت مع أخيها فستأخذ الثلث، وإن كانت قد ورثت بمفردها فستأخذ النصف. وإن كانت الوارثات من البنات أكثر من اثنتين فسيأخذن الثلثين، وإن كانتا اثنتين فستأخذ كل منهما الثلث، لماذا ؟ لأن الله أعطى الأختين ثلثي ما ترك المورث إن لم يكن له أولاد.
ومن العجيب انه جاء بالجمع في الآية الاولى الخاصة بتوريث البنات، وجاء بالمثنى في الآية التي تورث الأخوات، لنأخذ المثنى هناك في آية توريث الأخوات لينسحب على الجمع هنا، ونأخذ الجمع هنا في آية توريث البنات لينسحب على المثنى هناك.
لقد أراد الحق أن يجعل للعقل مهمة البحث والاستقصاء والاستنباط وذلك حتى تأخذ الأحكام بعشق وحسن فهم، وعندما يقول سبحانه :" يستفتونك " فمعنى يستفتونك أي يطلبون منك الفتوى، وهذا دليل على أن المؤمن الذي سأل وطلب الفتيا قد عشق التكليف، فهو يحب أن يعرف حكم الله، حتى فيما لم يبدأ الله به الحكم. وقد سأل المؤمنون الأوائل وطلبوا الفتيا عشقا في التكليف " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " والكلالة مأخوذة من الإكليل وهو ما يحيط بالرأس، والكلالة هي القرابة التي تحيط بالإنسان وليست من أصله ولا من فصله.
﴿ إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ﴾( من الآية ١٧٦ سورة النساء ).
وهذه الآية تكمل الآية الأولى. ونعود إلى تفصيل الآية الأولى التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها :" ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ".
ومعنى ذلك أن المورث إن لم يكن له أولاد فللأم الثلث، والأب له الثلثان، فإن كان للمورث إخوة أشقاء أو لأب لأم فللأم السدس حسب النص القرآني " فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين "، وذلك بعد أن تنفذ وصية المورث، ويؤدي الدين الذي عليه. والوصية هنا مقدمة على الدين ؛ لأن الدين له مطالب، فهو يستطيع المطالبة بدينه، أما الوصية فليس لها مطالب، وقد قدمها الحق للعناية بها حتى لا نهملها. ويذيل الحق هذه الآية :
﴿ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ﴾( من الآية ١١ سورة النساء ).
فإياك أن تحدد الأنصباء على قدر ما تظن من النفعية في الآباء أو من النفعية في الأبناء، فالنفعية في الآباء تتضح عندما يقول الإنسان :" لقد رباني أبي وهو الذي صنع لي فرص المستقبل ". والنفعية في الأبناء تتضح عندما يقول الإنسان : إن أبي راحل وأبنائي هم الذين سيحملون ذكرى واسمي والحياة مقبلة عليهم. فيوضح الحق : إياك أن تحكم بمثل هذا الحكم ؛ فليس لك شأن بهذا الأمر :" لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ".
وما دمت لا تدري أيهم أقرب لك نفعا فالتزم حكم الله الذي يعلم المصلحة وتوجيهها في الأنصبة كما يجب أن تكون.
ونحن حين نسمع :" إن الله كان عليما حكيما " أو نسمع :" إن الله كان غفورا رحيما " فنحن نسمعها في إطار أن الله لا يتغير، ومادام كان في الأزل عليما حكيما وغفورا رح
﴿ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم١٢ ﴾ :
والآيات تسير في إيضاح حق الذكر مثل حظ الأنثيين ؛ وهذه عدالة ؛ لأن الرجل حين تموت امرأته قد يتزوج حتى يبني حياته، والمرأة حين يموت زوجها فإنها تأخذ ميراثها منه وهي عرضة أن تتزوج وتكون مسئولة من الزوج الجديد.
إن المسألة كما أرادها الله تحقق العدالة الكاملة. والكلالة كما قلنا أنه ليس للمتوفى والد أو ولد، أي لا أصل له ولا فصل متفرع منه.
فإذا كان للرجل الكلالة أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، وذلك أيضا من بعد وصية يوصى بها أو دين. ولماذا يتم تقرير هذا الأمر ؟ لنرجع مرة أخرى إلى آية الكلالة التي جاءت في آخر سورة النساء.
إن الحق يقول فيها :
﴿ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ﴾( من الآية ١٧٦ سورة النساء ).
في الآية الأولى التي نحن بصددها يكون للواحد من الإخوة سدس ما ترك إذا انفرد، فإذا كان معه غيره فهم شركاء في الثلث. هذا إذا كانوا إخوة من الأم. أما الآية التي يختص بها الحق الأختين بالثلثين من التركة إذا لم يكن معهما ما يعصبهما من الذكور فهي في الإخوة الأشقاء أو الأب، هكذا يفصل القرآن ويوضح بدقة مطلقة.
وماذا يعني قوله الحق :" غير مضار وصية من الله والله عليم حليم " ؟.
إنه سبحانه يريد إقامة العدل، فلا ضرر لأحد على الإطلاق في تطبيق شرع الله ؛ لأن الضرر إنما يأتي من الأهواء التي تفسد قسمة الله. فقد يكون هناك من يرغب ألا يرث العم من بنات أخيه الشقيق، أو لأب، أو يريد آخر ألا يدخل أولاد الإخوة الذكور أشقاء أو لأب في ميراث العمة أو بنات العم الشقيق أو لأب، لمثل هؤلاء من أصحاب الهوى نقول : إن الغرم على قدر الغنم، بالله لو أنك مت وتركت بنات ولهن عم، أليس مطلوبا من العم أن يربي البنات ؟ فلماذا يجبر الحق العم على رعاية بنات أخيه إن توفى الأخ ولم يترك شيئا ؟ لذلك يجب أن تلتفت إلى حقيقة الأمر عندما يأتي نصيب للعم في الميراث. وعلينا أن نعرف أن الغرم أمامه الغنم.
وقلنا : إن القرآن الكريم يجب ان يؤخذ جميعه فيما يتعلق بالأحكام، فإذا كان في سورة النساء هذه يقول الحق سبحانه وتعالى في آخر آية منها :
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تصلوا والله بكل شيء عليم ١٧٦ ﴾( سورة النساء ).
فما الفرق بين الكلالة حين يجعل الله للمنفردة النصف وللاثنتين الثلثين، وبين الكلالة التي يجعل الله فيها للمنفرد السدس، ويجعل للأكثر من فرد الاشتراك في الثلث دون تمييز للذكر على الأنثى ؟.
لا بد أن نفرق بين كلالة وكلالة..
هما متحدتان في أنه لا أصل ولا فرع للمتوفى. والمسألة هنا تتعلق بالإخوة.
ونقول : إن الإخوة لها مصادر متعددة. هذه المصادر إما إخوة من أب وأم، وإما إخوة لأب، وإما إخوة لأم. فإذا كان أخ شقيق أو لأب فهو من العصبة الأصيلة، وهما المعنيان في الآية ١٧٦ من السورة نفسها.
وبذلك تكون آية السدس والثلث التي نحن بصددها الآن متعلقة بالإخوة لأم. إذن فالكلالة إما أن يكون الوارث أخا لام فقط، وإما أن يكون أخا لأب، او أخا لأب وأم. فالحكمان لذلك مختلفان ؛ لأن موضع كل منهما مختلف عن الآخر. وإلا لو أن مستشرقا قرأ هذه الآية وقرا الاية الأخرى وكلتاهما متعلقتان بميراث الكلالة، وأراد هذا المستشرق أن يبحث عن شيء يطعن به ديننا ويطعن به القرآن لقال والعياذ بالله : القرآن متضارب، فهو مرة يقول : للكلالة السدس، ومرة يقول : الثلث، ومرة أخرى النصف، ومرة أخرى الثلثان، ومرة للذكر مثل حظ الأنثيين ! ونرد على من يقول ذلك : أنت لم تلاحظ المقصود الفعلي والواقعي للكلالة ؛ لذلك فأنت تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء.
والحق قال :" من بعد وصية يوصي بها أو دين " ولنا أن نلاحظ أن في كل توريث هذه " البعدية " أي أن التوريث لا يتأتى إلا من بعد الوصية الواجبة النفاذ والدين.
ولنا ان نسأل : أيهما ينفذ أولا، الوصية أم الدين ؟.
والإجابة : لا شك أنه الدين ؛ لأن الدين إلزام بحق في الذمة، والوصية تطوع، فكيف تقدم الوصية وهي التطوع على الدين، وهو للإلزام في الذمة.
وعندما يقول :" غير مضار " لا بد أن نعرف جيدا أن شرع الله لن يضر أحدا، وما المقصود بذلك ؟ المقصود به الموصى، ففي بعض الأحيان يكون المورث كارها لبعض المستحقين لحقهم في ميراثه، فيأتي ليوصي بمنع توريثهم أو تقليل الأنصباء، أو يأتي لواحد بعيد يريد أن يعطيه شيئا من الميراث ولا يعطي لمن يكرهه من أهله وأقاربه المستحقين في ميراثه، فيقر لذلك الإنسان بدين، فإذا ما أقر له بدين حتى وإن كان مستغرقا للتركة كلها، فهو يأخذ الدين وبذبك يترك الورثة بلا ميراث.
وهذا يحدث في الحياة ونراه، فبعض من الناس أعطاهم الله البنات ولم يعطهم الله ولدا ذكرا يعصبهم، فيقول الواحد من هؤلاء لنفسه : إن الأعمام ستدخل، وأبناء الأعمام سيدخلون في ميراثي، فيريد أن يوزع التركة على بناته فقط، فيكتب دينا على نفسه للبنات. ونقول لهذا الإنسان : لا تجحف، أنت نظرت إلى أن هؤلاء يرثون منك، ولكن يجب ان تنظر إلى الطرف المقابل وهو أنك إذا مت ولم تترك لبناتك شيئا وهن لا عصبة لهن، فمن المسئول عنهن ؟ إنهم الأعمام، فالغرم هنا مقابل الغنم.. ولماذا تطلب البنات الأعمام أمام القضاة ليأخذن النفقة منهم في حالة وفاة الأب دون ان تكون له ثروة. فكيف تمنع عن إخوتك ما قرره الله لهم ؟.
وهناك بعض من الناس يرغب الواحد منهم ألا يعطى عمومته أو إخوته لأي سبب من الأسباب، فماذا يفعل ؟ إنه يضع الوصية ؛ لذلك حدد الإسلام الوصية بمقدار الثلث، حتى لا تحدث مضارة للورثة.
وقد حاول البعض من هؤلاء الناس أن يدعوا كذبا، أن هناك دينا عليهم، والدين مستغرق للتركة حتى لا يأخذ الأقارب شيئا.
والإنسان في هذا الموقف عليه أن يعرف أنه واقف في كل لحظة في الحياة أو الممات أمام الله، وكل إنسان أمين على نفسه.
لذلك قال الحق سبحانه :
﴿ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ﴾( من الآية ١١ سورة النساء ).
والحق يلفتنا ألا نضر أحدا بأي تصرف ؛ لأنها توصية من الله لكل ما يتعلق بالحكم توريثا ووصية وأداء دين، كل ذلك توصية من الله، والتوصية ليست من مخلوق لمخلوق، ولكنها من الله ؛ لذلك ففيها إلزام وفرض، فسبحانه القائل :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ﴾( من الآية ١٣ سورة الشورى ).
والوصية هنا افتراض، ومثل ذلك يقول الحق :
﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة الأنعام ).
ومادامت التوصية تأتي من المالك الأعلى، فمعنى ذلك انها افتراض، ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية :" والله عليم حليم " أي إياكم أن تتصرفوا تصرفا قد يقره ويمضيه القضاء، ولكنه لا يبرئكم أمام الله ؛ لأنه قد قام على باطل.
مثال ذلك : هناك إنسان يموت وعليه دين، عندئذ يجب تسديد الدين، لكن أن يكتب الرجل دينا على نفسه غير حقيقي ليحرم بعضا من أقاربه من الميراث فعليه أن يعرف أن الله عليم بالنوايا التي وراء التصرفات. فإن عميتم أيها البشر على قضاء الأرض، فلن تعموا على قضاء السماء.
وهذه مسألة تحتاج إلى علم يتغلغل في النوايا، إذن فمسألة القضاء هذه هي خلاف بين البشر والبشر، ولكن مسألة الديانة وما يفترضه الحق، فهو موضوع بين الرب وبين عبيده، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف :" إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها او ليتركها " ١.
إن الرسول يعلمنا أنه بشر، أي أنه لا يملك علم الغيب ومداخل المسائل، وعندما يرفع المسلمون إليه قضاياهم فقد يكون أحدهم أكثر قدرة على الفصاحة وذلاقة اللسان، ويستطيع أن يقلب الباطل حقا، والآخر قليل الحيلة، فيحكم النبي بمقتضى البينة القضائية، ولكن الأمر الواقع يتنافى مع تسلسل الحق ؛ لذلك يعلمنا أنه بشر، وأننا حين نختصم إليه يجب ألا يستخدم واحد منا ذلاقة اللسان في أخذ ما ليس له ؛ لأنه حتى لو أخذ شيئا ليس له بحكم من الرسول صلى اله عليه وسلم، فليعلم أنه يأخذ قطعة من الجحيم.
إذن فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نحذر في الأمور، فلا نعمي ولا نأخذ شيئا بسلطان القضاء ونهمل مسألة الديانة. فالأمور التي تتعلق بالدين لا يجوز للمؤمن المساس بها، إياكم ان تظنوا أن حكم أي حاكم يحلل حراما أو يحرم حلالا، لا. فالحلال بين، والحرام بين، والقاضي عليه أن يحكم بالبينات الواضحة. ومثال على ذلك : هب أنك اقترضت من واحد ألفا من الجنيهات، وأخذ عليك صكا، ثم جاء المقترض وسدد ما عليه من قرض وقال لمن اقترض منه :" عندما تذهب إلى منزلك أرجو أن ترسل لي الصك " ثم سبق قضاء الله، وقال أهل الميت :" إن الصك عندنا " واحتكموا إلى القضاء ليأخذوا الدين. هنا يحكم القضاء بضرورة تسديد الدين مرة أخرى، لكن حكم الدين في ذلك يختلف، فالرجل قد سدد الدين ولا يصح أبدا أن يأخذ الورثة الدين مرة أخرى إذا عملوا أن مورثهم حصل على دينه.
ولذلك يقول لنا الحق :" والله عليم حليم " حتى نفرق بين الديانة وبين القضاء. والحق يقول لنا : إنه " حليم " فإياك أن تغتر بأن واحدا حدث منه ذلك، ولم ينتقم الله منه في الدنيا، فعدم انتقام الله منه في الدنيا لا يدل على أنه تصرف حلالا، لكن هذا حلم من الله وإمهال وإرجاء ولكن هناك عقابا في الآخرة.
الأحكام المتقدمة والأمور السابقة كلها حدود الله، وحين يحد الله حدودا.. أي يمنع أن يلتبس حق بحق، أو أن يلتبس حق بباطل ؛ فهو الذي يضع الحدود وهو الذي فصل حقوقا عن حقوق.
ونحن عندما نقوم بفصل حقوق عن حقوق في البيوت والأراضي فنحن نضع حدودا واضحة، ومعنى " حد " أي فاصل بين حقين بحيث لا يأخذ أحد ما ليس له من آخر. والحدود التي نصنعها نحن والتي قد لا يتنبه إليها كثير من الناس، هي نوعان : نوع لا يتعدى بالبناء، فعندما يريد واحد أن يبني، فالأول يبني على الأرض التي هي حق له، ويكون الجدران ملتصقين بعضهما ببعض. وعندما يزرع فلاح بجانب فلاح آخر فكل فلاح يزرع في أرضه وبين القطعتين حد، وهذا يحدث في النفع.
لكن لنفترض أن فلاحا يريد أن يزرع أرزا، وجاره لن يزرع أرزا، فالذي لن يزرع الأرز قد تأخذ أرضه مياها زائدة، فالمياه تصلح للأرز وقد تفسد غيره، ولذلك يكون الحكم هنا أن يقيم زارع الأرز حدا اسمه " حد الجيرة " ليمنع الضرر، وهو ليس " حد الملكية " فزارع الأرز هنا ينقص من زراعته مسافة مترين، ويصنع بهما حد الجيرة، حتى لا تتعدى المياه التي يروى بها الأرز إلى أرض الجار. إنه حد يمنع الضرر، وهو يختلف عن الحد الذي يمنع التملك.
إذن فمن ناحية حماية الإنسان لنفسه من أن يوقع الضرر بالآخرين عليه أن ينتبه إلى المقولة الواضحة :" لا تجعل حقك عند آخر حدك، بل اجعل حقك في الانتفاع بعيدا عن حدك "، وهذا في الملكية. وذلك إذا كان انتفاعك بما تملكه كله سيضر بجارك. وكذلك يعاملنا الله، ويقول في الأوامر :
﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ﴾( من الآية ٢٢٩ سورة البقرة ).
وفي النواهي يقول سبحانه :
﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها ﴾( من الآية ١٨٧ سورة البقرة ).
أي أنك إذا ما تلقيت أمرا، فلا تتعد هذا الأمر، وهذه هي الملكية، وإذا ما تلقيت نهيا فلا تقرب الأمر المنهي عنه. مثال ذلك النهي عن الخمر، فالحق لا يقول :" لا تشرب الخمر "، وانما يقول :" إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ". أي لا تذهب إلى المكان الذي توجد فيه من الأصل، كن في جانب وهذه الأشياء في جانب آخر.
ولذلك قلنا في قصة أكل آدم من الشجرة : أقال الحق :" لا تأكلا من الشجرة " ؟ أم قال ولا تقربا هذه الشجرة ؟ سبحانه قال :
﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾( من الآية ١٩ من سورة الأعراف ).
وهذا حد اسمه " حد عدم المضارة " إنه أمر بعدم الاقتراب حتى لا يصاب الإنسان بشهوة أو رغبة الأكل من الشجرة. وكذلك مجالس الخمر لأنها قد تغريك. ففي الأوامر يقول سبحانه :" تلك حدود الله فلا تعتدوها " وهذا ما يتعلق بالملكية.
وفي النواهي يقول سبحانه :" تلك حدود الله فلا تقربوها " ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث :" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " ١.
لذلك تجنب حدود الله. مثال ذلك قول الحق :
﴿ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ﴾( من الآية ١٨٧ سورة البقرة ).
إن الحق يأمر المعتكف بالمسجد أنه عندما تأتي له زوجه لتناقشه في أمر ما فعلى المؤمن أن يمتثل لأمر الله بعدم مباشرة الزوجة في المسجد. ولا يجعل المسائل قريبة من المباشرة، لأن ذلك من حدود الله. وسبحانه يقول :" تلك حدود الله فلا تقربوها ".
وهنا في مسائل الميراث يقول الحق :
﴿ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك هو الفوز العظيم ١٣ ﴾( سورة النساء ).
وكان يكفي ان يقول الحق من بعد بيان الحدود : " ومن يطع الله " ولكنه قال " ومن يطع الله ورسوله " وذلك لبيان أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان يضع حدودا من عنده لما حل، وأن يضع حدودا لما حرم. وهذا تفويض من الله لرسوله في أنه يشرع ؛ لذلك فلا تقل في كل شيء :" أريد الحكم من القرآن ".
ونرى من يقول : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مفوض في التشريع وهو القائل :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾( من الآية ٧ سورة الحشر ).
إنه صلى الله عليه وسلم مفوض من الله، وهؤلاء الذين ينادون بالاحتكام إلى القرآن فحسب يريدون أن يشككوا في سنة رسول الله، إنهم يحتكمون إلى كتاب الله، وينسون أو يتجاهلون أن في الكتاب الكريم تفويضا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرع.
هم يقولون : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. وقولهم لمثل هذا الكلام دليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقول، لأنهم لو لم يقولوا لقلنا :
يا رسول الله لقد قلت : روى المقدام بن معدي كرب قال : حرم النبي صلى الله عليه وسلم " أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول : بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله " ٢.
فكيف يا سيدي يا رسول الله ذلك، ولم يقل أحد هذا الكلام ؟.
إذن فقولهم الأحمق دليل على صدق الرسول فيما أخبر. ويسخرهم الحق فينطقون بمثل هذا القول لنستدل من قول خصوم النبي على صدق كلام النبي..
والحق يقول :" ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات " والذي يطيع الله ورسوله في الدنيا هو من أخذ التكليف وطبقه ويكون الجزاء هو دخول الجنة في الآخرة. لكن إدخال الجنة هل هو منهج الدين، أو هو الجزاء على الدين ؟.
إنه الجزاء على الدين، وموضوع الدين هو السلوك في الدنيا، ومن يسير على منهج الله في الدنيا يدخل الجنة في الآخرة، فالآخرة ليست موضوع الدين، لكن موضوع الدين هو الدنيا، فعندما تريد أن تعزل الدنيا عن الدين نقول لك : لم تجعل للدين موضوعا، إياك ؟ أن تقول : موضوع الدين هو الآخرة لأن الآخرة هي دار الجزاء، وفي حياتنا نأخذ هذا المثل : هل الامتحان موضوع المناهج، أو أن المناهج يقرأها الطالب طوال السنة، وهي موضوع الامتحان ؟.
إن المناهج التي يدرسها الطالب هي موضوع الامتحان، وكذلك فالدنيا هي موضوع الدين، والآخرة هي جزاء لمن نجح ولمن رسب في الموضوع ؛ لذلك فإياكم أن تقولوا : دنيا ودين، فلا يوجد فصل بين الدنيا والدين ؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين. فالدنيا تقابلها الآخرة والدين لهما. الدنيا مزرعة والآخرة محصدة. بهذا نرد على من يقول : إن الدنيا منفصلة عن الدين.
ومن يطع الله ورسوله يدخله جنة واحدة أو جنتين أو جنات، وهل دلالة " من " للواحد ؟ لا، إن " من " تدل على الواحد، وتدل على المثنى وتدل على الجمع، مثال ذلك نقول : جاء من لقيته أمس ونقول أيضا : جاء من لقيتهما أمس، وتقول ثالثا : جاء من لقيتهم أمس... إذن ف " من " صالحة للمفرد والمثنى والجمع.
والحق هنا لا يتكلم عن مفرد هنا أو جمع. كما قلنا في أول الفاتحة :
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ٥ ﴾( سورة الفاتحة ).
على الرغم من أن القياس أن تقول :" إياك نعبد وإياك نستعين ". لكن قال الحق سبحانه :" إياك نعبد وإياك نستعين " ليوضح لنا ان المؤمنين كلهم وحدة واحدة في العبادة.
وهناك من يقول إذا دلت :( من ) على المفرد فقد لحظنا لفظها، وإذا دلت على المثنى أو الجمع فقد لحظنا معناها.
ولمن يقول ذلك نقول : إن هذا الكلام غير محقق علميا ؛ لأن لفظ " من " لم يقل أحد إنه للمفرد. بل إنها موضوعة للمفرد والمثنى والجمع. فلا تقل : استعمل لفظ " من " مراعاة للفظ أو مراعاة للمعنى، لأن لفظ " من " موضوع لمعان ثلاثة هي المفرد والمثنى والجمع.
وقد سألني أخ كريم في جلسة من الجلسات : لماذا يقول الحق سبحانه في سورة الرحمن :
﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ٤٦ ﴾( سورة الرحمن ).
فقلت له : إن سورة الرحمن استهلها الحق سبحانه وتعالى :
﴿ الرحمن ١ علم القرآن٢ خلق الإنسان ٣ ﴾( سورة الرحمن ).
وبعد ذلك قال الحق :
﴿ خلق الإنسان من صلصال كالفخار ١٤ وخلق الجان من مارج من نار ١٥ ﴾ ( سورة الرحمن ).
وقال سبحانه :
﴿ سنفرغ لكم أيها الثقلان ٣١ ﴾ ( سورة الرحمن ).
وقال تعالى :﴿ يا معشر الإنس والجن إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ٣٣ ﴾ ( سورة الرحمن ).
إذن فمن خاف مقام ربه، هو من الجن أو من الإنس، إن كان من الجن فله جنة، وإن كان من الإنس فله جنة أخرى. إذن فمن خاف مقام ربه فله جنتان.
وهناك من يقول جنتان لكل واحد من الإنس والجن، لأن الله لا يعاني من أزمة أماكن، فحين شاء أزلا أن يخلق خلقا أحصاهم عدا من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، وعامل الكل على أنه مؤمن مطيع، وأنشأ لكل واحد مكانه في الجنة، وعامل سبحانه الكل على أنه عاص، وأنشأ له مقعدا في النار، وذلك حتى لا يفهم أحد أن المسألة هي أزمة أماكن.
فإذا دخل صاحب الجنة جنته، بقيت جنة الكافر التي كانت معدة له على فرض أنه مؤمن ؛ لذلك يقول الحق :
﴿ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ٧٢ ﴾( سورة الزخرف ).
فيرث المؤمنون ما كان قد أعد لغيرهم لو آمنوا.
إذن فالمعاني نجدها صوابا عند أي أسلوب من أساليب القرآن.
وهنا يقول الحق :" يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار " ويجب ان نفهم ان النهر هو الشق الذي يسيل فيه الماء وليس هو الماء، الحق يقول :" جنات تجري من تحتها الأنهار " فأين تجري الأنهار ؟.
أتجري الأنهار تحت زروعها، ام تحت بنيانها ؟ ونعرف أن الزروع هي التي تحتاج إلى مياه، ونحن نريد أن نبعد المياه عن المباني كيف ؟ ولكن ليس هناك شيء مستحيل على الله ؛ لأنها تصميمات ربانية.
فالخلق قد تشق نهرا، ونجد من بعد ذلك النشع يضرب في المباني، لكن تصميمات الحق بطلاقة القدرة ؛ تكون فيه الجنات تجري من تحتها مياه الأنهار، ولا يحدث منها نشع، سواء من تحت أبنية الجنات أو من تحت زروعها والذي يقبل على أسلوب ربه ويسأله أن يفيض عليه ويلهمه، فهو سبحانه يعطيه ويمنحه فالحق مرة يقول :" جنات تجري من تحتها الأنهار " ومرة أخرى يقول :" جنات تجري تحتها الأنهار " فهذا ممكن وذاك ممكن.
فقوله سبحانه " جنات تجري تحتها الأنهار " قد يشير إلى أن الأنهار تكون آتية من موقع آخر وتجري وتمر من تحت الجنات. لا. هي تجري منها أيضا يقول الله تعالى :" جنات تجري من تحتها الأنهار " حتى لا يظن أحد ان هناك من يستطيع أن يسد عنك المياه من أعلى. إنها انهار ذاتية. وعندما نقرأ أن الأنهار تجري من تحت الجنات بما فيها ومن فيها من قصور فقد يقول قائل : ألا أستطيع أن آخذ من هذه و
٢ رواه الطبراني في الأوسط عن جابر..
وسبحانه قال من قبل :" تلك حدود الله ". والحدود إما أن تبين الأوامر وحدها وإما ان تبين النواهي وحدها. فهي شاملة أن يطيعها الطائع أو يعصيها العاصي.
فإن كنت تطيع فلك جزاء الطاعة وتأخذ الجنات والخلود والفوز العظيم.
لكن ماذا عمن يعصي ؟ إن له المقابل، وهذا هو موقفه وجزاؤه أن له العذاب.
" ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ".
هنا نجد " نارا " واحدة، وهناك نجد " جنات ". هذا ملحظ أول، وإذا كنا منتبهين ونقبل على كتاب الله، ونعرف أن المتكلم هو الله، فإننا نجد الملحظ الثاني وهو خلود للمؤمنين في الجنات، أما الكافر فسيدخل النار. ولم يقل الحق نيرانا، ولم يقل الحق أيضا :" خالدين " لماذا ؟ لأن المؤمنين سيكونون في الجنة على سرر متقابلين، ويتزاورون، وكل واحد يستمتع بكل الجنان، وأيضا إن المرء إذا كان له من عمله الصالح الكثير وقصر أولاده الذين اشتركوا معه في الإيمان، فإن الحق سبحانه يلحق به ذريته ويكون هو وذريته في النعيم والجنان كرامة له. فتكون الجنات مع بعضها وهذا أدعى للإنس.
ولكن الموقف يختلف مع الكافر، فلن يلحق الله به أحدا وكل واحد سيأخذ ناره، وحتى لا يأنسوا مع بعضهم وهم في النار، فالأنس لن يطولوه أيضا، فكل واحد في ناره تماما مثل الحبس المنفرد في زنزانة. ولن يأنس واحد منهم بمعذب آخر. إذن فهناك " جنات " و " نار " و " خالدين " و " خالدا "، وكل استخدام للكلمة له معنى. والطائع له جنات يأتنس فيها بذريته وإخوته أهل الإيمان ويكونون خالدين جميعا في الجنات، أما العاصي فهو في النار وحده خالدا " وله عذاب مهين ".
إن العذاب يكون مرة أليما، ومثال ذلك أن يؤلم واحد عدوه فيتجلد عدوه لا يرى شماتة الذي يعذبه. ويقول الشاعر :
وتجلدي للشامتين أريهمو *** أنى لريب الدهر لا أتضعضع
فيكتم الألم عن خصمه، لكن هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهناك إهانة في النفس، فعذاب الله يجمع الألم والإهانة، إياك أن تفهم أن هناك من يقدر على أن يتجلد كما يتجلد البشر عند وقوع العذاب في الدنيا إن عذاب الآخرة مهين ومذل للنفس في آن واحد.
وهكذا نجد أن المرحلة الأولى من سورة النساء عالجت وحدة الإنسان أبا، ووحدته أما، وعالجت كيف بث الله منهما رجالا كثيرا ونساء. وعالجت السورة أيضا ما يطرأ مما يجري به قدر الله في بعض خلقه بأن يتركوا أيتاما ضعافا، وأنه سبحانه أراد استبقاء الحياة الكريمة للنفس الإنسانية ؛ لذلك طلب أن نصنع الخير والمودة مع اليتامى، ووضع أسلوب التعامل الإيماني معهم، وأن نكون أوصياء قائمين بالعدالة والإرادة الحسنة العفيفة لأموالهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد فيتسلموها.
وأيضا عالجت السورة أمرا آخر وهو استبقاء الحياة الكريمة للنساء والأطفال ضمن النسيج الاجتماعي. ذلك أن العرب كانوا يمنعون النساء من الميراث، ويمنعون كذلك من الميراث من لم يطعن برمح ولم يضرب بخنجر أو سيف ولم يشترك في رد عدوان. فأراد الله سبحانه لهذه الفئة الذليلة المضطهدة أن تأخذ حقها ليعيش العنصران في كرامة ويستبقيا الحياة في عزة وهمة وفي قوة، فشرع الحق نصيبا محددا للنساء يختلف عن نصيب الرجال مما قل أو كثر، وبعد ذلك استطرد ليتكلم عن الحقوق في المواريث. وأوضح سبحانه الحدود التي شرعها لهذا الأمر، فمن كان يريد جنات الله فليطع الله ورسوله فيما حد من حدود. ومن استغنى عن هذه الجنات فليعص الله ليكون خالدا في النار.
إذن فالحياة الإنسانية هبة من الله لعباده، ومن كرمه سبحانه أن اوجد لها قبل أن يوجدها ما يقيم أود الحياة الكريمة لذلك الإنسان المكرم، فوفد الإنسان على الخير، ولم يفد الخير على الإنسان، أي أن الحق سبحانه لم يخلق الإنسان أولا ثم صنع له من بعد ذلك الشمس والقمر والأرض والعناصر. لا، لقد خلق الله هذه العناصر التي تخدم الإنسان أولا وأعدها لاستقبال الطارق الجديد الإنسان الذي اختاره سبحانه ليكون خليفة في الأرض. فالخير في الأرض الذي نستبقي به الحياة سبق وجود الإنسان، وهذه عناية من الحق الرحمن بمخلوقه المكرم وهو الإنسان. وجعل الله للإنسان وسيلة للتكاثر وربطها بعملية الإمتاع، وهذه الوسيلة في التكاثر تختلف عن وسائل التكاثر في الزروع والحيوانات، فوسيلة التكاثر في كل الكائنات هي لحفظ النوع فقط.
وأراد سبحانه وتعالى أن يكون الإمتاع مصاحبا لوسيلة التكاثر الإنساني، ذلك أن المشقات التي يتطلبها النسل كثيرة، فلا بد أن يجعل الله في عملية التكاثر متعة تغري الإنسان.
وأراد الحق سبحانه بذلك أن يأتي بالضعاف ليجعل منهم حياة قوية.
ويوصينا الحق باليتيم من البشر، وقد يقول قائل :
مادام الحق سبحانه وتعالى يوصينا حتى ننشئ من اليتيم إنسانا قويا وأن نحسن إلى اليتيم، فلماذا أراد الله أن يموت والد اليتيم ؟. نقول : جعل الحق هذا الأمر حتى لا تكون حياة الإنسان ضربة لازب على الله، إنه يخلق الإنسان بعمر محدد معروف له سبحانه ومجهول للإنسان، فالإنسان قد يموت جنينا أو طفلا أو صبيا أو رجلا أو هرما، بل نحن نجد في الحياة إنسانا هرما مازال يحيا بيننا ويموت حفيد حفيده، لماذا ؟.
لأن الله أراد أن يستر قضية الموت عن الناس، فلا معرفة للإنسان بالعمر الذي سوف يحياه ولا بزمان الموت، ولا مكان الموت، حتى يكون الإنسان منا دائما على استعدادا أن يموت في أي لحظة. ومادام الإنسان يعيش مستعدا لأن يموت في أي لحظة، فعليه أن يستحي أن يلقى الله على معصية. وأيضا لنعلم أن المنهج الإيماني ؛ منهج يجعل المؤمنين جميعا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فإذا مات رجل وترك طفلا يتيما، ووجد هذا اليتيم آباء من المجتمع الإيماني، فإن المنهج الإيماني يستقر في قلب اليتيم اطمئنانا ويقينا. ومن حكمة الموت ألا يفتن أحد في أبيه أو في الأسباب الممنوحة من الله للآباء، بل نكون جميعا موصولين بالله.
ومادام الحق سبحانه قد وضع لنا الأسباب لاستبقاء الحياة، ووضع لنا أسلوب السعي في الأرض لتستبقى الحياة بالحركة فيها، فقد وضع أيضا الوسيلة الكريمة لاستبقاء النوع وجعل من حركة الأصل ما يعود على الفرع، فلم يغر الله الإنسان وحده بالحركة لنفسه، ولكن أغراه أن يتحرك في الحياة حركة تسعه وتسع من يعول، و ويوضح الحق للإنسان : أن حركتك في الأرض ستنفع أولادك أيضا.
ولذلك أوجد الله سبحانه في نفس كل والد غريزة الحنان والحب. ونحن نرى هذه الغريزة كآية من آيات الله متمكنة في نفوس الآباء. ولهذا يسعى الأب في الحياة ليستفيد هو وأولاده. والذي يتحرك حركة واسعة في الحياة قد يأتي عليه زمان يكفيه عائد حركته بقية عمره ؛ لأنه تحرك بهمة وإخلاص ؛ وأفاء الله عليه الرزق الوفير، وقد يتحرك رجل لمدة عشرين عاما أو يزيد ويضمن لنفسه ولأولاده من بعده الثروة الوفيرة، وهناك من يكد ويتعب في الحياة ويكسب رزقا يكفيه ويكفي الأبناء والأحفاد.
وهكذا نجد الذين يتحركون لا يستفيدون وحدهم، فقط ولكن المجتمع يستفيد أيضا. وتشاء حكمة الله العالية بأن يفتت الثروة بقوانين الميراث لتنتشر الثروة وتتوزع بين الأبناء فتشيع في المجتمع، وهذا اسمه التفتيت الانسيابي. كأن نجد واحدا يملك مائة فدان وله عدد من الأبناء والبنات. وبعد وفاة الرجل يرث الأبناء والبنات كل تركته، وهكذا تتفتت الثروة بين الأبناء تفتيتا انسيابيا وليس بالتوزيع القهري الذي ينشئ الحقد والعداوة، ويريد الحق أن نحترم حركة المتحرك، وأن تعود له حركة حياته ولمن يعول فقال سبحانه :
﴿ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ٣٦ ﴾ ( سورة محمد ).
هو سبحانه لا يقول لأي واحد : هات المال الذي وهبته لك. وقلت سابقا : إنه سبحانه وتعالى يحنن عبدا على عبد فيقول :
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ١١ ﴾ ( سورة الحديد ).
إن الله سبحانه يحترم حركة العبد، ويحترم ما ملك العبد بعرقه، ويوصي الحق العبد الغني : إن أخاك العبد الفقير في حاجة، فأقرضني أنا الله بإعطائك الصدقة أو الزكاة لأخيك الفقير. ولم يقل للعبد الغني : أقرض أخاك، ولكنه قال أقرضني. لماذا ؟ لأنه سبحانه هو الذي استدعى الخلق إلى الوجود، وهو المتكفل برزقهم جميعا.. المؤمن منهم والكافر. ولذلك ضمن الرزق للجميع وأمر الأسباب بأن تستجيب حتى للكافر، لأنه سبحانه هو الذي استدعاه للوجود.
وسبحانه وضع هذا التوريث، ليصنع التفتيت الانسيابي للملكية حتى لا يأتي التفتيت القسري الذي يجعل بعضا من الأبناء وقد نشأوا في نعمة وأخذوا من مسائل الحياة ما يريدون ؟، وعندما يأتي عليهم هذا التفتيت القسري، يصبحون من المساكين الذين فاجأتهم الأحداث القسرية بالحرمان، فهم لم يستعدوا لهذا الفقر المفاجئ. لكن عندما يأتي التفتيت الانسيابي فكل واحد يعد نفسه لما يستقبله، وبذاتية راضية وبقدره على الحركة، ولذلك قال الحق :
﴿ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ٣٦ ﴾( سورة محمد ).
إنه سبحانه لا يقول : أنا الذي ملكتك هذا المال، ولا أنا الذي رزقتك هذا الرزق، مع أنه سبحانه هو الذي ملكك ورزقك هذا المال حقا ولكنه يوضح لك حقك في الحركة، فيقول بعد ذلك :
﴿ إن يسأ لكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ٣٧ ﴾( سورة محمد ).
ولو ألح عليك فأنت تبخل بها لأنك جنيتها بتعب وعرق. ولكن ما الفرق بين إنسان لم يسرف على نفسه، بل عاش معتدلا، ثم أبقى شيئا لأولاده ؛ والذي جاء بدخله كله وبدده فيما حرمه الله وأسرف على نفسه في المخدرات وغيرها، ما الفرق بين هذا وذاك ؟.
الفرق هو احترام الحق سبحانه لأثر حركة الإنسان في الحياة، لذلك يوضح : انا لا أسألكم أموالكم، لأني إن سألتكم أموالكم فقد تبخلون، لأن مالكم عائد من أعمالكم.
ويقول الحق :" ويخرج أضغانكم " وإذا ظهر وخرج الضغن في المجتمع فالويل للمجتمع كله ؛ ولذلك نجد أن كل حركة من هذه الحركات القسرية ينشأ منها بروز الضغن في المجتمع كله، وساعة يبرز الضغن في المجتمع، انتهى كل شيء جميل. ولذلك وضع الحق أسس ووسائل استبقاء الحياة الكريمة.
وضع أسسا للضعيف بما يحميه، وكذلك للنساء اللاتي كن محرومات من الميراث قبل الإسلام، وجعل الحق سبحانه وتعالى لتوريث الأطفال والأبناء والنساء حدودا " تلك حدود الله " وإياكم أن تتعدوا هذه الحدود ؛ لأن الإنسان إذا ما تعدى هذه الحدود، فلا بد أن يكون من أهل النار والعياذ بالله فقد وضع الله تلك القواعد لاستبقاء حياتك وحياة من تعول.
وهناك لون آخر من الاستبقاء، هو استبقاء النوع، لأن للإنسان عمرا محدودا في الحياة وسينتهي ؛ لذلك يجب أن يستبقي الإنسان النوع في غيره، كيف ؟ نحن نتزوج كي يرزقنا الله بالذرية والبنين والحفدة وتستمر حلقات، وهذا استبقاء للنوع الإنساني.
والحق يريد أن يكون الاستبقاء للنوع كريما ؛ لذلك يأمرنا الحق سبحانه أن نستبقي النوع بأن نخ
﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ١٥ ﴾.
و " اللاتي " اسم موصول لجماعة الإناث، وأنا أرى أن ذلك خاص باكتفاء المرأة بالمرأة. وماذا يقصد بقوله :" فاستشهدوا عليهن أربعة " ؟ إنه سبحانه يقصد به حماية الأعراض، فلا يلغ كل واحد في عرض الآخر، بل لا بد أن يضع لها الحق احتياطا قويا، لأن الأعراض ستجرح، ولماذا " أربعة " في الشهادة ؟ لأنهما اثنتان تستمتعان ببعضهما، ومطلوب أن يشهد على كل واحدة اثنان فيكونوا أربعة، وإذا حدث هذا ورأينا وعرفنا وتأكدنا، ماذا نفعل ؟.
قال سبحانه :" فأمسكوهن في البيوت " أي احجزوهن واحبسوهن عن الحركة، ولا تجعلوا لهن وسيلة التقاء إلى أن يتوفاهن الموت " أو يجعل الله لهن سبيلا " وقد جعل الله.
والذين يقولون : إن هذه المسألة خاصة بعملية بين رجل وامرأة، نقول له : إن كلمة " واللاتي " هذه اسم موصول لجماعة الإناث، اما إذا كان هذا بين ذكر وذكر. ففي هذه الحالة يقول الحق :
﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ١٦ ﴾( سورة النساء ).
الآية هنا تختص بلقاء رجل مع رجل، ولذلك تكون المسألة الأولى تخص المرأة مع المرأة، ولماذا يكون العقاب في مسألة لقاء المرأة بالمراة طلبا للمتعة هو الإمساك في البيوت حتى يتوفاهن الموت ؟ لأن هذا شر ووباء يجب أن يحاصر، فهذا الشر معناه الإفساد التام، لأن المرأة ليست محجوبة عن المرأة ؛ فلأن تحبس المرأة حتى تموت خير من أن تتعود على الفاحشة. ونحن لا نعرف ما الذي سوف يحدث من أضرار، والعلم مازال قاصرا، فالذي خلق هو الذي شرع أن يلتقي الرجل بالمرأة في إطار الزواج وما يجب فيه من المهر والشهود، وسبحانه أعد المراة للاستقبال، وأعد الرجل للإرسال، وهذا أمر طبيعي، فإذا دخل إرسال على استقبال ليس له، فالتشويش يحدث.
وإن لم يكن اللقاء على الطريقة الشرعية التي قررها من خلقنا فلا بد أن يحدث أمر خاطئ ومضر، ونحن عندما نصل سلكا كهربائيا بسلك آخر من النوع نفسه.. أي سالب مع سالب أو موجب مع موجب تشب الحرائق، ونقول :" حدث ماس كهربائي "، أي أن التوصيلة الكهربائية كانت خاطئة. فإذا كانت التوصيلة الكهربائية الخاطئة في قليل من الأسلاك قد حدث ما حدث منها من الإضرار، أفلا تكون التوصيلة الخاطئة في العلاقات الجنسية مضرة في البشر ؟.
إنني أقول هذا الكلام ليسجل، لأن العلم سيكشف إن متأخرا أو متقدما أن لله سرا، وحين يتخصص رجل بامرأة بمنهج الله " زوجني.. وتقول له زوجتك " فإن الحق يجعل اللقاء طبيعيا. أما إن حدث اختلاف في الإرسال والاستقبال فلسوف يحدث ماس صاعق ضار، وهذه هي الحرائق في المجتمع.
أكرر هذا الكلام ليسجل وليقال في الأجيال القادمة : إن الذين من قبلنا قد اهتدوا إلى نفحة من نفحات الله، ولم يركنوا إلى الكسل، بل هداهم الإيمان إلى أن يكونوا موصولين بالله، ففطنوا إلى نفحات الله. والحق هو القائل :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾ ( من الآية ٥٣ سورة فصلت ).
فإذا كنا قد اهتدينا إلى معرفة أن اتصال سلك صحيح بسلك صحيح فالكهرباء تعطي نورا جميلا. أما إذا حدث خطأ في الاتصال ؟، فالماس يحدث وتنتج منه حرائق، كذلك في العلاقة البشرية، لن المسألة ذكورة وأنوثة.
والحق سبحانه القائل :
﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾( من الآية ٤٩ سورة الذاريات ).
فإذا كان النور الجميل يحدث من الاتصال الصحيح بين الموجب والسالب في غير الإنسان، وتحدث الحرائق إن كان الاتصال خاطئا، فما بالنا بالإنسان ؟.
وفي بعض رحلاتنا في الخارج، سألنا بعض الناس :
لماذا عددتم للرجل نساء، ولم تعددوا رجالا للمرأة ؟.
هم يريدون أن يثيروا حفيظة المرأة وسخطها على دين الله ؛ حتى تقول المرأة الساذجة متمردة على دينها :" ليس في هذا الدين عدالة " ؛ لذلك سألت من سألوني : أعندكم أماكن يستريح فيها الشباب المتحلل جنسيا ؟.
فكان الجواب : نعم في بعض الولايات هناك مثل هذه الأماكن.
قلت : بماذا احتطتم لصحة الناس ؟.
قالوا : بالكشف الطبي الدوري المفاجئ.
قلت : لماذا ؟.
قالوا : حتى نعزل المصابة بأي مرض.
قلت : أيحدث ذلك مع كل رجل وامرأة متزوجين ؟
قالوا : لا.
قلت : لماذا ؟ ؟ فسكتوا ولم يجيبوا، فقلت : لأن الواقع أن الحياة الزوجية للمرأة مع رجل واحد تكون المرأة وعاء للرجل وحده لا ينشأ منها أمراض، ولكن المرض ينشأ حين يتعدد ماء الرجال في المكان الواحد.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يستبقي النوع بقاء نظيفا ؛ لذلك قال :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ١٥ ﴾( سورة النساء ).
والمقصود ب " نسائكم " هنا المسلمات، لأننا لا نشرع لغيرنا، لانهم غير مؤمنين بالله. وطلب الشهادة يكون من أربعة من المسلمين، لأن المسلم يعرف قيمة العرض والعدالة. وإن شهدوا فليحدث حكم الله بالحبس في البيوت.
وقد عرفنا ذلك فيما يسمى في العصر الحديث بالحجر الصحي الذي نضع فيه أصحاب المرض المعدي. وهناك فرق بين من أصبن ب " مرض معد " ومن أصبن ب " العطب والفضيحة ". فإذا كنا نعزل أصحاب المرض المعدي فكيف لا نعزل اللاتي أصبن بالعطب والفضيحة ؛ لذلك يقول الحق :" فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " أي أن تظل كل منهما في العزل إلى أن يأتي لكل منهن ملك الموت. وحدثتنا كتب التشريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الآية على أنها تختص بزنا يقع بين رجل وامرأة وليس بين امرأتين.
عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" خذوا عني خذوا عني : البكر البكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب الثيب جلد مائة والرجم " ١.
ثم جاء التشريع بعد ذلك فصفى قضية الحدود إلى أن البكر بالبكر جلد.. والثيب بالثيب رجم. وبعض من الناس يقول : إن الرجم لم يرد بالقرآن.
نرد فنقول : ومن قال : إن التشريع جاء فقط بالقرآن ؟ لقد جاء القرآن معجزة ومنهجا للأصول، وكما قلنا من قبل : إن الحق قال :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه ﴾( من الآية ٧ سورة الحشر ).
وبعد ذلك نتناول المسألة : حين يوجد نص ملزم بحكم، قد نفهم الحكم من النص وقد لا نفهمه، فإذا فهمنا فله تطبيق عملي في السيرة النبوية.
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بالنص فقط ولكن جاء بالعمل نفسه، فالأسوة تكون بالفعل في إقامة الحد ؛ لأن الفعل أقوى من النص، فالنص قد يوجد ولا يطبق لسبب كالنسخ للحكم مثلا، أما الفعل فإنه تطبيق، وقد رجم الرسول ماعزا والغا مدية ورجم اليهودي و اليهودية عندما جاءوا يطلبون تعديل حكم الرجم الوارد بالتوراة. إذن فالفعل من الرسول أقوى من النص وخصوصا أن الرسول مشرع أيضا. وقال واحد مرة : إن الرجم لمن تزوج، فماذا نفعل برجل متزوج قد زنا بفتاة بكر ؟.
والحكم هنا : يرجم الرجل وتجلد الفتاة، فإن اتفقا في الحالة، فهما يأخذان حكما واحدا. وإن اختلفا فكل واحد منهما يأخذ الحكم الذي يناسبه.
وحينما تكلم الحق عن الحد في الإماء المملوكات قال :
﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ ( سورة النساء ).
ويفهم من ذلك الجلد فقط، لأن الرجم لا يمكن أن نقوم بتقسيمه إلى نصفين، فالأمة تأخذ في الحد نصف الحرة، لأن الحرة البكر في الزنا تجلد مائة جلدة، والأمة تجلد خمسين جلدة.
ومادام للأمة نصف حد المحصنة، فلا يأتي إذن حد إلا فيما ينصف، والرجم لا ينصف، والدليل أصبح نهائيا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرع وليس مستنبطا، وقد رجم رسول الله. ولماذا تأخذ الأمة نصف عقاب الحرة ؟ لأن الإماء مهدورات الكرامة، أما الحرائر فلا. ولذلك فهند امرأة أبي سفيان قالت : أو تزني الحرة ؟ قالت ذلك وهي في عنف جاهليتها. أي أن الزنا ليس من شيمة الحرائر، أما الأمة فمهدورة الكرامة نظرا لأنه مجترأ عليها وليست عرض أحد.
ولذلك فعليها نصف عقاب المحصنات، وقد تساءل بعضهم عن وضع الأمة المتزوجة التي زنت، والرجم ليس له نصف.
نقول : الرجم فقد للحياة فلا نصف معه، إذن فنصف ما على المحصنات من العذاب، والعذاب هو الذي يؤلم. ونستشهد على ذلك بآية لنبين الرأي القاطع بأن العذاب شيء، والقتل وإزهاق الحياة شيء آخر، ونجد هذه الآية هي قول الحق على لسان سليمان عليه السلام حينما تفقد الطير ولم يجد الهدهد :
﴿ لأعذبنه عذابا أو لأذبحنه ﴾( من الآية ٢١ من سورة النمل ).
إذن، فالعذاب غير الذبح، وكذلك يكون العذاب غير الرجم. فالذي يحتج به البعض ممن يريدون إحداث ضجة بأنه لا يوجد رجم ؛ لأن الأمة عليها نصف ما على المحصنات، والرجم ليس فيه تنصيف نقول له : إن ما تستشهد به باطل ؛ لأن الله فرق بين العذاب وبين الذبح، فقال على لسان سليمان :" لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه " فإذا كان العذاب غير إزهاق الروح بالذبح، والعذاب أيضا غير إزهاق الروح بالرجم. إذن فلا يصح أن يحاول أحد الإفلات من النص وفهمه على غير حقيقته ولنناقش الأمر بالعقل :
حين يعتدي إنسان على بكر، فما دائرة الهجوم على العرض في البكر ؟ إنها أضيق من دائرة الهجوم على الثيب ؛ لأن الثيب تكون متزوجة غالبا، فقصارى ما في البكر أن الاعتداء يكون على عرضها وعرض الأب والأخ. أما الثيب فالاعتداء يكون على عرض الزوج أيضا، وهكذا تكون دائرة الاعتداء أكبر، إنه اعتداء على عرض الأب والأم. والإخوة والأعمام مثل البكر، وزاد على ذلك الزوج والأبناء المتسلسلون. فإذا كان الآباء والأمهات طبقة وتنتهي، فالأبناء طبقة تستديم ؛ لذلك يستديم العار. واستدامة العار لا يصح أن تكون مساوية لرقعة ليس فيها هذا الاتساع، فإن سوينا بين الاثنين بالجلد فهذا يعني أن القائم بالحكم لم يلحظ اتساع جرح العرض.
إن جرح العرض في البكر محصور وقد ينتهي لأنه يكون في معاصرين كالأب والأم والإخوة، لكن ما رأيك أيها القائم بالحكم في الثيب المتزوجة ولها أولاد يتناسلون ؟ إنها رقعة متسعة، فهل يساوي الله وهو العادل بين ثيب وبكر بجلد فقط ؟ إن هذا لا يتأتى أبدا.
إذن فالمسألة يجب أن تؤخذ مما صفاه رسول الله وهو المشرع الثاني الذي امتاز لا بالفهم في النص فقط، ولكن لأن له حق التشريع فيما لم يرد فيه نص ! فسنأخذ بما عمله وقد رجم رسول الله فعلا، وانتهى إلى أن هذا الحكم قد أصبح نهائيا، الثيب بالثيب هو الرجم، والبكر بالبكر هو الجلد، وبكر وثيب كل منهما يأخذ حكمه، ويكون الحكم منطبقا تماما، وبذلك نضمن طهارة حفظ النوع ؛ لأن حفظ النوع هو أمر أساسي في الحياة باستبقاء حياة الفرد واستبقاء نوعه، فاستبقاء حياة الفرد بأن نحافظ عليه، ونحسن تربيته ونطعمه حلالا، ونحفظ النوع بالمحافظة على طهارة المخالطة.
والحق سبحانه وتعالى يمد خلقه حين يغفلون عن منهج الله بما يلفتهم إلى المنهج من غير المؤمنين بمنهج الله، ويأتينا بالدليل منة غير المؤمنين بمنهج الله، فيثبت لك بأن المنهج سليم.
.
إنها كلمة الله التي أثرت في التكوين الكيميائي للنفس وتصنع كل هذا الإشراق والبشر، وإعلان مثل هذه الأحداث بالطبول والنوار والزينات هو دليل واضح على أن هناك حاجة قد عملت وأحدثت في النفس البشرية مفعولها الذي أراده الله من الاتصال بالطريق النظيف الشريف العفيف.
فكل اتصال عن غير هذا الطريق الشريف والعفيف لا بد أن ينشأ عنه خلل في التكوين الإنساني يؤدي إلى أوبئة نفسية وصحية قد لا يستطيع الإنسان دفعها مثل ما هو كائن الآن.
وعلى هذا فيكون قول الحق سبحانه :
وكانت هذه مرحلة أولية إلى أن طبق الرسول إقامة الحد.
﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ١٦ ﴾.
والحق سبحانه وتعالى تواب ورحيم، ونعرف أن صفة المبالغة بالنسبة لله لا تعني أن هناك صفة لله تكون مرة ضعيفة ومرة قوية، وكل صفات الله واحدة في الكمال المطلق. وقلت من قبل : إنني عندما أقول :" فلان أكال " قد يختلف المعنى عن قولي :" فلان آكل "، فبمثل هذا القول أبالغ في وصف إنسان يأكل بكثرة، فهل هو يأكل كثيرا في الوجبة الواحدة، أو أن الوجبة ميزانها محدود لكن هذا الموصوف يعدد الوجبات، فبدلا من أن يأكل ثلاث مرات فهو يأكل خمس مرات، عندئذ يقال له :" أكال "، أي أنه عدد الوجبات، وإن كانت كل وجبة في ذاتها لم يزد حجمها.
أو هو يأتي في الوجبة الواحدة فيأكل أضعاف ما يأكله الإنسان العادي في الوجبة العادية، فيأكل بدلا من الرغيف أربعة، فنقول : إنه " أكول "، إذن فصيغة المبالغة في الخلق إما أن تنشأ في قوة الحدث الواحد، وإما أن تنشأ من تكرار الحدث الواحد.
إن قولك :" الله تواب " معناه أنه عندما يتوب على هذا وذاك وعلى ملايين الملايين من البشر، فالتوبة تتكرر. وإذا تاب الحق في الكبائر أليست هذه توبة عظيمة ؟ هو تواب ورحيم لأنه سبحانه وتعالى يتصف بعظمة الحكمة والقدرة على الخلق والإبداع، وهو الذي خلق النفس البشرية ثم قنن لها قوانين وبعد ذلك جرم من يخالف هذه القوانين، وبعد أن جرم الخروج عن القوانين وضع عقوبة على الجريمة.
والتقنين في ذاته يقطع العذر، فساعة ان قنن الحق لا يستطيع واحد أن يقول :" لم أكن أعلم " ؛ لأن ذلك هو القانون، وحين يجرم فهذا إيذان منه بأن النفس البشرية قد تضعف، وتأتي بأشياء مخالفة للمنهج، فنحن لسنا ملائكة، وسبحانه حين يقنن يقطع العذر، وحين يجرم فهو إيذان بأن ذلك من الممكن أن يحدث. وبعد ذلك يعاقب، وهناك أفعال مجرمة، ولكن المشرع الأول لم يجرمها ولم يضع لها قانونا ؟، لا عن تقصير منه، ولكن التجريم يأتي كفرع.
إن الله سبحانه قد قدر أن النفس البشرية قد تفعل ذلك، كالسرقة مثلا إنه سبحانه وضع حدا للسرقة، وقد تضعف النفس البشرية فتسرق، أو تزني ؛ لذلك فالحد موجود، لكن هناك أشياء لا يأتي لها بالتجريم والعقوبة، وكأنه سبحانه يريد أن يدلنا من طرف خفي على أنها مسائل ما كان يتصور العقل أن تكون. مثال ذلك اللواط، لم يذكر له حدا، لماذا ؟ لأن الفطرة السليمة لا تفعله، بدليل أن اللواط موجود في البشر وغير موجود في الحيوان.
لكن ليس معنى ألا يجرم الحق عملا أنه لا يدخل في الحساب، لا، إنه داخل في الحساب بصورة أقوى ؛ لأن التجريم والعقوبة على التجريم تدل على أن الفعل من الممكن أن يحدث، و حين يترك هذه المسألة بدون تجريم، فمعنى ذلك أن الفطرة السليمة لا يصح ان تفعلها، ولذلك لم يضع لها حدا أو تجريما، وترك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المكلف بالتشريع أن يضع حدا لهذه المسألة.
إذن فعدم وجود نص على جريمة أو عقوبة على جريمة ليس معناه ألا يوجد حساب عليها، لا. هناك حساب، فقد تكون العقوبة أفظع، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإلقاء الفاعل للواط والمفعول به من أعلى جبل. إن عقوبتهما أن يموتا بالإلقاء من شاهق جبل، إذن فالعقوبة أكثر من الرجم. وهكذا نعرف أن عدم التجريم وعدم التقنين بالعقوبة لأي أمر غير مناسب للعقل وللفطرة السليمة دليل على أن هذا الأمر غير مباح، والحق لم يترك تلك الأمور سكوتا عنها، ولكن هو إيحاء من طرف خفي أن ذلك لا يصح أن يحدث، بدليل انها لا تحدث في الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان.
وبعد ذلك قد يتعلل الإنسان الفاعل لمثل هذا القبح الفاحش بأنها شهوة بهيمية. نقول : يا ليت شهوتك المخطئة في التعبير عن نفسها بهيمية ؛ لأن البهائم لا يحدث منها مثل ذلك الفعل أبدا، فلا أنثى الحيوانات تقترب من أخرى، وكذلك لا يوجد ذكر حيوان يقترب من ذكر آخر، وإذا ما حملت أنثى الحيوان فإنها لا تسمح لأي ذكر من الحيوانات بالاقتراب منها، إذن فالقبح الفاحش من المخالطة على غير ما شرع الله يمكن أن نسميها شهوة إنسانية، فالبهائم لا ترتكب مثل تلك الأفعال الشاذة. ومن يقول عن الشهوة إنها بهيمية فهو يظلم الحيوانات. والحق سبحانه وتعالى على الرغم من هذه الخطايا يوضح لنا : أنه التواب الرحيم، لماذا ؟.
انظر الحكمة في التوبة وفي قبولها، فلو لم تحدث معصية من الإنسان الذي آمن، لفقد التكليف ضرورته. معنى التكليف أنه عملية يزاحم الإنسان فيها نفسه ويجاهدها لمقاومة تنفيذ المعاصي أو لحملها على مشقة الطاعة.
فمقاومة الإنسان للمعاصي خضوعا للتكليف الإيماني دليل على أن التكليف أمر صحيح، اسمه " تكليف " وإلا لخلقنا الله كالملائكة وانتهت المسألة. وحين يشرع الله التوبة، فذلك يدل على أن الإنسان ضعيف، قد يضعف في يوم من الأيام أمام معصية من المعاصي، وليس معنى ذلك أن يطرده الله من عبوديته له سبحانه، بل هو يقنن العقوبة، وتقنين العقوبة للعاصي دليل على أنه سبحانه لم يخرج الذي اختار الإسلام وعصى من حظيرة الإسلام أو التكليف، ولو فرضنا أن الحق سبحانه لم يقنن التوبة لصارت اللعنة مصير كل من يضعف أمام شهوة، ولصار العاصي متمردا لا يأبه ولا يلتفت من بعد ذلك إلى التكليف، يلغ في أعراض الناس ويرتكب كل الشرور.
إذن فساعة شرع الله التوبة سد على الناس باب " الفاقدين " الذين يفعلون ذنبا ثم يستمرون فيه، ومع ذلك فسبحانه حين تاب على العاصي رحم من لم يعص إنه القائل :" إن الله كان توابا رحيما ". ولو قال الحق إنه تواب فقط لأذنب كل واحد منا لكي يكون الوصف معه وقائم به لا محالة، ولكنه أيضا قال :" توابا رحيما " أي أنه يرحم بعضا من خلقه فلا يرتكبون أي معصية من البداية. فالرحمة ألا تقع في المعصية.
ولنلتفت إلى دقة الأداء القرآني، هو سبحانه يقول :" إنما التوبة على الله " وقد يقول واحد : ما دام الحق شرع التوبة، فلأفعل ما أريد من المعاصي وبعد ذلك أتوب. نقول له : إنك لم تلتفت إلى الحكمة في إبهام ساعة الموت، فما الذي أوحى لك أنك ستحيا إلى أن تتوب ؟ فقد يأخذك الموت فجأة وأنت على المعصية، وعليك ان تلتفت إلى دقة النص القرآني :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ١٧ ﴾ ( سورة النساء ).
وفعل السوء بجهالة، أي بعدم استحضار العقوبة المناسبة للذنب، فلو استحضر الإنسان العقوبة لما فعل المعصية. بل هو يتجاهل العقوبة ؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )١.
فلو كان إيمانه صحيحا ويتذكر تماما أن الإيمان يفرض عليه عدم الزنا، وأن عقوبة الزنا هي الجلد أو الرجم، لما قام بذلك الفعل.
والحق قد قال :" إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " فهناك من يفعل المعصية ويخطط لها ويفرح بها ويزهى بما ارتكب ويفخر بزمن المعصية، وهناك من تقع عليه المعصية وبمجرد أن تنتهي يظل نادما ويضرب نفسه ويعذبها ويتساءل لماذا فعلت ذلك ؟.
وأضرب مثلا للتمييز بين الاثنين، نجد اثنين يستعد كل منهما للسفر إلى باريس، واحد منهما يسأل قبل سفره عن خبرة من عاشوا في عاصمة فرنسا، ويحاول أن يحصل على عناوين أماكن اللهو والخلاعة، وما إن يذهب إلى باريس حتى ينغمس في اللهو، وعندما يعود يظل يفاخر بما فعل من المعاصي.
وأما الآخر فقد سافر إلى باريس للدراسة، وبينما هو هناك ارتكب معصية تحت إغراء وتزيين، إذن هو إنسان وقعت عليه المعصية ودون تخطيط، وبعد أن هدأت شرة الشهوة غرق في الندم، وبعد أن عاد استتر من زمن المعصية. هكذا نرى الفارق بين المخطط للمعصية وبين من وقعت عليه المعصية.
والله سبحانه حين قدر أمر التوبة على خلقه رحم الخلق جميعا بتقنين هذه التوبة، وإلا لغرق العالم في شرور لا نهاية لها، بداية من أول واحد انحرف مرة واحدة فيأخذ الانحراف عملا له، والمهم في التائب أن يكون قد عمل السوء بجهالة، ثم تاب من قريب. والرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد معنى " من قريب " قال :
( إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )٢.
والحوار الذي دار بين الحق وبين إبليس :
﴿ قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ٣٩ إلا عبادك منهم المخلصين ٤٠ ﴾ ( سورة الحجر ).
إن إبليس قال ذلك وظن أنه سيهلك البشر جميعا ويوقعهم في المعصية إلا عباد الله الذين اصطفاهم وأخلصهم له، لكن الله سبحانه خيب ظنه وشرع قبول توبة العبد ما لم يغرغر، لم يصل إلى مرحلة خروج الروح من الجسد. فإذا ما قدم العبد التوبة لحظة الغرغرة فماذا يستفيد المجتمع ؟ لن يستفيد المجتمع شيئا من مثل هذه التوبة ؛ لأنه تاب وقت ألا شر له ؛ لذلك فعلى العبد أن يتوب قبل ذلك حتى يرحم المجتمع من شرور المعاصي. " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " هل يتوب أولا، ثم يتوب الله عليه ؟.
أنه سبحانه يقول :
﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ﴾( من الآية ١١٨ سورة التوبة ).
هنا وقف العلماء وحق لهم أن يتساءلوا : هل يتوب العبد أولا وبعد ذلك يقبل الله التوبة ؟ أم أن الله يتوب على العبد أولا ثم يتوب العبد ؟، صريح الآية هو :" ثم تاب عليهم ليتوبوا " ونقول : وهل يتوب واحد ارتجالا منه، أو أن الله شرع التوبة للعباد ؟. لقد شرع الله التوبة فتاب العبد، فقبل الله التوبة.
نحن إذن أمام ثلاثة أمور : هي أن الله شرع التوبة للعباد ولم يرتجل أحد توبته ويفرضها على الله، أي أن أحدا لم يبتكر التوبة، ولكن الذي خلقنا جميعا قدر أن الواحد قد يضعف أمام بعض الشهوات فوضع تشريع التوبة. وهو المقصود بقوله :" ثم تاب عليهم " أي شرع لهم التوبة وبعد ذلك يتوب العبد إلى الله " ليتوبوا " وبعد ذلك يكون القبول من الله وهو القائل :
﴿ غافر الذنب وقابل التوب ﴾ ( من الآية ٣ سورة غافر ).
تأمل كلمة " إنما التوبة على الله " تجدها في منتهى العطاء، فإذا كان الواحد فقيرا ومدينا وأحال دائنه إلى غنى من العباد فإن الدائن يفرح ؛ لأن الغني سيقوم بسداد الدين وأدائه إلى الدائن، فما بالنا بالتوبة التي أحالها الله على ذاته بكل كماله وجماله، إنه قد أحال التوبة على نفسه لا على خلقه، وهو سبحانه أوجب التوبة على نفسه ولا يملك واحد أن يرجع فيها، ثم قال :" ثم يتوبون من قريب " أي أن العبد يرجو التوبة من الله، وحين قال :" فأولئك الذين يتوب الله عليهم " أي أن سبحانه قابل للتوب وغافر للذنب وحين يقول سبحانه :" وكان الله عليما حكيما " فنحن نعلم أن كل تقنين لأي شيء يتطلب علما واسعا بما يمكن أن يكون وينشأ. والذين يتخبطون في تقنيات البشر، لماذا يقنون اليوم ثم يعدلون عن التقنين غدا ؟ لأنهم ساعة قننوا غاب عنهم شيء من الممكن أن يحدث ؟، فلما حدث ما لم يكن في بالهم استدركوا على تقنينهم.
إذن فالاضطراب ينشأ من عدم علم المقنن بكل أحوال من يقنن لهم ماضيا وحاضرا ومستقبلا، والمقنن من البشر قد لا يستوعب الأحداث الماضية، وذلك لأنه لا يستوعبها إلا في بيئته أو في البيئة التي وصلها خبرها، فحتى في الماضي لا يقدر، ولا في المستقبل يقدر، وكذلك في الحاضر أيضا، فالحاضر عند بيئة ما يختلف عن الحاضر في بيئة أخرى. ونحن نعرف أن حواجز الغيب ثلاثة : أي أن ما يجعل الشيء غيبا عن الإنسان هو ثلاثة أمور :
الأمر الأول : هو الزمن الماضي وما حدث فيه من أشياء لم يرها المعاصرون ولم يعرفوها ؛ لذلك فالماضي قد حجز عن البشر بحجاب وقوع الأحداث في ذلك الماضي ؛ ولذلك يلفتنا الله سبحانه وتعالى في تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه :
﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة القصص ).
ورسول الله لم يكن مع موسى ساعة أن قضى الله لموسى الأمر، ومع ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا لا يمكنه أن يقرأ التاريخ أو يتعلمه. ويقول أيضا سبحانه :
﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾ ( من الآية ٤٤ آل عمران ).
أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشهد تلك الأزمان التي يأتيه خبرها عن الله، والرسول أمي بشهادة الجميع ولم يجلس إلى معلم. إذن فالذي اخترق حجاب الزمن وأخبر الرسول بتلك الأحداث هو الله.
والأمر الثاني : هو حجاب الحاضر، حيث يكون الحجاب غير قادم من الزمن لأن الزمن واحد، ولكن الحجاب قادم من اختلاف المكان، فأنا أعرف ما يحدث في مكاني، ولكني لا أعرف ما الذي يحدث في غير المكان الذي أوجد به، ولا يقتصر الحجاب في الحاضر على المكان فقط ولكن في الذات الإنسانية بأن يضمر الشخص الشيء في نفسه. فالحق يقول :
﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ﴾ ( من الآية ٨ سورة المجادلة ).
هنا يخبر الله سبحانه الرسول عن شيء حاضر ومكتوم في نفوس أعدائه. وبالله لو لم يكونوا قد قالوه في أنفسهم، لما صدقوا قول الرسول الذي جاءه إخباره عن الله. وقد خرق الله أمام رسوله حجاب الذات وحجاب المكان.
والأمر الثالث : هو حجاب المستقبل، فيقول القرآن :
﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ٤٥ ﴾( سورة القمر ).
ونلحظ أن كلمة " سيهزم " فيها حرف " السين " التي تنبئ عن المستقبل، وقد نزلت هذه الآية في مكة وقت أن كان المسلمون قلة وهم مضطهدون ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. وعندما يسمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينفعل ويقول لرسول الله : أي جمع هذا ؟.
وجاء الجمع في بدر وولى الدبر. حدث ذلك الإخبار في مكة، ووقعت الأحداث بعد الهجرة. وكانت الهجرة في الترتيب الزمني مستقبلا بالنسبة لوجود المسلمين في مكة.
أكان من الممكن أن يقول سبحانه :" سيهزم الجمع ويولون الدبر " لولا أن ذلك سيحدث بالفعل ؟.
لو حدث غير ذلك لكذبه المؤمنون به.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك إبلاغا عن الله وهو واثق، ويطلقها الله على لسان رسوله حجة فيمسكها الخصم، ثم يثبت صدقها لأن الذي قالها هو من يخلق الأحداث ويعلمها.
ويأتي في الوليد بن المغيرة وهو ضخم وفحل وله مهابة وصيت وسيد من سادة قريش، فيقول الحق :
﴿ سنسمه على الخرطوم ١٦ ﴾ ( سورة القلم ).
أي سنضربه بالسيف ضربة تجعل على أنفه علامة في أعلى منطقة فيه. ويأتي يوم بدر، فيجدون الضربة على أنف الوليد. لقد قالها الحق على لسان رسوله في زمن ماض ويأتي بها الزمن المستقبل، وعندما تحدث هذه المسألة فالذين آمنوا بمحمد وبالقرآن الذي نزل على محمد يتأكدون من صدق رسول الله في كل شيء. ويأخذون الجزئية البسيطة ويرقونها فيصدقون ما يخبرهم به من أمر الدنيا والآخرة. ويقولون :
إذا أخبرنا رسول الله بغيب يحدث في الآخرة فهو الصادق الأمين، ويأخذون من أحداث الدنيا الواقعة ما يكون دليلا على صدق الأحداث في الآخرة.
ويذيل الحق الآية :" وكان الله عليما حكيما " أي عليما بالتقنينات فشرع التوبة لعلمه جل شأنه بأنه لو لم يشرع التوبة، لكان المذنب لمرة واحدة سببا في شقاء العالم ؛ لأنه حينئذ يكون يائسا من رحمة الله.
إذن فرحمة منه سبحانه بالعالم شرع الله التوبة. وهو حكيم فإياك أن يتبادر إلى ذهنك أن الحق قد حمى المجرم فحسب حين شرع له التوبة، إنه سبحانه قد حمى غير المجرم أيضا. وساعة نسمع الزمن في حق الحق سبحانه وتعالى كقوله :" كان " فلا نقول ذلك قياسا على زماننا نحن، أو على قدراتنا نحن، فكل ما هو متعلق بالحق علينا أن نأخذه في نطاق " ليس كمثله شيء ".
فقد يقول كافر :" إن علم الله كان " ويحاول أن يفهمها على أنه علم قد حدث ولا يمكن تكراره الآن، لا، فعلم الله كان ولا يزال ؛ لأن الله لا يتغير، ومادام الله لا يتغير، فالثابت له من قبل أزلا يثبت له أبدا. والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. ومادام قد قدر سبحانه وضع الشيء، فالشيء إنما جاء من علم، وحين يطابق الشيء موضعه فهذه هي مطلق الحكمة.
والحق يقول :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ١٧ ﴾ ( سورة النساء ).
لقد شرع الله سبحانه التوبة ليتوب عباده، فإذا تابوا قبل توبتهم، وهذا مبني على العلم الشامل والحكمة الدقيقة الراسخة. وانظروا إلى دقة العبارة في قوله :" إنما التوبة على الله "، فساعة يوجد فعل إيجابي يقال : على من، لكن عندما لا يأتي بفعل إيجابي لا يقال : على من، بل يقال : ليس بالنفي. إن الحق عندما قرر التوبة عليه سبحانه وأوجبها على نفسه، للذين يعملون السوء بجهالة ويتوبون فورا، إنه يدلنا أيضا على مقابل هؤلاء، فيقول :{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذ
٢ رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك..
إنك ترى أمثال هذا الإنسان في هؤلاء الذين يبالغون في إقامة مشروعات الخير، فهذه المشروعات تأتي من أناس أسرفوا على أنفسهم في ناحية لم يقدروا على أنفسهم فيها فيأتوا في نواحي خير كثيرة، ويزيدوا في فعل الخير رجاء أن يمحو الله سيئاتهم التي تركوها وأقلعوا عنها.
ومن ذلك نعلم أن أحدا لا يستطيع أن يمكر مع الله ؛ فالذي أخذ راحته في ناحية، يوضح له الله : أنا سآتي يتعبك من نواح أخرى لصالح منهجي، ويسلط الله عليه الوهم، ويتخيل ماذا ستفعل السيئة به، فيندفع إلى صنع الخير. وكأن الحق يثبت للمسئ : أنت استمتعت بناحية واحدة، ومنهجي وديني استفادا منك كثيرا، فأنت تبني المساجد والمدارس وتتصدق على الفقراء، كل هذا لأن عندك سيئة واحدة.
إذن فلا يمكن لأحد أن يمكر على الله، وعبر القرآن عن صاحب السيئة بوصف هذه الزلة بكلمة " السوء "، ولكنه وصف الشارد الموغل في الشرود عن منهج الله بأنه يفعل " السيئات "، فهو ليس صاحب نقطة ضعف واحدة، لكنه يقترف سيئات متعددة، ويمعن في الضلال، ولا يقتصر الأمر على هذا بل يؤجل التوبة إلى لحظة بلوغ الأجل، بل إنهم قد لا ينسبون الخير الصادر منهم إلى الدين مثلما يفعل الملا حدة، أو الجهلة الذين لا يعلمون بأن كل خير إنما يأمر به الدين.
مثال ذلك مذهب " الماسونية "، يقال : إن هذا المذهب وضعه اليهود، والظاهر في سلوك الماسونيين انهم يجتمعون لفعل خير ما يستفيد منه المجتمع، وما خفي من أفعال قمة أعضاء الماسونية أنهم يخدمون أغراض الصهيونية، وقد ينضم إليهم بعض ممن لا يعرفون أهداف الماسونية الفعلية ليشاركوا في عمل الخير الظاهر. ونقول لكل واحد من هؤلاء : انظر إلى دينك، تجده يحضك على فعل مثل هذا الخير، فلماذا تنسبه إلى الماسونية ولا تفعله على أنه أمر إسلامي. ولماذا لا تنسب هذا الخير إلى الإسلام وتنسبه لغير الإسلام ؟.
وفي هذا العصر هناك ما يسمى بأندية " الروتارى " ويأخذ الإنسان غرور الفخر بالانتماء إلى تلك الأندية، ويقول :" أنا عضو في الروتارى " وعندما تسأله : لماذا ؟ يجيب : إنها أندية تحض على التعاون والتواصل والمودة والرحمة، ونقول له : وهل الإسلام حرم ذلك ؟ لماذا تفعل مثل هذا الخير وتنسبه إلى " الروتارى "، ولا تفعل الخير وتنسبه إلى دينك الإسلام ؟ إذن فهذا عداء للمنهج.
ونجد الشاردين عن المنهج، مثلهم كمثل الرجل الذي قالوا له : ما تريد نفسك الآن ؟ وأراد الرجل أن يحاد الله فقال : تريد نفسي أن أفطر في يوم رمضان، وعلى كأس خمر، وأشترى كأس الخمر هذه بثمن خنزير مسروق.
إنه يريد فطر رمضان وهو محرم، ويفطر على خمر وهي محرمة، وبثمن خنزير والخنزير حرام على المسلم، والخنزير مسروق أيضا. وسألوه : ولماذا كل هذا التعقيد ؟ فقال : حتى تكون هذه الفعلة حراما أربع مرات.
إذن فهذه مضارة لله، وهذا رجل شارد عن المنهج. فهل هذا يتوب الله عليه ؟ لا، " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت " وعند لحظة الموت يبدأ الجبن وتتمثل أخلاق الأرانب، ولماذا لم يصر على موقفه للنهاية ؟ لأنه جاء إلى اللحظة التي لا يمكن أن يكذب فيها الإنسان على نفسه " حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن " لكن التوبة لا تقبل، ولن ينتفع بها المجتمع، وشر مثل هذا الإنسان انتهى، وتوبته تأتي وهو لا يقدر على أي عمل، إذن فهو يستهزئ بالله ؛ فلا تنفعه التوبة.
ولكن انظروا إلى رحمة الله واحترامه للشهادة الإيمانية التي يقر فيها المؤمن بأنه :" لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ".
هذا المؤمن جعله الله في مقابل الكافر، فيأخذ عذابا على قدر ما فعل من ذنوب، ويأتي احترام الحق سبحانه لإيمان القمة لقوله :" أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " فيوضح سبحانه : لن نجعلك كالكافر ؛ بدليل أنه عطف عليه " ولا الذين يموتون وهم كفار "، وإنما يقدر للمؤمن العاصي من العذاب على قدر ما ارتكب من معاص، ويحترم الحق إيمان القمة، فيدخلون الجنة ؛ لذلك لم يقل الحق : إنهم خالدون في النار. وإنما قال :" أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما " و " أولئك " تعني الصنفين المؤمن والكافر فالعذاب لكل واحد حسب ذنبه.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ١٩ ﴾.
وقلنا : ساعة ينادي الحق عباده الذين آمنوا به يقول سبحانه :" ياأيها الذين آمنوا "، فمعناها : يا من آمنتم بي بمحض اختياركم، وآمنتم بي إلها له كل صفات العلم والقدرة والحكمة والقيومية، ما دمتم قد آمنتم بهذا الإله اسمعوا من الإله الأحكام التي يطلبها منكم. إذن فهو لم يناد غير مؤمن وانما نادى من آمن باختياره وبترجيح عقله فالحق يقول :
﴿ لا إكراه في الدين ﴾ ( من الآية ١٥٦ سورة البقرة ).
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعالج قضية تتعلق بالنساء وباستضعافهم. لقد جاء الإسلام والنساء في الجاهلية في غبن وظلم وحيف عليهن. و سبحانه قال : " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " وكلمة " ورث " تدل على أن واحدا قد توفى وله وارث، وهناك شيء قد تركه الميت ولا يصح ان يرثه أحد بعده ؛ لأنه عندما يقول :" لا يحل لكم أن ترثوا "، فقد مات مورث ؛ ويخاطب وارثا. إذن فالكلام في الموروث، لكن الموروث مرة يكون حلا، ولذلك شرع الله تقسيمه، وتناولناه من قبل، لكن الكلام هنا في متروك لا يصح أن يكون موروثا، ما هو ؟.
قال سبحانه :" لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها "، وهل المقصود ألا يرث الوارث من مورثه إماء تركهن ؟ لا. إن الوارث يرث من مورثه الإماء اللاتي تركهن، ولكن عندما تنصرف كلمة " النساء " تكون لأشرف مواقعها أي للحرائر، لأن الأخريات تعتبر الواحدة منهن ملك يمين، " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها "، وهل فيه ميراث للنساء برضى ؟ وكيف تورث المرأة ؟.
ننتبه هنا إلى قوله سبحانه " كرها "، وكان الواقع في الجاهلية أن الرجل إذا مات وعنده امرأة جاء وليه، ويلقى ثوبه على امرأته فتصير ملكا له، وإن لم تقبل فإنه يرثها كرها، أو إن لم يكن له هوى فيها فهو يحبسها عنده حتى تموت ويرثها، أو يأتي واحد ويزوجها له ويأخذ مهرها لنفسه ؛ كأنه يتصرف فيها تصرف المالك ؛ لذلك جاء القول الفصل :
" لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن "، و " العضل " في الأصل هو المنع، ويقال :" عضلت المرأة بولدها "، ذلك أصل الاشتقاق بالضبط. فالمرأة ساعة تلد فمن فضل الله عليها أن لها عضلات تنقبض وتنبسط، تنبسط فيتسع مكان خروج الولد، وقد تعضل المرأة أثناء الولادة، فبدلا من أن تنبسط العضلات لتفسح للولد أن يخرج تنقبض، فتأتي هنا العمليات التي يقومون بها مثل القيصرية.
إذن فالعضل معناه مأخوذ من عضلت المرأة بولدها أي انقبضت عضلاتها ولم تنبسط حتى لا يخرج الوليد، وعضلت الدجاجة ببيضها أي أن البيضة عندما تكون في طريقها لتنزل فتنقبض العضلة فلا تنزل البيضة لأن اختلالا وظيفيا قد حدث نتيجة للحركة الناقصة، ولماذا تأتي الحركة ناقصة للبسط ؟ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الأسباب في الكون تعمل آليا وميكانيكيا بحيث إذا وجدت الأسباب يوجد المسبب، لا. ففوق الأسباب مسبب إن شاء قال للأسباب : قفي فتقف.
إذن فكل المخالفات التي نراها تتم على خلاف ما تؤديه الأسباب إنما هي دليل طلاقة القدرة، فلو كانت الأشياء تسير هكذا ميكانيكيا، فسوف يقول الناس : إن الميكانيكا دقيقة لا تتخلف. لكن الحق يلفتنا إلى أنه يزاول سلطانه في ملكه، فهو لم يزاول السلطان مرة واحدة، ثم خلق الميكانيكا في الكون والأسباب ثم تركها تتصرف، لا، هو يوضح لنا : أنا قيوم لا تأخذني سنة ولا نوم، أقول للأسباب اعملي أو لا تعملي، وبذلك نلتفت إلى أنه المسيطر.
وتجد هذه المخالفات في الشواذ في الكون، حتى لا تفتنا رتابة الأسباب، ولنذكر الله باستمرار، ويكون الإنسان على ذكر من واهب الأسباب ومن خالقها، فلا تتولد عندنا بلادة من أن الأسباب مستمرة دائما، ويلفتنا الحق إلى وجوده، فتختلف الأسباب لتلفتك إلى أنها ليست فاعلة بذاتها، بل هي فاعلة لأن الله خلقها وتركها تفعل، ولو شاء لعطلها.
قلنا هذا في معجزة إبراهيم عليه السلام، حيث ألقاه أهله في النار ولم يحرق، كان من الممكن أن ينجي الله إبراهيم بأي طريقة أخرى، ولكن هل المسألة نجاة إبراهيم ؟ إن كانت المسألة كذلك فما كان ليمكنهم منه، لكنه سبحانه مكنهم منه وأمسكوه ولم يفلت منهم، وكان من الممكن أن يأمر السماء فتمطر عندما ألقوه في النار، وكان المطر كفيلا بإطفاء النار، لكن لم تمطر السماء بل وتتأجج النار. وبعد ذلك يقول لها الحق :
﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ٦٩ ﴾ ( سورة إبراهيم ).
بالله أهذا غيظ لهم أم لا ؟ هذا غيظ لهم ؛ فقد قدرتم عليه وألقيتموه في النار، وبعد ذلك لم ينزل مطر ليطفئ النار، والنار موجودة وإبراهيم في النار، لكن النار لا تحرقه. هذه هي عظمة القدرة.
إذن فما معنى " تعضلوهن " ؟ العضل : أخذنا منه كلمة " المنع " ؛ فعضلت المرأة أي قبضت عضلاتها فلم ينزل الوليد، وأنت ستعضلها كيف ؟ بان تمنعها من حقها الطبيعي حين مات زوجها، وان من حقها بعد أن تقضي العدة أن تتزوج من تريد أو من يتقدم لها، وينهى الحق :" ولا تعضلوهن " أي لا تحبسوهن عندكم وتمنعوهن، لماذا تفعلون ذلك ؟ " لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " كان هذا حكم آخر، لا ترثوا النساء كرها هذا حكم، وأيضا لا تعضلوهن حكم ثان.
والمثال عندما يكون الرجل كارها لامرأته فيقول لها : والله لن أطلقك، أنا سأجعلك موقوفة ومعلقة لا أكون أنا لك زوجا ولا أمكنك أيضا من أن تتزوجي. وذلك حتى تفتدي نفسها فتبرئ الرجل من النفقة ومؤخر الصداق ؛ فيحمي الإسلام المرأة ويحرم مثل تلك الأفعال.
ولكن متى تعضلوهن ؟ هنا يقول الحق :" إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " لأنهم سيحبسونهن، وهذا قبل التشريع بالحد. وقال بعض الفقهاء : للزوج أن يأخذ من زوجته ما تفتدي به نفسها منه وذلك يكون بمال أو غيره إذا أتت بفاحشة من زنا أو سوء عشرة، وهذا ما يسمى بالخلع وهو الطلاق بمقابل يطلبه الزوج.
ويتابع الحق :" وعاشروهن بالمعروف " وكلمة " المعروف " أوسع دائرة من كلمة المودة ؛ فالمودة هي أنك تحسن لمن عندك ودادة له وترتاح نفسك لمواددته، أنك فرح به وبوجوده، لكن المعروف قد تبذله ولو لم تكره، وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة، عندما أراد المستشرقون أن يبحثوا في القرآن ليجدوا شيئا يدعون به أن في القرآن تعارضا فيقولون : قرآنكم يقول :
﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ٢٢ ﴾ ( سورة المجادلة ).
كيف لا يواد المؤمن ابنه أو أباه أو أحدا من عشيرته لمجرد كفره. والقرآن في موقع آخر منه يقول ؟.
﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة لقمان ).
ونقول : إن هؤلاء لم يفهموا الفرق بين المودة والمعروف. ف " الود " شيء و " المعروف " شيء آخر. الود يكون عن حب، لكن المعروف ليس ضروريا أن يكون عن حب، ساعة يكون جوعان سأعطيه ليأكل وألبى احتياجاته المادية. هذا هو المعروف، إنما الود هو أن أعمل لإرضاء نفسي. وساعة يعطف الرجل المؤمن على أبيه الكافر لا يعطف عليه نتيجة للود، إنما هو يعطف عليه نتيجة للمعروف ؛ لأنه حتى لو كان كافرا سيعطيه بالمعروف.
ألم يعاتب الحق سبحانه إبراهيم في ضيف جاء له فلم يكرمه لأنه سأله وعرف منه : أنه غير مؤمن لذلك لم يضيفه ؟ فقال له ربنا : أمن أجل ليلة تستقبله فيها تريد ان تغير دينه، بينما أنا أرزقه أربعين سنة وهو كافر ؟ فماذا فعل سيدنا إبراهيم ؟ جرى فلحق بالرجل. وناداه فقال له الرجل : ما الذي جعلها تتغير هذا التغيير المفاجئ فقال له إبراهيم :" والله إن ربي عاتبني لأني صنعت معك هذا. فقال له الرجل : أربك عاتبك وأنت رسول في و أنا كافر به، فنعم الرب رب يعاتب أحبابه في أعدائه، فأسلم.
هذا هو المعروف، الحق يأمرنا أننا يجب أن ننتبه إلى هذه المسائل في أثناء الحياة الزوجية، وهذه قضية يجب أن يتنبه لها المسلمون جميعا كي لا يخربوا البيوت. إنهم يريدون أن يبنوا البيوت على المودة والحب فلو لم تكن المودة والحب في البيت لخرب البيت، نقول لهم : لا. بل " عاشروهن بالمعروف " حتى لو لم تحبوهن، وقد يكون السبب الوحيد أنك تكره المرأة لأن شكلها لا يثير غرائزك، يا هذا أنت لم تفهم عن الله ؛ ليس المفروض في المرأة أن تثير غريزتك، لكن المفروض في المرأة أن تكون مصرفا، إن هاجت غريزتك كيماويا بطبيعتها وجدت لها مصرفا. فأنت لا تحتاج لواحدة تغريك لتحرك فيك الغريزة ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :" إذا رأى أحدكم امرأة حسناء فأعجبته فليأت أهله فإن البضع واحد ومعها مثل الذي معها " ١.
أي أن قطعة اللحم واحدة إن هاجت غريزتك بطبيعتها فأي مصرف يكفيك، ولذلك عندما جاء رجل لسيدنا عمر رضي الله عنه وقال : يا أمير المؤمنين أنا كاره لامرأتي وأريد أن أطلقها، قال له : أو لم تبن البيوت إلا على الحب، فأين القيم ؟.
لقد ظن الرجل أن امرأته ستظل طول عمرها خاطفة لقلبه، ويدخل كل يوم ليقبلها، فيلفته سيدنا عمر إلى أن هذه مسألة وجدت أولا وبعد ذلك تنبت في الأسرة أشياء تربط الرجل بالمرأة وتربط المرأة بالرجل.
لذلك يقول الحق :" وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا "، أنت كرهتها في زاوية وقد تكون الزاوية التي كرهتها فيها هي التي ستجعلها تحسن في عدة زوايا ؛ لكي تعوض بإحسانها في الزوايا الأخرى هذه الزاوية الناقصة، فلا تبن المسألة على أنك تريد امرأة عارضة أزياء لتثير غرائزك عندما تكون هادئا، لا. فالمرأة مصرف طبيعي إن هاجت غرائزك بطبيعتها وجدت لها مصرفا، أما أن ترى في المرأة أنها ملهبة للغرائز فمعنى ذلك أنك تريد من المرأة أن تكون غانية فقط. وأن تعيش معك من أجل العلاقة الجنسية فقط، لكن هناك مسائل أخرى كثيرة، فلا تأخذ من المرأة زاوية واحدة هي زاوية الانفعال الجنسي وخذ زوايا متعددة.
وأعلم أن الله وزع أسباب فضله على خلقه، هذه أعطاها جمالا، وهذه أعطاها عقلا، وهذه أعطاها حكمة، وهذه أعطاها أمانة، وهذه أعطاها وفاء، وهذه أعطاها فلاحا، هناك أسباب كثيرة جدا، فإن كنت تريد أن تكون منصفا حكيما فخذ كل الزوايا، أما أن تنظر للمرأة من زاوية واحدة فقط هي زاوية إهاجة الغريزة، هنا نقول لك : ليست هذه هي الزاوية التي تصلح لتقدير المرأة فقط. " فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ".
وانظر إلى الدقة في العبارة " فعسى أن تكرهوا " فأنت تكره ؛ وقد تكون محقا في الكراهية أو غير محق، إنما إن كرهت شيئا يقول لك الله عنه :" ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " فاطمئن إنك إن كرهت في المرأة شيئا لا يتعلق بدينها، فاعلم أنك إن صبرت عليه يجعل الله لك في بقية الزواي
.
﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ٢٠ ﴾.
فإذا ضاقت بك المسائل، بعد أن عاشرت بالمعروف ولم يعد ممكنا أن تستمر الحياة الزوجية في إطار يرضى عنه الله، وتخاف أن تنفلت من نفسك إلى ما حرم الله، ماذا تفعل ؟ يقول سبحانه :" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " أي لك أن تستبدل ما دامت المسألة ستصل إلى جرح منهج الله، وعليك في هذا الاستبدال أن ترعى المنهج الإيماني مثلما أشار به سيدنا الحسن رضي الله عنه على الرجل الذي كان يستشيره في واحد جاء ليخطب ابنته. قال سيدنا الحسن رضي الله عنه : إن جاءك الرجل الصالح فزوجه، فإنه إن أحب ابنتك أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
والحق يقول :" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " فهذا يعني أن الرغبة قد انصرفت عن الأولى نهائيا، ولا يمكن التغلب عليها بغير الانحراف عن المنهج. وقد يحدث أن يضيق الرجل بزوجته وهو لا يعاني من إلحاح في الناحية الغريزية، فيطلقها ولا يتزوج، فما شروط المنهج في هذا الأمر ؟.
يقول الحق :" وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ". كلمة " قنطار " وكلمة " قنطرة " مأخوذة من الشيء العظيم. وقنطار تعني " المال ". وقدروه قديما بأنه ملء مسك البقرة، و " المسك " هو الجلد، فعندما يتم سلخ البقرة يصبح جلدها مثل القربة، وملء مسكها يسمى قنطارا، والقنطار المعروف عندنا الآن له سمة وزنية، والحق حين يعظم المهر بقنطار يقول :" وآتيتم إحداهن قنطارا " فهو يأتي لنا بمثل كبير وينهانا بقوله :" فلا تأخذوا منه
شيئا ". لماذا ؟ لأنك يجب أن تفهم أن المهر الذي تدفعه ليس منساحا على زمن علاقتك بالمرأة إلى أن تنتهي حياتكما، بل المهر مجعول ثمنا للبضع الذي أباحه الله لك ولو للحظة واحدة، فلا تحسبها بمقدار ما مكثت معك، لا، إنما هو ثمن البضع، فقد كشفت نفسها لك وتمكنت منها ولو مرة واحدة.
إذن فهذا القنطار عمره ينتهي في اللحظة الأولى، لحظة تمكنك منها. " وآتيتم إحداهن قنطارا " وهذه هي المسألة التي قال فيها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أخطأ عمر وأصابت امرأة، لأنه كان يتكلم في غلاء المهور ؛ فقالت له المرأة : كيف تقول ذلك والله يقول : " وآتيتم إحداهن قنطارا "، فقال : أصابت امرأة وأخطأ عمر.
عن عمر رضي الله عنه أنه نهى وهو على المنبر عن زيادة صداق المرأة على أربعمائة درهم ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت : أما سمعت الله يقول :﴿ وآتيتم إحداهن قنطارا ﴾ ؟ فقال : اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال :" إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب " ١.
وعن عبد الله بن مصعب أن عمر رضي الله عنه قال :" لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من فضة، فمن زاد أوقية جعلت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة : ما ذاك لك، قال ولم ؟ فقالت : لأن الله تعالى يقول :" وآتيتم إحداهن قنطارا " فقال عمر :" امرأة أصابت ورجل أخطأ ".
ثم ينكر القرآن مجرد فكرة الأخذ فيقول :" أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا " لماذا ؟ لأنه ليس ثمن استمتاعك بها طويلا، بل هو ثمن تمكنك منها، وهذا يحدث أول ما دخلت عليها. وإن أخذت منها شيئا من المهر بعد ذلك فأنت آثم، إلا إذا رضيت بذلك، والإثم المبين هو الإثم المحيط.
.
﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ٢١ ﴾.
فلو أدركتم كل الكيفيات فلن تجدوا كيفية تبرز لكم الأخذ، لماذا ؟ لأن الحق قال :" وكيف تأخذونه " وانظر للتعليل :" وقد أفضى بعضكم إلى بعض ". إذن فثمن البضع هو الإفضاء، وكلمة " أفضى بعضكم إلى بعض " كلمة من اله ؛ لذلك تأخذ كل المعاني التي بين الرجل والمرأة، " و " أفضى " مأخوذة من " الفضاء " والفضاء هو المكان الواسع، و " أفضى بعضكم " يعني دخلتم مع بعض دخولا غير مضيق.
إذن فالإفضاء معناه : أنكم دخلتم معا أوسع مداخلة، وحسبك من قمة المداخلة أن عورتها التي تسترها عن أبيها وعن أخيها وحتى عن أمها وأختها تبينها لك، ولا يوجد إفضاء أكثر من هذا، ودخلت معها في الاتصال الواسع، أنفاسك، ملامستك، مباشرتك، معاشرتك، مدخلك، مخرجك، في حمامك، في المطبخ، في كل شيء حدثت إفضاءات، وأنت ما دمت قد أفضيت لها وهي قد أفضت لك كما قال الحق أيضا في المداخلة الشاملة :
﴿ هن لباس لكم أنتم لباس لهن ﴾ ( من الآية ١٨٧ سورة البقرة ).
أي شيء تريد أكثر من هذا ! ؟ ولذلك عندما تشتد امرأة على زوجها، قد يغضب، ونقول له : يكفيك أن الله أحل لك منها ما حرمه على غيرك، وأعطتك عرضها، فحين تشتد عليك لا تغضب، وتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " ١.
" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا " والميثاق هو : العهد يؤخذ بين اثنين، ساعة سألت وليها :" زوجني " فقال لك : زوجتك، ومفهوم أن كلمة الزواج هذه ستعطي أسرة جديدة، وكل ميثاق بين خلق وخلق في غير العرض هو ميثاق عادي، إلا الميثاق بين الرجل والمرأة التي يتزوجها ؛ فهذا هو الميثاق الغليظ، أي غير اللين، والله لم يصف به إلا ميثاق النبيين فوصفه بأنه غليظ٢، ووصف هذا الميثاق بأنه غليظ. ففي هذه الآية " أفضى بعضكم إلى بعض " فهنا إفضاء وفي آية أخرى يكون كل من الزوجين لباسا وسترا للآخر " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " لهذا كان الميثاق غليظا، وهذا الميثاق الغليظ يحتم عليك إن تعثرت العشرة أن تتحملها وتعاملها بالمعروف، وإن تعذرت وليس هناك فائدة من استدامتها فيصح أن تستبدلها، فإن كنت قد أعطيتها قنطارا إياك أن تأخذ منه شيئا، لماذا ؟ لأن ذلك هو ثمن الإفضاء، ومادام هذا القنطار هو ثمن الإفضاء وقد تم، فلا تأخذ منه شيئا، فالإفضاء ليس شائعا في الزمن كي توزعه، لا.
والحق يقول :" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا " هنا يجب أن نفهم أن الحق حين يشرع الحقوق، ولكنه لا يمنع الفضل، بدليل أنه قال :
﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾ ( من الآية ٤ سورة النساء ).
إذن ففيه فرق بين الحق وما طاب لكم، والأثر يحكى عن القاضي الذي قال لقومه : أنتم اخترتموني لأحكم في النزاع القائم بينكم فماذا تريدون مني ؟ ! أأحكم بالعدل أم بما هو خير من العدل ؟ فقالوا له : وهل يوجد خير من العدل ؟ قال : نعم، الفضل. فالعدل : أن كل واحد يأخذ حقه، والفضل : أن تتنازل عن حقك وهو يتنازل عن حقه، وتنتهي المسألة، إذن فالفضل أحسن من العدل، والحق سبحانه وتعالى حين يشرع الحقوق يضع الضمانات، ولكنه لا يمنع الفضل بين الناس :
فيقول جل شأنه :
﴿ ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾ ( من الآية ٢٣٧ سورة البقرة ).
ويقول الحق في آية الدين :
﴿ ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ﴾ ( من الآية ٢٨٢ سورة البقرة ).
ويأمركم الحق أن توثقوا الدين.. لأنكم لا تحمون مال الدائن فحسب بل تحمون المدين نفسه، لأنه حين يعلم أن الدين موثق عليه ومكتوب عليه فلن ينكره، لكن لو لم يكن مكتوبا فقد تحدثه نفسه أن ينكره، إذن فالحق يحمي الدائن والمدين من نفسه قال :" ولا تسأموا أن تكتبوه "، وقال بعدها :
﴿ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ﴾ ( من الآية ٢٨٣ سورة البقرة ).
فقد تقول لمن يستدين منك : لا داعي لكتابة إيصال وصك بيني وبينك، وهذه أريحية لا يمنعها الله فمادام قد أمن بعضكم بعضا فليستح كل منكم وليؤد الذي اؤتمن امانته وليتق الله ربه.
ومادام قد جعل للفضل مجالا مع تسجيل الحقوق فلا تنسوا ذلك. فما بالنا بالميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة.. وغلظ الميثاق إنما يتأتى بما يتطلبه الميثاق، ولا يوجد ميثاق أغلظ مما أخذه الله من النبيين ومما بين الرجل والمرأة ؛ لأنه تعرض لمسألة لا تباح من الزوجة لغير زوجها، ولا من الزوج لغير زوجته. إن على الرجل أن يوفي حق المرأة ولا يصح أن ينقصها شيئا إلا إذا تنازلت هي. فقد سبق أن قال الحق :
﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾ ( من الآية ٤ سورة النساء ).
وما دامت النفس قد طابت، إذن فالرضا بين الطرفين موجود، وذلك استطراق أنسي بين الرجل والمرأة. فالمهر حقها، ولكن لا يجب أن يقبض بالفعل، فهو في ذمة الزوج، إن شاء أعطاه كله أو أخره كله أو أعطى بعضه وأخر بعضه. ولكن حين تنفصل الزوجة بعد الدخول يكون لها الحق كاملا في مهرها، إن كان قد أخره كله فالواجب أن تأخذه، أو تأخذ الباقي لها إن كان قد دفع جزءا منه كمقدم صداق.
ولكن حين تنتقل ملكية المهر إلى الزوجة يفتح الله باب الرضا والتراضي بين الرجل والمرأة فقال :" فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " فهو هبة تخرج عن تراض. وذلك مما يؤكد دوام العشرة والألفة والمودة والرحمة بين الزوجين. وبعد ذلك يبقى حكم آخر. هب أن الخلاف استعر بين الرجل والمرأة.
حالة تكره هي وتحب أن تخرج منه لا جناح أن تفتدى منه نفسها ببعض المال لأنها كارهة، ومادامت هي كارهة، فسيضطر هو إلى أن يبني بزوجة جديدة، إذن فلا مانع أن تختلع المرأة منه بشيء تعطيه للزوج :
﴿ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ ( من الآية ٢٢٩ سورة البقرة ).
والحق سبحانه وتعالى أراد أن يعطينا الدليل على أن حق المرأة يجب أن يحفظ لها، ولذلك جاء بأسلوب تناول مسألة أخذ الزوج لبعض مهر الزوجة في أسلوب التعجب :
﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ٢١ ﴾ ( من الآية ٢١ سورة النساء ).
فكأن " وكيف تأخذونه " هذه دليل على أنه لا يوجد وجه من وجوه الحق يبيح لك أن تأخذ منها مهرها، فساعة يستفهم فيقول :" كيف " فهذا تعجيب من أن تحدث هذه، وقلنا : إن كل المواثيق بين اثنين لا تعطي حقوقا دون العرض، ولكن ميثاق الزواج يعطي حقوقا في العرض، ومن هنا جاء غلظ الميثاق، وكل عهد وميثاق بين اثنين قد ينصب إلى المال، وقد ينصب إلى الخدمة، وقد ينصب إلى أن تعقل عنه الدية، وقد ينصب إلى أنك تعطيه مثلا المعونة، هذه ألوان من المواثيق إلا مسألة العرض، فمسألة العرض عهد خاص بين الزوجين، ومن هنا جاء الميثاق الغليظ.
٢ الآية رقم ٧ من سورة الأحزاب..
﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ٢٢ ﴾.
فكأن هذه مسألة كانت موجودة، كان ينكح الولد زوج أبيه التي هي غير أمه. و " صفوان بن أمية " وهو من سادة قريش قد خلف أباه أمية بن خلف على " فاختة بنت الأسود بن المطلب " كانت تحت أبيه، فلما مات أبوه تزوجها هو، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعد هذه القضية من محيط الأسرة، لماذا ؟. لأن الأب والابن لهما من العلاقات كالمودة والرحمة والحنان والعطف من الأب، والبر والأدب، والاستكانة، وجناح الذل من الابن، فحين يتزوج الرجل امرأة وله ابن، فذلك دليل على أن الأب كان متزوجا أمه قبلها، وكأن الزيجة الجديدة طرأت على الأسرة.
وسبحانه يريد ألا يجعل العين من الولد تتطلع إلى المرأة التي تحت أبيه، وربما راقته، ربما أعجبته، فإذا ما راقته وأعجبته فأقل أنواع التفكير أن يقول بينه وبين نفسه : بعدما يموت أبي أتزوجها، فحين يوجد له الأمل في أنه بعدما يموت والده يتزوجها ؛ ربما يفرح بموت أبيه، هذا إن لم يكن يسعى في التخلص من أبيه، وأنتم تعلمون سعار الغرائز حين تأتي، فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على الولد أمل الالتقاء ولو بالرجاء والتمني، وأنه يجب عليه أن ينظر إلى الجارية أو الزوجة التي تحت أبيه نظرته إلى أمه، حين ينظر إليها هذه النظرة تمتنع نزعات الشيطان.
فيقول الحق : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " والنكاح هنا يطلق فينصرف إلى الوطء والدخول، وقد ينصرف إلى العقد، إلا أن انصرافه إلى الوطء والدخول أي العملية الجنسية هو الشائع والأولى، لأن الله حينما يقول :" الزاني لا ينكح إلا زانية " معناها أنه ينكح دون عقد وأن تتم العملية الجنسية دون زواج.
والحق هنا يقول : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " فما هو السلف هذا ؟ إن ما سلف كان موجودا، أي جاء الإسلام فوجد ذلك الأمر متبعا، وجاء الإسلام بتحريم مثل هذا الأمر. فالزمن الجديد بعد الإسلام لا يحل أن يحدث فيه ذلك وإن كان عقد النكاح قد حدث قبل الإسلام، ولذلك قال سبحانه :" إلا ما قد سلف " فجاء ب( ما ) وهي راجعة للزمن. كأن الزمن الجديد لا يوجد فيه هذا.
هب أن واحدا قد تزوج بامرأة أبيه ثم جاء الحكم.. أيقول سلف أن تزوجتها قبل الحكم ! نقول : لا الزمن انتهى، إذن فقوله :" ما قد سلف " يعني الزمن، ومادام الزمن انتهى يكون الزمن الجديد ليس فيه شيء من مثل تلك الأمور. لذا جاءت ( ما ) ولو جاءت ( من ) بدل ( ما ) لكان الحكم أن ما نكحت قبل الإسلام تبقى معه، لكنه قال( إلا ما قد سلف ) فلا يصح في المستقبل أن يوجد منه شيء البتة ويجب التفريق بين الزوجين فيما كان قائما من هذا الزواج.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه حين يشرع فهو يشرع ما تقتضيه الفطرة السليمة. فلم يقل : إنكم إن فعلتم ذلك يكون فاحشة، بل إنه برغم وجوده من قديم كان فاحشة وكان فعلا قبيحا " إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " وما كان يصح بالفطرة أن تكون هذه المسألة على تلك الصورة، إلا أن الناس عندما فسدت فطرتهم لجأوا إلى أن يتزوج الرجل امرأة أبيه، ولذلك إذا استقرأت التاريخ القديم وجدت أن كل رجل تزوج من أمراة أبيه كان يسمى عندهم نكاح " المقت " والولد الذي ينشأ يسمونه " المقتى " أي المكروه.
إذن فقوله :" إنه كان " أي قبل أن أحكم أنا هذا الحكم " كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ". فالله يوضح : إنني أشرع لكم ما تقتضيه الفطرة. والفطرة قد تنطمس في بعض الأمور، وقد لا تنطمس في البعض الآخر لأن بعض الأمور فاقعة وظاهرة والتحريم فيها يتم بالفطرة.
مثال ذلك : أن واحدا ما تزوج أمه قبل ذلك، أو تزوج ابنته، أو تزوج أخته. إذن ففيه أشياء حتى في الجاهلية ما اجترأ أحد عليها. إذن جاء بالحكم الذي يحرم ما اجترأت عليه الجاهلية وتجاوزت وتخطت فيه الفطرة، فقال سبحانه :" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " أي مضى.
لقد وصف سبحانه نجاح الأبناء لزوجات آبائهم بأنه " كان فاحشة " أي قبحا، و " مقتا " أي مكروها، " وساء سبيلا " أي في بناء الأسرة.
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ٢٣ ﴾.
من الذي يحلل ويحرم ؟ إنه الله، فهم رغم جاهليتهم وغفلتهم عن الدين حرموا زواج المحارم ؛ فحتى الذي لم يتدين بدين الإسلام توجد عنده محرمات لا يقربها. أي أنهم قد حرموا الأم والبنت والأخت... الخ، من أين جاءتهم هذه ؟ الحق يوضح :
﴿ وإن من امة خلا فيها نذير ﴾ ( من الآية ٢٤ سورة فاطر ).
ومنهج السماء أنزله الله من قديم بدليل قوله :
﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ١٢٣ ﴾ ( سورة طه ).
فبمجرد أن خلق الله آدم وخلق زوجته، وأنزل لهما المنهج، هذا المنهج مستوفي الأركان، إذن فبقاء الأشياء التي جاء الإسلام فوجدها على الحكم الذي يريده الإسلام إنما نشأ من رواسب الديانات القديمة، وإن أخذ محل العادة ومحل الفطرة.. أي أن الناس اعتادوه وفطروا عليه ولم يخطر ببالهم أن الله شرعه في ديانات سابقة.
والعلوم الحديثة أعانتنا في فهم كثير من أحكام الله، لأنهم وجدوا أن كل تكاثر سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان أيضا، كلما ابتعد النوعان " الذكورة والأنوثة " فالنسل يجئ قويا في الصفات. أما إذا كان الزوج و الزوجة أو الذكر والأنثى من أي شيء : في النبات، في الحيوان، في الإنسان قريبين من اتصال البنية الدموية والجنسية فالنسل ينشأ ضعيفا، ولذلك يقولون في الزراعة والحيوان :" نهجن " أي نأتي للأنوثة بذكورة من بعيد. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا :
( اغتربوا ولا تضووا ) وقال :" لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا " ١.
فالرسول يأمرنا حين نريد الزواج ألا نأخذ الأقارب، بل علينا الابتعاد، لأننا إن أخذنا الأقارب فالنسل يجيء هزيلا. وبالاستقراء وجد أن العائلات التي جعلت من سنتها في الحياة ألا تنكح إلا منها، فبعد فترة ينشأ فيها ضعف عقلي ؛ أو ضعف جنسي ؛ أو ضعف مناعي، فقول رسول الله :" اغتربوا لا تضووا " أي إن أردتم لزواج فلا تأخذوا من الأقارب، لأنكم إن أخذتم من الأقارب تهزلوا، فإن " ضوى " بمعنى " هزل " فإن أردتم ألا تضووا، أي ألا تهزلوا فابتعدوا، وقبلما يقول النبي هذا الكلام وجد بالاستقراء في البيئة الجاهلية هذا. ولذلك يقول الشاعر الجاهلي :
أنصح من كان بعيد الهم
تزويج أبناء بنات العم
فليس ينجو من ضوى وسقم
فقد يضوى سليل الأقارب، وعندنا في الأحياء الشعبية عندما يمدحون واحدا يقولون :" فتوة " أي فتى لم تلده بنت عم قريبة. وفي النبات يقولون : إن كنت تزرع ذرة في محافظة الغربية لا بد أن تأتي بالتقاوى من محافظة الشرقية مثلا، وكذلك في البطيخ الشيليان. يأتون ببذوره من أمريكا ؛ فيزرعونها فيخرج البطيخ جميلا لذيذا، بعض الناس قد يرفض شراء مثل تلك البذور لغلو ثمنها. فيأخذ من بذور ما زرع ويجعل منه التقاوي، ويخرج المحصول ضعيفا. لكن لو ظل يأتي به من الخارج وإن وصل ثمن الكيلو مبلغا كبيرا فهويأخذ محصولا طبيا.
وكذلك في الحيوانات وكذلك فينا ؛ ولذلك كان العربي يقول : ما دك رءوس الأبطال كابن الأعجمية ؛ لأنه جاء من جنس آخر. أي أن هذا الرجل البطل أخذ الخصائص الكاملة في جنس آخر. فلقاح الخصائص الكاملة بالخصائص الكاملة يعطي الخصائص الأكمل، إذن فتحريم الحق سبحانه وتعالى زواج الأم والأخت وكافة المحارم وإن كانت عملية أدبية إلا أنها أيضا عملية عضوية. " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " لماذا ؟ لأن هذه الصلة صلة أصل، والصلة الأخرى صلة فرع، الأمهات صلة الأصل، والبنات صلة الفرع ؟، " وأخواتكم " وهي صلة الأخ بأخته إنها بنوة من والد واحد، " وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ".
إذن فالمسألة مشتبكة في القرابة القريبة. والله يريد قوة النسل، قوة الإنجاب، ويريد أمرا آخر هو : أن العلاقة الزوجية دائما عرضة للأغيار النفسية، فالرجل يتزوج المرأة وبعد ذلك تأتي أغيار نفسية ويحدث بينهما خلاف مثلما قلنا في قوله تعالى :" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " ؛ ويكره منها كذا وكذا، فكيف تكون العلاقة بين الأم وابنها إذا ما حدث شيء من هذا ؟ ! والمفروض أن لها صلة تحتم عليه أن يظل على وفاء لها، وكذلك الأمر بالنسبة للبنت، أو الأخت، أو العمة، أو الخالة، فيأمر الحق الرجل : ابتعد بهذه المسألة عن مجال الشقاق.
ومن حسن العقل وبعد النظر ألا ندخل المقابلات في الزواج، أو ما يسمى " بزواج البدل "، حيث يتبادل رجلان الزواج، يتزوج كل منهما أخت الآخر مثلا، فإذا حدث الخلاف في شيء حدث ضرورة في مقابله وإن كان الوفاق سائدا. فحسن الفطنة يقول لك : إياك أن تزوج أختك لواحد لأنك ستأخذ أخته، فقد تتفق زوجة مع زوجها، لكن أخته قد لا تتوافق مع زوجها الذي هو شقيق للأخرى. وتصوروا ماذا يكون إحساس الأم حين ترى الغريبة مرتاحة عند ابنها لكن ابنتها تعاني ولا تجد الراحة في بيت زوجها. ماذا يكون الموقف ؟ نكون قد وسعنا دائرة الشقاق والنفاق عند من لا يصح أن يوجد فيه شقاق ولا نفاق.
والحكمة الإلهية ليست في مسألة واحدة، بل الحكمة الإلهية شاملة، تأخذ كل هذه المسائل، " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم " والمحرم هنا بطبيعة الحال هن الأمهات وإن علون، فالتحريم يشمل الجدة سواء كانت جدة من جهة الأب، أو جدة من جهة الأم. وما ينشأ منها. وكل واحدة تكون زوجة لرجل فأمها محرمة عليه، " وبناتكم " وبنات الابن وكل ما ينشأ منها، وكذلك بنات البنت، " وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ".
ولماذا يحرم الحق " أمهاتكم اللاتي أرضعنكم " ؟ لأنها بالإرضاع أسهمت في تكوين خلايا فيمن أرضعته ؟ ففيه بضعة منها، ولهذه البضعة حرمة الأمومة، ولذلك قال العلماء : يحرم زواج الرجل بامرأة جمعه معها رضاعة يغلب على الظن أنها تنشئ خلايا، وحلل البعض زواج من رضع الرجل منها مصة أو مصتين مثلا، إلا أن أبا حنيفة رأى تحريم أي امرأة رضع منها الرجل، وأفتى المحققون وقالوا : لا تحرم المرأة إلا أن تكون قد أرضعت الرجل، أو رضع الرجل معها خمس رضعات مشبعات، أو يرضع من المرأة يوما وليلة ويكتفي بها، وأن يكون ذلك في مدة الرضاع. وهي بنص القرآن سنتان. " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ".
وهذه المسألة حدث الكلام فيها بين سيدنا الإمام علي رضوان الله عليه وكرم الله وجهه وسيدنا عثمان رضي الله عنه حينما جاءوا بامرأة ولدت لستة شهور وكان الحمل الشائع يمكث تسعة أشهر، وأحيانا نادرة يولد الطفل بعد سبعة أشهر، لكن أن تلد امرأة بعد ستة شهور فهذا أمر غير متوقع.. ولذلك أراد عثمان رضي الله عنه أن يقيم الحد عليها ؛ لأنها مادام ولدت لستة أشهر تكون خاطئة، لكن سيدنا علي رضوان الله عليه وكرم الله وجهه أدرك المسألة.
قال : يا أمير المؤمنين، لماذا تقيم عليها الحد ؟ فقال عثمان بن عفان : لأنها ولدت لستة أشهر وهذا لا يكون. وأجرى الله فتوحاته على سيدنا علي، وأجرى النصوص على خياله ساعة الفتيا، وهذا هو الفتح، فقد يوجد النص في القرآن لكن النفس لا تنتبه له، وقد تكون المسألة ليست من نص واحد. بل من اجتماع نصين أو أكثر، ومن الذي يأتي في خاطره ساعة الفتيا أن يطوف بكتاب الله ويأتي بالنص الذي يسعفه ويساعده على الفتيا، إنه الإمام علي، وقال لسيدنا عثمان : الله يقول غير ذلك، قال له : وماذا قال الله في هذا ؟ قال :
﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾ ( من الآية ٢٣٣ سورة البقرة ).
إذن فإتمام الرضاعة يكون في حولين كاملين أي في أربعة وعشرين شهرا، والتاريخ محسوب بالتوقيت العربي والحق سبحانه قال أيضا :
﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
فإذا كان مجموع أشهر الحمل والرضاع، ثلاثين شهرا، والرضاع التام أربعة وعشرون شهرا، إذن فمدة الحمل تساوي ستة أشهر.
هكذا استنبط سيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه والإنسان قد يعرف آية وتغيب عنه آيات، والله لم يختص زمنا معينا بحسن الفتيا وحرم الأزمنة الأخرى، وإنما فيوضات الله تكون لكل الأزمان، فقد يقول قائل : لا يوجد في المسلمين من يصل بعمله إلى مرتبة الصحابة، ومن يقول ذلك ينسى ما قاله الحق في سورة الواقعة :
﴿ والسابقون السابقون ١٠ أولئك المقربون ١١ في جنات النعيم ١٢ ثلة من الأولين ١٣ وقليل من الآخرين ١٤ ﴾ ( سورة الواقعة ).
أي أن الآخرين أيضا لن يحرموا من أن يكون فيهم مقربون قادرون على استيعاب النصوص لاستنباط الحكم، إذن فالرضاع : مصة أو مصتان ؛ هذا مذهب، وعشر رضعات مذهب آخر، وخمس رضعات مشبعات مذهب ثالث، وأخذ جمهور الفقهاء بالمتوسط وهو خمس رضعات مشبعات تحرمن الزواج، لكن بشرط أن تكون في مدة الرضاع، فلو رضع في غير مدة الرضاعة، نقول : إنه استغنى بالأكل وأصبح الأكل هو الذي يعطيه مقويات البنية.
إذن فمسألة الرضاع متشعبة ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال :" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ٢.
والمحرم من الرضاع هو : الأم من الرضاع، والبنت من الرضاع، والأخت من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، وهكذا نرى أنها عملية متشعبة تحتاج من كل أسرة إلى اليقظة، لأننا حين نرى أن بركة الله لا تحوم حول كثير من البيوت لا بد أن ندرك لها أسبابا، أسباب البعد عن استقبال البركة من الله.. فالإرسال الإلهي مستمر، ونحن نريد أجهزة استقبال حساسة تحسن الاستقبال، فإذا كانت أجهزة الاستقبال خربة، والإرسال مستمرا فلن يستفيد أحد من الإرسال، وهب أن محطة الإذاعة تذيع، لكن المذياع خرب، فكيف يصل الإرسال للناس ؟.
إذن فمدد الله وبركات الله المتنزلة موجودة دائما.. ويوجد أناس لا يأخذون هذه البركات ؛ لأن أجهزة استقبالها ليست سليمة، وأول جهاز لاستقبال البركة أن البيت يبنى على حل في كل شيء.. يعني : لقاء الزوج والزوجة على حل، وكثير من الناس يدخلون في الحرمة وإن لم يكن بقصد، وهذا ناشئ من الهوس والاختلاط والفوضى في شأن الرضاعة، والناس يرضعون أبناءهم هكذا دون ضابط وليس الحكم في بالهم. وبعد ذلك نقول لهم : يا قوم أنتم احتطتم لأولادكم فيما يؤدى إلى سلامة بنيتهم، فكان لكل ولد ملف فيه : شهادة الميلاد، وفيه ميعاد تلقى التطعيمات ضد الدفتر يا، وشلل الأطفال وغير ذلك.
فلماذا يا أسرة الإسلام ل
.
٢ رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عائشة.
.
وقول الحق :﴿ والمحصنات من النساء ﴾ هو قول معطوف على ما جاء في الآية السابقة من المحرمات، أي سيضم إلى المحرمات السابقات المحصنات من النساء، ومن هن المحصنات من النساء ؟ الأصل في الاشتقاق عادة يوجد معنى مشتركا. فهذه مأخوذة من " الحصن "، وهو مكان يتحصن فيه القوم من عدوهم، فإذا تحصنوا فيه امتنعوا على عدوهم.. أما إذا لم يكونوا محصنين فهم عرضة أن يغير عليهم عدوهم ويأخذهم، هذا هو أصل الحصن، والاشتقاقات التي أخذت من هذه كثيرة : منها ما جاء في قوله تعالى :
﴿ ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها ﴾ ( من الآية ١٢ سورة التحريم ).
و﴿ أحصنت فرجها ﴾ يعني أنها عفت ومنعت أي إنسان أن يقترب منها، وهنا قوله :﴿ والمحصنات ﴾ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، المقصود بها المتزوجات، فمادامت المرأة متزوجة، فيكون بضعها مشغولا بالغير، فيمتنع أن يأخذه أحد، وهي تمتنع عن أي طارئ جديد يفد على عقدها مع زوجها. هذا معنى " المحصنات من النساء "، فالمحصنات هنا هن العفيفات بالزواج، والحق يقول :
﴿ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ ( من الآية ٢٥ سورة النساء ).
فمادامت الإماء قد أحصن بالزواج، هل يكن من المحصنات كالحرائر ؟ لا، فهذه غير تلك، فهن لا يدخلن في المحصنات من الحرائر، وإلا لو دخلن في المحصنات يكون الحكم واحدا، فهو سبحانه يقول :﴿ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾، وأصل الإحصان وهو العفة.. توصف به الحرة ؛ لأن الحرة عادة لا يقربها أحد. وهذه امرأة أبي سفيان في بيعة النساء قالت : وهل تزني الحرة ؟ كان الزنا كان خاصا بالإماء ؛ لأنهن المهينات. وليس لهن أب أو أم أو عرض، قد يجترئ عليها أي واحد، وليس لها شوكة ولا أهل، ولذلك جاء عقابها نصف عقاب الحرة ؛ لأن الأمة يحوم حولها من الناس من تسول له نفسه فعل الفاحشة.
إذن فالإحصان يطلق ويراد به العفة، ويطلق الإحصان ويراد به أن تكون حرة، ويطلق الإحصان ويقصد به أن تكون متزوجة، وتطلق المحصنات على الحرائر. فالوضع العام للحرة هو الذي يجعل لها أهلا ولا يجترئ عليها أحد، لكن هب أن امرأة متزوجة ثم حدث خلاف أو حرب بين قومها وبين المؤمنين وصارت أسيرة لدى المسلمين مع أنها متزوجة بطريقتهم في بلادها، وهي بالأسر قد انتقلت من هذا الزواج وجاءت في البيئة الإسلامية وصارت مملوكة، ومملوكيتها وأسرها أسقطت عنها الإحصان، فقال :﴿ إلا ما ملكت أيمانكم ﴾. إذن فهي بملك اليمين يسقط عنها الإحصان، وللمسلم أن يتزوجها أو أن يستمتع بها إذا دخلت في ملكه وإن كانت متزوجة لأن هناك اختلافا في الدارين، هي في دار الإسلام، وخرجت من دار حرب فصارت ملك يمين، ولا يكون هذا إلا بعد استبرائها والاستيثاق من خلو رحمها من جنين يكون قد جاءت به من قومها لقوله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس :" لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض " وهذا تكريم لها لأنها عندما بعدت عن زوجها وصارت مملوكة ملك يمين فلم يرد الحق أن يعضلها بل جعلها تتمتع بسيدها وتعيش في كنفه كي لا تكون محرومة من التواصل العاطفي والجسدي، بدلا من أن يلغ سيدها في أعراض الناس.
﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ﴾ و﴿ كتاب الله ﴾ يعني : كتب الله ذلك كتابا عليكم، وهو أمر مسجل موثق، وكما هو كتاب عليكم فهو لكم أيضا، ويقول الحق :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾. إذن فالمحرمات هن : محرمات نسب ؟، ومحرمات رضاع، ومحرمات إحصان بزواج.
﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾ أي أحل لكم أن تتزوجوهن، ولذلك قال :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا ﴾ أي تطلبوا ﴿ بأموالكم محصنين ﴾ والمال نعلم أنه ثمرة الحركة. والحركة تقتضي التعب والمشقة، وكل إنسان يحب ثمرة عمله، وقد يدافع عنها إلى أن يموت دون ماله ؛ لأن المال ما جاء إلا ثمرة جد، وحتى إذا ما جاء المال عن ميراث ؛ فالذي ورثك أيضا ما ورثك إلا نتيجة كد وتعب، وعرفنا أن الذي يتعب مدة من الزمن تساوي عشر سنوات قد يرزقه الله ما يكفيه أن يعيش بعدها مرتاحا، والذي يتعب عشرين سنة قد يرزقه الله ما يكفيه أن يعيش ولده مرتاحا، والذي يتعب ثلاثين سنة يعيش حفيده مرتاحا.
إذن فكل ما تراه من مال موروث كان نتيجة جد وكد ومشقة من الآباء، وإذا ما قال الحق :﴿ أن تبتغوا بأموالكم ﴾ دل على أن مقابل البضع يكون من جهة الرجل.. ﴿ وأن تبتغوا بأموالكم ﴾ التي قال عنها سيدنا رسول الله :( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )١.
ومادام المال عزيزا على الإنسان وأخذه من طريق الحركة وطريق الجد وطريق العرق فيجب ألا ينفعه إلا فيما يعود عليه بالخير العاجل ولا ينسى الخير الآجل، فإن هو حقق به خيرا عاجلا ثم سها وغفل عن شر آجل فهو لم يضع المال في موضعه. ﴿ أن تبتغوا بأموالكم محصنين ﴾ و﴿ محصنين ﴾ كما عرفنا لها معان متعدد.. ﴿ محصنين ﴾ أي متعففين أن تلغوا وتقعوا في أعراض الناس. بأموالكم، أي ضع مالك الذي كسبته بكد فيما يعود عليك بالخير العاجل والآجل، فلا تلغوا به في أعراض الناس ؛ لأنه من الممكن أن يبتغي إنسان لقاء امرأة بأمواله لكنه غير محصن، ونقول له : أنت حققت لذة ونفعا عاجلا ولكنك ذهلت عن شر آجل، يقول فيها ربنا :﴿ محصنين غير مسافحين ﴾ ومنه أخذ السفاح.
فإياك أن تدفع أموالك لكي تأخذ واحدة تقضي معها وطرا. فكلمة " محصنين " تعني التزام العفة، وشرح الحق كلمة محصنين بمقابلها وهو : مسافحين ؟، من السفح وهو : الصب، والصب هطول ونزول الماء بقوة، فالماء قد ينزل نقطة نقطة، إنما السفح صب، ولذلك سمى سفح الجبل بذلك لأن الماء ينزل من كل الجبل مصبوبا.
هنا يلاحظ أن الحق حين يتكلم عن الرجال يقول :" محصنين " بكسر الصاد، وحين يتكلم عن النساء يقول : ّمحصنات " بالفتحة. لم يقل " محصنات " بالكسرة، لأن العادة أن الذكورة هي الطالبة دائما للأنوثة، والأنوثة مطلوبة دائما.
﴿ غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ﴾ والاستمتاع هو إدراك متعة للنفس، والمتعة توجد أولا في الخطبة، فساعة يخطب رجل امرأة فهذا استمتاع، وساعة يعقد عليها وساعة تزف له، هذه كلها مقدمات طويلة في الاستمتاع، لكن الاستمتاع ليس هو الغرض فقط، يقول لك : إذا استمتعت بهن فلا بد أن تعطيهن مهورهن، ولذلك إذا تزوج رجل بامرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها نقول له : ادفع نصف المهر ؛ لأنك أخذت نصف المتعة، فلو أن المتعة هي العملية الجنسية فقط لم يكن قد أخذ شيئا وبالتالي فلا شيء عليه من المهر، لكن نقول : إن المتعة في أنه تقدم إلى بنت فلان وخطب وعقد، كل هذه مقدمات متعة، فعندما يكون ذلك فإنه يكون قد استمتع بعض الشيء.
الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نبني حياة الأسرة على طهر، وعلى أمن ملكات فأنت تجد الرجل حين يكون بين أهله لا يجد غضاضة في أن يغلق عليها الباب، لكن تصور وجوده مع امرأة دون زواج، فالملكات النفسية تتصارع فيه، ويتربص، ويمكننا أن ننظر رجفته إذا سمع أي شيء، لأن ملكاته ليست منسجمة، هو سيمتع ملكة واحدة. لكن الملكات النفسية الباقية ملكات مفزعة، مما يدل على أن ما يفعله ليس أمرا طبيعيا، ومادام ليس أمرا طبيعيا فالملكات النفسية تناقضه، الحق سبحانه وتعالى يريد أن تبنى الأسرة على طهر وعلى أمن، وهذا الأمن النفسي يعطي لكل ملكات النفس متعة.
وقلنا من قبل إن الإنسان إذا كان له بنت ثم رأى شابا يمر كثيرا على البنت ويلتفت كثيرا إلى الشرفة، ثم يقع بصر والد البنت عليه، ماذا يكون موقفه ؟ تهيج كل جوارحه، فإذا ما جاء الولد أو أبوه وطرق الباب وقال : يا فلان أنا أريد أن أخطب ابنتك لنفسي، أو أريد ابنتك لابني. ماذا يكون موقف والد الفتاة ؟ إنه السرور والانشراح وتصبح الملكات راضية والنفس مطمئنة، ويتم إعلان البهجة وهو الذي يدعو الناس ويقيم فرحا ؛ لأن الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى حينما شرع الالتقاء، أعطى في النفس البشرية وفي ذراتها رضا بهذا الحكم بالالتقاء.
ولذلك روي :" جدع الحلال أنف الغيرة ".
أي أن من يغار على ابنته هو الذي يوجه الدعوات لزواجها، فكأن الغيرة فيها حمية، وإن طلب عرض عن غير طريق خالق الأعراض فلا بد أن تهيج النفس، فإن طلبها على وفق ما شرع خالق الأعراض تطمئن النفس. وهذه عملية قد يكون من الصعب تصورها، فما الذي يسبب الرضا، ومن الذي يدفع في القلب الحمية والغضب والثورة ؟ إنه سبحانه هو الذي يفعل ذلك.
والإنسان عليه أن يلتفت إلى كلا منا مكون من ملكات متعددة، فعقد الزواج وقول :" زوجني " و " زوجتك " وحضور الشهود، ماذا يعمل في ذرات تكوين النفس لكي تسر ؟ إنها إرادة الحق. وهذا شيء معروف، وأنت حين يكون لك إنسان تعرفه فقط، والإلف السيال بينك وبينه مازال في أوله، يكفي عندما تقابله أن تلقى عليه السلام وينتهي الأمر، لكن هناك إنسان آخر لا يكفي هذا السيال الودي بينك وبينه، بل لا بد أن تسلم عليه بيدك ؛ لأن هناك جاذبية ومودة ولكل منهما تأثير.
إذن فعملية الود والولاء أمر يصنع تغييرا كيماويا في النفس، ويكون التنافر إذا ما جاء اللقاء عن طريق ما حرم الله، والذي يأتي عن طريق ما شرع الله يحقق التجاذب. والشاعر عندما خاطب من يحبه قال :
بأبي من وددته فافترقنا
وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
وتمنيته فلما التقينا
كان تسليمه على وداعا
كأن الشاعر يريد تطويل أمد التسليم ومسافة كي يغذي ما عنده من الود، وكأنه يريد أن يقول : أنا التقيت مع من أوده فاختفى في اختفيت فيه، وهذا ناشئ من الامتزاج.
إذن فالتكوين العاطفي أو السيال أوجده الله كسيال التقاء. هذا إذا ما كان على شرع الله، أما في الحالة الأخرى فهو سيال كراهية. وما الذي يسبب ذلك ؟ إنه عطاء من الله وهو خالق الرجل وخالق المرأة، فساعة يجيء اللقاء على وفق ما شرع الله فلا تستبعد أن يعدل الخالق الذرات، فعندما يحدث الامتزاج فلا بد أن الوفاء يأتي كنتيجة طبيعية وكذلك الولاء، ويتحقق الانسجام هذا إيجاب، أما إذا كان اللقاء على غير طريق الله فلا انسجام فيه وهذا سلب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يبني الأسرة على هذا المعنى. وأنتم تعلمون أن الالتقاءات التي تحدث عن غير طريق الله إنما تحدث في الخفاء، ومنكورة الثمرة، فإن جاء منها أثر وحمل فسيلقى الوليد في الشارع ويكون لقيطا وقد يميتونه، إنما الثمرة التي تأتي بالحل فالكل يفرح بها.
فالحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ﴾ والاستمتاع أشياء كثيرة، وجاء الشيعة في قوله :﴿ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ﴾. وقالوا : هذا نكاح المتعة بدليل أن
والاستطاعة تعني أن يدخل الشيء في طاعتي فلا يعصي ولا يتأبى على، وافرض أنني أمسكت قطعة حديد ولويتها، هنا تكون قطعة الحديد قد دخلت في طوعي، ومثال ذلك : ابنا آدم، حين قدم كل منهما قربانا لله فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فالذي لم يتقبل الله منه القربان قال :
﴿ لأقتلنك ﴾ ( من الآية ٢٧ سورة المائدة ).
فماذا كان رد الذي تلقى التهديد ؟ قال :
﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين٢٨ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ٢٩ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ٣٠ ﴾ ( سورة المائدة ).
ما معنى " طوعت له " ؟ طوعت يعني : جعلته في استطاعة، وعندما نمعن النظر في " فطوعت له نفسه " نجد أن " الهاء " تشير إليه هو، وذلك يدل على أن الإنسان فيه ملكات متعددة ؛ ملكة تقول : اقتله، وملكة أخرى تقول له : لا تقتله. ضميره يقول له : لا تفعل، والنفس الأمارة بالسوء تقول له : اقتل، ويكون هو مترددا بين الأمرين.
وقوله الحق :﴿ فطوعت له ﴾ دليل على أن نفسه كانت متأبية عليه، لكن النفس الأمارة بالسوء ظلت وراءه بالإلحاح حتى أن نفسه الفاعلة طوعت له أن يقتل أخاه، ومع أن نفسه طوعت له أن يقتل أخاه إلا أنه أصبح بعد ذلك من النادمين، وبعدما أخذ شهوته من القتل ندم، ويأتي هذا الندم على لسانه :
﴿ يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ﴾ ( من الآية ٣١ سورة المائدة ).
أنت الذي قتلته، لكنك أصبحت من النادمين. لماذا ؟ لأن ملكات الخير دائما تصعد عمل الخير وتحبط عمل الشر. والإنسان قد يبدأ شريرا، وإن كانت ملكاته ملكات خير غالبة، فهو ينزل من هذا الشر العالي ويخففه، وإن كانت ملكات الشر غالبة فهو يبدأ في الشر قليلا ثم يصعده، فيقول في نفسه : فلان فعل في كذا وأريد أن أصفعه صفعة، وبعد ذلك قد يرفع من شره فيقول :" أو أضربه ضربة ". لكن إذا ما كان الإنسان خيرا، فيقول :" فلان كاد لي، أريد أن أضربه رصاصة أو أضربه صفعتين أو أوبخه " إنه ينزل من الشر ويصعد من الخير. كما في قصة سيدنا يوسف وإخوته حين قالوا :
﴿ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين ٨ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ٩ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيا بات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ١٠ ﴾ ( سورة يوسف ).
إنهم أسباط، وأولاد النبي يعقوب، فيقللون من الشر، ويخففونه مباشرة قائلين :﴿ أو اطرحوه أرضا ﴾ يعني يلقونه في أرض بعيدة، إذن فخففوا القتل في نفس واحد، كيف تم هذا الانتقال من القتل إلى اطرحوه أرضا ؟ ثم خففوا الأمر ثانية حتى لا يأكله سبع أو يتوه، فقالوا :﴿ وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة ﴾.
إذن فقوله :﴿ ومن لم يستطع منكم ﴾ أي من لم يستطع دخول الشيء في طوعه أو أن تطوله يداه، وهذا هو المقصود بالطول، " فطالته يده " يعني صار في استطاعته، وفلان تطول علي، أي تفضل على بشيء، " وفلان تطاول علي " أي ما كان يصح أن يجترئ علي، وكلها من الطول، و " طولا " : تعني قدرة تطول بها الزواج بمن تحب، أي أنت لا تملك مالا ولا تستطيع الطول، فهناك مرحلة أخرى، لا داعي للحرة لأن مهرها غال غالبا ؛ فخذ من الإماء الأسيرات لأن مؤنتهن ونفقتهن خفيفة، وليس لها عصبة ولا أهل يجادلونك في المهر، فقال :﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾.. والذي نلمحه في الآية. أن نكاح ما ملكت اليمين يكون لغير مالكها ؛ لأن مالكها لا يحتاج ذلك، إنه يستمتع بها ويتغشاها ؛ لأنها ملك يمينه وليست مملوكة للغير.
إذن فقد أباح الله للمسلم أن ينكح مما ملكت يمين غيره على شرط أن يكون ذلك بإذن مولاها ؛ لأنها بالزواج تقتطع جزءا من وقتها وخدمتها لمن يملك رقبتها، فلا بد أن يستأذن حتى يكون أمر انقطاعها إلى الزوج في بعض خدماته مما هو معلوم لأوليائهن، وأمر أيضا سبحانه ألا نستهين بأنها مملوكة ومهينة فلا نأتيها مهرها. بل يجب أن يؤدي لهؤلاء مهورهن بما يعرف، أي بالمتعارف عليه ؛ لأن ذلك عوض البضع، فإذا كان الحق قد أمر بأن نستأذن مواليهن وأمر بأن نأتيهن أجورهن، هنا بعض الإشكال لأن المملوكة لا تملك ؛ لأن العبد وما ملكت يداه لسيده.
نقول له : نعم، ولكن إذا قلت : العبد وما ملكت يداه لسيده فلا بد أن تحقق لها ملكا أولا ثم يكون ما تملكه لسيدها.. أ ما أن تتعداها وتعطي المال لسيدها فإنها في هذه الحالة لم يتحقق لها مهر، فقولك : العبد وما ملكت يداه، أي أعطها فترة وفرصة لتكون مالكة بأن تعطى الأجر تكريما لها، أما كون مالها لسيدها فهذا موضوع آخر. وبعد ذلك تذهب لتتزوجها إن ذلك يصح، فهل نفهم من ذلك أنك إن استطعت طولا لا تنكح الإماء ؟ لا. وهل هذا يقلل من شان الإماء ؟ لا. لماذا ؟ انظر للحكم العالية التي لا يقولها إلا رب.
الله يريد أن يصفي مسألة الرق، فحين يأتي واحد ويتزوج أمة مملوكة لغيره فأولادها يتبعونها في الرق. فالأولاد في الدين تتبع خير الأبوين، وفي الحرية والرق يتبع الأولاد الأم، فإذا ما تزوج إنسان أمة مملوكة لغيره فأولادها الذين سيأتون يكونون عبيدا. وحين يتركها لسيدها ويتزوج غيرها من الحرائر، فمن تلده من سيدها يكون حرا، إذن فسبحانه يريد أن يصفي الرق، هذه واحدة، الشيء الآخر أن الزواج : التقاء الذكر بالأنثى ليكونا نواة أسرة، فإذا ما كان الزوج والزوجة أكفاء. فالزوج لا يجد في نفسه تعاليا على الزوجة، والزوجة لا تجد في نفسها تعاليا على الزوج ؛ لأن كل واحد منهما كفء للآخر، وهذه تضمن اتزان الحياة واتزان التعامل، لكن حين يتزوج واحد أمة ليس لها أهل فقد يستضعفها وقد يستعلي عليها. وقد يذلها. وقد يعيرها، وحين يكون لها أولاد قد يقولون لهم : ليس لكم خال مثلا. والمشرع يريد أن يبني حياة أسرية متزنة، ولذلك اشترط الكفاءة، وقال :
﴿ والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين ﴾ ( من الآية ٢٦ سورة النور ).
وبعض من الناس تفهم عندما ترى طيبة فلا بد أن يتزوجها رجل طيب، نقول لهم : إن هذا تشريع والتشريع تكليف وعرضة أن يطاع وعرضة أن يعصى، فسبحانه حين يشرع أن الطيبات يكن للطيبين والخبيثات للخبيثين، فإن طبقتم التشريع تكون المسائل مستقيمة، وهذا يحمل الرد على من يقولون : مادام ربنا يقول :﴿ الطيبات للطيبين ﴾ فكيف يتزوج فلان بفلانة وأحدهما طيب والآخر خبيث ؟.
ونقول : إن هذا الحكم ليس في قضية كونية حادثة، بل هو قضية تشريعية تقتضي منا أن نتبعه وأن نجعل الطيبين للطيبات والخبيثين للخبيثات ليتحقق التوازن. فإن كان خبيثا وقال لها : أنت كذا وكذا تقول له : أنت كذا وكذا. فلا يقول هذه كي لا تقول له مثلها، أما الإنسان الطيب فهو يلين جانبه مرة وهي طيبة وتلين جانبها مرة.
﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ﴾ كلمة " المحصنات " : تعني هنا الحرائر ؛ لأنها لو كانت متزوجة فلن تكون محل تزويج لآخر. ﴿ فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ وكلمة " فتى " نطلقها في الحر على من له فتوة وشباب، ونطلق كلمة فتاة على أي أمة ولو كانت عجوزا، وعلمنا رسول الله ألا نقول : هذا عبدي وهذه أمتي. وإنما نقول :" فتاي " و " فتاتي ".
﴿ فمن ما ملكت أيمانكم ﴾. ويتساءل البعض : وهل يتزوج الإنسان ممن يملكها ؟ نقول له : لا. إنها حلال له فهي مملوكة له ملك يمين ويستطيع أن يكون له منها ولد، إذن فتكون ما ملكت أيمان غيركم، لأن الله يخاطب المؤمنين على أنهم وحدة بنيانية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضهم بعضا " ١.
ويقول الحق :
﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ ( من الآية ١١ سورة الحجرات ).
ويقول في موضع آخر :
﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله ﴾ ( من الآية ٦١ سورة النور ).
فهل يسلم المؤمن على نفسه أو يسلم على من دخل عليهم ؟.
إن الحق يريد بالتشريع أن يجعل المؤمنين كالجسد الواحد، ولذلك قال أيضا :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة النساء ).
أي لا تقتلوا غيركم، والمعنى هو أن الوحدة الإيمانية يجب أن تجعلنا متكاثفين في وحدة.
﴿ فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم ﴾. وقد تقول :
إن إيمان ملك اليمين ضعيف وتجعلها علة. يقول لك الحق : لا ﴿ والله أعلم بإيمانكم ﴾ ولعل أمة خير في الإيمان منك ؛ لأن هذه مسألة دخائل قلوب، وأنت يكفيك أن تعلم الظاهر.
والحق سبحانه وتعالى حين يعالج الأمر يعالجه معالجة رب. يعلم واقع ما خلق ويعطي كل مطلوبات المخلوق، هو أولا أوضح : أنتم إن كنتم لا تستطيعون طولا أن تنكحوا المحصنات فانكحوا الإماء، وهذا من أجل مزيد من تصفية الرق.
بعد ذلك يقول :﴿ والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ﴾ فإن كنت ستتزوج يجب أن تجعل نصب عينيك أمرا هو : أن﴿ بعضكم من بعض ﴾. أي أنكم جميعا من آدم. وما دمت قد آمنت، فالإيمان سوى بينكم، فإذا ذهبت لتتزوج فلا بد أن تضع هذا نصب عينيك، إنه سبحانه يعالج واقعا.
ويقول بعد ذلك :﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن ﴾. وهذا إشعار بأن من تحت يده فتاة بملك يمينه فعليه أن يعاملها معاملة الأهل ليعوضها عما فقدته عند أهلها هناك، ولتشعر أنها في حضانة الإسلام مثلما كانت في حضانة أهلها وآبائها أو أكثر.
إذن فالذي يملك لا بد أن يجعل نفسه من الأهل، وبذلك يزيد الحق سبحانه وتعالى من أبواب تصفية الرق، وأوضح : فإن لم يدخل واحد منكم من يملكه في هذه المصافي فسوف يبقيه رقيقا، وإذن فعليه أن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه ما لا يطيق، فإن كلفه ما لا يطيق فيدك بيده. وعندما يوجد معك إنسان تلبسه من لبسك وتطعمه من أكلك، وعندما يعمل عملا يصعب عليه فأنت تساعده، فأي معاملة هذه ؟ إنها معاملة أهل.
انظر كم مسألة يعالجها الحق : يعالج طالب الزواج ويعالج المملوكة، ويعالج السادة، إنه تشريع رب الجميع. فلا يشرع لواحد على حساب آخر. ومادامت ملك يمين ولها سيد فهذا السيد له مصالح لا بد أن تستأذنه، فقد لا يستطيع أن يستغني عنها لأنها تخدمه، فقال :﴿ بإذن أهلهن ﴾، لكن في المهور قال " ﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ فالأمة تنكح بإذن من يملكها كي يعرف أن هناك من دخل شريكا له في العملية ويأخذ البضع وهو الزوج، وحين يستأذن السيد ويزوجها فهو يعلم أنها لم تعد له، وبذلك لن يأخذها أحد من خلف ظهره، وهو بالاستئذان والتزويج يرتب نفسه على أن البضع قد أغلق بالنسبة له، وبقيت له ملكية الرقبة. أما ملك البضع فهو للزوج.
﴿ وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ فإياكم أن تقولوا
ماذا يبين لنا ؟ إنه سبحانه يبين القوانين الحاكمة لانتظام الحياة.. وقلنا إنه لا يمكن أن يوجد تجريم إلا بنص ولا توجد عقوبة إلا بتجريم. فقبلما يعاقبك على أمر فهو يقول لك : هذه جريمة وينص عليها، إنه لا يأتي ليقول لك : فعلت الشيء الفلاني وهذه عقوبته ؛ لأنك قد تقول له : فعلت هذا الفعل من قبل ولم أعرف أنه جريمة وعليه عقوبة. إذن فلا يمكن أن تعاقب إلا إذا أجرمت، ولا يمكن أن تجرم إلا بنص، فيريد الله أن يبصركم ببيان ما تصلح به حركة حياتكم، والله آمن عليكم من أنفسكم، لأنه هو سبحانه الذي خلق وهو يعلم من خلق.
إن سبحانه وحده الذي يقنن ما يصلح مخلوقه، أما أن يخلق هو وأنت تقنن فهذا اعتداء ؛ لأنه سبحانه يقنن لما يعلم ولله المثل الأعلى وقلنا سابقا : إن المهندس الذي يصنع التلفزيون هو الذي يضع له قانون الصيانة ؛ لأنه هو الذي صمم الآلة، وهو الجدير بأن يضع لها قانون صيانتها، فيعلمنا : المفتاح هذا لكذا، وهذا للصورة وهذا للصوت.
إن الذي خلق الإنسان هو الذي يضع قانون صيانته المتمثل في " افعل ولا تفعل "، وترك سبحانه أمورا لم يرد فيها افعل ولا تفعل، وهي متروكة على الإباحة، تفعله أو لا تفعله، إنه سبحانه :﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ﴾، والسنة هي الناموس الحاكم لحركة الحياة. والحق يقول :
﴿ سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ٦٢ ﴾ ( سورة الأحزاب ).
والرسل سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وعرفنا الذين أطاعوا رسلهم ماذا حدث لهم، والذين كذبوا رسلهم ماذا حدث لهم. لقد قال الحق في شأنهم :﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ٤٠ ﴾ ( سورة العنكبوت ).
فالله يريد أن يبين لنا سنن من قبلنا، أي الطرائق التي حكموا بها، وماذا حدث لأهل الحق وماذا حدث لأهل الباطل. إذن فهو ليس تقنينا أصم، بل هو تقنين مسبوق بوقائع تؤكده وتوثقه، ﴿ ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم ﴾ وهو سبحانه يبين ويوضح ويتوب، ﴿ والله عليم ﴾ لأنه خالق، " حكيم " يضع الأمر في موضعه والنهي في موضعه. فالحكمة هي : وضع الشيء في موضعه، وسبحانه يضعه عن علم، فالعلم يقتضي اتساع المعلومات، والحكمة هي وضع كل معلوم في موقعه.
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ٢٧ ﴾.
سبحانه قال في الآية السابقة :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾، وبعد ذلك يقول :﴿ ويهديكم ﴾، وبعد ذلك :﴿ ويتوب عليكم ﴾، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾، فلماذا جاء أولا ب﴿ ويتوب عليكم ﴾ وجاء هنا ثانيا ب﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ ؟.
نقول : التوبة لا بد أن تكون مشروعة أولا من الله، وإلا فهل لك أن تتوب إلى الله من الذنب لو لم يشرع الله لك التوبة ؟ أتصح هذه التوبة ؟ إنه سبحانه إذن يشرع التوبة أولا، وبعد ذلك أنت تتوب على ضوء ما شرع، ويقبل هو التوبة، وبذلك نكون أمام ثلاث مراحل : أولا مشروعية التوبة من الله رحمة
منه بنا، ثم توبة العبد، وبعد ذلك قبول الله التوبة ممن تاب رحمة منه سبحانه إذن فتوبة العبد بين توبتين من الرب : توبة تشريع، وتوبة قبول.
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾، مادام سبحانه قد شرع التوبة أيشرعها ولا يقبلها ؟ ! لا، فمادام قد شرع وعلمني أن أتوب فمعنى ذلك أنه فتح لي باب التوبة، وفتح باب التوبة من رحمة العليم الحكيم بخلقه ؛ لأن الحق حينما خلق الإنسان زوده دون سائر الأجناس بطاقة من الاختيارات الفاعلة، أي أن الإنسان يستطيع أن يفعل هذه أو يفعل تلك، وجعل أجهزته تصلح للأمر وللنهي، فالعين صالحة أن ترى آية في كون الله تعتبر بها، والعين أيضا صالحة أن تمتد إلى المحارم. واللسان صالح أن تسب به، صالح أن تذكر الله به قائلا : لا إله إلا الله وسائر أنواع الذكر. واليد عضلاتها صالحة أن ترفعها وتضرب بها، وصالحة لأن تقيل وترفع بها عاثرا واقعا في الطريق.
هذا هو معنى الاختيار في القول وفي الفعل وفي الجوارح، فالاختيار طاقة مطلقة توجهها إرادة المختار، وإذا نظرت إلى اليد تجد أنك إذا أردت أن ترفعها، فإنك لا تعرف شيئا عن العضلات التي تستعملها كي ترفع اليد. فالذي يرفع يده ماذا يفعل ؟ وما العضلات التي تخدم هذا الرفع ؟ وأنت ترى ذلك مثلا في الإنسان الميكانيكي أو تراه في رافعة الأثقال الونش التي ترفع الأشياء، انظر كم عملية لتفعل ذلك ؟ أنت لا تعلم شيئا عن هذه المسألة في نفسك، لكنك بمجرد أن تريد تحريك يدك فأنت تحركها وتطيعك. وعندما يريد المهندس أن يحرك الإنسان الآلي فهو يوجهه بحسابات معينة ليفعل كذا وكذا، أما الإنسان فيحرك اليد أو القدم أو العين بمجرد الإرادة.
والحق حين يسلب قدرة الإنسان والعياذ بالله يصيبه بالشلل، إنه يريد فلا تنفعل له اليد أو غيرها ولا يعلم ما الذي تعطل إلى أن يذهب إلى الأطباء ليبحثوا في الجهاز العصبي، ويعرفوا لماذا لم تنفذ أعصابه الأوامر، إنها عملية طويلة. إذن فالإنسان عندما يريد الحركة يوجه الطاقة المخلوقة لله فقط، فليس له فعل في الحقيقة، فأنا إن أثابني الله وجازاني على طاعة فذلك لأني وجهت الآلة الصالحة للفعل إلى عمل الخير، وعندما تسمع أنه لا أحد بيده أن يفعل شيئا فهذا صحيح ؛ لأن أحدا لا يعرف كيف يفعل أي شيء، إنه فقط يريد، فإن وجهت الطاقة للفعل فهذا عملك أنت. فمعنى الاختيار إذن أن تكون صالحا للفعل ومقابل الفعل وهو الانتهاء والترك.
وعندما يبين الحق سبحانه وتعالى لك وينزل لك المنهج الذي يقول لك : وجه طاقتك لهذه ولا توجهها لهذه، معنى ذلك أن طاقتك صالحة للاثنين. إذن فأنت مخلوق على صلاحية أن تفعل وألا تفعل، وما تركه المنهج دون أن يقول لك فيه " افعل " ولا " تفعل " فإن فعلته على أي وجه لا يفسد به الكون ولا تفسد به حركة حياتك فهذا هو المباح لك.
وحينما شرع الحق سبحانه التوبة أوضح : أنه إذا انفعل مريد لعمل شيء فوجه طاقته لعمل شيء مخالف، قد تكون شهوته أو شرته قد غلبت عليه، فتوجه في ساعة ضعف إلى عمل شر ؛ لذلك شرعت التوبة.. لماذا ؟ لأننا لو أخرجنا هذا الإنسان من حظيرة المطيعين بمجرد فعل أول عمل شر لصارت كل انفعالاته من بعد ذلك شرورا، وهذا هو الذي نسميه " فاقدا "، فيشرع الحق : إن فعلت ذنبا فلا تيأس، فنحن سنسامحك ونتوب عليك.
فساعة شرع الله التوبة رحم المجتمع من شراسة أول عاص، فلو لم تأت هذه التوبة لكثرت المعاصي بعد أول معصية. ومقابل قول الحق :﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ وتنبيهه أن الذنوب التي فعلتها قبل ذلك يطهرك منها بالتوبة، مقابل ذلك الذين يتبعون الشهوات ويريدون منك أن تأتي بذنوب جديدة ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ﴾ والميل هو مطلق عمل الذنوب. إنك بذلك تميل عن الحق ؛ لأن الميل هو انحراف عن جادة مرسومة لحكيم، والجادة هي الطريق المستقيم.
هذه الجادة من الذي صنعها ؟ إنه الحكيم.. فإذا مال الإنسان مرة فربنا يعدله على الجادة مرة ثانية، ويقول له :" أنا تبت عليك "، إنه سبحانه يعمل ذلك كي يحمي العالم من شره، لكن الذين يتبعون الشهوات لا يحبون لكم فقط أن تميلوا لمرة واحدة، بل يريدون لكم ميلا موصوفا بأنه ميل عظيم. لماذا ؟.. لأن الإنسان بطبيعته كما قلنا سابقا إن كان يكذب فإنه يحترم الصادق، وإن كان خائنا فهو يحترم الأمين، بدليل أنه إن كان خائنا وعنده شيء يخاف عليه فهو يختار واحدا أمينا ليضع هذا الشيء عنده.
إذن فالأمانة والصدق والوفاء وكل هذه القيم أمور معترف بها بالفطرة، فساعة يوجد إنسان لم يقو على حمل نفسه على جادة القيم، ووجد هذا الإنسان واحدا آخر قدر على أن يحمل نفسه على جادة القيم فهو يصاب بالضيق الشديد، وما الذي يشفيه ويريحه ؟ إنه لا يقدر أن يصوب عمله وسلوكه ويقوم من اعوجاج نفسه ؛ لذلك يحاول أن يجعل صاحب السلوك القويم منحرفا مثله، وإن كانت الصداقة تربط بين اثنين وانحرف أحدهما فالمنحرف يستخذى أمام نفسه بانحرافه، ويحاول أن يشد صديقه إلى الانحراف كي لا يكون مكسور العين أمامه. وهو لا يريده منحرفا مثله فقط بل يريده أشد انحرافا ؛ ليكون هو متميزا عليه. إذن فالقيم معترف بها أيضا حتى لدى المنحرفين، واذكروا جيدا أننا نقرأ في سورة يوسف هذا القول الحكيم :
﴿ ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ٣٦ ﴾. ( سورة يوسف ).
هم في السجن مع يوسف، لكن لكل سبب في أنهم سجنوه، فسبب هؤلاء الذين سألوا يوسف هو أنهم أجرموا، لكن سبب وجود يوسف في السجن أنه بريء. والبريء كل فكره في الله، أما الذين انحرفوا ودخلوا معه السجن عندما ينظرون إليه يجدونه على حالة حسنة، بدليل أن أمرا جذبهم وهمهم في ذاتهم بأن رأوا رؤيا، فذهبوا لمن يعرفون أنه إنسان طيب برغم وجوده معهم في السجن، فقد أعجبوا به بدليل انهم قالوا له :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾. ومن يقول :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ لا بد أن تكون عنده قدرة على تمييز القيم، ثم قاسوا فعل يوسف عليها فوجدوها حسنة، وإلا فكيف يعرف ؟. إذن فالقيم معروفة عندهم، فلما جاء أمر يهمهم في ذاتهم ذهبوا إلى يوسف.
ومثال ذلك : هناك لص لا يمل من السرقة ولا يكف عنها، وبعد ذلك جاء له أمر يستدعيه للسفر إلى مكان غير مأمون، فاللص في هذه الحالة يبحث عن إنسان أمين ليقضي الليل عنده ولا يذهب للص مثله. إذن فالقيم هي القيم، وعندما قال أصحاب يوسف في السجن :{ إنا نراك من المحسنين "، استغل سيدنا يوسف هذه المسألة ووجدهم واثقين فيه فلم يقل لهم عن حكايتهم ابتداء ويؤول لهم الرؤيا، بل استغل حاجتهم إليه وعرض عليهم الإيمان قال :
﴿ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ٣٩ ﴾ ( سورة يوسف ).
لقد نقلهم من حكايتهما لحكايته، فماداما يريدان استغلال إحسانه فلماذا لا يستغل حاجتهما له ويعظهما ويبشرهما بدين الله ؟ وكأنه يقول لهما : أنتما جئتما إلى لأنكما تقولان إنني من المحسنين. وأنتما لم تريا كل ما عندي بل إن الله أعطاني الكثير من فيضه وفضله، ويقول الحق على لسان يوسف :
﴿ لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
أي أن يوسف الصديق عنده الكثير من العلم، ويقر لهما بفضل الله عليه : فليس هذا العلم من عندي :
﴿ ذالكما مما علمني ربي ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
وبعد ذلك يدعوهما لعبادة الإله الواحد كي يستنجدا به بدلا من الآلهة المتعددة التي يتخذانها معبودا لهما وهي لا تضر ولا تنفع.
﴿ أأرباب متفرقون خيرأم الله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة يوسف ).
إذن فالقيم واحدة، والله يريد أن يتوب عليكم، ولكن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلا عظيما، حتى لا تكونوا مميزين عليهم تميزا يحقرهم أمام أنفسهم، فهم يريدون أن تكونوا في الانحراف أكثر منهم، لأنهم يريدون أن يكونوا متميزين في الخير أيضا ويقولون لأنفسهم :" إن كنا شريرين فهناك أناس شر منا ".
﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ٢٨ ﴾.
فسبحانه بعد أن قال :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ ليبصر، و﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ ليغفر، والآن يقول :﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾ لييسر، وهي ثلاثة أمور هامة. ويقول سيدنا ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه :" وفي سورة النساء ثماني آيات لأمة محمد هي خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب :
الأولى قول الحق :
﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ٢٦ ﴾ ( سورة النساء ).
والثانية هي قول الحق :
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ٢٧ ﴾ ( سورة النساء ).
والثالثة هي قول الحق :
﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ٢٨ ﴾ ( سورة النساء ).
والرابعة هي قول الحق :
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ٣١ ﴾ ( سورة النساء ).
والخامسة هي قول الحق :
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ٤٨ ﴾ ( سورة النساء ).
والسادسة هي قوله سبحانه :
﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ﴾ ( سورة النساء ).
والسابعة هي قوله تعالى :
﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ٤٠ ﴾ ( سورة النساء ).
والثامنة هي قوله تعالى :
﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ١٤٧ ﴾ ( سورة النساء ).
هذه هي الآيات الثماني التي لم تؤت مثلها أي أمة إلا أمة محمد عليه الصلاة والسلام. ومنها قول الحق :﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ﴾. وما هو ضعف الإنسان ؟. الضعف هو أن تستميله المغريات ولا يملك القدرة على استصحاب المكافأة على الطاعة أو الجزاء على المعصية، لأن الذي تتفتح نفسه إلى شهوة ما يستبعد غالبا خاطر العقوبة، وعلى سبيل المثال، لو أن السارق وضع في ذهنه أن يده ستقطع إن سرق، فسيتردد في السرقة، لكنه يقدر لنفسه السلامة فيقول : أنا أحتال وأفعل كذا وكذا كي أخرج.
إذن فضعف الإنسان من ناحية أن الله جعله مختارا تستهويه الشهوات العاجلة، لكنه لو جمع الشهوات أو صعد الشهوات فلن يجد شهوة أحظى بالاهتمام من أن يفوز برضاء ولقاء الله في الآخرة.
وقول الحق :﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ نلحظ فيه أن التخفيف مناسب للضعف، والضعف جاء من ناحية أن الإنسان أصبح مختارا وخاصة في أمور التكليف، فالذي جعل فيه الضعف جعله مختارا يفعل كذا أو يفعل كذا ولكل أمر مغرياته، ومغريات الشهوات حاضرة. ومغريات الطاعة مستقبلة. فهو يغلب دائما جانب الحاضر على جانب المستقبل.
وعندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفت خلقه إلى أن يؤمنوا به يلفتهم إلى الكون، ويلفتهم إلى ما خلق الله من ظواهر ليتأكدوا أن هذه الظواهر لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا عن قادر عليم حكيم، فإذا ما انتهوا إلى الإيمان به استقبلوا التكليف الذي يتمثل في افعل كذا ولا تفعل كذا، فحين يخاطبهم بالتكليف يجعل لأمر التكليف مقدمة هي أنك ألزمت نفسك في أن تدخل إلى هذا التكليف، ولم يرغمك الله على أن تكون مكلفا، وإنما أنت دخلت إلى الإيمان بالله باختيارك وطواعيتك. وما دمت قد دخلت على الإيمان باختيارك وطواعيتك فاجعل إيمانك بالله حيثية كل حكم يحكم به الله عليك. من افعل كذا ولا تفعل كذا، ولا تقل : لماذا أفعل كذا يا رب، ولماذا لا أفعل كذا يا رب ؟ بل يكفي أن تقول : الذي آمنت به إلها حكيما قادرا هو سبحانه مأمون على أن يأمرني وأن ينهاني. ولذلك يجيء الحق دائما قبل آيات التكليف بقوله سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فهو لم يكلف مطلق الناس، وإنما كلف من آمن به.
إذن فحين يكلف من آمن به لا يكون قد اشتط وجار عليه لأنه قد آمن به بمحض اختياره.
وإذا لفت إنسانا ونبهته وأمرته بأمر تكليفي مثل صل، أو امتنع عن فعل المنكر فقال لك :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ هنا يجب أن تقول له : أنت لم تفهم معنى قول الحق :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ فأصل التدين والإيمان بالله ألا يكرهك أحد عليه، بل ادخل إلى الإيمان بالله باختيارك، لكن إذا دخلت إلى الإيمان بالله فالتزم بالسماع من الله في " افعل " و " لا تفعل " فحين يقول الحق :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فهو يعطينا حيثيات التكليف، أي علة الحكم. فعلة الحكم أنك آمنت بالله إلها حكيما قادرا.
وما دمت آمنت بالله إلها حكيما قادرا فسلم زمام الأوامر والنواهي له سبحانه، فإن وقفت في أمر بشيء أو نهي عن شيء فراجع إيمانك بالله.
إذن فقوله :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ أي أنك حر على أن تدخل في الإيمان بالله أو لا تدخل، لكن إذا ما دخلت فإياك أن تكسر حكما من أحكام الله الذي آمنت به، وإن كسرت حكما من أحكام الله تدخل معنا في إشكال ارتكاب السيئات أو الذنوب.
والأحكام التي سبقت للذين آمنوا هي أحكام تعلقت بالأعراض وبإنشاء الأسرة على نظام طاهر نقي كي يأتي التكاثر نقيا طاهرا، وتكلمت الآيات عن المحرمات من النساء وكذلك المحللات ؛ وهاهو ذا سبحانه يتكلم عن المال، وهو الذي يقيم الحياة، والمال كما نعرف ثمرة الجهد والمشقة، وكل ما يتمول يعتبر مالا، إلا أن المال ينقسم قسمين : مال يمكن أن تنتفع به مباشرة، فهناك من يملك الطعام، وآخر يملك الشراب، وثالث يملك أثوابا، وهذا نوع من المال ينتفع به مباشرة، وهناك نوع آخر من المال، وهو " النقد " ولا ينتفع به مباشرة، بل ينتفع به بإيجاد ما ينتفع به مباشرة.
وهكذا ينقسم المال إلى رزق مباشر ورزق غير مباشر. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة الحياة، لأنه بحماية حركة الحياة يغري المتحرك بأن يتحرك ويزداد حركة. ولو لم يحم الحق حركة الحياة، وثمرة حركة الحياة فماذا يقع ؟ تتعطل حركة الحياة.
وإننا نلاحظ أن كل مجتمع لا يؤمن فيه على الغاية والثمرة من عمل الإنسان تقل حركة العمل فيه، ويعمل كل واحد على قدر قوته. ويقول لنفسه : لماذا أعمل ؟ لأنه غير آمن. لكن إذا كان آمنا على ثمرة حركته يغريه الأمن على ماله على أن يزيد في حركة العمل، وحين تزيد حركة العمل فالمجتمع ينتفع وإن لم يقصد المتحرك. فليس ضروريا أن يقصد الإنسان بكل حركته أن ينفع المجتمع. لا، اجعله يعمل لنفع نفسه.
لقد ضربنا هذا المثل سابقا : إنسان مثلا عنده آلاف الجنيهات وبعد ذلك وضعها في خزانة ثم تساءل : لماذا أضعها في خزانة ؟ لماذا لا أبني بها بيتا آخر وأكري منه شقتين، فسيأتيني منه عائد ؟ هل كان المجتمع في بال مثل هذا الإنسان ؟ لا، إن باله مشغول بمصلحته ؛ لذلك فلنجعل مصلحة كل إنسان في باله، وهنا سيستفيد المجتمع بحركته قصد أو لم يقصد. لأنه ساعة يأتي ليحفر الأساس سيعطى أناسا أجورهم ؛ وساعة يأتي بالطوب يشتريه بثمن، وساعة يبنى يعطى المهندس والعمال أجورهم ؛ لذلك أقول : اعمل لنفسك في ضوء شرع الله، وسينتفع المجتمع قهرا عنك.
ومن العجيب أنك تريد أن تنفع نفسك فيبين لك ربنا : أنت ستنفع غيرك قبل أن تنتفع بعائد المنزل الذي بنيته، ولا تظن أن أحدا سيأخذ رزق ربنا ولن يجريه على الخلق، لا، إن المجتمع سينتفع بالرغم منك.
إذن فمن حظ المجتمع أن نصون حركة الحياة. ونؤمن كل متحرك في الحياة على ماله. لكن إن كنا حاكمين يجب أن تكون أعيننا مبصرة : أيكسب من حل أم لا ؟ فإذا كان الكسب حلالا نشكره، اما إذا كان يكسب من حرام، فنحن نسائله، وإن عمل على غير هذا توقفت حركة الحياة، وإن توقفت حركة الحياة فهذا أمر ضار بالذين لا يقدرون على الحركة، لماذا ؟ لأن الله قسم المواهب على الناس، فليس كل واحد من الناس يملك الطموح الحركي، ولا يملك كل إنسان فكرا يخطط به، فقد لا يكون في المجتمع إلا قلة تخطط، والباقون هم جوارح تنفعل للفكر المخطط، والفكر يعمل لجوارح كثيرة، فكذلك يكون هناك مفكر واحد هو الذي يضع خطة ينتفع بها الكثير من الناس.
إذن فلا بد أن نرعى حركة المتحرك وننميها ؛ لأن المجتمع ينتفع منها، وإن لم يقصد المتحرك إلا مصلحة نفسه، صحيح أن الذي ليس في باله إلا نفسه إنما يحبط ثواب عمله، وصحيح أن من يضع الناس في باله إنما يعطى ثمرة عمله ويأخذ ثوابا أيضا من الله.
والحق سبحانه وتعالى يأتي في مسائل المال ويوضحها توضيحا تاما ليحمي حركة الحياة ويغري الناس بالحركة وبذلك يتعدد المتحركون وتتعدد الحركات، ويستفيد المجتمع، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ وساعة تجد أمرا لجماعة في جمع مأمور به فقسم الأفراد على الأفراد.
مثال ذلك : عندما نقول لجماعة : اركبوا سياراتكم أي : ليركب كل واحد منكم سيارته، والمدرس يدخل الفصل ويقول للتلاميذ : أخرجوا كتبكم. أي أن كل تلميذ عليه أن يخرج كتابه. فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، وقول الحق :﴿ لا تأكلوا ﴾ فهذا أمر لجمع. و﴿ أموالكم ﴾ أيضا جمع، فيكون معناه : لا يأكل كل واحد ماله، وكيف لا يأكل كل واحد منكم ماله ؟ يوضح الحق : " بالباطل ". فيكون مطلوبا من كل واحد منكم ألا يأكل ماله بالباطل. والإنسان يأكل الشيء لينتفع به. والحق يوصيك ويأمرك : إياك أن تصرف قرشا من مالك وتضيعه إلا في حق، هذا إذا كنا سنقابل المفرد، فلا يأكل واحد منكم ماله بالباطل، بل يوجهه إلى الأمر النافع، الذي ليس فيه حرمة، والذي لا يأتي بعذاب في الآخرة.
وإذا كان المراد أن لا أحد يأكل مال الآخر، فسنوضحه بالمثل الآتي : لنفترض أن تلميذا قال لمدرسه : يا أستاذ قلمي كان هنا وضاع. فيقول الأستاذ للتلاميذ : لا تسرقوا أقلامكم، فهل معنى ذلك أن الأستاذ يقول : لا يسرق كل واحد قلمه أو لا يسرق كل واحد قلم أخيه، إذن فيكون المعنى الثاني﴿ ولا تأكلوا أموالكم ﴾، أي لا يأكل كل واحد منك مال أخيه بالباطل.
وكيف يقول :" أموالكم " ؟ ومادام مالهم فليس عليهم حرج ؟ لا ؛ لأن معناها المقصود : لا يأكل كل واحد منكم مال أخيه. ولماذا لم يقل ذلك وقال :" أموالكم " ؟ لأن عادة الأوامر من الحق ليست موجهة إلى طائفة خلقت على أن تكون آكلة، وطائفة خلقت على أن تكون مأكولة، بل كل واحد عرضة في مرة أن يكون آكلا لمال غيره ؛ ومرة أخرى يكون ماله مأكولا. فأنا إذا أكلت مال غيري فسوف يأكل غيري مالي. فأكون قد عملت له أسوة ويأكل مالي أيضا، فكأنه سبحانه عندما يقول لك : لا تأكل مالك إنما ليحمي لك مالك.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يصنع من المجتمع الإيماني مجتمعا واحدا. ويقول إن المال الذي عند كل واحد هو للكل. وإنك إن حافظت على مال غيرك حافظ غيرك على مالك. وأنت إن اجترأت على مال غيرك فسيجترئ المجموع على مالك. وأنت ساعة تأكل مال واحد تجرئ آلاف الناس على أن يأكلوا مالك. وحين لا تأكل مال غيرك كأنك لم تأكل مالك.
﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾وكلمة " أكل " معناها : الأخذ ؛ لأن الأكل هو أهم ظاهرة من ظواهر الحياة ؛ لأنها الظاهرة المتكررة، فقد تسكن في بيت واحد طوال عمرك، وتلبس جلبابا كل ستة أشهر، لكن أنت تتناول الأكل كل يوم، وحينما نزلت الآية قال المسلمون : نحن لا نأكل أموالنا بالباطل. وتحرجوا أن يأكلوا عند إخوانهم. وبعد ذلك رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوضح أن أكل التكارم ليس بالباطل أنزل الله قوله :
﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ﴾ ( من الآية ٦١ سورة النور ).
هذه رفعت عندهم الحرج، إنما ساعة سمعوا أكل الباطل قالوا : لا آخذ حاجة من أحد إلا بمقابل.
وما هو " الباطل " ؟.. الباطل هو أن تأخذ الشيء بغير حقه. مثال ذلك الربا، لأن معنى " ربا " أن واحدا عنده فائض وآخر يحتاج، والمحتاج ليس عنده الأصل أنطلب منه أن يرد الأصل وزيادة، ويعطى الزيادة لمن عنده ؟.
كيف يتأتى هذا ؟ هذا هو الآخذ بالربا، أو الأخذ بالسرقة، بالاختلاس أو بالرشوة أو بالغش في السلع، كل ذلك هو آكل مال بالباطل، وساعة تريد أن تأكل مالا بالباطل ؛ كأنك تريد أن تتمتع بثمرة عمل غيرك، وأنت بذلك تتعود على التمتع بثمرة عمل غيرك، وتضمحل عندك قدرة العمل ويصير أخذك من غيرك. أخذا لماله كرها وبغير وجه حق وبذلك تتعطل حركة متحرك في الحياة وهو ذلك العاطل " البلطجي "، ويخاف المتحرك في الحياة وهو من تفرض عليه الإتاوة فيقل ويضعف نشاطه في الحياة، كيف يكون شكل هذا المجتمع ؟ إن المجتمع في هذه الحالة سيعاني من كرب وصعوبات في الحياة.
فقوله سبحانه :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ هو أمر لكل مسلم : لا تراب، ولا تسرق، ولا تغش، ولا تدلس، ولا تلعب ميسرا، ولا تختلس، ولا ترتش ؛ لأن كل هذه الأمور هي أكل أموال بالباطل. وعندما ندقق في مسألة لعب الميسر نجد أمرا عجيبا ؛ فالذين يلعبون الميسر يدعون أنهم أصدقاء، وينتظر بعضهم بعضا ويأكلون معا، وكل واحد منهم يجلس أمام الآخر وهو حريص أن يأخذ ما في جيبه، فأي صداقة هذه ؟.
إذن فساعة يقول الحق :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾، وساعة يأمرك الحق : إياك أن يصعب عليك التكليف ؛ لأنه شاق عليك، ولكن قدر ما يأخذه منك التكليف من تضييق حركة تصرفك، وما يعطيك التكليف من تضييق حركة الآخرين، الحق قال لك : لا تأخذ مال غيرك لكي لا يأخذ غيرك مالك، وبذلك تكسب أنت ويكسب كل المجتمع، فحين يصدر أمر لإنسان أن يكف يده عن السرقة فهو أمر للناس جميعا كي يكفوا عن سرقة هذا الإنسان ؛ لذلك فحين تستقبل أي حكم عن الله
﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ٣٠ ﴾.
" ذلك " : " ذا " وحدها للإشارة، و " الكاف " للخطاب، والخطاب إذا أفرد، فالمراد به خطاب الله لرسوله، والمؤمنون في طي ذلك الخطاب. ومرة يقول : " ذلكم " أي انه يخاطبنا نحن، مثل :
﴿ ذلكم أزكى لكم ﴾ ( من الآية ٢٣٢ سورة البقرة ).
وذلك إشارة لما تقدم مباشرة في الآية الخاصة بقتل النفس، وكذلك ما قبلها وهو أكل الأموال. والبعض يأخذها لكل ما تقدم من أول قوله :﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ﴾، والبعض الآخر يأخذها من أول الأوامر والنواهي من أول السورة إلى هنا، وكلها تصح.
﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما ﴾. والعدوان هو التعدي، والتعدي قد يكون ظلما وقد يكون نسيانا. ومن يتعدى بالظلم يكون عارفا ويأخذ حق غيره، أما التعدي بالنسيان فيقتضي أن يراجع الإنسان سلوكه، لماذا ؟ لأن العاقبة مريرة.
وقوله تعالى :﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ﴾ والفعل إذا أسند لفاعله أخذ قوته من فاعله. فعندما يقول لك أحد : إن عملت هذه فابني الصغير سيصفعك صفعة، وهو قول يختلف عن التهديد بأن يضربك شاب قوي، لماذا ؟ لأن قوة الحدث نأخذها من فاعل الحدث، من الذي يصلى المعتدى النار ؟ إنه الله، وسبحانه سيجعله يصطلي بها.
ويقول الحق :﴿ وكان ذلك على الله يسيرا ﴾ لأن فعل الله ليس عن معالجة بل ينفذ فورا. ونعلم أن فعل المعالجة هو كل فعل يحتاج لوقت، فهناك عمل يحتاج لساعة وكل دقيقة من هذه الساعة تأخذ جزئية من العمل، وعندما تقسم العمل لستين جزئية، ينتهي العمل في ساعة، وإن كان العمل ينتهي في عشرة أيام تقول له : أسقط أوقات الراحة وعدم مزاولة العمل ؟، وقسم العمل على الباقي من الوقت. هذا هو ما يسمى علاجا ؛ لأن ذلك من عمل الإنسان، لكن عمل الله يختلف، فالحق يقول للشيء :﴿ كن فيكون ﴾ إذن فكل فعل على الله يسير مادامت المسألة :﴿ كن فيكون ﴾ قال سبحانه :
﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾ ( من الآية ٢٨ سورة لقمان ).
وسبحانه يوضح : أنا لا أوجد كل واحد مثلما خلقت آدم وأشكله وأخلقه ثم أبعثه، لا، بل كل الخلق كنفس واحدة.
هذه الآية هي إحدى ثماني آيات قال عنها ابن عباس رضي الله عنه : في هذه السورة سورة النساء ثماني آيات خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، وقلنا : إن هذه الآيات تبدأ بقوله سبحانه :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾، ﴿ والله يريد ان يتوب عليكم ﴾، ﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾، ثم جاءت :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾. و " الاجتناب " ليس معناه عدم مزاولة الحدث أو الفعل، ولكن عدم الاقتراب من مظان الحدث أو الفعل حتى يسد المؤمن على نفسه مخايلة شهوة المعصية له وتصوره لها وترائيها له.
هذه الآيات الكريمات كانت خيرا لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، لأنها تحمي من حمق الاختيار الذي وجد في الإنسان حين لا يلتزم بمنهج الله، ولو أن الإنسان كان مسيرا ومكرها على الفعل لارتاح من هذا الاختيار. وتعب الإنسان جاء من ناحية أن اغتر بميزته على سائر خلق الله، والميزة التي ميز الله بها الإنسان هي العقل الذي يختار به بين البديلات. بينما سائر الأجناس كلها رضيت من الله أن تكون مسخرة مقهورة على ما جعلها له بدون اختيار. ونعرف أن الحق قال :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ٧٢ ﴾ ( سورة الأحزاب ).
فالإنسان قد ظلم نفسه، لأنه أرجح نفسه عند اختيار الشهوة أو اختيار مرادات منهج الله، بينما المقهورون أو المسخرون ليست عندهم هذه المسألة. وكل كائن منهم يقوم بعمله آليا وارتاح من حمق الاختيار فهذه الآيات طمأنت الإنسان على أنه إن حمق اختياره في شيء فالله يريد أن يبصره، والله يريد ان يتوب عليه، والله يريد أن يخفف عنه. والله يريد إن اجتنب الكبائر أن يرفع عنه السيئات ويكفرها. كل هذه مطمئنات للنفس البشرية حتى لا تأخذها مسألة اليأس من حمق الاختيار، فيوضح : أنا خالقك وأعرف أنك ضعيف لأن عندك مسلكين : كل مسلك يغريك، تكليف الله بما فيه من الخير لك وما تنتظره من ثواب الله في الآخرة يغرى، وشهوة النفس العاجلة تغرى.
وما دامت المسألة قد تخلخلت بين اختيار واختيار فالضعف ينشأ ؛ لذلك يوضح سبحانه : أنا أحترم هذا فيك لأنه وليد الاختيار، وأنا الذي وهبت لك هذا الاختيار.
والحق حين وهب الاختيار لهذا الجنس الذي هو سيد الأجناس كلها، يحب أن يأتي لربه راغبا محبا : لأن هناك فارقا بين ان يسخر المسخر ولا يستطيع أن ينفلت عما قدر له أن يعمله، وتلك تؤديها صفة القدرة لله، لكن لم تعط لله صفة المحبوبية ؛ لأن المحبوبية أن تكون مختارا أن تطيع ومختارا أن تعصي ثم تطيع، هذه صفة المحبوبية، والله يريد من الإنسان أن يثبت بطاعته صفة المحبوبية له سبحانه، فالإنسان المحب لمولاه برغم أنه مختار أن يفعل الطاعة أولا يفعلها ينحاز بالإيمان إلى جانب الطاعة.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾ كان الله بعد تكليفاته في أمور الأعراض والأموال وتكليفاته في الدماء من قتل النفس وغيرها، أوضح : إياكم أن تستقبلوا الأشياء استقبالا يجعلكم تيأسون من أنكم قد تعجزون عن التكليف لبعض الأمور، فأنا سأرضى باجتناب الكبائر من المساوئ : فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، والجمعة للجمعة كفارة، ومن رمضان لرمضان كفارة، لكن بشرط ألا يكون عندكم إصرار على الصغائر لماذا ؟ لأنك إن قدرت ذلك فقدر أنك لا تقدر على استبقاء حياتك إلى أن تستغفر، فلا تقل : سأفعل الذنب، ثم استغفر هذه لا تضمنها، وأيضا تكون كالمستهزئ بربه.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ في السيئات يقول :﴿ نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ وقلنا : إن " الكفر " هو " الستر " أي يسترها ومعنى نسترها يعني لا نعاقب عليها، فالتكفير إماطة للعقاب، والإحباط إماطة للثواب. فإن ارتكب إنسان أمرا يستحق عليه عقابا وقد اجتنب الكبائر يكفر عنه الله أي يضع ويستر عنه العقاب، أما من عمل حسنة ولم يقبلها الله، فهو يحبطها، إذن فالتكفير كما قلنا إماطة للعقاب، و " والإحباط " إماطة للثواب كما في قوله :
﴿ فأولئك حبطت أعمالهم ﴾ ( من الآية ٢١٧ سورة البقرة ).
أي ليس لهم على تلك الأعمال ثواب ؛ لأنهم فعلوها وليس في بالهم الذي يعطي الثواب وهو الله. بل كان في بالهم الخلق، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( فعلت ليقال وقد قيل ).
أنت فعلت ليقال وقد قيل، وقالوا عنك إنك محسن كبير، قالوا : إنك بنيت المسجد، وقرءوا اللافتة التي وضعتها على المسجد وسط احتفال كبير. ويقول الحق :
﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ٢٣ ﴾ ( سورة الفرقان ).
أنت فعلت ليقال وقد قيل ؛ ولذلك فالذين عملوا مثل هذه ووضعوا لافتات من رخام عليهم أن يفطنوا لهذا الأمر، وإن كان الواحد منهم حريصا على أنه يأخذ الثواب من يد الله فليرفع هذه اللافتة ويسترها وتنتهي المسألة، فالله سبحانه وتعالى يحب ممن يتصدق أن يكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم :
( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )١.
فأنت حين تتصدق لماذا تفضح من يتقبل الصدقة. والحق يقول :﴿ ان تجتنبوا ﴾، و " الاجتناب " هو إعطاء الشيء جانبا. ولذلك يقولون : فلان ازور جانبه عني، أي أنه عندما قابلني أعطاني جانبه، والمراد في قوله :﴿ إن تجتنبوا ﴾ هو التباعد، والحق ساعة يطلب منك ألا تصنع الحدث ويطلب منك بأسلوب آخر أن تجتنبه، فهذا يدل على أن الاجتناب أبلغ، لأن الاجتناب معناه ألا تكون مع المنهي عنه في مكان واحد فعندما يقول الحق :
﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة الحج ).
وعندما يقول :
﴿ واجتنبوا قول الزور ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة الحج ).
فاجتنبوه أي : ابتعدوا عنه. لماذا ؟ لأن حمى الله محارمه..
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه.. }٢.
والحق يقول :
﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ ( من الآية ٩٠ سورة المائدة ).
واجتنابه يكون بألا توجد معه في مكان واحد يخايلك ويشاغلك ويتمثل لك، فعندما تكون مثلا في منطقة الذين يشربون الخمر يقول لك الحق : اجتنبها. أي لا تذهب إليها ؛ لأن الخمر عندما توجد أمامك وترى من يشربون وهم مستريحون مسرورون.. فقد تشربها، لكن عندما تجتنب الخمر ومجالسها فأنت لا تقع في براثنها وإغرائها، ولذلك قلنا : إن الاجتناب أبلغ من التحريم، وهناك أناس يبررون الخمر لأنفسهم ويقولون : إن الخمر لم يرد فيها تحريم بالنص ! ! نقول لكل واحد منهم : حسبك أن شرب الخمر قرن بالرجس من الأوثان، فالحق يقول :
﴿ واجتنبوا الطاغوت ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة النحل ).
فاجتناب الطاغوت ليس معناه ألا تعبده، بل إياك أن تراه، إذن فاجتناب الخمر ليس بألا تشربها، بل إياك أن تكون في محضرها.
" والكبائر " جميع " كبيرة "، ومادام فيه " كبيرة " يكون هناك مقابل لها وهي " صغيرة " و " أصغر " فالأقل من " الكبيرة "، ليس " صغيرة " فقط ؛ لأن فيه " صغيرة "، وفيه " أصغر " من " الصغيرة " وهو " اللمم ".
والحق يقول :" إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } و " السيئات " منوطة بالأمر الصغير وبالأصغر، لكن هذه المسألة وقف فيها العلماء، قالوا : معنى ذلك أننا سنغري الناس بفعل السيئات ماداموا قد اجتنبوا الكبائر فقد يفعلون الصغائر. نقول : لا، فالإصرار على الصغيرة كبيرة من الكبائر ؛ لذلك لا تجز الصغائر لنفسك ؛ فالحق يكفر ما فلت منك فقط ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ ( من الآية ١٧ سورة النساء ).
يفعلون الأمر السيئ بدون ترتيب وتقدير سابق وهو سبحانه قال بعد ذلك :
﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ﴾ ( من الآية ١٨ سورة النساء ).
إذن فمعنى أنك تصر على صغيرة وتكررها إنها بذلك تكون كبيرة، وإن لم نجتنب الكبائر ووقعنا فيها فماذا يكون ؟. يقول العلماء الذين جعلهم الله هبات لطف ورحمة على الخلق : لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. فإن أخذت هذه فخذ تلك، خذ الاثنتين، فلا كبيرة مع الاستغفار، ومقابلها لا صغيرة مع الإصرار. وحينما أراد العلماء أن يعرفوا الكبيرة قالوا : الكبيرة هي ما جاء فيها وعيد من الله بعذاب الآخرة، أو جاء فيها عقوبة كالحد مثلا فهذه كبيرة، والتي لم يأت فيها حد فقد دخلت في عداد السيئة المغفورة باجتناب الكبيرة أو الصغيرة أو الأصغر.
وأن سيدنا عمرو بن عبيد عالم من علماء البصرة وزاهد من زهادها، وهو الذي قال فيه أحد الخلفاء : كلهم طالب صيد غير عمرو بن عبيد، أي أن كل العلماء يذهبون إلى هناك ليأخذوا هبات وهدايا إلا عمرو بن عبيد، إذن فقد شهد له، هذا العالم عندما أراد أن يعرف مدلول الكبيرة، وأصر ألا يعرف مدلولها بكلام علماء، بل قال : أريد أن أعرفها من نص القرآن، الذي يقول لي على الكبيرة يأتيني بنص من القرآن. ودخل ابن عبيد البصري على سيدنا أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، ونعرف سيدنا جعفر الصادق وهو أولى الناس بأن يسأل ؛ لأنه عالم أهل البيت، ولأنه قد بحث في كنوز القرآن وأخرج منها الأسرار وعاش في رحاب الفيض، فقال ابن عبيد : هذا هو من أسأله، فلما سلم وجلس قرأ قول الله سبحانه :
﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة النجم ).
ثم سكت ! ! فقال له سيدنا أبو عبد الله جعفر الصادق : ما أسكتك يا بن عبيد ؟ قال : أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله.
وانظروا إلى الثقة بمعرفة كنوز القرآن، ساعة قال له :" أحب أن اعرف الكبائر من كتاب الله ". قال أبو عبد الله : نعم، أي على خبير بها سقطت، أي جئت لمن يعرفها، ثم قال :" الشرك بالله، قال تعالى :
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ ( من الآية ٤٨ سورة النساء ).
وقال تعالى :
﴿ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ﴾ ( من الآية ٧٢ سورة المائدة ).
وأضاف : واليأس من رحمة الله فإن الحق قال :
﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ ( من الآية ٨٧ سورة يوسف ).
وهكذا جاء سيدنا أبو عبد الله جعفر الصادق بالحكم وجاء بدليله، وأضاف : ومن أمن مكر الله ؛ لأنه سبحانه قال :
﴿ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ ( من الآية ٩٩ سورة الأعراف ).
والكبيرة الرابعة : عقوق الوالدين ؛ لأن الله وصف صاحبها بأنه جبار شقي، قال تعالى :
﴿ وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ٣٢ ﴾ ( سورة مريم ).
وقتل النفس. قال تعالى :
﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾ ( من الآية ٩٣ سورة النساء ).
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. قال تعالى :
{ إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعن
٢ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة..
الحق سبحانه وتعالى خلق الكون وفيه أجناس، وكل جنس يشمل أنواعا أو نوعين، وتحت كل نوع أفراد. فإذا ما رأيت جنسا من الأجناس انقسم إلى نوعين، فاعلم أنهما يشتركان في مطلوب الجنس، ثم يختلفان في مطلوب النوع، ولو كانا متحدين لما انقسما إلى نوعين. كذلك في الأفراد. وإذا نظرنا إلى الجهاد وجدنا الجماد جنسا عاما ولكنه انقسم إلى عناصر مختلفة، لكل عنصر من هذه العناصر مهمة مختلفة، فمثلا إذا أردنا إقامة بناء، فهذا البناء يتطلب رملا، ويتطلب أسمنتا، ويتطلب آجرا، ويتطلب حديدا، فجنس الجماد كله مشترك في إقامة البناء، ولكن للأسمنت مهمة، وللجبس مهمة، وللرمل مهمة، وللمرو وهو الزلط مهمة، فلا تأخذ شيئا في مهمة شيء آخر. وكذلك انقسم الإنسان إلى نوعين، إلى ذكورة تتمثل في الرجال، وإلى أنوثة تتمثل في النساء، وبينهما قدر مشترك يجمعهما كجنس، ثم بينهما اختلاف باختلاف نوعيهما. فلو أردت أن تضع نوعا مكان نوع لما استطعت.
إذن فمن العبث أن يخلق الله من جنس نوعين، ثم تأتي لتقول : إن هذا النوع يجب أن يكون مثل هذا النوع. وأيضا نعرف ذلك عن الزمن، فالزمن ظرف للأحداث، أي ان كل حدث لا بد له من زمن، لكن لكل زمن حدث يناسبه. فالزمن وهو النهار ظرف للحدث في زمنه، والليل أيضا ظرف للحدث في زمنه. ولكن الليل حدثه السكون والراحة، والنهار حدثه الحركة والنشاط. فإن أردت أن تعكس هذا مكان هذا أحلت وجمعت بين المتناقضين.
لقد أوضحنا أن الله يلفتنا إلى شيء قد نختلف فيه بشيء قد اتفقنا عليه، فيبين لك : هذا الذي تختلف فيه رده إلى المتفق عليه. فالزمن لا خلاف في أنك تجعل الليل سكنا ولباسا وراحة وهدوءا، والنهار للحركة. وكل الناس يصنعون ذلك. فالحق سبحانه وتعالى يوضح : كما جعل الزمن ظرفا لحركة إلا أن حركة هذا تختلف عن حركة هذا، وهل معنى ذلك أن الليل والنهار نقيضان أو ضدان أو متكاملان ؟.
إنهما متكاملان ؛ لأن راحة الليل إنما جعلت لتصح حركة النهار. فأنت تنام وترتاح لتستأنف نشاطا جديدا. إذن فالليل هو الذي يعين النهار على مهمته.. ولوان إنسانا استيقظ ليلة ثم جاء صباحا لما استطاع أن يفعل شيئا. إذن فما الذي أعان حركة النهار ؟.. إنه سكون الليل، فالحق سبحانه وتعالى بين : أن ذلك أمر متفق عليه بين الناس جميعا متدينين وغير متدينين.. فإذا اختلفتم في أن الذكورة والأنوثة يجب أن يتحدا في العمل والحركة والنوع نقول لكم : لا، هذا أمر متفق عليه في الزمن، فخذوا ما اتفقتم عليه دليلا على صحة ما اختلفتم فيه. ولذلك ضرب الله المثل فقال :﴿ والليل إذا يغشى١ ﴾ ( سورة الليل ).
فعندما يغشى الليل يأتي السكون. وقال الحق بعد ذلك :
﴿ والنهار إذا تجلى ٢ ﴾ ( سورة الليل ).
وعندما تبزغ الشمس تدب الحركة، ثم جاء بالشيء المختلف فيه، فأتبع سبحانه ذلك بقوله :
﴿ وما خلق الذكر والأنثى ٣ إن سعيكم لشتى ٤ ﴾ ( سورة الليل ).
أي أن لكل جنس مهمة.
وهكذا نعرف أن الإنسان ينقسم إلى نوعين : الذكورة والأنوثة وفيهما عمل مشترك وخاصية مشتركة. وأن كلا منهما إنسان له كرامة الإنسان وله حرية العقيدة فلا يوجد رجل يرغم امرأة على عقيدة، وضربنا المثل بامرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون.
إذن فالقدر المشترك هو حرية الاعتقاد، فلا سلطان لنوع على نوع، وكذلك حرية التعقل في المهمات، وعرفنا كيف أن أم سلمة رضي الله عنها أشارت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية إشارة أنقذت المسلمين من انقسام فظيع أمام حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا قصة بلقيس ملكة سبأ التي استطاعت أن تبرم أمرا تخلى عنه الرجال، إذن فمن الممكن أن يكون للمرأة تعقل وأن يكون للمرأة فكر، وحتى قبل أن يوجد الإسلام كانت هناك نساء لهن أصالة الرأي، وحكمة المشورة في نوع مهمتها.
فمثلا يحدثنا التاريخ أن ملك " كندة " سمع عن جمال امرأة اسمها " أم إياس " بنت عوف بن محل الشيباني، فأراد أن يتزوجها، فدعا امرأة من " كنده " يقال لها : " عصام " وكانت ذات أدب وبيان وعقل ولسان، وقال لها : اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف. أي أرسلها خاطبة. فلما ذهبت إلى والدة " أم إياس " واسمها " أمامة بنت الحارث " وأعلمتها بما جاءت له. وأرسلت الأم تستدعي الابنة من خيمتها، وقالت لها : هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض شأنك فلا تستري عنها شيئا أرادت النظر إليه من وجه وخلق وناطقيها فيما استنطقتك به. فلما اختلت " عصام " بالبنت فعلت مثل ما أمرتها أمها. وكشفت للخاطبة " عصام " عن كل ما تريد من محاسنها، فقالت الخاطبة كلمتها المشهورة :" ترك الخداع ما انكشف القناع "، وصار هذا القول مثلا، أي أن القناع عندما يزول يرى الإنسان الحقيقة، وعادت الخاطبة " عصام " إلى الملك فسألها : ما وراءك يا " عصام " إنه يسأل : أي خبر جئت به من عند " ام إياس " ؟. فقالت : أبدي المخض عن الزبد. والمخض هو : هز الحليب في القربة ليفصل الزبد عن اللبن. وذلك يعني أن رحلتها قد جاءت بنتيجة.
فقال لها : أخبريني.
قالت : أخبرك حقا وصدقا. ووصفتها من شعرها إلى قدمها وصفا أغرى الملك. فأرسل إلى أبيها وخطبها وزفت إليه.
وفي ليلة الزفاف نرى الأم العاقلة توصي ابنتها في ميدان عملها، في ميدان أمومتها، في ميدان أنوثتها. قالت الأم لابنتها :" أي بنية، إن النصيحة لو تركت لفضل أدب لتركت لذلك منك أي أنها كأم تثق في أدب ابنتها ولا تحتاج في هذا الأمر لنصيحة ولكنها معونة للغافل وتذكرة للعاقل. إنك غدا ستذهبين إلى بيت لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه. فكوني له أمة يكن لك عبدا. واحفظي عني عشر خصال تكن لك ذخرا ".
وانظروا إلى الخصال التي استنبطتها المرأة من ميدان رسالتها، تستمر كلمات الأم :" أما الأولى والثانية : فالمعاشرة له بالسمع والطاعة والرضا بالقناعة، وأما الثالثة والرابعة : فالتعهد لموقع عينه وموضع أنفه فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح. والخامسة والسادسة : التفقد لوقت طعامه والهدوء عند منامه فإن تنغيص النوم مغضبة، وحرارة الجوع ملهبة. أما السابعة والثامنة : فالتدبير لماله والإرعاء على حشمه وعلى عياله. وأما التاسعة والعاشرة : فألا تفشي له سرا ولا تعصي له امرا ؛ فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت امره أوغرت صدره، وإياك بعد ذلك والفرح إن كان ترحا والحزن إن كان فرحا ".
فذهبت أم إياس بهذه النصائح إلى زوجها وأنجبت له البنين والبنات وسعدت معه وسعد معها.
تلك نصيحة من أم تدل على منتهى التعقل، ولكن في أي شيء ؟. في ميدان مهمتها. إذن فالمرأة يمنحها الله ويعطيها أن تتعقل ولها ميدان ولا يأتي هذا التعقل غالبا إلا في ميدانها. لأن ميدان الرجل له حركة تتطلب الحزم، وتتطلب الشدة، والمرأة حركتها تتطلب العطف والحنان ؛ والأمثال في حياتنا اليومية تؤكد ذلك، إن الرجل عندما يدخل بيته ويحب أن ينام، قد يأتي له طفله صارخا باكيا، فيثور الأب على زوجته ويسب الولد ويسب أمه، وقد يقول ألفاظا مثل :" اكتمي أنفاسه إني أريد أن أستريح ". وتأخذ الأم طفلها وتذهب تربت على كتفه وتسكته، ويستجيب لها الطفل، فهذه مهمة الأم، ولذلك نجد أن الأحداث التاريخية العصيبة تبرز الرجل في مكانه والمرأة في مكانها.
فمثلا : سيدنا إبراهيم عليه السلام أسكن هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع، قالت له : أتتركنا في مكان ليس فيه حتى الماء، أهذا نزلته برأيك أم الله أنزلك فيه ؟. قال لها : أنزلني الله هذا المكان. فقالت له : اذهب كما شئت فإنه لا يضيعنا. هذه المهمة للمرأة. هاجر مع طفل في مكان ليس فيه مقوم الحياة الأول وهو الماء. فانظروا عطفها وحنانها، ماذا فعلت ؟ لقد سعت بين الصفا والمروة، صعدت الجبل إلى أن أنهكت قواها.
إن الذي يذهب إلى الحج أو العمرة ويجرب الأشواط السبعة هذه يعرف أقصى ما يمكن أن تتحمله المرأة في سبيل ابنها ؛ لأن هذا موقف عطف وحنان، ابنها يريد أن يشرب. وكأن الله قال لها : إنك قد سعيت ولكني سأجعل رزقك من حيث لا تحتسبين، أنت سعيت بين الصفا والمروة، والماء ينبع تحت قدمي ولدك. إذن فصدقت في قولها : إنه لا يضيعنا، ولو أن سعيها جاء بالماء لظننا جميعا أن السعي هو الذي يأتي بالماء، ولكن اسع ولا تعتقد في السعي، بل اعتقد في الرزاق الأعلى، تلم مسألة ظاهرة في أمنا هاجر.
وحينما جاء موقف الابتلاء بالذبح، اختفت هاجر من المسرح، وجاء دور سيدنا إبراهيم بحزمه وعزمه ونبوته. ورأى في الرؤيا انه يذبح ابنه، أين أمه في هذا ؟ اختفت من المسرح ؛ لأن هذا موقف لا يتفق مع عواطفها وحنانها. إذن فكل واحد منهما له مهمة. والنجاح يكون على قدر هذه المهمة. ولذلك يقول الحق :﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ فساعة ترى جنسا أخذ شيئا وجنسا آخراخذ شيئا اياك ان تشغل بالك وتتمنى وتقول اريد هذه ولكن اسال الله من فضله ؛ لأن كلمة " ولا تتمنوا " هي نهي عن أن تتمنى ما فضل الله به بعضا على بعض، ولذلك يقول :﴿ واسألوا الله من فضله ﴾. وما دمت تسأل الله من فضله ؛ فهنا أمل أن يعطيك.
وقد يرى البعض هنا مشكلة فيتساءل : كيف ينهانا الله عن ان نتمنى ما فضل الله به بعضنا على بعض فقال :﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ مع ان فضل الله من شأنه ان يفضل بعضنا على بعض بدليل قوله :﴿ ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ﴾ فضلا على أنني اطمع في ان أسأل الله ليعطيني ؛ لأنه سبحانه ما أمرنا بالسؤال إلا ليعطينا.
ونقول : لا، التمني عادة أن تطلب شيئا يستحيل أو لم تجر به العادة، إنما السؤال والدعاء هو مجال أن تأتي إلى شيء تستطيع الحصول عليه، فأوضح : لا تذهب إلى منطقة التمني، ولذلك ضربوا المثل للتمني ببيت الشاعر :
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب.
تمنى الشاعر أن يعود الشباب يوما فهل هذا يتأتى ؟ إنه لا يتأتى. أو أن يقول قائل : ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها، هل يمكن أن يحدث ذلك ؟ لا. ولكن هذا القول يدل على أن هذا الشيء محبوب وإن كان لم تجر به العادة، أو هو مستحيل، إذن فالسؤال يجب أن يكون في حدود الممكن بالنسبة لك. والحق يوضح : لا تنظروا على ما فضل الله به بعضكم على بعض. وما دام الله قد فضل بعضا على بعض فليسأل الإنسان لا في منطقة ما فضل الله غيره عليه ويطلبه لنفسه ويسلبه من سواه، ولكن في منطقة أن توفق في إبراز ما فضلك الله به ؛ ولذلك نجد الحق في آيات التفضيل يقول :
﴿ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ﴾ ( من الآية ٧١ سورة النحل ).
وما هو الرزق ؟ هل هو نقود فقط ؟ لا. بل الرزق هو كل ما ينتفع به، فالحلم رزق، والعلم رزق، والشجاعة رزق، كل هذا رزق، وقوله الحق :﴿ ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ يجعلنا نتساءل : من هو المفضل ومن هو المفضل عليه ؟ لأنه قال : " بعضكم ". لم يبينها لنا، إذن فبعض مفضل وبعض مفضل عليه.
وسؤال آخر : وأي بعض مفضل وأي بعض مفضل عليه ؟ إن كل إنسان هو فاضل في شيء ومفضول عليه في ش
﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ٣٣ ﴾.
وساعة ترى لفظة " لكل " وتجدها منونة، فاعرف أن هناك حاجة مقدرة، وأصلها " لكل إنسان "، وحذف الاسم وجاء بدلا منه التنوين، مثل قوله :
﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم ٨٣ وأنتم حينئذ تنظرون ٨٤ ﴾ ( سورة الواقعة ).
ونجد التنوين في " حينئذ " أي حين بلغت الروح الحلقوم، فحذف حين بلغت الروح الحلقوم وعوض عنها التنوين في " حينئذ " إذن فالتنوين جاء بدلا من المحذوف.
وقول الحق :﴿ ولكل جعلنا موالي ﴾، و " الموالي " جمع " مولى ". وقبل أن تنزل آيات الميراث، آخى النبي بين الأنصار والمهاجرين، فكانوا يتوارثون بهذه المؤاخاة، وكان هناك شيء اسمه " مولى المناصرة " وهو أن يستريح اثنان لبعضهما ويقول كل منهما للآخر : أنا أخوك وأنت أخي، حربي حربك، وسلمي سلمك، ودمي دمك، وترث مني وأرث منك، وتعقل عني وأعقل عنك، أي إن فعلت جناية تدفع عني، وإن فعلت أنت جناية أدفع عنك. مؤاخاة.
هؤلاء كان لهم نصيب في مال المتوفى، فالحق يبين : لكل إنسان من الرجال والنساء جعلنا ورثة مما ترك الوالدان، والأقربون.. أي لهم نصيب من ذلك ولأولياء المناصرة بعض من الميراث كذلك فإياكم أن تأتوا أنتم وتقولوا : لا، لا بد أن تعطوهم نصيبهم الذي كان مشروطا لهم وهو السدس.
لكن أظل ذلك الحكم ؟ لا. لقد نسخ وأنزل الله قوله :
﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ٧٥ ﴾ ( من الآية ٧٥ سورة الأنفال ).
فمادام الله قد قال :﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ﴾. أي ولكل إنسان من الموالي شيء من آثار ما ترك الوالدان والأقربون. فإياكم أن تقولوا : هم ذهبوا فلا نعطيهم شيئا، لا ما كانوا متفقين فيه وعقدوا أيمانهم عليه آتوهم نصيبهم مصداقا لقوله الحق :﴿ فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ﴾ فالله شهيد على هذه. وشهيد على أنكم تنفذون أو لا تنفذون.
﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾، أول ما نلتفت إليه أن بعضهم لم يفسروا الآية إلا على الرجل وزوجته على الرغم من أن الآية تكلمت عن مطلق رجال ومطلق نساء، فليست الآية مقصورة على الرجل وزوجه، فالأب قوام على البنات، والأخ على أخواته. ولنفهم أولا " الرجال قوامون " وماذا تعني ؟ وننظر أهذه تعطي النساء التفوق والمركز أم تعطيهن التعب. والحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم قضية كونية، فهو الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه وأوضح القضية الإيمانية " الرجال قوامون على النساء " والذي يخالف فيها عليه أن يوضح إن وجد ما يؤدي إلى المخالفة، والمرأة التي تخاف من هذه الآية، نجد أنها لو لم ترزق بولد ذكر لغضبت، وإذا سألناها : لماذا إذن ؟ تقول : أريد ابنا ليحمينا. كيف وأنت تعارضين في هذا الأمر ؟.
ولنفهم ما معنى " قوام "، القوام هو المبالغ في القيام. وجاء الحق هنا بالقيام الذي فيه تعب، وعندما تقول : فلان يقوم على القوم ؛ أي لا يرتاح أبدا. إذن فلماذا تأخذ " قوامون على النساء " على أنه كتم أنفاس ؟ لماذا لا تأخذها على أنه سعي في مصالحهن ؟ فالرجل مكلف بمهمة القيام على النساء، أي أن يقوم بأداء ما يصلح الأمر. ونجد أن الحق جاء بكلمة " الرجال " على عمومها، وكلمة " النساء " على عمومها، وشيء واحد تكلم فيه بعد ذلك في قوله :﴿ بما فضل الله بعضهم على بعض ﴾ فما وجد التفضيل ؟.
إن وجه التفضيل أن الرجل له الكدح وله الضرب في الأرض وله السعي على المعاش، وذلك حتى يكفل للمرأة سبل الحياة اللائقة عندما يقوم برعايتها. وفي قصة آدم عليه السلام لنا المثل، حين حذر الحق سبحانه آدم وزوجته من الشيطان، إبليس الذي دعي إلى السجود مع الملائكة لآدم فأبى، وبذلك عرفنا العداوة المسبقة من إبليس لآدم، وحيثيتها :
﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا ﴾ ( من الآية ٦١ سورة الإسراء ).
وأوضح الحق لآدم : إذا هبطت إلى الأرض فاذكر هذه العداوة. وأعلم أنه لن يتركك، وسيظل يغويك ويغريك ؛ ؟ لأنه لا يريد أن يكون عاصيا بمفرده، بل يريد أن يضم إليه آخرين من الجنس الذي أبى أن يسجد هو لأبيهم آدم يريد أن يغويهم، كما حاول إغواء آدم :
﴿ إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة ﴾ ( من الآية ١١٧ سورة طه ).
وهل قال الحق بعدها : فتشقيا او فتشقى ؟ قال سبحانه :
﴿ فتشقى ﴾ ( من الآية ١١٧ سورة طه ).
فساعة جاء الشقاء في الأرض والكفاح ستر المرأة وكان الخطاب للرجل. وهذا يدل على أن القوامة تحتاج إلى تعب، وإلى جهد، وإلى سعي، وهذه المهمة تكون للرجل.
ونلحظ أنه ساعة التفضيل قال :﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ﴾ لقد جاء ب " بعضهم " لأنه ساعة فضل الرجل لأنه قوام فضل المرأة أيضا لشيء آخر وهو كونها السكن حين يستريح عندها الرجل وتقوم بمهمتها.
ثم تأتي حيثية القوامة :﴿ وبما أنفقوا من أموالهم ﴾. والمال يأتي نتيجة الحركة ونتيجة التعب، فالذب يتعب نقول له : انت قوام، إذن فالمرأة يجب أن تفرح بذلك ؛ لأنه سبحانه أعطى المشقة وأعطى التعب للجنس المؤهل لذلك. ولكن مهمتها وإن كانت مهمة عظيمة إلا أنها تتناسب والخصلة المطلوبة أولا فيها : الرقة والحنان والعطف والوداعة. فلم يأت بمثل هذا ناحية الرجل ؛ لأن الكسب لا يريد هذه الأمور، بل يحتاج إلى القوة والعزم والشدة، فقول الله :" قوامون " يعني مبالغين في القيام على أمور النساء.
ويوضح للنساء : لا تذكرن فقط أنها حكاية زوج وزوجة. قدرن أن القيام يكون على أمر البنات والأخوات والأمهات. فلا يصح أن تأخذ " قوام " على أنها السيطرة ؛ لأن مهمة القيام جاءت للرجل بمشقة، وهي مهمة صعبة عليه أن يبالغ في القيام على أمر من يتولى شئونهن.
﴿ وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ فإذا كان الزواج متعة للأنثى وللذكر. والاثنان يستمتعان ويريدان النوع في الذرية، فما دامت المتعة مشتركة وطلب الذرية أيضا مشتركا فالتبعات التي تترتب على ذلك لم تقع على كل منهما، ولكنها جاءت على الرجل فقط... صداقا ونفقة حتى ولو كانت المراة غنية لا يفرض عليها الشرع حتى أن تقرض زوجها.
إذن فقوامة الرجال جاءت للنساء براحة ومنعت عنهن المتاعب. فلماذا تحزن المراة منها ؟ ف " الرجال قوامون على النساء " أي قائمون إقامة دائمة ؛ لأنه لا يقال قوام لمطلق قائم، فالقائم يؤدي مهمة لمرة واحدة، لكن " قوام " تعني مستمر في القوامة.
﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ وما دمنا نكدح ونتعب للمرأة فلا بد أن تكون للمرأة مهمة توازي ذلك وهي أن تكون سكنا له، وهذه فيها تفضيل أيضا.
لقد قدم الحق سبحانه وتعالى في صدر الآية مقدمة بحكم يجب أن يلتزم به ؛ لأنه حكم الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه، فأوضح القضية الإيمانية :" الرجال قوامون على النساء " ثم جاء بالحيثيات فقال :﴿ بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ ويتابع الحق :﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب ﴾ والمرأة الصالحة هي المرأة التي استقامت على المنهج الذي وضعه لها من خلقها في نوعها، فمادامت هي صالحة تكون قانتة، والقنوت هو دوام الطاعة لله، ومنه قنوت الفجر الذي نقنته، وندعو ونقف مدة أطول في الصلاة التي فيها قنوت.
والمرأة القانتة خاضعة لله، إذن فحين تكون خاضعة لله تلتزم منهج الله وأمره فيما حكم به من أن الرجال قوامون على النساء، ﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب ﴾ وحافظات للغيب تدل على سلامة العفة. فالمرأة حين يغيب عنها الراعي لها والحامي لعرضها كالأب بالنسبة للبنت والابن بالنسبة للأم، والزوج بالنسبة للزوجة، فكل امرأة في ولاية أحد لا بد أن تحفظ غيبته ؛ ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما حدد المراة الصالحة قال في حديث عن الدنيا :
" الدنيا كلهامتاع، وخير متاع الدنيا المراة الصالحة " ١.
لقد وضع صلى الله عليه وسلم قانونا للمرأة الصالحة يقول فيه :
( خير النساء التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره )٢.
وأي شيء يحتاج الرجل إليه أحسن من ذلك. وكلمة " إن نظرت إليها سرتك " إياك أن توجهها ناحية الجمال فقط، جمال المبنى، لا، فساعة تراها اجمع كل صفات الخير فيها ولا تأخذ صفة وتترك صفة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من أن نأخذ صفة في المراة ونترك صفة أخرى، بل لا بد أن نأخذها في مجموع صفاتها. فقال :
" تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " ٣.
المطلوب ألا تنظر إلى زاوية واحدة في الجمال، بل انظر إلى كل الزوايا، فلو نظرت إلى الزاوية التي تشغل الناس، الزاوية الجمالية، لوجدتها أقل الزوايا بالنسبة إلى تكوين المراة ؛ لأن عمر هذه المسألة " شهر عسل " كما يقولون وتنتهي، ثم بعد ذلك تبدو المقومات الأخرى. فإن دخلت على مقوم واحد وهي أن تكون جميلة فأنت تخدع نفسك، وتظن أنك تريدها سيدة صالون ! ونقول لك : هذه الصفة أمدها بسيط في عمر الزمن، لكن ما يبقى لك هو أن تكون أمينة، أن تكون مخلصة، أن تكون مدبرة ؛ ولذلك فالفشل ينشأ في الأسرة من أن الرجال يدخلون على الزواج بمقياس واحد هو مقياس جمال البنية، وهذا المقياس الواحد عمره قصير، يذهب بعد فترة وتهدأ شرته. وبعد ذلك تستيقظ عيون الرجل لتتطلع إلى نواحي الجمال الأخرى، فلا يجدها. فيحدث الفشل ؛ لذلك لا بد أن تأخذ مجموعة الزوايا كلها. إياك أن تأخذ زاوية واحدة، وخير الزوايا أن يكون لها دين. وكذلك المقياس بالنسبة لقبول المراة للزوج، أيضا خير الزوايا أن يكون له دين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض )٤.
وعندما استشار رجل سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : زوجها من ذي الدين، إن أحبها وأكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
إذن فالدين يرشدنا : لا بد أن ننظر إلى المسألة التي سيكون لها عمر طويل في الحياة الممتدة، وبعد ذلك إذا أرادت أن تكون ناجحة فعليها أن ترى إطار نوعيتها وتنبغ فيه، ومن الممكن إن كان عندها وقت أن توسع دائرة مهمتها في بيتها، فإذا كان عندها أولاد فعليها أن تتعلم الحياكة وتقوم بتفصيل وحياكة ملا بسها وملابس أولادها فتوفر النقود، أو تتعلم التطريز كي لا تدفع أجرة، أو تتعلم التمريض حتى إذا مرض ولدها استطاعت أن تمرضه وترعاه، أن تتعلم كي تغنى عن مدرس خصوصي يأخذ نقودا من دخل الأسرة، وإن بقي عندها وقت فلتتعلم السباكة لتوفر أجرة السباك إذا فسد صنبور ماء، أو تتعلم إصلاح الكهرباء لتصلح مفتاح الإضاءة. وتستطيع المراة أن تقوم بأي عمل وهي جالسة في بيتها وتوفر دخلا لتقابل به المهام التي لا تقدر أن تفعلها، والمرأة تكون من " حافظات الغيب " ليس بارتجال من عندها أو باختيار، بل بالمنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب ؟..
فما المنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب ؟ تحافظ على عرضها وعلى مال زوجها في غيبته، فتنظر المنافذ التي تأتي منها الفتنة وتمتنع عنها، لا تخرج إلى الشوارع إلا لحاجة ماسة أو ضرورة كي لا ترى أحدا يفتنها أو يفتن بها ؛ لأن هذه هي مقدمات الحفظ، ولا تذهب في زحمة الحياة، وبعد ذلك نقول لها :" حافظي على الغيب " بل عليها أن تنظر ما بينه الله في ذلك. فإن اضطررت ان تخرجي فلتغضي البصر ؛ ولذلك قال سبحانه :
﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾ ( من الآية ٣١ سورة النور ).
فالمرأة إن لم تغض النظر يحدث التفات عاطفي ؛ لأن كل شعور في الإنسان له ثلاث مراحل : مرحلة أن يدرك، ومرحلة أن يجد في نفسه، ومرحلة أن ينزع، أي يحول الأمر إلى سلوك، ونضرب دائما المثل بالوردة. وأنت تسير ترى وردة في بستان وبمجرد رؤيتك لها فهذا إدراك، وإذا أعجبتك الوردة وعشقتها وأحببتها فهذا اسمه وجدان. وإذا اتجهت لتقطفها فهذه عملية نزوعية، فكم مرحلة ؟ ثلاث مراحل :
إدراك، فوجدان. فنزوع.
ومتى يتدخل الشرع ؟ الشرع يتدخل في عملية النزوع دائما. يقول لك : أنت نظرت الوردة ولم نعترض على ذلك، أحببتها وأعجبتك فلم نقل لك شيئا، لكن ساعة جئت لتمد يدك لتأخذها قلنا لك : لا، الوردة ليست لك.
إذن فأنت حر في أن تدرك، وحر في أن تجد في نفسك، إنما ساعة تنزع نقول لك : لا، هي ليست لك، وإن أعجبتك فازرع لك وردة في البيت، أو استأذن صاحبها مثلا.
إذن فالتشريع يتدخل في منطقة النزوع، إلا في أمر المرأة فالتشريع يتدخل من أول الإدراك ؛ لأن الذي خلقنا علم أننا إن أدركنا جمالا، نظرنا له، وستتولد عندنا مواجيد بالنسبة للأشياء التي نراها ونشتهيها، وساعة يوجد إدراك واشتهاء، لا يمكن أن ينفصل هذا عن النزوع ؛ لأنك كرجل مركب تركيبا كيميائيا بحيث إذ أدركت جمالا ثم حدث لك وجدان واشتهاء، فالاشتهاء لا يهدأ إلا بنزوع، فيبين لك الشرع : أنا رحمتك من أول الأمر، وتدخلت من اول المسألة. وكل شيء أتدخل فيه عند النزوع إلا المرأة فقد ت
٢ رواه أحمد والنسائي والحاكم..
٣ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة..
٤ رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة..
ويتأكد هذا المعنى في آية أخرى :
﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ ( من الآية ١٨٧ سورةالبقرة ).
وهذا يعني أن المرأة مظروفة في الرجل والرجل مظروف فيها. فالرجل ساتر عليها وهي ساترة عليه، فإذا تعداهما الأمر، يقول الحق :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما ﴾ من الذين يخافون ؟.. أهو ولي الأمر أم القرابة القريبة من أولياء أمورها وأموره ؟ أي الناس الذين يهمهم هذه المسألة.
﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ﴾ إنهم البيئة والمجال العائلي، إذن فلا ندع المسائل إلى أن يحدث الشقاق، كان الإسلام والقرآن ينبهنا إلى أن كل أناس في محيط الأسرة يجب أن يكونوا يقظين إلى الحالات النفسية التي تعترض هذه الأسرة، سواء أكان أبا أم أخا أم قريبا عليه أن يكون متنبها لأحوال الأسرة ولا يترك الأمور حتى يحدث الشقاق بدليل أنه قال :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما ﴾.. فالشقاق لم يحدث، ويجب ألا تترك المسالة إلى أن يحدث الشقاق، ﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا ﴾ وهذا القول هو لولي الأمر العام أيضا إذا كانت عيونه يقظة إلى أنه يشرف على علاقات كل البيوت، ولكن هذا أمر غير وارد في ضوء مسئوليات ولي الأمر في العصر الحديث. إذن فلا بد أن الذي سيتيسر له تطبيق هذا الأمر هم البارزون من الأهل هنا وهناك، وعلى كل من لهم وجاهة في الأسرة أن يلاحظوا الخط البياني للأسرة، يقولون : نرى كذا وكذا.
ونأخذ حكما من هنا وحكما من هناك وننظر المسالة التي ستؤدي إلى عاصفة قبل أن تحدث العاصفة ؛ فالمصلحة انتقلت من الزوجين إلى واحد من أهل الزوج وواحد من أهل الزوجة، فهؤلاء ليس بينهما مسألة ظاهرة بأدلتها، ولم تتبلور المشكلة بعد، وليس في صدر أي منهما حكم مسبق، ويجوز أن يكون بين الزوجين أشياء، إنما الحكم من أهل الزوج والحكم من أهل الزوجة ليس في صدر أي منهما شيء، ومادام الاثنان ستوكل إليهما مهمة الحكم. فلا بد أن يتفقا على ما يحدث بحيث إذا رأى الاثنان أنه لا يصلح إلا بأن تطلق، فهما يحكمان بالطلاق، والناس قد تفهم أن الحكم هم أناس يصلحون بين الزوجين فإن لم يعجبهم الحكم بقي الزوجان على الشقاق، لا. فنحن نختار حكما من هنا وحكما من هناك.
إن ما يقوله الحكمان لا بد أن ننفذه، فقد حصرت هذه المسالة في الحكمين فقال :﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾.. فكأن المهمة الأساسية هي الإصلاح وعلى الحكمين أن يدخلا بنية الإصلاح، فإن لم يوفق الله بينهما فكان الحكمين قد دخلا بألا يصلحا.
إن على كل حكم أن يخاف على نفسه ويحاول أن يخلص في سبيل الوصول إلى الإصلاح ؛ لأنه إن لم يخلص فستنتقل المسالة إلى فضيحة له. فالذي خلق الجميع : الزوج والزوجة والحكم من أهل الزوج والحكم من أهل الزوجة قال :﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾ فليذهب الاثنان تحت هذه القضية، ويصرا بإخلاص على التوفيق بينهما ؛ لأن الله حين يطلق قضية كونية، فكل واحد يسوس نفسه وحركته في دائرة هذه القضية. وحين يطلق الله قضية عامة فهو العليم الخبير، ومثال ذلك قوله :
﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ١٧٣ ﴾ ( سورة الصافات ).
إنه سبحانه قال ذلك، فليحرص كل جندي على أن يكون جنديا لله ؛ لأنه إن انهزم فسنقول له : أنت لم تكن جنديا لله، فيخاف من هذه. إذن فوضع القضية الكونية في إطار عقدي كي يجند الإنسان كل ملكاته في إنجاح المهمة، وعندما يقول الله :﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾، فإياك أن تغتر بحزم الحكمين، وبذكاء الحكمين، فهذه أسباب. ونؤكد دائما : إياك أن تغتر بالأسباب ؛ لأن كل شيء من المسبب الأعلى، ولنلحظ دقة القول الحكيم :﴿ يوفق الله بينهما ﴾. فسبحانه لم يقل : إن يريدا إصلاحا يوفقا بينهما. بل احتفظ سبحانه لنفسه بفضل التوفيق بين الزوجين.
ويذيل سبحانه الآية :﴿ إن الله كان عليما خبيرا ﴾ أي بأحوال الزوج، وبأحوال الزوجة، وبأحوال الحكم من أهله، وبأحوال الحكم من أهلها، فهم محوطون بعلمه. وعلى كل واحد أن يحرص على تصرفه ؛ لأنه مسئول عن كل حركة من الحركات التي تكتنف هذه القضية ؛ فربنا عليم وخبير.
وما الفرق بين " عليم " و " خبير " ؟.. فالعلم قد تأخذه من علم غيرك إنما الخبرة فهي لذاتك.
﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ٣٦ ﴾.
وعندما يقول لنا الحق :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ أي : إياكم أن تدخلوا في قضية من هذه القضايا على غير طاعة الله في منهجه.. والعبادة هي : طاعة العابد للمعبود، فلا تأخذها على أنها العبادات التي نفعلها فقط من : الصلاة والصوم والزكاة والحج ؛ لأن هذه أركان الإسلام، ومادامت هذه هي الاركان والأسس التي بني عليها الإسلام، إذن فالإسلام لا يتكون من الأركان فقط بل الأركان هي الأسس التي بني عليها الإسلام، والأسس التي بني عليها البيت ليست هي كل البيت ؛ لذلك فالإسلام بنيان متعدد. فالذين يحاولون أن يأخذوا من المصطلح التصنيفي، أو المصطلح الفني في العلوم ويقولون : إن العبادات هي الصلاة وما يتعلق بها والزكاة والصوم والحج لانها تسمى في كتب الفقه :" العبادات " فلقد قلنا : إن هذا هو الاسم الاصطلاحي، لكن كل أمر من الله هو العبادة.
ولذلك فبعض الناس يقول : نعبد الله ولا نعمل. نقول لهم : العبادة هي طاعة عابد لأمر معبود، ولا تفهموا العبارة على أساس أنها الشعائر فقط، فالشعائر هي إعلان استدامة الولاء لله. وتعطى شحنة لنستقبل أحداث الحياة، و لكن الشعائر وحدها ليست كل العبادة، فالمعاملات عبادة، والمفهوم الحقيقي للعبادة أنها تشمل عمارة الأرض، فالحق سبحانه وتعالى قال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ﴾ ( من الآية ٩ سورة الجمعة ).
كأنه أخرجهم من البيع إلى الصلاة، ولم يخرجهم من فراغ بل أخرجهم من حركة البيع، وجاء ب " البيع " لأنه العملية التي يأتي ربحها مباشرة ؛ لأنك عندما تزرع زرعاستنتظر مدة تطول او تقصر لتخرج الثمار لكن البيع تاتي ثمرته مباشرة تبيع فتأخذ الربح في الحال. والبيع كما نعلم ينظم كل حركات الحياة، لأن معنى البيع : انه وسيط بين منتج ومستهلك، فعندما تبيع سلعة، هذه السلعة جاءت من منتج، والمنتج يبحث عن وسيط يبيعها لمستهلك، وهذا المستهلك تجده منتجا أيضا، والمنتج تجده أيضا مستهلكا. فالإنتاج والاستهلاك تبادل وحركة الحياة كلها في البيع وفي الشراء، ومادام هناك بيع ففيه شراء. فهذا استمرار لحركة الحياة. والبائع دائما يحب أن يبيع، لكن المشتري قد لا يحب أن يشتري ؛ لأن المشتري سيدفع مالا والبائع يكسب مالا، فيوضح الله : أتركوا هذه العملية التي يأتي ربحها مباشرة، ولبوا النداء لصلاة الجمعة. لكن ماذا بعد الصلاة ؟ يقول الحق :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ١٠ ﴾ ( سورة الجمعة ).
إذن فهذا أمر أيضا. فإن اطعنا الأمر الأول :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ فالأمر في﴿ فانتشروا في الأرض ﴾ يستوجب الطاعة كذلك. إذن فكل هذه عبادة، وتكون حركة الحياة كلها عبادة : إن كانت صلاة فهي عبادة، والصوم عبادة، وبعد ذلك.. ألا تحتاج الصلاة لقوام حياة ؟ لا بد أن تتوافر لك مقومات حياة حتى تصلي. وما هي مقومات حياتك ؟ إنها طعام وشراب ومسكن وملبس، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذن فجماع حركة الحياة كلها سلسلة عبادة، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها ﴾ ( من الآية ٦١ سورة هود ).
إذن فكل عمل يؤدي إلى عمارة الكون واستنباط أسرار الله في الوجود يعتبر عبادة لله ؛ لأنك تخرج من كنوز الله التي أودعها في الأرض ما يلفت الناس إلى الحقيقة الكونية التي جاء بها الإيمان.
وإياك أن تظن أن العبادة هي فقط العبادة التصنيفية التي في الفقه " قسم العبادات " و " قسم المعاملات ".. لا، فكله عبادة، لكن الحركات الحياتية الأخرى لا تظهر فيها العبادة مباشرة ؛ لأنك تعمل لنفعك، أما في الصلاة فأنت تقتطع من وقتك، فسميناها العبادة الصحيحة ؛ لأن العمليات الأخرى يعمل مثلها من لم يؤمن بإله، فهو أيضا يخرج للحياة ويزرع ويصنع.
ولماذا سموها العبادات ؟ لأن مثلها لا يأتي من غير متدين. إنما الأعمال الأخرى من عمارة الكون والمصلحة الدنيوية فغير المتدين يفعلها ولكن كل أمر لله نطيعه فيه اسمه عبادة. هذا مفهوم العبادة الذي يجب أن يتأكد لنا أن نخلص العمل بالعقول التي خلقها الله لنا بالطاقات المخلوقة لنا، في المادة المخلوقة وهي الأرض وعناصرها لنرقى بالوجود إلى مستوى يسعدنا ويرضى الله عنه.
﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾. بعدما قال كل هذا الكلام السابق، لفتنا ربنا إلى قضية يجب أن نلخظها دائما في كل تصرفاتنا هي أن نأتمر بأمر الله في منهجه، وألا نشرك به شيئا ؛ لأن الشرك يضر قضية الإنسان في الوجود، فإن كنت في عمل إياك أن تجعل الأسباب في ذهنك أمام المسبب الأعلى.. بل اقصد في كل عمل وجه الله.
ويضرب الحق المثل لراحة الموحد ولتعب المشرك فقال :
﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ٢٩ ﴾ ( سورة الزمر ).
فهذا عبد مملوك لجماعة، والجماعة مختلفة ومتشاكسة، وهو لا يعرف كيف يوفق بين أوامر كل منهم التي تتضارب، فإن أرضي هذا، وأغضب ذاك. إذن فهو عبد مبدد الطاقة موزع الجهد، مقسم الالتفاتات، ولكن العبد المملوك لواحد، لا يتلقى أمرا إلا من سيد واحد ونهيا من السيد نفسه. والحق يشرع القضية لعباده بصيغة الاستفهام، وهو العليم بكل شيء ليجعل المؤمن به يشاركه في الجواب حتى إذا ما قال الحق :" هل يستويان " ؟ هنا يعرضها الإنسان على عقله ويريد أن يجيب، فماذا يقول ؟ سيجيب بطبيعة الفطرة وطبيعة منطق الحق قائلا : لا يا رب لا يستويان.
إذن فأنت أيها العبد المؤمن قد قلتها، ولم يفرضها الله عليك. وقد طرحها الحق سبحانه سؤالا منه إليك ؛ حتى يكون جوابك الذي لن تجد جوابا سواه. فإذا ما كنت كذلك أيها العبد المؤمن قد ارتحت في الوجود وتوافرت لك طاقتك لأمر واحد ونهي واحد، هنا تصبح سيدا في الكون، فلا تجد في الكون من يأخذ منك عبوديتك للمكون. وتلك هي راحتنا في تنفيذ قول الله :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ لأن الإشراك بالله والعياذ بالله يرهق صاحبه. ويا ليت المشركين حين يشركون يأخذون عون الله، ولا يأخذون عون الشركاء. لكن الله يتخلى عن العبد المشرك، لأنه سبحانه يقول :
( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )١.
الحق إذن يتخلى عن العبد المشرك. وليت العبد المشرك يأخذ حظه من الله كشريك.. وإنما ينعدم عنه حظ الله ؛ لأن الله غني أن يشرك معه أحدا آخر. وهكذا يكون المشرك بلا رصيد إيماني، ويحيا في كد وتعب. ويردف الحق سبحانه وتعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين فيأتي قوله جل شانه :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ والوالدان هما الأب والأم ؛ لأنهما السبب المباشر في وجودك أيها المؤمن. ومادامت عبادتك لله هي فرع وجودك، إذن فإيجادك من أب وأم كسببين يجب أن يلفتك إلى السبب الأول ؛ إن ذلك يلفتك إلى من أوجد السلسلة إلى أن تصل إلى الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام.
﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾.. انظر إلى المنزلة التي أعطاها الله للوالدين، وهما الأب والام. والخطاب لك أيها المسلم لتعبد الله، والتكليف لك وأنت فرع الوجود ؛ لأن الخطاب لمكلف، والتكليف فرع الوجود، والوالدان هما السبب المباشر لوجودك، فإذا صعدت السبب فالوالدان من أين جاءا ؟.. من والدين، وهكذا حتى تصل لله، إذن فانتهت المسألة إلى الواحد ؛ لأن التكليف من المكلف إلى المكلف فرع الوجود. والوجود له سبب ظاهري هما " الوالدان "، وعندما تسلسلها تصل لله إنه سبحانه أمر : اعبدني ولا تشرك بي شيئا، وبعد ذلك.. ﴿ بالوالدين إحسانا ﴾.. كلمة " الإحسان " تدل على المبالغة في العطاء الزائد.. الذي نسميه مقام الإحسان.
﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾.. الحق سبحانه وتعالى حينما قرن الوالدين بعبادته ؛ لأنه إله واحد ولا نشرك به شيئا، لم ينكر أو يتعرض لإيمانهما أو كفرهما ؛ لأن هناك آية أخرى يقول فيها :
﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة لقمان ).
صحيح لا تطعهما ولكن احترمهما ؛ لأنهما السبب المباشر في الوجود وإن كان هذا السبب مخالفا لمن أنشأه وأوجده وهو الله جلت قدرته، ﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ والمعروف يصنعه الإنسان فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، إياك أن يكون قلبك متعلقا بهما إن كانا مشركين، لكن صاحبهما في الدنيا معروفا ؛ ولذلك قال :" وصاحبهما في الدنيا " أي انظر مصلحتهما في أمور الدنيا معروفا منك. والمعروف تصنعه فيمن تحب وفيمن لا تحب. والحق يقول :" وبالوالدين إحسانا ".. ويكررها في آيات متعددة.. فقد سبق في سورة البقرة ان قال لنا :
﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ﴾ ( من الآية ٨٣ سورة البقرة ).
وبعد ذلك تأتي هذه الآية التي نحن بصددها.. ﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ﴾.
وبعد ذلك يأتي أيضا قوله سبحانه :
﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة الأنعام ).
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
ويأتي أيضا في سورة العنكبوت فيقول :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ﴾ ( من الآية ٨ سورة العنكبوت ).
لكن إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، فإن كان الوالدان مشركين فلا بد أن نعطف عليهما معروفا.. والمعروف كما أوضحنا يكون لمن تحب ومن لا تحب، ولكن الممنوع هو : الودادة القلبية ؛ ولذلك قال :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة المجادلة ).
ولا يوجد تناقض أو شبه تناقض بين الآية التي نحن بصددها وبين آية سورة المجادلة. وهناك آيات تكلم فيها الحق وقرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين، وهناك آيتان جاء الأمر فيهما بالتوصية بالوالدين استقلالا.
وذلك في قوله تعالى :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا ﴾ ( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
وفي قوله سبحانه :
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ﴾ ( من الآية ٨ سورة العنكبوت ).
ففيه " إحسان "، وفيه " حسن "، " الإحسان " : هو أن تفعل فوق ما كلفك الله مستشعرا أنه يراك. فإن لم تكن تراه فإنه يراك، و " الإحسان " من " أحسن "، فيكون معناها أنه ارتضى التكليف وزاد على ما كلفه. وعندما يزيد الإنسان على ما
﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتد نا للكافرين عذابا مهينا ٣٧ ﴾.
وما معنى البخل ؟ إنه مشقة الإعطاء. فعندما يقطع حاجة من خاصة ماله ليعطيها لغيره يجد في ذلك مشقة ولا يقبل عليها، لكن الكريم عنده بسط يد، وأريحية. ويرتاح للمعروف، إذن فالبخل معناه مشقة الإعطاء، وقد يتعدى البخل ويتجاوز الحد بضن الشخص بالشيء الذي لا يضر بذله ولا ينفع منعه ؛ لأنه لا يريد أن يعطى. وهذا البخل والشح يكون في نفس البخيل ؛ لأنه أولا قد بخل على نفسه، فإذا كان قد بخل على نفسه، أتريد أن يجود على الناس ؟.
والشاعر يصور بخيلا اسمه " عيسى " ويريد أن يذمه ؛ لأنه بخيل جدا ؛ ويظهر صورة البخل بأنه ليس على الناس فقط بل على نفسه أيضا، فيما لا يضر بذله ولا ينفعه منعه. ومادام يقتر على نفسه فسيكون تقتيره على غيره أمرا متوقعا :
يقتر عيسى على نفسه **** وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره **** تنفس من منخر واحد
إنه بخيل لدرجة انه يفكر لو استطاع أن يتنفس من فتحة أنف واحدة لفعل ؛ حتى لا يتنفس بفتحتي أنفه.
والشاعر الآخر يأتي بصورة أيضا توضح كيف يمنع البخيل نفسه من الأريحية والإنسانية فيقول :
لو أن بيتك يا بن عم محمد **** إبر يضيق بها فضاء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة **** ليخيط قد قميصه لم تفعل
فالشاعر يصور أن سيدنا يوسف لو جاء إلى هذا البخيل وقال له : أعطني إبرة لكي أخيط قد القميص الذي مزقته زليخاء، وهذا البخيل عنده بيت يمتلئ فناؤه بالإبر، لضن البخيل ورفض.
إذن فالبخيل : هو من يضيق بالإعطاء، حتى أنه يضيق بإعطاء شيء لا يضر أن يبذله ولا ينفعه أن يمنعه، ويقول الحق عن البخلاء :
﴿ ولايحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير ١٨٠ ﴾ ( سورة آل عمران ).
فالحق يجعل للبخيل مما بخل به طوقا حول عنقه، ولو أن البخيل قد بذل قليلا، لكان الطوق خفيفا حول رقبته يوم القيامة. لكن البخيل كلما منع نفسه من العطاء ازداد الطوق ثقلا.
ولقد قال الحق أيضا عن الذين يكنزون الذهب والفضة :
﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ٣٤ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ٣٥ ﴾ ( جزء من الآية ٣٤ والآية ٣٥ سورة التوبة ).
فإن كان اكتنازهم لكميات كبيرة فما سيحمى على النار منها يكون كثيرا، ويكوون به. إذن فالإنسان لا بد أن يخفف عن نفسه الكي، والذين يبخلون لا يكتفون بهذه الخسيسة الخلقية في نفوسهم بل يحبون أن تتعدى إلى سواهم كأنهم عشقوا البخل، ويؤلمهم أن يروا إنسانا جوادا ؛ يقول لك البخيل : لا تنفق ؛ لأنه يتألم حين يرى إنسانا جوادا، ويريد أن يكون الناس كلهم بخلاء ؛ كي لا يكون أحد أحسن منه.
إنه يعرف أن الكرم أحسن، بدليل أنه يريد أن يكون الناس كلهم بخلاء، والبخل : ضن بما أوتيته على من لم يؤت. وهل البخل يكون في المال فقط ؟. لا، بل يكون في كل موهبة أوتيتها وتنقص عند غيرك ويفتقر إليها، إن ضننت بها فأنت داخل في البخل.
إن الذي يبخل بقدرته على معونة العاجز عن القدرة، والذي يبخل بما عنده من علم على من لا يعلم، هذا بخل، والذي يبخل على السفيه حتى بالحلم هذا بخل أيضا، فإن كانت عندك طاقة حلم فابذلها. إذن فالبخل معناه : أنك تمنع شيئا وهبه الله لك عن محتاجه، معلم مثلا عنده عشرة تلاميذ يتعلمون الصنعة، ويحاول أن يستر عنهم أسرار الصنعة ؛ يكون قد بخل.
﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ﴾ والآية معناها يتسع لكل أمر مادي أو قيمي. ونحن نأخذها أيضا في المعاني العالية، فالذين أوتوا الكتاب كانوا يعرفون صفته صلى الله عليه وسلم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلما جاءهم مصدقا لما معهم كفروا برسالته صلى الله عليه وسلم وكتموا معرفتهم به عن الناس، وكتموا معرفتهم بما جاء به من علم وهو الصادق المصدوق. وهذا بخل في القمة، وبعد ذلك استمروا يأمرون الناس بالبخل.
وأنتم تعرفون أن الأنصار كانت عندهم الأريحية الأنصارية، وساعة ذهب إليهم المهاجرون، قاسموهم المال، حتى النعمة التي غرس الله في قلب المؤمن الغيرة عليها من أن ينالها أحد حتى ولو كان كارها لها، وهي نعمة المراة ؛ لأن الرجل حتى وإن كره امرأته فهو يغار أن يأخذها أحد، ولكن الأنصار اقتسموا الزوجات، فكم من رجل كان متزوجا من أكثر من واحدة، طلق زوجة ليزوجها لمهاجر، فالحق سبحانه وتعالى يصعد أريحية الأنصار حتى أن الأنصاري يأتي بالمهاجر ويقول له : انظر إلى إحدى زوجتي أو إحدى زوجاتي فاختر ما يروقك فأطلقها وتتزوجها.
أية أريحية سامية هذه ؟ فإذا كنت ذا نعمة وأنت مؤمن فأنت تحب أن تعدى أثر نعمتك إلى غيرك، فإذا كان عندك سيارة فاخرة قد تحب أن تتصدق بها، لكن المراة، لا. لكن هذه الأريحية جاءت من الأنصار وقالوا : هؤلاء مهاجرون وتاركون أهلهم. وكان هذا ارتقاء إيمانيا في ذات الأنصار.
لقد جاء إليهم المهاجرون وفيهم شباب يمتلئون فتوة، وكانت قريش قد منعت أهليهم عنهم، ليس معهم زوجات. فيقول الأنصاري : لماذا لا أطلق إحدى زوجاتي، و ليتزوجها أخي المهاجر لأنفس عن عواطفه. وأقل ما فيها أن أمنع نظره أن يتحول حراما. لكن اليهود والمشركين والمنافقين يقولون لهم : لا تنفقوا على من عند رسول الله. ويقول القرآن الكريم في هذا الموقف :
﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ٧ ﴾ ( سورة المنافقون ).
لقد اخطئوا الظن بمن آمنوا برسول الله، وظنوا انهم إن لم ينفقوا عليهم فسيرتدون عن إيمانهم. ونسوا أن المؤمنين المهاجرين قد تركوا أموالهم وتركوا بلادهم، فمن ترك أمواله للهجرة في سبيل الله أيكفر به عندما لا يجد شيئا ؟ لا ؛ لأنه ترك كل شيء في سبيل الله. وها هو ذا سيدنا مصعب بن عمير المدلل في قريش، وكانت أمه تغدق عليه النعمة وصاحب العطور، وبعد ذلك يذهب إلى المدينة، فيلبس جلد شاة، فينظر له النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لأصحابه : انظروا كيف صنع الإيمان بصاحبكم، فعندما يقول المنافقون كعبد الله بن أبي للأنصار : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، يظنون أن المؤمنين يمكن أن يبيعوا إيمانهم بلقمة وكأنهم نسوا أن الذي يبيع إيمانه باللقمة هو من يحمل على مبدأ باطل، لكن من يعتنق ويعتقد مبدأ حق يجد حلاوته في النفس، وأجره مدخر عند ربه. إنه لا يتحول عنه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
( فجئت المسجد، فطلع علينا مصعب بن عمير في بردة له مرقوعة بفروه، وكان أنعم غلام بمكة وأرفه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما كان فيه من النعيم، ورأى حاله التي هو عليها فذرفت عيناه عليه، ثم قال : أنتم اليوم خير أم إذا غدى على أحدكم بجفنة من خبز ولحم ؟ فقلنا : نحن يومئذ خير نكفى المؤنة ونتفرغ للعبادة، فقال : " بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ " ١.
وقلنا : يجب أن تذكروا جيدا أن من حلاوة اليقين وحلاوة الإيمان أن المؤمن يضحي بكل شيء في سبيل رفعة الإيمان. لكن أصحاب المبادئ الباطلة لا يدخلون غيرهم فيها إلا إن دفعوا الثمن مقدما، أي أنهم يشترونهم. فإذا رأيت مبدأ من المبادئ يشترى البشر فاعرف أنه مبدأ باطل.. ولو كان مبدأ حق لدفع الإنسان من أجل أن يدخل فيه نفيس ماله، بل ويضحي في سبيله بنفسه أيضا.
ومن عجائب مبادئ الإسلام أن رسول الله صلى اله عليه وسلم حينما أخذ العهد لنفسه في بيعة العقبة، قال له الأنصار : فإن نحن وفينا بهذا فماذا يكون لنا ؟ كأنهم يقولون : أنت أخذت مالك فماذا لنا ؟..
انظروا إلى سمو الإيمان، ويقين المصطفى بأن الإيمان نفسه جائزة، فهل بشرهم بأنهم سيملكون الأرض ؟ هل بشر هم بأن هؤلاء المستضعفين هم الذين سيمكنون فيها ؟ لا، بل قال لهم : لكم الجنة. فلو قال لهم : لكم سيادة الدنيا، لكان في ذلك نظر، صحيح أن الدنيا دانت وخضعت لهم، لكن منهم من مات قبل أن تدنو له الدنيا وتذل، فأين صدق النبوءة ؟.
إذن فقد قال لهم عن الشيء المضمون، الشيء الذي يجد المؤمن فيه نفسه من فور أن يموت. قال لهم : لكم الجنة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه : " تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله ان شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه " ٢.
لم يغرهم بأنهم سيكونون أصحاب سلطان، ولم يقل لهم : أنتم ستجلسون على البسط والدنيا ستدين لكم، إنما قال لهم في أول البيعة : لكم الجنة، فإياكم أن يطمع أحد منكم في شيء إلا في الجنة ؛ ولذلك فالأنصار محبوبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت غزوة حنين وأعطى المهاجرون بعضا من الغنائم ولم يكن للأنصار منها شيء، وجد الأنصار في نفوسهم. فلفتهم رسول الله لفتة إيمانية وقال لهم :
" ألاترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا آخر لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وابناء الانصار وأبناء أبناء الأنصار " ٣.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله قسما وحظا.
أي سمو إيماني هذا ؟ لكن المنافقون قالوا للأنصار : لا تنفقوا أموالكم على من عند رسول الله حتى ينفضوا.
لكن المؤمنين لم ينفضوا. إنهم قد تركوا النعيم والأموال في مكة وجاءوا إلى الهجرة، فهم لم يأتوا ليأخذوا نعيما مظنونا محدودا قليلا، وحسبهم ما وعدوا به من نعيم متيقن عريض باق. لقد عرفوا بالإيمان أن نعيم الدنيا إما أن تفوته بالموت وإما أن يفوتك بالتقلب، لكن نعيم الآخرة ليس له حد ينتهي عنده، ولا يفوتك ولا تفوته.
ثم سبحانه يقول :﴿ ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ﴾، وساعة ترى شيئا يكتم شيئا، لا بد أن تفهم منها أن هذا الكتم معناه : منع شيء يريد أن يخرج بطبيعته، وكما يقولون : اكتم الدم فلو لم تكتمه يستطرق. كأن المال أو العلم يريد أن يخرج للناس ولكن أصحابه يكتمونه. وكان الفطرة الطبيعية في كل رزق سواء أكان رزقا ماديا أم رزقا معنويا أنه يستطرق ؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة الإنسان، فعندما يأتي انسان ويجوز شيئا مما هو مخلوق لخدمة الانسان ويحجبه فهو بذلك يمنع الشيء المكتوم من رسالته ؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة بني آدم، فعندما تعوقه عن هذه الخدمة فالشيء يحزن، وليتسع ظنكم إلى أن الجمادات تحزن أيضا.
﴿ فما بكت عليهم السماء والأرض ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الدخان ).
فالسماء والأرض لهما بكاء، وليس بكاء دموع إنما ب
٢ رواه البخاري..
٣ رواه البخاري في كتاب المغازي ورواه مسلم في كتاب الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم..
﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ٣٨ ﴾.
إن هذه الآية الكريمة تتحدث عن الذي ينفق، لكن الغاية غير واضحة عنده. الغاية ضعيفة لأنه ينفق رئاء الناس، إنه يريد بالإنفاق مراءاة الناس ؛ ولذلك يقول العارفون بفضل الله : اختر من يثمن عطاءك. فأنت عندما تعطي شيئا لإنسان فهو يثمن هذا الشيء بإمكاناته وقدراته، سواء بكلمة ثناء يقولها مثلا أو بغير ذلك، لكن العطاء لله كيف يثمنه سبحانه ؟ لا بد أن يكون الثمن غاليا.
إذن فالعاقل ينظر لمن سيعطي النعمة، ولنا الأسوة في سيدنا عثمان رضي الله عنه عندما علم التجار أن هناك تجارة آتية له، جاء كل التجار ليشتروا منه البضاعة ثم يبيعوها ليربحوا وقال لهم : جاءني أكثر من ثمنكم، وفي النهاية قال لهم : أنا بعتها لله إذن فقد تاجر سيدنا عثمان مع الله، فرفع من ثمن بضاعته، فالذي يعطي لرئاء الناس نقول له : أنت خائب ؛ لأنك ما ثمنت نعمتك، بل ألقيتها تافهة الثمن، ماذا سيفعل لك الناس ؟ هم قد يحسدونك على نعمتك ويتمنون أن يأخذوها منك، فلماذا ترائيهم ؟ إذن فهذه صفقة فاشلة خاسرة ؛ ولذلك قال الحق :
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ ( من الآية ١١١ من سورة التوبة ).
ومادام سبحانه هو الذي اشترى فلا بد أن الثمن كبير ؛ لأنه يعطي النعيم الذي ليس فيه أغيار، ففي الجنة لا تفوت النعمة مؤمنا، ولا هو يفوتها. فالذي يرائي الناس خاسر، ولا يعرف أصول التجارة ؛ لأنه لم يعرف طعم التجارة مع الله ؛ ولذلك شبه عمله في آية أخرى بقوله :
﴿ كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ﴾ ( من الآية ٢٦٤ سورة البقرة ).
و " الصفوان " هو المروة وجمعه مرو وهي حجارة بيض براقة، والمروة ناعمة وليست خشنة. لكن بها بعض من الثنايا يدخل فيها التراب ؛ ولأن المروة ناعمة جدا فقليل من الماء ولو كان رذاذا يذهب بالتراب. والذي ينفق ماله رئاء الناس هو من تتضح له قضية الإيمان ولكن لم يثبت الإيمان في قلبه بعد، فلو كنت تعلم أنك تريد أن تبيع سلعة وهناك تاجر يعطيك فيها ثمنا أغلى فلماذا تعطيها للأقل ثمنا ؟ إنك إن فعلت فقد خبت وخسرت فأوضح لك الحق : ما دمت تريد رئاء الناس إذن فأنت ليس عندك إيمان بالذي يشتري بأغلى، فتكون في عالم الاقتصاد تاجرا فاشلا، ولذلك قلنا : ليحذر كل واحد حين يعطي أن يخاف من العطاء، فالعطاء يستقبله الله بحسن الأجر، ولكن عليه ألا يعطي بضجيج ودعاية تفضح عطاءه ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :
( رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )١.
إن العبد الصالح حين يعطي فهو يعلم أن يده هي العليا ويده خير من اليد السفلى، فليستر على الناس المحتاجين سفلية أيديهم، ولا يجعلها واضحة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يضيق مجال الإعطاء فقال :
﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ٢٧١ ﴾ ( سورة البقرة ).
فإبداء الصدقات لا مانع منه إن كان من يفعل ذلك يريد أن يكون أسوة، المهم أن يخرج الرياء من القلب لحظة إعطاء الصدقة، فالحق يوضح : إياك أن تنفق وفيك رئاء، أما من يخرج الصدقة وفي قلبه رياء فالله لا يحرم المحتاجين من عطاء معط ؛ لأنه سبحانه يؤكد : خذوا منه وهو الخاسر ؛ لأنه لن يأخذ ثوابا، لكن المجتمع ينتفع.
إن الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس هم من الذين " لا يؤمنون بالله " لأنه سبحانه هو المعطي، وهو يحب أن يضع المسلم عطاءه في يده ﴿ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾فلو كانوا يؤمنون باليوم الآخر لرأوا الجزاء الباقي، فأنت إذا كنت تحب نعمتك فخذ النعمة وحاول أن تجعلها مثمرة.. أي كثيرة الثمار، فالذي لم يتصدق من ماله ولم ينفقه حتى على نفسه يكون قد أنهى مسألة المال وعمر ماله معه عند هذا الحد، أما الذي أنفقه في سبيل الله فسيجده في الآخرة، فيكون قد أطال عمر ماله.
فالبخيل هو عدو ماله ؛ لأنه لم يستطع أن يثمره، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :
( إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟.
قال : بلى يارب، قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له : كذبت وتقول الملائكة : كذبت، ويقول الله له : بل أردت أن يقال : فلان قارئ فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال...... " ٢.
لكن هل قال لك الدين : لا تفعل ؟ لا، افعل لينتفع الناس بالرغم منك.
والبخيل عندما يكثر ماله يكون قد حرم على نفسه هذا المال ثم يأتي ابن له يريد أن يستمتع بالمال، ولذلك يقال في الريف : مال الكنزي للنزهى، ولا أحد بقادر أن يخدع خالقه أبدا ! ! فسبحانه يوضح : أنا أعطيتك نعمة أنت لم تعطها لأحد، لكني سأيسر السبيل لطائع لي، إياك أن تظن أنك خدعتني عندما بخلت، فبخلك يقع عليك. إذن فأنت قد ضيقت رزقك بالبخل ولو أنفقت لأعطاك الله خيرا كثيرا﴿ وما انفقتم من شيء فهو يخلفه ﴾ لكنك تركته لورثتك وسيأخذونه ليكون رزقهم متسعا، وأيضا فإنك حين تمنع المال عن غيرك فأنت قد يسرت سبيلا لمن يبذل.
كيف ؟ لنفترض أن إنسانا كريما، وكرمه لا يدعه يتوارى من السائل، والناس لها أمل فيه. وبعد ذلك لم ينهض دخله بتبعاته، فإن كان عنده " فدانان " فهو يبيع فدانا ليفرح به على المحتاجين، وعندما يبيع الفدان سيشتريه من يكتنز، فيكون المكتنز قد يسر سبيلا للكريم، فإياك أن تظن أنك قادر على خداع من خلقك وخلق الكون وأعطاك هذه النعمة، وهذا يشبه صاحب السيئة الذي من الله عليه بالتوبة والرجوع إلى الله، إننا نقول له : إياك أن تعتقد أنك اختلست شهوة من الله أبدا. أنت اختلست شهوة ستلهبك أخيرا، وتجعلك تفعل حسنات مثلها عشرين مرة، لأنه سبحانه قد قال :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ ( من الآية ١١٤ سورة هود ).
فأنت لن تضحك على خالقك لأنه سيجعلها وراءك، فتعمل خيرا كثيرا، كذلك البخيل نقول له : ستيسر سبيلا لكريم بذال، والحق سبحانه وتعالى بين في آخر الآية السبب الذي حمله على ذلك، إن الأسباب متعددة. لكن تجمعها كلمة " شيطان "، فكل من يمنعك من سبيل الهدى هو شيطان، ابتداء من شهوات نفسك وغفلة عقلك عن المنهج، إنها قرين سوء يزين لك الفحشاء، ويزين لك الإثم، إن وراء كل هذه الأمور شيطانا يوسوس إليك، وكل هؤلاء نسميهم " شيطانا " لأن الشيطان هو من يبعدك عن المنهج، وهناك شياطين من الجن، ، وشياطين من الإنس، فالنفس حين تحدث الإنسان ألا يلتزم بالمنهج ؛ لأن التزامه بالمنهج سيفوت عليه فرصة شهوة هي شيطان. إن النفس التي ترى الشهوة العاجلة وتضيع منها شهوة آجلة لا حدود لها هي شيطان. فالشيطان إذن هو الذي جعلهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.. وهذا الشيطان وساعة يكون قرينا للإنسان، فمعنى ذلك أنه مقترن به، والقرن بكسر القاف هو من تنازله.
وكلمة " قرن " تطلق أيضا على فترة من الزمن هي مائة عام ؛ لأنها تقرن الأجيال ببعضها، فالشيطان قرين اي ملازم لصاحبه ومقترن به، فيقول الحق :﴿ ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ﴾، أي بئس هذا القرين لأنه القرين الذي لا ينفعني ولا يصدني عن مجال ضار.
ولذلك فالناس قد يحب بعضهم بعضا في الدنيا لأنهم يجتمعون على معصية. أما في الآخرة فماذا يفعلون ؟ يقول الحق :
﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ٦٧ ﴾ ( سورة الزخرف ).
لأن المتقين يعين بعضهم بعضا على الطاعة، فالواحد منهم يقول لصاحبه : كنت تعينني على الطاعة، كنت توجهني وتذكرني إن غفلت، فيزداد الحب بينهما. لكن الإنسان يلعن من أغواه وأول من نلعن يوم القيامة نلعن الشيطان، وكذلك الشيطان أول ما يتبرأ يتبرا منا ؛ ولذلك فعندما تحين المجادلة نجد الشيطان يقول لمن أغواهم وأضلهم :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ).
والسلطان هو : القوة العالية التي تجبر من دونها، فالإنسان تجبر مادته وبنيته بسلطان القهر المادي، ويقهر في اعتقاداته بالدليل والحجة. والإكراه في المادة إنما يتحكم في القالب، لكنه لا يتحكم في القلب، فقد تكون ضعيفا أمام واحد قوي ولكنك تمسك له سوطا وتقول له : اسجد لي. اخضع، فيسجد لك ويخضع. وأنت بذلك تقهر القالب، لكنك لم تقهر القلب، هذا هو السلطان المادي الذي يقهر القالب، لكن إذا جاء لك إنسان بالحجج وأقنعك، فهذا قهر إقناع، وقدرة قهر العقول بالإقناع نوع من السلطان أيضا.
إذن فالسلطان يأتي من ناحيتين : سلطان يقهر القالب، وسلطان يقهر فقه القلب، فسلطان القالب يجعلك تخضع قهرا عنك، وسلطان الحجة والبرهان يجعلك تفعل برضا منك، والشيطان يقول لمن اتبعوه : يا من جعلتموني قرينا لكم لا تفارقوني ؛ أنتم أغبياء ؛ فليس لي عليكم سلطان، وما كان لي من القوة بحيث أستطيع أن أرغمكم على أن ترتكبوا المعاصي، وما كان عندي منطق ولا حجة لكي أقنعكم أن تفعلوا المعاصي، لكنكم كنتم غافلين، أنا أشرت لكم فقط فلست أملك قوة أقهر مادتكم بها، ولا برهان عندي لأسيطر على عقولكم :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ).
إذن فالخيبة منكم انتم ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ).
ماذا يعني " بمصرخكم " ؟ إنها استغاثة واحد في أزمة لا يقدر عليها وضاقت به الأسباب، عندئذ يستنصر بغيره، فيصرخ على غيره، أي يناديهم لإنقاذه ولنجدته، فالذي يستجيب له ويأتي لإنقاذه يقال له : أزال صراخه، إذن فأصرخه يعني سارع وأجاب صرخته، والشيطان يقول : إن استنجدتم بي فلن أنجدكم وأنتم لن تنجدوني، فكل واحد منا عرف مسئوليته وقدرته. وبالنسبة للإنسان فقد قال الحق :
﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ﴾ ( من الآية ١٣ سورة الإسراء ).
فمن يتخذ الشيطان قرينا، " فساء قرينا " وكلمة " ساء " مثل كلمة " بئس " كلتاهما تستعمل لذم وتقبيح الشيء أي، فبئس أن يكون الشيطان قرينا لك ؛ لأن الشيطان أخذ على نفسه العهد أمام الله ألا يغوي من يطيعه سبحانه ويغوي من سواهم من الناس أجمعين.
وعندما تتأمل الآية، نجد أن الحق يقول :﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ﴾.
فالآية إذن تتناول لونا من الإنفاق يحبط الله ثوابه. فنفقة المرائي تتعدى إلى نفع غيره لكن لا ينتفع المرائي منها، بل تكون قد أنقصت من ماله ولم تثمر عند ربه.
والحق يلفتنا إلى أن ذلك كله راجع إلى معوقات الإيمان الذي يتطلب من الإنسان أن يكون في كل حركات حيا
٢ رواه الترمذي في الزهد، أخرجه ابن خزيمة ومسلم..
﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ٣٩ ﴾.
وقوله سبحانه : " وماذا عليهم " وأي تبعة ومشقة وضرر عليهم من الإيمان والإنفاق في سبيل الله ؟ إنه سبحانه لم يستفهم منهم عما يصيبهم من ذلك ولكنه جل شأنه يذمهم ويوبخهم ويصفهم ويصمهم بالجهل والغفلة عما ينفعهم.
فالتلميذ الذي يلعب، فيرسب تقول له : وماذا عليك لو أنك ذاكرت ؟ ! يعني أي ضرر عليك في هذا، إذن فمعنى ذلك أنها لا تقال إلا لإنسان في قدرته ان يفعل الفعل، فمثل هذا التلميذ يقدر أن يذاكر. لكننا لا نأتي لإنسان فيه صفة لا دخل له فيها كالقصر في القامة مثلا ثم نقول لك : ماذا عليك لو كنت طويلا ؟ ! هذا قول لا ينفع ولا يصح.
إذن فماذا عليك. لا تقال إلا لمن في قدرته الاختيارية أن يكون كذلك، أما من لا يكون في قدرته ألا يكون كذلك فلا تقال له. ونقول ذلك لأن طائفة الجبرية قالت : إن الذي كفر لا يقدر أن يؤمن فالكافر يظل كافرا، لكنهم لم يلفتوا إلى قول ربنا :﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ﴾ فمعنى هذا القول أن الباب مفتوح. وإلا لو كانوا ملزمين بالكفر لما قال ربنا :﴿ وماذا عليهم ﴾. وهذه الآية لا ترد فقط على مذهب الجبرية، بل تهدم مذهب الجبرية كله. فالإنسان ليس مجبرا على فعل وتنتهي المسألة، وكما يقولون : كالريشة في مهب الريح. ومثلما قال الشاعر :
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له | إياك إياك أن تبتل بالماء |
هو سبحانه كتب لماذا ؟ لأنه علم أزلا أن عبده سيختار كذا ويختار كذا. إذن فالكتابة ليست للإلزام ولكن لسبق العلم. والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير.
وحتى نوضح ذلك نقول : إن الصفات نوعان : صفة تكشف الأشياء على ماهي عليه بصرف النظر عن أن تقهر أو لا تقهر، والقدرة صفة إبراز وليست صفة انكشاف، ومثال ذلك عميد الكلية الذي يأتي فيقول لأستاذ مادة من المواد : جاءت لي مكافأة للطالب النابغ في مادة كذا، فاصنع اختبارا للطلاب حتى نعطي هذه الجائزة لمن يستحقها. فيقول أستاذ المادة : لا ضرورة للاختبار لأنني أعلمهم وأعرف مواقعهم من الجد ومواقعهم من الاجتهاد ومواقعهم من فقه العلم، فلان هو الأول وأعطه الجائزة، فلا يقتنع عميد الكلية، ويضع هو اختبارا أو يأتي بأساتذة آخرين يضعون الاختبار دون هذا الأستاذ. وبعد ذلك يفوز الطالب الذي حدده الأستاذ مسبقا بالدرجة الأولى.
أساعة أجاب الطالب عن الأسئلة التي وضعت له. أكان مع الطالب الذي فاز بالمركز الأول من يرغمه على أن يكتب المادة العلمية التي جعلته يحصل على الجائزة ؟ لا. فلماذا قال الأستاذ عنه ذلك ؟ لأنه علم بمن عنده قدرة من العلم. لقد حكم الأستاذ أولا لأنه يعلم.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فالحق سبحانه وتعالى أعطى للناس الاختيار بين البديلات، لكنه أوضح : أنا أعلم أن عبدي سيختار كذا وكذا. إذن فهذه سبق علم لا قهر قدرة. فالقدرة لها تأثير والعلم لا تأثير له ولا قهر. وقول الله هنا :﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله ﴾ فقوله :﴿ وماذا عليهم ﴾ تعني أي ضرر يلحقهم. كلمة " عليهم " دائما تكشف للإنسان ما عليه ؛ لذلك لا يقول " لهم " بل يقول : أي ضرر كان يلحقهم لو أنهم آمنوا بالله ؛ ولذلك يقول الحق :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة البقرة ).
لم يقل سبحانه : الذين يتيقنون. بل إن مجرد الظن بلقاء الله جعلهم يعملون الأعمال الصالحة، فما بالك إذا كان العبد متيقنا ؟ إن المتيقن يقوم بالعمل الصالح من باب أولى. ولذلك فهذه المسألة أخرجت " المعري " عما اتهموه به من أنه ينكر البعث، صحيح أنه في أول حياته قال :
تحطمنا الأيام حتى كأننا**** زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
فقالوا : إن قوله " لا يعاد له سبك " معناه أنه ينفي قدرة الحق على أن يبعثنا مرة ثانية، مع أنه من الممكن أن يتأول فيها، أي لا يعاد لنا سبك في حياتنا هذه، ونحن لا نرى من مات يعود مرة ثانية. ونقول كذلك : إن هذه قالها في أول حياته. ولكنه قال في آخر الأمر :
زعم المنجم والطبيب كلاهما**** لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر**** أو صح قولي فالخسار عليكما
فهو يطلب من الطبيب والمنجم أن يكفا عن إفساد العقول بالشك. وهب أنه اعتقد ألا بعث، وواحد آخر اعتقد أن فيه بعثا، نقول له : إما أن يجيء بعث فيكذب من قال : لا بعث، وإما ألا يجيء بعث، فإذا لم يجيء البعث، ما الذي ضر من آمن بالبعث ؟ وإذا جاء البعث فمن الذي خسر ؟ سيخسر من أنكره، إذن فالذي ينكر البعث ولا يكسب، ولكن من قال : إن هناك بعثا لا يخسر، وهكذا.
وقول الحق :" وماذا عليهم " إنه تساؤل عن أي ضرر كان يلحقهم " لو أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله " إن من يعطي الصدقة ويضعها في يد الله يستثمرها عند المعطي، لكن عندما يقوم بذلك رئاء الناس فهو يثمر عند من لا يعطي، وبذلك يكونون قد خسروا أموالهم وخسروا تثمير الأموال في يد الله بالثواب في الآخرة. ﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ﴾. وعلم الله متغلغل وسبحانه يعلم الخفايا. وسبحانه محيط بكل شيء علما ؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ٤٠ ﴾.
والظلم : الأصل فيه محبة الانتفاع بجهد غيره، فعندما تظلم واحدا فهذا يعني أنك تأخذ حقه، وحقه ما جاء به بجهده وعرقه، وتأخذه أنت بدون جهد ولا عرق. ويتبع هذا أن يكون الظالم قويا. لكن ماذا عن الذي يظلم إنسانا لحساب إنسان آخر ؟ إنه لم ينتفع بظلمه ولكن غيره هو الذي انتفع. وهذا شر من الأول : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( بادروا بالأعمال ستكون فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا )١.
لأنه ظلم إنسانا لنفع عبد آخر ولم يأخذ هو شيئا لنفسه.
إذن فالظلم إما أن يكون الانتفاع بثمرة جهد غيرك من غير كد، وإما أن تنفع شخصا بجهد غيره، والله سبحانه وتعالى إذا نظرنا إليه وهو قوة القوي إذا أراد أن يظلم وحاشا لله أن يظلم فماذا يكون شكل ظلمه ؟ إن الظلم يتناسب مع قوة الظالم، إذن فقوة القوي عندما تظلم فظلمها لا يطاق، ثم لماذا يظلم ؟ وماذا يريد أن يأخذ وهو من وهب ؟ إنه سبحانه مستغن، ولن يأخذ من هذا ليعطي ذاك، فكلهم بالنسبة له سواء ؛ لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، كلهم متساوون، فلماذا يظلم ؟.
إن الظلم بالنسبة لله محال عقليا ومحال منطقيا، فلا يمكن لله أن يضيع عمل حسنة ولا أن يضاعف سيئة. فهذه لا تتأتى، والله واهب كل النعم للناس جميعا. ومادام هو من وهب كل النعم، فسبحانه غير منتفع بآثاره في خلقه. إن الحق سبحانه وتعالى ينفي عن نفسه الظلم في قوله :﴿ وما ربك بظلام للعبيد ٤٦ ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة فصلت ).
فكلمة " ظلام " مثل قولنا : فلان " أكال " وفلان " نوام ". وهي تختلف عن قولنا : فلان نائم، يعني نام مرة، ولكن " نوام " فهذا يعني مداومته على النوم كثيرا، أي أنه إما أن يكون مبالغا في الحدث، وإما أن يكون مكررا للحدث، فالمبالغة كما نعرف تأتي مرة لأن الحدث واحد لكنه قوي، ومرة يكون الحدث عاديا لكنه مكرر، هذه هي المبالغة، فقوله سبحانه وتعالى :﴿ وما ربك بظلام " نفى للمبالغة، وهذا لا يقتضي نفي غير المبالغة. ونقول : الله لو ظلم لكان ظلمه مناسبا قدرته فيكون كبيرا كثيرا، ولو كان ظالما لشمل ظلمه وعم الخلق جميعا فيكون كذلك كبيرا كثيرا ولكن الله سبحانه يقول :{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾. وسبحانه يحسب السيئة سيئة واحدة. أما الحسنة فيضاعفها، ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ " مثقال " : يعني ثقل ووزن، والثقل هو : مقدار جاذبية الأرض للشيء. فعندما يكون وزن الشيء قليلا وتلقيه من أعلى، فهو ينزل ببطء، أما الشيء الثقيل فعندما تلقيه من أعلى فهو ينزل بسرعة ؛ لأن قوة الجاذبية له تكون أقوى، والإنسان منا حين ينظر إلى كلمة " مثقال " ؛ ويعبر عنها بأنها وزن، فمعيار الميزان هنا " الذرة ". وما " الذرة " ؟.
قال العلماء فيها : هي رأس النملة الصغيرة التي لا تكاد ترى بالعين المجردة، أو النملة نفسها. هذه مقولة، أو الذرة كما قال ابن عباس حين سئل عنها : أخذ شيئا من تراب الأرض ثم نفخه، فلما نفخ تطاير التراب في الهواء، فقال لهم : كل واحدة من هذه اسمها " ذرة " وهو ما نسميه " الهباء "، ونحن الآن الموجودين في مكان واحد لا نرى شيئا في الجو، لكن انظر إلى حزمة ضوئية أي ثقب تدخل منه أشعة الشمس فساعة ترى ثقبا يدخل أشعة الشمس ترى غبارا كثيرا يسبح. والمهم أنك لا تراه جاريا إلا في شعاع الشمس فقط، فهو كان موجودا ونستنشقه، فما الذي جعلني لا أراه ؟. لأنه بلغ من الصغر واللطف مبلغا فوق طوق العين أن تراه، فالذرة واحدة من هذا الغبار، واسمه " الهباء " وواحدة الهباء هي الذرة.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : أن كل شيء موزون إلى أقل درجات الوزن وهو الذرة، وهي الهباء، ونحن لا نراها إلا في نور محجوز، لأننا في النور القوي لا نرى تلك الذرات، بل نراها فقط في نور له مصدر واحد ونافذ، والحق سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، وهذا تمثيل فقط ؛ لأن الذرة يمكن أن تكبر، فالذي يكبر يمكن أن يصغر، وقال الحق ذلك ولم يكن عند الإنسان المقياس الذي يفتت به الذرة، وقد حدث أن استطاع الإنسان ذلك، فبعد الحرب العالمية الأولى صنعت ألمانيا اسطوانات تحطيم الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ كما كان يصفه الفلاسفة قديما، ومعنى جزء لا يتجزأ أي لا يمكن أن يأتي أقل منه. ولم يلتفتوا إلى أن أي شيء له مادة إن كان يقبل التكبير فهو أيضا يقبل التصغير. والمهم أن توجد عند الإنسان الآلة التي تدرك الصغر.
ومثال ذلك عندما صعدت الأقمار الصناعية وأخذوا من الجو صورة لمدينة نيويورك ؛ خرجت الصورة صغيرة لمدينة نيويورك. بعد ذلك كبروا الصورة ؛ فأخرجوا أرقام السيارات التى كانت تسير كيف حدث هذا ؟ لقد كانت الصورة الصغيرة تحتوي تفاصيل اكثر دقة لاتراها العين المجردة وعندما يتم تكبيرها يتضح كل شيء حتى ارقام السيارات وضحت بعد أن كانت غير ظاهرة، وإن كنت موجودا في نيويورك في هذه الساعة أكنت تظهر بها ؟ لا يمكن أن تظهر.. لماذا ؟.. لأن صورتك صغرت إلى الحد والقدر الذي لا يمكنك أن تراها وهي بهذا الحجم وهكذا، فالنور عندما يكون محزوما، فالحزمة الضوئية التي تدخل إلى مكان ما، لها من القوة التي تطهر ذرة الهباء الذي لم تكن تراها.
إذن فنور من الله مخلوق ظهرت فيه الذرة، أيخفى على نور الخالق ذرة ؟ لا يمكن أن تخفى عليه سبحانه ؛ لأن النور الذي خلقه أظهر الذرة والهباء الذي كان موجودا ولا نراه، فلن يخفى على نور النور ذرة في الأرض.
وهكذا نعرف أن المسالة بالنسبة لله عملية قطعية، وعندما اخترعوا اسطوانة تحطيم الجوهر الفرد كانت مثل عصارة القصب، ونحن نعرف أن عود القصب يوضع بين عمودين من الحديد. والعمود الواحد اسمه " اسطوانة " وعندما يضيقون الاسطوانتين ثم يمررون عود القصب بينهما، فلا بد أن تكون المسافة بينهما ضيقة حتى إذا نفذ عود القصب يعصر، إذن فكلما ضيقت بين الاسطوانتين يزداد العصر، ومادامت الاسطوانتان تجري كل واحدة منهما على الأخرى فهنا فراغ ضئيل جدا، وحاول العلماء الألمان تضييق الاسطوانتين تضييقا يفتت لنا هذه الذرة، ونجحوا، وأصبح هناك شيء آخر أقل من الذرة.
وظن السطحيون الذين يتربصون بالإسلام وبكتاب الله الدوائر، ويريدون أن يجدوا فيه منفذا. قالوا : إن الله قال :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ﴾. على أنها أقل شيء وظهر أن هناك أقل من مثقال ذرة ؛ لأن الذرة تحطمت. وقلنا لهؤلاء : أنتم أخذتم آية ونسيتم آيات، فالقرآن قد جاء معجزة ليواجه مجتمعات شتى من لدن رسول الله إلى أن تقوم الساعة، فلا بد أن يكون فيه ما يشبع العقول من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة. ولو أن عطاء القرآن صب مرة واحدة في عصر الرسالة لجاءت القرون التالية وليس للقرآن عطاء. فأراد ربنا أن يكون القرآن هو المعجزة والمنهج المتضمن للأحكام والكليات، وهذه أمور مفهومة بالنسبة لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن تقوم الساعة. لكن لا يزال هناك كونيات ونواميس للحق في الوجود لم تظهر بعد، فسبحانه يعطي كل عصر على قدر اتساع فهمه.
وعندما نعرف أسرار قضية كونية لا يزيد علينا حكم، فعندما نعرف قضية مثلا كقضية الذرة وتفتيتها ووجود إشارات لها في القرآن الكريم لا يزيد ذلك علينا أي حكم. بل ظلت الأحكام كما هي. فالأحكام واضحة كل الوضوح ؛ لأن من يفعلها يثاب، ومن لا يفعلها يعاقب. والناس الذين ستقوم عليهم الساعة مثل الناس الذين عاصروا حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ؛ لذلك لا بد أن تكون الأحكام واحدة، فمن ناحية أن القرآن كتاب أحكام فهذا أمر واضح وضوحا لا زيادة فيه، ولم يفهم المعاصر لرسول الله حكما ثم جاء الإنسان في زماننا ليفهم حكما آخر، بل كل الأحكام سواء.
والقرآن كمعجزة هو أيضا معجزة للجميع. ولا بد أن تكون هناك معجزة لكل جيل. ولكل عصر، ويأتي الإعجاز في الآيات الكونية التي لو لم نعرفها فلن يحدث شيء بالنسبة للأحكام. مثال ذلك : لو لم نعرف أن الأرض تدور أكان انتفاعنا بالأرض يقل ؟ لا.. فنحن ننتفع بالأرض سواء أعلمنا كرويتنا أم لم نعلم، لكن الحق سبحانه وتعالى يواجه العقول بما يمكن أن تطيقه. فإذا ما ارتقت العقول وتنورت واستنارت بمقتضى طموحاتها العلمية في الكون. فالقرآن إن لم يؤيدها فهو لا يعارضها.
وعندما فتتوا الذرة قال المشككون : إن ربنا يضرب بالذرة المثل لأصغر شيء ﴿ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ لكن هناك ما هو أقل من الذرة. ونرد عليهم : أنتم نظرتم إلى آية ونسيتم آيات. أنتم لم تنتبهوا كما قلنا إلى أن من فتتوا الذرة إلى إلكترونات وأيونات وموجب وسالب حاولوا بعد ذلك أن يفتتوا ما فتت. والآية التي نحن بصددها الآن :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ أرضت العقول التي تعرف الذرة الأصلية هذه واحدة، ولماذا لا نسمع قول الله :﴿ وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ٦١ ﴾ 'سورة يونس ).
إذن فهناك ذرة وهناك أصغر من الذرة، ولم تأخذوا في بالكم أن " أصغر " هذه أفعل تفضيل، ولا يوجد أصغر إلاان وجد صغير، إذن فهناك ذرة، وهناك صغير عن الذرة، وهناك أصغر من الصغير، فهناك إذن ثلاث مراحل، فإن فتتوها فلنا رصيد في القرآن يقول بالصغر، فإن فتتم المفتت، فلنا رصيد في القرآن بأصغر ؛، لأن كل أصغر لا بد أن يسبقه صغير، وإن كنت ستفتت المفتت فما زال عندنا رصيد من القرآن يسبق عقولكم في الابتكار، فإن قلت تفتيت جاز، وإن قلت تجميع جاز ؛ لأنها أصغر وأكبر، تفتيت أو تجميع، والمعقول أنك تقول : لا يغيب الأصغر والصغير، والذرة كذلك لا تغيب فكيف يعبر عن الأكبر بأنه لا يغيب مع أنه ظاهر وواضح ؟.
ونقول لك : إن المتكلم هو ربنا، فالشيء لا يدرك إما لأنه لطيف في غاية الدقة بحيث لا تتعلق به الباصرة فلا يرى، وأيضا لا يدرك لأنه كبير بصورة أكبر من أن تحيط به الباصرة، فحين ترى جبلا كبيرا على بعد اثنين من الكيلومترات أو ثلاثة فأنت لا تدركه ؛ لأنه أكبر من أن يحيط به إشعاع بصرك، ولكن الأمر بالنسبة لله يختلف فلا يوجد صغير يدق لا يراه، ولا كبير يكبر لا يراه، إذن فلا بد أن تأتي﴿ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ﴾. وفي آية أخرى يقول سبحانه :
﴿ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور٢ ﴾ ( سورة سبأ ).
وانظروا إلى دقة الحق في الرد على الإنكار للساعة وهي قضية كونية تنسحب على كل العصور.. فيقول سبحانه :
﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا اكبر إلا في كتاب مبين ٣ ﴾ ( سورة سبأ ).
كان يكفي أن يقول : إن الساعة آتية، لكنه أوضح : اعرفوا أن الساعة آتية، وكل ما فعلتموه معروف، ولماذا يقولون : لا تأتي الساعة ؟ إن هذا لون من تكذيب النفس لأنهم لم ي
﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ٤١ ﴾.
وساعة تسمع كلمة " كيف " فاعرف أن هناك شيئا عجيبا، تقول مثلا : انت سببت السلطان فكيف واجهوك ووجدته أمامك ماذا تفعل ؟ كان مواجهة السلطان ذاتها مسألة فوق التصور.. فكل شيء يتعجب منه يؤتى فيه ب " كيف " ومثال ذلك قوله الحق :
﴿ كيف تكفرون بالله ﴾ ( من الآية ٢٨ سورة البقرة ).
وهذا يعني تعجيبا من مصيبة وكارثة هي الكفر بالله، فقولوا لنا : كيف جاءت هذه ؟ إنها مسألة عجيبة، ونقول : فكيف يكون حال هؤلاء الكافرين، كيف يكون حال هؤلاء العصاة، في يوم العرض الأخير، ﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ﴾ و " الشهيد " هو : الذي يشهد ليقرر حقيقة، ونحن نعلم أن الحق أخبرنا :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾ ( من الآية ٢٤ سورة فاطر ).
وهذا النذير شهيد على تلك الأمة أنه بلغها المنهج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته أنه بلغ، فقوله :﴿ وجئنا بك على هؤلاء ﴾ من هم ؟ ننظر قوله :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ﴾ وهو رسولها الذي بلغ عن الله منهجه، وكيف يكون الموقف إذا جاء وقال : أنا أبلغتهم الموقف ولا عذر لهم لأنني أعلمتهم به، " وجئنا بك " يا محمد صلى الله عليك وسلم " على هؤلاء " فهل المعنى ب " هؤلاء " هم الشهداء الذين هم الرسل أو على هؤلاء المكذبين لك ؟ وتكون أيضا شهيدا على هؤلاء مثلما أنت شهيد على أمتك ؟ إن كلا من الحالين يصح، لماذا ؟.
لأن الله جاء بكتابه المعجزة وفيه ما يثبت أن الرسل قد بلغوا أممهم، فكان الرسول حين سجل في كتابه المعجزة وكتابه المنهج أن الرسل قد بلغوا أممهم فهو سيشهد أيضا : هم بلغوكم بدليل أن ربنا قال لي في كتاب المعجزة وفي المنهج. ويكون رسولنا شهيدا على هؤلاء المكذبين الذين أرسل إليهم وهم أمة الدعوة فالمعنى هذا يصلح، وكذلك يصلح المعنى الآخر. ولا يوجد معنى صحيح يطرد معنى صحيحا في كتاب الله، وهذه هي عظمة القرآن. إن عظمة القرآن هي في أنه يعطي إشعاعات كثيرة مثل فص الماس، فالماس غال ونفيس ؛ لأنه قاس ويكسر به وكل ذرة فيه لها شعاع، المعادن الأخرى لها إشعاع واحد، لكن كل ذرة في الماس لها إشعاع ؛ ولذلك يقولون إنه يضوي ويتلألأ، فكل ذراته تعطي إشعاعا.
والحق سبحانه وتعالى يوضح : أن حال هؤلاء سيكون فظيعا حينما يأتي يوم العرض يوم القيامة، و ويقولون : إننا بلغناكم، أو الحق سبحانه وتعالى عرض هذه المسألة بالنسبة للرسل وأممهم، وبالنسبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته أو للأمم كلها، فنحن أيضا سنكون شهداء :
﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ ( من الآية ١٤٣ سورة البقرة ).
وهذه ميزة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن أمة محمد هي الأمة الوحيدة التي أمنها الله على أن يحملوا المنهج إلى أن تقوم الساعة، فلن يأتي أنبياء أبدا بعد رسول الله، فيقول :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ إذن فنحن بنص هذه الآية أخذنا امتداد الرسالة.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟.
قال : نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا به على هؤلاء شهيدا ) فقال : حسبك، فإذا عيناه تذرفان الدموع " ١.
فإذا كان الشهيد بكى من وقع الآية فكيف يكون حال المشهود عليه ؟ الشهيد الذي سيشهد بكى من الآية، نعم ؛ لأنك تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملئ قلبه رحمة بأمته ؛ ولذلك قلنا : إن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته جعل ربه يعرض عليه أن يتولى أمر أمته، بعد أن علم سبحانه مدى عنايته صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة :
﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ ( سورة الشعراء ).
فأمر أمته صلى الله عليه وسلم كان يقلقه جدا على الرغم من أن الحق سبحانه قد أوضح له : أنت عليك البلاغ وليس عليك أن تهدي بالفعل، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف هذا. إنما حرصه ورحمته بأمته جعله يحب أن يؤمنوا، وعليه الصلاة والسلام خاف على أمته من موقف يشهد فيه عليهم ضمن من سيشهد عليهم يوم الحشر. فلما رأى الحق سبحانه وتعالى أن رسوله مشغول بأمر أمته قال له : لو شئت جعلت أمر أمتك إليك.
وانظر إلى العظمة المحمدية والفهم عن الله، والفطنة، فقال له : لا يارب. أنت أرحم بهم مني. وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول للخالق :" أتنقل مسألتهم في يدي وأنا أخوهم، إنما أنت ربي وربهم، فهل أكون أنا أرحم بهم منك ؟ لقد كان من المتصور أن يقول رسول الله : نعم أعطني أمر أمتي لكنه صلى الله عليه وسلم قال : يا رب أنت أرحم بهم مني. فكيف يكون رد الرب عليه ؟. قال سبحانه : فلا أخزيك فيهم أبدا، وسبحانه يعلم رحمة سيد البشر صلى الله عليه وسلم بأمته.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم :﴿ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني.. ﴾ وقول عيسى عليه السلام :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ فرفع يديه وقال :{ اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز و جل : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك " ؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله :" يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك " ٢.
" فكيف إذا جئنا " أي كيف يكون حال هؤلاء العصاة المكذبين.. " إذا جئنا من كل أمة بشهيد " أنه أدى وبلغ عن الله مراده من خلقه. " وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " ؟.
٢ رواه مسلم..
وساعة ترى " يومئذ " وتجد فيها هذا لتنوين فاعلم أنه عوض عن شيء محذوف والمحذوف هنا أكثر من جملة ويصبح المعنى : يوم إذ نجئ من كل أمة بشهيد وتكون أنت عليهم شهيدا، وفي هذا اليوم﴿ يود الذين كفروا وعصوا الرسول ﴾ لأنهم فوجئوا بعملية كانوا يكذبونها، فلم يكونوا معتقدين أن الحكاية جادة، كانوا يحسبون أن كلام الرسول مجرد كلام ينتهي، فعندما يفاجئهم يوم القيامة ماذا يكون موقفهم ؟. ﴿ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ﴾ وما معنى " تسوى بهم الأرض " ؟ كما تقول سأسوي بفلان الأرض ؛ أي تدوسه دوسة بحيث يكون في مستوى الأرض.
﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾. فكيف لا يكتمون الله حديثا ؟ وهو قد قال في آية أخرى :
﴿ قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ١٠٨ ﴾ ( سورة المؤمنون ).
قال الحق ذلك عنهم لأن الأمر له مراحل : فمرة يتكلمون، ويكذبون، فهم يكذبون عندما يقولون :
﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ٢٣ ﴾ ( من الآية ٢٣ سورة الأنعام ).
وسيقولون عن الأصنام التي عبدوها :
﴿ وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ( من الآية ٣سورة الزمر ).
إذن فقوله :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ دليل على أن الحديث مندفع ولا يقدر صاحبه أن يكتمه. فالكتم : أن تعوق شيئا يخرج بطبيعته من شيء آخر فتكتمه. والواحد منهم في الآخرة : لا يقدر أن يكتم حديثا ؛ لأن ذاتية النطق ليست في أداة النطق كما كان الأمر في الدنيا فقط، بل سيجدون انفسهم وقد قدموا إقرارات بخطاياهم، وبألسنتهم وبجوارحهم ؛ لأن النطق ليس باللسان فقط، فاللسان سيشهد والجلود تشهد، واليدان تشهدان، بل كل الجوارح تشهد.
إذن فالمسألة ليست تحت سيطرة أحد، لماذا ؟ ؛ لأن هناك ما نسميه " ولاية الاقتدار "، ومعناها أن : هناك قادرا، وهناك مقدور عليه. ولكي نقرب الصورة، عندما توجد كتيبة من الجيش وعليها قائد. وبعد ذلك قامت الكتيبة في مهمة، والقانون العام في هذه المهمة : أن يجعل لهذا القائد قادرية الأوامر وعلى الجنود طاعته ؛ وألا يخالفوا الأوامر العسكرية، فإذا أصدر هذا القائد أمرا تسبب في فشل معركة ما، وذهب الجنود للقائد الأعلى منه، ويسمونه الضابط الأعلى من الضابط الصغير، فيكون للجنود معه كلام آخر، إنهم يقدرون أن يقولوا : هو الذي قال لنا ونفذنا أوامره.
أقول ذلك لتقريب المعنى لحظة الوقوف أمام الحق سبحانه وتعالى. فحينما خلق سبحانه الإنسان خلق جوارحه منفعلة لإرادته، وإرادته مكيفة حسب اختياره. فإرادة الطائع إطاعة أمر واجتناب نهي، وإرادة العاصي على العكس ؛ لا يطيع الأمر ولا يتجنب المنهي عنه. فواحد أراد أن يشرب الخمر، فرجله مشت، ولسانه نطق للرجل الذي يعطيه الكأس، ويده امتدت وأخذت الكأس وشرب، والجوارح التي حين تذهب إلى من دبر هذا الأمر في الآخرة تقول له : يا رب هو عمل بي كذا وكذا، لماذا ؟ لأن قادرية الإرادة امتنعت :
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ١٦ ﴾ ( من الآية ١٦ سورة غافر ).
وليس لي ولا لأحد إرادة في الآخرة، ومادام ليس لي إرادة فاليد تتكلم وتعترف : عمل بي كذا وكذا وكنت يا رب مقهورة لقادرية إرادته التي أعطيتها له فبمجرد ما يريد فأنا أنفذ. عندما أراد أن أضرب واحدا لم أمتنع. ويعترف اللسان بسبه لفلان، أو مدحه لآخر، إذن فكل هذه ولاية القادرية من الإرادة على المقدورات من الجوارح. لكن إذا ما ذهبت إلى من وهب القادرية للإرادة ؛ فلا يوجد أحد له إرادة. فكأن الجوارح حين تصنع غير مرادات الله بحكم أنها خاضعة للمريد وهو غير طائع تكون كارهة ؛ لذلك تفعل أوامر صاحبها وهي كارهة، فإذا ما انحلت إرادته وجدت الفرصة فتقول ما حدث :
﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ ( من الآية٢١ سورة فصلت ).
﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ﴾، لأن الكافر سيقول :
﴿ يا ليتني كنت ترابا ٤٠ ﴾ ( من الآية ٤٠ سورة النبأ ).
هنا ينقلنا الحق من الأوامر، من العبادات وعدم الإشراك بالله، من التحذير من النفقة رئاء الناس وأنه سبحانه لا يظلم أحدا وأننا كلنا سنجتمع أمامه يوم لا ظل إلا ظله، بعد ذلك أراد ان يصلنا به وصل العبادية التي تجعلك تعلن ولاءك لله في كل يوم، خمس مرات، وسبحانه يريك أن تقبل عليه بجماع عقلك وفكرك وروحك بحيث لا يغيب منك شيء.
هو سبحانه يقول :﴿ ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ ولم يقل : لا تصلوا وأنتم سكارى ؟ أي لا تقاربوا الصلاة ولا تقوموا إليها واجتنبوها، وفيه إشارة إلى ترك المسكرات، فما معنى " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " ؟ معنى ذلك أنهم إذا كانوا لا يقربون الصلاة إذا ما شربوا الخمر، فيكون تحريم المسكرات لم يأت به التشريع بعد، فقد مر هذا الأمر على مراحل ؛ لأن الدين حينما جاء ليواجه أمة كانت على فترة من الرسل أي بعدت صلتها بالرسل، فيجيء إلى أمر العقائد فيتكلم فيها كلاما حاسما باتا لا مرحلية فيه، فالإيمان بإله واحد وعدم الشرك بالله هذه أمور ليس فيها مراحل، ولا هوادة فيها. لكن المسائل التي تتعلق بإلف العادة، فقد جاءت الأوامر فيها مرحلية. فلا نقسر ولا نكره العادة على غير معتادها بل نحاول أن نتدرج في المسائل الخاضعة للعادة مادام هناك شيء يقود إلى التعود.
إن الحق سبحانه وتعالى من رحمته بمن يشرع لهم جعل في مسائل العادة والرتابة مرحليات، فهذه مرحلة من المراحل :﴿ ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى ﴾، والصلاة هي : الأقوال والأفعال المعروفة المبدوءة بالتكبير والمنتهية بالتسليم بشرائطها الخاصة، هذه هي الصلاة، اصطلاحيا في الإسلام وإن كانت الصلاة في المعنى اللغوي العام هي : مطلق الدعاء.
و " سكارى " جمع " سكران " وهو من شرب ما يستر عقله، وأصل المسألة مأخوذة من السكر ما سد به النهر ؛ فالماء حين ينساب يضعون سدا، هذا السد يمنع تدفق الماء، كذلك الخمر ساعة يشربها تمنع تدفق الفكر والعقل فاخذ من هذا المعنى لاتقربوا الصلاة وانتم سكارى المفهوم أن الصلاة تأخذكم خمسة أوقات للقاء الله، والسكر والخمار ؛ وهو ما يمكث من أثر المسكر في النفس، ومادام لن يقرب الصلاة وهو سكران فيمتنع في الأوقات المتقاربة بالنهار. إذن فقد حملهم على أن يخرقوا العادة بأوقات يطول فيها أمد الابتعاد عن السكر. وماداموا قد اعتادوا أن يتركوها طوال النهار وحتى العشاء، فسيصلي الواحد منهم العشاء ثم يشرب وينام. إذن فقد مكث طوال النهار لم يشرب، هذه مرحلة من المراحل، وأوجد الحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة مرحليات تتقبلها النفس البشرية. فأول ما جاء ليتكلم عن الخمر قال :
﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ﴾ ( من الآية ٦٧ سورة النحل ).
ويلاحظ هنا أن " السكر " مقدم، على الرزق الموصوف بالحسن، ففيه سكر وفيه رزق. كأنهم عندما كانوا يأكلون العنب أو البلح فهذا رزق، ووصف الله الرزق بأنه حسن. لكنهم كانوا أيضا يأخذون العنب ويصنعون منه خمرا، فقدم ربنا " السكر "، لأنهم يفعلون ذلك فيه، ولكنه لم يصفه بالحسن، بل قال :" تتخذون منه سكرا "، لكن كلمة رزق وصفت بالحسن.
بالله عندما نسمع " سكرا ورزقا حسنا " ألا نفهم أن كونه سكرا يعني غير حسن، لأن مقابل الحسن : قبيح. وكأنه قال : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا أي شرابا قبيحا ورزقا حسنا، ولاهتمامكم أنتم بالسكر، قدمه، وبعد ذلك ماذا حدث ؟ عندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يأتي بحكم تكون المقدمة له مثل النصيحة ؛ فالنصيحة ليست حكما شرعيا، والنصيحة أن يبين لك وأنت تختار، يقول الحق :
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ ( من الآية ٢١٩ سورة البقرة ).
هو سبحانه شرح القضية فقط وأنت حر في أن تختار فقال :﴿ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ ولكن الإثم أكبر من النفع، فهل قال لنا ماذا نفعل ؟ لا ؛ لأنه يريد أن يستأنس العقول لترجح من نفسها الحكم، وأن يصل الإنسان إلى الحكم بنفسه، فسبحانه قال :﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ فمادام الإثم أكبر من النفع فما مرجحات البدائل ؟ مرجحات البدائل تظهر لم حين تقارن بين بديلين ثم تعرف أقل البديلين شرا وأكثر البديلين خيرا.
فحين يقول الحق :﴿ فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ إذن فهذه نصيحة، ومادامت نصيحة فالخير أن يتبعها الإنسان ويستأمن الله على نصيحته. لكن لا حكم هنا، فظل هناك ناس يشربون وناس لا يشربون، وبعد ذلك حدثت قصة من جاء يصلي وقرأ سورة الكافرون، ولأن عقله قد سد قال : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فوصلت المسألة ذروتها وهنا جاء الحكم فنحن لا نتدخل معك سواء سكرت أم لا، لكن سكرك لا يصح أن تؤدي بك أن تكفر في الصلاة، فلا تقرب الصلاة وأنت مخمور. هذا نهي، وأمر، وتكليف.
﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ ومادام لا نقرب الصلاة ونحن سكارى فسنأخذ وقتا نمتنع فيه، إذن ففيه إلف بالترك، وبعد ذلك حدثت الحكاية التي طلبوا فيها أن يفتي الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الخمر، فقالوا للنبي : بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزل قوله الحق :
﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ ( من الآية ٩٠سورة المائدة ).
إذن فقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾، مرحلة من مراحل التلطف في تحريم الخمر، فحرمها زمنا، هذا الزمن هو الوقت الذي يلقى الإنسان فيه ربه، إنه أوضح لك : اعملها بعيدا، لكن عندما تأتيني فعليك أن تأتي بجماع فكرك وجماع عقلك، ﴿ حتى تعلموا ما تقولون ﴾ فكأن هذه أعطتنا حكما : أن الذي يسكر لا يعرف ماذا يقول، هذه واحدة، ومادام لا يعرف ما يقوله، إن كان في المسائل العادية فليقل ما يقول، إنما في العبادة وفي القرآن فلا يصح أن يصل إلى هذا الحد، وعندما تصل إلى هذا الحد يتدخل ربنا فيقول :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾.
ثم جاء بحكم آخر. ﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ﴾ ومعروف ما هي الجنابة : إنها الأثر الناتج من التقاء الرجل بالمرأة. ويقال : إنها اللذة التي يغيب فيها الفكر عن خالقه، وهذه لذة يسمونها " جماع اللذات " ؛ لأنها تعمل في البدن تلك الرعشة المخصوصة التي تأخذ خلاصات الجسم ؛ ولذلك قيل : إنه نور عينيك ومخ ساقك فأكثر منه أو أقلل. يعني أنا أعطيك هذه القدرة وأنت حر. ونحن نغتسل لنعيد النشاط إلى النفس البشرية، وليس لأحد شأن بهذه المسائل مادامت تتم في ضوء شريعة الله وشأننا في ذلك أن نأتمر بأمر ربنا ونغتسل من الجنابة سواء فهمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نفهم.
﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل ﴾ إذا كان المراد بالصلاة، فلا تقربوا الصلاة، بالسكر أو الجنابة ولم يقل :" لا تصلوا ". والصلاة مكانها المسجد، فقول :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ﴾، أي لا تقربوا الصلاة، والقرب عرضة أن يكون ذهابا للمسجد، فكأنه يقول : لا تذهب إلا إذا كان المسجد لا طريق للماء إلا منه.
﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر ﴾ أي كان عندكم عذر يمنع من الماء. ﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط ﴾، و " والغائط " هو : الأرض الوطيئة، الهابطة قليلا، وكانوا يقضون فيها حاجاتهم، وأصبح علما على قضاء الحاجة، وكل واحد منا يكنى عنها بأشياء كثيرة فيقول واحد : أنا أريد أن أذهب إلى " بيت الماء " ويتساءل آخر أين " دورة المياه ؟ " وفي هذا تلطف في الإخبار عن عملية تستقذرها النفس ؛ ولذلك نقول في العبارات الشائعة : أنا ذاهب أعمل زى الناس يعني أنا لست بدعا أن أقضي حاجتي، فكل الناس تعمل هذا.
فربنا سبحانه وتعالى يقول :﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ﴾ ومن رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن لطف الحق بها أن التشريع جاء ليقبل عليه الإنسان ؛ لأنه تشريع فلا تقل لي مثلا : أنا أتوضأ لكي أنظف نفسي ولكننا نقول لك : هل تتوضأ لتنظف نفسك وعندما تفقد الماء تأتي بتراب لتضعه على وجهك ؟ فلا تقل لي النظافة أو كذا، إنه استباحة الصلاة بالشيء الذي فرضه الله، فقال لي : توضأ فإن لم تجد ماء فتيمم، أينقلني من الماء الذي ينظف إلى أن أمسح كفي بالتراب ثم ألمس بهما وجهي ؟ ! نعم ؛ لأن المسألة أمر من الله فهمت علته أو لم تفهم ؛ ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا طهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل قبلي وأعطيت الشفاعة وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )١.
﴿ فتيمموا صعيدا طيبا ﴾، أي أن تكون واثقا أنه ليس عليه نجاسة، ﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾، المسألة فيها " جنب " وفيها كذا وكذا.. " وتيمم "، إذن فكلمة﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ ليس ذلك معناه أن التيمم خلف وبديل عن الوضوء فحسب، ففي الوضوء كنت أتمضمض، وكنت أستنشق، وكنت أغسل الوجه، وكنت أغسل اليدين، وأمسح الرأس والأذنين.. مثلا، وأنا أتكلم عن الأركان والسنن. وفي هذه الآية يوضح الحق : مادامت المسألة بصعيد طيب وتراب فذلك يصح سواء أكانت للحدث الأصغر أم للجنابة، إذن فيكفي أن تمسح بالوجه واليدين.
﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ وتساءل بعضهم : أهي ضربة واحدة نلمس بها الأرض أم ضربتان ؟ نقول : سبحانه قال :﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾، وبعض العلماء قال : ضربة واحدة، وبعضهم قال : ضربتان وكلها تيسير. وهذا التخفيف مناسب لكلمة العفو، فيقول الحق :﴿ إن الله كان عفوا غفورا ﴾ ولكن ماذا حدث هنا ليذكر المغفرة ؟ لأنه غفر وستر علينا المشقة في ضرورة البحث عن الماء ويسر ورخص لنا في التيمم.
حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد قضية من قضايا الكون ليمهد لقضية من قضايا العقائد التي تحرس نظام الكون فهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : " ألم تر ". والرؤية عمل العين وعمل العين متعلق بانكشاف الأحداث التي تتعرض لها العين والشيء المرئي دليله معه ؛ لأن الشيء المسموع دليله يؤخذ من صدق قائله، وصدق قائله أمر مضنون، أيكذب أم يصدق ؟ أما المرئي فدليله معه ؛ ولذلك قالوا : ليس مع العين أين، أي أنك إذا رأيت شيئا فلا تقل : أين هو، وليس الخبر كالعيان، فالخبر الذي تسمعه ليس كالمشاهدة، إذن فالمشاهدة دليلها معها، فلا يقال : دلل على أن فلانا يلبس جلبابا أبيض وأنت تراه.
إذن فحين يريد الحق أن يؤكد قضية يقول : أرأيت. ولذلك فأنت إذا حدثت إنسانا عن انحراف إنسان آخر. قد يصدقك وقد لا يصدقك، لكن إذا ما رأيت الإنسان يلعب ميسرا أو يشرب خمرا ثم تقول لمن حدثته من قبل : أرأيت من قلت لك عليه، كان الرؤية دليل. والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله :" أرأيت " ننظر إلى الأمر، فإذا كان مشهودا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يراه بذلك تكون " أرأيت " على حقيقتها، كما يقول له :
﴿ أرأيت الذي ينهى ٩ عبدا إذا صلى ١٠ ﴾ ( سورة العلق ).
هو صلى الله عليه وسلم قد رآه، فتكون " أرأيت " على حقيقتها أم ليست على حقيقتها ؟ ولماذا يأتي بهمزة الاستفهام " أرأيت " ؛ على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم قد رأى من ينهى إنسانا عن الصلاة ولماذا لم يقل :﴿ رأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ﴾، لا ؛ لأن الحق يريد أن يؤكد الخبر بمراحل. فمرة يكون الخبر خبرا تسمعه الأذن، ومرة يكون رؤية تراه، ومرة لا يقول له : أنت رأيت، ولكن يستفهم منه ب " أرأيت " لكي ينتظر منه الجواب. وبذلك يأتي الجواب من المخاطب نفسه وليس من المتكلم، وهذه آكد أنواع البيان وآكد ألوان التحقيق، فحين يخاطب الحق سبحانه وتعالى بقوله :" أرأيت " نقول : أكان ذلك مشهدا لرسول الله رآه، فتكون الرؤية على حقيقتها. فإذا كان الأمر لم يكن معاصرا لرسول الله ثم يخاطب الله رسوله بقوله :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ﴾ ( سورة الفيل ).
ونعلم أن أصحاب الفيل كانوا عام ميلاده صلى الله عليه وسلم، فهو حين يخاطب رسوله لم يكن المشهد أمامه، ف " ألم تر " هنا بمعنى أعلمت، ولماذا عدل هنا عن أعلمت إلى قوله :" ألم تر " ؟. لأن الحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله بأمر منه فهو يوضح له : إن أخبرتك بشيء فاعلم أني أصدق من عينك، فإذا قال سبحانه :" ألم تر " فهذا يعني أنك علمت من الحق سبحانه وتعالى، وإخبار الحق ليس كإخبار الخلق ؛ لأن إخبار الخلق يحتمل الصدق والكذب، لكن إخبار الحق لا يعني إلا الصدق، إذن فرؤية عينك قد تخونك ؛ لأنك قد تكون غافلا فلا ترى كل الحقيقة، لكن إذا أخبرك الحق سبحانه وتعالى فسيخبرك بكل زوايا الحقيقة. إذن فإخبار الحق أوثق وآكد من رؤية العين وسبحانه عندما قال :﴿ أرأيت الذي ينهى ٩ عبدا إذا صلى ١٠ ﴾ ( سورة العلق ).
هذه مثلت الأولى، وحين قال سبحانه :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ﴾ ( سورة الفيل ).
كأنك تراهم الآن، ف " ألم تر " تعني كأن المشهد أمامك.
إذن فوسائل تأكيد الأشياء : خبر من خلق يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. هذه واحدة، ورؤية من خلق تحتمل انها استوعبت كل المرئي أو أحاطت ببعضه، أو خبر من خالق أحاط بكل شيء، فيجب أن يكون الخبر من الخالق أوثق الأخبار في تصديقهم.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ جاءت هذه الآية ورسول الله يعاصره قوم من اليهود. ورأى منهم بالفعل أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ؛ لأنهم أهل كتاب، ومع ذلك يشترون الضلالة ؛ ولا يقولون الحق، فيكون هذا أمرا مشهديا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وحينما أرسل محمدا جعله ختاما للأنبياء وختم به ركب النبوة، وهذا يعني : أن النبوة كان لها ركب. وفي كل عصر من العصور يأتي نبي على مقدار اتساع الحياة، وعلى مقدار التقاء الكائنين في الحياة، وعلى مقدار الداءات والأمراض التي تأتي في المجتمع، ولكن الله علم أزلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي في فترة ورسالته ومنهجه ينتظم ويضم كل قضايا الزمن إلى أن تقوم الساعة. وهو زمن يعلم الله أن فوارق المواصلات فيه ستنتهي، وفوارق الحواجز فيه ستنتهي، فيحدث الخبر في أدنى الشرق وأعلاه فتسمعه في أدنى الغرب وأعلاه، والخبر في الغرب تسمعه في الشرق. والداء يوجد مرة في أمريكا وبعد يوم أو يومين يوجد في أي بلد من البلاد.
إذن فالمسافات انتهت، وجعلت المواصلات العالم كقطعة واحدة، إذن فالداءات في المجتمع القديم لعسر الاتصال كانت تنعزل انعزالا إقليميا وكل داء في جماعة قد لا يصل إلى الجماعة الأخرى، فهؤلاء لهم داء لا يصل إلى الجماعة الأخرى ؛ لذلك كان الحق يرسل رسولا لكل جماعة ليعالج داءاتها، لكن إذا التحم العالم هذا الالتحام ؛ فلا بد أن يأتي رسول واحد جامع للناس جميعا ؛ لأن قضايا الداءات ستكون واحدة. ونحن نرى الآن كل يوم عجبا، كلما تحدث حادثة هناك نجدها عندنا.
إذن فلا بد أن تتوحد الرسالة. وحين تتوحد الرسالة فلا يأتي رسول ليستدرك بعد ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء خاتما ؛ ولذلك أخذ الله العهد على كل رسول أن يبشر قومه بأنه سيأتي رسول خاتم ليكون عند أهل كل ديانة خلفية تطمئنهم على أنه إذا جاء رسول، فقد عرفوا خبر مقدمه ويقولون : لقد قالت لنا رسلنا ؛ ولذلك قال الحق :
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ﴾ ( من الآية ٨١ سورة آل عمران ).
ثم قال :
﴿ قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ٨١ ﴾ ( من الآية ٨١ سورة آل عمران ).
إذن فرسول الله مشهود له من كل الرسل ؛ ولذلك أكد صلى الله عليه وسلم ديانات كل الرسل. وجاء دينه بديانات كل الرسل ؛ لأنهم معه على منهجه الذي نزل به، والذين يلتحمون بالإيمان بالسماء بواسطة الرسل السابقين ؛ إذا ما جاءهم خبر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد يجعلهم تعصبهم لدينهم ينصرفون عنه، فأعطاهم الحق الخميرة الإيمانية وأوضح لهم : سيأتي رسول خاتم فتنبهوا يا كل الأقوام إذا ما جاء الرسول الخاتم فلا بد أن تؤمنوا به. وكان عندهم في كتبهم الدلالات والإخبارات. إذن فالله أعطاهم نصيبا من الكتاب. وانظروا إلى دقة الأداء القرآني : " ألم تر " يا محمد " إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " جاء هذا القول وهو يحمل لهم عذرهم إن فاتهم شيء من الكتاب ؛ لأنه سيقول في آية أخرى :
﴿ ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾ ( من الآية ١٣ سورة المائدة ).
وماداموا قد نسوا فهم معذورون، لكن من عندهم كفاية في العلم من الذين " أوتوا نصيبا من الكتاب "، كان المفروض فيهم أن تكون آذانهم مستشرقة إلى صوت داعية الحق الخاتم، وهذا كان معروفا لهم من قبل ؛ لذلك يقول لنا ربنا :﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ﴾ ( من الآية ٨٩ سورة البقرة ).
فهم كانوا يقولون لعبدة الأوثان من العرب : نحن في انتظار النبي الخاتم الذي سيرسله الله لنسبقكم إلى الإيمان به، فإذا ما سبقناكم إلى الإيمان به وظللتم على كفركم، سنقتلكم به قتل عاد وإرم. إذن فهم معتصمون بالإيمان بالسماء، فقل لي : إذا قالوا هذا القول، وهم معروفون أنهم أهل كتاب فلماذا كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم ؟ إن كفار قريش لم يقولوا : إننا أهل كتاب، بل كانوا على فترة من الرسل، فكان المفروض أنه إذا ما جاء الرسول تسابق أهل الكتاب إلى الإيمان به لأنه سبق لهم أن توعدوا به العرب. لقد أعطاهم الله منزلة عالية لكنهم من لؤمهم لم ينتفعوا بها ؛ فيقول الحق :
﴿ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ٤٣ ﴾ ( سورة الرعد ).
لقد جعلكم الحق شهودا على صدق الدعوة، هو شاهد وأنتم شهود، وهذه منزلة كبيرة، لكنهم لم يلتفتوا إلى تلك المنزلة وركبوا سفينة العناد الغارقة :﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾ ( من الآية ٨٩ سورة البقرة ).
ولكن يجب أن نفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل قضية عقدية في الكون فيخالفها مخالف يظن أنه يضار الله، نقول له : لا. أنت تفعل ذلك لشهوة في نفسك. لكن الحق سيجعلها لنصرة الدين الخاتم، وتكون أنت مغفلا في هذا الموقف. فإياك أن تظن أنك قادر أن تصادر مرادات الله حين كذبت بمحمد وجعلك ربنا تقول هذه الكلمة للمشركين من قريش، فانظر ماذا ستفعل هذه الكلمة ؟. ولكي تعرف أنت بإنكارك ماذا قدمت للإيمان. أنت فهمت أنك صادمت الإيمان. لا. أنت أيدت ونصرت الإيمان لكن بتغفيل ! وعليك وزر.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن دعوته من ربه. قال العرب المشركون الوثنيون : إن هذا النبي هو الذي توعدتنا به اليهود، فهيا نسبق إلى الإيمان به قبل أن يسبقونا.
إذن أخدموا الايمان أم لا ؟.. لقد خدموا الإيمان. إذن فلا يظنن عاص أنه يقدر أن يطفئ نور الله ؛ لأن الله يتم نوره ولو كره الكافرون. ومثال لذلك عندما غير ربنا القبلة ويوضح : يا محمد أنا أعرف أنك مستشرق ومتشوق إلى أن تتوجه إلى الكعبة، وأنا قد وجهتك أولا لبيت المقدس لمعنى. ولكن أنا سأوجهك للكعبة وعليك أن تلاحظ أنني حين أوجهك إلى الكعبة سيقول السفهاء " وهم اليهود " :﴿ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ ( من الآية ١٤٢ سورة البقرة ).
فهم يتساءلون : ما الذي جعلهم يتركون القبلة التي كانوا عليها ؟ فإن كانت قبلة إبراهيم هي الكعبة فلماذا لم يتجه إليها من أول الأمر ؟ هم سيقولون هذا الكلام. ونزل به قرآن يتلى ويسجل. ومن تغفيلهم ساعة تغيرت القبلة قالوا ذلك القول أيضا، ولم يلتفتوا إلى أن الحق قال من قبل :
﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم ﴾ ( من الآية ١٤٢ سورة البقرة ).
فعلى الرغم من ذكائهم إلا أنهم قالوا هذا الكلام، مما يدل على أن الكفر مظلم والكافر في ظلام فلا يعرف كيف ينصر نفسه. وجعل الله الكفر وسيلة للإيمان. فلو أنهم كانوا أذكياء بحق وأصحاب بصيرة لكانوا بمجرد أن قال القرآن :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾، لجمعوا بعضهم وقالوا : القرآن قال : إننا سنقول كذا وكذا، فهيا لا نقول كي يكون القرآن غير صادق، لكنهم لم يقدروا على ذلك. إذن فالكافر مغفل. هم يظنون أنهم بكفرهم يطمسون الإيمان بالله. لا ؛ لأن الله جعل الكفر وسيلة للإيمان، والحديث الشريف يقول :
( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر )١.
فالحق سبحانه وتعالى يبين : هؤلاء أوتوا نصيبا من الكتاب، وكان المفروض لمن أوتوا نصيبا من الكتاب أن يكونوا أول من آمن. لكنهم لم يؤمنوا، هذه أول مرتبة، وليتهم اقتصروا في الشر على هذه، وبذلك تقف المسألة وتظل معلقة بهم، ولكنهم يشترون الضلالة، ليس فقط في نفوسهم بل يريدون أن يضلوا غيرهم، وهذه هي المرحلة الثانية، فهناك من يضل في ذاته وهو حر، لكن أن يحاول إضلال غير
فقد يكون عندكم علم بالأعداء فيقال : أنتم عالمون بأعدائكم. لكن الله أعلم بالأعداء جميعا ؛ لأنه قد تكون لك عداوة بينك وبين نفسك، أو عداوة من زوجتك، أو عداوة من أولادك أو كل هذه العداوات جميعها أو بعضها. وهؤلاء في ظاهر الأمر لا يمكن للإنسان أن يتبين عداوتهم جميعا، لكن الله أعلم بهم وبما يخفون ؛ لذلك يقول :﴿ والله أعلم بأعدائكم ﴾.
وجاء بها بعد قوله :﴿ ويريدون أن تضلوا السبيل ﴾ أي مخافة أن نقول : إن هؤلاء أهل كتاب أو مسلمون مثلنا وكذا وكذا. ومادام الله هو الأعلم بالأعداء. فهو لن يخدعنا ولن يغشنا، فيجب أن ننتبه إلى ما يقوله الحق من أنهم أعداؤنا، ويقول بعدها :﴿ وكفى بالله وليا ﴾ وحين يقول هذا، فالقول يعني أنك لا تريد وليا بعد ذلك، كما يقولون : كفاني فلان ؛ أي أنك قد تحتاج إلى هذا وهذا ثم تقول : لكن فلانا عرفته فكفاني عن كل ذلك، أي لا يحوجني إلى أحد سواه ؛ لأنني أجد عنده الكفاية التي تكفيني في كل حركة حياتي.
﴿ وكفى بالله وليا ﴾.. نعم كفى به وليا لأن غيره من البشر إنما يملكون الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الأسباب، فيملك ما هو فوق الأسباب. ولذلك يقول مطمئنا لنا :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ٢ ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ ( سورة الطلاق ).
و " الولي " دائما هو من يليك مباشرة أي أنه قريب منك. ﴿ وكفى بالله نصيرا ﴾ إذن فهناك قريب، وهناك أيضا نصير، فقد يكون هناك من هو قريب منك ولا ينصرك، لكن الله ولي ونصير، فمادامت المسألة مسألة معركة﴿ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ﴾، كان الحق ينبهنا : إياكم أن تقولوا إننا نلتمس النصرة عند أحد، اصنعوا ما في استطاعتكم أن تصنعوه ثم اتركوا ما فوق الاستطاعة إلى الله. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى أوضح لنا : إياكم ان تتخذوا من أعدائكم أولياء، وإياكم أن تقولوا ؛ ماذا نفعل ونحن ضعفاء، ونريد أن نكون في حمى أحد، وماذا نفعل في أعدائنا ؟ لا تقولوا ذلك ؛ لأن الله أعلمنا : أنا أنصركم بالرعب بأن ألقي في قلوب أعدائكم الخوف فينهزموا من غير سبب وفيهم قوة وغلبة، فإن لم يكن عندكم أسلحة فسأنصركم بالرعب. ومادام سينصرنا بالرعب فهذه كافية ؛ لأنه ساعة ينصرني بالرعب ؛ يلقى عدوى سلاحه وأنا آخذه ؛ ولذلك قال : اعملوا ما في استطاعتكم، ولم يقل : أعدوا لخصومكم ما تحققون به النصر، فهو سبحانه قادر على أن ينصرنا بالرعب :
﴿ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة آل عمران ).
ومادام ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فوسائلهم كلها تكون للمؤمنين وتنتهي المسألة.
إذن فكل هذه العملية ليبني لنا نظام حياة متكاملا ؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي دوام هذه الخلافة بالتكاثر، والتكاثر لا يؤدي مراده إلا إذا كان تكاثر أقوياء، أما تكاثر الضعفاء فهو لا ينفع. فإن كان فيكم يتيم لا بد أن تلاحظوه، وإن كان فيكم سفيه لا يستطيع أن يدبر ماله فدبروا أنتم له ماله ؟، واجتهدوا لتتركوا من حركة حياتكم للناس الذين سيأتون بعدكم إلى أن تقوى نفوسكم على الحركة. وأوضح سبحانه منهاج الميراث، وأمر سبحانه : أن تزاوجوا، لكن للتزاوج شروطه وقد أوضحها، ثم أعطانا المنهج العام :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ﴾، ووضح هذه الأحكام كلها.
وبعد ذلك ما الحكمة في أنه سبحانه يرجع بنا مرة ثانية لليهود ؟ الحق سبحانه وتعالى يوفي الأحكام، وإلقاء الأحكام شيء وحمل النفس على مراد الله في الأحكام شيء آخر، فيوضح لنا : أن هناك ناسا ستعلم الحكم لكنها لا تقدر أن تحمل نفسها عليه، ويعلمون مثلكم تماما، إنما اشتروا الضلالة ؟، إذن فهو شرح لنا ؛ إنه الواقع الملموس ولا يأتينا سبحانه بكلام خبري أو إنشائي، قد تقول : يحدث أو لا يحدث، إنه يأتيك بأحداث من واقع الكون، وينبهنا : إياكم أن تكونوا مثلهم، فقال :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ والتحريف : أنك تأتي باللفظ الذي يحتمل معنيين : معنى خير، ومعنى شر، و لكنك تريد منه الشر، ومثل الذي يقول :" السام عليكم والعياذ بالله " هي في ظاهرها أنه يقول : السلام عليكم، لكنه يقول : السام. يعني " الموت "، إذن ففي اللفظ ما يلحظ ملحظ الخير، ولكن العدو يميله إلى الشر.
ومثل هذا ما قالوه للنبي :" قالوا راعنا " وهي من المراعاة، لكنهم كانوا يأخذونها من الرعونة، فيأتي الأمر : اترك الكلمة التي تحتمل المعنيين. واقطع الطريق على ا لكلمة التي تحتمل التوجهين ؛ لأن المتكلم، قد يريد بها خيرا وقد يريد بها شرا، فمعنى تحريف الكلام أي أن الكلام يحتمل كذا ويحتمل كذا. والمثال على ذلك : الرجل الذي ذهب لخياط ليخيط له قباء١ وكان الخياط كريم العين أي له عين واحدة فلم يعجب الرجل بخياطة القباء فقال : والله ما دمت أفتضح بهذا الثوب الذي خاطه لي أمام الناس فلا بد أن أقول فيه شعرا يفضحه في الناس، فقال :
خاط لي عمرو قباء **** ليت عينيه سواء
فقوله : ليت عينيه سواء يظهر ماذا ؟. هل يا ترى يتمنى له أن تكون عينه المريضة مثل السليمة ؟ أو يتمنى أن تكون العين السليمة مثل المريضة ؟ إذن فالكلام يحتمل الخير والشر، ومثلما حكوا لنا أن واحدا من الولاة طلب من الخطيب أن يسب سيدنا عليا كرم الله وجهه وآله وأن يلعنهم على المنبر.
فقال الخطيب : اعفني.
فقال الوالي : لا، عزمت عليك إلا فعلت.
فقال له الخطيب : إن كنت عزمت على إلا فعلت، فسأصعد المنبر وأقول : طلب مني فلان أن أسب عليا فقولوا معي يلعنه الله.
فقال له : لا تقل شيئا. فقد فهم الوالي مقصد الخطيب وقدرته على استعمال الكلام على معنيين.
والحق يقول :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾. وأريد أن تنتبهوا إلى أن أسلوب القرآن يأتي في بعض المواقع بألفاظ واحدة، ولكنه يعدل عن عبارة إلى عبارة، فيخيل لأصحاب النظرة السطحية أن الأمر تكرار، ولكنه ليس كذلك، مثلما يقول مرة :﴿ يشترون الضلالة بالهدى ﴾ ومرة لا يأتي بالهدى كثمن للضلالة ويقول :﴿ يشترون الضلالة ﴾، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة مطموس عندهم هنا، ومثال آخر هو قول الحق :
﴿ يحرفون الكلم من بعد مواضعه ﴾ ( من الآية ٤١ سورة المائدة ).
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه :﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾، فكان المسالة لها أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله وضع أولا وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه.
أما قوله :﴿ من بعد مواضعه ﴾ فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم، فكأنه كانت له مواضع. وهو جدير بها، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم.
﴿ ويقولون سمعنا وعصينا ﴾. فهم يقولون قولا مسموعا " سمعنا " ثم يقولون في أنفسهم " إنا عصينا ". فقولهم :" سمعنا وعصينا " ففي نيتهم " عصينا "، إذن فقولهم " سمعنا " يعني سماع أذن فقط. إنما " عصينا " فهي تعني : عصيان التكليف، وهم قالوا بالفعل سمعنا جهرا وقالوا عصينا سرا أو هم قالوا : سمعنا، وهم يضمرون المعصية، " واسمع غير مسمع " ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يسمعكم، بدليل أنكم قلتم : سمعنا، فماذا تريدون بقولكم : اسمع ؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول كلاما لا يعجبكم وستردون عليه، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوها أخرى فتقلبونها إلى معان لا تليق، مثل قولكم :" غير مسمع " ما يسرك، أو " غير مسمع " أي لا سمعت ؛ لأنهم يتمنون له معاذ الله الصمم، وقد تكون سبابا من قولهم : أسمع فلان فلانا إذا سبه وشتمه، فالكلام محتمل.
﴿ واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم ﴾ لم يقولوا :" راعنا " من الرعاية بل من الرعونة، فقال : لا. اتركوا هذا اللفظ ؛ لأنهم سيأخذون منه كلمة يريدون منها الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و " اللي " : هو فتل الشيء، والفتل : توجيه شقي الحبل الذي تفتله عن الاستقامة، وهذا الفتل يعطيه القوة، وهم يعملون هذه العمليات لماذا ؟ لأنهم يفهمون أنها تعطي قوة لهم.
﴿ ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ﴾، وماداموا يلوون الكلام عن الاستقامة فهم يريدون شرا ؛ لأن الدين جاء استقامة، فساعة يلويه أحد فماذا يريد ؟.. إنه يريد " طعنا في الدين "، " ولو انهم قالوا سمعنا "، وبدلا من إضمار المعصية يقولون :﴿ وأطعنا واسمع وانظرنا ﴾ بدلا من " راعنا "، ف " انظرنا " لا تحتمل معنى سيئا.
إذن فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبر أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خصومه يأتون بالألفاظ محتملة لذم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك يوضح : احذروا أن تقولوا الألفاظ التي يقولونها ؛ لأنهم يريدون فيها جانب الشر وعليكم أن تبتعدوا عن الألفاظ التي يمكن أن تحول إلى شر. فلو قالوا سمعنا وأطعنا " واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن "، وساعة تسمع كلمة " لكن " فلتعلم أن الأمر جاء على خلاف ما يريده المشرع ؛ لأنه يقول :﴿ ولو أنهم قالوا ﴾، لكنهم لم يقولوا، إذن فالأمر جاء على خلاف مراد المشرع.
﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم ﴾ و " اللعن " هو : الطرد والإبعاد، فهل تجنى الله عليهم في لعنهم وطردهم ؟ لا. هو لم يلعنهم إلا بسبب كفرهم، إذن فلا يقولن أحد : لماذا لعنهم الله وطردهم وما ذنبهم ؟ نقول : لا. هو سبحانه لعنهم بسبب كفرهم، إذن فالذي سبق هو كفرهم، وجاء اللعن والطرد نتيجة للكفر.
﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾. وساعة تسمع نفى حدث " لا يؤمنون " ثم يأتي استثناء " إلا "، فهو يثبت بعض الحدث، تقول مثلا : لا يأكل إلا قليلا، كلمة " لا يأكل " نفث الأكل، " وإلا قليلا " أثبتت بعض الأكل، فهو سبحانه يقول :" فلا يؤمنون إلا قليلا ". والإيمان حدث يقتضى محدثا هو : من آمن، إذن، فعندي حدث وفاعل الحدث، فساعة تسمع استثناء تقول : هذا الاستثناء صالح أن يكون للحدث، صالح أن يكون لفاعل الحدث، كلمة " فلا يؤمنون إلا قليلا " تعني : فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ؛ لأنهم يؤمنون قليلا بالصلاة، وبأنهم لا يعلمون يوم السبت، أما بقية مطلوبات الإيمان فليست في بالهم ولا يؤدونها، أو فلا يؤمنون إلا قليلا فقد يكون بعض منهم هو الذي يؤمن، وهذا صحيح عندما نقوله ؛ لأن بعضا منهم آمن بالفعل، ونجد أيضا أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيكون إيمانهم بالحدث نفسه.
وهناك أناس منهم بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلي القرآن ورأوا صورته فوجدوه مثلما وصف عندهم تماما فآمنوا، ولكن هل آمن كل يهود، او آمن قليل منهم ؟ آمن قليل منهم مثل : عبدا لله بن سلام، وكعب الأحبار، إنما عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود فلم يؤمنوا.
إذن فإن أردت أن بعضا " قليلا منهم " هو الذي آمن فهذا صحيح، ويصح أيضا أن الكافرين منهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وفي ذلك تعبير من الحق سبحانه وتعالى نسميه " صيانة الاحتمال " ؛ لأن القرآن ساعة ينزل بمثل هذا القول فمن الجائز وهذا ما حدث أن هناك أناسا من اليهود يفكرون في أنهم يعلنون الإيمان برسول الله، فلو قال :" فلا يؤمنون " فقط لكان من الصعب عليهم أن يعلنوا الإيمان لكن عندما يقول :" إلا قليلا " فالذي عنده فكرة عن الإيمان يعرف أن الذي يخبر هذا الإخبار عالم بدخائل النفوس، فصان بالاحتمال إعلان هؤلاء القلة للإيمان.
ويمكننا أن نشبه فجوة الانتقال : مثلما يكون هناك من يدخن السجائر، ويصل معدل تدخينه في اليوم مائة سيجارة، فإذا قلنا له : اجعله خمسين سيجارة، ثم ثلاثين، وهكذا، وبذلك نكون قد وزعنا عادته على بعض الزمن، وبدلا من أن تكون المسافة بين السيجارة والسيجارة عشر دقائق أو نصف ساعة فلنجعلها ساعة فنكون قد كسرنا جزءا من الاعتياد، وكذلك مرحليات الأمور الاجتماعية التي تنشأ من رتابة التعود.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ﴾. فالحق يوضح : لم نأت بحاجة جديدة، بل كلها مما عندكم. قد يقول قائل : مادامت مما عندهم فما الداعي لها ؟. نقول : لأن هناك جديدا في أقضية العصر التي لم تكن موجودة عندهم، والذي زاد هو معالجة تلك الأقضية الجديدة، ولكن أصل الإيمان موجود بالقرآن المعجز الذي ينزل من السماء ؛ بالمعجزة، بالتوحيد، والقضايا العقدية، كل هذه لا يوجد فيها خلاف.
﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا ﴾، وكلمة " أوتوا الكتاب " إلزام لهم بالحجة، وتعني : نحن لا نكلمكم بكلام لا تعرفونه ؛ لأنه يقول :" مصدقا لما معكم " إنهم يعلمون ما معهم جيدا، فكان من الواجب أن يقارنوا ويوازنوا ما جاء لهم من جديد على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عندهم، فإن وجدوه مصدقا لما عندهم فقد انتهت المسألة.
ثم انظر إلى التهديد﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولا ﴾، سبحانه يناديهم : بادروا، كما نقول مثلا :" الحق نفسك وآمن " ويقول الحق :﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ﴾. والطمس هو : المحو. فالشيء الذي طمس هو الذي محي بعدما كان شيئا مميزا، وكلمة " وجوه " وردت في القرآن بمعان متعددة، فتطلق مرة في البدن على ما يواجه وهو " الوجه " كما في قوله :
﴿ يوم تبيض وجوه ﴾ ( من الآية ١٠٦ سورة آل عمران ).
ونطلق الكلمة مرة على القصد والنية والوجهة، قال تعالى :
﴿ بلى من أسلم وجهه لله ﴾ ( من الآية ١١٢ سورة البقرة ).
و " أسلم وجهه " تعني قصده ووجهته ونيته.
إذن فمرة يطلق الوجه على الوجه الذي به المواجهة، ومرة يطلق على القصد، وما العلاقة بين القصد، والنية، والوجه ؟. لأن الإنسان إذا قصد شيئا اتجه إليه بوجهه، وسار له. إذن فالوجه يطلق على الجارحة " الوجه "، ويطلق على القصد والنية. ومادام يطلق بإطلاقين فيطلق على الوجه المعروف فينا، ويطلق على القصد والنية التي توجهنا فالاثنان يصحان.
وقوله :" نطمس وجوها " لأنه سبحانه أوضح : أنا مكرمكم وجعلت لكم سمات تميزكم، بشكلها : حواجب، وعينين، وأنفا جميلا، وفما، بحيث إنك لو أردت أن تخلق هذه الخلقة، لما استطعت، وسبحانه يعلن : أنا أقدر أن أطمس هذه الوجوه التي تميزكم، بحيث أردها على الأدبار، فيكون الوجه مثل القفا، هذه الوجوه التي تميزكم، بحيث أردها على الأدبار، فيكون الوجه مثل القفا، وتصبح كقطعة اللحم، هذا إن أردنا بقوله :" وجوها "، الوجه الذي في البدن.
وإن أردنا بالوجه " القصد " نقول : الذين يشترون الضلالة، والذين يريدون أن تضلوا السبيل، والذين يحرفون الكلام عن مواضعه، والذين يقولون :" راعنا "، والذين يقولون :" اسمع غير مسمع :. أليس لهم وجهة ؟ وما وجهتهم في هذا الموقف وما قصدهم ؟.
إن قصدهم هو صرف أنفسهم وصرف الناس عن إتباع محمد، فكأنه يقول لهم : بادروا وآمنوا قبل أن نطمس ونمحو قصدكم فلا يصل إلى منتهاه من صدكم عن الإيمان برسول الله، الحقوا أنفسكم قبل أن يحدث ذلك ونلعنكم ونطردكم من رحمتنا، ولذلك نجد سيدنا عبد الله بن سلام عندما سمع الآية، ذهب إلى رسول الله ويده على وجهه وقال : والله لقد خفت قبل أن أسلم أن يطمس وجهي.
وهذا دليل على أنه آمن بأن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنقاذ. وفي عهد سيدنا عمر رضي الله عنه نجد كعب الأحبار يذهب له، ولم تكن الآية قد بلغته، فلما بلغته ذهب إلى سيدنا عمر وهو واضع يده على وجهه خائفا أن يطمس وجهه قبل أن يعلن إسلامه. وذلك دليل على يقينه من أن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ.
وقد يقول قائل : ولكن منهم أناس لم يؤمنوا ولم يحدث لهم هذا الطمس. نقول : أهو قال سنطمس الوجوه فقط ؟ لا، بل قال أيضا :﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾ ويكفي أن هناك أناسا اعتقدوا أن الطمس قد يجيء وهم من وجوه أهل الكتاب ومن أحبارهم، فالذين آمنوا برسول الله من هؤلاء كانوا يعلمون كيد اليهود، فسيدنا عبد الله بن سلام قبل أن يسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أحب أن أسلم، ولكني أخشى إن أسلمت أن يقول اليهود في شرا فقبل أن أسلم أسألهم عني، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبار اليهود : ماذا تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا : سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وحبرنا ومجدوه، فلما سمع ابن سلام منهم هذا الكلام قال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله فقالوا : هو ابن كذا وابن كذا وسبوه، فقال ابن سلام : يا رسول الله ألم أقل لك : إنهم قوم بهت١.
فقد روى أن عبد الله بن سلام لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فنظر إلى وجهه الكريم فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر، فقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول شرائط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ؟ فقال عليه السلام :" أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته " فقال : أشهد أنك رسول الله حقا فقام ثم قال : يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أي رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ قالوا أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا : شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله واحذر. قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ﴾٢.
﴿ ومن قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ﴾ فإن أردنا طمس الوجه حقيقة، فهو الأمر الذي خاف منه عبد الله بن سلام وكعب الأحبار، هذا ذهب إلى رسول الله وذاك ذهب إلى عمر، وكل منهما كان يمسك وجهه خشية أن يطمس، إذن فقوله " نطمس وجوها " أي نجعلها مثل " القفا " مجرد قطعة لحم من غير تمييز، أو نحول بينهم وبين قصدهم أي لا نمكنهم من الوصول إلى ما يريدون من صدهم الناس عن الإيمان برسول الله.. ﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم ﴾ أو أن نطردهم من رحمتنا ومن ساحة إيماننا، فيقول الحق :
﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ ( من الآية ٧ سورة البقرة ).
ماداموا هم قد كفروا نقول لكل منهم : ألم تكن تريد أن تكفر ؟ والله سيزيد لك الختم على قلبك وسنعينك على هذه الحكاية أيضا قال تعالى :
﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ﴾ ( من الآية ١٠ سورة البقرة ).
فإذا كنت أنت تريد هذه فسنعطيك ما في نفسك﴿ فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾ وسبحانه يخاطب اليهود، واليهود يعرفون قصة السبت ويعرفون أنها واقعة حدثت، وطردهم الله وأهلكهم ولعنهم وأعد لهم عذابا عظيما. إذن فهو لا يأتيهم بمسألة وعيد بدون رصيد، لا، فهذا وعيد يسبقه رصيد.. أنتم يا معشر يهود تؤمنون به وتذكرونه وله تاريخ عندكم، ﴿ كما لعنا أصحاب السبت ﴾، وقصة أصحاب السبت معروفة وإن كانت ستأتي في سورة أخرى، و " السبت " وهو السكون والراحة، ومنه السبات أي النوم، فسبت يسبت يعني سكن واستقر وارتاح.
﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾، واللعن قالوا فيه : إنه الطرد والإهانة، وقالوا في معناه : إنه الإهلاك. والذين يحاولون أن يشككوا في مفهومات آيات القرآن يقولون : أنتم لا تقفون عند معنى واحد للكلمة، إما أن يراد كذا، وإما أن يراد كذا. نقول لهم : أنتم ليست لكم ملكة في اللغة حتى وإن تعلمتم اللغة فتعلمكم للغة تعلم صنعة لا تعلم ملكة. وتعلم الصنعة يعطيك القاعدة ولكن لا يعطيك قدرة وضع اللفظ في معناه الحقيقي ولا بيان المراد منه واللعن إذا كان معناه الطرد كان يجب أن تفهموا أن الطرد يقتضي طاردا، ويقتضي مطرودا ويقتضي مطرودا منه.
ومن الذي يطرد ؟.
ومن الذي يطرد ؟.
وعن أي شيء يطرد ؟.
حين تأخذون المعنى على هذا الوضع لا تجدون غضاضة في أن تتعدد معاني الطرد. فهب أنك تجلس للأكل ثم جاءك كلبك الذي تعتز به للحراسة ليحوم حول مائدتك، ماذا تصنع له ؟. تطرده عن المائدة، ذلك طرد. وهب أن ابنك مثلا صنع شيئا وعندك ضيوف فأردت أن تخرجه من المجلس وقلت له : اذهب عند أمك، هذا طرد.
وإذا كان ذنب الابن كبيرا ولك سيطرة فأنت قد تخرجه من البيت فلا يجلس فيه، وهذا طرد. وإذا كان ذنب الابن لا يحتمل فأنت تخرجه من القرية، وهذا طرد. فإذا كان هناك إنسان قد أذنب ذنبا كبيرا وكنت صاحب قوة نافذة فأنت تخرجه من الحياة كلها فتكون قد أبعدته من الحياة كلها. إذن فكل ذلك طرد. فإن أردنا الخزي والهوان يتأتى اللعن، وإن أردنا الإهلاك فقد هلك منهم الكثير في المعارك ونالوا الخزي والهوان ؛ لأننا سبينا نساءهم وبناتهم، وقهرناهم، وأهلكناهم، وأخرجناهم من ديارهم إلى بلاد الشام وإلى أذرعات، وأهلكهم الله بالموت. إذن فكل معاني الطرد تتأتى. فقد جاء يمس كل الذي حدث لهم، ولكنه يختلف باختلاف الطارد، وباختلاف المطرود، وباختلاف المطرود منه.
وحين يقول الحق :﴿ كما لعنا أصحاب السبت ﴾ فهذا يدل على أن اللعن له أشياء مختلفة، أنا سآخذ منها لعن أصحاب السبت، والسبت يوم من أيام الأسبوع، أي وحدة زمنية في الأسبوع، ونلحظ أن بقية أيام الأسبوع السبعة فيها إشارات إلى العدد، يوم الأحد يعني واحدا ويوم الإثنين تعني اثنين. وهكذا في الثلاثاء والأربعاء والخميس، ففيه خمسة أيام بأعدا
٢ قولهم بهت فلان فلانا. قذفه بالباطل وافترى عليه الكذب، واسم الفاعل بهوت والجمع بهت مثل: رسول ورسل.
رواه البخاري ومسلم والنسائي..
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ٤٨ ﴾.
هذه من أرجى الآيات في كتاب الله، ولذلك فحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما موجبات الإيمان ؟ أي ما الذي يعطينا الإيمان ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ".
وعن عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة " ١.
ونحن نقول إن من يشرك بالله فهو يرتكب الخيانة العقدية العظمى، وقد أخذنا هذا المصطلح من القوانين الوضعية، وإن كانت القوانين الوضعية ليس غرضها أن تؤكد قضايا دينية، لكن غفلتهم تجعلنا نلتقط منها أنها تؤكد القضايا الدينية أيضا. هب أن جماعة قاموا بحركة، وبعد ذلك استغل واحد منهم الحركة في نفع خاص له، وواحد آخر استغل الحركة في أن تكون له لا للآخر، أي ينقلب عليه، فالأول القائم على النظام يسميها خيانة عظمى، أما من لا يقاوم بغرض خلع الحاكم ولكنه يظلم الناس فقد يعاقبه الحاكم على ما حدث منه وليس على الخيانة العظمى. إذن ففي قانون البشر أيضا خيانة عظمى، وفيه انحراف وهو الذي لا يتعرض للسيادة، لكن أي حركة تتعرض للسيادة يكون فيها قطع رقاب، وكل أمر آخر إنما يؤخذ بدرجة من العقوبة تناسب ذنبه.
فالحق سبحانه وتعالى يوضح : أصل القضية الإيمانية أن الله سبحانه وتعالى يريد منكم أن تعترفوا بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له، وحين تعترف بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له. فأنت تدخل حصن الأمان، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :( أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك منهما إلا دخل الجنة )٢.
وأبو ذر عندما قال للنبي في محاورة بينهما حول هذه الآية، قال له :" ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق ( ثلاثا ) ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر٣.
لقد كان أبو ذر غيورا على حدود الله، فهل ساعة قال رسول الله : على رغم أنف أبي ذر ؛ هل هذه أحزنت أبا ذر ؟ لا، لم تحزنه، ولذلك عندما كان يحكيها ويقولها : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن رغم أنف أبي ذر وهو مسرور، لماذا ؟ لأنها فتحت باب رحمة الحق، لأنه إذا لم يكن هذا فما الفارق بين من اعتقدها وقالها وبين من لم يقلها ؟ فلابد أن يكون لها تمييز. وكل جريمة موجودة في الإسلام والحق سبحانه قد جرمها فهذا يعني أنها قد تحدث. مثال ذلك... يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ ( من الآية ٣٨ سورة المائدة ).
وهذا يعني أنه من الجائز أن يسرق المؤمن، وكذلك قد يزني في غفلة من الغفلات، وفي أسس الاستغفار يأتي البيان الواضح : من الصلاة للصلاة كفارة ما بينهما، والجمعة للجمعة كفارة، الحج كفارة، الصوم كفارة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر )٤.
أي أن ربنا قد جعل أبوابا متعددة للمغفرة وللرحمة، وهو سبحانه يقول :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ وهذه المسألة ليست لصالحه إنما لصالحكم أنتم حتى لا تتعدد آلهة البشر في البشر ويرهق الانسان ويشقى من كثرة الخضوع لكل من كان قويا عنه، فأعفاك الله من هذا وأوضح لك : لا، اخضع لواحد فقط يكفك كل الخضوع لغيره، واعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه، وفي ذلك راحة للمؤمن.
إن الإيمان إذن يعلمنا العزة والكرامة، وبدلا من أن تنحني لكل مخلوق اسجد للذي خلق الكون كله بصفات قدرته وكماله، فلم تنشأ له صفة لم تكن موجودة، هل أنتم زدتم له صفة ؟ لا. فهو بصفات الكمال أوجدكم وبصفات الكمال كان قيوما عليكم، فأنتم لم تضيفوا له شيئا، فكونك تشهد أن لا إله إلا الله. ما مصلحتها بالنسبة لله ؟ إن مصلحتها تكون للعبد فحسب.
ولذلك قلنا : إن الحق سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يجتمعوا كل أسبوع مرة ؛ لأنك قد تصلي فرضا فرضا في مصنعك أو في مزرعتك أو في أي مكان، إنما يوم الجمعة لا بد أن تجتمع مع غيرك، لماذا ؟ لأنه من الجائز أنك تذل لله بينك وبينه، تخضع وتسجد وتبكي بينك وبين الله، لكنه يريد هذه الحكاية أمام الناس، لترى كل من له سيادة وجاه يسجد ويخشع معك لله. وفي الحج ترى كل من له جاه ورئاسة يؤدي المناسك مثلك، فتقول بينك وبين نفسك أو تقول له : لقد استوينا في العبودية، فلا يرتفع أحد على أحد ولا يذل له بل كلنا عبيد لله ونخضع له وحده.
إذن فالمسألة في مصلحة العبد، ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾، لأنه لو غفر أن يشرك به لتعدد الشركاء في الأرض، وحين تتعدد الشركاء في الأرض يكون لكل واحد إله، وإذا صار لكل واحد إله تفسد المسألة، لكن الخضوع لإله واحد نأتمر جميعا بأوامره يعزنا جميعا.. فلا سيادة لأحد ولاعبودية لاحد عند أحد، فقوله :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾.. هذا لمصلحتنا.
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أتى وحشي وهو قاتل سيدنا حمزة في غزوة أحد، أتى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله. فقال رسول الله :" قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله قال : فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت هل يقبل الله مني التوبة ؟ فصمت رسول الله حتى نزلت :
﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما ٦٨ يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ٦٩ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما٧٠ ﴾ ( سورة الفرقان ).
فتلاها عليه فقال : أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ٤٨ ﴾ ( سورة النساء ).
فدعا به فتلا عليه قال : فلعلي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت :
﴿ قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ٥٣ ﴾ ( سورة الزمر ).
فقال نعم : الآن لا أرى شرطا فأسلم.
إذن فالمسألة كلها تلطف من الخالق بخلقه، واعتبار عمليات الغفلة عمليات طارئة على البشر، ومادام الحق يقنن تقنينات فمن الجائز أنها تحدث، لكن إذا حدثت معصية من واحد ثم استغفر عنها، إياك أن تأتي بسيرتها عنده مرة أخرى وتذكره بها وافرض أن واحدا شهد زورا، افرض أن واحدا ارتكب ذنبا، ثم استغفر الله منه وتاب. إياك أن تقول له : يا شاهد الزور ؛ لأنه استغفر من يملك المغفرة، فلا تجعله مذنبا عندك ؛ لأن الذي يملكها انتهت عنده المسألة.
لماذا ؟ لكيلا يذل الناس بمعصية فعلت، بل العكس ؛ إن أصحاب المعاصي الذين أسرفوا على أنفسهم يكونون في نظر بعض الناس هينين محقرين. ولذلك نقول : إن الواحد منهم كلما لذعته التوبة وندم على ما فعل كتبت له حسنة، فعلى رغم أنه ذاق المعصية لكنه مع ذلك تاب عنها، وهذا هو السبب في أن الله يبدل سيئاتهم حسنات، وعندما نعلم أن ربنا يبدل سيئاتهم حسنات فليس لنا أن نحتقر المسرفين على أنفسهم. بل علينا أن نفرح بأنهم تابوا، ولا نجعل لهم أثرا رجعيا في الزلة والمعصية.
﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾ و " الافتراء " هو الكذب المتعمد. لأن هناك من يقول لك قضية على حسب اعتقاده، وتكون هذه القضية كاذبة، كان يقول لك : فلان زار فلانا بالأمس.
هو قال ذلك حسب اعتقاده بأن قالوا له أو رأى أثرا للزيارة، على الرغم من أن مثل هذه الزيارة لم تحدث فيكون كذبا فقط، أما الشرك فهو تعمد الكذب على الله وهذا يطلق عليه :﴿ افترى إثما عظيما ﴾ لأنه مخالف لوجدانية الفطرة، كأن وجدانية الفطرة تقول : لا تقل إلا ما تعرفه فعلا وأنت متأكد بل عليك ألا تخالف فطرتك متعمدا وتجعل لله شريكا.
والحق سبحانه وتعالى عندما يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إما أن تكون هذه الكلمة صادقة فننتهي، وإما ألا تكون صادقة والعياذ بالله أي أن هناك أحدا آخر معه، وهذا الآخر سمع أن هناك واحدا يقول : لا إله إلا أنا. أسكت أم لم يسمع ؟ إن لم يكن قد سمع فيكون إلها غافلا، وإن كان قد سمع فلماذا لم يعارض ويقول : لا، لا إله إلا أنا، ويأتي بمعجزة أشد من معجزة الآخر ولم يحدث من ذلك شيء. إذن فهذه لا تنفع وتلك لا تنفع، ف " لا إله إلا الله " حين يطلقها الله ويأتي بها رسول الله ويقول الله : أنا وحدي في الكون ولا شريك لي، ولم ينازعه في ذلك أحد فالمسألة صادقة لله بالبداهة ولا جدال.
﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾ والافتراء كما يكون في الفعل وفي الكلام ويكون في الاعتقاد أيضا. " إثم عظيم "، وهذا يعني أن هناك إثما غير عظيم، " الإثم العظيم " هو الذي يخل قضية عقدية واحدة في الكون تشمل الوجود كله هي أنه لا إله إلا الله.
٢ رواه مسلم..
٣ رواه مسلم..
٤ رواه مسلم والترمذي..
﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ٤٩ ﴾.
وتقدم أن أشرنا إلى قول الحق :" ألم تر "، فإن كانت الصورة التي يخاطب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرئية أمامه تكن الرؤية على حقيقتها، وإن لم تكن مرئية أمامه وكان مراد الحق سبحانه أن يعلمه بها وهي غير معاصرة لرؤياه فالحق يقول :" ألم تر " يعني : ألم تعلم، وكان العلم بالنسبة لخبر الله يجب أن يكون أصدق مما تراه العين ؛ لأن العين قد تكذبه والبصر قد يخدعه، ﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾ و " التزكية " هي أولا : التطهير من المعايب وهذا يعني سلب النقيصة، وبعد ذلك إيجاب كمالات زائدة فيها نماء، والتزكية التي زكوا بها أنفسهم أنهم قالوا :
﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ ( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
وجاء الرد عليهم في هذه القضية بقوله الحق :
﴿ قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ﴾( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
يعني : إن كنتم أحباءه وأبناءه فلماذا يعذبكم ؟ إذن فهذه قضية باطلة، ثم ما فائدة أن تقولوها لنا ؟ أنملك لكم شيئا ؟ إذا كنتم تكذبونها على من يملك لكم كل شيء وهو الله سبحانه فما بالنا نحن بكم ؟ والتزكية التي فعلوها أنهم مدحوا أنفسهم بالباطل وبرأوا أنفسهم من العيوب وادعوا أنهم أبناء الله وهم ليسوا أبناء الله وليسوا أحباءه، وقالوا أيضا :
﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ ( من الآية ١١١ سورة البقرة ).
وتلك أيضا قضية باطلة، وهنا نسأل : هل إذا زكى الإنسان نفسه بحق تكون تلك التزكية مقبولة ؟. نقول : علينا أن نسأل : ما المراد منها ؟ إن كان المراد منها الفخر تكن باطلة، لكن تكون التزكية للنفس واجبة في أمر يحتم ذلك. مثاله : عندما تركب جماعة زورقا ويكون القائد أو من يجدف أو يمسك الشراع متوسط الموهبة، ثم قامت عاصفة ولا يقوى متوسط الموهبة على قيادتها. هنا يتقدم إنسان يفهم في قيادة الزوارق أثناء العواصف ويقول لمتوسط الموهبة : ابتعد عن القيادة فأنا أكثر فهما وكفاءة وقدرة منك على هذا الأمر ويزحزحه ويمسك القيادة بدلا منه، هذه تزكية للنفس، وهي مطلوبة ؛ لأن الوقت ليس وقت تجربة، وهو يزكي نفسه بحق، إذن فهناك فرق بين التزكية بالباطل وبين التزكية بالحق.
ونحن نعلم قصة سيدنا يوسف، ونعلم قصة رؤيا الملك حيث رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ! ! وكان المفروض العكس، انظر إلى الملحظية ؛ لأن سنين الجدب ستأكل سنين الخصب، لكن من الذي يتنبه إلى رموز الرؤيا. فتعبير الرؤيا ليس علما. بل هبة من الله يمنحها لأناس ويجعلهم خبراء في فك رموز شفرة الرؤيا، ودليل ذلك أن الملك قال هذه الرؤيا للناس فقالوا له :" أضغاث أحلام "، و " أضغاث " مفردها " ضغث " وهو الحشيش المخلوط والمختلف، لكنهم أنصفوا فقالوا :
﴿ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة يوسف ).
لقد أنصفوا في قولهم. لأن الذي يقول لك : لا أعلم فقد أفتى، فمادام قد قال : لا أدري فسيضطرك إلى أن تسأل سواه، لكن إن قال لك أي جواب فستكتفي به وتتورط، إذن فمن قال : لا أدري فقد أجاب. فهم عندما قالوا : أضغاث أحلام فقد احتالوا واحتاطوالانفسهم أيضا وقالوا :﴿ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾، وكان الحق سبحانه وتعالى قد صنع التمهيد ليوسف وهو في السجن عندما دخل عليه الفتيان :
﴿ ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة يوسف ).
ما الذي جعل الفتيين يعرفان أن يوسف المسجون هذا يعرف تأويل الأحلام ؟ لقد قالا وأوضحا العلة :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة يوسف ).
ومعنى ذلك أنهما شهدا سمته وسلوكه، وعرفا أنه إنسان مسالم، فلما حزبهما واشتد عليهما أمر يتعلق بذاتهما قالا : لا يوجد أحسن من هذا الإنسان نسأله، وقلت ولا أزال أكررها : إن القيم هي القيم، والصادق محترم حتى عند الكذاب، والذي لا يشرب الخمر محترم عند من يشرب بدليل أنهما عندما حزبهما أمر قالا :﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾.
وهل يحكم واحد على آخر أنه محسن إلا إذا كان عنده مقياس يعرف به الحسن ويميزه عن القبح ؟ وعندما قالا ذلك الأمر لسيدنا يوسف، كان من الممكن أن يجيبهما إلى تأويل رؤياهما، ولكن هذه ليست مهمته، بل فكر : لماذا لا يستغل هو حاجتهما إليه لأمر يتعلق بشخصيهما، وبعد ذلك ينفذ إلى مراده هو منهما قبل أن ينفذا إلى مرادهما منه، فهو نبي ومن سلالة أنبياء فأوضح لهما : وماذا رأيتما من إحساني ؟ إن عندي أشياء كثيرة :
﴿ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ﴾( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
فقد زكى نفسه، لكن انظروا لماذا زكى نفسه ؟ هو يريد أن يأخذ بيدهما إلى ربه هو، بدليل انه قال :﴿ ذلكما مما علمني ربي ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
إذن فالتزكية هنا مطلوبة، وقد ردها لله، وأعلن أن تلك ليست خصوصية لي، بل كل واحد من خلق الله يستطيع أن يكون مثلي :﴿ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يوسف ).
وبعد ذلك قال :
﴿ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ ( من الآية ٣٨ سورة يوسف ).
إذن فمن الممكن أن تكونوا مثلي إذا ما اتبعتم هذا الطريق، بعد ذلك قال لهم :
﴿ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة النجم ).
أي االه واحد احسن ام الهة متعددة ؟ فانتم يااصحاب الالهة المتعددة جئتم لصاحب الاله الواحد مع ان التعدد في الظاهر يعطي القوة لكن هذا التعدد اعطى الضعف لانكم يااصحاب الالهة التعددة لجاتم الى صاحب الاله الواحد :
( ءارباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار ) ( من الاية ٣٩ سورة يوسف ).
إذن فهو زكى نفسه أمامهما لكي يأخذهما إلى جانب من زكى، وهو الحق سبحانه وتعالى، وبعد ذلك عندما علم الملك قال : ائتوني به أستخلصه لنفسي، ويكون مقربا مني. ثم بعد ذلك جاءت سنون الجدب التي تنبأ بها أولا في تفسير الرؤيا، وأشار عليهم بضرورة الادخار من سنين الخصب لسنين الجدب، لقد كانت التجربة إخبارا لأشياء ستحدث، فلما وقعت علم أن المسألة ليست تجارب بل هي مسألة دقيقة.. فقال للملك :﴿ اجعلني على خزائن الأرض ﴾ ( من الآية ٥٥ سورة يوسف ).
إذن فقد زكى نفسه، وجاء بالحيثية :
﴿ إني حفيظ عليم ﴾ ( من الآية ٥٥ سورة يوسف ).
لأن هذه المسألة تحتاج حفظا وعلما، فهي أمر غير خاضع للتجريب، فيجرب واحد فيخيب، ويجرب آخر فيخيب، لا، إنها تحتاج لحفظ وعلم، ومثال ذلك أيضا عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم، قال له المنافقون : اعدل يا محمد ! فيقول لهم : والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، فهو يزكي نفسه، إذن فمتى تكون التزكية مطلوبة ؟ أولا : أن تكون بحق، وأن يكون لها هدف عند من يعلم التزكية وإلى من يعطيك التزكية ويثني عليك بما فيك وما أنت أهل له فتكون هذه تزكية صحيحة ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ٣٢ ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة النجم ).
لأنك تزكي نفسك عند الذي سيعطي الجزاء وهو يعلم، إذن فمن الحمق أن يزكي الإنسان نفسه في غير المواقف التي يحتاج فيها الأمر إلى تزكية تكون لفائدة المسلمين لا لفائدته الخاصة، والحق يقول :
﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ٤٩ ﴾ ( سورة النساء ).
إن الحق سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فمن الممكن أن واحدا يتصنع ويتكلف في نفسه مدة من الزمن أمامك، لكن هناك أشياء أنت لا تدركها، لكن ربنا عندما يزكي تكون تزكيته عن علم وعن خبرة، ومع ذلك أحين يزكون أنفسهم، أهذه محت حسناتهم ؟ لا. فعلى الرغم من أنهم زكوا أنفسهم فالحق لن يأخذهم هكذا، ويضيع حسناتهم ولكنهم " لا يظلمون فتيلا " وهذه مطلق العدالة.
ونعرف أن القرآن نزل بلسان عربي على نبي عربي، والذين باشروه أولا عرب، ونعرف أن أغلب إيحاءاته كانت متوافقة مع البيئة، وكان عندهم " النخل " وهي الشجرة المفضلة ؛ لأنها شجرة لا يسقط ورقها، وكل ما فيها له فائدة، فلا يوجد شيء في النخلة إلا وفيه فائدة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي ؟.
فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة " قال عبد الله فاستحييت، فقالوا : يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" وهي النخلة " قال عبد الله : فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال : لأن تكون قلتها أحب إلى من أن يكون لي كذا وكذا " ١.
وللنخلة فوائد كثيرة، فكل ما نأخذه منها نجد له فائدة حتى الليف حولها يحمل الجريد نأخذه ونصنع منه مكانس وليفا و " مقاطف " و " كراسي ". وحينما يطلب سبحانه وتعالى مثالا على شيء معنوي فهو يأتي بالشيء المحس في البيئة العربية.
" ولا يظلمون فتيلا " و " الفتيل " من " الفتلة "، ومن معناها : الشيء بين الأصابع، فأنت حين تدلك أصابعك مهما كانت نظيفة يخرج بعض " الوساخات مثل الفتلة "، أو " الفتيل " هو : الخيط في شق نواة البلحة ونواة التمرة، وجاء سبحانه وتعالى في القرآن بثلاثة أشياء متصلة بالنواة.
ب " الفتيل " هنا، وجاء ب " النقير " : وهو النقرة الصغيرة في ظهر النواة ومأخوذة من المنقار، كأنها منقورة، وجاء ب " قطمير " : وهي القشرة التي تلف النواة، مثل قشرة البيض الداخلية وهي قشرة ناعمة، إذن ففي النواة ثلاثة أشياء استخدمها الله. الفتيل و " النقير "، و " القطمير ".
والحق يقول :
﴿ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ﴾ ( من الآية ٥٣ سورة النساء ).
إذن فالحق سبحانه وتعالى أخذ من النواة ثلاثة أشياء ويعطينا من الشيء المحس أمامنا أمثالا يراها العربي في كل وقت أمامه ويأخذ الحق أيضا أمثالا من السماء فيأتينا بمثل : " الهلال "، يقول في الهلال وهو صغير :
﴿ كالعرجون القديم ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة يس ).
فسباطة البلح فيها شماريخ، وفيها يد تحمل الشماريخ، فهذا اسمه " العرجون "، والعرجون عندما يكون جديدا يكون مستقيما، لكنه كلما قدم ينثني وينحني، فجاء لهم من الهلال في السماء وأعطاهم مثالا له في الأرض " كالعرجون القديم "، والعرب قد اخذواأمثالا كثيرة، لكن هناك حاجات قد لا يتنبه إليها مثل قول العربي :
وغاب ضوء قمير كنت أرقبه **** مثل القلامة قد قدت من الظفر
فساعة تقص أظافرك تجدها مقوسة. لكن هذه المسألة لا يتنبه لها كل واحد، فهو جاء بشيء واضح وقال :" كالعرجون القديم " إذن فالحق سبحانه وتعالى حين يعطي مثالا لأمر معنوي فهو يأتي من الأمر المحس أمامك ليقرب لك المعنى، وعندما تأكل التمرة لا تلتفت إلى الفتيلة مما يدل على أنها شيء تافه، والنقير والقطمير كذلك. إذن فربنا أخذ من النواة أمثلة، وأخذ من النخلة أمثلة كي يقرب لنا المعاني. " ولا يظلمون فتيلا ".
وقول الحق " انظر " هي أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكل خطاب لرسول الله هو خطاب لأمته، وعرفنا من قبل أن " الافتراء " : كذب متعمد { يفترون على الله الكذب " في قولهم عندما أرادوا أن يزكوا أنفسهم :
﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ ( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
وقولهم :
﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ ( من الآية ١١١ سورة البقرة ).
﴿ انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا "، لماذا ؟ لأنك إن تكذب على مثلك ممن قد يصدقك فهذا معقول، لكن إن تكذب على إله فهذه قحة ؛ لذلك قال الحق :{ وكفى به إثما مبينا ﴾.
إذن فالكذب مطلقا هو إثم و الكذب المبين : هو الكذب على الله، والمهم أنه لم يفدك.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ٥١ ﴾.
قوله :﴿ أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ يعني عندهم صلة وعلاقة بالسماء وبالرسل، وبالكتب المنزلة من السماء على الرسل التي تحمل مناهج الله، ولو كانوا أناسا ليس لهم مثل هذا الحظ لكان كلامهم هذا معقولا لانقطاع أسباب السماء عنهم. إنما هؤلاء عندهم نصيب من الكتاب، وأولى مهمات الكتب السماوية أن تربط المخلوق بالخالق، وربط المخلوق بالخالق هو تربيب لقدرات المخلوق وتنميتها ؛ لأن أسباب الله في الكون قد تعز عليك، وقد تقفر يدك منها. فإذا لم يكن لك إله تلجأ إليه عند عزوف الأسباب انهرت، وربما فارقت حياتك منتحرا، لكن المؤمن بالله ساعة تمتنع عنه أسبابه يقول : لا تهمني الأسباب، لأن عندي المسبب.
إذن فالإيمان بالله يعطيك قوة. والإيمان بالله يقف المؤمنين على أرض صلبة، فمهما عزت أسبابك وانتهت فاذكر المسبب. وحين تذكر المسبب تجد آفاق حياتك رحبة، فالذين ينتحرون إنما يفعلون ذلك لأن الأسباب ضاقت عليهم، وعلموا أنه لا مناص من أنهم في عذاب. لكن المؤمن يقول : يارب، ومجرد أنه يقول : يا رب، فهذا قول يريحه حتى قبل أن يجاب ؛ لأنه التفت إلى مسبب الأسباب حين عزت عليه الأسباب.
وساعة يلتفت إلى مسبب الأسباب عند امتناع الأسباب فهو يأخذ قوة الإيمان من حيث لا يحتسب، إنك بمجرد أنك قلت : يارب تجد نفسك قد ارتاحت ؛ لأنك وصلت كل كيانك بالخالق، وكيانك منه ما هو مقهور لك، ومنه ما هو غير مقهور لك. والكيان نفسه سيأتي في الآخرة ويشهد على الإنسان.
ستشهد الأرجل والجلود وغيرها من الأبعاض. لأنها في الدنيا كانت مقهورة لإرادتي، أنا أقول ليدي : افعلي كذا، ولرجلي : اسعي لكذا، وللساني : سب فلانا، فالله سخر الجوارح وأمرها : يا جوارح أنت خاضعة لإرادة صاحبك في الدنيا. لكن في يوم القيامة أيكون لي إرادة على جوارحي ؟ لا، ستتمرد علي جوارحي :
﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ ( من الآية ٢١ سورة فصلت ).
وتقول الجوارح لنا : أنتم استخدمتمونا في الدنيا وحملتمونا أن نفعل أشياء نحن نكرهها، فدعونا اليوم لنشهد، إنها تخرج أسرارها ؛ لأن الملك الآن للواحد القهار :
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ١٦ سورة غافر ).
انتهت سيطرة الإنسان وليس لأحد غير الله إرادة على الأبعاض.
إذن فالنصيب من الكتاب هو أول شيء يربط المخلوق بالخالق، فإذا ارتبط المخلوق بالخالق قويت أسبابه، ويستقبل الأحداث بثبات، ويأتيه فرج ربنا، وعندما نقرأ القرآن يجب أن نلتفت إلى اللقطات العقدية فيه، فقد عرفنا مثلا : أن سيدنا موسى عندما أراد أن يأخذ بني إسرائيل من فرعون ويخرج بهم، وقبل أن يصل بهم إلى البحر تنبه لهم قوم فرعون وجاءوا بجيوشهم، وكان قوم فرعون من ورائهم والبحر من أمامهم، فقال قوم موسى إيمانا بالأسباب :
﴿ إنا لمدركون ﴾ ( من الآية ٦١ سورة الشعراء ).
بالله أأحد يكذب هذه المقولة ؟ ! لا، فماذا قال موسى عليه السلام ؟ لم يقل مثلما قال قومه، ولكنه نظر للمسبب الأعلى فقال بملء فيه :
﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ﴾ ( من الآية ٦٢ سورة الشعراء ).
وهل تكذب مقولته ؟ لا. لا تكذب ؛ لأنه لم يقل :" كلا " اعتمادا على أسبابه. فليس من محيط أسبابه أن يخرج من مثل هذا الموقف، بل قال :﴿ إن معي ربي سيهدين ﴾، هذه ثمرة الإيمان، فلما قال :﴿ إن معي ربي سيهدين ﴾، ماذا قال له الله ؟.
قال له :﴿ اضرب بعصاك البحر ﴾ ( من الآية ٦٣ سورة الشعراء ).
لم يقل له : اهجم عليهم واغلبهم، لا. بل قال :﴿ اضرب بعصاك البحر ﴾ ؛ كي يعطي الشيء ونقيضه، ولتعرف أن مرادات الحق سبحانه وتعالى تعطي الشيء ونقيضه، ولا أحد من البشر يقدر أن يصنع مثل ذلك، فلما قال له : اضرب بعصاك البحر، ضرب موسى البحر بالعصا، وكان موسى يعلم قانون الماء استطراقا وسيولة، لكن هاهي ذي المعجزة تتحقق :
﴿ فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ ( من الآية ٦٣ سورة الشعراء ).
و " الطود " هو الجبل، والجبل فيه صلابة، والماء فيه رخاوة. فكيف انتقلت الرخاوة إلى صلابة ؟ إن الماء مهمته الاستطراق، أي لا يمكن أن توجد منطقة منخفضة والماء أعلاها، بل لابد أن ينفذ منها، وعندما أطاع موسى أمر الله أراد أن يطمئن بأسباب البشر، فأراد أن يضرب البحر كي يعود البحر مثلما كان ؛ حتى لا يأتي قوم فرعون وراءه فقال له ربنا :
﴿ واترك البحر رهوا ﴾ ( من الآية٢٤ سورة الدخان ).
أي : اتركه كما على هيئته قارا ساكنا ؛ لأنني أريد أن يغريهم ما يرون من اليبس في البحر فينزلوا، فأعيد الماء إلى استطراقه وأطبقه عليهم، فأكون قد أنجيت وأهلكت بالشيء الواحد.
يقول الحق :﴿ الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ وكيف ذلك ؟.
بعد موقعة أحد جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق، وأبو رافع. هؤلاء هم صناديد اليهود، وأخذوا أيضا سبعين من اليهود معهم ونزلوا على أهل مكة، ونقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله. وبعد ذلك نزل كعب ابن الأشرف زعيمهم على أبي سفيان وقال له : نريد أن نتعاهد على أننا نقف أمام محمد. فقال أبو سفيان : أنت صاحب كتاب، وعندك توراة، وعندك إيمان بالسماء، وعندك رسول، ونحن ليس عندنا هذا، و " محمد " يقول : إنه صاحب كتاب ورسول، إذن فبينكما علاقة الاتصال بالسماء، فما الذي يدرينا أنك متفق معه علينا في هذه الحكاية ؟ إننا لا نامن مكرك، ولن نصدق كلامك هذا إلا إذا جئت لآلهتنا وأقمت مراسم العبادة عندها فسجدت لها.
و " الجبت والطاغوت " هما صنمان لقريش، وذهب إليهما اليهود أصحاب التوراة الذين عندهم نصيب من الكتاب وخضعوا لهما، أو " الجبت " هو كل من يدعو لغير الله سواء أكان شيطانا أم كاهنا أم ساحرا، فإذا كان هذا هو " الجبت ". ف " الطاغوت " من " طغى " وهو اسم مبالغة وليس " طاغيا ".. بل " طاغوت " وهو الذي كلما أطعته في ظلم ارتقى إلى ظلم أكثر.. وسواء أكان الجبت والطاغوت صنمين أم إلهين من الآلهة التي يتبعونها، المهم أن وفد اليهود خضعوا لهم وسجدوا، لكي تصدق قريش عداء اليهود لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك سأل كعب بن الأشرف أبا سفيان : ماذا فعل محمد معكم ؟ قال له : فارق دين آبائه، وقطع رحمه وتركهم وفر إلى المدينة، ونحن على غير ذلك. نحن نسقي الحجيج، ونقري الضيف، ونفك العاني الأسير ونصل الرحم، ونعمر البيت ونطوف به. وعظم أبو سفيان في أفعال قريش !، فقال الذين أوتوا الكتاب لعداوتهم لمحمد قالوا لأبي سفيان وقومه : أنتم أهدى من محمد سبيلا !.
ويوضح ربنا : يا محمد انظر لعجائبهم ؛ إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، ومع ذلك فعداوتهم لك ووقوفهم أمام دينك وأمام النور الذي جئت به، جعلهم ينسون نصيبهم من الكتاب، ويؤمنون بالجبت والطاغوت ؛ وهم القوم أنفسهم الذين كانوا يقولون للعرب قديما : إنه سيأتي نبي منكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. لكن هاهم أولاء يذهبون ويؤمنون بالطاغوت والجبت، فهل عند مثل هؤلاء شيء من الدين ؟.
إن الحق سبحانه يريد أن يطمئن رسول الله بأن هؤلاء انعزلوا عن مدد السماء، فإن نشب بينك وبينهم حرب أو خلاف فاعلم أن الله قد تخلى عنهم لأنهم تركوا النصيب من الكتاب الذي أوتوه. وإياك أن يأتي في بالك أن هؤلاء أصحاب كتاب.
إن الحق يطمئن رسوله أنه سبحانه قد تخلى عنهم وأن الله ناصرك يا محمد فلا يغرنك أنهم أصحاب مال او اصحاب علم او أصحاب ثروات، فكل هذا إلى زوال ؛ لأن حظهم من السماء قد انقطع ؛ ولأن الشرك قد حازهم وملكهم وضمهم إليه وقد جعلوا العداوة لك والانضمام إلى الكفار الذين كانوا يستفتحون عليهم، ببعثك ورسالتك، ثمنا لأن يتركوا الإيمان.
وكيف يلحق الله الخزي بالكافرين ؟ لأنك تجد المد الإسلامي كل يوم يزداد وهم تتناقص أرضهم :﴿ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ﴾ ( من الآية سورة الرعد ).
﴿ أولئك الذين لعنهم الله ﴾.. إذن فالطارد هو الله، فحين يكون الطارد مساويا للمطرود، ربما صادف من يعينه، لكن إذا كان الطارد هو الله فلا معين للمطرود، " ومن يلعن الله " أي من يطرده ربنا " فلن تجد له نصيرا " ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى مادام قد طرده.. فسبحانه يدخل في روع الناس كلهم أن يتخلوا عنه لأي سبب من الأسباب فلا ينصره أحد ﴿ أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ﴾.
إنه سبحانه يصفهم بفرط البخل وشدة الشح، أي أنهم في واقع الأمر ليس لهم ملك الدنيا وليس لهم أيضا ملك الله ؛ فالملك له وحده جل شأنه يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ولكنهم لو أعطوا ملك الدنيا وملك الله لبخلوا وضنوا بما في أيديهم. كما جاء في قوله سبحانه :
﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ١٠٠ ﴾ ( سورة الإسراء ).
أي إنكم تخشون الإنفاق حتى لا تقل الأموال عندكم، فلو أخذتم خزائن ربنا فستقولون لو أخذنا منها وأعطينا الناس لقلت ! وفحوى العبارة : أن كل هؤلاء سواء أكانوا كفار قريش أم كبراء اليهود، كانوا يحافظون على مكانتهم وأموالهم ؛ لأن رسول الله صلى اله عليه وسلم جاء ليسوي بين الناس، فمن الذي يحزن ؟ الذي يحزن هم الذين كانت لهم السيادة لأنهم لا يريدون أن تتساوى الرءوس، ويا ليتهم عندما أخذوا السيادة جعلوها خيرا للناس، لكنهم لم يفعلوا. فلو كان لهم الملك والأموال لن يعطوا للناس نقيرا ؛ لأن الإنسان بطبيعته لا ينزل عن جبروته ؛ لأن هذا الجبروت يعطيه سلطانا، ومادام الجبروت أعطاه سلطانا فلا يلتفت إلى حقيقة الإيمان، فإن خير الخير أن يدوم الخير، فليس فقط أن تكون في خير وسلطة لكن اضمن إنه يدوم، وهذا الدوام ستأخذه بعمر الدنيا وأمدها قليل وعمرك فيها غير مضمون، إذن فدوام الخير هناك في الآخرة :
﴿ لا مقطوعة ولا ممنوعة ٣٣ ﴾ ( سورة الواقعة ).
فأنتم إن كنتم تحرصون على هذا الجاه، وتريدون أن يكون لكم هذا الملك والجاه والعظمة فهل أنتم تعطون الناس من خيركم هذا حتى يكون هناك عذر لكم في الحرص على المال بأن الناس تستفيد منكم ؟.
فلماذا تريدون أن يديم ربنا عليكم هذه وأنتم في قمة البخل والشح ؟ لا يمكن أن يديمها عليكم.
ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الفجر يوضح هذه العملية :
﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ١٥ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ١٦ ﴾ ( سورة الفجر ).
إذن فالذي عنده نعمة يقول } ربي أكرمن }، والذي ليس عنده نعمة يقول :﴿ ربي أهانن ﴾، فيقول الحق تعقيبا على القضيتين ( كلا ).
ومادام سبحانه يقول تعقيبا على القضيتين ( كلا ) فمعنى هذا أن كلا الطرفين كاذب ؛ فأنت تكذب يا من قلت : إن النعمة التي أخذتها دليل الإكرام، وأنت كذاب أيضا يا من قلت : عدم المال دليل الإهانة، فلا إعطاء المال دليل الإكرام، ولا سلب المال دليل الإهانة. وهي قضية صادقة وخاطئة من أساسها. وقال الحق في حيثيات ذلك :
﴿ كلا بل لا تكرمون اليتيم ١٧ ﴾ ( سورة الفجر ).
أي عندكم المال ولا تكرمون اليتيم، إذن فهذا المال هو حجة عليكم، فهو ليس إكراما لكم بل سيعذبكم به. ويضيف سبحانه :
﴿ ولا تحاضون على طعام المسكين ١٨ ﴾ ( سورة الفجر ).
فكيف يكون المال إذن إكراما وهو سيأتيك بمصيبة ؟ فعدمه أفضل ؛ فالمال الذي يوجد عند إنسان ولا يرعى حق الضعفاء فيه هو وبال وشر ؛ لأن الحق يقول :
﴿ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ ( من الآية ١٨٠ سورة آل عمران ).
فإن بخلت كثيرا فستطوق بغل أشد ؛ ولذلك عندما يشتد عليه الغل يقول : ياليتني خففت هذا الغل، والحق يتساءل في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لماذا يتفقون مع معسكر الشرك، ويتركون النصيب الذي أعطوه من الكتاب، ويذهبون ليقولوا للذين كفروا : أنتم أهدى من محمد سبيلا مع أنهم يعلمون بحكم ما عندهم من نصيب الكتاب أن محمدا على حق ؟.
لقد كانوا يحافظون على سيادتهم، ومعسكر الشرك يحافظ على سيادته، ونعلم أن اليهود كانوا في المدينة من أصحاب الثروات، وكانوا يعيشون على الربا، وهم أصحاب الحصون، وأصحاب الزراعات وأصحاب العلم، إذن فقد أخذوا كل عناصر السيادة. وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تزلزلت كل هذه المسائل من تحت أقدامهم، وحزنوا. وكذلك كفار قريش : كانت لهم السيادة على كل الجزيرة، فلا يستطيع أحد من أي قبيلة في الجزيرة أن يتعرض لقافلة قريش ؛ لأن القبائل تخاف من التعرض لهم، ففي موسم الحج تذهب كل القبائل في حضن قريش. والمهابة المأخوذة لهم جاءت لهم من البيت الحرام الذي حفظه الله ورعاه وهزم من أراده بسوء ورد كيده ودمره تدميرا تاما. كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ألم يجعل كيدهم في تضليل ٢ وأرسل عليهم طيرا أبابيل ٣ ترميهم بحجارة من سجيل ٤ فجعلهم كعصف مأكول ٥ ﴾ ( سورة الفيل ).
وعلة هذه العملية تأتي في السورة التالية لها، وهي قوله سبحانه :
﴿ لإيلاف قريش ١ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ٢ ﴾ ( سورة قريش ).
فلولا أنه سبحانه جعل هذا البيت لعبادته لانتهى وانتهت منهم السيادة فلا يقدرون أن يذهبوا إلى رحلة الشتاء ولا إلى رحلة الصيف ؛ ولذلك يقول سبحانه :
﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ٣ ﴾ ( سورة قريش ).
فسبحانه الذي جعل لهم السيادة والعز. وهو :
﴿ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ٤ ﴾ ( سورة قريش ).
وجاء لهم بثمرات كل شيء، وآمنهم من خوف حين تسير قوافلهم في الشمال وفي الجنوب.
﴿ أم لهم نصيب من الملك ﴾ فإذا كان لهم هذا النصيب، فلا يأتون الناس نقيرا أي لا يعطونهم الشيء التافه.
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ٥٤ ﴾.
والحسد هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لان ربنا قد اصطفاه واختاره للرسالة ولذلك قال بعض منهم :
﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ ﴾ ( سورة الزخرف ).
إذن فالقرآن مقبول في نظرهم، لكن الذي يحزنهم أنه نزل على محمد، وهذا من تغفيلهم، وهو مثل تغفيل من قالوا :
﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأنفال ).
لقد تمنوا الموت والقتل رميا بالحجارة من السماء ولم يتمنوا إتباع الحق، وهذا قمة التغفيل الدال على أنها عصبية مجنونة، ولذلك يقول الحق :
﴿ أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الزخرف ).
وسبحانه يؤكد لنا أنه يختص برحمته من يشاء، فلماذا الحسد إذن ؟ إنهم يحسدون الناس أن جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولو أنهم استقبلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم استقبالا عادلا بعين الإنصاف لوجدوا أن كل ما جاء به هو كلام جميل. من يتبعه تتجمل به حياته. وكان مقتضى من آتاهم الله من فضله علما من الكتاب أن يبشروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما دعاهم إلى ذلك ما نزل عليهم في كتابهم وأن يكونوا أول المصدقين به، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كذبوا وصدوا عن سبيله وفضلوا عليه الكافرين الوثنيين. فقالوا إنهم أهدى من محمد سبيلا.
والحق سبحانه وتعالى حي يتفضل على بعض خلقه بخصوصيات يحب سبحانه أن تتعدى الخصوصيات إلى خلق الله ؛ لأننا نعرف أن في كل خلق من خلق الله خصوصية مواهب، فإذا ما تفضل المتفضل بموهبته على الخلق تفضل بقية الخلق عليه بمواهبهم، إذن فقد أخذ مواهب الجميع حين يعطي الجميع.
وهؤلاء قوم آتاهم الله نصيبا فبخلوا وضنوا أن وليتهم ضنوا على أمر يتعلق بهم، بل على الأمر الذي وصلهم بالإله، وهو أنهم أصحاب كتاب عرفوا عن الله منهجه، وعرفوا عن الله ترتيب مواكب رسله فيريد الحق سبحانه أن يقول لهم : أنتم أوتيتم نصيبا من الكتاب فلم تؤدوا حقه، وأيضا أنكم لو ملكتم الملك فإنكم لن تؤدوا حقه، ولن تعطوا أحدا مقدار نقير وهو النقرة على ظهر النواة، ولذلك قال :
﴿ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ٥٣ ﴾ ( سورة النساء ).
إذن فلا هم في المعنويات والقيم معطون، ولا هم في الماديات معطون. فإذا كانوا قد بخلوا بما عندهم من القيم فهم أولى أن يبخلوا بما عندهم من المادة، وبذلك صاروا قوما لا خير فيهم أبدا.
ثم يوضح الحق : إذا كان هؤلاء قد أوتوا نصيبا من الكتاب يعرفهم سمات الرسول المقبل الخاتم فما الذي منعهم أن يؤمنوا به أولا ويؤيدوه ؟. لا شك أنه الحسد، على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم، جاء مصدقا لما معهم انهم لاشك حسدوا الرسول صلى الله عليه وسلم والحسد لا يتأتى إلا عن قلب حاقد، قلب متمرد على قسمة الله في خلقه ؛ لأن الحسد كما قالوا : هو أن تتمنى زوال نعمة غيرك، ويقابله " الغبطة " وهي أن تتمنى مثل ما لغيرك، فغيرك يظل بنعمة الله عليه، ولكنك تريد مثلها. وأنت إن أردت مثلها من الله فلا بد أن تغبطه، والحق يقول :
﴿ ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ﴾( من الآية ٩٦ سورة النحل ).
ولذلك يجب أن يكون الناس في عطاء الله غير حاسدين وغير حاقدين. لكن بعض الناس ربما حسدوا غيرهم من الذين يعطيهم الأغنياء رغبة في أن يكون ذلك لهم وحدهم فإنك إن كان عندك كم من المال ثم اتصل بك قوم في حاجة فأعطيتهم منه، ربما قال الآخرون ممن يرغبون في عطائك ويأملون في خيرك : إنك ستنقص مما عندك بقدر ما تعطي هؤلاء ؛ لأن ما عندك محدود، ولكن هنا العطاء ممن لا ينفذ ما عنده، إذن فيعطيك ويعطي الآخرين ولا ينقص مما عنده شيء.
إذن فالغبطة أمر بديهي عند المؤمن ؛ لأنه يعلم أن عطاء الله لواحد لا يمنع أن يعطي الآخر، ولو أعطى سبحانه كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، وذلك كما جاء في الحديث القدسي :" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر " ١.
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم ﴾، فالحسد كما عرفنا هو : أن يتمنى إنسان زوال نعمة غيره، هذا التمني معناه أنك تكره أن تكون عند غيرك نعمة، ولا تكره أن يكون عند غيرك نعمة إلا إذا كنت متمردا على من يعطي النعم.
إن أول خطأ يقع فيه الحاسد هو : رده لقدر الله في خلق الله، وثاني ما يصيبه أنه قبل أن ينال المحسود بشر منه ؛ فقلبه يحترق حقدا. ولذلك قالوا : الحسد هو الذنب أو الجريمة التي تسبقها عقوبتها ؛ لأن كل جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحسد، فقبل أن يرتكب الحاسد الحسد تناله العقوبة ؛ لأن الحقد يحرق قلبه وربما قال قائل : وما ذنب المحسود ؟.. ونقول : إن الله جعل في بعض خلقه داء يصيب الناس، والحسد يصيبهم قي نعمهم وفي عافيتهم. وما ذنب المقتول حين يوجه القاتل مسدسه ليقتله به ؟ هذه مثل تلك. فالمسدس نعمة من نعم الله عند إنسان ليحمي نفسه به، وليس له ان يستعمله في باطل.
وهب أن الله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان شيئا يكره النعمة عند غيره، فلماذا لا يتذكر الإنسان حين يستقبل نعمة عند غيرك أن يقرنها بقوله :﴿ ما شاء الله لا قوة إلا بالله ﴾. فلو قارنت كل نعمة عند غيرك بما شاء الله الذي لا قوة إلا به لرددت عن قلبك سم حقدك. فأنت تتذكر أن الإنسان لم يعط نفسه أي نعمة. إنما ربنا هو الذي أعطاه، وسبحانه قادر على كل عطاء، ومن الممكن أن يحسد الإنسان. لكن الذي يجد الحسد في نفسه ويريد أن يطفئه، عليه أن يرد كل شيء إلى الله، ومادام قد رد كل شيء إلى الله فقد عمل وقاية لنفسه من أن يكون حاسدا. ووقاية للنعمة عند غيره من أن تكون محسودة، والحق سبحانه وتعالى يبين لنا ذلك في قوله سبحانه :﴿ ومن شر حاسد إذا حسد ٥ ﴾ ( سورة الفلق ).
إذن فمن الممكن أن يمتلئ قلب أي واحد منا بالحقد على نعمة وبعد ذلك يحدث منها حسد، وعلى كل واحد منا أن يمنع نفسه من أن يدخل تيار الحقد على قلبه ؛ لأن تيار الحقد يحدث تغييرا كيماويا في تكوين الإنسان وهذا التغير الكيماوي هو الذى يسبب التعب للانسان، وما يدرينا أن هذا التوتر الكيماوي من النعمة عند غيره تجعل في نفس الإنسان وفي مادته تفاعلات، وهذه التفاعلات يخرج منها إشعاع يذهب للمحسود فيقتله ؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ ومن شر حاسد إذا حسد ٥ ﴾ ( سورة الفلق ).
وعندما تستعيذ بالله من شر الحاسد ألا يصيبك، قد يصيبك، ولكن استعاذتك من شره تعني أنه إن أصابك فعليك أن تسترجع، فتقول ﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ وتعلم أن ذلك خير لك ؛ فإن أصابك في نعمة فاعلم أن هذه المصيبة فيها خير، فالحاسد إذا أصابك في شيء من نعم الله عليك، فالشر هو أن تحرم الثواب عليها ! !.. فالمصاب هو من حرم الثواب، فإذا جاءت مصيبة لأي واحد وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم إنك ربي وإنك لا تحب لي إلا الخير لأني صنعتك ولم تجر علي إلا الخير.. لكنني قد لا أستطيع أن أفهم ذلك الخير.
إن المسلم إذا صنع ذلك فالله سبحانه وتعالى يبين له فيما بعد أنها كانت خيرا له، فإن أصابه في ولده وقال : من يدريني لعل ولدي الذي أماته الله كان سيفتنني فأكفر أو أسرق له وآخذ رشوة من أجله. لكن الله أخذه مني ومنع عني ذلك الشر، أو أن النعمة قد تطغيني، وقد تجعلني أتجبر على الناس، وقد تجعلني أتطاول وأعتدي على الخلق، فيقول لي ربنا : امرض قليلا واهدأ. وهكذا نرى أن المصاب لابد أن يتوقع الخير وأن يسترجع وأن يقول : لابد أنه سيأتيني من الابتلاء خير، وقد يقول قائل : نحن نقول :
﴿ قل أعوذ برب الفلق ١ من شر ما خلق ٢ ومن شر غاسق إذا وقب ٣ ومن شر النفاثات في العقد ٤ ومن شر حاسد إذا حسد ٥ ﴾ ( سورة الفلق ).
نقرأ ونكرر هذه السورة ولم يعذنا الله من شر الحاسدين. ويحسدنا الحاسدون أيضا !.
نقول له : أنت لم تفهم معنى قوله :﴿ من شر حاسد إذا حسد ﴾. إنك تفهمه على أساس ألا يصيبك حسده، لا.. إن حسده قد يصيبك، لكن عليك أن تعرف قدر الله في تلك الإصابة وتقول : يا رب إنك أجريتها علي لخير عندك لي. فإن فعلت ذلك فقد كفيت شرا.
ونحن نعيش في عالم نرى فيه أنه كلما ارتقت الدنيا في العلم بين لنا ربنا آيات في كونه وفي أسرار الوجود تقرب لنا كثيرا من المعاني ؛ فالذين يصنعون الآن أسلحة الفتك والتدمير، كلما يلطف السلاح ويدق ولا يكون داخلا تحت مرائى البصر كان عنيفا ويختلف عن أسلحة الأزمنة القديمة حيث كان الإنسان يرمي آخر بحجر، ثم آخر يرمي بمسدس، ثم صار في قدرة دولة أن تصنع قنبلة ذرية لا ينوب أي فرد منها إلا قدر رأس مسمار لكنها تقتل، إذن فأسلحة الفتك كلما لطفت أي دقت عنفت. ونرى الآن الأسلحة كلها بإشعاع، والإشعاع ليس جرما وعمل الإشعاع نافذ لكن لا يوجد له جرم وكما يقول الأطباء : نجري العملية من غير أن نسيل دما بواسطة الأشعة، ومثال ذلك أشعة الليزر، إذن فكلما دق السلاح كان عنيفا وفتاكا.
وهذا مثال يوضح ذلك : لنفرض أنك أردت أن تبني لك قصرا في خلاء، ثم مر عليك صديق فقال : لماذا لم تضع لنوافذ الدور الأول حديدا ؟ تقول له : لماذا ؟. ويقول لك : هنا سباع وذئاب. فتضع الحديد ليمنع الذئاب، وآخر يمر على قصرك فيقول : إن فتحات الحديد واسعة وهنا توجد ثعابين كثيرة، فتضيق الحديد. وثالث يقول : هناك بعوض يلسع ويحمل الميكروبات. فتضع سلكا على النوافذ.
إذن فكلما دق العدو كان عنيفا فيحتاج احتياطا أكبر. ونحن نعلم أن الميكروب الذي لا يرى يأتي فيفتك بالناس، فالآفة التي تصيب الناس كلما لطفت، أي دقت وصغرت عنفت، فلو كانت ضخمة فمن الممكن أن يدفعها الإنسان قليلا قليلا، لكن عندما تصل إلى مرتبة من الدقة والصغر، هنا لا يستطيع الإنسان أن يدفعها. وأفتك الميكروبات هي التي تدق لدرجة أن الأطباء يقولون عن بعض الأمراض : لا نعرف لها فيروسا ؛ بمعنى ان هذا الفيروس المسبب للمرض صار دقيقا جدا حتى عن معايير المجاهر.
إذن فما الذي يجعلنا نضيق ذرعا بأن نقدر أن هناك شرارة من ميكروب تخرج من كيماوية الإنسان الحاقد الحاسد الذي تشقيه النعمة عند غيره، وشرارة الميكروب هذه مثل أشعة الليزر تتجه لشيء فتفتك به ! ! ما المانع من هذا ؟ ! إننا نفعل ذلك الآن ونسلط الأشعة على أي شيء، والأشعة هي من أفتك الأسلحة في زماننا، ولماذا لا نصدق أن كيماوية الحاسد عندما تهيج يتكون منها إشعاع يذهب إلى المحسود فيفتك به ؟ ومثلها مثل أي نعمة ينعمها ربنا عليك، وبعد ذلك تستعملها في الضرر. ومثال ذلك الرجل الذي عنده بعض من المال ؛ ومع ذلك يغلي حقدا على خصومه فيشتري مسدسا أو بندقية ليقتلهم ؛ إنه يأخذ النعمة ويجعلها وسائل انتقام، وهذا ياتي من هيجان الغريزة الداخلية المدبرة لانفعالات الإنسان.
إذن فهؤلاء القوم عندما جاء رسول الله مصدقا بما عندهم، ما الذي منعهم أن يصدقوه ؟. لاشك أنهم حسدوه في أن يأخذ هذه النعمة، ونظروا إلى نعمة الرسالة على أنها مزية للرسل وهل كان ذلك صحيحا
وبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى موكب الرسل حينما أرسله الله على تتابع في كونه، جاء ليذكر الناس بالمنهج، فالمنهج هو الأصل الأصيل في مهمة آدم وذريته ؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال :﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ﴾ ( من الآية ١٢٣ سورة طه ).
وينقل آدم إلى ذريته معلوماته عن حركة الحياة وعن الحق وعن المنهج. إلا أن الله قدر الغفلة في خلقه عن منهجه فهذه المناهج تأتي دائما ضد شهوات النفس الحمقاء العاجلة، لكن لو نظرت إلى حقيقة المنهج الإلهي فأنت تجده يعطي النفس شهوات لكنها معلاة مثال ذلك عندما يقول :﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ ( من الاية٩ سورة الحشر ).
وكل واحد عنده أشياء ويحتاج إليها، لكنه يجد أخاه المؤمن يحتاج إليها أكثر منه فيؤثره على نفسه أهو يفضله عن نفسه ؟ لا لكنه يعطي هذا الشيء القليل في الفانية كي ياخذه في الباقية فاخذ شهوة نفسه لكن بشهوة معلاة، والذي قلنا له : غض طرفك عن محارم غيرك. ظاهر هذا الأمر أننا نحجبه عن شهوة يشتهيها لكننا ساعة نحجبك عن شهوة تشتهيها في حرام الفانية، نريد أن نحقق لك شهوة في حلال الخالدة. فأيهما أعشق للجمال ؟ الذي ينظر بتفحص للمرأة الجميلة وهي تسير، أم الذي يغض عينه عنها ؟ الأعشق للجمال هو الذي غض بصره.
إن الدين لم يأت إلا ضد النفس الحمقاء التي تريد عاجل الأمر وإن كان تافها. ويوضح له : كن للآجل ومعه ؛ لأنه يبقى فلا يتركك ولا تتركه، أما أي شهوة تأخذها في هذه الدنيا فإما أن تتركها وإما أن تتركك، لكن في الآخرة لا تتركها ولا تتركك.
لقد عرف الصالحون الورعون كيف يستفيدون، لكن الآخرين هم الحمقى الذين لم يستفيدوا، فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الحسرة تكون لمن أراح نفسه بشهوة عاجلة ثم أعقبها العذاب الآجل المقيم، فهذه هي الخيبة الحقة، فالدنيا دار الأغيار، يأتي للإنسان فيها ما يؤلمه وما يسره، وليس فيها دوام حال أبدا ؛ لأنها دنيا الأغيار، وما دامت دنيا الأغيار فيكون كل شيء فيها متغيرا. ومادام كل شيء فيها متغيرا إذن فالذي في نعمة قد يصيبه شيء من الضر، والذي في قوة قد يصيبه شيء من الضعف، والذي في ضعف قد تأتيه قوة، وإلا لو ظل الضعيف ضعيفا وظل القوي قويا لما كانت الدنيا أغيارا.
ولذلك يقولون : احذر أن تريد من الله أن يتم عليك نعمته كلها ؛ لأنها لو تمت لك النعمة كلها وأنت في دار الأغيار فانتظر الموت ؛ فتمام النعمة هو صعود لأعلى منطقة في الجبل وأنت في دار الأغيار، فهل تظل على القمة ؟ لا، بل لابد أن تنزل، فإياك أن تسر عندما تبلغ المسألة ذروتها ؛ لأنه سبحانه وتعالى يوضح : إنكم لابد أن تأخذوا هذه الدنيا على أنها معبر، والذي يتعب الناس أنهم لا يحددون الغاية البعيدة، بل إنهم يحددون الغايات القريبة.
إن من حمق بعض الناس أن يحزن الواحد منهم على فراق حبيب أو قريب له، وخذها بالمنطق : ما غايتنا جميعا ؟ إنها الموت ونعود إلى خالقنا. وهل عندما نعود إلى خالقنا نحزن ؟ لا، بل يجب أن نسر ؛ لأننا في الدنيا مع الأسباب، أما بعد أن ننتقل إلى الآخرة فنكون مع المسبب. ففي الدنيا تكون مع النعمة وستصبح بعد ذلك مع المنعم، فما يحزنك في هذا ؟ إن هذا يحزنك ساعة أن كنت مع النعمة ولم تراع المنعم، لكن لو كنت مع النعمة وراعيت المنعم لسررت أنك ذاهب للمنعم.
وإن كانت المسالة هي أن نصل إلى المنعم الحق ونكون في حضانته فلماذا الحزن إذن ؟ ومن الحمق أن بعض الناس لا تعامل الحق سبحانه وتعالى كما يعاملون أنفسهم.
هب أن إنسانا من غايته أن يخرج من أسوان إلى القاهرة، إذن فالقاهرة هي الغاية. ثم جاء واحد وقال له : سنذهب سيرا على الأقدام، وقال الآخر : أنا سآتي بمطايا حسنة نركبها. وقال ثالث : سآتي بعربة، وقال رابع : سنسافر بطائرة وقال خامس : سنسافر بصاروخ، إذن فكل وسيلة تقرب من الغاية تكون محمودة، ومادامت غايتنا أن نعود إلى الحق فلماذا نحزن عندما يموت واحد منا ؟ أنت إذن تحزن على نفسك ولا تحزن على من مات، إن الذي يموت بعد أن يرعى حق الله في الدنيا يكون مسرورا لأنه في حضانة الحق ومع المنعم، وأنت مع النعمة الموقوتة إنه يسخر منك لأنك حزنت، ويقول : انظر إلى الساذج الغافل، كان يريدني أن أبقى مع الأسباب وأترك المسبب !.
إننا نجد الذين يحزنون على أحبائهم لا يرونهم في المنام أبدا ؛ لأن الميت لا تأتي روحه لزيارة من حزن لأنه ذهب إلى المنعم، وعلى الناس أن تدرك الغاية من الوجود بأن تكون مع أسباب الحق في الدنيا ثم تصير مع الحق، والموت هو النقلة التي تنقلك من الأسباب إلى المسبب، فما الذي يحزنك في هذا ؟.
نحن نقصر عليك المسافة.. فبدلا من أن تقابلك عقبات الطريق، وقد تنجح أو لا تنجح، وبعضهم يقول : مات وهو صغير ولم ير الدنيا، نقول لهم : وهل هذه تكون خيرا له أو لا ؟ أنت مثلا كبرت وقد تكون مقترفا للمعاصي ؛ فلعل الله أخذ الصغير حتى لا يعرضه للتجربة، ضع المسألة أمامك واجعلها حقيقة.
عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟ فقال : أصبحت مؤمنا حقا. قال :" انظر ما تقول ؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون١ فيها فقال :" يا حارث عرفت فالزم، ثلاثا " ٢.
ولنا العبرة في سيدنا حذيفة رضي الله عنه حينما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : كيف أصبحت ؟ أي كيف حالك الإيماني ؟ قال حذيفة : يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها أي أن الذهب تساوي مع الحصى، هذه هي مسألة الدنيا وأضاف حذيفة : وكأني أنظر أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون.
وساعة لا تغيب عن بال سيدنا الحارث صورة الآخرة، فهو يسير في الحياة مستقيما.. فقال له النبي صلى اله عليه وسلم :" عرفت فالزم ".
٢ رواه الطبراني..
﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ٥٦ ﴾.
و " نصليهم " من الاصطلاء، قد يقول قائل : مادام يصلى النار وكلنا يعرف أن نار الدنيا حين تحرق شيئا ينتهي إلى عدم، وحين ينتهي إلى عدم إذن فلا يوجد ألم ! ونقول : لتنتبه إلى ان الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا الأمر﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾.. إذن فالعذاب ليس كنار الدنيا، لأن نار الدنيا تحرق وتنتهي المسالة. أما نار الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾.. فإذا ما حرقت الجلود فإن جلودا أخرى ستأتي، أهي عين الأولى أم غيرها ؟ وحتى أوضح ذلك : أنت عندما يكون عندك خاتم مثلا، ثم تقول : أنا صنعت من الخاتم خاتما آخر، فالمادة واحدة أيضا، فهل التعذيب للجلود أو للأعضاء ؟ إن العذاب دائما للنفس الواعية، بدليل أن الإنسان قد يصيبه ورم فيه بعض الصديد " دمل " يتعبه ولا يقدر على ألمه.. وبعد ذلك يغفل فينام، بمجرد أن ينام فلا ألم. لكن عندما يستيقظ يتألم من جديد.
إذن فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية، بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب، قلنا إن النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به، ويفتح " الدمل " بالمشرط ولا يحس صاحبه بأي ألم. وهكذا تجد أن الجلود والأعضاء ليس لها شأن بالعذاب، إنما هي موصلة للمعذب، والمعذب هي النفس الواعية.. بدليل أنها ستشهد علينا يوم القيامة.. تشهد الجلود والجوارح، وستكون آلة لتوصيل العذاب.. ومسرورة لأنها توصل لهم العذاب.
إنه نظام إلهي فلا تتعجبوا من القرآن، فإن العلم كلما تقدم هدانا إلى شيء من آيات الله في الكون. أنتم الآن تخدرون النفس الواعية وتشقون الجسد بالمشارط كما يحلو لكم فلا يحدث له ألم، وعرفتم أن الألم ليس للعضو، إنما الألم للنفس الواعية، إذن فكل الجوارح هي آلات توصل الألم للنفس الواعية، وتكون مسرورة ؛ لأن النفس الواعية تعذب، وهذه يشبهونها مثلا بواحد عنده " حكة " في جلده، فيهرش، والهرش يسيل دمه فيكون مستلذا.
إذن فقوله :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾ أي أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل العذاب للنفس الواعية، وهكذا.
﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾. نحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى أنزل كتابا هو القرآن، وجعله معجزة ومنهجا، وهذه هي الميزة التي امتاز بها الإسلام. فمنهج الإسلام هو عين المعجزة، وكل رسول من الرسل كان منهجه شيئا ومعجزته كانت شيئا آخر.
إن سيدنا موسى منهجه التوراة ومعجزته : العصا، وسيدنا عيسى منهجه : الإنجيل، ومعجزته : إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، لكن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت القرآن ؛ لأن دينه سيكون الامتداد النهائي لآخر الدنيا، ولذلك جعل الله منهجه هو عين معجزته، لتكون المعجزة دليلا على صدق المنهج في أي وقت، ولا يستطيع واحد من أتباع أي نبي سابق على رسول الله أن يقول : إن معجزة الرسول الذي أتبعه هي منهجه ؛ لأن معجزات الرسل السابقين على رسول الله كانت عمليات كونية انتهت مثل عود كبريت احترق، فمن رآه رآه وانتهى، لكن المسلم يستطيع أن يقف ويعلن بملء فيه : إن محمدا رسول الله وصادق، وتلك معجزته. فمعجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية بقاء أبديا، ومتصلة به أبدا. أما معجزة كل رسول سبق رسول الله فقد أدت مهمتها لمن رآها وانتهت، وانفصلت معجزة كل رسول سابق على رسول الله عن منهجه.
والمنهج القرآني فيه أحكام، والأحكام معناها ؛ افعل كذا، ولا تفعل كذا. وهي واضحة كل الوضوح منذ أن أنزل الله القرآن على رسوله وحتى تقوم الساعة. ومن فعل مطلوب الأحكام يثاب، ومن لم يفعله يعاقب. وكل الناس سواسية في مطلوب الأحكام إلى أن تقوم الساعة.
أما آيات الله الكونية التي لا تتأثر.. فأي فائدة للإنسان إن عرفها أو لم يعرفها : فقد طمرها الله وسترها في القرآن مع إشارة إليها، لأن العقل المعاصر لنزول الكتاب لم يكن قادرا على استيعابها في زمن الرسالة. ولو أن القرآن جاء بآية واضحة تقول : إن الأرض كروية وتدور، بالله ماذا كان المعاصرون لرسول الله يقولون ؟ إن بعضا من البشر الآن يكذبون ذلك، فما بالنا بالبشر المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لو قال لهم رسول الله ذلك لانصرفوا عن إتباع ما جاء به.
لقد كانوا يستفيدون من كروية الأرض، مثلما يستفيد منها الفلاح أو البدوي، ومثلما يستفيد الناس الآن الذين لم يدرسوا الكهرباء برؤية التلفزيون وضوء المصباح الكهربائي وغير ذلك من الاستخدامات، دون معرفة علمية بتفاصيل ذلك، إن الشمس تسطع على الدنيا فيتبخر الماء من الأنهار والمحيطات والبحار ليصير سحابا، ثم ينزل المطر من السحاب. وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع العقول، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث العلمي.
وعندما نتعرف نحن المسلمين على اكتشاف علمي جديد في الكون، نقول : إن القرآن قد أشار له، لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز، فسبحانه القائل :
﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة يونس ).
لو أن القرآن قال : إن كل شيء في الوجود يتكاثر، وفيه موجب وفيه سالب، ذكر وأنثى، أكانوا يصدقون ذلك ؟. لا ؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الذكر والأنثى إلا في الرجل والمرأة، ويعرفون ذلك في الحيوانات ؛ وأيضا في بعض النباتات مثل النخل، لكن هناك نباتات كثيرة لا يعرفون حكاية التكاثر فيها، ومثال ذلك القمح الذي نزرعه ونأكله، وكذلك الذرة، لم يكونوا عارفين بأن عنصر الذكورة يوجد في " الشواشي " العليا في كوز الذرة وأن الهواء يضرب تلك الشواشي فتنزل منها حبوب اللقاح فيخرج الحب، ولذلك نجد الزارع الذكي هو الذي يفتح " كوز الذرة " من أعلاه قليلا حتى يتيح لحبوب اللقاح أن تصل إلى موقعها. وقد يفتح الفلاح أحد " كيزان الذرة " فيجد حبة ميتة وسط الحبوب المتراصة ويكتشف أنها حبة ليس لها خيط أي لم تتصل بحبوب اللقاح وهو ما يقولون عنه في الريف " سنة عجوز ".
إذن فكل تكاثر له ذكورة وأنوثة، ولذلك يقول ربنا :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون٣٦ ﴾ ( سورة يس ).
وكنا نعرف الأزواج في الأنفس، ثم عرفناها في النبات، وجاء الحق ب﴿ مما لا يعلمون ﴾ لتدخل كل شيء، وتكشف الموجب والسالب في الكهرباء، وصرنا نعرف أن كل كائن فيه ذكر وأنثى، وكلما تقدم العلم فهو يشرح الآيات الكونية.
ومن رحمة الحق سبحانه بعقول الأمة المكلفة برسالة محمد لم يشأ أن يجعل نواميسه في الكون واضحة صريحة حتى لا تقف العقول فيها وتعجز عن فهمها، وخاصة أن الكتاب واجه أمة أمية ؛ ليست لها ثقافة. وهب أنه واجه العالم المعاصر، إن هناك قضايا في الكون لا يعلمها العالم المعاصر، فلو أن القرآن تعرض لها بصراحة لكانت سببا من الأسباب التي تصرف الناس عن الكتاب. والقرآن جاء كتاب منهج، والمعجزة أمر جاء لتأييد المنهج، فلم يشأ أن يجعل من المعجزة ما يعوق عن المنهج، لكنه ترك في الكون طموحات للعقل المخلوق لله والمادة الكونية المخلوقة لله، وكل يوم يكتشف العقل البشري أشياء، وهذا الاكتشاف لا يأتي من فراغ، بل يأتي من أشياء موجودة.
إذن فلو رددت أدق أقضية العلم التي يصل إليها العقل المعاصر، ونسبتها في الكون لرجعت إلى الأمر البديهي. فلا يوجد صاحب عقل ابتكر أو جاء بحاجة جديدة، إنما هو أعمل عقله في موجود فاستنبط من مقدمات الموجودة قضية معدومة، ثم أصبحت القضية المعدومة مقدمة معلومة ليستنبط منها من يجيء بعد ذلك. ولذلك فالعلماء عادة قوم يغلبهم طابع التهذيب عندما يقولون : اكتشفنا الأمر الفلاني، يعني كأنه موجدا.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا فكرة تقرب لنا الفهم، فنحن عندما كنا نتعلم الهندسة مثلا ؛ عرفنا أن الهندسة مكونة من نظريات، تبدأ من نظرية " واحد "، وتنتهي إلى ما لا نهاية، وحين جاء لنا مدرس ليبرهن لنا على نظرية " مائة "، استخدم في البرهان على ذلك النظرية التسع والتسعين، وعندما كان يبرهن على النظرية " التسع والتسعين " استعمل ما قبلها.
إذن فكل برهان على نظرية يستند إلى ما قبلها، والعقل الواعي المفكر المستنبط هو الذي يرتب المقدمات ويستخلص منها النتائج. وكل شيء في الكون يشترك فيه كل الناس. لكن العقل الذي يرتب ويستنبط يخيل إليه وإلى الناس أنه جاء بجديد، وهو لم يأت بجديد. بل ولد من الموجود جديدا، مثال ذلك الطفل عندما يولد من أبويه، هل هما جاءا به من عدم ؟ لا، بل جاء الولد من تزاوج، وعندما نسلسل الأمر نصل إلى آدم، فمن الذي جاء بآدم ؟. إنه الله ؟.
إذن فالبديهيات التي في الكون هي خميرة كل تقدمي وهي من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعا، وكل نظرية مهما كانت معقدة في الكون منشؤها من الأمر البديهي، مثال ذلك البخار ؛ عندما اكتشفوه وقبل أن يسيروا به الآلات ماذا حدث ؟. كان هناك من يجلس فالتفت فوجد الإناء الذي به الماء يغلي ثم وجد غطاء الإناء يرتفع وينخفض، وعندما تعرف على السر، اكتشف أن كل بخار يستطيع أن يعطي قوة دافعة، وبذلك بدأ عصر البخار. إذن فهو ذكي، وقد أخذ اكتشافه من بديهية موجودة في الكون، فإياك أن تغتر وتقول : إن العقل هو الذي اخترع، ولكن العقل عمل بالجهد في مطمورات الله في الوجود، ورتب ورتب ثم أخرج الاكتشاف.
لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئا جديدا نقول له : أنت لم تبتكر، بل اكتشفت فقط، والحق سبحانه وتعالى يترك هذه العملية في الوجود. ويقول :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾ ( من الآية ٥٣ سورة فصلت ).
والبشرية عندما تكتشف شيئا جديدا، نقول لهم : القرآن مسها وجاء بها، فيقولون : عجبا هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرنا، على الرغم من أنه نزل ليخاطب أمه أمية، وجاء على لسان رسول أمي. ونقول : نعم.
والآية التي نحن بصددها فيها هذا :
﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ﴾ ( من الآية ٥٦ سورة النساء ).
والجلود والأحاسيس شرحناها من قبل، ونظرية " الحس " كما نعرف شغلت العلماء الماديين، وأرادوا أن يعرفوا كيف نحس ؟ منهم من قال : نحن نحس بالمخ. نقول لهم : لكن هناك مسائل لا تصل للمخ ونحس بها، بدليل أنه عندما يأتي واحد أمام عيني ويوجه أصبعه ليفتحها ويثقبها فقبلما يصل أصبعه أغلق عيني أي أن شيئا لم يصل للمخ حتى أحس. وبعض العلماء قال : إن الإحساس يتم عن طريق النخاع الشوكي والحركة العكسية، ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات حسية منبطحة مع الجلد ؛ بدليل أنك عندما تأخذ حقن
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا ٥٧ ﴾.
وفي هذه الآية يصف الحق ثواب الفئة المقابلة للفئة السابقة وهم الذين آمنوا، ونعلم أن آخر موكب من مواكب الرسالة هو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. إذن فأمة سيدنا محمد هي أقرب الأمم إلى لقاء الله. فالأمم من أيام آدم أخذت زمنا طويلا، لكننا نحن المسلمين قريبون، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :{ بعثت أنا والساعة كهاتين )١، .
ولذلك لم يقل الحق في هذه الآية : سوف ندخلهم. بل قال :" سندخلهم "، أما مع الآخرين فاستخدم سبحانه " سوف " لأنها بعيدة، أو أن هذا كناية وإشارة من الله لإمهال الكفار ليتوبوا، وعندما يقرب لنا سبحانه المسافة فإنه يغرينا بالطاعة، المسألة ليست بعيدة، بل قريبة ؛ لذلك يعبر عنها :﴿ سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾.
إن كلمة " الجنة " مأخوذة من " الجن "، والستر، و " الجنة " هي البستان الذي به شجر إذا سار فيه الإنسان يستره، وهو غير البساتين الزهرية التي تخرج زهرا قريبا من الأرض تمثل ترفا للعيون فقط، أما الجنة ففيها أشجار عالية كثيفة بحيث لو سار فيها أحد يستر، ففيها الاقتيات وفيها كل شيء، فهي تسترك عن أن تلتفت إلى غيرها لأن فيها ما يكفيك، فالذي عنده حاجة لا تكفيه يتطلع إلى ما يكفيه، لكن من عنده حاجة تكفيه فقد انستر عن بقية الوجود، والحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة عن شيء هو الآن عنا غيب، وسيصير بإذن الله وبمشيئته مشهدا، ونحن نعرف أن الجنة بها كل ما تتمناه النفس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل :
﴿ أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴾٢ مصداق ذلك في كتاب الله { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ".
ونعلم أن الكائنات الوجودية يعرفها الإنسان بما يناسب إدراكه.. فقال :﴿ مالا عين رأت ولا أذن سمعت ﴾، والعين حين ترى تكون محدودة، لكن السمع دائرته أوسع من الرؤية، لأنه سيسمع ممن رأى، إنه سمع فوق ما رأى، إذن فدائرة الإدراكات تأتي أولا : بأن يرى الإنسان، ثم بأن يسمع، وهو يسمع أكثر مما يرى، وعلى سبيل المثال قد أرى أسوان لكنني أسمع عن أمريكا، فدائرة السماع أوسع.
وبعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( ولا خطر على قلب بشر ) أي أن ما في الجنة أكبر من التخيلات، إذن فكم صفة هنا للجنة ؟ الأولى قوله : مالا عين رأت والعين مهما رأت فدائرتها محدودة، والثانية : قوله : ولا أذن سمعت. والأذن إن سمعت فدائرتها أوسع قليلا. والثالثة : قوله : ولا خطر على قلب بشر، وهذا أوسع من التخيلات، فإذا كنت يا حق سبحانك ستعطينا في الجنة : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فبأي الألفاظ يا ربي تؤدي لنا هذه الأشياء، وألفاظ اللغة إنما وضعت لمعان معروفة، ومادمت ستأتي بحاجة لم ترها عين، ولم تسمعها إذن ولم تخطر على قلب بشر، فأي الألفاظ ستؤدي هذه المعاني ؟.
لقد أوضح صلى الله عليه وسلم : أنه لا توجد ألفاظ ؛ لأن المعنى يعرف أولا ثم يوضع له اللفظ، فكل لفظ وضع في اللغة معروف أن له معنى، لكن ما دامت الجنة هذه لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على قلب بشر، فلا توجد كلمات تعبر عنها، لذلك لم يقل صلى الله عليه وسلم : إن الجنة هكذا بل قال :" مثل الجنة " أما الجنة نفسها، فليس في لغتنا ألفاظ تؤدي هذه المعاني، وحيث إن هذه المعاني لا رأتها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على قلب بشر ؛ لذلك فليس في لغة البشر ما يعطينا صورة عن الجنة، وأوضح الحق سبحانه : سأختار أمرا هو أحسن ما عندكم وأعطيكم به مثلا فقال :
﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم ﴾ ( من الآية ١٥ سورة محمد ).
ونحن نرى الأنهار، والحق يطمئننا هنا بأن أنهار الجنة ستختلف فهو سبحانه سينزع منها الصفة التي قد تعكر نهريتها ؛ فقد تقف مياه النهر وتصبح آسنة متغيرة، فيقول :﴿ أنهار من ماء غير آسن ﴾، إذن فهو يعطيني اسما موجودا وهو النهر، وكلنا نعرفه، لكنه يوضح : أنا سأنزع منه الأكدار التي تراها في النهر الحادث في الحياة الدنيا، وأيضا فأنهار الدنيا تسير وتجري في شق بين شاطئين، لكن أنهار الجنة سترى الماء فيها وليس لها شطوط تحجز الماء لأنها محجوزة بالقدرة.. وستجد أيضا أنهارا من لبن لم يتغير طعمه.
إن العربي كان يأخذ اللبن من الإبل ويخزنه في القرب، وبعد ذلك ترحل الإبل بعيدا إلى المراعي وإلى حيث تسافر، وعندما كان الأعرابي يحتاج إلى اللبن فلم يكن أمامه غير اللبن المخزن في القرب، ويجده متغير الطعم لكن لا يجد غيره ؛ لذلك يوضح الحق : سأعطيكم انهارا من لبن في الجنة لم يتغير طعمه، ثم يقول :﴿ وانهار من خمر ﴾ وهم يعرفون الخمر ولنفهم انها ليست كخمر الدنيا ؛ لأنه يقول :" مثل ".. ولم يقل الحقيقة فقال : أنهار من خمر لكنها خمر ﴿ لذة للشاربين ﴾، وخمر الدنيا لا يشربها الناس بلذة، بدليل أنك عندما ترى من يشرب كاس خمر.. فهو يسكبه في فمه مرة واحدة ! ليس كما تشرب أنت كوبا من مانجو وتتلذذ به، إنه يأخذه دفعة واحدة ليقلل سرعة مروره على مذاقا ته لأنه لاذع ومحمض ؛ وتغتال العقول وتفسدها. لكن خمر الآخرة لا اغتيال فيها للعقول.
إذن فحين يعطيني الحق مثلا للجنة.. فهو ينفي عن المثل الشوائب، ولذلك نجد الأمثال تتنوع في هذا المجال ؛ فالعربي عندما كان يمشي في الهاجرة، ويجد شجرة " نبق " ويقال لها :" سدر " كان يعتبرها واحة يستريح عندها، ويجد عليها النبق الجميل، فهو يمد يده ليأكل منها لكنه قد يجد شوكا فيتفادى الشوك، وفي بعض الأحيان تشكه شوكة، وعندما لا يجد في هذا الشجر شوكا يقول : هنا " سدر مخضوض " أي شجرة نبق لا شوك فيها، والحق يأتي بكل الآفات التي في الدنيا وينفيها عن جنة الآخرة.
﴿ وأنهار من عسل مصفى ﴾ وكان العرب يأخذون العسل من الجبال فالنحل يصنع خلاياه داخل شقوق الجبال، وعندما كانوا يخرجون العسل من الجبال يجدون فيه رملا وحصى، فأوضح الحق : ما يعكر عليك العسل هنا في الدنيا أنا أصفيه لك هناك، ومع انه مثل لكنه يصفيه أيضا، ولماذا مثل ؟.. لأنه مادام نعيم الجنة " لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".. فتكون لغة البشر كلها لا تؤدي ما فيها.. لكنه سبحانه يعطينا صورة مقربة، ويضرب الله المثل بالصورة المقربة للأشياء التي تتعالى عن الفهم ليقربها من العقل، ومثال ذلك عندما أراد سبحانه أن يعطينا صورة لتنوير الله للكون، وليس لنور الله الذاتي، بل لتنوير الله للكون، فيقول :
﴿ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة ﴾ ( من الآية ٣٥ سورة النور ).
إنه يعطينا مثلا مقربا لأن لغتك ليس فيها الألفاظ التي تؤدي الحقيقة، ولذلك يقول :
﴿ وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ ( من الآية ١٠٠ سورة التوبة ).
ومادامت جنات ففيها شجر ملتف وعال، ونحن نعرف ان الشجر لابد أن يكون في منطقة فيها مياه ؛ لذلك قال :﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾، ومرة يقول :﴿ تجري تحتها الأنهار ﴾ لأن ما يجري تحتها قد يكون آتيا من مكان آخر، ويكون منبعها من مكان بعيد وتجري الأنهار تحت جنتك، وقد تظن ان بإمكان صاحب النبع ان يسدها على جنتك، فيشرح الحق : لا هي جاءت من تحتها مباشرة.
ويقول الحق عن أهل الجنة :﴿ خالدين فيها ﴾ وهو سبحانه وتعالى يخاطب قوما شهدوا بعض النعيم في دنياهم من آثار نعمه عليهم، لكنهم شهدوا أيضا أن النعمة تزول عن الناس، أو شهدوا أناسا يزولون عن النعمة، فقال سبحانه عن جنة الآخرة :﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ فلا هي تزول عنهم ولا هم يزحزحون عنها.
ويعطينا سبحانه أيضا صورة من النعيم الذي يوجد عندنا في الدنيا لكنه يزول أيضا أو نزول نحن عنه :﴿ ولهم فيها أزواج مطهرة ﴾ وأزواج جمع " زوج "، وعندما يصف الحق سبحانه وتعالى جمعا فهو يأتي في الصفة بجمع أيضا مثل قوله :
﴿ وقدور راسيات ﴾ ( من الآية ١٣ سورة سبأ ).
لأن " قدور " جمع " قدر "، ولم يقل هنا : وأزواج مطهرات وجاء بها مفردة لأن الرجل في الدنيا قد يتزوج بأكثر من واحدة فينشأ بين الزوجات المتعددات ظلال الشقاق فكأنهن متنافرات، فقال : إنهن كلهن سيكن أزواجا على صورة واحدة من الطهر، وليس في أي منهن ما يعكر صفو الأزواج كما يكون الأمر في الدنيا، ولا يقولن واحد :" كيف تقبل المرأة أن يكون لها ضرة في الآخرة ؟ " لأن الحق سبحانه نزع من الصدور كل ما كان يكدر صفو النفوس في الدنيا فقال :﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ ( من الآية ٤٣ سورة الأعراف ).
إذن فكأنهن وإن تعددن في سياق واحد من الطهر مما لا يعكر صفو الزوج، إنه يعجبك شكلها، ستعجبك، أخلاقها ليس فيها عيب ولا نقص مما كان يوجد في الدنيا إنها مطهرة من ذلك كله. إذن فهو يعطيني خلاصة ما يمكن أن يتصور من النعيم في الأزواج.
ويكمل الحق :﴿ وندخلهم ظلا ظليلا ﴾. ولغة العرب إذا أرادت أن تؤكد معنى فهي تأتي بالتوكيد من اللفظ نفسه، فيقول العربي مثلا :" هذا ليل أليل " أي ليل حالك، وعندما يبالغ في " الظل " يقول :" ظليل ". وما هو " الظل " ؟. " الظل " هو : انحسار الشمس عن مكان كانت فيه أو لم تدخله الشمس أصلا كان يكون الإنسان داخل كهف أو غار مثلا.
إن كلمة ظل ظليل يعرفها الذين يعيشون في الصحراء، فساعة يرى الإنسان هناك شجرة فهو يجلس تحتها ويتمتع بظلها، والظل نفسه قد يكون ظليلا، مثال ذلك " الخيام المكيفة " التي يصنعونها الآن، وتكون من طبقتين : الطبقة الاولى تتعرض للشمس فتتحمل السخونة والطبقة الثانية تحجز السخونة ويسمون هذا السقف " السقف المزدوج ". ويوجد خاصة في الأماكن العالية ؛ لأن الشقة على سبيل المثال التي تعلوها أدوار تكون محمية، لكن الشقق الموجودة في آخر دور خصوصا في البلاد الحارة تكون السخونة فيها صعبة وشديدة ؛ لذلك يصنعون سقفا فوق السقف ؟، وبذلك يكون الظل نفسه في ظل.
ولماذا الإنسان يسعد بالظل تحت شجرة أكثر من سعادته بالظل في جدار ؟ لأن الظل في جدار مكون من طبقة واحدة، صحيح أنه يمنع عنا الشمس لكنه أيضا يحجب الهواء، لكن الجلوس في ظل الشجرة يتميز بأن كل ورقة من أوراق الشجرة فوقها ورقة، وأوراقها بعضها فوق بعض، وكل ورقة في ظل الورقة الأعلى. ولأن كل ورقة خفيفة لذلك يداعبها الهواء، فتحجب عن الجالس تحت الشجرة حرارة الشمس، وتعطيه هواء أيضا، هذا هو معنى قوله :﴿ ظلا ظليلا ﴾.
ولذلك فعندما أراد الشاعر أن يصف الروضة قال :
وقانا لفحة الرمضاء واد *** سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحة فحنا علينا *** حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا *** ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا *** فيحجبها ويأذن للنسيم
والشاعر هنا يصف الموقف حين يسير الإنسان في صحراء ث
٢ رواه مسلم في صفة الجنة..
﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ٥٨ ﴾.
وقوله سبحانه :﴿ أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾، أوجز الله فيها كل تكاليف السماء لأهل الأرض، لأن الأمانات هي : الأمانة العليا وهي الإيمان بالله، والأمانة التي تتعلق ببنى الجنس، والأمانة التي على النفس لكل الأجناس.
ومعنى الأمانة هو : ما يكون لغيرك عندك من حقوق وأنت أمين عليها، إن شئت فعلتها، وإن شئت لم تفعلها، أنت تقول : أنا أودعت عند فلان أمانة، هذه الأمانة لو كانت بإيصال لما كانت أمانة ؛ لأن هناك دليلا، ولو كان ما أودعته عند ذلك الإنسان عليه شهود لا تكون أمانة. فالأمانة : أن تودع عنده شيئا، وضميره هو الحكم، إن شاء أقر بما عنده لك حين تطلبه، وإن شاء لم يقر به، قال الحق :
﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ٧٢ ﴾ ( سورة الأحزاب ).
فما هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبت أن تحملها ثم حملها الإنسان، وعلة تحمله لها أنه كان ظلوما جهولا ؟ إن الكون كما نعلم فيه أجناس، أدناها الجماد، وأوسطها النبات، وأعلى من الأوسط الحيوان ثم الإنسان، والإنسان هو سيد هذه الأجناس، لأنها تخدمه جميعها، لكن الجماد والنبات والحيوان لا اختيار لأي منها في أن يفعل أو لا يفعل، وإنما كل جنس منها قد خلق لشيء ليؤديه، ولا اختيار له في أن يمتنع عن الأداء.
الأرض والسماوات والجبال لم تقبل أن تكون مختارة أو أن تحمل أمانة وتكون المسألة فيها راجعة إلى اختيارها إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل. وأشفقت الأرض والسماوات والجبال من حمل الأمانة لعدم الثقة بحالة النفس وقت أداء الأمانة. فيجوز أن يعقد الكائن العزم عند تحمل الأمانة أن يؤديها، ولكن عند أدائها لا يملك نفسه، فربما خانته نفسه وجعلته لا يقر بها. لقد احتاطت السماوات والأرض والجبال وقالوا : لا نريد هذه الأمانة ولا نريد أن نكون مختارين بين أن نفعل أو نترك، نطيع أو نعصي، وإنما يارب نريد أن نكون مسخرين لما تحب دون اختيار لنا. فسلمت الأرض والسماوات والجبال، لكن الإنسان بما فيه من فكر يرجح الاختيار بين البديلات قال : أنا أقبلها وإن فكري سيخطط لأدائها. ولم يلتفت الإنسان ساعة تحمله الأمانة إلى حالة أدائه لها.
ومثال ذلك : من الجائز أن يعرض عليك إنسان مبلغا من المال كأمانة عندك، فأخذته وأنت واثق أنك ستؤديه حين يطلبه منك، ولكنك ساعة الأداء قد لا تملك نفسك، فقد تمر بك ظروف فتصرف شيئا من المال، أو أن تكون والعياذ بالله قد خربت ذمتك.
إذن فالإنسان لا يملك نفسه وقت الأداء وإن ملك نفسه وقت الأخذ، فالذين يحتاطون يقولون : أبعد عنا تحمل الأمانة، فلا نريد أن نحمل لك شيئا ولكن الإنسان قبل تحمل الأمانة ؛ لأنه " كان ظلوما جهولا " ظلم نفسه وجهل بحالته وقت الأداء، إذن فالأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان هي أمانة الاختيار التي يترتب عليها التكليف من الله.
إن التكليف محصور في " افعل " و " لا تفعل "، فإن شئت فعلت في " افعل "، وإن شئت لم تفعل في " لا تفعل ". وإن شئت العكس، ومعنى ذلك أن الأمانة في هذا المعنى مقصورة على ما طلبه الله من الإنسان وقت العرض. لكنها لم تتعرض للأمانات التي توجد بيننا، والأمانة كذلك هي ما يتعلق بذمتك بحق غيرك ؛ لذلك فحين يعطي إنسان إنسانا شيئا يصير الآخذ مؤتمنا فإن شاء أدى وإن شاء لم يؤد.
لكن هناك أمانات أخرى لم يعطها إنسان لإنسان، وإنما أعطاها رب الإنسان لكل إنسان، فالعلم الذي أعطاه الله للناس أمانة. فهل الذي علمك علما وأعطاه لك وبعد ذلك قال لك : أده لي، كمثل من يكون مأمونا على مال ؟.
نقول للعالم : العلم ليس من عندك حتى تعطيه لغيرك وبعد ذلك يرده لك ولكن الله يجازيك عليه ثوابا وكذلك في الحلم والشجاعة، ولا تتضح هذه المسائل بين العبد والعبد إلا في المال، لكن في بقية الأشياء ؛ نقول لك : أنت أمين عليها أمام خالقك، وقد أمنك ربنا على هذه الأشياء كي تؤديها إلى من لا يعلم، فأمنك على قدرة وأمرك : أعطها لمن لا يقدر، وأمنك على علم وأوضح لك : أعطه لمن لا علم له..
إذن فمن الذي أعطاك هذه الأمانة ؟ الله. فليس ضروريا أن تكون الأمانة من صاحبها الذي أعطاها لك لتردها إليه، فالأمانة : ما تصير مأمونا عليه ممن خلق أو من مخلوق، فأدها، والأمانة بهذا المعنى أمرها واسع، فاستحقاق الله للتوحيد أمانة عندك، أهليتك للتكليف من الله حين كلفك أمانة عندك، وأهليتك في المواهب المختلفة أمانة عندك، فكل إنسان عنده موهبة هو أمين عليها ولابد أن يؤديها وينقل آثارها لمن لا توجد عنده هذه الموهبة. فربنا أعطى رابعا علما. كل هذه الأشياء أمانات أودعها الله في خلقه ليتكامل الخلق، فحين يؤدي كل إنسان أمانته لكل إنسان يصبح كل إنسان عنده مواهب كل الآخرين.
والحق سبحانه وتعالى حينما يقول :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ نتذكر على الفور قمة الأمانة أن تعبده ولا تشرك به أحدا، والأمانة في التكاليف التي كلفك الله بها ؛ لأنها أمانة لغيرك عندك، وأمانة عندك لغيرك. فحين يكلفك الله بألا تسرق، يكون قد كلف الناس كلهم ألا يسرقوك.
إن كل أمانة عند غيرك تقابلها أمانة عندك، فإن أديت مطلوبات الأمانة عندك أدى المجتمع الذي يحيط بك الأمانة التي عنده، وهكذا تكون الأمانة هي : أداء حق في ذمتك لغيرك.
وقوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ قيل نزلت في عثمان ابن طلحة ابن أبي طلحة وكان سادن خادم الكعبة وحين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى ان يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية فأمر أن يرده إلى عثمان رضي الله عنه ويعتذر له فقال عثمان لعلي، أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال لقد أنزل الله فيك قرآنا وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان وهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السجانة في أولاد عثمان أبدا.
وهذا ويقابل الأمانة شيء بعد ذلك اسمه العدل، فلو أدى كل واحد ما لغيره عنده من حق لما احتجنا إلى عدل، فالعدل إنما ينشأ من خصومة وتقاض، والتقاضي معناه : أن واحدا أنكر حق غيره. فلو أدى كل واحد منا ما في ذمته من حق لغيره لما وجد تقاض، ولما وجدت خصومة فلا ضرورة إلى العدل حينئذ.
ولكن الحق الذي خلق الخلق وعلم الأغيار فيهم قدر أن بعض الناس يغفل عن هذه القضية وينشأ منها أن الإنسان قد لا يعطي الحق الذي في ذمته لغيره، فقضى سبحانه بشيء آخر اسمه " العدل ". ولو أن المسألة الأولى انتهت لما احتجنا للعدل.
إذن فالعدل هو علاج للغفلة التي تصيب البشر من الأغيار التي تطرأ على نفوسهم، فشاء الله أن يقول :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾، في الأولى لم يقل : إذا أئتمنتم فأدوا، لا. بل قال :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا ﴾. فإذا حدثت منكم غفلة عن هذه فما الذي يحمي هذه المسألة ؟ هنا يأتي العدل وهو أن تقضي بحق في ذمة غيرك لغيره، أي في ذمتك أنت ؛ لأنك تحكم كي ترجح مسألة وتضع الأمر في نصابه.
وبذلك نعرف أن مطلوبات أداء الأمانة تكون في شيء عندك تؤديه لغيرك، لكن مطلوبات العدل : تكون في أشياء في ذمة غيرك لغيرك. ولذلك قال الحق :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾، وكما أن آية أداء الأمانة عامة، كان لابد أن تكون آية العدل عامة أيضا.
إن قوله تعالى :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ ليست خاصة للحاكم فقط، بل إن كل إنسان مطالب بالعدل، فلو كنت محكما من طرف قوم ورضوا بك أن تحكم فاحكم بالعدل حتى ولو كان الحكم في الأمور التي يتعلق بها التكريم والشرف والموهبة ؛ فليس ضروريا أن يكون الحكم بالعدل في أمر له قيمة مادية، مثلا : سيدنا الإمام على رضوان الله عليه وكرم الله وجهه يرى غلامين يتحاكمان إلى ابنه الحسن ؛ ليحكم بينهما أي الخطين أجمل من الآخر، وهذه مسالة قد ينظر لها الناس على أنها مسالة تافهة لكنها مادامت شغلت الطفلين وأراد كل واحد منهما أن يكون خطه أجمل، فلابد أن يكون الحكم بالعدل. فقال الإمام علي لابنه الحسن : يا بني انظر كيف تقضي، فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة.
إن هذا يعطينا صورة في دقة العدل حتى ولو كان الأمر صغيرا. وفي مباريات كرة القدم تجد الحكم الذي يقول هذه اللعبة تحتسب هدفا أولا تحتسب، هذا الحكم يحتاج إلى مهارة لأنه سيترتب عليها فوز فريق أو هزيمته، بدليل أنك حتى وأنت تراقب الكرة ثم وجدت الحكم لم يحتسب خطا تثور عليه.
وهنا أتساءل : لماذا طبقتم قانون الجد في اللعب، ثم تركتم الجد بدون قانون ؟ وهذا ما يحدث. نحن ننقل قوانين الجد إلى اللعب، ونترك الجد في بعض الأحيان بدون قانون، ولو اعتنينا بهذه كما اعتنينا بتلك. لتساوت الأمور، فالعدل إذن هو حق في ذمة غير لغير حتى ولو كانت مباراة في اللعب، ومادام الأمر قد شغل طرفين، وجعل بينهما نزاعا وخلافا وتسابقا فعليك أن تنهي هذا الخلاف بالعدل.
ويتابع الحق :﴿ إن الله نعما يعظكم به ﴾ و " نعما " يعني نعم ما يعظكم به الله، أي لا يوجد أفضل من هذه العظة التي هي : أداء الأمانة والحكم بالعدل، فبهذا تستقيم حركة الحياة. فإذا أدى الناس الأمانة فلا نزاع ولا خلاف، وإذا أدوا عدالة الحكم فإن كان هناك خلاف ينتهي. وقال العلماء : إذا علم المجتمع أن عدلا يحرس حقوق الناس عند الناس فلن يجري ذلك ظالما على أن يظلم بعد ذلك، فيقول الظالم : فلان ظلم ولم يحاكم، فيغري ذلك الظالم أن يزيد في ظلمه، لكن ساعة يرى الناس أحدا يأخذ حق غيره ثم جاء الحاكم فردعه، ورد الحق لصاحبه فلن يظلم أحد أحدا.
وسبحانه في أمره هذا لا حاجة له في أن تفعلوا أولا تفعلوا، فهي أشياء لا تؤثر عنده في شيء، إنما هي في مصالحكم أنتم بعضكم مع بعض، وأحسن ألوان الأمر هو ما لا يعود على الآمر بفائدة، لأن الأمر إذا ما كان فيه عود بالفائدة على الآمر قد يشكك في الأمر. لكن أن تأمر بأمر ليس لك فيه فائدة فهذا قمة العدل. وقد يوجد إنسان يأمر بما لا فائدة له فيه، لكنه قد لا يكون واسع العلم ولا واسع الحكمة، والأمر هنا يختلف لأن الله سبحانه وتعالى ليس له مصلحة في الأمر، هذه واحدة، وأيضا فهو سبحانه واسع العلم والحكمة ؛ لذلك كانت
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ٥٩ ﴾.
هذه الآية كثر كلامنا فيها، وفي كل مناسبة من المناسبات جاء الكلام عنها، ولكن علينا أيضا أن نعيد بشيء من الإيجاز ما سبق أن قلناه فيها، الله سبحانه وتعالى يقول :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾، ولماذا أطيع الله وأطيع الرسول ؟ لأن فيه الحيثيات المقدمة، فأنت عندما ترى حكما من القاضي تجد أن هناك حيثيات الحكم أي التبرير القانوني للعقوبة أو للبراءة ؛ فيقول القاضي : بما أنه حدث كذا فقانونه كذا حسب المادة كذا هذه هي الحيثيات. و " الحيثيات : مأخوذة من : حيث إنه حدث كذا فحكمنا بكذا. أو حيث إنه لم يحدث كذا فحكمنا بكذا، إذن فحيثيات الحكم معناها : التبريرات التي تدل على سند الحكم لمن حكم.
هنا يقول سبحانه :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾. وهل الحق سبحانه وتعالى قال : يا أيها الناس أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ؟ لا. لم يقل ذلك، لقد قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾. إذن فمادمت قد آمنت بالله إلها حكيما خالقا عالما مكلفا فاسمع ما يريد أن يقوله لك، فلم يكلف الله مطلق أناس بأن يطيعوه، إنما دعا مطلق الناس أن يؤمنوا به. ومن يؤمن يقول له : أطعني مادمت قد آمنت بي.
إذن فحيثية الطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم نشأت من الإيمان بالله وبالرسول. وهذه عدالة كاملة ؛ لأنه سبحانه لا يكلف واحدا أن يفعل فعلا إلا إذا كان قد آمن به سبحانه مكلفا، آمن به آمرا، أما الذي لا يؤمن به فهو لا يقول له : افعل كذا ولا تفعل كذا، إنه سبحانه يطالبه أن يؤمن به أولا، فإذا ما آمن به يقول له : استمع إلى، ولذلك تجد كل تكليف يصدر بقوله سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾.
إن حيثية إطاعة الله وإطاعة الرسول هي : الإيمان به، هذه هي الحيثية الإيمانية الأولى، أما إن جال ذهنك لتدرك سر الطاعة، فهذا موضوع آخر، ولذلك أوضح : إياكم أن تقبلوا على أحكام الله بالبحث فيها أولا فإن اقتنعتم بها أخذتموها وإن لم تقتنعوا بها تركتموها، لا. إن مثل هذا التصرف معناه أنك شككت في الحكم. بل عليك أن تقبل على تنفيذ أحكامه ؛ لأنه سبحانه قالها وأنت مؤمن بأنه إله حكيم. لكن هل ذلك يمنع عقلك من أن يجول ليفهم الحكمة ؟.
نقول لك : أنت قد تفهم بعض الحكمة، ولكن ليست كل الحكمة ؛ لأن كمالات حكمة الله لا تتناهى، فقد تعرف جزءا من الحكمة وغيرك يعرف جزءا آخر، ولذلك قالوا : إن الفرق بين أمر البشر للبشر، وأمر الله للمؤمنين به شيء يسير جدا هو : أمر الله للبشر تسبقه العلة وهي أنك آمنت به، أما أمر البشر للبشر فأنت تقول لمن يأمرك : أقنعني لماذا أفعل هذه ؟ ؛ لأن عقلك ليس أرقى من عقلي. فأنت لا تصنع شيئا إلا إذا اقتنعت به. وتكون التجارب قد أثبتت لك أصالة رأى من تستمع له وأنه لن يغشك.
وهكذا نرى أن طاعتنا لله تختلف عن طاعتنا للمخلوق ؛ فنحن نطيع الله لأننا آمنا به وحينما يطلب سبحانه منا أن نطيعه، ننظر هل هذه الطاعة لصالحنا أو لصالحه ؟ فإذا وثقنا أنه بكل صفات الكمال الموجودة له خلقنا ؛ إذن فسبحانه لا يريد صفة جديدة تكون له ؛ لأنه لم يخلقنا إلا بصفات الكمال فيه، وسبحانه قد خلقك دون أن يكون لك حق الخلق عنده، خلقك بقدرته، وأمدك لاستبقاء حياتك بقيوميته، فحين يطلب منك الإله الذي يتصف بتلك الكمالات شيئا فهو يطلبه لصالحك، كما ترى أي إنسان من البشر ولله المثل الأعلى يعني بصنعته ويحب أن تكون صنعته متميزة، فكذلك الحق سبحانه وتعالى يريد أن يباهي بهذا الخلق. ويباهي بهذا الخلق ليس بالإكراه على أن يفعلوا ما يأمر به بالتسخير لا. بل بالمحبوبية لأمر الله وأن نعلن بسلوكنا : نحن نحبك يا ربنا. وإلا فأنت أيها الإنسان قد تختار أن تكون عاصيا. ومادمت مخيرا أن تكون عاصيا ثم أطعت، فهذه تثبت لله صفة المحبوبية لأنه ؛ كما نعرف هناك فرق بين من يقهر بقدرته ومن يعطيك الاختيار حتى تأتيه وأنت محب، على الرغم من أنه قادر على أن يقهرك.
فساعة قال الحق :﴿ أطيعوا الله ﴾ معناها : أنه لم يطلب منا شططا، وكيف نطيع الله ؟. أن نطيعه في كل أمر، وهل أمر الله خلقه منفردين ؟. لا، بل أمرهم كأفراد وكجماعة، وأعطاهم الإيمان الفطري الذي يثبت أن وراء الكون قوة أخرى خلقته. وهذه القوة لا يعرف أحد اسمها، ولا مطلوباتها، أو ماذا ستعطي لمن يعطيها ؛ إذن فلابد أن يوجد مبلغ. ولذلك فأنا أرى أن بعض الفلاسفة قد جانبوا الصواب عندما قالوا : إن العقل كاف في إدراك الدين، وأقول لهم : لا. العقل كاف في إدراك من ندين له، ولكن العقل لا يأتي لنا بكيفية الدين ومنهجه.
لذلك لابد من بلاغ عنه يقول : افعلوا كذا وكذا وكذا، نقول لهؤلاء الفلاسفة : إن العقل كاف في استنباط وجود قوة وراء هذا الكون، أما شكل هذه القوة، واسمها وماذا تريد ؛ فلا أحد يعرف ذلك إلا أن يوجد مبلغ عن هذه القوة، ولابد أن تكون القوة التي آمنت بها بفطرتك قد أرسلت من يقول : اسمه كذا، ومطلوبة كذا، إذن فقوله :﴿ أطيعوا الله ﴾ يلزم منها إطاعة الرسول.
وبعد ذلك قال :﴿ وأولي الأمر ﴾ واولي الامر هنا لم يتكرر لهم الفعل، فلم يقل : وأطيعوا أولي الأمر لنفهم أن أولي الأمر لا طاعة لهم إلا من باطن الطاعتين : طاعة الله وطاعة الرسول، ونعلم أن الطاعة تأتي في أساليب القرآن بثلاثة أساليب :﴿ أطيعوا الله والرسول ﴾ و﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾، وأطيعوا الرسول فقط. إذن فثلاثة أساليب في الطاعة :
الأسلوب الأول : أطيعوا الله والرسول ؛ فأمر الطاعة واحد والمطاع هو الله والرسول.
والأسلوب الثاني : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.
والأسلوب الثالث : أطيعوا الرسول، نعم. فالتكليفات يأمر بها الحق سبحانه وتتأكد بحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعله أو تقريره، وهنا تكون الطاعة في الأمر لله وللرسول، أو أن الحق قد أمر إجمالا والرسول عين تفصيلا ؛ فقد أطعنا الله في الإجمال وأطعنا الرسول في التفصيل فتكون الطاعة لله، وتكون الطاعة للرسول، أو أن كان هناك أمر لم يتكلم فيه الله وتكلم الرسول فقط. ويثبت ذلك بقول الحق :
﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ ( من الآية ٨٠سورة النساء ).
وقوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ ( من الآية ٧ سورة الحشر ).
إذن فهذه تثبت أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة ملاحظ في التشريع : ملحظ يشرع فيه ما شرع الله تأكيدا له أو أن الله قد شرع إجمالا، والرسول عين تفصيلا. والأمثلة على ذلك : أن الله فرض علينا خمس صلوات، وفرض علينا الزكاة، وهذه تكليفات قالها ربنا ؛ والرسول يوضحها : النصاب كذا، والسهم كذا، إذن فنحن نطيع ربنا في الأمر إجمالا، ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، أو أن الأمر لم يتكلم فيه الله حكما، وإنما جاء من الرسول بتفويض من الله، ولذلك فإن قال لك أي إنسان عن أي حكم من الأحكام : هات دليله من القرآن ولم تجد دليلا من القرآن فقل له : دليل أي أمر قال به الرسول من القرآن هو قول الحق :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ ( من الآية ٧ سورة الحشر ).
هذا دليل كل أمر تكليفي صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد يقول قائل : هناك فارق بين الأمر الثابت بالسنة والفرض. نقول : لا تخلط بين السنة وهي الأمر الذي ان فعلته تثاب وإن لم تفعله لا تعاقب، والفرض الذي يجب على المكلف أن يفعله، فإن تركه أثم وعوقب على الترك، وهذا الفرض جاء به الحق وأثبته بالدليل كالصلوات الخمس وعدد الركعات في كل صلاة، فالدليل في الفرض هنا ثبت بالسنة وهذا ما يسمى سنية الدليل ؛ وهناك فرق بين سنية الحكم كأن يصلي المسلم قبل الظهر ركعتين وقبل الصبح ركعتين وفرضية الحكم كصلاة الصبح والظهر.. إذن ففيه فرق بين الشيء الذي إن فعلته تثاب عليه وإن لم تفعله لا تعاقب عليه والشيء الذي يفرض عليك أداؤه، فإن تركته أثمت وعوقبت، وأما سنية الدليل فهي شرح ما جاءت به الفروض شرحا تطبيقيا ليتبعه المسلمون.
أما الأمر بطاعة أولي الأمر فقد جاءت بالعطف على المطاع دون أمر بالطاعة، مما يدل على أن طاعة ولي الأمر ملزمة إن كانت من باطن طاعة الله وطاعة رسوله، وفي ذلك عصمة للمجتمع الإيماني من الحكام المتسلطين الذين يحاولون أن يستذلوا الناس بقول الله :﴿ وأولي الأمر ﴾ ويدعون أن طاعتهم واجبة، يقول الواحد منهم : ألست ولي أمر ؟. فيرد العلماء : نعم أنت ولي أمر ولكنك معطوف على المطاع ولم يتكرر لك أمر الطاعة، فدل ذلك على أن طاعتك واجبة إن كانت من باطن الطاعتين. فإن لم تكن من باطن الطاعتين فلا طاعة لك، لأن القاعدة هي﴿ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ﴾، هكذا قال أبو حازم لمسلمة بن عبد الملك حينما قال له : ألسنا ولاة الأمر وقد قال الله :﴿ وأولي الأمر ﴾. قال : ويجب أن نفطن أيضا إلى أنها نزعت في قوله سبحانه :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول ﴾. إذن فالحاكم المسلم مطالب أولا بأداء الأمانة، ومطالب بالعدل، ومطالب أيضا أن تكون طاعته من باطن طاعة الله وطاعة رسوله. فإن لم تكن فيه هذه الشروط، فهو حاكم متسلط. ﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ إذن فالتنازع لا بد من أن يكون في قضية داخلة في نطاق مأمورات الطاعة، ويجب أن يكون لها مرد ينهى هذا التنازع ﴿ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾.
والذين يعرفون هذه الأحكام هم العلماء، فإن تنازع المحكوم مع الحاكم نذهب إلى العلماء ليبينوا لنا حكم الله في هذه المسألة، إذن فإن أريد ب﴿ أولي الأمر ﴾ الحاكم، نقول له :﴿ فردوه إلى الله والرسول ﴾ أي على الحاكم أن يتبع ما ثبت عن الله والرسول، والحجة في ذلك هم العلماء المشتغلون بهذا الأمر، وهم الملاحظون لتنفيذ حكم الله بما يعرفونه عن الدين. والحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا ذلك، يريد أن ينهى مسألة التنازع، لأن التنازع يجعل حركات الحياة متضاربة، هذا بقول بكذا وذلك يقول بكذا، فلابد أن نرده إلى مرد أعلى، والحق يقول :
﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ ( من الآية ٨٣ سورة النساء ).
إذن فقد يكون المراد بأولي الأمر " العلماء ".
نقول : إن الآية الأولى عامة وهي التي جاءت بها طاعة ولي الأمر ضمن طاعة الله والرسول، والثانية التي تخص الاستنباط يكون المقصود بأولي الأمر هم العلماء.
وأولوا الأمر في القضية الأولى التي عندما نتنازع معهم في أمر نرده إلى الله والرسول هم الذين يشرفون على تنفيذ أحكام الله، وهذه سلطة تنفيذية، أما سلطة العلماء فهي تشريعية إيمانية.
﴿ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ إذن فالذي لا يفعل ذلك يجازف بأن يدخل في دائرة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ونقول لكل منهم : راجع إيمانك بالله واليوم الآخر ابتداء في تلقي الحكم، وإيمانا باليوم الآخر لتلقي الجزاء على مخالفة الحكم، فالحق لم يجعل الدنيا دار الجزاء.
وينبهنا الحق في ختام الآ
﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ والمراد هم المنافقون وبعض من أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. و " الزعم " : مطية الكذب، فهم " يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " وهو القرآن ؛ ﴿ وما أنزل من قبلك ﴾، وهو التوراة والإنجيل و " يريدون " بعد ادعاء الإيمان ؛ ﴿ أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾، والتحاكم إلى شيء هو : الاستغاثة أو اللجوء إلى ذلك الشيء لينهى قضية الخلاف. فعندما نقول :" تحاكمنا إلى فلان "، فمعنى قولنا هذا : أننا سئمنا من آثار الخلاف من شحناء وبغضاء، ونريد أن نتفق إلى أن نتحاكم، ولا يتفق الخصمان ان يتحاكمان الى شيء الا اذا كان الطرفان قد اجهدهما الخصام فهما مختلفان على قضية، وأصاب التعب كلا منهما.
﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾. و " الطاغوت " كما عرفنا هو الشخص الذي تزيده الطاعة طغيانا، فهناك طاغ أي ظالم، ولما رأى الناس تخافه استمرأ واستساغ الظلم مصداقا لقول الحق :﴿ فاستخف قومه فأطاعوه ﴾ ( من الآية ٥٤ سورة الزخرف ).
وهذا اسمه " طاغوت مبالغة في الطغيان. والطاغوت يطلق على المعتدي الكثير الطغيان سواء أكان أناسا يعبدون من دون الله ولهم تشريعات ويأمرون وينهون، أم كان الشيطان الذي يغري الناس، أم كان حاكما جبارا يخاف الناس شره، وأي مظهر من تلك المظاهر يعتبر طاغوتا. وقالوا : لفظ الطاغوت يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع فنقول : رجل طاغوت، ورجلان طاغوت، ورجال طاغوت، يأتي للجمع كقوله الحق :
﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ﴾ ( من الآية ٢٥٧ سورة البقرة ).
ويأتي للمفرد كقوله الحق :﴿ وقد أمروا أن يكفروا به ﴾ ( من الآية ٦٠ سورة النساء ).
إذن فمرة يأتي للجمع ومرة يأتي للمفرد، وفي كل حكم قرآني قد نجد سببا مخصوصا نزل من أجله الحكم، فلا يصح أن نقول : إن حكما نزل لقضية معينة ولا يعدى إلى غيرها، وهو يعدى إلى غيرها إذا اشترك معها في الأسباب والظروف، فالعبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب.
لقد نزلت هذه الآية في قضية منافق اسمه " بشر ". حدث خلاف بينه وبين يهودي، وأراد اليهودي أن يتحاكم إلى رسول الله، وأراد المنافق أن يتحاكم إلى " كعب بن الأشرف "، وكان اليهودي واثقا أن الحق له ولم يطلب التحاكم إلى النبي حبا فيه، بل حبا في عدله، ولذلك آثر من يعدل، فطلب حكم رسول الله، أما المنافق الذي يعلن إسلامه ويبطن ويخفى كفره فهو الذي قال : نذهب إلى كعب بن الأشرف الطاغوت، وهذه تعطينا حيثية لصدق رسول الله في البلاغ عن الله في قوله :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾.
وكون اليهودي يريد أن يتحاكم إلى رسول الله، فهذه تدل على ثقته في أن رسول الله لن يضيع عنده الحق، ولم يطلب التحاكم إلى كبير من كبراء اليهود مثل " كعب بن الأشرف " لأنه يعرف أنه يرتشي.
ويختم الحق الآية :﴿ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ فهما حين يتحاكمان إلى الطاغوت وهو " كعب بن الأشرف " ؛ وبعد ذلك يقضي لمن ليس له حق، سيغري مثل هذا الحكم كل من له رغبة في الظلم أن يظلم، ويذهب له ليتحاكم إليه ! فالضلال البعيد جاء هنا لأن الظلم سيتسلسل، فيكون على القاضي غير العادل وزر كل قضية يحكم فيها بالباطل، هذا هو معنى " الضلال البعيد "، وليت الضلال يقتصر عليهم، ولكن الضلال سيكون ممتدا.
لكن التشريع حينما يأتي من الله يكون عاليا ؛ لأنه سبحانه لا تغيب عنه جزئية مهما صغرت، لكن التقنين البشري يوضع لحالة راهنة وتأتي أحداث بعدها تستوجب تعديله، وتعديل القانون معناه أن الأحداث قد أثبتت قصور القانون وأنه قانون غير مستوعب للجديد، وهذا ناشئ من أن أحداثا جدت لم تكن في بال من قنن لصيانة المجتمع، وكان ذهن مشرع القانون الوضعي قاصرا عنها، كما أن تعديل أي قانون لا يحدث إلا بعد أن يرى المشرع الآثار الضارة في المجتمع، تلك الآثار التي نشأت من قانونه الأول، وضغطت أحداث الحياة ضغطا كبيرا ليعدلوا في الأحكام والقوانين.
أما تشريع الله فهو يحمي المجتمع من أن تقع هذه الأحداث من البداية، هذا هو الفارق بين تشريع وضعي بشري جاء لينقذنا من الأحداث، وتشريع رباني إلهي يقينا من تلك الأحداث. فالتشريع البشري كمثل الطب العلاجي. أما التشريع السماوي فهو كالطب الوقائي، والوقاية خير من العلاج.
لذلك جاء الحق سبحانه بالتشريعات التي تقينا وتحمينا من شر الأحداث، أي أنه يمنع عن الإنسان الضرر قبل أن يوجد ؛ وبذلك تتحقق رحمته سبحانه لطائفة من البشر عن أن تعضهم الأحداث، بينما نجد للقانون الوضعي ضحايا، فيرق قلب المشرعين بعد رؤية هؤلاء الضحايا ليضعوا التعديل لأحكام وضعوها من قبل، ففي القانون الوضعي نجد بشرا يقع عليهم عبء الظلم لأنه قانون لا يستوعب صيانة الإنسان صيانة شاملة، وبعد حين من الزمن يتدخل المشرعون لتعديل قوانينهم، وإلى أن يتم التقنين يقع البشر في دائرة الغبن وعدم الحصول على العدل. أما الخالق سبحانه فقد برأ وخلق صنعته وهو أعلم بها ؛ لذلك لم يغبن أحدا على حساب أحد ؛ فوضع تشريعاته السماوية، ولذلك يقول الحق :
﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ﴾ ( من الآية ٨٢ سورة الإسراء ).
" شفاء " إذا وجد الداء من غفلة تطرأ علينا، " ورحمة " وذلك حتى لا يأتي الداء. الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾. إنه سبحانه يضع من الأحداث ما يفضحهم فيتصرفون بما يكشف نفاقهم، وبعد ذلك يخطرهم الرسول ويعرف عنهم المجتمع أنهم منافقون.
وهم ﴿ يصدون عنك صدودا ﴾ أي يعرضون عنك يا رسول الله لأنهم منافقون، وكل منافق عنده قضيتان : قضية لسانية وقضية قلبية ؛ فهو باللسان يعلن إيمانه بالله وبرسول الله، وفي القلب تتعارض ملكاته عكس المؤمن أو الكافر، فالمؤمن ملكاته متساندة ؛ لأن قلبه انعقد على الإيمان ويقود انسجام الملكات إلى الهدى، والكافر أيضا ملكاته متساندة ؛ لأنه قال : إنه لم يؤمن ويقوده انسجام ملكاته إلى الضلال، لكن المنافق يبعثر ملكاته ! ! ملكة هنا وملكة هناك، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار، الكافر منطقي مع نفسه، فلم يعلن الإيمان ؛ لأن قلبه لم يقتنع، وكان من الممكن أن يقول كلمة الإيمان لكن لسانه لا يرضى أن ينطق عكس ما في القلب، وعداوته للإسلام واضحة. أما المنافق فيقول : يا لساني.. أعلن كلمة الإيمان ظاهرا ؛ كي أنفذ من هذا الإعلان إلى أغراضي وأن تطبق علي أحكام الإسلام فأنتفع بأحكام الإسلام، وأنا من صميم نفسي إن وجدت فرصة ضد الإسلام فسأنتهزها. ولذلك يقول الحق :﴿ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ٦٢ ﴾.
﴿ فكيف إذا أصابتهم مصيبة ﴾ والمصيبة هي الأمر يطرأ على الإنسان بما يضره في عرفه ؛ ولأنهم منافقون فهم يريدون أن يكون هذا النفاق مكتوما، فإذا جاءت حادثة لتفضحهم صارت مصيبة. على الرغم من أن الحادثة في واقعها ليست مصيبة. فعندما نعرف المنافقين ونظهرهم أمام أنفسهم وأمام الناس فنحن نكفي أنفسنا شرهم. وهم يريدون بالنفاق أمورا لأنفسهم.
وهكذا يكون الكشف لنفاقهم مصيبة بالنسبة لهم، هم يرون النفاق نفعا لهم ؛ فبه يستفيدون من أحكام الإسلام وإجرائها وتطبيقها عليهم، وعندما ينفضح نفاقهم يشعرون بالمصيبة، مثلهم كمثل الذي ذهب ليسرق، ثم فوجئ وهو داخل المكان ليسرق أن الشرطة موجودة لتقبض عليه، وهذا في الواقع نعمة لأنها تضرب على أيدي المجرم العابث، لكنها بالنسبة له مصيبة.
فيقول سبحانه :
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ٦٣ ﴾.
وناهيك بعلم الله، ولذلك يقول ربنا :
﴿ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ﴾ ( من الآية ٣٠سورة محمد ).
يعني : نحن لو شئنا أن نقول لك من هم لقلنا لك ودللناك عليهم حتى تعرفهم بأعيانهم، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم لعلهم يتوبون، ولتعرفنهم من فحوى كلامهم وأسلوبهم.
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ لقد ذهبوا ليتحاكموا إلى الطاغوت، وقد ذهبوا إلى هناك لعلمهم انهم ليسوا على حق، ولأنهم إن ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيحكم بالحق، والحق يضارهم ويضايقهم، فهل كانوا بالفعل يريدون إحسانا وتوفيقا، أو كانوا لا يريدون الحق ؟. لقد أرادوا الحكم المزور.
لذلك يأتي الأمر من الحق لرسوله :﴿ فأعرض عنهم ﴾ ؛ لأنك إن عاقبتهم فقد أخذت منهم حقك، والله يريد أن يبقى حقك ليقتص سبحانه لك منهم، وأعرض أيضا عنهم لأننا نريد أن يظهر منهم في كل فترة شيئا لنعلم المجتمع الإيماني اليقظة إلى أن هناك أناسا مدسوسين بينهم، لذلك لابد من الحذر والتدبر. كما أنك إذا أعرضت عنهم أسقطتهم من حساب دعوتك.
" وعظهم " أي قل لهم : استحوا من أفعالكم. ﴿ وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ أي قل لهم قولا يبلغ الغاية من النفس البشرية ويبلغ الغاية من الوعظ، أي يوعدهم الوعيد الذي يخيفهم كي يبلغ من أنفسهم مبلغا، أو ﴿ قل لهم في أنفسهم ﴾ أي أفضح لهم ما يسترون ؛ كي يعرفوا أن الله مطلعك على ما في أنفسهم فيستحوا من فعلهم ولا يفعلوه، قل لهم ذلك بدون أن تفضحهم أمام الناس ؛ لأن عدم فضحهم أمام الناس يجعل فيهم شيئا من الحياء، وأيضا لأن العظة تكون ذات أثر طيب إذا كان الواعظ في خلوة مع الموعوظ فيناجيه ولا يفضحه، ففضح الموعوظ أمام الناس ربما أثار فيه غريزة العناد، لكن عندما تعظه في السر يعرف أنك لا تزال به رحيما، ولا تزال تعامله بالرفق والحسنى.
﴿ وعظهم وقل لهم في أنفسهم ﴾ وإنك لو فعلت ذلك علنا فستعطي الأسوة لغيرك أن يفعل. والله قد أطلعك على ما في قلوب هؤلاء من الكفر أما غيرك فلا يطلعه الله على غيب ولو رمى أحدا بذنب أو كفر فلعله لا يصادف الحق والواقع وتشريعنا يقول لنا :" ادرءوا الحدود بالشبهات ".
والتطبيق لهذا التشريع نجده عندما يتم القبض على سارق، لكن هناك شبهة في الاتهام، هذه الشبهة يجب أن تفسر في صالح المتهم، وندرأ الحد لوجود شبهة ؛ فليس من مصلحة المسلمين أن نقول كل يوم : إننا قطعنا يد سارق أو رجمنا زانية. لكن إذا افتضحت الجرائم وليس في ارتكابها شبهة والمسألة واضحة فلابد أن نضرب على أيدي المجرمين. فنحن ندرأ الحد بالشبهة حتى لا نلحق ضررا أو ننال من برئ، ونطبق الحد حتى يرتدع كل من تسول له نفسه أمرا محرما حتى لا يرتكب الأمر المحرم. وعندما يقام الحد في أي بيئة ؟، فإنه لا يقام إلا لفترة قليلة وتتراجع بعدها الجرائم، ولا يرى أحد سارقا أو زانيا.
إذن فقول الله :﴿ وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ يعني : قل لهم ما يهددهم تهديدا يصل إلى أعماق نفوسهم، أو﴿ وقل لهم في أنفسهم ﴾ بأن تكشف مستورات عيوبهم أو قل لهم في أنفسهم بينك وبينهم ؛ لأن هذا أدعى إلى أن يتقبلوه منك ولا يوغر صدورهم ويثير فيهم غريزة العناد.
فالمؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إذن عليهم طاعة الرسول في إطار ما فوضه الله والله أذن له أن يشرع.
ويتابع الحق :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ﴾. وظلم النفس : أن تحقق لها شهوة عاجلة لتورثها شقاء دائما. وظلم النفس أشقى أنواع الظلم، فمن المعقول أن يظلم الإنسان غيره، أما أن يظلم نفسه فليس معقولا. وأي عاص يترك واجبا تكليفيا ويقبل على أمر منهي عنه، قد يظن في ظاهر الأمر أنه يحقق لنفسه متعة، بينما هو يظلم نفسه ظلما قاسيا ؛ فالذي يترك الصلاة ويتكاسل أو يشرب الخمر أو يرتكب أي معصية نقول له : أنت ظلمت نفسك ؛ لأنك ظننت أنك تحقق لنفسك متعة بينما أورثتها شقاء أعنف وأبقى وأخلد، ولست أمينا على نفسك.
والنفس كما نعلم تطلق على اجتماع الروح بالمادة، وهذا الاجتماع هو ما يعطي النفس الإنسانية صفة الاطمئنان أو صفة الأمارة بالسوء، أو صفة النفس اللوامة. وساعة تأتي الروح مع المادة تنشأ النفس البشرية. والروح قبلما تتصل بالمادة هي خيرة بطبيعتها، والمادة قبلما تتصل بالروح خيرة بطبيعتها ؛ فالمادة مقهورة لإرادة قاهرها وتفعل كل ما يطلبه منها. فإياك أن تقول : الحياة المادية والحياة الروحية، وهذه كذا وكذا. لا.
إن المادة على إطلاقها خيرة، طائعة، مسخرة، عابدة، مسبحة. والروح على إطلاقها كذلك، فمتى يأتي الفساد ؟. ساعة تلتقي الروح بالمادة ويوجد هذا التفاعل نقول : أنت يا مكلف ستطمئن إلى حكم الله وتنتهي المسالة أم ستبقى نفسك لوامة أم ستستمرئ المعصية وتكون نفسك أمارة بالسوء ؟.
فمن يظلم من إذن ؟. إنه هواك في المخالفة الذي يظلم مجموع النفس من روحها ومادتها، فأنت في ظاهر الأمر تحقق شهوة لنفسك بالمخالفة، لكن في واقع الأمر أنك تتعب نفسك، ﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ﴾. ولنعلم أن هناك فرقا بين أن يأتي الفاحشة إنسان ليحقق لنفسه شهوة. وأن يظلم نفسه، فالحق يقول :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ ( من الآية١٣٥ سورة آل عمران ).
إذن فارتكاب الفاحشة شيء وظلم النفس شيء آخر، " فعل الفاحشة " قد متع إنسان نفسه قليلا، لكن كم ظلم نفسه لم يفعل ذلك. فهو لم يمتعها ولم يتركها على حالها، إذن فقد ظلم نفسه ؛ لا أعطاها شهوة في الدنيا ؛ ولم يرحمها من عذاب الآخرة، فمثلا شاهد الزور الذي يشهد ليأخذ واحد حق آخر، هذا ظلم قاس للنفس، ولذلك قال الرسول :
( بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا )١.
﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله ﴾. وظلم النفس أيضا بأن يرفع الإنسان أمره إلى الطاغوت مثلا، لكن عندما يرفع الإنسان أمره للحاكم، لا تعرف أيحكم لنا أم لا ؛ وقد يهديه الله ساعة الحكم.
إن قوله :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ﴾ فالمسألة أنهم امتنعوا من المجيء إليك يا رسول الله ؛ فأول مرتبة أن يرجعوا عما فعلوه، وبعد ذلك يستغفرون الله ؛ لأن الذنب بالنسبة لعدم مجيئهم للرسول قبل أن يتعلق بالرسول تعلق بمن بعث الرسول، ولذلك يقولون : إهانة الرسول تكون إهانة للمرسل ؛ فصحيح أن عدم ذهابهم للرسول هو أمر متعلق بالرسول ولكن إذا صعدته تجده متعلقا بمن بعث الرسول وهو الله، لأن الرسول لم يأت بشيء من عنده، وبعد أن تطيب نفس الرسول فيستغفر الله لهم، إذن فأولا : يجيئون، وثانيا : يستغفرون الله وثالثا : يستغفر لهم الرسول.
وبعد ذلك يقول سبحانه :﴿ لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ إذن فوجدان الله توابا رحيما مشروط بعودتهم للرسول بدلا من الإعراض عنه ثم أن يستغفروا الله ؛ لأن الله ما أرسل من رسول إلا ليطاع بإذنه، فعندما تختلف معه لا تقل : إنني اختلفت مع الرسول ؛ لا. إنك إن اختلفت معه تكون قد اختلفت مع من أرسله وعليك أن تستغفر الله.
ولو أنك استغفرت الله دون ترضية الرسول فلن يقبل الله ذلك منك. فلا يقدر أحد أبدا أن يصلح ما بينه وبين الله من وراء محمد عليه الصلاة والسلام.
وحين يفعلون ذلك من الجيء الى الرسول واستغفارهم الله واستغفار الرسول لهم سيجدون الله توابا رحيما، وكلمة " تواب : مبالغة في التوبة فتشير إلى أن ذنبهم كبير.
إن الحق سبحانه وتعالى خلق خلقه ويعلم أن الأغيار تأتي في خواطرهم وفي نفوسهم وأن شهواتهم قد تستيقظ في بعض الأوقات فتنقلب إلى بعض الذنوب، ولأنه رب رحيم بين لنا ما يمحص كل هذه الغفلة، فإذا أذنب العبد ذنبا أربه الرحيم يتركه هكذا للذنب ؟ لا. إنه سبحانه شرع له العودة إليه ؛ لأن الله يحب أن يئوب عبده ويرجع إليه وإن غفل بمعصيته.
إن الحق سبحانه وتعالى يعلمنا كيف نزيل عنا آثار المعاصي، فقال :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ﴾ فالعلاج من هذه أن يجيئوك لأنهم غفلوا عن أنك تنطق وتبلغ من قبل الحق في التشريع وفي الحكم، وبعد المجيء يستغفرون الله ويستغفر لهم الرسول، تأييدا لاستغفارهم لله، حينئذ الله توابا رحيما.
ونلحظ في قول الحق :﴿ فلا وربك ﴾ وجود " لا " نافية، وأنه سبحانه أقسم بقوله :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ﴾، ونعلم أن المنافقين قد ذهبوا فحكموا غير رسول الله، مع أنهم شاهدون بأنه رسول الله فكيف يشهدون أنه رسول الله، ثم يحكمون غيره ولا يرضون بقضائه ؟ وتلك قضية يحكم الحق فيها فيقول : لا. هذه لا تكون أبدا. إذن ف " لا " النافية جاءت هنا لتنفي إيمانهم وشهادتهم أنه رسول الله ؛ لأنهم حكموا غيره. فإذا ثبت أنهم شهدوا أنه رسول الله ثم ذهبوا لغيره ليقضي بينهم إذا حدث هذا. فحكمنا في القضية هو : لا يكون لهم أبدا شرف شهادة أنه رسول الله.
وبعد ذلك أقسم الحق فقال :﴿ وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ ونحن الخلق لا نقسم إلا بالله، لكنه سبحانه له أن يقسم بما شاء على من يشاء، يقسم بالمادة الجبلية :
﴿ والطور١ ﴾ ( سورة الطور ).
ويقسم بالذاريات :
﴿ والذاريات ذروا ١ ﴾ ( سورة الذاريات ).
والذاريات هي الرياح، ويقسم بالنبات :
﴿ والتين والزيتون ١ ﴾ ( سورة التين ).
ويقسم بالملائكة :﴿ والصافات صفا ١ ﴾ ( سورة الصافات ).
ولكنك إن نظرت إلى الإنس فلن تجده أقسم بأحد من سيد هذا الكون وهو الإنسان إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم بحياته فقال :
﴿ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون٧٢ ﴾ ( سورة الحجر ).
و " لعمرك " يعني : وحياتك يا محمد إنهم في سكرتهم يعمهون، أي هم في غوايتهم وضلالهم يتحيرون فلا يهتدون إلى الحق، وأقسم الله بعد ذلك بنفسه، فقال :
﴿ فورب السماء والأرض إنه لحق ﴾ ( من الآية ٢٣ سورة الذاريات ).
وساعة يقول :﴿ فورب السماء والأرض ﴾. فلابد أن يأتي بربوبيته لخلق عظيم نراه نحن، ولذلك قال :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾ ( من الآية ٥٧ سورة غافر ).
يعني إذا فكرت أيها الإنسان في خلق السماوات والأرض لوجدته أكبر من خلق الناس.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله تعالى :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ وهذا تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن محمدا عليه الصلاة والسلام ذو منزلة عالية، إياكم أن تظنوا انه حين قال :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾ أن محمدا قد دخل في الناس، إنه سبحانه يوضح : لا، سأقسم به كما أقسمت بالسماء والأرض، ﴿ فوربك لنسألنهم ﴾، ولماذا يقسم برب السماء والأرض ؛ لأن الرب به قدرة عظيمة هائلة، فهو يخلق ويربي، ويتعهد ويؤدب.
إن خلق السماوات والأرض يكفي فيها الخلق وناموس الكون والتسخير. لكن عندما يخلق محمدا فلا يريد الخلق والإيجاد فقط، بل يريد تربية فيها ارتقاءات النبوة مكتملة فيقول له : فوربك الذي خلقك، والذي سواك والذي رباك، والذي أهلك لأن تكون خير خلق الله وأن تكون خاتم الرسل، ولأن تكون رحمة الله للعالمين، يقسم بهذا كله فيقول :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ أبعد ما يدخل سبحانه فينا هذه المهابة بالقسم برب رسول الله نقول : لا نحكم محمدا ومنهجه في حياتنا ؟. إذن فقوله :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ وحكم كل مادتها مثل " الحكم " و " التحكيم " و " الحكمة " و " التحكم " وكل هذا مأخوذ من الحكمة وهي حديدة اللجام الذي يوضع في فم الفرس يمنعه به صاحبه أن يشرد، ويتحكم فيه يمينا ويسارا، فكذلك " الحكمة " تعوق كل واحد عن شروده في أخذ حق غيره، فالتحكيم والحكم، والحكمة كلها توحي بأن تضع الشيء في موضعه الصحيح.
وكلمة " شجر " مأخوذة من مادة ( الشين والجيم والراء ) وإذا رأيتها فافهم أنها مأخوذة من الشجر الذي تعرفه. وهناك نباتات لا تلتصق ببعضها، وهناك نباتات تكبر فيلتصق بعضها ببعض فتتشابك، كما نرى مثلا شجرا متشابكا قي بعضه، وتداخلت الأفرع مع بعضها بحيث لا تستطيع أيها الناظر أن تقول : إن هذه ورقة هذه الشجرة أو ورقة تلك الشجرة. وإذا ما أثمرتا وكانتا من نوع واحد لا تقدر أن تقول : إن هذه الثمرة من هذه الشجرة، ولا هذه الثمرة من تلك الشجرة، أي أن الأمر قد اختلط.
﴿ وشجر بينهم ﴾ أي قام نزاع واختلاط في أمر، فأنت تذهب لتفصل هذه الشجرة عن تلك، وهذه الثمرة عن تلك الثمرة، وساعة ترى أشجارا من نوع واحد، وتداخلت مع بعضها واختلطت، لا يعنيك إن كنت جاني الثمرة أن تكون هذه الثمرة التي قطفتها من هنا أو من هناك فأنت تأخذ الثمرة حيث وجدت، لا يعنيك أن تكون من هذه أو من تلك، وإن كنت تستظل تحت شجر لا يعنيك أن تعرف هل جاء هذا الظل من ورق هذه الشجرة أو من تلك الشجرة، فهذه فائدة اختلاط المتساوي، لكن إذا أردت ورقة شجرة من نوع معين فأنتقيها لأنني أريدها لأمر خاص.
والخلق كلهم متساوون فكان يجب إن اختلطوا أن تكون المسألة مشاعا بينهم لكن طبيعة النفس الشح، فتنازعوا، ولذلك فالقاضي الذكي يقول للمتخاصمين أتريدان أن أحكم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل ؟. فيفزعان ويقولان أهناك خير من العدل ؟. يقول : نعم إنه الفضل فما دامت المسألة أخوة واحدة، والخير عندك كالخير عندي فلا نزاع، أما إذا حدث الشجار فلابد من الفصل.
ومن الذي يفصل ؟. إنه سيدنا رسول الله بحكم قول الحق :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾.. فالإيمان ليس قولة تقال فحسب وإنما هو قولة لها وظيفة، فأن تقول : لا إله إلا الله وتشهد أن محمدا رسول الله فلابد أن لهذا القول وظيفة، وأن تحكم حركة حياتك على ضوء هذا القول فلا معبود إلا الله، ولا آمر إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا مشرع إلا الله، فهي ليست كلمة تقولها فقط ! وينتهي الأمر، ثم عندما يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفر منه. ﴿ فلا وربك لا يؤمنون ﴾ بمنهج الإسلام ﴿ حتى يحكموك ﴾ فهذا هو التطبيق :﴿ فيما شجر بينهم ﴾ ولا يصح أن يحكموك صوريا، بل لابد أن يحكموك برضا في التحكيم، ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ﴾ أي ضيقا ﴿ مما قضيت ﴾. فعندما يحكم رسول الله لا تتوانوا عن حكمه، ولا تضيقوا به ﴿ ويسلموا تسليما ﴾ أي يذعنوا إذعانا.
إذن فالإيمان لا يتمثل في قول يقال وإنما في توظيف ذلك القول. بأن تلجأ إليه في العمليات الحركية في الحياة، ﴿ فلا وربك لا يؤمنون ﴾ حتى يترجم الإيمان إلى قضية واقعية اختار الحق لها أعنف ساعات الحرج في النفس البشرية وهي ساعة الخصومة التي تولد اللدد والميل عن الحق، ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ﴾ لأنه قد يجد حرجا ولا يتكلم.
وانظروا إلى الثلاثة : الأولى :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ﴾، هذه واحدة، ﴿ فاستغفروا الله ﴾ هذه هي الثانية، ﴿ واستغفر لهم الرسول ﴾ هذه هي الثالثة، هذه ممحصات الذنوب، والذي يدخلك في حظيرة الإيمان ثلاثة أيضا :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ هذه هي الأولى، ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ﴾هذه هي الثانية، و﴿ يسلموا تسليما ﴾ هذه هي الثالثة. إذن فالقولان في رسول الله صلى الله عليه وسلم : دخول في حظيرة إيمان، وخروج من غل ذنب.
وهنا وقفة لا أبالغ إذا قلت : إنها شغلتني أكثر من عشر سنين، هذه الوقفة حول قول الله :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ ذلك يا رب تمحيص من عاصر رسولك صلى الله عليه وسلم، فما بال الذين لم يعاصروه ؟ فأين الممحص الذي يقابل هذا لمن لم يعاصر حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول إنما جاء للناس جميعا، فكيف يوجد ممحص لقوم عاصروا رسول الله ثم يحرم من جاءوا بعد رسول الله من هذا التمحيص ؟.
هذه مسألة ظلت في ذهني ولا أجد لها جوابا، إلا أني قلت : لقد ثبت عندي وعند بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطمئنا المؤمنين في كافة العصور :
( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرت لكم )١.
انظر إلى التطمين في قوله صلى الله عليه وسلم :( تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم )٢.
فاستغفار الرسول لنا موجود. إذن فما بقي منها إلا أن نستغفر الله، وما بقي إلا ﴿ جاءوك ﴾ أي يجيئون لسنتك ولما تركت منها فصلى الله عليه وسلم هو القائل :
( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض )٣.
فكما كان الأحياء يجيئونه، فنحن نجيء إلى حكمه وسنته وتشريعه، وهو يستغفر لنا جميعا، إذن فهذه منتهية، فبقي أن نستغفر الله قائلين : نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.. نفعل ذلك إن شاء الله.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ أي لا يجدوا حرجا عندما يذعنون لأي حكم تكليفي أو حكم قضائي، والحكم التكليفي نعرفه في : افعل ولا تفعل، أما الحكم القضائي فهو عندما يتنازع اثنان في شيء وهذا يقتضي أن نقبل الحكم في النزاع إذا ما صدر عن رسول الله أو عن منهجه. إذن فلابد أن نسلم تسليما في الاثنين : في الحكم التكليفي، وفي الحكم القضائي.
٢ رواه ابن سعد..
٣ رواه الحاكم عن أبي هريرة..
ويقال : إن قوم موسى عندما سمعوا هذا الحكم قام سبعون ألفا منهم بقتل أنفسهم، ونعلم أيضا أن قوم موسى أخرجوا من ديارهم وذهبوا في التيه. يقول سبحانه وتعالى :﴿ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ﴾ ( من الآية ٢٦ سورة المائدة ).
أي لا يدخلونها ولا يملكونها. والحق هنا يوضح : أن الإسلام لم يأت بمثل ما جاءت به الشرائع السابقة التي كانت التوبة فيها تقتضي قتل النفس، تلك الشرائع التي رأت أن النفس تغوى صاحبها بمخالفة المنهج فلابد أن يضيعها. ومن لطف الله أنه سبحانه لم يصدر علينا مثل هذا الحكم، ولذلك فسيدنا عبد الله ابن مسعود، وسيدنا عمار بن ياسر، وثابت بن قيس ؛ كل هؤلاء قالوا : والله لو أمرنا بهذا لفعلنا، وقال سيدنا عمر : والله لو أمرنا بهذا لفعلنا والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك. إذن فهذا لطف، إنه بين لهم : لو كتبنا عليهم أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم كما حدث لقوم موسى. ماذا كانوا يفعلون ؟ لكن ربنا استجاب لدعائهم :﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ ( من الآية ٢٨٦ سورة البقرة ).
لقد استجاب الحق لهم، لكن ماذا كان يحدث منكم لو كتب عليكم ذلك ؟ وسبب هذه الحكاية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم له ابن عمة اسمه " الزبير بن العوام " وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهناك واحد آخر اسمه " حاطب بن أبي بلتعة " كانا في المدينة، ومن زار المدينة المنورة يجد هناك منطقة اسمها " الحرة " وأرضها من حجارة سوداء كأنها محروقة، وفيها بعض " الحيطان " أي : البساتين ؛ لأنهم يسمون البستان " حائطا "، فقد كانوا يخافون من طغيان السيل فيبنون حول الأرض المزروعة حائطا، يرد عنها عنف السيل ويحدد الحيازة فيها، فكان لحاطب بن أبي بلتعة أرض زراعية منخفضة عن أرض الزبير بن العوام، فالسيل يأتي أولا من عند أرض الزبير ثم ينزل إلى أرض حاطب، ونعلم أن الأمطار تنزل متفرقة في مكان ثم يتجمع الماء في جدول صغير يسمونه " شراج " ومنه يروون بساتينهم.
فلما جاء السيل وأرادوا أن يرووا بساتينهم حدث خلاف بين الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، فأرض الزبير تعلو أرض حاطب، وحاطب يريد أن تمر المياه لأرضه أولا ثم يروي الزبير أرضه بعد ذلك. فلما تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم للزبير فقد كان الحق معه، ولم يكن الرسول ليلوي الحق لمجرد القرابة، فمن الناس من يحكم بالظلم ليشتهر بين الناس بالعدل، فقد يتخاصم ابنه مع واحد آخر والحق مع ابنه، فلكيلا يقول الناس : إنه جامل ابنه. يحكم على ابنه ! وهذا ليس عدلا ؛ فالعدل أن تحكم بالحق ثم تطلب من ابنك أن يتنازل عن حقه ليصبح عطاؤه لغيره فضلا. فالشجاعة هي أن تحكم بالحق، وهناك شجاعة أقوى وهي أن تحكم بالحق وإن كان على نفسك، لأن الحق أعز من نفسك.
ونص هذه الواقعة كما أوردها الإمام البخاري في صحيحه بسنده قال :" حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كان يسقيان به كلاهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال : يا رسول آن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : اسق ثم احبس حتى يبلغ الجدر فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة : قال الزبير : والله ما احسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾١.
فلما حكم رسول الله للزبير بأن يسقي زرعه ثم يرسل الماء إلى جاره لم يعجب ذلك حاطب بن أبي بلتعة، فقال : لأن كان ابن عمتك، والعربي يقول الكلمة ويترك لنباهة السامع أن يستنبط الباقي، وكأنه يعني : حكمت له لأنه ابن عمتك. ولوى شدقيه، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة علمه أن ابن أبي بلتعة لم يقدر عدالة الحق والحكم.. وكان كثير من الناس ممن كانوا يتصيدون للإسلام يقولون : هو قد حكم أولا أن يروي الزبير ثم يطلق الماء لحاطب، فلما غضب حاطب بن أبي بلتعة قال له : اسق يا زبير واستوف حقك، وخذ من الماء ما يكفيك ثم أرسله لجارك، فقالوا : لماذا حكم أولا بأن يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره ثم عدل في الحكم ؟. الناس لم تفهم أن أرض الزبير عالية بينما أرض حاطب منخفضة، وأنتم إذا نظرتم إلى أي واد ؛ تجدون الخضرة والخصب في بطن الوادي وليس في السفح ؛ لأن الماء وإن جاء من الأرض العالية سينزل إلى الأرض المنخفضة، وإذا رويت المنخفض أولا وأعطيته لا يصيب العالي شيء.
إذن فالحكم الأول كان مبنيا على التيسير والفضل من الزبير، والحكم الثاني جاء مبنيا على العدل، ورسول الله بالحكم الثاني وهو أن يستوفي الزبير حقه ويأخذ من الماء ما يكفيه كأنه قال له : سنعدل معك بعدما كنا نجاملك، فقال الحق سبحانه وتعالى :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾.
وإذا كان هذا هو الأمر فكيف لو فعلنا بهم مثلما فعل الرسول من الأمم السابقة ؟ عندما أمروهم أن يقتلوا أنفسهم أو أن يخرجوا من ديارهم، هذا الحكم لم ينفذه إلا عدد قليل منهم وهم الثابتون في الإيمان. وهكذا نعلم أن الحق لم يخل الأمة من ممتثلين ملتزمين يؤدون أمر الله كما يجب.
﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ﴾ ولو فرضنا أن الله قال : اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ثم بعد ذلك فعلوه لوجدوا في ذلك الخير عما كان في بالهم ؛ لأن الناس يجب أن تفطن إلى أن تسأل نفسها ما غاية المؤمن حين يؤمن بإله ؟ وما غاية هذا الإيمان ؟.
أنت في دنياك تعيش مع أسباب الله المخلوقة لك، وحين تنتقل إلى الله تعيش مع المسبب، فما الذي يحزنك عندما قال لك : أقتل نفسك ؟ إنه قال لك : اقتل نفسك لماذا ؟ لأنك تنتقل للمسبب وتحيى دون تعب.
إن الحكم من الله هو ارتقاء بالإنسان، ونحن في حياتنا الدنيا نجد من يدق الجرس فيأتيه الطعام، ويدق الجرس فيأتيه الشاي، ويدق الجرس فتاتيه الحلوى. لكن لا يمكن أن ترتقي الدنيا إلى أن يوجد ارتقاء بحيث إذا خطر الشيء ببال الإنسان وجد الشيء أمامه، فلا يدق جرسا ولا يجهد نفسه، فبالله الذي يعيش في الأسباب ثم نريد أن ننقله إلى أن يعيش مع المسبب، فهل هذه تحزنه ؟ لا ؛ لأنهم سيجدون خيرا أكثر.
إنك : لو قارنت الأمر لوجدت الدنيا عمرها بالنسبة لك مظنون، ومحدود، ونعيمك على قدر إمكاناتك. لكنك حين تنتقل إلى لقاء الله لا تكون محدودا، لا بعمرك ولا بإمكاناتك بل تعيش زمنا ليس له حدود، وتنعم فيه على قدر سعة فضل الله.
﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ﴾.. وهذا الخير أشد تثبيتا لغيرهم ؛ لأن من يرونهم ينفذون حكم الله. فلابد أنهم وثقوا أنهم سيذهبون إلى خير مما عندهم. إذن فهو يثبت من بعدهم. أو المعنى : لو أنهم فعلوا ما أمروا به من إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته والانقياد لما يراه ويحكم به لأنه الذي لا ينطق عن الهوى لكان ذلك خيرا لهم في دنياهم وأخراهم وأقوى وأشد تثبيتا واستقرارا للإيمان في قلوبهم وأبعد عن الاضطراب فيه.
أي أن العلم الذي أعطاه الله لذلك العبد لم يعلمه موسى، وعطاء الله للعلم خاضع لمشيئته، ونعرف من قبل أن الحسنات والعمال لها نظام، فمن يعمل خيرا يأخذ مقابله كذا حسنة، ولكن هناك أعمال حسناتها من غير حساب ويجازي عليها الحق بفضله هو. وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نحن نجد ذلك متمثلا لنا في كثير من تصرفاتنا، تقول لابنك مثلا : يا بني كم أجرك عندي من هذا العمل ؟ فيقول لك : مائة جنيه. فتقول له : هذه مائة هي أجرك، وفوقها خمسون من عندي أنا، ماذا تعني " من عندي أنا " هذه ؟ إنها تعني أنه مبلغ ليس له دخل بأجر العمل.
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ﴾ لقد عرفنا من قبل أن هناك فرقا بين القتل والموت، صحيح أن كليهما فيه إذهاب للحياة، لكن الموت : إذهاب للحياة بدون نقض البنية للجسم، ولكن القتل : إذهاب للحياة بنقض البنية كان يكسر إنسان رأس إنسان آخر، أو يطلق رصاصة توقف قلبه، وهذا هدم للبنية، والروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات، والروح لم تذهب أولا. بل أن البنية هدمت أولا. فلم تعد صالحة لسكنى الروح، والمثل المعروف هو مصباح الكهرباء : إنك إن رميت عليه حجرا صغيرا، ينكسر وينطفئ النور برغم أن الكهرباء موجودة لكنها لا تعطي نورا إلا في وعاء له مواصفات خاصة، فإذا ذهبت هذه المواصفات الخاصة يذهب النور، فتاتي بمصباح جديد له المواصفات الخاصة الصالحة فتجد النور قد جاء.
وكذلك الروح لا تسكن إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإن جئت لهذه المواصفات الخاصة وسيدها المخ، وضربته ضربة قاسية، فقد نقضت البنية، وفي هذه الحالة تغادر الروح الجسد لأنه غير صالح لها، لكن الموت يأتي من غير نقض للبنية، ومصداق ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ ( من الآية ١٤٤ سورة آل عمران ).
أي أن هناك أمرين : هناك موت، وهناك قتل، فالموت هو سلب الحياة، والقتل هو سلب الحياة، ولكن القتل سلب الحياة بعد نقض البنية التي تسكن فيها الروح، ويختلف عن الموت لأن الموت هو خروج الروح دون قتل، ولذلك يقولون : مات حتف انفه. أي مات على فراشه ولم يحدث له أي شيء.
والذي يقتل في الشهادة يقول فيه ربنا :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩ ﴾ ( سورة آل عمران ).
فإذا كان من يقاتل في سبيل الله قد امتثل لأمر الله فسوف يجد فضلا أكثر، فكيف يكون جزاء من يقتل نفسه امتثالا لأمر ربه ؟ إن امتحان النفس يكون بالنفس، وليس امتحان النفس بالعدو. وما الميزة في سيدنا إبراهيم ؟ هل قال له الحق : أنا سأميت ولدك ؟ أقال له إن واحدا آخر سيقتل ابنك ؟ لا، بل قال له : اذبحه أنت. وهذه هي ارتقاء قتل النفس، فيفدي الحق إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. إذن فإذا جاء الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه فلابد أن هناك مرتبة أعلى. ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾.
ونحن أمام أمرين : إما أن يقتلوا، وإما أن يخرجوا من ديارهم، فقوله :﴿ ولهديناهم صراطا مستقيما ﴾ لمن ؟ للذي قتل أم لمن خرج ؟ هو قول لمن أخرج من دياره لأنه ما زال على قيد الحياة.
أي أن العلم الذي أعطاه الله لذلك العبد لم يعلمه موسى، وعطاء الله للعلم خاضع لمشيئته، ونعرف من قبل أن الحسنات والعمال لها نظام، فمن يعمل خيرا يأخذ مقابله كذا حسنة، ولكن هناك أعمال حسناتها من غير حساب ويجازي عليها الحق بفضله هو. وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نحن نجد ذلك متمثلا لنا في كثير من تصرفاتنا، تقول لابنك مثلا : يا بني كم أجرك عندي من هذا العمل ؟ فيقول لك : مائة جنيه. فتقول له : هذه مائة هي أجرك، وفوقها خمسون من عندي أنا، ماذا تعني " من عندي أنا " هذه ؟ إنها تعني أنه مبلغ ليس له دخل بأجر العمل.
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ﴾ لقد عرفنا من قبل أن هناك فرقا بين القتل والموت، صحيح أن كليهما فيه إذهاب للحياة، لكن الموت : إذهاب للحياة بدون نقض البنية للجسم، ولكن القتل : إذهاب للحياة بنقض البنية كان يكسر إنسان رأس إنسان آخر، أو يطلق رصاصة توقف قلبه، وهذا هدم للبنية، والروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات، والروح لم تذهب أولا. بل أن البنية هدمت أولا. فلم تعد صالحة لسكنى الروح، والمثل المعروف هو مصباح الكهرباء : إنك إن رميت عليه حجرا صغيرا، ينكسر وينطفئ النور برغم أن الكهرباء موجودة لكنها لا تعطي نورا إلا في وعاء له مواصفات خاصة، فإذا ذهبت هذه المواصفات الخاصة يذهب النور، فتاتي بمصباح جديد له المواصفات الخاصة الصالحة فتجد النور قد جاء.
وكذلك الروح لا تسكن إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإن جئت لهذه المواصفات الخاصة وسيدها المخ، وضربته ضربة قاسية، فقد نقضت البنية، وفي هذه الحالة تغادر الروح الجسد لأنه غير صالح لها، لكن الموت يأتي من غير نقض للبنية، ومصداق ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ ( من الآية ١٤٤ سورة آل عمران ).
أي أن هناك أمرين : هناك موت، وهناك قتل، فالموت هو سلب الحياة، والقتل هو سلب الحياة، ولكن القتل سلب الحياة بعد نقض البنية التي تسكن فيها الروح، ويختلف عن الموت لأن الموت هو خروج الروح دون قتل، ولذلك يقولون : مات حتف انفه. أي مات على فراشه ولم يحدث له أي شيء.
والذي يقتل في الشهادة يقول فيه ربنا :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩ ﴾ ( سورة آل عمران ).
فإذا كان من يقاتل في سبيل الله قد امتثل لأمر الله فسوف يجد فضلا أكثر، فكيف يكون جزاء من يقتل نفسه امتثالا لأمر ربه ؟ إن امتحان النفس يكون بالنفس، وليس امتحان النفس بالعدو. وما الميزة في سيدنا إبراهيم ؟ هل قال له الحق : أنا سأميت ولدك ؟ أقال له إن واحدا آخر سيقتل ابنك ؟ لا، بل قال له : اذبحه أنت. وهذه هي ارتقاء قتل النفس، فيفدي الحق إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. إذن فإذا جاء الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه فلابد أن هناك مرتبة أعلى. ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾.
ونحن أمام أمرين : إما أن يقتلوا، وإما أن يخرجوا من ديارهم، فقوله :﴿ ولهديناهم صراطا مستقيما ﴾ لمن ؟ للذي قتل أم لمن خرج ؟ هو قول لمن أخرج من دياره لأنه ما زال على قيد الحياة.
﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا٦٩ ﴾.
والفعل هنا :" يطع " والمطاع هو : الله والرسول، أي أن هذا الأمر تشريع الله مع تطبيق رسوله، أي بالكتاب والسنة، وساعة تجد الرسول معطوفا على الحق بدون تكرير الفعل فاعلم أن المسألة واحدة.. أي ليس لكل واحد منهما أمر، بل هو أمر واحد، قول من الله وتطبيق من الرسول لأنه القدوة والأسوة ؛ ولذلك يقول الحق في الفعل الواحد :﴿ وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك ﴾ ( من الآية ٧٤ سورة التوبة ).
فما أغناهم الله غنى يناسبه وأغناهم الرسول غنى يناسبه فالفعل هنا واحد. فالغنى هنا من الله ورسوله ؛ لأن الرسول لا يعمل إلا بإذن ربه وامتثالا لأمره، فتكون المسألة واحدة.
هناك قضية تعرض لها الكتاب وهي قضية قد تشغل كثيرا من الناس الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مجلسه صلى الله عليه وسلم لا يصد عنه قادم، يأتي فيجلس حيث ينتهي به المجلس، فالذي يريد النبي دائما يستمر في جلوسه، والذي يريد أن يراه كل فترة يأتي كلما أراد ذلك. فثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه، فأتاه يوما ووجهه متغير وقد نحل وهزل جسمه، وعرف الحزن في وجهه، فسأله النبي قائلا : ما بك يا ثوبان ؟ فقال والله ما بي مرض ولا علة، ولكني أحبك وأشتاق إليك، وقد علمت أني في الدنيا أراك وقتما أريد، لكنك في الآخرة ستذهب أنت في عليين مع النبيين، وإن دخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا.
ونص الحديث كما رواه ابن جرير بسنده عن سعيد بن جبير قال :" جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :( يا فلان مالي أراك محزونا ) ؟ فقال : يا نبي الله شيء فكرت فيه فقال :" ما هو " ؟ قال : نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فأتاه جبريل بهذه الآية :﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ﴾.. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه فبشره١ ".
وكيف تأتي هذه على البال ؟ ! إنه إنسان مشغول بمحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وفكر : هل ستدوم له هذه النعمة ؟ وتفكر في الجنة ومنازلها وكيف أن منزلة الرسول ستعلو كل المنازل. وثوبان يريد أن يطمئن على أن نعمة مشاهدته للنبي صلى الله عليه وسلم لن تنتهي ولن تزول منه، إنه يراه في الدنيا، وبعد ذلك ماذا يحدث في الآخرة : فإما أن يدخل الجنة أو لا يدخلها، إن لم يدخل الجنة فلن يراه أبدا. وإن دخل الجنة والنبي في مرتبة ومكانة عالية. فماذا يفعل ؟.
انظر كيف يكون الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى يلطف بمثل هذا المحب الذي شغل ذهنه بأمر قد لا يطرأ على بال الكثيرين، فيقول الحق سبحانه وتعالى تطمينا لهؤلاء :﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك ﴾ أي المطيعون لله والرسول﴿ مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ﴾ والمسألة جاءت خاصة بثوبان، بعد أن نبه الأذهان إلى قضية قد تشغل بال المحبين لرسول الله، فأنت مع من أحببت، ولكن الأمر لا يقتصر على ثوبان. لقد كان كلام ثوبان سببا في الفتح والتطمين لكل الصديقين والشهداء والصالحين. وهي أصناف تستوعب كل المؤمنين، فأبو بكر الصديق صديق لماذا ؟ لأنه هو : المبالغ في تصديق كل ما يقوله سيدنا رسول الله، ولا يعرض هذا القول للنقاش أو للتساؤل : أي هذه تنفع أو لا تنفع ؟ فعندما قالوا لسيدنا أبي بكر : إن صاحبك يدعى أنه أتى بيت المقدس وعاد في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل، ماذا قال أبو بكر ؟ قال : إن كان قال ذلك لقد صدق.
لم يعلل صدقه إلا ب " إن كان قد قال ذلك "، فهذا هو الصديق الحق، فكلما قال محمد شيئا صدقه أبو بكر، وأبو بكر رضوان الله عليه لم ينتظر حتى ينزل القرآن. مصدقا للرسول صلى الله عليه وسلم بل بمجرد أن قال صلى الله عليه وسلم : إني رسول. قال أبو بكر : نعم. إذن فهو صديق.
لقد كانت هناك تمهيدات لأناس سبقوا إلى الإسلام ؛ لأن أدلتهم على الإيمان سبقت بعثة الرسول، هم جربوا النبي عليه الصلاة والسلام، وعرفوه، فلما تحدث بالرسالة، صدقوه على الفور ؛ لأن التجارب السابقة والمقدمات دلت على أنه رسول، ومثال ذلك : سيدتنا خديجة رضوان الله عليها ماذا قالت عندما قال لها النبي : إنه يأتيني كذا وكذا وأخاف أن يكون هذا رئيا ومسا من الجن يصيبني.
فقالت خديجة :" كلا والله ما يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق " ٢. وهذا أول استنباط فقهي في الإسلام.
هذا هو معنى﴿ مع النبيين والصديقين ﴾، و﴿ والشهداء ﴾ هم الذين قتلوا في سبيل الله، لكن على المؤمن حين يقاتل في سبيل الله ألا يقول : أنا أريد أن أموت شهيدا. ويلقي بنفسه إلى التهلكة، إياك أن تفهمها هكذا، فأنت تدافع عن رسالة ولابد أن تقاتل عدوك بدون أنك تمكنه من أن يقتلك ؛ لأن تمكينه من قتلك، يفقد المسلمين مقاتلا. فكما أن الشهداء لهم فضل ؛ فالذين بقوا بدون استشهاد لهم فضل. فالإسلام يريد أدلة صدق على أن دعوته حق، وهذه لا يثبتها إلا الشهداء.
لكن هل يمكن أن نصبح جميعا شهداء ؟ ومن يحمل منهج الله إلى الباقين ؟ إذن فنحن نريد من يبقى ومن يذهب للحرب، فهذا له مهمة وهذا له مهمة، ولذلك كانت " التقية " وهي أن يظهر رغبته عن الإسلام ويوالي الكفار ظاهرا وقلبه مطمئن بالعداوة لهم انتظارا لزوال المانع وذلك استبقاء لحياته كي يدافع ويجاهد في سبيل الله. وسببها أن الإسلام يريد من يؤكد صدق اليقين في أن الإنسان إذا قتل في سبيل الله ذهب إلى حياة أفضل وإلى عيش خير، هذا يثبته الشهيد. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى عندما تأتيهم غرغرة الشهادة يريهم ما هم مقبلون عليه، فيتلفظون بألفاظ يسمعها من لم يقبل على الشهادة، فهناك من يقول : هبي يا رياح الجنة، ويقول كلمة يتبين منها أنه ينظر إلى الجنة كي يسمع من خلفه، ومفرد شهداء، إما شهيد وهو الذي قتل في سبيل الله، وإما هي جمع شاهد، فيكون الشهداء هم الذين يشهدون عند الله أنهم بلغوا من بعدهم كما شهد رسول الله أنه بلغهم.
والمعاني كلها تدور حول معنى أن يشهد شيئا يقول به وبذلك نعرف أننا نحتاج إلى الاثنين : من يقتل في سبيل الله، ومن يبقى بدون قتل في سبيل الله ؛ لأن الأول يؤكد صدق اليقين بما يصير إليه الشهيد، والثاني يعطينا بقاء تبليغ الدعوة فهو شاهد أيضا :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ ( من الآية١٤٣ من سورة البقرة ).
و﴿ الصالحين ﴾ والصالح هو المؤهل لأن يتحمل مهمة الخلافة الإيمانية في الأرض. فكل شيء يؤدي نفعا يتركه على حاله، وإن أراد أن يزيد في النافع فليرق النفع منه، فمثلا : الماء ينزل من السماء، وبعد ذلك يكون جداول، ويسير في الوديان، وتمتصه الأرض فيخرج عيونا، فعندما يرى عينا للمياه فهو يتركها ولا يردمها فيكون قد ترك الصالح على صلاحه، وهناك آخر يرقى النفع من تلك النعمة فيبنى حولها كي يحافظ عليها. إذن فهذا قد أصلح بأن زاد في صلاحه.
وهناك ثالث يقول بدلا من ان ياتي الناس من اماكنهم متبعين بدوابهم ليحموا الماء في القرب او على رؤس الحاملين لماذا لااستخدم العقل البشري في الارتقاء بخدمة الناس لينتقل الماء الى الناس في اماكنهم وهنا يصنع الصهاريج العالية ويصلها بمواسير وانابيب الى كل من يريد ماء فيفتح الصنبور ليجد مايريد ومن فعل ذلك يسر على الناس فيكون مصلحا بان جاء الى الصالح في ذاته فزاده صلاحا.
ويختم الحق الآية بقوله :﴿ وحسن أولئك رفيقا ﴾. و﴿ أولئك ﴾ تعني النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا توجد رفقة أفضل من هذه، والرفيق هو : المرافق لك دائما في الإقامة وفي السفر، ولذلك يقولون : خذ الرفيق قبل الطريق، فقد تتعرض في الطريق لمتاعب وعراقيل ؛ لأنك خرجت عن رتابة عادتك فخذ الرفيق قبل الطريق. ونعرف أن الأصل في المسائل المعنوية : كلها منقولة من الحسيات، وفي يد الإنسان يوجد المرفق.. يقول الحق :
﴿ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ﴾( من الآية٦ سورة المائدة ).
وساعة يكون الواحد مرهقا ورأسه متعبا يتكئ على مرفقه ليستريح، وساعة يريد أن ينام ولم يجد وسادة يتكئ على مرفقه أيضا. إذن فالمادة كلها مأخوذة من الرفق، فالرفيق مأخوذ من الرفق و " المرافق " مأخوذة من الرفق لأنها ترفق بالجسم وتريحه، وفي كل بيت توجد المرافق وهي مكان إعداد الطعام وكذلك دورة المياه، وفي الريف تزيد المرافق ليوجد مكان لمبيت الحيوانات التي تخدم الفلاح، وبيوت الفقراء قد تكون حجرة واحدة فيها مكان للنوم، ومكان الأكل، وقد يربط الفقير حماره في زاوية من الحجرة، لكن عندما يكون ميسور الحال فهو يمد بيته بالمرافق المكتملة. أي يكون في المنزل مطبخ مستقل، ومحل لقضاء الحاجة، وحظيرة مستقلة للمواشي، وكذلك يكون هناك مخزن مستقل، وهذه كلها اسمها " مرافق " لأنها تريح كل الناس.
إذن فقوله :﴿ وحسن أولئك رفيقا ﴾ مأخوذة من الرفق وهو : إدخال اليسر، والأنس، والراحة، ويكون هذا الإنسان الذي أطاع الله ورسوله بصحبة النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
وقد يقول قائل : كيف يجتمع كل هؤلاء في منزلة واحدة ؛ على الرغم من اختلاف أعمالهم في الدنيا، أليس الله هو القائل :
﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى٣٩ ﴾ ( سورة النجم ).
ونقول : مادام المؤمن أطاع الله وأطاع الرسول، أليس ذلك من سعيه ؟ فهذه الطاعة والمحبة لله ولرسوله هي من سعي العبد ؛ وعلى ذلك فلا تناقض بين الآيتين ؛ لأن عمل الإنسان هو سعيه، ويصبح من حقه أن يكون في معية الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. وقد تكون الصحبة تكريما لهم جميعا ليأنسوا بالصحبة، وهذه المسألة ستشرح لنا قوله :
﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ ( من الآية ٤٣ سورة الأعراف ).
فساعة يرى واحد منزلته في الآخرة أعلى من آخر، إياك أن تظن أنه سيقول : منزلتي أعلى من هذا ؛ لأنه مادام قد ترك الأسباب في الدنيا وعاش مع مسبب الأسباب، فهو من حبه لله يحب كل من سمع كلام ربنا في الدنيا فيقول لكل محب لله : أنت تستحق منزلتك، ويفرح لمن منزلته أعلى منه.
وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى لنفرض أن هناك فصلا فيه تلاميذ كثيرة، بعضهم يحب أن ينجح فقط، وبعضهم يحب العلم لذات العلم، وعندما يجد عشاق العلم تلميذا نجيبا، أيكرهونه أم يحبونه ؟ إنهم يحبونه ويسألونه ويفرحون به ويقولون : هذا هو الأول علينا ؛ لأنه لا يحب نفسه بل يحب الآخرين، فكذلك المؤمن الذي يكون في منزلة بالجنة ويرى غيره في منزلة أعلى، إياك أن تقول إن نفسه تتحرك عليه بالغيرة، لا. لأنه من حبه لربه وتقديره له يحب من كان طائعا لله ويفرح له، مثله مثل التلميذ الذي ينال مرت
٢ رواه البخاري..
﴿ قل بفضل من الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون٥٨ ﴾ ( سورة يونس ).
وذلك الفضل من الله يرد على من يقول : كيف يجيء " ثوبان " أو من دون " ثوبان " ويكون في الجنة مع النبيين والصديقين ومع الصالحين، ونقول : لو لم تكن منزلته أدنى لما كان في ذلك تفضل، إنه ينال الفضل بأن كانت طاعته لله ولرسوله فوق كل طاعة، أما حبه لله وللرسول، فهذا من سعيه وعمله بتوفيق الله له وما توفيقي إلا بالله والفضل هو مناط فرح المؤمن، ﴿ ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ﴾. ونحن نرضى ونفرح ونكتفي بعلم الله ؛ لأنه سبحانه يرتب أحكامه على علم شامل ومحيط، ويعرف صدق الحب القلبي وصدق الودادة، وصدق تقدير المؤمن لمن زاد عنه في المنزلة.
وبعد أن أمن الحق لنا داخلية وطننا الإيماني، وتجمعنا الإسلامي بالأصول التي ذكرها، وهي : أن نؤدى الأمانات، وإذا أدينا الأمانات فلن نحتاج إلى أن نتقاضى، فإذا غفل بعضنا ولم يؤد أمانة، وحدث نزاع فسيأتي الحكم بالعدل. وبعد ذلك نحتكم في كل أمورنا إلى الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نحتكم إلى الطواغيت، وهات لي مجتمعا إيمانيا واحدا يؤدي الأمانة ولا يشعر بالاطمئنان.
وعرفنا أن الأمانة هي : حق لغيرك في ذمتك أنت تؤديه، وكل ما عداك غير. وأنت غير بالنسبة لكل ما عداك، فتكون كلها مسالة في الخير المستطرق للناس جميعا، وإذا حدثت غفلة يأتي العدل. والعدل يحتاج حكما، وعندما نأتي لنحكم نحتكم لله وللرسول، وإياك أن تتحاكم إلى الطاغوت سابقا، والآن أيضا يوجد من هم مثل كعب بن الأشرف. بل هناك طواغيت كثيرة.
إنك إذا رأيت خللا في العالم الإسلامي فأعلم أن هناك خللا في تطبيق التكليف الإسلامي، فكيف تستقيم لنا الأمور ونحن بعيدون عن منهج تكاليف الإسلام المكتملة ؟ ولو استقامت الأمور لكانت شهادة بأن هذا المنهج لا ضرورة له. لكن إذا حدث شيء فهذا دليل صدق التكليف.
وبعد أن طمأننا على المصير الأخروي مع النبيين والصديقين والشهداء أوضح سبحانه : لاحظوا أن كل رسالة خير تأتي من السماء إلى الأرض ما جاءت إلا لمحاربة فساد وقضاء على فساد طام في الأرض ؛ لأن النفس البشرية إما أن يكون لها وازع من نفسها بحيث إنها قد تهم مرة بمعصية ثم توبخ نفسها وتعود إلى المنهج، فتكون مناعتها ذاتية، وإما أن المناعة ليست ذاتية في النفس بل ذاتية في البيئة، فمثلا نجد واحدا لا يقدر على نفسه. لكنه يجد واحدا آخر يقول له :" هذا عيب ". وهذا يعني أن البيئة مازال فيها خير، وكانت الأمم السابقة قد خلت من المناعة وصارت على هيئة ومسلك واحد وهو ما يصوره الحق بقوله :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ﴾ ( من الآية ٧٩ سورة المائدة ).
إذن فقد فسدت مناعة الذات، ولا توجد مناعة في المجتمع، فتتدخل إذن السماء. لكن الحق فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وميزها على غيرها من الأمم لأن مناعتها دائما في ذوات أفرادها. فإن لم تكن في ذوات الأفراد ففي المجموع، فلا يمكن أن يخلو المجتمع الإيماني من فرد يقول : لا. ولذلك لن يأتي رسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو كانت ستحدث طامة وفسد بها المجتمع ولا نجد فيه من يقول : لا.. لكان ولابد أن يأتي رسول، لكن محمدا كان خاتم النبيين ؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضل أمة محمد بأن جعل وازعها دائما إما من ذاتها بحيث يرد كل فرد نفسه وتكون نفسه لوامة، وإما مناعة في المجتمع وكل واحد فيه يوصي، وكل واحد يوصي، واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ والعصر١ إن الإنسان لفي خسر ٢ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ٣ ﴾ ( سورة العصر ).
تواصوا لماذا ؟ لأن النفس البشرية أغيار، فقد تهيج نفسي لأخرج عن المنهج مرة ؛ فواحد آخر ينهاني، وانا أردها له وأهديه وأرشده إلى الصراط المستقيم، وواحد آخر أخطا فأنا أقول له وانهاه. إذن فقوله :{ وتواصوا " يعني : ليكن كل واحد منكم موصيا وموصى. فكلنا ينظر بعضنا ويلاحظه ؛ من ضعف في شيء يجد من يقومه، فلا ينعدم أن يوجد في الأمة المحمدية موص بالخير وموصى أيضا بالخير، وتوجد في النفس الواحدة أنه موص في موقف وموصى في موقف آخر ؛ بحيث لا يتأبى إن وصاه غيره ؛ لأنه كان يوصي بالأمس، وكما قالوا :" رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبي ".
وبعد أن استكمل الحق بناء البيئة الإيمانية برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وصرتم أنتم آخر الأمم. فهو سبحانه يطمئننا على أن الشر لا يطم عندنا وستبقى فينا مناعة إيمانية حتى وإن لم يلتزم قوم فسيلتزم آخرون. وإن لم يلتزم الإنسان في كل تصرفاته، فسيلتزم في البعض ويترك البعض، ولو لم تتدخل السماء بمنهج قويم لصار العالم متعبا. وكيف يتعب العالم ؟ ان العالم يتعب إذا تعطلت فيه مناهج الحق الذي استخلفنا في الأرض. فتطغى مظاهر الجبروت والقوة على مظاهر الضعف. ويتحكم في كل إنسان هواه.
وفي عالمنا المعاصر نرى حتى في الأمم التي لا تؤمن بدين لا تترك شعوبها لهوى أفرادها، بل ينظمون الحياة بتشريعات قد تتعبهم، ووضعت الأمم غير المتدينة لنفسها نظاما يحجز هوى النفس، ونقول لهم : أنتم عملتم على قدر فكركم، وعلى قدر علمكم بخصال البشر، وعلى قدر علمكم بالطبائع وأنتم تجنيتم في هذه ؛ لأنكم تقننون لشيء لم تخلقوه بشيء لم تصنعوه.
وأصل التقنين : أن تقنن لشيء صنعته، كما قلنا : إن الذي يضع برنامج الصيانة لأي آلة هو من صنع الآلة، فالذي صنع التلفزيون أيترك الجزار يضع للتليفزيون برنامج الصيانة ؟ لا، فمن صنع التلفزيون هو الذي يضع قانون صيانته، فما بالنا بالذي خلقنا ؟ إنه هو الذي يضع قانون صيانتي : ب " افعل ولا تفعل "، فأنتم يا بشر تتحكمون في أشياء بأهواء بعض الناس وتقولون : افعل هذه ولا تفعل "، فعلى أي أساس عرفتم شرور المخالفات ؟ هل خلقتم أنتم النفس وتعرفون ملكاتها ؟ لا. بدليل أنكم تعدلون قوانينكم، ويحدث التعديل كما قلنا لأن المشرع يتبين خطأ فيستدرك الخطأ، والمشرع البشري يخطئ لأنه يقنن لما لم يصنع، فإذا كنا لا نريد أن يظهر خطأ فلنترك التقنين لمن صنع وهو الله.
لا يقال لك : خذ حذرك إلا إذا كان هناك عدو يتربص بك ؛ فكلمة " خذ حذرك " هذه دليل على أن هذا الحذر مثل السلاح، مثلما يقولون : خذ بندقيتك، خذ سيفك، خذ عصاك، فكأن هذه آلة تستعد بها في مواجهة خصومك وتحتاط لمكائدهم، ولا تنتظر إلى أن تغير عليك المكائد، بل عليك أن تجهز نفسك قبل ذلك على احتمال أن توجد غفلة منك، هذا هو معنى أخذ الحذر، ولذلك يقول الحق :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ ( من الآية ٦٠ سورة الأنفال ).
وهذا يعني : إياك أن تنتظر حتى يترجموا عداءهم لك إلى عدوان ؛ لأنهم سيعجلونك فلا توجد عندك فرصة زمنية كي تواجههم. فلابد لكم أيها المؤمنون من أخذ الحذر لأن لكم أعداء، وهؤلاء الأعداء هم الذين لا يحبون لمنهج السماء أن يسيطر على الأرض. فحين يسيطر منهج السماء على الأرض فلن يوجد أمام أهواء الناس فرصة للتلاعب بأقدار الناس. ومن ينتفعون بسيطرتهم وبأهوائهم على البشر فلن يجدوا لهم فرصة سيادة.
﴿ فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ﴾ أي لتكن النفرة منكم على مقدار ما لديكم من الحذر، و " ثبات " جمع ثبة وهي الطائفة أي انفروا سرية بعد سرية و " جميعا " أي اخرجوا كلكم لمواجهة العدو، وعلى ذلك يجب أن نكون على مستوى ما يهيج من الشر. فإن هاجمتنا فصيلة أو سرية، نفعل كما يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان يرسل سرية على قدر المسألة التي تهددنا، وإن كان الأمر أكبر من ذلك ويحتاج لتعبئة عامة فنحن ننفر جميعا. ولاحظوا أن الحق يخاطب المؤمنين ويعلم أن لهم أغيارا قد تأتي في نفوسهم مع كونهم مؤمنين. فقد تخور النفس عند مواجهة الواقع على الرغم من وجود الإيمان.
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في سورة البقرة :
﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ﴾ ( من الآية ٢٤٦ سورة البقرة ).
لقد كانوا هم الذين يطلبون القتال، وماداموا هم الذين قد طلبوا القتال فلابد أن يفرحوا حين يأتي لهم الأمر من الله بذلك القتال ؛ لكن الله أعلم بعباده لذلك قال لهم :﴿ هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ﴾ ( من الآية ٢٤٦ سورة البقرة ).
فأوضح لهم الحق أن فكروا جيدا في أنكم طلبتم القتال وإياكم ألا تقاتلوا عندما نكتب عليكم هذا القتال لأنني لم أفرضه ابتداء، ولكنكم أنتم الذين طلبتم، ولأن الكلام مازال نظريا فقد قالوا متسائلين :
﴿ وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ﴾ ( من الآية ٢٤٦ سورة البقرة ).
لقد تعجبوا واستنكروا ألا يقاتلوا في سبيل الله، خصوصا أنهم يملكون السبب الذي يستوجب القتال وهو الإخراج من الديار وترك الأبناء، لكن ماذا حدث عندما كتب الحق عليهم القتال ؟ :﴿ تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ﴾ ( من الآية ٢٤٦ سورة البقرة ).
لقد هربت الكثرة من القتال وبقيت القلة المؤمنة. وكانت مقدمات هؤلاء المتهربين من القتال هي قولهم ردا على نبيهم عندما أخبرهم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكا فقالوا :﴿ أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يوت سعة من المال ﴾ ( من الآية ٢٤٧ سورة البقرة ).
كانت تلك أول ذبذبة في استقبال الحكم، فأوضح لهم الحق السر في اصطفاء طالوت، فهو قوى والحرب تحتاج إلى قوة، وهو عالم، والحرب تحتاج إلى تخطيط دقيق ؛ فقال سبحانه :﴿ إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ﴾ ( من الآية ٢٤٧ سورة البقرة ).
وعندما جاءوا للقتال أراد الحق أن يمحصهم ليختبر القوي من الضعيف فقال لهم طالوت :﴿ إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ﴾( من الآية ٢٤٩ سورة البقرة ).
والتمحيص هنا ليعرف من منهم يقدر على نفسه وليختبر قوة التحمل عند كل فرد مقاتل، فليس مسموحا بالشرب من ذلك النهر إلا غرفة يد. فشربوا من النهر إلا قليلا منهم، هكذا أراد الحق أن يصفيهم تصفية جديدة، وعندما رأوا جيش جالوت قالوا :﴿ لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ﴾( من الآية ٢٤٩ سورة البقرة ).
وما الضرورة في كل هذه التصفيات ؟ لقد أراد الله ألا يحمل الدفاع عن منهجه إلا المؤمنون حقا، وهم من قالوا :﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ﴾ ( من الآية٢٤٩ سورة البقرة ).
وقوله تعالى :﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ ( من الآية ٢٥١ سورة البقرة ).
لماذا أعطانا ربنا هذه الصورة من التصفيات ؟ كي نفهم أن النفس البشرية حين تواجه بالحكم نظريا لها موقف، وحين تواجه به تطبيقا لها موقف ولو بالكلام، وحين تواجه به فعليا يكون لها موقف، وعلى كل حال فقليل من قليل وهم الذين نصرهم الله. إذن فيريد سبحانه أن يربي في نفوسنا أنه جل وعلا هو الذي يهزم، وهو الذي يغلب مصداقا لقوله الحق :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾ ( من الآية ١٤ سورة التوبة ).
﴿ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا٧٢ ﴾.
فساعة ندعو إنسانا منكم للحرب قد يبطئ ويتخاذل، مثلما قال في آية أخرى :﴿ مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ﴾ ( من الآية ٣٨ سورة التوبة ).
و﴿ اثاقلتم ﴾ تعني : أن هناك من يتثاقل أي ينزل إلى الأرض بنفسه، وعلينا أن نفرق بين من ينزل بجاذبية الأرض فقط، وبين من يساعد الجاذبية في إنزاله، فمعنى " أثاقل " أي تباطأ، وركن، وهذا دليل على أنه يريد أن يتخاذل، وهؤلاء لم يتباطئوا فحسب بل إنهم أقسموا على ذلك. ومنهم من كان يثبط ويبطئ غيره عن الغزو كالمنافق عبد الله بن أبي.
﴿ وإن منكم لمن ليبطئن ﴾ فافهموا وخذوا هذه المناعة ضد من يعوق زحف المنهج قبل أن تبدأ المعركة، حتى إذا وقعت المعركة نكون قد عرفنا قوتنا وأعددنا أنفسنا على أساس المقاتلين الأشداء. لا على من يتباطئون ويتثاقلون، فهناك من يفرح ببقائه حيا عندما يرى هزيمة المسلمين أو قتل بعضهم لأنه لم يكن معهم، فيظهر الحق أمثال ذلك ويقول :{ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. لقد تراخى وبقى، وعندما تأتيهم المصيبة من قتل، أو من هزيمة يقول لنفسه : الحمد لله أنني لست معهم.
إذن تثاقله وتخلفه وتأخره عن الجهاد، كان عن قصد وإصرار في نفسه. وهذه قمة التبجح فهو مخالف لربنا وعلى الرغم من ذلك يقول : أنعم الله علي، مثله كمثل الذي يسرق ويقول : ستر الله عليه، وهذه لهجة من لم يفهم المنهج الإيماني، فيقول :﴿ قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ﴾. إنه لم يكن معهم ولم يكن شهيدا ويعتبر هذا من النعمة، ولذلك قال بعض العارفين : إن من قال ذلك دخل في الشرك، فالمصيبة في نظره إما قتل وإما هزيمة. ثم ماذا يكون موقف المتخاذل المتثاقل المتباطئ عند الغنيمة أو النصر ؟ يقول الحق : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ٧٣ }.
والجملة الاعتراضية هي قوله : كان لم تكن بينكم وبينه مودة كان المودة الإيمانية ليس لها ثمن عنده، فلو كان لها أدنى تقدير لكان عليه ألا يقول في البداية : أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا، ولكان مع المقاتلين المسلمين، لكنه يرغب في الفوز والغنيمة فقط، ويبتعد عن المسلمين إذا ما أصابتهم الهزيمة أو استشهد عدد منهم.
وبذلك يكشف لنا الحق موقف المتخاذلين ويوضح لنا : إياكم أن تتأثروا بهؤلاء حين تنفرون ثبات أو حين تنفرون جميعا. واعلموا أن فيكم مخذ لين وفيكم مبطئين وفيكم متثاقلين، لا يهمهم إلا أن يأخذوا حظا من الغنائم، ولذلك يحمدون الله أن هزمتم ولم يكونوا معكم، ويحبون الغنائم ويتمنونها إن انتصرتم ولم يكونوا معكم، اياكم ان تتاثروا بهذا وقد اعطيتم هذه المناعة حتى لاتفاجاوا بموقفهم منكم وتكونوا على بصيرة منهم. والمناعات ما هي إلا تربية الجسم، إن كانت مناعة مادية، أو تربية في المعاني، إن حدث مكروه فأنت تملك فكرة عنه لتبني رد فعلك على أساس ذلك.
ونحن عندما يهاجمنا مرض نأتي بميكروب المرض نفسه على هيئة خامدة ونطعم به المريض، وبذلك يدرك ويشعر الجسم أن فيه مناعة، فإذا ما جاء الميكروب مهاجما الجسم على هيئة نشيطة، فقوي المقاومة في الجسم تتعارك معه وتحاصر الميكروب، فكأن إعطاء حقن المناعة دربة وتنشيط لقوى المقاومة في الجسم، وقد أودعها الله في دمك كي تؤدي مهمتها، كذلك في المعاني يوضح الحق لكم : سيكون منكم من يفعل كذا وكذا، حتى تعدوا أنفسكم لاستقبال هذه الأشياء إعدادا ولا تفاجئون به ؛ لأنكم إن فوجئتم به فقد تنهارون. فإياكم أن تتأثروا بهذا.
﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ٧٤ ﴾.
ومادة :" شرى " ومادة " اشترى " كلها تدل على التبادل والتقايض، فأنت تقول : أنا اشتريت هذا الثوب بدرهم ؛ أي أنك أخذت الثوب ودفعت الدرهم، وشرى تأتي أيضا بمعنى باع مثل قول الحق :﴿ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ٢٠ ﴾ ( سورة يوسف ).
فالجماعة الذين وجدوا سيدنا يوسف عليه السلام في الجب كانوا فيه من الزاهدين. وبعد ذلك باعوه بثمن بخس، إذن ف " شرى " من الأفعال التي تأتي بمعنى البيع وبمعنى الشراء ؛ لأن المبيع والمشتري يتماثلان في القيمة، وكان الناس قديما يعتمدون على المقايضة في السلع، فلم يكن هناك نقد متداول، كان هناك من يعطي بعض الحب ويأخذ بعض التمر، فواحد يشتري التمر وآخر يشتري الحب، والذي جعل المسألة تأخذ صورة شراء وبيع هو وجود سلع تباع بالمال.
وما الفرق بين السلع والمال ؟. السلعة هي رزق مباشر والمال رزق غير مباشر.
فأنت مثلا تأكل رغيف الخبز وثمنه خمسة قروش، لكن لو عندك جبل من ذهب وتحتاج رغيفا ولا تجده ؛ أينفعك جبل الذهب ؟. لا. إذن فالرغيف رزق مباشر لانك ستاكله اما الذهب فهو رزق غير مباشر لانك تشتري به ماتنفع به. وبذلك نستطيع أن نحدد المسألة ؛ فالسلعة المستفاد منها مباشرة هي رزق مباشر، ندفع ثمنها مما لا ننتفع به مباشرة، والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعقد مع المؤمن به صفقة فيها بيع وشراء. وأنتم تعلمون أن البائع يعطي سلعة ويأخذ ثمنا، والشاري يعطي ثمنا ويأخذ سلعة، والحق يقول هنا :﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ ( من الآية ٧٤ سورة النساء ).
فالمؤمن هنا يعطي الدنيا ليأخذ الآخرة التي تتمثل في الجنة والجزاء، ومنزلة الشهداء ؛ ولذلك يقول الحق في آية أخرى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ ( من الآية١١١ سورة التوبة ).
وقال بعدها :﴿ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ﴾ ( من الآية ١١١ سورة التوبة ).
تلك هى الصفقة التي يعقدها الحق مع المؤمنين، وهو سبحانه يريد أن يعطينا ما نتعرف به على الصفقات المربحة، فكل منا في حياته يحب أن يعقد صفقة مربحة بأن يعطي شيئا ويأخذ شيئا أكبر منه، ولذلك يقول في آية أخرى :
﴿ يرجون تجارة لن تبور ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة فاطر ).
هنا أيضا تجارة، وأنت حين تريد أن تعقد صفقة عليك أن تقارن الشيء الذي تعطيه بالشيء الذي تأخذه ثم افرق بينهما، ما الذي يجب أن يضحى به في سبيل الآخر ؟.
والحق قد وصف الحياة بأنها " الدنيا " ولا يوجد وصف أدنى من هذا، فأوضح المسألة : إنك ستعطي الدنيا وتأخذ الآخرة، فإذا كان الذي تأخذه فوق الذي تعطيه فالصفقة إذن رابحة، فالدنيا مهما طالت فإلى نهاية، ولا تقل كم عمر الدنيا، لأنه لا يعنيك أن يكون عمر الدنيا ألف قرن، وإنما عمر الدنيا بالنسبة لكل فرد : هو مقدار حياته فيها، وإلا فإن دامت لغيري فما نفعي أنا ؟..
إذن فقيمة الدنيا هي : مقدار عمرك فيها، ومقدار عمرك فيها مضنون، وعلى الرغم من ارتفاع متوسطات الأعمار في القرن العشرين، فالبعض يقول : متوسط الأعمار في أمريكا سبعون أو خمس وستون سنة، لكن ذلك لا يمنع الموت من أن يأخذ طفلا، أو فتى، أو رجلا، أو شيخا.
إن عمر الدنيا بالنسبة لكل إنسان هو : مقدار حياته فيها، فلا تقارنها بوجودها مع الآخرين، إنما قارنها بوجودها معك أنت، وهب أنه متيقن ولكنه محدود بسبعين عاما على سبيل المثال، ستجد أن تنعمك خلالها مهما كبر وعظم فهو محدود.
والإنسان منا يظل يربي إلى أن يبلغ الحلم. فإذا ما بلغ الحلم وأصبحت له حياة ذاتية، أي أن إرادته لم تعد تابعة للأب أو للأم، بينما في طفولته كان كل اعتماده على أسرته، أبوه يأتي له بالملبس فيلبسه ؛ وبالمطعم فيأكله، ويوجهه فيتوجه، لكن حينما توجد له ذاتية خاصة يقول لأبيه : هذا اللون لا يعجبني ! والأكل هذا لا يعجبني ! ! هذه الكلية لن أذهب إليها. ولا توجد للإنسان ذاتية إلا إذا وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع أن ينسل مثله، فإذا ما أصبح كذلك نقول له : هذا هو النضج، وهو الذي يجعل لك قيمة ذاتية.
إنك إذا زرعت شجيرة بطيخ. فأنت ترعاها سقيا وتنظيما وتسميدا، وهي مازالت صغيرة وتتعهدها كي لا تخرج مشوهة، حتى تنضج، وساعة تنضج يكون الشغل الشاغل قد انتقل من الشجيرة إلى الثمرة " البطيخة "، فيقال صار لها ذاتية ؛ لأنك إن شققتها لتأكلها تجد " اللب " قد نضج، وإن زرعته تأتي منه شجيرة أخرى.
ولكن إذا ما قطفت الثمرة قبل النضج فأنت قد تجد " اللب " أبيض لم ينضج بعد، فلا تصلح تلك البذورلان تأتي وتثمر مثلها، وإذا كان " اللب " نصفه أبيض ونصفه أسود، فهي لم تنضج تماما، أما إذا وجدت " لبها " أسمر اللون داكنا فهو صالح للزراعة والإثمار، وتجد الحلاوة متمشية مع نضج البذرة. فلو كانت الثمار تنضج قبل البذور لتعجل الخلق أكل الثمرة قبل أن تربي وتنضج البذور ولانقطع النوع، ؛ لذلك لم يجعل ربنا حلاوة الثمرة إلا بعد أن تنضج البذور، وكذلك الإنسان، والحق يقول :﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ﴾ ( من الآية ٥٩ سورة الزمر ).
وعندما يكون الإنسان طفلا فنحن نتركه يلهو ويرتع في البيت ويرى هذه وهذه، لكن إذا كان قادرا على نسل مثله واكتملت رجولته فعليه أن يستأذن، وحين يكون الإنسان بهذا الشكل تصير له ذاتية، ولنفترض أنه سيعيش عددا من السنين تبلغ حوالي الخمسة والخمسين عاما بعدما صارت له ذاتية ويستطيع النسل إنه سيقضي مراهقته في التعلم إلى أن يصبح صالحا لأن يكسب ويعيش ويتمتع، ثم لنسأل : كم سنة سيتمتع ؟ سنجدها عددا قليلا من السنوات.
إذن فالحياة محدودة، والمتعة فيها على قدر إمكاناته، فقد يسكن في شقة من حجرتين أو في شقة مكونة من ثلاث حجرات، أو في منزل خاص صغير أو حتى في قصر، وقد يركب سيارة أو يمشي على قدميه، باختصار على قدر إمكاناته، أما في الآخرة فالموقف مختلف تماما، سيسلم نفسه إلى حياة عمرها غير محدود، فإن قارنت المحدود بغير المحدود ستجدالغلبة للآخرة لأنها متيقنة والنعيم فيها على قدر سعة فضل الله وقدرته، فالأحسن لنا أن نبيع الدنيا ونأخذ الآخرة، فتكون هذه هي الصفقة الرابحة التي لا تبور.
ولماذا يدخل الله العبد في عملية البيع هذه ؟ ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعرض عليك الصفقة لتدخل في عملية البيع التي تجهدك إن لم تقتل أو تقتل في سبيل الله لابد أن يوضح لك كيفية الغاية التي تأخذ بها الفوز في الآخرة، ولن تأخذ هذا الفوز بالكلام فقط، ولكن انظر إلى المنهج الذي ستقاتل من أجله، إنه تأسيس المجتمع الذي يؤدي كل امرئ فيه الأمانة، وهذا الأمر لا يحزن منه إلا من يريد أن يأخذ عرق الناس ويبني جسمه من كدهم وتعبهم، وهات مجتمعا لا يؤمن بالله وقل : يا أيها الناس نريد أن يؤدي كل واحد منكم الأمانة التي عنده، نريد أن نحكم بالعدل، فسيفرح أهل هذا المجتمع.
إذن فلكي نحمي المجتمع لابد أن نؤدي الأمانة وأن نقيم العدالة. ومن قبل ذلك أمرنا أن نعبد إلها واحدا فلا نتشتت، ثم أوصانا بالوالدين والأقربين، أو اليتامى والمساكين.
قل لي بالله عليك : لو لم يكن هذا دينا من السماء، وكان تشريعا من أهل الأرض، أهناك أعدل من هذا ؟.
إن مثل هذا المنهج الذي يكفل أمان الجميع يستحق أن يدافع الإنسان عن تطبيقه. وقبل أن يفرض علينا القتال أوضح سبحانه : هذا هو المجتمع الذي ستقاتلون من أجله، واعلم أنك ساعة تذهب إلى القتال، أقصى ما فيها أن تقتل، فستأخذ صفقة الآخرة، وقصرت مسافة غاياتك ؛ لأن كل شيء إنما يقاس بزمن الغاية له، فإن قتلت فقد قصرت المدة للوصول إلى الغاية، فتصل إلى الجنة، والحمق هو الذي يصيب الناس عندما يموت عزيز أو حبيب فيغرقون في الحزن. نقول لهم : ألسنا جميعا سائرين إلى هذه الغاية، فلماذا الغرق في الحزن إذن ؟.
والحق سبحانه وتعالى يكافئ من يقتل في سبيل الله بحياة في عالم الغيب وفيها رزق أيضا. وبعض من الناس يظنون أنهم إن فتحوا قبر الشهيد فسيجدونه حيا يرزق. ونقول لهم : إن الحق لم يقل : إن الشهداء أحياء عندكم، بل أحياء عنده في عالم الغيب. والحق سبحانه يطلب من الذي اقتنع بالإسلام أن ينشره، وأن يعدل المسلمون بين أنفسهم لتنصلح أمورهم، وأن يواجهوا أصحاب الشر الذي لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة.
ولم تأمر السماء بقتال قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان الرسول من السابقين على محمد صلى اله عليه وسلم يبلغ قومه برسالته، فإن آمنوا فبها ونعمت وإن لم يؤمنوا تتدخل السماء بالعقاب، بريح صرصر، رجفة، صيحة، خسف الأرض بهم، إغراق، فالرسول قبل محمد صلى الله عليه وسلم كان يبلغ، والسماء تعاقب من لم يؤمن. وما وجد قتال إلا إذا اقترحوا هم القتال، مثل بني إسرائيل، قال الحق :﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ﴾ ( من الآية ٢٤٦ سورة البقرة ).
هم الذين اقترحوا، لكن القتال الذي يثبت المبدأ وينشر المنهج لإعلاء كلمة الله، وسيطرة الخلافة الأمنية الإيمانية على الأرض، لم يشرع إلا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان الله لم يأمن خلقا على خلق إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد جعلها أمينة. فأنتم أمناء أن تتولوا عن السماء تأديب المخالف، وبذلك أخذتم المستوى العالي في المنهج والمستوى العالي في الرسالة. وأكرم الله نبيه فقال :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ ( من الآية ٣٣ سورة الأنفال ).
فجاء القتال وحارب المسلمون وهم ضعاف المجتمعات الفاسدة القوية. والشاعر يقول :
فقوى على الضلال مقيم **** وقطيع من الضعاف يجاري
هذا القتال لو لم يجيء به دين، ألا تقوم به الأمم التي لا دين لها لإصلاح أمرها ؟ إنها تقاتل، فلماذا يكون مباحا منهم أن يقاتلوا كي يقرروا مبادئهم، وعندما يأتي الدين ليشرع القتال يقولون : لا. هذا دين سيف.
نقول لهم : بالله لماذا إذن تحارب الشعوب ؟ أنت تجد شعوبا تتحارب وتجد ظلما يحارب ظلما آخر، فإذا ما وجد عدل ليزحزح ظلما نقف في طريقه ؟ لا. وذلك حتى نعرف أن المسألة مسألة رسالة من السماء لا طغيان ذوات اجتمعوا أو بيتوا مؤامرة لصنع انقلاب يسيطرون به على الناس.
لقد جاء الإسلام وآمن به الضعاف الذين لا يملكون أن يقاتلوا، فلم يكن باستطاعتهم أن يحموا حتى أنفسهم ؛ ذلك حتى نعرف أن الحق ساعة يأتي، يأتي عادة لا من قوى بل يأتي من ضعيف تعب كثيرا كي يثبت الإيمان، والإسلام نادى ودعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة لكنه لم ينتصر كدين ولم يسطع إلا من المدينة. فمكة بلد محمد وفيها قبيلته قريش التي ألفت السيادة على الجزيرة كلها ولا أحد يستطيع أن يقرب منها بعدوان، ولم تكن هناك قوة تستطيع أن تعترض قوافلها بالتجارة إلى الجنوب أو إلى الشمال.
إن أي قبيلة تخاف أن تتعرض لها في الطريق ؛ لأن القبائل ستأتي إلى قريش في موسم الحج، وتخاف كل قبيلة من انتقام قريش، فل
يقول سبحانه :﴿ ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين ﴾ أي أن القتال يكون في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، وفي ذلك استثارة للهمم الإنسانية حتى يقف المقاتل في سبيل رفع العذاب عن المستضعفين، بل إننا نقاتل ولو من باب الإنسانية لأجل الناس المستضعفين في سبيل تخليصهم من العذاب ؛ لأنهم ماداموا صابرين على الإيمان مع هذا العذاب، فهذا دليل على قوة الإيمان، وهم أولى أن ندافع عنهم ونخلصهم من العذاب.
ويعطينا سبحانه ذلك في أسلوب تعجب :﴿ ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين ﴾ فكأن منطق العقل والعاطفة والدين يحكم أن نقاتل، فإذا لم نقاتل، فهذه مسالة تحتاج إلى بحث.
وساعة يطرح ربنا مثل هذه القضية يطرحها على أساس أن كل الناس يستوون عند رؤيتها في أنها تكون مثارا للعجب لديهم، مثلها مثل قوله الحق :﴿ كيف تكفرون بالله ﴾ ( من الآية٢٨ سورة البقرة ).
يعني كيف تكفرون بربنا أيها الكفار ؟ إن هذه مسألة عجيبة لا تدخل في العقل، فليقولوا لنا إذن : كيف يكفرون بربنا ؟.
﴿ ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال ﴾ وكلمة ﴿ والمستضعفين ﴾ يأتي بعدها ﴿ من الرجال ﴾ والمفروض في الرجل القوة، وهذا يلفتنا إلى الظرف الذي جعل الرجل مستضعفا، ومن يأتي بعده أشد ضعفا. ﴿ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ﴾ فقد بلغ من اضطهاد الكفار لهم أن يدعو الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، والقرية هي " مكة ".
وقصة هؤلاء تحكي عن أناس من المؤمنين كانوا بمكة وليست لهم عصبية تمكنهم من الهجرة بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم ممنوعون من أن يهاجروا، وظلوا على دينهم، فصاروا مستضعفين : رجالا ونساء وولدانا، فالاضطهاد الذي أصابهم اضطهاد شرس لم يرحم حتى الولدان، فيقول الحق للمؤمنين :﴿ ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ﴾.
وهؤلاء عندما استضعفوا ماذا قالوا ؟. قالوا :﴿ ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا ﴾ وعبارة الدعاء تدل على أنهم لن يخرجوا بل سيظل منهم أناس وثقوا في أنفسهم سوف يأتيهم ولي أمرهم من المسلمين، فكأنها أوحت لنا بأنه سيوجد فتح لمكة. وقد كان.
لقد جعل الله لهم من لدنه خير ولي وخير ناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر.
هذه الجماعة من المستضعفين منهم " سلمة بن هشام " لم يستطع الهجرة، ومنهم " الوليد بن الوليد " و " عياش بن أبي ربيعة "، و " أبو جندل بن سهيل بن عمرو ". وسيدنا ابن عباس رضي الله عنه قال : لقد كنت أنا وأمي من هؤلاء المستضعفين من النساء والولدان، وكانوا يضيقون علينا فلا نقدر أن نخرج، فمثل هؤلاء كان يجب نصرتهم، لذلك يحنن الله عليهم قلوب إخوانهم المؤمنين ويهيج الحمية فيهم ليقاتلوا في سبيلهم ؛ فظلم الكافرين لهم شرس لا يفرق بين الرجال والنساء والولدان في العذاب.
﴿ الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ﴾وكان رسول الله والمسلمون نصراء لهم.
﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ٧٦ ﴾.
وعرفنا أن الطاغوت هو : المبالغ والمسرف في الطغيان، ويطلق على المفرد وعلى المثنى، وعلى الجمع : فتقول : رجل طاغوت، رجلان طاغوت، رجال طاغوت، والحق يقول :﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ﴾ ( من الآية ٢٥٧ سورة البقرة )إذن فالطاغوت يطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع، وهل الطاغوت هو الشيطان ؟. يصح. أهو الظالم الجبار الذي يطغيه التسليم له بالظلم ؟ يصح، أهو الذي يفرض الشر على الناس فيتقوا شره ؟ يصح، وكل تلك الألوان اسمها " الطاغوت ".
والأسلوب القرآني يتنوع فيأتي مرة ليقول :﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ﴾ ( من الآية ١٣ سورة آل عمران ).
وانظر للمقابلة هنا :﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ﴾، هنا﴿ آمنوا ﴾ و﴿ كفروا ﴾ وهنا أيضا في﴿ سبيل الله ﴾ و﴿ في سبيل الطاغوت ﴾ هذه مقابل تلك. لكي نعرف العبارات التي ينثرها ربنا سبحانه وتعالى علينا أن ندرك فيها الخطفة الإعجازية، قال في هذه الآية :﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا ﴾ مقابلات ؛ لأن الكافر مفهوم أنه طاغوت، ولكن : إذا ذكرت في الثانية مقابلا لمحذوف من الأولى، أو حذفت من الأولى مقابلا من الثانية، هذا يسمونه في الأسلوب البياني احتباكا كيف ؟.
ها هو ذا قوله سبحانه وتعالى :﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ﴾ أي تقاتل في سبيل الطاغوت، ويقابلها الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولابد أن تكون مؤمنة.
إذن فالكلام كله منسجم، فقال :﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة ﴾ وترك صفتها كمؤمنة وقال :﴿ تقاتل في سبيل الله ﴾ وسنعرف على الفور أنها مؤمنة، وربنا يحرك عقولنا كي لا يعطينا المسائل بوضوح مطلق بل لنعمل فكرنا، كي لا يكون هناك تكرار، ولكي تعرف أنه إذا قال :﴿ في سبيل الله ﴾ يعني مؤمنا، وإذا قال :﴿ في سبيل الطاغوت ﴾ يكون كافرا.
ويتابع الحق :﴿ فقاتلوا أولياء الشيطان ﴾. أي نصراء الشيطان الذين ينفخون في مبادئه، والذين ينصرون وسوسته في نفوسهم ليوزعوها على الناس، هؤلاء هم أولياء الشيطان ؛ لأن الشيطان كما نعرف حينما حدث الحوار بينه وبين خالقه.
قال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين٨٢ ﴾ ( من الآية ٨٢ سورة ص ).
لكنه عرف حدوده ولزمها فقال :
﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾( سورة ص ).
أي أن من تريده أنت يا رب لا أقدر أنا عليه. وهذه تدلنا على أن المعركة ليست بين إبليس وبين الله، فتعالى الله أن يدخل معه أحد في معركة، بل المعركة بين إبليس وبين الخائبين من الخلق، فعندما قال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ﴾ دل على أنه عرف كيف يقسم ويحلف ؛ لأن ربنا لو أراد الناس كلهم مؤمنين لما قدر الشيطان أن يقرب من أحد، لكن ربنا عزيز عن خلقه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن هنا دخل الشيطان، فالشيطان قد دخل من عزتك على خلقك سبحانك لأنك لو كنت تريدهم كلهم مؤمنين لما استطاع الشيطان شيئا، بدليل قوله :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ أي أنا لا أقدر عليهم. ودل قسم الشيطان أنه دارس ومنتبه لمسألة دخوله على العباد فقال :﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ﴾ ( من الآية١٦ سورة الأعراف ).
إذن فالشيطان لن يأتي على الصراط المعوج ؛ لأن الذي يسير على الصراط المعوج والطريق الخطأ لا يريد شيطانا ؛ فهو مريح للشيطان، ويعينه على مهمته، فيكون وليه. فأولياء الشيطان هم كل المخالفين للمنهج، وهم نصراء الشيطان.
والحق يأمرنا :﴿ فقاتلوا أولياء الشيطان ﴾. هؤلاء الذين بينهم وبين الشيطان ولاء، هذا ينصر ذلك، وذاك ينصر هذا، ويطمئننا الحق على ذلك فيقول :﴿ إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾ ؛ لأن الشيطان عندما يكيد سيكون كيده في مقابل كيد ربه، فلابد أن يكون كيده ضعيفا جدا بالقياس لكيد الله، وليس للشيطان سلطان يقهر قالب الإنسان على فعل، ولا يستطيع أن يرغمك على أن تفعل، وليس له حجة يقنعك بها.
والفرق بين من يكره القالب قالبك : أنك تفعل الفعل وأنت كاره. كأن يهددك ويتوعدك إنسان ويمسك لك مسدسا ويقول لك : اسجد لي مثلا إذن فقد قهر قالبك. لكن هل يقدر أن يقهر قلبك ليقول :" أحبني " ؟. لا يمكن. إذن فالمتجبر يستطيع أن يكره القالب لكنه لا يقدر أن يقهر القلب، فالذي يقهر القلب هو الحجة والبرهان، بذلك يقتنع أن يفعل الفعل وليس مرغما عليه. إذن فالأول يكون قوة، أو الثاني يكون حجة.
والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : اعرفوا أن هذا الشيطان ضعيف جدا، فهو لا يملك قوة أن يرغمك فإذا أغواك تستطيع أن تقول له : لن أفعل.. ولا يستطيع أن يأتي لقلبك ويقول لك : لابد أن تفعل ويحملك على الفعل قهرا عنك. فليس عنده حجة يقنعك بها لتفعل، فهو ضعيف، فلماذا تطيعونه إذن ؟. إنكم تطيعونه من غفلتكم وحبكم للشهوة، والشيطان لا يقهر قلبكم، ولا يقهر قالبكم. بل يكتفي أن يشير لكم ! !، ولذلك سيقول الشيطان في حجته يوم القيامة على الخلق :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ).
أي لم يكن لي عليكم سلطان : لا سلطان قدرة أرغمكم على فعلكم بالقالب، ولا سلطان حجة أرغمكم على أن تفعلوا بالقلب، أي أنتم المخطئون وليس لي شأن، إذن فكيد الشيطان ضعيف. و﴿ الكيد ﴾ كما نعرف هو : محاولة إفساد الحال بالاحتيال، فهناك من يفسد الحال لكن ليس بحيلة، وهناك من يريد أن يفسدها بحيث إذا أمسكت به يقول لك : لم أفعل شيئا ؛ لأنه يفعل الخطأ في الخفاء. ويفسد الحال بالاحتيال. والكيد لا يقبل عليه إلا الضعيف.
إن القوي هو من يواجه من يكيد له، فالذي يدس السم لإنسان آخر في القهوة مثلا هو من يرتكب عملا لإفساد الحال باحتيال ؛ لأنه لا يقدر أن يواجه، أما القوي فهو يتأبى على فعل ذلك، وحتى الذي يقتل واحدا ولو مواجهة نقول له : أنت خائف، أنت أثبت بجرأتك على قتله أنك لا تطيق حياته، لكن الرجولة والشجاعة تقتضي أن تقول : أبقيه وأنا أمامه لأرى ماذا يقدر أن يفعل.
إذن فكيد الشيطان جاء ضعيفا لأنه لا يملك قوة يقهر بها قالبا، ولا يملك حجة يقهر بها قلبا ليقنعك، فهو يشير لك باحتيال وأنت تأتيه : ولا يحتال إلا الضعيف. وكلما كان ضعيفا كان كيده أكثر، ولذلك كانوا يقولون مثلا : المرأة أقوى من الرجل لأن ربنا يقول :
﴿ إن كيدكن عظيم ﴾ ( من الآية ٢٨ سورة يوسف ).
ونقول لهم : مادام كيدكن عظيما ؛ إذن فضعفهن أعظم، وإلا فلماذا تكيد ؟. ولذلك يبرز الشاعر العربي هذا المعنى فيقول :
وضعيفة فإذا أصابت فرصة **** قتلت كذلك قدرة الضعفاء
لأن الضعيف ساعة يمسك خصمه مرة. وتمكنه الظروف منه ؛ يقول : لن أتركه لأنني لو تركته فسيفعل بي كذا وكذا. لكن القوي حينما يمسك بخصمه، يقول : اتركه وإن فعل شيئا آخر أمسكه وأضربه على رأسه، إذن فإن كان الكيد عظيما يكون الضعف أعظم.
﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا٧٧ ﴾.
نعرف أن الحق ساعة يقول :﴿ ألم تر ﴾ يعني : إن كانت مرئية في زمنها، فلك أن تتأمل الواقعة على حقيقتها، وإن كانت غير مرئية فمعناها : ألم تعلم، ولكن العلم بإخبار الله أصدق من العين. وحين يقول الحق :﴿ كفوا أيديكم ﴾ لابد أن تكون بوادر مد الأيدي موجودة، فلن يقال لواحد لم يمد يده : كف يدك. والكلام هنا في القتال، فيكون قد كفوا أيديهم عن القتال، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جاء في المقابل فقال :﴿ فلما كتب عليهم القتال ﴾ إذن فقد قيل لهم :﴿ كفوا أيديكم ﴾ لأن بوادر مد الأيدي للقتال قد ظهرت منهم إما قولا بأن يقولوا : دعنا يا رسول الله نقاتل، وإما فعلا بأن تهيئوا للقتال. وعندما يقول القرآن :﴿ فلما كتب عليهم القتال ﴾ دل هذا القول على وجود زمنين بصدد هذه الآية : زمن قيل لهم : كفوا أيديكم، وزمن كتب عليهم القتال، فنفهم من هذه أنه كانت هناك بوادر لمد اليد إلى القتال قبل أن يكتب عليهم القتال والذين قالوا : دعنا نقاتل هم : ابن عوف وأصحاب له، ولو كان الأمر بالقتال متروكا للرسول لكان قد أمرهم بمجرد أن قالوا ذلك.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. فقالوا : يا نبي الله، كنا في عزة، ونحن مشركون ؟، فلما آمنا صرنا أذلة قال :" إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا، فأنزل الله﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ﴾١.
وهذا دليل على أنه منتظر أمر السماء. وبعد ذلك كتب الله عليهم القتال، فلما كتب عليهم القتال تملص البعض منه.. مصداقا لقول الحق :﴿ فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ﴾ فلماذا هذه الخشية وهم مؤمنون : هل هذا يعني أنهم خافوا الناس أو رجعوا في الإيمان ؟. كما طلب بعض من بني إسرائيل القتال :
﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ٢٤٦ ﴾ ( سورة البقرة ).
إذن فعندما تصل المسألة الى الأمر التطبيقي، قد يدب في نفوسهم الخور والخوف، والحق سبحانه لم يمنع الأغيار أن تأتي على المؤمن، فمادام الإنسان ليس رسولا ولا معصوما فلا تقل : فلان عمل كذا او فلان عمل كذا ؛ لأن فلانا هذا لم يدع أنه معصوم، ولذلك يصح أن تأتي منه الأخطاء، وتأتيه خواطر نفسه، وتأتيه هواجس في رأسه، ويقف أحيانا موقف الضعف، ولذلك عندما يقول لك واحد : فلانة عملت كذا وفلان عمل كذا، قل له : وهل قال أحد إن هؤلاء معصومون ؟ وماداموا غير معصومين فقد يتأتى منهم هذا.
والله يقول :﴿ إذا فريق منهم ﴾ وهذا يعني أنهم ليسوا سواء، ففريق منهم أصابه الضعف، وفريق آخر بقي على شدته وصلابته في إيمانه لم تلن له قناة ولم ينله وهن ولا ضعف، ثم انظر أدب الأداء. لم يقل : فلان أو فلان. بل قال :﴿ إذا فريق منهم ﴾ وهذا يستدعي أن يبحث كل إنسان في نفسه، وهذه عملية أراد بها الحق الستر للعبد، ومادام الستر قد جاء من الرب، فلنعلم أن ربنا أغير على عبده من نفسه، ولذلك نقول دائما : ساعة يستر ربنا غيب الناس على لناس فهذا معناه : تكريم للناس جميعا.
وهب أن الله أطلعك على غيب الناس أتحب أن يطلع الناس على غيبك ؟ ! لا، إذن فأنت عندما ترى أن ربنا قد ستر غيبك عن الناس وستر غيب الناس عنك فاعرف أن هذه نعمة ورحمة ؛ لأن الإنسان ابن أغيار، فيصح أن واحدا أساء إليك في نفسه ولم يرغب أن تعرف ذلك، وأنت أيضا تريد أن تتخلص منه وتكرهه، فلو أطلعه الله على ما في قلبك، أو أطلعك على ما في قلبه لكانت معركة يجرح فيه كل منكما كرامة الآخر، لكن ربنا ستر غيب خلقه عن خلقه رحمة بخلقه.
وأنت أيضا أيها العبد قد تعصيه ويحب أن يستر عليك، ويأمر الآخرين ألا يتقصوا أخبار معصيتك له. بالله أيوجد رب مثل هذا الرب ؟ شيء عجيب ؛ فقد تكون عاصيا له ويحب أن يستر عليك، ويأمر غيرك : إياكم أن تتبعوا عورات الناس، فقد يكون عندهم بعض الحياء، ويكونون مستترين في أسمالهم وملابسهم لماذا ؟ حتى لا يفقدوا أنفسهم أو يضلوا طريق التوبة لربهم.
إذن فالحق يرحم المجتمع، ولكن الخيبة من الناس أنهم يلحون على أن يعلموا الغيب ويبحثوا عمن يكشف لهم الطالع. ونقول لمن يفعل ذلك : يا رجل لقد ستر الله الغيب عنك نعمة منه عليك، فاجعله مستورا كما أراد الله.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ﴾ والواحد من هذا الفريق يخشى القتال والقتل، ويخاف من الموت ؛ لأنه سيأخذه إلى جزاء العمل الذي عمله في الدنيا. ولذلك نجد أحد الصحابة يقول : أكره الحق.
فتساءل صحابي آخر : كيف تكره الحق ؟ قال : أكره الموت ومن منا يحبه !.
ولماذا يخشى الناس القتال ؟ لأن الله حين يميت ؛ يميت بدون هدم بنية، ولكن الأعداء في القتال قد يقطعون جسد الإنسان ويمثلون به، لكن إن استحضر العبد الجزاء على هذه المثلة تهون عليه المسألة.
﴿ إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ﴾ وكأنهم قد نسوا أنهم طلبوا القتال، كي نعرف أن النفس البشرية حين تكون بمنأى عن الشيء تتمناه، وعندما يأتيها تعارضه.
﴿ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ﴾ فهل جاء هذا الكلام منهم على سبيل الاستفهام ؟ يوضح الله لنا ذلك : إنهم يقولون : يا رب لماذا ابتليتنا هذا الابتلاء، وقد لا نقدر عليه في ساعة الخوف من لقاء المعارك ؟ لذلك طلبوا أن يؤجل الله ذلك وأن يجعلهم يموتون حتف أنوفهم لا بيد العدو، وكلمة ﴿ إلى أجل قريب ﴾ توضح أن كل واحد منهم يعي تماما أنه سيموت حتما، لكن لا أحد منهم يريد أن تنتهي حياته بالقتل.
ولماذا تطلبون التأخير ؟ حبا في الدنيا ومتاعها ؟ ويأتي جواب الحق :﴿ قل متاع الدنيا قليل ﴾ ولا يصح أن تحرصوا عليه أيها المؤمنون حرصا يمنعكم أن تذهبوا لتقاتلوا، فكلكم ستموتون، وكل منا يجازيه ربنا على عمله، أما الذي يقتل في سبيل الله فسيجازيه على عمله فورا، ويعطيه حياة أخرى مقابل الموت. لأنه سيأخذ الشهادة، ولذلك يأمر الحق رسوله بأن يقول :﴿ قل متاع الدنيا قليل ﴾ إن قارنته بما يصل إليه المرء من ثواب عظيم إن قتل في الحرب جهادا في سبيل الله. قال بعضهم : إذا كان لا مفر من الموت، فلماذا لا نذهب لنقاتل في سبيل الله، فإن قتلنا فليكن موتنا بثمن زائد عن عملنا، إذن فهذا تربيب وتنمية للفائدة، ولذلك قال الحكيم :
ولو أن الحياة تبقى لحي **** لعددنا أضلنا الشجعان
أي أن الحياة لو كانت تبقى لحي لكان أضل ناس فينا هم الشجعان الذين يقتلون أنفسهم في الحرب، لكن المسألة ليست كذلك، والشاعر العربي يقول :
ألا أيها الزاجري أحضر الوغى **** وان أشهد اللذات هل أنت مخلدي
والمتنبي يقول :
أرى كلنا يبغى الحياة لنفسه **** حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس ورثه التقى** ** وحب الشجاع النفس أورده الحربا
إذن فالاثنان يحبان نفسيهما، لكن هناك فرق بين الحب الأحمق والحب الأعمق.
وعندما ننظر إلى إجمالي السياق في الآية نجد أن الحق سبحانه يربي في صدر الإسلام الفئة المؤمنة تربية إيمانية لا تخضع لعصبية الجاهلية ولا لحمية النفس، ففريق من المؤمنين بمكة الذين ذاقوا الاضطهاد أحبوا أن يقاتلوا، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغهم أنه لم يؤمر بالقتال بعد، وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يصبروا على ما هم فيه حتى يأذن الله بالقتال، وتلك تربية أولى للفئة المؤمنة ؛ لأن الإسلام جاء وفي نفوس العرب حمية وعصبية وعزة وأنفة، فكلما أهيج واحد منهم في شيء فزع إلى سيفه وإلى قبيلته وشنها حربا، فيريد الله سبحانه أن يستل من الفئة المؤمنة الغضب للنفس والغضب للعصبية والغضب للحمية، وأراد أن يجعل الغضب كله لله.
وحينما جاء الإذن بالقتال، جاء لا ليفرض على الناس عقيدة، ولا ليكرههم على إسلام، وإنما جاء ليحمي النفس الإنسانية من أن يتسلط عليها الأقوى الذي يريد أن يجعل الأضعف تبيعا له، فأراد سبحانه أن يحرر الاختيار في الإنسان فكان القتال حفاظا على كرامة الإنسان أن يكون تبيعا في العقيدة لغيره، وبعد ذلك يعرض قضية الإسلام عرضا عقليا ؛ فمن استجاب له فمرحبا به، ومن لم يستجب فله أن يظل على دينه. وهذا يدل على أن الإسلام دين منع التسلط على عقائد الناس، وضمن لهم الحرية في أن يختاروا ما يحبون من العقائد بعد أن بين لهم الرشد من الغي.
وحينما شرع الله القتال فقد شرعه دون أن يكون هناك أدنى تدخل لغضب النفس ولا لحميتها ولا لعزتها، ويشاء الحق سبحانه وتعالى أن يصور العواطف الإنسانية التي تواجه الإسلام ويواجهها الإسلام تصويرا طبيعيا. فبين لنا أن الطبع الإنساني يعالج بالتربية، ولهذا نجد أن بعضا من الذين طلبوا القتال خافوا :﴿ إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ﴾.
إذن فهناك فرق بين نظرية أن نقاتل، وأن نخوض القتال بالفعل ؛ لذلك تجد أن منهم من خاف الذهاب إلى القتال خشية أن يقتلوا، والقتل كما تعلمون : هدم بنية، ولكن الموت حتف الأنف هو الذي يسحب به الله الروح الإنسانية، دون هدم بنية أو نقض لها. وأيضا فالقتال يكون مظنة القتل، والخوف من القتال مظنة التراخي في الأجل، فالقتل موت مقرب أمام المقاتل، لكن الموت حتف الأنف علمه عند الله ؛ لذلك قالوا :﴿ ربنا لم كتبت علينا القتال ﴾.
فهل كان طلبهم للقتال لقصد الحمية، وسبحانه يريد أن يبرئ المؤمن أن يكون قتاله للحمية ؛ لأنه جل وعلا يريد أن تكون المعركة إيمانية ؛ لتكون كلمة الله هي العليا حتى ولو كان المخالف له صلة نسب أو صلة عصب أو صلة عواطف.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا ذلك ؛ لأن الأمة الإسلامية ستواجه عنفا شرسا في تثبيت قاعدة الاختيار الإيماني في البشر، فقال الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم : إن قالوا لك ذلك ﴿ قل متاع الدنيا قليل ﴾، فالحرص على أن يستبقي المؤمن نفسه من القتل ليموت بعد أجل قريب يعني أنه يريد أن يأخذ من الحياة فرصة أكبر، فأوضح الحق : لا، ضعوا مقياسا تقيسون به الجدوى، فسبحانه قال :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ ( من الآية ١١١ سورة التوبة ).
إنه شراء وبيع. وأيضا قال سبحانه في الصفقة الإيمانية :
﴿ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ﴾ ( من الآية١٠ سورة الصف ).
إذن فالله يعاملنا بملحظ النفعية الإنسانية، واللبق، الفطن، الذكي هو الذي يتاجر في الصفقة الرابحة أو المضمونة أو التي تكون جدواها والفائدة منها أكثر من سواها.
وها هو ذا الحق يقول :
﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا٧٨ ﴾.
والحق هنا يتعرض لقضية الموت مع المكان فقال :﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ﴾ فالعقل البشري الذي يتوهم أن بإمكانه الاحتياط من الموت مكانا عليه أن يعي جيدا أنه لا يستطيع ذلك، فوجود الشخص عند ظرف ما لا يدفع ولا يمنع عنه الموت، فالعندية سواء في معسكر الكفر أو في معسكر الإيمان لن تمنع حدوث الموت.
والعندية كما نعلم تعطي ظرف المكان. فلطافة تغلغل الموت تخترق أي مكان وزمان مادام الحق قد قضى به. وأعداء الإنسان في عافيته وفي حياته كثيرون، لكن إن نظرنا إليها في العنف نجدها تتناسب مع اللطف. فكلما لطف عدو الإنسان ودق ؛ كان عنيفا، وكلما كان ضخما كان أقل عنفا. فالذي له ضخامة قد يهول الإنسان ويفزعه، و لكن بإمكان الإنسان أن يدفعه. لكن متى يكون العدو صعبا ؟. يكون العدو صعبا كلما صغر ولطف ولا يدخل تحت الإدراك، فيتسلل إلى الإنسان.
ومثال ذلك : هب أن واحدا يبني بيتا في خلاء ويمر عليه إنسان ليبارك له وضع أساس البيت فيقول لصاحب البيت : إنك لم تحتط لمثل هذا المكان، فهو يمتلئ بالذئاب والثعالب ويجب أن تضع حديدا على النوافذ التي في الدور الأول، وذلك حتى لا تدخل إليك هذه الحيوانات المفترسة.
ويضع صاحب البيت حديدا على نوافذ الدور الأول. ويجيء واحد ثان ويقول له : لقد فاتك أن هذا المكان به ثعابين كثيرة وعليك أن تضيق فتحات الحديد، ويفعل ذلك صاحب البيت ليرد الثعابين. ويجيء ثالث لزيارة صاحب البيت فيقول : إنني أتعجب منك كيف تحترس من الذئاب والثعابين ولا تحتاط من ذباب هذه المنطقة ؟. إنه ذباب سام. وهنا يضع صاحب البيت سلكا على النوافذ. ويجيء واحد رابع ليقول لصاحب البيت ؛ في هذه المنطقة حشرات أقل حجما من الذباب وأكثر عنفا من البعوض ويمكنها أن تتسلل من فتحات السلك الذي تضعه على نوافذك، فيخلع صاحب البيت السلك المعلق على نوافذ البيت ويقوم بتركيب سلك آخر فتحاته أكثر ضيقا بحيث لا تمر منه هذه الحشرات. إذن فعدوك كلما لطف ودق عن الإدراك كان عنيفا.
ولذلك فأخطر الميكروبات التي تتسلل إلى الإنسان، ولا يدري الإنسان كيف دخلت إلى جسده ولا كيف طرقت جلده، ولا يعرف إصابته بها إلا بعد أن تمر مدة التفريخ الخاصة بها وتظهر بجسده آلامها ومتاعبها. إنها تدخل جسم الإنسان دون أن يدري ولا يعرف لذلك زمانا أو مكانا.
ويلفتنا سبحانه إلى أن الشيء عندنا كلما لطف ازداد عنفا، ولا تمنعه المداخل. فما بالكم بالموت وهو ألطف من كل هذا، ولا أحد يستطيع أن يحتاط منه أبدا.
وما مقابل الموت ؟. إنه الحياة حيث توجد الروح في الجسد. وما كنه الروح ؟ لا يعرف أحد كنه الروح على الرغم من أنه يحملها في نفسه، ولا أحد يعرف أين تكون الروح أو ما شكلها، ولا أحد يعرف من رآها أو سمعها أو لمسها.
وعندما يقبضها الله فإن الحياة تنتهي. والحق هو الذي جعل للحي روحا، وعندما ينفخها فيه تأتي الحياة.
إن الحق سبحانه يلفتنا وينبهنا إلى ذلك فيترك في بعض ماديتنا أشياء لا يستطيع العلماء بالطب ولا المجاهر أن يعرفوا كنهها وحقيقتها، فنحن لا نعرف مثلا الفيروس المسبب لبعض الأمراض.
فإذا كان الله قد جعل للإنسان روحا يهبه بها الحياة، فلماذا لا نتصور أن للموت حقيقة، فإذا ما تسلل للإنسان فإنه يسلب الروح منه، وبذلك نستطيع أن نفهم قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الملك :
﴿ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ١ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ ( من الآية١ وجزء من الآية٢ سورة الملك ).
إذن فالموت ليس عملية سلبية كما يتوهم بعض الناس، بل عملية إيجابية، وهو مخلوق بسر دقيق للغاية يناسب دقة الصانع. ووصف الحق أمر الموت والحياة في سورة الملك وقدم لنا الموت على الحياة ؛ مع أننا في ظاهر الأمر نرى أن الحياة تأتي أولا ثم يأتي الموت. لا، إن الموت يكون أولا، ومن بعده تكون الحياة. فالحياة تعطي للإنسان ذاتية ليستقبل بها الأسباب المخلوقة، فيحرث الأرض أو يتاجر في الأشياء أو يصنع ما يلائم حياته ويمتع به السمع والبصر، فيظن أن الحياة هي المخلوقة أولا.
ينبهنا ويوضح لنا الحق : لا تستقبل الحياة إلا إذا استقبلت قبلها ما يناقض الحياة، فيقول لنا عن نفسه :﴿ الذي خلق الموت والحياة ﴾ وهذا ما يسهل علينا فهم الحديث القدسي الشريف الذي يشرح لنا كيف يكون الحال بعد أن يوجد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ويأتي الحق سبحانه بالموت في صورة كبش ويذبحه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه : يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط، فيقال : يا أهل الجنة فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه. فيقال : هل تعرفون هذا ؟ قالوا : نعم ربنا، هذا الموت، ثم يقال : يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين، أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه. فيقال : هل تعرفون هذا ؟ قالوا : نعم هذا الموت، فيأمر به فيذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين " كلاهما " ١ :( خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا )٢.
وتجسيد الموت في صورة كبش معناه أن للموت كينونة. ويعلمنا الله أنه يقضي على الموت، فنحيا في خلود بلا موت. وينبه الناس الذين كفروا وظنوا أن الذين قتلوا في سبيل الله لو كانوا عندهم لما ماتوا. نقول لهم : العندية عندكم لا تمنع الموت. ولو كان من دنا أجله وحان حينه يسكن في بروج مشيدة لأدركه الموت.
إن الأداء القرآني يتنوع ؛ فهناك من الأداء ما نفهمه من الألفاظ، وهناك ما نفهمه من الهدي الأسلوبي للقرآن ؛ لأنه خطاب الرب. فالبشر فيما بينهم يتخاطبون بملكات لغوية وملكات عقلية، لكن عندما يخاطب الحق الخلق فسبحانه يخاطب كل ملكات النفس. ولذلك نجد طفلا صغيرا يحفظ القرآن ويمتلئ بالسرور، فيسأله واحد من الكبار : ما الذي يسرك في حفظ القرآن ؟ فيجيب الصغير : إنني أحس بالانسجام وكفى. هولا يعرف لماذا يحس بالانسجام من سماع القرآن أو حفظه، فالمتحدث هو الله، وسبحانه بقدرته وجمال كماله يخاطب كل الملكات النفسية.
وسبحانه وتعالى يقول :﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ﴾ أي أينما توجدوا يدرككم الموت. وكلمة﴿ يدرككم ﴾ دليل على أن الإنسان عندما تدب فيه الروح ينطلق الموت مع الروح، إلى أن يدركها في الزمن الذي قدره الله. وكلمة﴿ يدرك ﴾ توضح لنا أن الموت يلاحق الروح حتى إذا أدركها سلبها وكما قال الأثر الصالح عن ملاحقة الموت للحياة :" حتى إذا أدركها جرت، فلا أحد منكم إلا هو مدرك "، ولذلك يقول أهل المعرفة والإشراق :" الموت سهم أرسل إليك وإنما عمرك هو بقدر سفره إليك ".
وهكذا نعرف أن قوله الحق :﴿ يدرككم ﴾ تدل على أن الموت يلاحق حياة الإنسان ويجري وراء روحه حتى يدركها.
ويقول الحق :﴿ ولو كنتم في بروج مشيدة ﴾. وعندما نبحث في الحروف الأصلية لمادة كلمة﴿ البروج ﴾ نستطيع أن نرى المعنى العام لها. والحروف الأصلية في هذه الكلمة هي " الباء " و " الراء " و " الجيم " وكلها تدل على الارتفاع والظهور.
فيقال هذه امراة فيها برج أي ان عيونها واسعة وتحتل قدرا كبيرا من وجهها وتكون واضحة فالبرج هو الاتساع والظهور.
والأبراج عادة كان بناؤها مرتفعا كحصون وقلاع نبنيها نحن الآن من الأسمنت والحديد. والقصد من﴿ مشيدة ﴾ أي أنها تم بناؤها بإحكام، فالشيء قد يكون عاليا ولكنه قد يكون هشا. أما الشيء المشيد فهو من " الشيد " وهو " الجص "، ومن " الشيد " وهو " الارتفاع "، والمقصود ان لبنات البرج تلتحم أبعاضها وأجزاؤها بالجص فهي مرتفعة متماسكة.
إنك إذا رأيت جمعا وقوبل بجمع فمعنى ذلك أن القسمة تعطينا آحادا. فساعة يدخل المدرس الفصل يقول لطلابه : أخرجوا كتبكم. فمعنى هذا القول أن يخرج كل تلميذ كتابه. وعلى ذلك يكون القياس. فلو بنى كل إنسان لنفسه برجا مشيدا لجاءه الموت.
والجمع مقصود أيضا : أي لو كنتم جميعا معتصمين ببرج محاط ببرج آخر وثالث ورابع ؟، كأنه حصن محصن فالحصون في بعض الأحيان يتم بناؤها وكأنها نقطة محاطة بدائرة صغيرة. وحول الدائرة دائرة أخرى أوسع. وبذلك تجد الحصن نقطة محاطة بعدد من الحصون. والموت يدرك البشر ولو كانوا في برج محاط ببروج. وكلا المعنيين يوضح قدرة الحق في إنفاذ أمره بالموت.
وساعة يتكلم سبحانه عن الموت وعن الحياة في الجهاد فهو يريد أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور ؛ لأن الدين هو نور طارئ على ظلمة، والذين يعيشون في الظلام يكونون قد ألفوا الظلمة والفوضى وكل منهم يعربد في الآخرين. وعندما جاء الدين فر بعضهم من مجيء النور ؛ لأن النور يحرمهم من لذات الضلال ؛ ولأن النور يوضح الرؤية.
لذلك يوضح سبحانه وتعالى أنه اتى بالموت ليؤدي حاجتين : الحاجة الأولى : أن من يؤمن عليه أن يستحضر الموت لأن جزاءه لا يكون له منفذ إلا أن يموت ويلقى ربه، ويعلم أن الحاجب بينه وبين جزاء الخالق هو الموت، فساعة يسمع كلمة الموت فهو يستشرف للقاء الله ؛ لأنه ذاهب إلى الجزاء.
والحاجة الثانية : أن غير المؤمن يخاف الموت ويخشاه ولا يستعد له ويخاف أن يلاقي ربه. إذن فكلمة " الموت " تعطي الرغب والرهب. فصاحب الإيمان ساعة يسمع كلمة الموت يقول لنفسه : إن متاعب الدنيا لن تدوم، أريد أن ألقى ربي.
ولذلك يجب أن يستحضر المؤمنون بالله تلك القضية. وحين يستحضرون هذه القضية يهون عليهم كل مصاب في عزيز ؛ فالإنسان مادام مؤمنا فهو يعرف أن العزيز الذي راح منه إما مؤمن وإما غير مؤمن، فإن كان مؤمنا فليفرح له المؤمن الذي افتقده ؛ لأن الله عجل به ليرى خيره، فإن حزنت لفقد قريب مؤمن فأنت تحزن على نفسك. وإن كان الذي ذهب إلى ربه غير مؤمن، فالمؤمن يرتاح من شره. إذن الموت راحة، والذي عمل صالحا يستشرف إليه، وهذا رغب، أما الكافر فهو خائف ؛ وهذا رهب.
ولذلك فمن الحمق أن يحزن الإنسان على ميت، وعليه أن يلتفت إلى قول الحق :﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ﴾.
ويتابع الحق :﴿ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ﴾. ومثل هذا الكلام أليق بمن ؟.
الذي يقول عن الحسنة إنها من عند الله فهو يؤمن بالله وهذه الكلمة لها في ذهنه تصور. والآية لا تريد هذا الصنف من الناس ولكن بعضهم يريد أن يفرق بين محمد وربه. فينسب الخير والحسنة لله، وينسب الشر والسيئة لمحمد، وعلى هذا فالذين قالوا مثل هذا الكلام إما أن يكونوا من المنافقين الذين أعلنوا إسلامهم وولاءهم لرسول الله وفي قلوبهم الكفر، وإما أن يكو
٢ الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج٢٤ ص٢٠٤..
﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ٧٩ ﴾.
فإن جرت عليك سنة كونية خيرا فهو من الله، أما إن أصابتك سيئة فيما لك فيه دخل فهي من نفسك. كان المسألة قسمان : شيء لك فيه دخل، وشيء لا دخل لك فيه. ولابد أن تعتبره حسنة لأنه يقيم قضية عقدية في الكون.
فالمؤمن بين لوم نفسه على مصيبة بما له فيه دخل، وثقة بحكمة من يجري ما لا دخل له فيه وهو الله سبحانه ﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا ﴾.
ومن هو الرسول ؟.
الرسول مبلغ عمن أرسله إلى من أرسل إليه. ومادام رسولا مبلغا عن الله فأي شيء يحدث منه فهو من الله.
وعندما يقول الحق :﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ أي لا يضرك يا محمد أن يقولوا : إن ما أصابهم من سيئة فمن عندك ؛ لأنه يكفيك أن يكون الله في صفك ؛ لأنهم لا يملكون على ما يقولون جزاء، وربك هو الذي يملك الجزاء وهو يشهد لك بأنك صادق في التبليغ عنه وأنك لم تحدث منك سيئة كما قالوا.
﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا٨٠ ﴾.
والطاعة للرسول هي طاعة لله، وذلك أمر منطقي ؛ لأنه رسول، فمن أطاع الرسول فطاعته طاعة لله ؛ لأن الرسول إنما يبلغ عمن أرسله.
ولذلك ففي المسائل الذاتية التي كان يفعلها سيدنا رسول الله كبشر وبعد ذلك يطرحها قضية من عنده كبشر، وعندما يثبت عدم صحتها يعطينا رسول الله مثالا عن أمانته.
فعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال : لو لم تفعلوا لصلح، قال : فخرج شيصا، فمر بهم، فقال : ما لنخلكم ؟ قالوا : قلت : كذا وكذا، قال :﴿ أنتم أعلم بأمر دنياكم ﴾١.
أي في المسائل الخاضعة للتجربة في المعمل والتي لا دخل للسماء فيها. أما الأمور الخاضعة لنواميس الكون فلا يتركها للعباد. ومن العجيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يتصرف في شيء لم يكن لله فيه حكم مسبق ويعدله له الله بينه وبين نفسه فمحمد هو الذي يبلغنا بهذا التعديل لنشهد واقعا أنه صادق في البلاغ عن الله ولو كان على نفسه. وجاءت هذه الآية الكريمة بعد قول الحق سبحانه :﴿ وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ﴾ ( من الآية ٧٩ سورة النساء ).
والرسول كما نعلم هو من بلغ عن الله شرعه الذي يريد أن يحكم به حركة حياة الخليفة في الأرض وهو الإنسان. وإذا ما نظرنا إلى المادة المأخوذة من الراء والسين واللام وجدنا الحق سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ﴾ ( من الآية ٥٢ سورة الحج ).
إذن فالرسول قد يكون رسولا بالمعنى المفهوم لنا، وقد يكون نبيا، كلاهما مرسل من الله. ولكن الفارق أن الرسول يجيء بشرع يؤمر به ؛ ويؤمر هو أيضا بتبليغه للناس ليعملوا به، ولكن النبي إنما يرسله الله ليؤكد سلوكا نموذجيا للدين الذي سبقه ؛ فهو مرسل كأسوة سلوكية. ولكن الرسول على إطلاقه الاصطلاحي يأتي بمنهج جديد قد يختلف في الفروع عن المنهج الذي سبقه. وكلاهما رسول ؛ هذا يجيء بالمنهج والسلوك ويطبقه، والنبي يأتي بالسلوك فقط يطبقه ليكون نموذجا لمنهج سبقه به رسول.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل، وجعل خاتم الرسل يدنا محمدا فمعنى ذلك أن رسالته صلى الله عليه وسلم ستكون رسالة لا استدراك للسماء عليها، وإذا كانت رسالته صلى الله عليه وسلم رسالة لا استدراك للسماء عليها، فكيف يعقل أن تكون رسالته موضوعا لاستدراك البشر عليها ؟.
فمادام الله قد ختم به الرسالة، وأنزل عليه قوله :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ إذن فلم يعد للسماء استدراك على هذه الرسالة، فكيف يأتي بعد ذلك إنسان معاصر أو غير معاصر ليقول : لا، إننا نريد أن نستدرك كذا أو نقول : الحكم كذا أو هذا الحكم لا يلائم العصر إذا كان الله لم يجعل للسماء استدراكا على الرسالة لأن الله أكملها وأتمها فكيف يسوغ للبشر أن يكونوا مستدركين على الرسالة ؟.
إن الرسول حين يضاف، يضاف مرة إلى الله، ويضاف مرة إلى المرسل إليهم ؛ لأنه واسطة التعلق بين المرسل والمرسل إليه، فإن أردت الإضافة بمعنى " من " الابتدائية ؛ تقول : رسول الله، أي رسول من الله. وإن أردت الغاية من الرسالة تقول : رسول إلى الناس أو رسول للناس. إذن فالإضافة تأتي مرة بمعنى " من " وتأتي مرة بمعنى " اللام "، وتأتي مرة بمعنى " إلى ".
وأمر الرسالة ضروري بالنسبة للبشر ؛ لأن الإنسان إذا ما استقرى وتتبع الوجود كله بفطرته وبعقله السليم من غير أن يجيء له رسول، فإنه يهتدي بفطرته الى أن ذلك الكون لا يمكن أن يكون إلا عن مكون له قدرة تناسب هذه الصفة المحكمة البديعة. ولابد أن يكون قيوما لأنه يمدنا دائما بالأشياء، لكن أنعرف بالعقل ما تريد هذه القدرة ؟ نحن ننتهي فقط إلى أن وراء الكون قوة، هذه القوة لها من القدرة والحكمة والعلم والإرادة وصفات الكمال ما يجعلها تخلق هذا الكون العجيب على تلك الصورة البديعة ذات الهندسة الدقيقة، وهذا الكون له غاية. أيمكن إذن للعقل ان يضع اسما لهذه القوة ؟. فكونها قوة يستلزم أن يكون لها قدرة وحكمة، لكنا لا نعرف اسمها، فكان ولابد أن يجيء رسول، هذا الرسول يعطي للناس جواب ما شغلهم وهو : ما القوة التي خلقت هذا الكون وجعلته بهذه الصنعة العجيبة.
ويقف العقل هنا وقفة، فعندما يأتي الرسول ويقول : أنا أدلكم على هذه القوة اسما ومطلوبا، كان يجب على الخلق أن يرهفوا آذانهم له ؛ لأنه سيحل لهم ذلك اللغز الذي رأوه بأنفسهم وأوقعهم في الحيرة المؤمن منهم والكافر يؤمن بهذا لأنه يجد نفسه في كون تخدمه فيه أجناس أقوى منه، ولا تتخلف عن خدمته أبدا، وأجناس لا تدخل تحت طاقته ولا تحت قدرته وتصنع له أشياء لا يفهم عقله كيف تعمل، فكان الواجب أن يؤمن.
لقد ضربنا مثلا وقلنا : لو أن إنسانا وقعت به طائرة أو انقطع به طريق في صحراء، و ليس معه زاد ولا ماء، وبعد ذلك جلس فغلبه النوم فنام، ثم استيقظ فوجد مائدة منصوبة فيها أطايب الطعام وفيها الشراب السائغ. بالله قولوا لي : ألا يشتغل عقله بالفكر فيمن جاء بالأطعمة قبل أن يتناول منها شيئا ؟ لذلك كان من الواجب قبل أن ننتفع بهذه الأشياء أن نلفت ذهننا : من الذي صنع هذه الصنعة ؟ ! ومع ذلك تركنا الله فترة حتى نفكر، حتى إذا جاء رسول يقول : القوة التي تبحث عنها بعقلك هذه اسمها كذا ومطلوبها منك كذا، وأنت كائن ومخلوق لها أولا وإليها تعود أخيرا.
وخلاصة المسالة أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلق أعد لهم مائدة الكون، وفيها الأجناس التي تخدمه كما قلنا : سلسلة الأجناس وخدمتها تجعلك تتعجب وتتساءل : كيف يخدمني الأقوى مني ؟.
الشمس التي لا تدخل تحت قدرتي، والقمر الذي لا أستطيع أن أتناوله، والريح التي لا أملك السيطرة عليها، والأرض التي لا أستطيع أن أتفاهم معها، كيف تؤدى لي هذه الخدمات ؟. لابد أن يكون هناك من هو أقوى مني ومنها هو الذي سخرها لخدمتي. وهل رأيت شيئا من هذه الأشياء امتنع أن يؤدى لك الخدمة أو نقص منها شيئا ؟. لم يحدث ؛ لأنها مسخرة، فإذا جاء رسول من الله ليحل لنا لغز هذه الحياة ويدلنا على موجدها، كان يجب أن نفتح له آذاننا ونسمعه، فإذا ما قال لي : الذي خلق لك الكون هو الله، والذي خلقك هو الله وهو صانعك، وأرسلني بمنهج لك كي تؤدي مهمتك كما ينبغي فافعل كذا ولا تفعل كذا، وأنت صائر إليه ليحاسبك على ما فعلت، وهذا المنهج هو خلاصة الأديان كلها.
ولذلك يكون مجيء الرسول ضروريا وبعد ذلك يؤيده سبحانه بمعجزة تثبت صدقه، ومادام قد أرسله بالمنهج الذي هو : افعل ولا تفعل، فهذا يعني أن تطيع هذا الرسول، ويقول ربنا في آية أخرى :
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾ ( من الآية٦٤ سورة النساء ).
أي ليست الطاعة ذاتية له، إنما الطاعة صادرة من الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتميز عن سائر الرسل، لأن معجزته التي تؤيد صدقه في بلاغه عن الله هي عين كتاب منهجه في الاصول، وكل الرسل كانت على غير ذلك. كان الرسول يأتي بمعجزة ويأتي بكتاب منهج، العصا واليد البيضاء كانت لموسى هذه معجزته ؛ ولكن منهجه في " التوراة "، إذن فالمعجزة منفصلة عن المنهج.
سيدنا عيسى معجزته مثلا : أنه يبرئ الاكمه والأبرص، لكن كتاب منهجه " الإنجيل "، إلا سيدنا رسول الله فإن معجزته وهي القرآن هي عين منهجه ؛ لأن الله أراد للدين الخاتم ألا تنفصل فيه المعجزة من المنهج.
إن معجزات الرسل السابقين على رسول الله من رآها يؤمن بها، والذي لم يرها يسمع خبرا عنها، وإن كان واثقا ممن أخبره يصدقه، وإن لم يكن واثقا لأنها ليست أمامه فلا يصدقه، ولولا أن الله أخبرنا بهذه المعجزات في القرآن لكان من الممكن أن نقف فيها.
أما معجزته صلى الله عليه وسلم فباقية بقاء منهجه، ويستطيع كل مسلم أن يقول في آخر عمر الدنيا : محمد رسول الله وتلك معجزته، اما غيره من الرسل فلا ياتى احد ويقول فلان رسول الله وتلك معجزته لأنها حدثت وانتهت، أما القرآن فهو باق بقاء الرسالة والكون.
والرسول صلى الله عليه وسلم حين يأتي بالبلاغ عن الله فالحق يبين لنا : أنا أرسلت الرسول ليطاع. والمنطق أن يقول القرآن :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ ؛ لأن الرسول جاء مبلغا عن الله ؛ فالمباشر لنا هو رسول الله، وعرفنا من قبل أنه إذا ما توارد أمر الطاعة من الله مع أمر مع رسوله نطيع الاثنين، وإذا كان الله قد جاء بأمر إجمالي كالزكاة والحج، وجاء الرسول ففصل، فنطيع الله في الأمر الإجمالي ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، وإذا كان الله لم يجيء بحكم لا مجمل ولا مفصل، فقد جاء التشريع من الرسول بالتفويض الذي فوض الله فيه رسوله بقوله :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ ( من الآية٧ سورة الحشر ).
فالرسول الوحيد الذي أعطاه الله تفويضا في التشريع هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل الرسل بلغوا عن الله ولم يبلغ واحد منهم عن نفسه شيئا إلا سيدنا رسول الله، فقد فوضه الله سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ إذن فللرسول مهمة داخلة في إطار القرآن أيضا، ومثال ذلك في حياتنا نجد من يقول لموظف : إن الموظف الذي يغيب خمسة عشر يوما في قانون الدولة يفصلونه، فيأتي موظف ومعه دستور البلاد ليرد ويقول : هذا هو الدستور وقد قرأته فلم أجد فيه هذا القانون، وهذا الكلام الذي تقوله عن فصل الموظف غير دستوري.
نقول له : إن الدستور قال في هذه المسألة : وتؤلف هيئة تنظم أعمال العاملين في هذا المجال، إذن فبالتفويض توجد هيئة تضع نظاما ليطبق على العاملين فتكون هذه من الدستور، فكل بنود قانون العاملين تدخل في التفويض الذي نص عليه في الدستور للهيئات أو للجان التي تضع التشريعات الفرعية، فكذلك إذا قيل لك : هات دليلا من القرآن على أن صلاة المغرب ثلاث ركعات وأن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع ركعات، وأن العشاء أربع ركعات، هات دليلا من القرآن على هذه، تقول : دليلي من القرآن :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾، والرسول صلى الله عليه وسلم كي يضمن سلامة المنهج من هذه التحريفات التي يفترونها يقول :" لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه أمر مما أمرت به، أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ".
وفي رواية أخرى : عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله " ٢.
أروى هذا الحديث عن الرسول كي تعرفوا غباء القائلين بهذا، ولنقل لهم : قولكم هذا دليل على صدق الرسول، بالله فلو لم يأت واحد بمثل قولكم بأنه لا يوجد إلا القرآن، بالله ماذا كنا نقول للمحدثين الذين رووا حديث رسول الله، ولو لم يقولوا هذا لقلنا : النبي قال : يتكئ رجل على أريكته ويتحدث، ولم يتكلم أحد بما يخالف هذا الكلام. إذن
.
٢ رواه الترمذي في العلم واللفظ له، ورواه أحمد وابن ماجة..
﴿ فإذا برزوا من عندك ﴾. أي خرجوا، فهم يديرون أمر الطاعة التي أمروا بها في رءوسهم فيجدونها شاقة، فيبيتون أن يخالفوا، ونعرف أن كلمة " بيت " تعني المأوى الذي يؤوى الإنسان. وأحسن أوقات الإيواء هو الليل، فسموا البيت الذي نسكنه " مبيتا " لأننا نبيت عادة في البيت المقام في مكان والمكون من حجرات ؛ والمستور، ويقولون : هذا الأمر بيت بليل، أي دبروه في الليل، وهل المراد ألا يبيتوا في النهار ؟ لا، لكن الشائع أن يبيتوا في ليل. يفعلون ذلك وهم بعيدون عن الأعين، فيدبرون جيدا ؛ وإن كان المقصود هو التبييت في ظلام فهذا المعنى يصلح أيضا، وإن كان سرا فالمعنى يصح أيضا.
اذن فالاصل في التبييت انما يكون في البيت والاصل ان تكون البيتوتة ليلا ومدار المادة كلها الاستخفاء فاذا بيت في ظلام نقول انه بيت بليل واذا بيت سرا نقول بيت بليل ايضا.
﴿ ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ﴾ أي إنهم إذا ما خرجوا بيتوا أمرا غير الذي تقول، فهم يعلنون الطاعة باللسان بينما يكون سلوكهم على العكس من ذلك، فسلوكهم هو العصيان أو " طاعة " غير الذي تقولها. فإن قلت : افعلوا فلن يفعلوا، وإن قلت : لا تفعلوا فهم يفعلون عكس ما تأمر به. إنهم يطيعون أهواءهم وشياطينهم.
﴿ ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ﴾ يعني قالت طائفة : أمرنا وشأننا طاعة لما تقول، او أطعناك طاعة ولكنهم يبيتون غير ما تقول فهم إذن على معصية. ﴿ والله يكتب ما يبيتون ﴾ وسبحانه يكتب نتيجة علمه، وجاء بكلمة " يكتب " حتى يعلموا أن أفعالهم مسجلة عليهم بحيث يستطيعون عند عرض كتابهم عليهم أن يقرؤوا ما كتب فيه، فلو لم يكن مكتوبا فقد يقولون : لا لم يحدث، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من هذه الطائفة، لأنها ستثبط أمر الدعوة، لذلك يوضح الحق : إنك لن تنصر بمن أرسلت إليهم وإنما تنصر بمن أرسلك، فإياك أن ينال ذلك من عزيمتك أو يثبطها نحو الدعوة. فإذا حدث من طائفة منهم هذا ف﴿ أعرض عنهم ﴾ أي لا تخاطبهم في أمر من هذه الأمور ودعهم ودع الانتقام لي ؛ لأنني سأنصرك على الرغم من مخالفتهم لك، واتجه إلى أمر الله الذي أرسلك.
ونعلم أن المصلحة في كل الرسالات إنما تكون عند من أرسل، ولكن المرسل إليه قد تتعبه الدعوة الجديدة ؛ لأنها ستخرجه عن هوى نفسه، ومستلزمات طيشه، فالذي أرسلك يا محمد هو الضامن لك في أن تنجح دعوتك.
﴿ فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ﴾ لماذا ؟ لأن الذين يؤمنون بك محدودو القدرة، ومحدودو الحيلة، ومحدودو العدة، ولكن الذي أرسلك يستطيع أن يجعل من عدد خصومك ومن عدة خصومك جنودا لك، وينصرك من حيث لا تحتسب. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى بدأ قضية الإسلام وكان المؤمنون بها قلة، فلو جعلهم كثرة لقالوا : كثرة لو اجتمعت على ظلم لنجحت، ولكن عندما تكون قلة وتنجح، فهذا فأل طيب ويشير على انك لست منصورا بهؤلاء وإنما أنت منصور بمدد الله.
﴿ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا٨٢ ﴾.
وإذا سمعت كلمة " أفلا " فأعلم أن الأسلوب يقرع من لا يستعمل المادة التي بعده. ﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ أي كان الواجب عليهم أن يتدبروا القرآن، فهناك شيء اسمه " التدبر "، وشيء اسمه " التفكر "، وثالث اسمه " التذكر "، ورابع اسمه " العلم "، وخامس اسمه " التعقل "، ووردت كل هذه الأساليب في القرآن، ﴿ أفلا يعلمون ﴾، ﴿ أفلا يعقلون ﴾، ﴿ أفلا يتذكرون ﴾، ﴿ أفلا تتفكرون ﴾. هي إذن تدبر، تفكر، تذكر، تعقل، وعلم.
وحين يأتي مخاطبك ليطلب منك أن تستحضر كلمة " تدبر " ؛ فمعنى هذا أنه واثق من أنك لو أعملت عقلك إعمالا قويا لوصلت إلى الحقيقة المطلوبة، لكن الذي يريد أن يغشك لا ينبه فيك وسائل التفتيش، مثل التاجر الذي تدخل عنده لتشتري قماشا، فيعرض قماشه، ويريد أن يثبت لك أنه قماش طبيعي وقوي وليس صناعيا، فيبله لك ويحاول أن يمزقه فلا يتمزق، إنه ينبه فيك الحواس الناقدة، فإذا نبه فيك الحواس الناقدة فمعنى ذلك : أنه واثق من أن إعمال الحواس الناقدة في صالح ما ادعاه، ولو كان قماشه ليس في صالح ما ادعاه لحاول خداعك، لكنه يقول لك : انظر جيدا وجرب.
والحق يقول :﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ والتدبر هو كل أمر يعرض على العقل له فيه عمل فتفكر فيه لتنظر في دليل صدقه، هذه أول مرحلة، فإذا ما علمت دليل صدقه فانظر النتيجة التي تعود عليك لو لم تعملها ؛ و " تتدبر " تعني أن تنظر إلى أدبار الأشياء وأعقابها، فالرسول يبلغك : الإله واحد، ابحث في الأدلة بفكرك، فإذا ما انتهيت إليها آمنت بأن هناك إلها واحدا. وإياك أن تقول إنها مسألة رفاهية أو سفسطة ؛ لأنك عندما تنظر العاقبة ماذا ستكون لو لم تؤمن بالإله الواحد. سيكون جزاؤك النار.
إذن فتدبرت تعني : نظرت في أدبار الأشياء وحاولت أن ترى العواقب التي تحدث منها، وهذه مرحلة بعد التفكر. فالتفكر مطلوب أن تتذكر ما عرفته من قبل إن طرأ عليك نسيان. فالتفكر يأتي أولا وبعد ذلك يأتي التدبر. وأنت تقول مثلا لابنك : لكي يكون مستقبلك عاليا وتكون مهندسا أو طبيبا عليك أن تذاكر وتجتهد، فيفكر الولد في أن يكون ذا مكانة مثل المتفوقين في المهن المختلفة في المجتمع، ويبذل الجهد.
إذن فأول مرحلة هي : التفكر، والثانية هي : التدبر، فإذا غفلت نقول لك : تذكر ما فكرت فيه وانتهيت إليه وتدبر العاقبة، هذه كلها عمليات عقلية : فالتفكير يبدأ بالعقل، والعقل ينظر أيضا في العاقبة ثم تعمل الحافظة لتذكرك بما فات وبما كان في بؤرة الشعور ثم انتقل إلى حاشية الشعور، فإذا كنت قد تعقلت الأمر لذاتك يقال : عقلته. فإن فهمت ما عقله غيرك فقد علمت ما عقله فلان.
إذن فليس ضروريا أن تكون قد انتهيت إلى العلم بعقلك، بل أنت أخذت حصيلة تعقل غيرك، ولذلك عندما ينفي ربنا عن واحد العلم فإنه قد نفى عنه التعقل من باب أولى ؛ ذلك أن العلم يعني قدرته على تعقل قدرات غيره، دون الوصول إلى قوانينها وقواعدها وأصولها، إنه فحسب يعلم كيف يستفيد وينتفع بها، وفي حياتنا اليومية نجد أن الأمي ينتفع بالتليفزيون وينتفع بالكهرباء، أي انتفع بعلم غيره. لكنه لا يتعقل قدرات ذلك العالم. إذن فدائرة العلم أوسع ؛ لأنك تعرف بعقلك أنت. أما في دائرة العلم فإنك تعلم وتفهم ما عقله سواك.
ولذلك فعندما يأتي ربنا ليعرض هذه القضية يقول :﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ١٧٠ ﴾ ( سورة البقرة ).
وفي المعنى نفسه يأتي في آية أخرى عندما يقول لهم :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ١٠٤ ﴾( سورة المائدة ).
في الآية الأولى قال سبحانه :﴿ لا يعقلون ﴾ لأنهم قالوا :﴿ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ﴾ بدون طرد لغيره، وفي الثانية قالوا :﴿ حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ بإصرار على رفض غيره والخضوع لسواه، فقال :﴿ أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ﴾، وسبحانه هنا نفى عن آبائهم العلم الذي هو أوسع من نفي التعقل ؛ لأن نفي التعقل يعني نفي القدرة على الاستنباط. لكنه لا ينفي أن ينتفع الإنسان بما استنبطه غيره.
﴿ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾.. والحق سبحانه وتعالى حينما يحث المستمعين للاستماع الى كلامه وخاصة المخالفين لمنهجه أن يتدبروا القرآن، معناه أنه يحب منهم أن يعملوا عقولهم فيما يسمعون ؛ لأن الحق يعلم انهم لو اعملوا عقولهم فيما يسمعون لانتهوا الى قضية الحق بدون جدال ولكن الذي يجعلهم في مواقف يعلنون الطاعة }فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول }، إن هذا دليل على أنهم لم يتدبروا القرآن، وقوله الحق :﴿ أفلا يتدبرون ﴾ تأتي بعد تلك الآية، كأنها جاءت ودليلها يسبقها، فهم لو تدبروا القرآن لعلموا أن الرسول صادق في البلاغ عن الله وأن هذا كلام حق.
وبالله حين يبيتون في نفوسهم أو يبيتون بليل غير الذي قالوه لرسول الله، فمن الذي قال لرسول الله : إنهم بيتوا هذا ؟ !.
إذن فلو تدبروا مثل هذه لعلموا إن الذي أخبر رسول الله بسرائرهم وتبييتهم ومكرهم إنما هو الله، إذن فرسول الله صادق في التبليغ عن الله، ومادام رسول الله صادقا في التبليغ عن الله، فتعود للآية الأولى﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾، وكل الآيات يخدم بعضها بعضا، فالقرآن حين نزل باللسان العربي شاء الله ألا يجعل كل مستمع له من العرب يؤمن به أولا ؛ لأنهم لو آمنوا به جميعا أولا لقالوا : إيمانهم بالقرآن جعلهم يتغاضون عن تحدي القرآن لهم. لكن يظل قوم من المواجهين بالقرآن على كفرهم، والكافر في حاجة إلى أن يعارض ويعارض. فإذا ما وجد القرآن قد تحداه أن يأتي بمثله، وتحداه مرة أن يأتي بعشر سور من مثله، وتحداه بأن يأتي بأقصر سورة من مثله، هذا هو التحدي للكافر.. ألا يهيج فيه هذا التحدي غريزة العناد ؟ ولم يقل منهم احد كلمة، فما معنى ذلك ؟ معناه : إنهم مقتنعون بأنه لا يمكن أن يصلوا لذلك واستمروا على كفرهم وكانوا يجترئون ويقولون ما يقولون. ومع ذلك فالقرآن يمر عليهم ولا يجدون فيه استدراكا.
كان من الممكن أن يقولوا : إن محمدا يقول القرآن معجز وبليغ وقد أخطأ في كذا وكذا. ولو كانوا مؤمنين لأخفوا ذلك، لكنهم كافرون والكافر يهمه أن يشيع أي خطأ عن القرآن، وبعد ذلك يأتي قوم ليست لهم ملكة العربية ولا فصاحة العربية، ليقولوا إن القرآن فيه مخالفات ! فكيف يتأتى لهم ذلك وليس عندهم ملكة العربية، ولغتهم لغة مصنوعة، وليس لهم ملكة فصاحة، فكيف يقولون : إن القرآن فيه مخالفات ؟ لقد كان العرب الكافرون أولى بذلك، فقد كانت عندهم ملكة وفصاحة وكانوا معاصرين لنزول القرآن، وهم كافرون بما جاء به محمد ولم يقولوا : إن في القرآن اختلافا ! ! هذا دليل على أن المستشرقين الذين ادعوا ذلك يعانون من نقص في اللغة.
ونقول لهم : لقد تعرض القرآن لأشياء ليثبت فصاحته وبلاغته عند القوم الذين نزل لهم أولا. فمنهم من سيحملون منهج الدعوة، ثم حمل القرآن معجزات أخرى لغير الأمم العربية، فمعجزة القرآن ليست فصاحة فقط، وإلا لقال واحد : هو أعجز العرب، فما شأن العجم والرومان ؟ ونقول له : أكل الإعجاز كان في أسلوبه ؟ لا، الإعجاز في أشياء تتفق فيها جميع الألسنة في الدنيا ؛ لأنه يأتي ليثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة خصومه لم يبارح الجزيرة إلا في رحلة التجارة للشام، ولم يثبت أنه جلس إلى معلم، وكلهم يعرف هذا، حتى الغلطة التي أخطئوا فيها، جاء ربنا بها ضدهم فقال :﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ١٠٣ ﴾ ( سورة النحل ).
يقصدون ب :" بشر " هذا غلاما كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه، أو غلاما آخر روميا أو سلمان الفارسي، فأوضح الحق : تعقلوا جيدا، فمحمد لم يجلس إلى معلم، ولم يذهب في رحلات. وبعد ذلك جاء القرآن تحديا لا بالمنطق ولا باللغة ولا بالفصاحة ولا بالبيان فحسب، بل بالأمر الشامل لكل العقول وهو كتاب الكون. ووقائعه وأحداثه التي يشترك فيه كل الناس.
والكون كما نعرفه له حجب، فالأمر الماضي حجابه الزمن الماضي والذي كان يعيش أيامه يعرفه، والذي لم يكن في أيامه لا يعرفه، إذن فأحداث الماضي حجبها الزمن الماضي، وأحداث المستقبل حجزها المستقبل ؛ لأنها لم تقع بعد. والحاضر أمامنا، فيجعل له حاجزا هو المكان، فيأتي القرآن في أساليبه يخرق كل هذه الحجب، ثم يتحدى على سبيل المثال ويقول :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ٤٤ ﴾ ( سورة القصص ).
وسبحانه يقول :﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ﴾ ( من الآية٤٥ سورة القصص ).
وسبحانه يقول :﴿ وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون٤٨ ﴾( سورة العنكبوت ).
وكل " ما كنت " في القرآن تأتي بأخبار عن أشياء حدثت في الماضي. بالله لو كانوا يعلمون أنه علم أو جلس إلى معلم، أكانوا يسكتون ؟ طبعا لا، لأن هناك كفارا أرادوا أي ثغرة لينفذوا منها، وبعد ذلك يأتي القرآن لحجاب الزمن المستقبل ويخرقه، يحدث ذلك والمسلمون لا يقدرون أن يحموا أنفسهم فيقول الحق :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر٤٥ ﴾ ( سورة القمر ).
حتى أن عمر بن الخطاب يقول : أي جمع هذا ؟ وينزل القرآن بآيات تتلى وتسجل وتحفظ.. وتأتي غزوة " بدر " ويهزم الجمع فعلا. وتنزل آية أخرى في الوليد ابن المغيرة الجبار المفترى :﴿ سنسمه على الخرطوم١٦ ﴾( سورة القلم ).
ويتساءل بعضهم : هل نحن قادرون أن نصل إليه ؟ وبعد ذلك تأتي غزوة " بدر " فينظرون أنفه فيجدون السيف قد خرطه وترك سمة وعلامة عليه، فمن الذي خرق حجاب الزمن المستقبل ؟ إنه الله. وليس محمدا، فإذا تدبرتم المسائل حق التدبر لعلمتم أن محمدا ما هو إلا مبلغ للقرآن، وأن الذي قال القرآن هو الإله الذي ليس عنده ماض ولا حاضر ولا مستقبل، بل كل الزمن له، ويأتي القرآن فيقول :﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ﴾ ( من الآية٨ سورة المجادلة ).
هم قالوا في أنفسهم ولم يسمع لهم أحد، ثم ينزل القرآن فيخبر بما قالوه في أنفسهم.. فماذا يقولون إذن ؟ وهم لو تدبروا القرآن لعلموا أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي أخبر رسول الله بما قالوا في أنفسهم.. فهذه الآية﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ جاءت بعد﴿ فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ﴾، إذن فقد فضحوا، فلو كانوا يتدبرون لعلموا أن الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق هو الذي أخبره بما بيتوا، والذين لا يفهمون اللغة يطيرون فرحا باختلاف توهموا أنه موجود بالقرآن، يقولون : إن الحدث الواحد المنسوب إلى فاعل واحد لا ينفي مرة ويثبت مرة أخرى، فإن نفيته لا تثبته، وإن أثبته لا تنفه، لكن القرآن فيه هذا.
وهيئ لهم ذلك في قول الحق :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾ ( من الآية١٧ سورة الأنفال ).
و﴿ وما رميت ﴾ هو ن
إياكم أن تسمعوا أمرا من الأمور فتذيعوه قبل أن تعرضوه على القائد وعلى من رأى القائد أنهم أهل المشورة فيه، فقوله :﴿ وإذا جاءهم أمر من الأمن ﴾ يقصد به أن المسألة تكون في صالحهم﴿ أو الخوف ﴾ أي من عدوهم﴿ أذاعوا به ﴾.
كلمة " أذاعه " غير كلمة " أذاع به "، ف " أذاعه " يعني " قاله "، أما " أذاع به " فهي دليل على أنه يقول الخبر لكل من يقابله، وكان الخبر بذاته هو الذي يذيع نفسه، فهناك أمر تحكيه وتنتهي المسألة، أما " أذاع به " فكأن الإذاعة مصاحبة للخبر وملازمة له تنشره وتخرجه من طي محدود إلى طي غير محدود.. أو من آذان تحترم خصوصية الخبر إلى آذان تتعقب الخبر، ثم يقول :﴿ ولو ردوه إلى الرسول ﴾ فالرسول أو من يحددهم الرسول صلى الله عليه وسلم هم الذين لهم حق الفصل فيما يقال وما لا يقال :﴿ لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ والاستنباط مأخوذ من " النبط " وهو ظهور الشيء بعد خفائه، واستنبط أي استخرج الماء مجتهدا في ذلك والنبط هو أول مياه تخرج عند حفر البئر فنقلت الكلمة من المحسات في الماء إلى المعنويات في الأخبار. وصرنا نستخدم الكلمة في المعاني، وكذلك في العلوم. مثلما تعطي الطالب مثلا تمرينا هندسيا، وتعطيه معطياته، ثم يأخذ الطالب المعطيات ويقول بما أن كذا= كذا.. ينشأ منه كذا، فهو يستنبط من موجود معدوما.
وهنا يوضح الحق لهم : إذا سمعتم أمرا يتعلق بالأمن أو أمرا يتعلق بالخوف، فإياكم أن تذيعوه قبل أن تعرضوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تعرضوه على أولياء الأمر الذين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم بعض السلطة فيه ؛ لأنهم هم الذين يستنبطون.. هذا يقال أو لا يقال.
ويقول الحق :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ كأنهم أذاعوا بعض أحداث حدثت، لكنهم نجوا منها بفضل من الله سبحانه وتعالى وبعض إلهاماته فكان مما أذاعوا به ما حدث عندما عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم العزم على ان يذهب الى مكة فاتحا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها.. أي أنه لا يقول الوجهة الحقيقية كي يأخذ الخصوم على غرة، وعندما يأخذ الخصوم على غرة يكونون بغير إعداد، فيكون ذلك داعيا على فقدانهم قدرة المقاومة.
وانظروا إلى الرحمة فيما حدث في غزوة الفتح، فقد أمر رسول الله المسلمين بالتجهيز لغزو مكة حتى إذا ما أبصر أهل مكة أن رسول الله جاء لهم بجنود لا قبل لهم بها ؛ يستكينون ويستسلمون فلا يحاربون وذلك رحمة بهم. وكان " حاطب بن أبي بلتعة " قد سمع بهذه الحكاية فكتب كتابا لقريش بمكة، وأخذته امرأة وركبت بعيرها وسارت. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلى ومن معه وقال لهم : إن هناك امرأة في روضة خاخ معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بقدومنا إلى مكة، فذهبوا إلى الظعينة فأنكرت، فهددها سيدنا علي واخرج من عقاصها أي من ضفائر شعرها الكتاب، فإذا هو كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال له : أهذا كتابك ؟. قال : نعم يا رسول الله، فقال : وما دعاك إلى هذا ؟ قال : والله يا رسول الله لقد علمت أن الله ناصرك، وان كتابي لن يقدم ولن يؤخر. وأنا رجل ملصق في قريش ولم أكن من أنفسهم ليس لي بها عصبية ولي بين أظهرهم ولد وأهل فأحببت أن أتقدم إلى قريش بيد تكون لي عندهم يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال له النبي : قد صدقت.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يبني القضايا الإيمانية وخاصة ما يتعلق بأمر المؤمنين مع أعدائهم على الصدق، ولا يستقيم الأمر أن يفشي ويذيع كل واحد الكلام الذي يسمعه، بل يجب أن يردوا هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر لأنهم هم الذين يستنبطون ما يناسب ظرفهم من الأشياء، ربما أذنوا لكم في قولها، أو أذنوا بغيرها إذا كان أمر الحرب والخداع فيها يستدعي ذلك. وهذا يدل على أن الحق سبحانه وتعالى وإن كان قد ضمن النصر والغلبة لهم وأوضح : أنا الوكيل وأنا الذي أنصر ولا تهابوهم، إلا أنه سبحانه يريد أن يأخذ المؤمنون بالأسباب.. وبكفايتهم به على أنه هو الناصر..
﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ وهذا يدل على أن هذه المسألة قد حدثت منهم ولكن فضل الله هو الذي سندهم وحفظهم فلم يجعل لهذه المسألة مغبة او عاقبة فيما يسوؤهم. ﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ ونعرف أنه كلما جاء فعل من الأفعال وجاء بعده استثناء. فنحن ننظر : هل هذا الاستثناء من الفاعل أو من الفعل ؟.. وهنا نجد قوله الحق :﴿ لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ فهل كان إتباع الشيطان قليلا أي اتبع الشيطان قلة وكثيرون لم يتبعوا الشيطان. فهل نظرت إلى القلة في الحدث أو في المحدث للحدث ؟. فإن نظرت إلى القلة في الحدث فيكون : لاتبعتم الشيطان إلا إتباعا قليلا تهتدون فيه بأمر الفطرة، وإن أردت القلة في المحدث :﴿ لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ أي إلا نفرا قليلا منكم سلمت فطرتهم فلا يتبعون الشيطان.
فقد ثبت أن قوما قبل أن يرسل ويبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا ليفكروا فيما عليه أمر الجاهلية من عبادة الأوثان والأصنام، فلم يرقهم ذلك، ولم يعجبهم، فمنهم من صد عن ذلك نهائيا، ومنهم من ذهب ليلتمس هذا العلم من مصادرة في البلاد الأخرى، فهذا " زيد بن عمرو بن نفيل "، وهذا " ورقة بن نوفل " الذي لم يصدق كل ما عرض عليه، و " أمية بن أبي الصلت "، و " قس بن ساعدة "، كل هؤلاء بفطرتهم اهتدوا إلى أن هذه الأشياء التي كانت عليها الجاهلية لا تصح ولا يستقيم أن يكون عليها العرب فهؤلاء كانوا قلة وكانوا يسمون بالحنفاء والكثير منهم كان يعبد الأصنام ثم أكرمهم الله ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن فقول الحق :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ أي لأن الحق سبحانه وتعالى بفضله ورحمته لن يدع مجالا للشيطان في بعض الأشياء.. بل يفضح أمر الشيطان مع المنافقين. فإذا ما فضح أمر الشيطان مع المنافقين أخذكم إلى جانب الحق بعيدا عن الشيطان، فتكون هذه العملية من فضل الله ورحمته.
﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ٨٤ ﴾.
وحين ترى جملة فيها الفاء فاعلم أنها مسببة عن شيء قبلها، وإذا سمعت مثلا قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ثم أماته فأقبره٢١ ﴾( سورة عبس ).
ومعنى ذلك أن القبر جاء بعد الموت، فإذا وجدت " الفاء " فاعرف أن ما قبلها سبب فيما بعدها، ويسمونها " فاء السببية ".
فما الذي كان قبل هذه الآية لتترتب عليه السببية في قول الله سبحانه لسيدنا رسول الله :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ﴾ نقول : مادام الأمر جاء " فقاتل "، فعلينا أن نبحث عن آيات القتال المتقدمة، ألم يقل قبل هذه الآية :﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ٧٤ ﴾( سورة النساء ).
والآية الثانية :﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء ﴾ ( من الآية ٧٥ سورة النساء ).
إذن أمر القتال موجود من الله لمن ؟ لرسول الله، والرسول يبلغ هذا الأمر للمؤمنين به، والرسول يسمعه من الله مرة واحدة ؛ لذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أول من يصدق أمر الله في قوله :﴿ فليقاتل في سبيل الله ﴾. ثم ينقلها إلى المؤمنين، فمن آمن فهو مصدق لرسول الله في هذا الأمر. فالرسول هو أول منفعل بالقرآن فإذا قال الحق :﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا ﴾ ( من الآية٧٤ سورة النساء ).
أو عندما يقول له الحق :﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ﴾ ( من الآية٧٥ سورة النساء ).
ومادام الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول منفعل بأوامر الله، فإذا جاءه الأمر فعليه أن يلزم نفسه أولا به، وإن لم يستمع إليه أحد وإن لم يؤمن به أحد أو لم يتبعه أحد، وهذا دليل على أنه واثق من الذي قاله له :﴿ ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله ﴾ ومادام صلى الله عليه وسلم هو أول منفعل فعليه اولا نفسه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بإقباله على القتال وحده، إنما يدل من سمع القرآن على أن الرسول الذي نزل عليه هذا القرآن، أول مصدق، ومحمد لن يغش نفسه. فقبل أن يأمر المؤمنين أن يقاتلوا، يقاتل هو وحده. ولذلك نجد أن سيدنا أبا بكر الصديق رضوان الله عليه حينما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وحدثت الردة من بعض العرب، وأصر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقاتل المرتدين وقال : لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لجالدتهم عليه بالسيف. وحاول بعض الصحابة أن يثنى أبا بكر الصديق عن عزمه فقال : والله لو عصت يميني أن تقاتلهم لقاتلتهم بشمالي.
إذن فقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ فقاتل في سبيل الله ﴾ ينبهنا إلى أن هناك فرقا بين البلاغ وبين تنفيذ المبلغ. ومادام الرسول صلى الله عليه وسلم قد سمع من الله، فهو ملزم بتطبيق الفعل أولا، وبعد ذلك يبلغ الرسول المؤمنين، فمن استمع إليه فعل فعله.
وقول الحق :﴿ لا تكلف إلا نفسك ﴾ هو تكليف بالفعل لا بالبلاغ فقط، فالرسول يبلغ، لكن أن يفعل المؤمنون ما بلغهم به عن الله أو لا يفعلوا فهذا ليس من شأنه ولا هو مكلف به. ولكن على الرسول ان يلزم ويكلف نفسه ليقاتل في سبيل الله. ﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ﴾.
أمعنى ذلك أن يترك الرسول الذين آمنوا به لنفوسهم ؟. لا. فالحق قد أوضح : عليك أيضا أن تحرضهم على القتال فلا تتركهم لنفوسهم :﴿ وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ﴾ ومعنى " حرض " مأخوذ من " الحرض " وهو ما به إزالة العوائق وما ينظف الأيدي والملابس مما يرين عليها ويعلوها من الوسخ والدنس، فعليك يا رسول الله أن تنظر في أمر صحابتك وإتباعك وتعرف لماذا لا يريدون أن يقاتلوا، وعليك أن تنفض عنهم الموانع وتزيل العوائق التي تمنعهم أن يقاتلوا.
﴿ وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ﴾، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لرسوله : إنك لا تنصر بالكثرة المؤمنة بك، ولكن المؤمنين هم ستر ليد الله في النصر، فالنصر منه سبحانه :﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ ( من الآية١٢٦ سورة آل عمران ).
وورود كلمة " بأس " في الآية التي نحن بصددها، يراد بها القوة والشدة في الحرب، ويراد بها المكيدة، ويراد بها هزيمة الأعداء. فكلمة " بأس " فيها معان بشريتك : كيف أقاتل هؤلاء وحدي فإن القوم المؤمنين معك وإذا ما دخلوا القتال فهم لا ينصرونك ولكنهم يسترون يد الله في النصر :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾ ( من الآية١٤ سورة التوبة ).
ولماذا لا ينصر الله المؤمنين والرسول مباشرة دون قتال لغيرهم من الكفار والمشركين ؟. لأن النصر لو جاء بسبب غيبي من الحق ربما قالوا ظاهرة طبيعية قد نشأت.. ولكن الحق يريد أن يظهر أن القلة المؤمنة هي التي غلبت، فالمؤمن يقبل على الأسباب ولا ينسى المسبب، فحينما نظر المسلمون إلى الأسباب فقط في " حنين "، وقال بعضهم : لن نهزم عن قلة فنحن كثير، هنا ذاق المسلمون طعم الهزيمة أولا، وبعد أن أعطاهم الحق الدرس التأديبي أولا.. نصرهم ثانيا. والحق يقول :﴿ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ﴾ ( من الآية ٢٥ سورة التوبة ).
وهذا لفت للمؤمنين أن يكونوا مع الأسباب ويتذكروا المسبب دائما ؛ لأن الأسباب إنما تأتي فقط لإثبات أن الله مع المؤمنين فلو أن المؤمنين انتصروا بأي سبب غيبي آخر لقال الأعداء : إن هذا الذي حدث هو ناتج ظاهرة طبيعية. والفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة المادية في الخصوم ما حدث لسيدنا إبراهيم عليه السلام. فلم يرد الحق مجرد إنقاذ سيدنا إبراهيم من النار ؛ لأن الأمر لو كان كذلك لما مكن أعداء إبراهيم عليه السلام من القبض عليه.. ولو فعل الحق ذلك لقال أعداء سيدنا إبراهيم : آه لو كنا قد أمسكنا به، ولكان ذلك فرصة لكفرهم.
ولكن الحق يجعلهم يمسكون بإبراهيم عليه السلام : وترك النار تتأجج، ويقطع سبحانه الأسباب :﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم٦٩ ﴾ ( سورة الأنبياء ).
هذه هي النكاية، فلو جاء إنقاذ إبراهيم بطريق غير ذلك من الأمور الغيبية غير المادية المحسة، لوجد خصوم إبراهيم المخارج لتبرير هزيمتهم.
ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يوضح لرسوله : يا محمد انا الذي أرسلتك، ولم أكلك إلى نصرة من يؤمن بك، وإنني قادر على نصرك وحدك بدون شيء، ولكن أردت لأمتك التي آمنت بك أن ينالها يمن الإيمان بك فيستشهد بعضها، فتثاب الأمة، وتنتصر فتعلو وترتفع هامتها على العرب، فلو كان الأمر مقصورا على نصر رسول الله لنصره الله دون حرب أو جهاد.
وقول الحق سبحانه :﴿ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ﴾ أي أنه سبحانه قادر على أن يوقف ويمنع حرب وكيد الكافرين فيبطله ويهزمهم. وهذا ما حدث، فبعد موقعة " أحد " التي ماعت نهايتها ولا يستطيع أحد أن يحدد من المنتصر فيها ومن المهزوم ؛ لأن رسول الله قد انتصر أولا، ثم خالف الرماة أمر رسول الله، فحدث خلل في صفوف المقاتلين المسلمين، ولكن لم يبق المحاربون من قريش في مكان المعركة، وأيضا لم يتجاوزوها إلى داخل المدينة، ولذلك لم تنته معركة أحد بنصر أحد. وبعد ذلك هددوا بأن الميعاد في بدر الصغرى في العام القادم.
ومر العام، وجاء الميعاد، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج، فلما طالب بالخروج وجد كسلا من القوم، ولم يطعه إلا سبعون رجلا، وخرجوا إلى المكان المحدد. وأثبتوا أنهم لم يخافوا الموقف، وقذف الله الرعب في قلب أبي سفيان وقومه فلم يخرجوا. إذن فربنا قادر أن يكف بأس الذين كفروا، فقد أقام رسول الله في المكان، وجلس مع المقاتلين وكان معهم تجارة وباعوها وغنم المسلمون الكثير من هذه التجارة.
﴿ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ﴾ وكلمة " عسى " في اللغة تأخذ أوضاعا متعددة، ف " عسى " معناها في اللغة الرجاء، كقول واحد : عسى أن يجيء فلان. أي : أرجو أن يجيء فلان. أو قول واحد مخاطبا صاحبا له : عسى أن يأتيك فلان بخير. وهذا رجاء أن يأتي فلان إلى فلان ببعض الخير، وقد يأتي فلان بالخير وقد لا يأتي، لكن الرجاء قد حدث.
وقد يقول واحد لصاحبه : عسى أن آتيك أنا بخير. هنا يكون الرجاء أكثر قوة ؛ لان الرجاء في الأولى في يد واحد آخر غير المتحدث، أما الخير هنا فهو في يد المتحدث. لكن أيضمن المتحدث أن توجد له القوة والوجود حتى يأتي بالخير لمن يتحدث إليه ؟.
إنه صحيح ينوي ذلك ولكنه لا يضمن أن توجد عنده القدرة.
وإذا قال قائل : عسى الله أن يأتيك بالفرج. هذه هي الأوغل في الرجاء. لكن هل من يقول ذلك واثق من أن الله يجيب هذا الرجاء ؟. قد يجيب الله وقد لا يجيب وفقا لإرادة الله لا لمعايير من يرجو أو المرجو له. أما عندما يقول الحق عن نفسه :﴿ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ﴾ فهذا هو القول البالغ لنهايات كل الرجاءات. ف " عسى " بمراحلها المختلفة تبلغ قمتها عندما يقول الحق ذلك.
وهكذا نرى مراحل " عسى ". أن يقول قائل : عسى أن يفعل لك فلان خيرا. هذه مرحلة أولى في الرجاء، وأن يقول قائل : عسى أن آتيك أنا بخير. هذه مرحلة أقوى في الرجاء، فقد يحب الإنسان أن يأتي بالخير لكن قد تأتي له ظروف تعوقه عن ذلك. وأن يقول قائل : عسى الله أن يفعل كذا، هذه مرحلة أكثر قوة ؛ لأن الخير فيها منسوب إلى القوة العليا، لكن هذا الرجاء قد يجيبه الله وقد لا يجيبه.
والأقوى على الإطلاق هو أن يقول الله عن نفسه :﴿ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ﴾
و " عسى " بالنسبة لله رجاء محقق لأنه إطماع من الله عز وجل، والإطماع منه واجب تحققه لأنه سبحانه هو الذي يحثنا ويدفعنا إلى الطمع في فضله لأنه كريم، وهو القائل سبحانه :﴿ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ﴾ لأن أصحاب البأس من الخلق هم أهل أغيار، فالقوي منهم قد يضعف أو يصاب ببعض من الرعب فتخلخل عظامه. أما واهب الفعل وواهب القوى لخلقه فهو القادر على أن يفعل فهو الأشد بأسا وهو سبحانه أشد تنكيلا.
وساعة يسمع الإنسان أي شيء من مادة " نكل " فعليه أن يعرف أنها مأخوذة من " النكل " وهو القيد. وعندما يوقع الحاكم مثلا العذاب على مرتكب لجريمة، والشخص الذي يرى هذا العذاب يخاف من ارتكاب مثل هذه الجريمة، فكان الحاكم قد قيدهم بالعذاب الذي أنزله بأول مجرم أن يفعلوا مثل فعله. ولذلك يقال على ألسنة الحكام : سأجعل من فلان نكالا. أي أن القائل سيعذب فلانا، بحيث يكون عبرة لمن يراه فلا يرتكب جريمة مثلها أبدا خوفا من أن تنزل به العقوبة التي نزلت ولحقت بمن فعل الجريمة.
إذن فالتنكيل والنكال والنكل كلها راجعة إلى القيد الذي يمنع إنسانا أن يتحرك نحو الجريمة، أو قيد يمنع الإنسان أن يرجع إلى الجريمة التي فعلها أولا، أو أن هذا القيد وهو العذاب الذي عوقب به مرتكب الجريمة يكون ماثلا أمام الناس يحذرهم من الوقوع فيها كي لا تنالهم عقوبتها ونكالها.
إن الحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق ووزع عليهم فضل المواهب فلا يوجد واحد قد جمع كل ا
﴿ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا ٨٥ ﴾.
وما هي الشفاعة الحسنة ؟ الذين من الريف يعرفون مسألة " الشفعة " في العرف. فيقال : فلان أخذ هذه الأرض بالشفعة. أي أنه بعد أن كان يملك قطعة واحدة من الأرض، اشترى قطعة الأرض المجاورة لتنضم لأرضه، فبدلا من أن تكون له أرض واحدة صارت له أرضان.
وعندما يأتي واحد لشراء أرض ما، فالجار صاحب الأرض المجاورة يقول : انا أدخل بالشفعة، أي أنه الأولى بملكية الأرض. إذن فمعنى يشفع، هو من يقوم بتعدية أثر الموهبة منه إلى غيره من إخوانه المؤمنين ولهذا فإنه يكون له نصيب منها.
فالشفاعة الحسنة هي التوسط بالقول في وصول إنسان إلى منفعة دنيوية أو أخروية أو إلى الخلاص من مضرة وتكون بلا مقابل. إذن فكل واحد عنده موهبة عليه أن يضم نفسه لغير الموهوب، فبعد أن كان فردا في ذاته صار شفعا. ولذلك يقال : فلان سيشفع لي عند فلان، أي أنه سيضم صوته لصوت المستعين به. والحق سبحانه وتعالى فيما يرويه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله قال لسيدنا داود : إن الرجل ليعمل العمل الواحد أحكمه به في الجنة.
أي أن رجلا واحدا يؤدي عملا ما، فيعطيه الله فضلا بأن يقوم بتوزيع الأماكن على الأفراد في الجنة، وكأنه وكيل في الجنة، أي أنه لا يأخذ منزلا له فقط، ولكنه يتصرف في إعطاء المنازل أيضا، فتساءل داود : يا رب ومن ذلك ؟ قال سبحانه : مؤمن يسعى في حاجة أخيه يحب أن يقتضيها قضيت أو لم تقض.
قال صلى الله عليه وسلم :( من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكافه عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين ).
ذلك لأن العبد الذي سعى في قضاء حاجة أخيه يكون قد أدى حق نعمة الله فيما تفضل به عليه، ويكون من أثر ذلك أنه لا يسخط أو يحقد غير الواجد للموهبة على ذي الموهبة. وبذلك فسبحانه يزيل الحقد من نفس غير الموهوب على ذي الموهبة ؛ فغير الموهوب يقول : إن موهبة فلان تنفعني أنا كذلك، فيحب بقاءها عنده ونماءها لديه.
ويقول الحق :﴿ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ﴾ ثم يأتي الحق بالمقابل، فهو سبحانه لا يشرع للأخيار فقط، ولكنه يضع الترغيب للأخيار ويضع الترهيب للأشرار، فيقول :﴿ من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ﴾.
ولنر المخالفة والفارق بين كلمة " النصيب " وكلمة " الكفل ". كلمة " النصيب " تأتي بمعنى الخير كثيرا. فعندما يقول واحد : أنت لك في مالي نصيب. هذا القول يصلح لأي نسبة من المال. أما كلمة " كفل " فهي جزء على قدر السيئة فقط. وهذا هو فضل من الله، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وهذا نصيب كبير. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها.
وهذه الاية قد جاءت بعد تحريض الرسول للمؤمنين على القتال أي انك يارسول الله مطالب بان تضم لك اناسا يقاتلون معك فتلك شفاعة حسنة سوف ينالون منها نصيبا كبيرا وثوابا جزيلا.
أما قول الحق :﴿ من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ﴾ أي يكون له جزء منها، أي يصيبه شؤم السيئة، أما الجزاء الكبير على الحسنة فيدفع إلى إشاعة مواهب الناس لكل الناس. ومادامت مواهب الناس مشاعة لكل الناس فالمجتمع يكون متساندا لا متعاندا، ويصير الكل متعاونا صافي القلب، فساعة يرى واحد النعمة عند أخيه يقول :" سيأتي يوم يسعى لي فيه خير هذه النعمة ".
ولذلك قلنا : إن الذي يحب أن تسرع إليه نعم غيره فليحب النعم عند أصحابها. فإنك أيها المؤمن إن أحببت نعمة عند صاحبها جاءك خيرها وأنت جالس. وإذا ما حرمت من آثار نعمة وهبها الله لغيرك عليك فراجع قلبك في مسألة حبك للنعمة عنده، فقد تجد نفسك مصابا بشيء من الغيرة منها او كارها للنعمة عنده، فتصير النعمة وكأنها في غيرة على صاحبها، وتقول للكاره لها : إنك لن تقربني ولن تنال خيري ".
ويختم الحق الآية :﴿ وكان الله على كل شيء مقيتا ﴾ جاء هذا القول بعد الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة، وفي ذلك تنبيه لكل العباد : إياكم أن يظن أحدكم أن هناك شيئا مهما صغر يفلت من حساب الله، فلا في الحسنة سيفلت شيء، ولا في السيئة سيضيع شيء. وأخذت كلمة " مقيتا " من العلماء أبحاثا مستفيضة. فعالم قال في معناها : إن الحق شهيد، وقال آخر :﴿ إن الحق حسيب ﴾، وقال ثالث : إن " مقيتا " معناها " مانح القوت " ورابع قال :" إنه حفيظ " وخامس قال :" إنه رقيب ".
ونقول لهم جميعا : لا داعي للخلاف في هذه المسألة، فهناك فرق بين تفسير اللفظ بلازم من لوازمه وقد تتعدد اللوازم، فكل معنى من هذه المعاني قد يكون صحيحا، ولكن المعنى الجامع هو الذي يكون من مادة الكلمة ذاتها. و " مقيت " من " قاته " أي أعطاه القوت، ولماذا يعطيهم القوت ؟ ليحافظ على حياتهم، فهو مقيت بمعنى أنه سبحانه يعطي القوت ليظل الإنسان حيا، فهو مشاهد له فلا يغيب المخلوق عن خالقه لحظة، وبما أنه يعطي القوت للإنسان على قدر حاجته فهو حسيب. وبما أنه يرقب سلوك الإنسان فهو يجازيه.
إذن كل هذه المعاني متداخلة ومتلازمة ؛ لذلك لا نقول اختلف العلماء في هذا المعنى، ولكن لنقل إن كل عالم لاحظ ملحظا في الكلمة، فالذي لاحظ القوت الأصلي على صواب، فلا يعطي القوت الأصلي إلا المراقب لعباده دائما، فهو شهيد، ولا يعطي أحدا قوتا إلا إذا كان قائما على شأنه فهو حسيب. وسبحانه لا يقيت الإنسان فقط ولكن يقيت كل خلقه، فهو يقيت الحيوان ويلهمه أن يأكل صنفا معينا من الطعام ولا يأكل الصنف الآخر.
إننا إذا رأينا العلماء ينظرون إلى " مقيت " من زوايا مختلفة فهم جميعا على صواب، سواء من جعلها من القوت أو من الحفظ أو من القدرة أو من المشاهدة أو من الحساب، وكل واحد إنما نظر إلى لازم من لوازم كلمة " مقيت " وسبحانه يقيت كل شيء، فهو يقيت الإنسان والحيوان والجماد والنبات.
ونجد علماء النبات يشرحون ذلك ؛ فنحن نزرع النبات، وتمتص جذور النبات العناصر الغذائية من الأرض، وقبل أن يصبح للنبات جذور، فهو يأخذ غذاءه من فلقتي الحبة التي تضم الغذاء إلى أن ينبت لها جذر، وبعد أن يكبر جذر النبات فالفلقتان تصيران إلى ورقتين، وسبحانه على كل شيء مقيت، ويقول العلماء من بعد ذلك : إن الغذاء قد امتصه النبات بخاصية الأنابيب الشعرية. أي أن النبات يمتص الغذاء من التربة بواسطة الجذور الرفيعة التي تمتص الماء المذاب فيه عناصر الغذاء. وفتحة الأنبوبة في الأنابيب الشعرية لا تسع إلا مقدار الشعرة، وعندما توضع في الإناء فالسائل يصعد فيها ويرتفع الماء عن مستوى الحوض، وعندما تتوازى ضغوط الهواء على مستويات الماء فالماء لا يصعد.
ومثال ذلك : عندما نأتي بماء ملون ونضعه في إناء، ونضع في الإناء الأنابيب الشعرية، فالسائل الملون يصعد إلى الأنابيب الشعرية، ولا تأخذ أنبوبة مادة من السائل، وتترك مادة بل كل الأنابيب تأخذ المادة نفسها. لكن شعيرات النبات تأخذ من الأرض الشيء الصالح لها وتترك الشيء غير الصالح. وهو ما يقول عنه علماء النبات " ذلك هو الانتخاب الطبيعي ". ومعنى الانتخاب هو الاختيار، والاختيار يقتضي عقلا يفكر ويرجح، والنبات لا عقل له، ولذلك كان يجب أن يقولوا إنه " الانتخاب الإلهي "، فالطبيعة لا عقل لها ولكن يديرها حكيم له مطلق العلم والحكمة والقيومية.
وسبحانه يقول عن ذلك :﴿ يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾ ( من الآية ٤ سورة الرعد ).
فالفلفل يأخذ المادة المناسبة للحريفية، والقصب يأخذ المادة التي تصنع حلاوته، والرمان يأخذ المادة الحمضية. هذا هو الانتخاب الإلهي.
﴿ وكان الله على كل شيء مقيتا ﴾ وساعة تسمع﴿ كان الله ﴾ فإياك أن تتصور أن ل " كان " هنا ملحظا في الزمن، فعندما نقول بالنسبة للبشر " كان زيد غنيا " فزيد من الأغيار وقد يذهب ثراؤه. لكن عندما نقول﴿ كان الله ﴾ فإننا نقول﴿ كان الله ومازال ﴾، لأن الذي كان ويتغير هو من تدركه الأغيار. وسبحانه هو الذي يغير ولا يتغير، وموجود منذ الأزل وإلى الأبد. وحين أوضح لنا سبحانه الشفاعة وأمرنا أن يعدى الواحد منا مواهبه إلى غيره حتى تتساند قدرات المجتمع لأنه يربب الفائدة للعبد المؤمن ويربيها للجميع.
﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا٨٦ ﴾.
الحق هنا يريد أن يربب معنى الحياة. فما معنى :" حييتم " ؟ الكلام السطحي الأولى فيها : إذا حياك واحد وقال لك :" السلام عليكم " فعليك ان ترد السلام. وكان العرب قديما يقولون : حياك الله. وبعد أن جاء الإسلام جعل التحية في اللقاء هي السلام :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة الأحزاب ). أو كما قال الحق في موقع آخر :﴿ فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله ﴾ ( من الآية ٦١ سورة النور ). ولنفهم معنى كلمة " حياك ". مادة الكلمة هي " الحاء "، و " الياءان "، ومنها كلمة " حياة "، التي منها حياتنا. والحياة إذا نظرنا إليها قد تأخذ معنى سطحيا عند الناس وهو ما نشأ عنه الحس الحركي وهي أول ظاهرة فينا، وبعد ذلك في الحيوان، وإن ارتقيت في الفهم تجد أن كلمة " الحياة " تنتظم كل أجناس الوجود حتى الجماد، لكن الإنسان لا يتعرف إلى الحياة إلا في المظهر الحسي والحركي، ولكن لكل كائن حياة تناسبه.
وعندما كانوا يعلموننا في المدارس علم المغناطيسية كنا نرى تجربة المغناطيس ونأتي بقضيب مغناطيسي، ثم نأتي ببرادة الحديد، ونسير به اتجاه واحد وذلك حتى نرتب الجزئيات ترتيبا يتناسب مع اتجاه المغناطيسية في القضيب الحديدي. هذا القضيب الذي نراه مادة جامدة في نظرنا، ولكن توجد فيها ذرات دون إدراك الإنسان تتكيف بحركة خاصة بها، ويعاد ترتيب السالب منها والموجب ولا توجد قدرة عند المشاهد لها كي يدرك حركتها.
وحتى يقربها المدرسون إلى ذهن التلاميذ، جاءوا بأنبوبة زجاجية ووضعوا فيها برادة الحديد وجاءوا بالقضيب الممغنط ومرروه بجانب البرادة، فرأى التلاميذ البرادة وهي تتقافز إلى أن تستقر، وهنا يتعلم التلاميذ أن برادة الحديد غير الممغنطة عندما يمر عليها القضيب الممغنط في اتجاه واحد فذراتها تترتب على أساس واضح، حتى تصير ممغنطة.
وهذا دليل الحس ؛ فقد انقلبت السوالب في جهة والموجبات في جهة.. فالقضيب المغناطيسي له حركة ولكننا لا ندرك حسه ولا حركته لأننا لا نملك المقاييس اللازمة لذلك.
ومثال آخر : لنفترض أننا نتحرك وجاءت طائرة من أعلانا والتقط صورة لنا. وعندما يأخذون الصورة من قريب، فهم يرون الحركة، لكن كلما ابتعدت الطائرة فنحن لا نرى الحركة حتى تصير نقطة بعيدة وكأنها ثابتة. وهي ليست ثابتة، وإنما هي متحركة بصورة دقيقة جدا لدرجة أنها لا تدرك. فكل شيء إذن فيه حياة خاصة تناسبه، وكل شيء له الحس والحركة الخاصة به. وعندما نأتي للقرآن، نرى كيف عالج هذه القضية فيقول :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ ( من الآية ٨٨ سورة القصص ).
استثنى القول وجه الله. أي ذاته، فكل شيء ما عداه هالك.
ومعنى " هالك " أي ليس فيه حياة، وما دام كل شيء يهلك فهذا دليل أن في كل شيء حياة، حتى يأتي الإذن من الحق أن تذهب الحياة من كل شيء إلا وجهه سبحانه، وقد يتساءل إنسان ومن الذي قال : إن كلمة " هالك " تعني ليس فيه حياة ؟. نقول : إن القرآن حين يتعرض لقضية لا يقسم العلوم إلى أبواب ولكنه يضع في كل آية جزئية تشرح لنا ما خفي علينا في جزئية أخرى كي نفهم أن القرآن متكامل، فيقول الحق :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ﴾ ( من الآية٤٢ سورة الأنفال ). فيكون الهلاك ضد الحياة.
ونحن إذا ما نظرنا إلى الصناعات التي نصنعها، وليكن البلاستيك مثلا، اننا نصنع منه أواني للغسيل أو لخلافه، وأول ما نشتريه للاستعمال نجده زاهي اللون، وبعد استعماله لفترة يزول عنه البريق ويصبح شاحب اللون، فما الذي حدث له ؟. لقد تغير. ما الذي أحدث التغيير ؟. يقال : الاستعمال وأشعة الشمس وغير ذلك. إذن ففيه حس لأنه تأثر وحركة لأنه تغير، وكذلك الأحجار الكريمة والمرمر والرخام وغيرها يقدرون عمرها بمئات السنين وأحيانا بآلاف السنين، وكلما طال عمرها تغير لونها من الحياة والتفاعلات.
وعندما نمسك ورقة ونضعها تحت المجهر فإننا نرى عددا هائلا من الغرف الصغيرة، ولا حصر لهذه الغرف، ويقول المؤمن :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾( من الآية١٤ سورة المؤمنون ).
فكل شيء في الوجود له حياة تناسبه، إذ استقريتها وتتبعتها بدقة واستطعت ان توجد الآلات التي تستنبط والتي تساعد على الإدراك فإنك ترى الحركة وتشاهدها بالحس.
إلا أن الحياة بالنسبة لأرقى الأجناس وهو الإنسان المنتفع بكل كائن حي في الكون، هذه حياة تنتهي في ميعاد مجهول بالنسبة للإنسان معلوم بالنسبة لله. وأراد الله أن يكلفه تكليفا إن استمع إليه ونفذه فهو سبحانه يعطيه حياة لا تنتهي. وعندما نقيس الحياة التي لا تنتهي بالحياة التي تنتهي، فأي منهما جديرة بان تسمى حياة ؟. إنها الحياة الأخرى التي لا تنتهي، ولذلك يقول الحق :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ﴾ ( منة الآية ٦٤سورة العنكبوت ).
هذه هي الحياة الحقة، وإلا فما قيمة هذه الحياة الدنيا التي تهددك فيها الآفات والآلام والاضطرابات والأسقام والأمراض، وبعد ذلك تنتهي، فيوضح الحق : خذ حياة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فهذه هي الحياة حقا، ولذلك فالحق عندما تعرض لهذه المسألة أوضح : إياكم أن تعتقدوا أن هذه الحياة الدنيا هي التي أريدها لكم، أنا أريد لكم حياة أخلد من هذه، ولذلك قال :﴿ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾ ( من الآية٢٤ سورة الأنفال ).
هو يخاطبهم إذن فهم أحياء بالقانون المتعارف عليه، وأنهم إن لم يستجيبوا إلى ما دعاهم إليه الحق والرسول لن يأخذوا لونا أرقى من الحياة، وهي حياة لا تهددها الآفات ولا الأثقال ولا الأمراض ولا الفناء، إنها الحياة الحقة، ولذلك يسميها الحق " الروح " لأنها تحرك الجسم وتعطيه حياة وإن كانت تنتهي فيقول :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ﴾ ( من الآية ٧٢ سورة ص ). هذه أولى مراحل الحياة الممنوحة للمؤمن والكافر. ويسمى سبحانه الحياة الأكبر منها والتي لا تنتهي يسميها الحق( روحا ) أيضا :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ﴾( من الآية ٥٢ سورة الشورى ). وهذه هي التي سوف تعطي الحياة الأرقى. الأولى اسمها " روح " تعطي حياة فانية. والثانية هي " روح " أيضا، إنها ما أوحى الله به، لأن الناس إذا عملوا به يحيون حياة دائمة خالية من الشقاء والكدر. إذن فقوله :﴿ إذا دعاكم لما يحييكم ﴾ هي دعوة إلى الحياة الخالدة، والحياة الأبدية السعيدة في الآخرة مرهونة بأن يلتزم الإنسان منهج الله في حياته، وإن كانت منتهية.
والحياة الدنيا يرى الإنسان فيها الأغيار والأسقام والمهيجات، فإذا جاء له من يطمئنه ومن ينفى عنه القلق والخوف فكأنه يحسن حياته. وكلمة " حياك الله " أو " السلام عليكم " تعني :" كن آمنا مطمئنا " وإلا فما قيمة الحياة بدون أمن واطمئنان ؟.
إذن فكلمة " حياك الله " أو " السلام عليكم " أي الأمان والاطمئنان لك. فأنت لا تعرف هل يجيء القادم إليك بخير أو بشر، لكن ساعة يقول : السلام عليكم، فقد يجعل بهذه التحية الأمان في قلب المتلقي به ويشعر بقيمة حياته.
إذن فقوله الحق :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾ يعني : إذا رببتم حياتكم بالتحية التي هي السلام والتي تضمن الأمن والاطمئنان عليكم رد التحية. فكلمة " تحية " إعطاء لقيمة الحياة، وكذلك كلمة " حيوا " أي أعط من أمامك شيئا من الحياة المستقرة الآمنة المطمئنة. فالحياة بدون أمن وبدون اطمئنان، كلا حياة.
والشاعر العربي يقول :
ليس من مات فاستراح بميت | إنما الميت ميت الأحياء |
عن سلمان الفارسي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم يا رسول الله، فقال : وعليك السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال له : وعليك : فقال له الرجل : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي، فقال : إنك لم تدع لنا شيئا قال الله تعالى :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها فرددناها عليك ﴾١.
وعندما تكلم العلماء في مسألة السلام، صنفوا لها فقالوا : الماشي يسلم على القاعد. والراكب يسلم على الماشي، والصغير يسلم على الكبير. والمبصر يسلم على الكفيف. والقليل يسلم على الكثير. وكل خطاب موجه للمؤمنين ينتظم ويشمل ذكورهم وإناثهم إلا أن يكون الحكم مما يخص النساء.
وهنا يقول الحق :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾ أللنساء تحية ؟. نعم، لهن تحية، المرأة تحيى المرأة، والمرأة تحيى زوجها، والمرأة تحيى محارمها، والمرأة العجوز التي لا إربة فيها تبدأ التحية وتردها، أما المرأة الشابة فهي لا تبدأ أحدا بالسلام ولا ترد السلام. لا تبدأ بالسلام إلا إذا كان معها مثلها ؛ لأنهم يقولون : المرأة على المرأة عين أكثر من ألف رجل، أي أن المرأة تحرس المرأة أكثر من ألف رجل، فعندما تكون معها مثيلتها تحفظها، ولذلك يقال : إن المرأة إن بدأت بالسلام أو ردت السلام فذلك حرام، وإذا بدأها واحد بالسلام أو رد عليها السلام فذلك مكروه. لماذا ؟ لأن بدئها له إثارة، ولكنه إذا بدأ هو بالسلام فليس ضروريا أن تستجيب. فإن كان معها أحد أو جماعة تؤمن عليها فلا حرج من أن ترد السلام.
وقالوا : وإذا كان الذي يلقي السلام ويبدأه به غير مؤمن ؟ النبي عليه الصلاة والسلام أوضح أنهم يلوون في الكلام، فإذا قالوا لكم :" السلام " فقولوا : وعليكم. وذلك يعني إن قالوها كلمة طيبة لها معنى طيب فأهلا بها وعليهم مثلها، وإن كانت كلمة خبيثة كقولهم :" السام عليكم " فقولوا :" وعليكم " ؛ لأن السام هو معناها الموت، فلكيلا يستهزئوا بكم، قولوا : وعليكم. وبعض العلماء قال : المقصود ب " فحيوا بأحسن منها " أي بالنسبة للمؤمن، و " ردوها " بالنسبة للكافر.
لكن أتلك هي التحية فقط ؟. إذا كان الذي حياك بقول وأمنك بقول، فكيف لا تحذر من يؤمن بالقول نفاقا، يظهر لك الأمن ثم يقول : السلام عليكم، ومعه الضر ؟. كما أن الحق علمنا أن نرد التحية بمثلها لأن نقل القضايا من قولية إلى فعلية هي المحك والأساس، فإذا حياك إنسان بخير عنده فعلى المسلم أن يقدم التحية بخير منها، وإن لم يستطع فليرد على الأقل بمثلها، وعندما يرد الإنسان بمثلها يصبح التكارم بين الناس إن لم يزد فهو لم ينقص، ويكون الخير متناميا، فإذا قدم إنسان خيرا لإنسان آخر، ورد عليه بعمل أفضل منه، ففي ذلك نماء للخير، وإن لم يستطع فليرد بمثل العمل وبذلك لا ينقص من خيره، فيكون خير كل إنسان محجوزا على نفسه ؛ لأنه مادام سيعطي التحية وي
﴿ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا٨٧ ﴾.
وهذا يعني : أنه لا يوجد إله آخر سيأتي ليتدخل وينهى المسائل من خلف ظهر الخالق الأعلى سبحانه. ﴿ الله لا إله إلا هو ﴾ فليس هناك إله سواي، لا تشريع يرسم صلاح البشر إلا تشريعي وسترجعون إلي، وليس هناك واحد يقول :" افعل " " ولا تفعل "، والآخر يقول بالعكس، إنه إله واحد، والأمر منه ب " افعل " هو الأمر الوحيد الصالح للإنسان. والنهي منه ب " لا تفعل " هو النهي الوحيد الذي يجب على العاقل أن يتجنبه، ولذلك تجده يقول :﴿ قل يا أيها الكافرون ١لا أعبد ما تعبدون٢ ولا أنتم عابدون ما أعبد٣ ولا أنا عابد ما عبدتم٤ ولا أنتم عابدون ما أعبد٥ لكم دينكم ولي دين٦ ﴾( سورة الكافرون ).
إنه سبحانه يوضح : ليس هناك مضارة بين دينين، دين للكافرين، ودين للمؤمنين، لا، بل هو دين ومنهج واحد صالح للإنسان هو منهج التوحيد جاءت به الرسل جميعا وختم بالإسلام الذي لا دين بعده، ولذلك جاء بعدها مباشرة :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح١ ﴾( سورة النصر ). ويأتي بعد ذلك بسورة المسد :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب١ ما أغنى عنه ماله وما كسب٢ سيصلى نارا ذات لهب٣ وامرأته حمالة الحطب٤ في جيدها حبل من مسد٥ ﴾ ( سورة المسد ).
أما كان أبو لهب يقدر أن يقول بعدها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ كان يقدر، ولو قالها لشكك في هذه الآية، ولقالوا : إنه لن يصلى نارا ذات لهب. إن هذا الأمر كان له فيه اختيار، ولم يوفقه الله إلى أن يقولها ولو نفاقا، لماذا ؟ لأن الحق قال بعد هذه الآية مباشرة :﴿ قل هو الله أحد١ ﴾( سورة الإخلاص ).
أي فليس هناك إله آخر يرد أمره سبحانه وتعالى :﴿ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة ﴾. وكلمة " يجمع " تعني أنه يخرجنا مع بعضنا من قبورنا جميعا، ويحشرنا جميعا أمامه، وقد تعني " ليجمعنكم " أي ليحشرنكم من قبوركم لتلقى جزاء يوم القيامة.
لماذا جاء هذا القول ؟ جاء لكي يتفحصه العاقل، فلا يأخذ انفلات نفسه من منهج الله إلا بملاحظة الجزاء على الانفلات من المنهج، فلو أخذ نفسه منفلتا عن منهج الله بدون أن يقدر الجزاء لكان أحمق وأخرق.
ولذلك قلنا : إن الذين يسرفون على أنفسهم في المعصية لا يستحضرون أمام عيونهم الجزاء على المعصية. ولذلك يقولون : كل الجرائم إنما تتم في غفلة صاحبها عن الجزاء ؛ فالمجرم يرتكب جريمته وهو مقدر السلامة لنفسه، والسارق يذهب إلى السرقة وهو مقدر السلامة، لكن لو وضع في ذهنه أنه من الممكن أن يتم القبض عليه لما فعلها أبدا.
والحق سبحانه وتعالى يوضح : إياك يا من تريد بالاختيار الذي أعطيته لك الانحراف عن منهجي ألا تقدر الجزاء على هذه المخالفة. بل عليك أن تأخذها قضية واضحة، واسأل كم ستعطيك من نفع وكم سيعطيك الله من خير على الطاعة، وضع الاثنين في كفتي ميزان ؛ فالذي يعطيك الخير الأبقى افعله، وابتعد عما لا يعطيك الخير بل إنه يوقعك في الشقاء والشر.
﴿ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة ﴾ ويوم القيامة هو اليوم الذي قال فيه الحق :﴿ يوم يقوم الناس لرب العالمين٦ ﴾( سورة المطففين ).
ولماذا يوم القيامة ؟ لأن آخر مظهر من مظاهر دنيا الناس أنهم حين يموتون ينامون، وهذا ما نراه، وبعد ذلك ندخله إلى القبر ولا نعرف كيف يأتي قائما من نومه إلا بقول الحق :﴿ ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ﴾.
أي يجب أن يكون الإيمان بيوم القيامة لا شك فيه ؛ لأنك لو قدرت أن العالم الذي خلقه الله مختارا، إن شاء فعل الخير وإن شاء فعل الشر، وهو سبحانه زود العباد بالمنهج، وجعل لهم الاختيار، وأنه سبحانه هو القادر على الجمع يوم القيامة لو قدرت هذا لا مت بما طلبه الله منك.
ونضرب هذا المثل لا للتشبيه، ولكن للتقريب ولله المثل الأعلى الوالد يعطي ابنه جنيها ويقول له : اشتر ما تريد، ولكن لاحظ أنك إن اشتريت شيئا مفيدا فسأكافئك، وإن اشتريت شيئا فاسدا كأوراق اللعب أو غيرها فسأعاقبك.
ساعة أعطى الوالد ابنه القوة الشرائية وقال له : انزل اشتر ما تريد، والابن ساعة اشترى أوراق اللعب. هل هذا الشراء قد تم قهرا عن أبيه ؟ لا ؛ لأن الأب هو من أعطاه الاختيار، لكن الابن فعل فعلا غير محبوب لأبيه.
فما بالنا بالعبد عندما يعطيه الحق الاختيار ؟ ولو أردا الله الناس جميعا على هداية لجعلهم كالملائكة، ولما جرؤ ولا قدر أحد أن يفعل معصية. فالعاصي عندما يرتكب المعصية إنما يفعلها لأن الله خلق له الاختيار. ولذلك فعندما يقول واحد : كل فعل من الله، هو صادق. ولماذا يتعذب مرتكب المعصية مع أنه يوجه الة الاختيار الى ما تصلح له ؟ ونقول انه وجهها مخالفا لامر الله فالسكين للذبح ان ذبحت بها دجاجة لما استحق الذابح على ذلك عقابا، لكن لو ذبحنا بها إنسانا لوقعنا في محظور يشبهه الحق بقتل الناس جميعا. فالذي جاء بالسكين إلى المنزل هل نقول له :" أنت أتيت بأداة الجريمة " ؟ لا ؛ لأنه جاء بأداة صالحة لأن تكون أداة لذبح ما يحل ذبحه أو أداة لجريمة. إذن فحتى المختار لم يفعل اختياره إلا من باطن أن الله خلقه مختارا.
لكن هل ألزمه الحق سبحانه وتعالى بأن يفعل المعصية ؟ لا، فسبحانه أوضح لك : هذا لا أحبه، وهذا أحبه. واختيارك له مجال، ولك أن تختار الشيء الذي يأتي بالنفع ولا يأتي بالضرر أو أن تختار عكس ذلك.
﴿ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ﴾ هذا خبر من الله. والكلام الخبري عندنا يحتمل الصدق والكذب لذاته، لكن لأن الخبر من الله فهو صادق. أما الكلام في ذاته فيحتمل الصدق ويحتمل الكذب، ولذلك يذيل الحق الآية بما يلي :﴿ ومن أصدق من الله حديثا ﴾ وهل الصدق فيه تفاضل ؟. ليس في الصدق تفاضل، فمعنى الصدق مطابقة الكلام للواقع، فالإنسان قبل ان يتكلم وهو عاقل، يدير المسألة التي يريد الكلام فيها ليعمل العقل فيها، وبعد هذا ينطبق بالكلام.
إذن ففي الكلام نسبة ذهنية، ونسبة كلامية، ونسبة واقعية. فعندما يقول واحد :" زيد مجتهد " هو قبل أن يقول ذلك جاء في ذهنه أنه مجتهد، وهذه هي " النسبة الذهنية "، وعندما ينطقها صاحبها تكون " نسبة كلامية "، ولكن هل صحيح أن هناك واحدا اسمه " زيد " وأنه مجتهد ؟. إن طابقت النسبة الواقعية كلا من النسبة الذهنية والنسبة الكلامية يكون الكلام صدقا. وإن لم يكن هناك أحد اسمه زيد ولا هو " مجتهد " لا تتطابق النسبة الخارجية الواقعية مع النسبتين " الذهنية والكلامية " فيكون الكلام كذبا. فالصدق يقتضي أن تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع، أي مع النسبة الخارجية الحاصلة.
ولماذا يكذب الكذاب إذن ؟. ليحقق لنفسه نفعا يفوته ولا يحققه الصدق في نظره أو يدفع عنه ضرا. مثال ذلك : يكسر الابن شيئا في المنزل كمنضدة. فالأب يقول لابنه : هل كسرت هذه المنضدة ؟. وينكر الابن : لا لم أكسرها. هو يريد أن يحقق لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضررا وهو الإفلات من العقاب، لأنه يعلم أن الصدق قد يسبب له عقابا. ولا يحمله على الكذب إلا تفويت مضرة قد تصيبه من الصدق فيلجأ إلى الكذب. ويقول كلاما يخالف الواقع.
إذن هو يريد أن يحقق لنفسه نفعا أو يدفع عن نفسه ضررا. والذي ينفع الإنسان لابد أن يكون أقوى منه، وكذلك الذي يضره. لكن بالنسبة لله لا يوجد من يسبب له سبحانه نفعا أو ضرا. إذن فإذا قال الله فقوله الصدق ؛ لأن الأسباب التي تدفع إلى الكذب هو سبحانه منزه عنها.
وإذا كان الحق يعطينا الكلام الذي يوضح لنا واقع الحياة ويعطينا الكلام الذي لا يدخل في واقع حياتنا ويصف لنا الغيب الذي لا يدخل في نطاق ما نراه، إذن فهو يكلمنا كثيرا.
فقوله الحق :﴿ ومن أصدق من الله حديثا ﴾ مؤكد بالنسبة لنا. وأفعل التفضيل هنا لا تأتي للتمييز بين كلام صادق وكلام أصدق، ولكن لنعرف أن كلام الله لنا كثير. فالتكثير هنا إنما يجيء من ناحية كثرة الكلام، لا من ناحية أن هناك كلاما صادقا وكلاما أصدق.
والتفاوت قد يوجد في الصدق أيضا، كيف ؟. لنفرض أن إنسانا رأى حادثة يقتل فيها إنسان إنسانا آخر، فيشهد الشاهد بأنه رأى الدم ينزف من القتيل إثر التحام القاتل به، ولكن هناك شاهد آخر يروي كل التفاصيل التي بدأت من قبل المشاجرة بين القاتل والقتيل إلى أن صار هناك قاتل وقتيل. وهكذا نجد أن الشاهد الثاني أشمل في الصدق من الشاهد الأول، صحيح أن الشاهد الأول قال شهادة صادقة، لكن شهادة الشاهد الثاني أشمل في القضية نفسها.
إذن فقوله الحق :﴿ ومن أصدق من الله حديثا ﴾ أي أن الحق هو الأصدق بمعنى أن إخباره لنا جاء بالشمول الكامل، وهو صدق لا تفاوت فيه، فالصدق هو مطابقة النسبة الكلامية للواقع، ومادام هو كذلك فليس هناك صادق واصدق، ولكن أفعل التفضيل تأتي في " أصدق " باعتبار أن كمية الصدق الصادرة لا حدود لها وأنه سبحانه يعلم الأشياء على وفق ما هي عليه أي بشمول كامل. وخلقه إن حدث منهم صدق في شيء فقد يحدث منهم الكذب في شيء آخر. فقد تقول قضية تعلم أنها صدق، ولكنها في الواقع لا تكون صدقا.
مثلا ؛ فقد يقول قائل : زار فلان فلانا بالأمس. هو اعتقد ذلك لأنه رأى حجرة الاستقبال في بيت فلان مضاءة فسأل عن الزائر فقيل له :" فلان " فهو يروي خبر هذه الزيارة على وفق ما يعتقد، ولا يقال : إن القائل قد كذب.
إننا يجب أن نفرق بين " الخبر " وبين " المخبر "، كيف ؟. إذا قلنا :" زيد مجتهد "، أيوجد واحد اسمه زيد ومجتهد بالفعل ؟. هذا اسمه الواقع. وهل أنت تعتقد هذا ؟. إذن فالإنسان هنا يحتاج إلى أمرين : معرفة وجود الشيء، واعتقاد الشيء، وبذلك يكون الخبر صادقا والمخبر صادقا أيضا.
وافرض أنك أخبرت أن زيدا مجتهد بناء على أن أحدا قد أخبرك بذلك ولكنه لم يكن كذلك، أنت هنا صادق وفق اعتقادك لكن الخبر غير صادق في الواقع اذن ففيه فرق بين صدق الخبر وصدق المخبر. فإذا التقى الاعتقاد بالواقع صدق الخبر وصدق المخبر. وإذا كان الخبر موافقا للواقع ومخالفا للاعتقاد فالخبر صادق كموقف المنافقين الذين قال الحق فيهم :﴿ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ﴾( من الآية١سورة المنافقون ).
هذه القضية واقعة صادقة وأعلنوا هم ذلك، ولكن الحق أضاف :﴿ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ﴾( من الآية١ سورة المنافقون ).
فالقضية صادقة ولكنهم كاذبون ؛ لأنهم قالوها بلا اقتناع فكانوا كاذبين. والدقة هنا توضح الفرق بين صدق الخبر وكذب الاعتقاد. إذن فصدق المخبر أن يطابق الكلام الاعتقاد. والتكذيب واضح في قولهم :" نشهد " ؛ وليس في مقول القول وهو " إنك لرسول الله " فالشهادة تقتضي أن يواطئ ويوافق اللسان القلب.
ولذلك عندما يقرأ بعض الناس القرآن دون فهم اللغة العربية.. فيفهم بالسطحية هذه الآية فهما خاطئا :﴿ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون١ ﴾( سورة المنافقون ).
فكيف يشهد الله أنهم كاذبون، على الرغم من أنه سبحانه يعلم مثلما شهد المنافقون ؟. ونرد : إن الخبر هنا لم يكن كذبا، ولم يقل الحق ما يكذب الخبر، لكنه أوضح صدق الخبر وكذب المنافقين في شهادتهم لأنهم يظهرون غ
﴿ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا٨٨ ﴾.
كل جملة سبقتها " فاء " فمن اللازم أن يكون هناك سبب ومسبب، علة ومعلول، مقدمة ونتيجة، وكل الأشياء التي تكلم الحق عنها سبحانه وتعالى فيما يتعلق بمشروعية القتال للمؤمنين ليحملوا المنهج إلى الناس، ويكون الناس بعد سماعهم المنهج أحرارا فيما يختارون. إذن فالقتال لم يشرع لفرض منهج، إنما شرع ليفرض حرية اختيار المنهج، بدليل قول الحق :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾( من الآية٢٥٦ سورة البقرة ).
وعلى ذلك فالإسلام لا يفرض الدين، ولكنه جاء ليفرض حرية الاختيار في الدين، فالقوى التي تعوق اختيار الفرد لدينه، يقف الإسلام أمامها لترفع تسلطها عن الذين تبسط سلطانها عليهم ثم يترك الناس أحرارا يعتنقون ما يشاءون، بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام بالسيف، ظل فيها بعض القوم على دياناتهم. فلو أن القتال شرع لفرض دين لما وجدنا في بلد مفتوح بالسيف واحدا على غير دين الإسلام.
وبعد أن تكلم الحق عن القتال في مواقع متعددة من سورة النساء، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا٨٤ ﴾( سورة النساء ).
شرع الحق سبحانه وتعالى قضية استفهامية هنا، فيها معنى الإنكار وفيها معنى التوبيخ وذلك شائع في كل الأساليب التي تتفق معها في القرآن الكريم. فإذا سمعت كلمة " فمالك لا تفعل كذا "، فكأن قياس العقل يقتضي أن تفعل، والعجيب ألا تفعل. ولا يمكن أن يأتي هذا الأسلوب إلا إذا كان يستنكر أنك فعلت شيئا كان ينبغي ألا تفعله أو أنك تركت شيئا كان عليك أن تأتي به.
فالأب يقول للابن مثلا :" مالك لا تذاكر وقد قرب الامتحان ؟ " كأن منطق العقل يفرض على الابن إن كان قد أهمل فيما مضى من العام، فما كان يصح للابن أن يهمل قبل الامتحان، وهذا أمر بدهي بالقياس العقلي، فكأن التشريع والقرآن يخاطبان المؤمنين ألا يقبلوا على أي فعل إلا بعد ترجيح الاختيار فيه بالحجة القائمة عليه، فلا يصح أن يقدم المؤمن على أي عمل بدون تفكير، ولا يصح أن يترك المؤمن أي عمل دون أن يعرف لماذا لم يعمله، فكان أسلوب " فما لكم "، و " فما لك " مثل قول أولاد سيدنا يعقوب :﴿ ما لك لا تأمنا على يوسف ﴾( من الآية١١سورة يوسف ).
ما معنى قولهم هذا ؟ معناه : أي حجة لك يا أبانا في أن تحرمنا من أن نكون مؤتمنين على يوسف نستصحبه في خروجنا. فكأن القياس عندهم أنهم إخوة، وأنهم عصبة، ولا يصح أن يخاف أبوهم على يوسف لا منهم ولا من شيء آخر يهدد يوسف ؛ لأنهم جماعة كثيرة قوية. وكذلك قول الحق :﴿ فما لهم لا يؤمنون٢٠ ﴾( سورة الانشقاق ).
أي أن القياس يقتضي أن يؤمنوا. وقوله الحق :﴿ فما لهم عن التذكرة معرضين٤٩ كأنهم حمر مستنفرة٥٠ فرت من قسورة٥١ ﴾( سورة المدثر ).
كان القياس ألا يعرضوا عن التذكرة. إذن فأسلوب " فماله "، و " فمالك " و " فمالهم "، و " فمالكم " كله يدل على أن عمل المؤمن يجب أن يستقبل أولا بترجيح ما يصنع أو بترجيح ما لا يصنع. أما أن يفعل الأفعال جزافا بدون تفكير في حيثيات فعلها، أو في حيثيات عدم فعلها فهذا ليس عمل العاقلين.
إذن فعمل العاقل أنه قبل أن يقبل على الفعل ينظر البديلات التي يختار منها الفعل ؛ فالتلميذ إن كان أمامه اللعب وأمامه الاستذكار، ويعرف أنه بعد اللعب إلى رسوب، وبعد الرسوب إلى مستقبل غير كريم، فإذا اختار الاجتهاد فهو يعرف أن بعد الاجتهاد نجاح، وبعد النجاح مستقبل كريم. فواجب التلميذ إذن أن يبذل قدرا من الجهد ليتفوق. وكل عمل من الأعمال يجب أن يقارنه الإنسان بالنتيجة التي يأتي بها وبترجيح الفعل الذي له فائدة على الأفعال التي لا تحقق الهدف المرجو.
والآية هنا تقول :﴿ فمالكم في المنافقين في فئتين ﴾ كان القياس يقتضي ألا نكون في نظرتنا إلى المنافقين فئتين، بل يجب أن نكون فئة واحدة. وكلمة " فئة " تعني جماعة، والجماعة تعني أفرادا قد انضم بعضهم إلى بعض على رغم اختلاف الأهواء بين هؤلاء الأفراد وعلى رغم اختلاف الآراء، إلا أنهم في الإيمان يجمعهم هوى واحد، هو هوى الدين، ولذلك قال الرسول :( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )١.
فالمسبب للاختلاف هو أن كل واحد له هوى مختلف ولا يجمعهم هوى الدين والاعتصام بحبل الله المتين. وما حكاية المنافقين وكيف انقسم المؤمنون في شأنهم ليكونوا فئتين ؟.
والفئة كما عرفنا هي الجماعة، ولكن ليس مطلق جماعة، فلا نقول عن جماعة يسيرون في الطريق لا يجمعهم هدف ولا غاية : إنهم فئة ؛ فالفئة أو الطائفة هم جماعة من البشر تجتمع لهدف ؛ لأن معنى " فئة " أنه يرجع ويفئ بعضهم إلى بعض في الأمر الواحد الذي يجمعهم، وكذلك معنى " الطائفة " فهم يطوفون حول شيء واحد. والحق يقول :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾. هذا لفت وتنبيه من الحق بأن ننزه عقولنا أن نكون في الأمر الواحد منقسمين إلى رأيين، وخصوصا إذا ما كنا مجتمعين على إيمان بإله واحد ومنهج واحد. والمنافقون كما نعرف هم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.
إننا نعرف أن كل المعنويات يؤخذ لها أسماء من الحسيات ؛ لأن الإدراك الحسي هو أول وسيلة لإدراك القلب، وبعد ذلك تأتي المعاني. وعندما نأتي لكلمة " منافقين " نجد أنها مأخوذة من أمر حسي كان يشهده العرب في بيئتهم، حيث يعيش حيوان اسمه " اليربوع " مثله مثل الفأر والضب. واليربوع مشهور بالمكر والخداع، ولكي يأمن الحيوانات التي تهاجمه فإنه يبني لنفسه جحرين، أو جحورا متعددة، ويفر من الحيوان المهاجم إلى جحر ما، ويحاول الحيوان المهاجم أن ينتظره عند فوهة هذا الجحر، فيتركه اليربوع إلى فتحة أخرى، كأن اليربوع قد خطط وأعد لنفسه منافذ حتى يخادع، فهو يصنع فوهة يدخل فيها في الجحر، وفوهة ثانية وثالثة، وذلك حتى يخرج من أي فتحة منها، وكذلك المنافق.
ونعرف أن المسائل الإيمانية أو العقدية على ثلاثة أشكال : فهناك المؤمن وهو الذي يقول بلسانه ويعتقد بقلبه وهو يحيا بملكات منسجمة تماما. وهناك الكافر وهو الذي يقول بلسان ويعتقد بقلبه وهو يحيا بملكات منسجمة تماما. وهناك الكافر وهو الذي لا يعتقد ولا يدين بالإسلام ولا يقول لسانه غير ما يعتقد، وملكاته منسجمة أيضا، وإن كان ينتظره جزاء كفره في الآخرة ؛ فملكاته منسجمة لكن إلى غاية ضارة، وهي غاية الكفر. أما " المنافق " فهو الذي يعتقد الكفر وينعقد عليه قلبه لكن لسانه يقول عكس ذلك، وملكاته غير منسجمة ؛ فلسانه قد قال عكس ما في قلبه ؛ لذلك يحيا موزعا وقلقا، يريد أن يأخذ خير الإيمان وخير الكفر، هذا هو المنافق.
وهناك جماعة في تاريخ الإسلام حينما رأوا انتصار المسلمين في غزوة بدر، قالوا لأنفسهم :" الريح في جانب المسلمين، ولا نؤمن أنهم بعد انتصار بدر وقتل صناديد قريش وحصولهم على كل هذه الغنائم أن يأتوا إلينا "، هذه الجماعة حاولت النفاق وادعت الإسلام وهم بمكة، حتى إذا دخل المسلمون مكة يكونون قد حصنوا أنفسهم. أو هم جماعة ذهبوا إلى المدينة مهاجرين، ولم يصبروا على مرارة الهجرة والحياة بعيدا عن الوطن والأهل والمال، ففكروا في هذه الأمور، وأرادوا العودة عن الدين والرجوع إلى مكة، وقالوا للمؤمنين في المدينة :" نحن لنا أموال في مكة وسنذهب لاستردادها ونعود ".
وبلغ المسلمون الخبر وانقسم المسلمون إلى قسمين : قسم يقول : نقاتلهم، وقسم يقول : لا نقاتلهم. الذين يقولون :" نقاتلهم " دفعهم إلى ذلك حمية الإيمان. والذين يقولون :" لا نقاتلهم " قالوا : هذه الجماعة أظهرت الإيمان، ولم نشق عن قلوبهم، وربما قالوا ذلك عطفا عليهم لصلات أو أواصر. فجاء القرآن ليحسم مسألة انقسام المسلمين إلى قسمين، ويحسم أمر الاختلاف. وعندما يأتي القرآن ليحسم فهذا معناه أن رب القرآن صنع جمهور الإيمان على عينه، وساعة يرى أي خلل فيهم فسبحانه يحسم المسألة، فقال :﴿ فمالكم في المنافقين فئتين ﴾.
والخطاب موجه للجماعة المسلمة، فقوله :﴿ فمالكم ﴾ يعني أنهم متوحدون على هدف واحد، وقوله :﴿ فئتين ﴾ تفيد أنهم مختلفون.
إذن ف " فئتين " تناقض الخطاب الذي بدأه الحق ب﴿ فمالكم ﴾، كان المطلوب من المتلقي للقرآن أن يقدر المعنى كالآتي : فمالكم افترقتم في المنافقين إلى فئتين ؟ إذن فهذا أسلوب توبيخي وتهديدي ولا يصح أن يحدث مثل هذا الأمر، فهل ينصب هذا الكلام على كل المخاطبين ؟ ننظر، هل القرآن مع من قال :" نقتل المنافقين " أو مع من قال بغير ذلك ؟ فإن كان مع الفئة الأولى فهو لا يؤنب هذه الفئة بل يكرمها، إن القرآن مع هذه الفئة التي تدعو إلى قتال المنافقين وليس مع الفئة الثانية ؛ لذلك فهو يؤنبها، ويوبخها. والأسلوب حين يكون توبيخا لمن يرى رأيا، فهو تكريم لمن يرى الرأي المقابل، ويكون صاحب الرأي المكرم غير داخل في التوبيخ، لأن الحق أعطاه الحيثية التي ترفع رأسه.
والحق يقول :﴿ فمالكم في المنافقين ﴾ أي إن الحق يقول : أي حجة لكم في أن تفترقوا في أمر المنافقين إلى فئتين، والقياس يقتضي أن تدرسوا المسألة دراسة عقلية، دراسة إيمانية لتنتهوا إلى أنه يحب أن تكونوا على رأي واحد، ومعنى الإنكار هو : لا حجة لكم أيها المؤمنون في أن تنقسموا إلى فئتين.
ويقول الحق :﴿ والله أركسهم بما كسبوا ﴾ وساعة تسمع كلمة﴿ أركسهم ﴾ ماذا نستفيد منها حتى ولو لم نعرف معنى الكلمة ؟ نستفيد أن الحق قد وضعهم في منزلة غير لائقة. ونشعر أن الأسلوب دل على نكسهم وجعل مقدمهم مؤخرهم أي أنهم انقلبوا حتى ولو لم نفهم المادة المأخوذة منها الكلمة، وهذا من إيحاءات الأسلوب القرآني، إيحاءات اللفظ، وانسجامات حروفه.
﴿ والله أركسهم بما كسبوا ﴾و﴿ أركسهم ﴾ مأخوذة من " ركسهم " ومعناها " ردهم ". كأنهم كانوا على شيء ثم تركوه ثم ردهم الله إلى الشيء الأول، وهم كانوا كفارا أولا، ثم آمنوا، ثم أركسهم، لكن هل الله أركسهم تعنتا عليهم أو قهرا ؟ لا ؛ فهذا حدث﴿ بما كسبوا ﴾، وذلك حتى لا يدخل أحد بنا في متاهة السؤال ولماذا يعاقبهم الله ويوبخهم مادام هو سبحانه الذي فعل فيهم هذا ؛ لذلك قال لنا الحق : إنه﴿ أركسهم بما كسبوا ﴾. و﴿ أركسهم ﴾ مادته مأخوذة من شيء اسمه " الركس " بفتح الراء وهو رد الشيء مقلوبا ومنه " الركس " بكسر الراء وهو الرجيع الذي يرجع من معدة الإنسان قبل أن يتمثل الطعام. ومثلما نقول :" إن فلانا غمت نفسه عليه " أو " فلان يرجع ما في بطنه ".
وعندما ننظر إلى هذه العملية نجد أن الطعام الذي يشتهيه الإنسان ويحبه ويقبل عليه ويأكله بلذة، وتنظر عيونه إليه باشتهاء، ويده تقطع الطعام بلذة ويمضغ الطعام بلذة، هذا الطعام بمجرد مضغه مع بعضه ينزل في المعدة وتضاف إليه العصارات المهضمة، فإذا رجع فإنه في هذه الحالة يكون غير مقبول الرائحة، بل إن الإنسان لو هضم الطعام وأخذ منه المفيد وأخرج الباقي بعد ذلك، فرائحة الفضلات الطبيعية ليست أسوأ من رائحة الطعام لو رجع بدون تمثيل. فلو رأيت إنسانا يقضي حاجة وآخر يتق
وما الذي ألجأهم إلى هذا الحال، وقد كانوا قديما على وتيرة واحدة، ألسنتهم مع قلوبهم قبل أن يجيء الإسلام ؟ إذن فالذي يعيدهم إلى حالة الاستقرار النفسي وينزعهم من القلق والاضطراب والخوف على حاضرهم ومستقبلهم هو أن تنتهي قضية الإسلام، فلا يكون هناك مسلمون وكافرون ومنافقون. بل يصير الكل كافرا.
﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا ﴾ والودادة عمل القلب، وعمل القلب تخضع له جميع الجوارح إن قدرت، فماداموا يودون أن يكون المسلمون كافرين، إذن سيقفون في سبيل انتصار المسلمين، وسيضعون العقبات التي تحقق مطلوبات قلوبهم. لذلك فاحذروهم، سأفضح لكم أمرهم لتكونوا على بينة من كل تصرفاتهم وخائنات أعينهم وخائنات ألسنتهم.
﴿ ودوا لو تكفرون ﴾ ونعرف أن كلمة " الكفر " تعني " الستر "، فالفعل " كفر " معناه " ستر ". ومن عظمة الإيمان بالإسلام وعظمة الحق في ذاته هو أنه لا يمكن أبدا أن يطمسه خصومه، فاللفظ الذي جاء ليحدد المضاد لله هو عينه دليل على الإيمان بالله. فعندما نقول :﴿ كفر بالله ﴾ أي " ستر وجوده "، كأنه قبل أن يستر الوجود فالوجود موجود، ولذلك نجد أن لفظ " الكفر " نفسه دليل على الإيمان، فلفظ " الكفر " في ذاته تعني إيمانا موجودا يجاهد صاحبه نفسه أن يغطيه ويستره.
﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا ﴾. وهذا القول جاء بعد أن قال الحق :﴿ فمالكم في المنافقين فئتين ﴾( من الآية٨٨ سورة النساء ).
ويدل على أنهم يوصفون مرة بالمنافقين ويوصفون مرة بالكافرين. وسماهم الله في آية ب " المنافقين " ويصفهم الحق في هذه الآية بأنهم كفروا﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا ﴾ والكفر الذي يجيء وصفه هنا يدل على مكنون القلب، فالنفاق لم يعطهم إلا ظاهريات الإسلام، لكن الباطنيات لم يأخذوها، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار في الآخرة ؛ وإن كانوا في الدنيا يعاملون معاملة المسلمين احتراما لكلمة لااله الا الله محمد رسول الله لكن الله يعاملهم في الآخرة معاملة الكافرين، ويزيد عليها أنهم في الدرك الأسفل من النار.
إذن فأصحاب الباطل إن كانت لهم قوة يجعلون لسانهم مع قلوبهم في الجهر بالباطل، وإن كان عندهم ضعف يجعلون قلوبهم للباطل ولسانهم للحق. وهذه العملية ليست مريحة في كلا الموقعين. فالمريح لهم ألا توجد للحق طائفة. لذلك يقول سبحانه وصفا لحقيقة مشاعرهم :﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ﴾. فهم يتمنون إزالة طائفة الحق حتى لا يكون هناك أحد أفضل من أحد، مثلما نقول : مفيش حد أحسن من حد.
مثال ذلك : نجد مجموعة من الموظفين في مصلحة حكومية، ويكون من بينهم واحد مختلس أولا يؤدي عمله على الشكل الراقي المطلوب، لذلك فهو لا يحب أن يؤدي الآخرون أعمالهم بمنتهى الإتقان، ويريدهم فاسدين، ويحاول أن يغريهم بالفساد حتى يكونوا مثله ؛ كي لا يظهروه أمام نفسه بمظهر النقيصة. وحتى لا يكون مكسور العين أمامهم.
ومن العجيب أننا نجد الذي يسرق يحترم الأمين، وكثيرا ما نسمع عن لص من فور ما يعلم أن هناك كمينا ينتظره ليقبض عليه فهو يبحث عن رجل أمين يضع عنده المسروقات كأمانة.
وقول الحق عن أمنية المنافقين الكافرين بقلوبهم هو أن يكون المؤمنون مثلهم ﴿ فتكونون سواء ﴾. وهذه شهادة في أن صاحب الباطل يحب من صاحب الحق أن يكون معه ؛ لأنه حين يجده في الحق، فصاحب الباطل يحتقر نفسه، وقد حدثت العجائب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كفروا به وعذبوا صحابته، ولكنه هو الأمين باعترافهم جميعا. فها هو ذا الرسول صلى الله عليه وسلم يهاجر من مكة وخلف " عليا " كرم الله وجهه ليرد الودائع والأمانات التي عنده.
هم كذبوه في الرسالة، ولكنه الأمين باعترافهم جميعا ؛ لذلك أودعوا عنده الأمانات. إذن فصاحب الفضيلة محترم حتى عند صاحب الرذيلة. وحتى نتعرف تماما على هذا المعنى، فلنفترض أن إنسانا وقع في مشكلة، سب أحدا من الناس ورفع المعتدى عليه دعوة قضائية على هذا المعتدي الذي سبه، ولهذا المعتدي صديق عزيز، استشهد به المعتدى عليه، فيقول المعتدي : أتشهد علي ؟ ويذهب الصديق إلى المحكمة ليقول :" لا يقول صديقي مثل هذا السباب ". وهنا شهد الصديق لصديقه شهادة زور. ولنفترض أن هذا المعتدي قد تاب وأناب وصار من الأتقياء، وجعله الناس حكما بينهم، وجاء له الصديق الذي شهد الزور من أجله ليشهد أمامه، فهل يقبل شهادته ؟ طبعا لا.
إذن صاحب الفضيلة محترم حتى عند صاحب الرذيلة، فإذا ما حاول أحد من أصحاب الرذيلة أن يشد صاحب الفضيلة إلى خطا، فهو يسعى إلى إضلاله، وينطبق على ذلك قول الحق :﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ﴾ومادام هذا هو هدفهم وفكرتهم ألا يتركوا المؤمنين على إيمانهم، لأجل أن يأخذهم إلى صف الكفر. وهم بذلك كمنافقين كفار قلوب غير مخلصين لصف الإيمان. وهم لا يقفون من الإيمان موقف الحياد، ولكنهم يقفون منه موقف العناد والعداوة. ﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ﴾وفي هذا تحذير واضح للمؤمنين هو : إياكم أن تؤمنوهم على شيء يتعلق بمصالحكم وإيمانكم.
ويصدر الحق الحكم في هذه القضية بمنتهى الوضوح :﴿ فلا تتخذوا منهم أولياء ﴾ أي إياكم أن تتخذوا من المنافقين نصراء لكم أو اهل مشورة ؛ لأن الله سبحانه فضح لكم دخائل نفوسهم، وهذه المسألة ليست ضربة لازب، فإن آب الواحد منهم وأناب ورجع إلى حظيرة الإيمان فلن يرده الله، فسبحانه وتعالى لا يضطهد أحدا لمجرد أنه ارتكب الذنب ؛ لأنه الحق غفور ورحيم، فمادام قد عاد الإنسان إلى الصواب وبعد عن الخطأ، فعلى المؤمنين أن يقبلوا من يعود إليهم بإخلاص، فالكراهية لا تنعقد ضد أحد لأنه أخطأ ؛ لأن الكراهية تكون للعمل الخطأ، وليست موجهة ضد الإنسان المخلوق لله، فإن أقلعوا عن الخطأ ؛ فهم مقبولون من المؤمنين.
وهاهو ذا قاتل زيد بن ألخطاب يمر أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له بعض الناس ها هو ذا قاتل أخيك زيد. فيقول عمر بن الخطاب : وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام ؟ !.
وهكذا نرى أن الكراهية لم تتعد إلى ذات القائل، ولكن الكره يكون للفعل، فإن أقلعت الذات عن الفعل فالذات لها مكانتها. وهكذا يصدر الحكم الرباني :﴿ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ﴾.
والهجرة في سبيل الله كانت تكلف الإنسان أن يخرج من ماله ومن وطنه ومن أهله، ويذهب إلى حياة التقشف والتعب والمشقة، وفي هذا ما يكفر عنه، ويتعرف المؤمنون هنا أنه قد تاب إلى الله فتاب الله عليه وآن له الأوان أن يدخل في حوزة الإيمان. فإن فعل ذلك فقد عاد إلى الإيمان. ولذلك يجب على الناس أن يفصلوا الذوات عن الأفعال. لماذا ؟ لأن الذوات في ذاتها لا تستحق أن تكره، وإنما يكره فعل الذات إن كان قبيحا سيئا.
وحين نقرأ القرآن نجده يعرض مثل هذه المسألة، فسيدنا نوح عليه السلام عندما تلقى وحي الله بأن يصنع السفينة، وجلس يصنعها ويمر عليه الناس فيسخرون منه فيقول لهم سيدنا نوح : سنسخر منكم غدا كما تسخرون منا. ويأتي له ابن ليس على منهجه، فيدعوه نوح إلى المنهج فيقول الابن :" لا ". ويركب نوح السفينة ويقول لله : لقد وعدتني أن تنجيني أنا وأهلي.
وهنا يوضح الحق : صحيح أنا أنجيك أنت وأهلك، ولكن ما الذي جعلك تعتبر ابنك من أهلك، إن الذوات عند الأنبياء لا نسب لها، إنما نسب الأنبياء الأعمال :﴿ إنه عمل غير صالح ﴾( من الآية٤٦سورة هود }.
إن العمل هو الذي يتم تقييمه. ولذلك يقول الحق :﴿ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ﴾ والهجرة من " هجر "، و " هجر " يعني أن الإنسان قد عدل من مكان إلى مكان، أو عن ود إلى ود، أو عن خصلة إلى خصلة، والذي يهجر عادة يتجنى على من " هجر "، لنلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في كتابه عندما يأتي بالحدث. يأتي ب " هاجر "، ولم يأت بالحادث " هجر "، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة. ولكنه هاجر منها، ويقول صلى الله عليه وسلم :( والله إنك لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت )١.
فالهجرة جاءت ؛ لأن أهل مكة هجروه أولا، فاضطر أن يهاجر. و " هاجر " على وزن " فاعل ". والمتنبي يقول :
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا | ألا تفارقهم فالراحلون همو |
ويوضح سبحانه أن الذي يخلص هؤلاء المنافقين من حكمنا عليهم، ألا يتخذ المؤمنون منهم أولياء هو : أن يهاجروا في سبيل الله ؛ لأن ذلك هو حيثية صدق الإيمان. فالمهاجر يحيا عيشة صعبة. وقد عاش المهاجرون على فيض الله من خير الأنصار، ولم يؤسسوا حياتهم بشكل لائق. إذن فمن ينضم إلى ذلك الموكب هو مؤمن اشترى الإيمان وقدر على أن يكفر عما بدر منه. فليست الهجرة مجرد هجرة، ولكنها هجرة في سبيل الله.
ولذلك نرى القاعدة الإيمانية في الحديث النبوي( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.. فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )٢.
وهكذا يعامل المؤمنون المنافق إن عاد من كفره ونفاقه إلى الإيمان. لكن ماذا لو تولى المنافقون ؟. ﴿ فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ﴾ والأخذ إذا جاء في مقام النزاع فمعناه الأسر. وقتلهم في ساحة القتال أمر واجب، ولا يصح أن يتخذهم المؤمنون أولياء أو نصراء ؛ لأن الواحد من المنافقين يكون دسيسة على المؤمنين، ويحاول أن يعرف أمور وأحوال المسلمين، ويطلع خصوم الإسلام على ما يمكن أن ينفذ منه العدو إلى المسلمين. ويستميت ليعرف ما يبيت المسلمون للكافرين.
واتخاذ الولي أو النصير ممن نعلم أنه لا يحب الإيمان وليس على مبدأ الإسلام وعقيدته أمر يشكك في صدق بصيرة الإنسان الذي يتولى ويود غير المسلمين المخلصين. فحين يرى الواحد منا إنسانا آخر لا يحبه ويكيد المكائد، وعندما يراك تثق فيه وتحسن إليه، يقول هذا الكاره : هذا إنسان فاقد البصيرة فلو عرف ما في قلبي لما فعل ذلك. فإذا اتخذ المؤمنون من المنافقين أولياء أو نصراء والمنافقون على ما هم عليه من نفاق لقال المنافقون : إن المسلمين فاقدو البصيرة وهم لا يعلمون ما في قلوبنا ؛ لذلك ينير الحق بصيرة المؤمنين حتى لا نأخذ رأيا من المنافقين ينال منا.
وقد يقول المنافقون : إن هؤلاء المسلمين ليس لهم رب يبصرهم، فلماذا يدعون أن لهم إلها
٢ رواه البخاري..
مثال ذلك ما حدث من عهد بين المسلمين وهلال بن عويمر الأسلمي على ألا يعينوه ولا يعينوا عليه وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله الجوار مثل الذي لهلال. والاستثناء يشمل أيضا من جاءوا إلى المسلمين، فمن ذهب من المنافقين إلى من عاهده المسلمون فهو يحصل على الأمان، وكذلك يؤمن الرسول من جاءه من المنافقين وقال من الأسباب ما يجعله يطلب حماية الرسول والإسلام : فعلى الرغم من نفاقه يؤمنه الإسلام.
﴿ أو جاءوكم حصرت صدروهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ﴾كان يقول الواحد منهم : أنا لا أقدر أن أقاتلكم، ولا أقدر أن أقاتل قومي فاغفر لي هذا واقبلني معكم. هؤلاء يقبلهم الرسول لأنهم أقروا بما هم فيه من ضيق، فهم لا يستطيعون التصرف لا أمام المسلمين فيعلنون الإيمان، ولا أمام الكافرون فيعملون في معسكر الكفر، ولا يستطعون ان يتخدوا موقفا حاسما حازما بين المسلمين والكافرين فهم يقرون بضعفهم، ويعترفون به.
﴿ ولو شاء الله لسلطهم عليكم ﴾. فما الذي يجعلهم يلوذون إلى قوم يتحالفون مع المسلمين بميثاق حتى يحتموا فيهم ؟ أو يقرون أن صدورهم ضيقة وأنهم غير قادرين على التصرف، ويعلنون : لا نستطيع أن نقاتلكم ولا أن نقاتل قومنا. ويوضح الحق : أنا فعلت هذا وألقيت الرعب في نفوسهم، ولو شئت لسلطتهم وجرأتهم عليكم، وقاتلوكم، إذن فسبحانه ينصرنا بالرعب ويمنع قتالهم لنا. ﴿ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ﴾.
إن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم وألقوا السلم واعترفوا بأنهم لا يملكون طاقة اختيار بين قتال المسلمين أو قتال قومهم، فليس لكم أيها المسلمون حجة أن تعتدوا عليهم ؛ فالاعتداء عليهم في مثل هذه الحالة ينهى الله عنه.
وعين الحق لا تقتصر على ما نعرف، ولكنها تتعدى إلى أدق التفاصيل ؛ فهي عين لا ترى ما عرفناه فقط ولكنها تكشف لنا الحجب التي لا نعرفها، فيقول سبحانه :
﴿ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا٩١ ﴾.
﴿ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ﴾وهؤلاء القوم هم قوم من بني أسد وغطفان، وكانوا على مشارف المدينة، وكانوا يقابلون المسلمين فيقولون :﴿ نحن معكم ﴾، وكانوا أيضا يقابلون الكفار فيقولون :﴿ نحن معكم ﴾، والحقيقة أنهم عاجزون عن مواجهة أي معسكر. ولذلك يصفهم القرآن :﴿ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويؤمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ﴾، وهؤلاء كلما جاءهم الاختبار﴿ أركسوا فيها ﴾. أي فشلوا في الاختيار، فعناصرهم الإيمانية لم تقو بعد، ومازالوا في حيرة من أمرهم. وعندما جاءتهم الفتنة لتصهرهم وتكشف ما في أعماقهم ازدادت حيرتهم. فالفتنة هي اختبار، وليست الفتنة شيئا مذموما، وعندما يقال : ان فلانا في فتنة فعلى المؤمن أن يدعو له بالنجاح فيها، فالفتنة ليست مصيبة تقع، ولكن المصيبة تقع إذا رسب الإنسان في الفتنة.
ونعلم أن الفتنة مأخوذة من الأمر الحسي، فتنة الذهب وكذلك الحديد : فتنة الذهب هي صهر الذهب في البوتقة حتى ينصهر ؛ فتطفو كالزبد كل العناصر الشائبة المختلطة بالذهب، وكذلك الحديد، يتم صهره حتى تنفصل الذرات المتماسكة بعضها عن بعض. ويطفو الخبث.
ونعرف ان الحديد أنواع : فالحديد الزهر شوائبه ظاهرة فيه وسهل الكسر. بينما نجد الحديد الصلب بلا خبث فهو صلب. وفتنة الذهب والحديد تكشف عن المعادن الغريبة المختلطة به. ونقلت كلمة " الفتنة " من المحسات إلى المعاني، وصارت الفتنة هي الاختبار الذي ينجح فيه الإنسان أو يرسب، فهي ليست ضارة في ذاتها، ولكنها ضارة لمن يرسب فيها.
وهكذا كان تنبؤ القرآن الذي يخبر المسلمين بأمر قوم على حدودهم، تجعلهم الفتنة لا يقوون على الإيمان، أي فكلما دعاهم قومهم إلى الشرك وقتال المسلمين ردوا على أعقابهم وانقلبوا على رءوسهم أقبح قلب وأشنعه وكانوا شرا من كل عدو عليكم، ويشرح القرآن كيفية سلوك المؤمنين تجاه هؤلاء المر تكسين والمنقلبين في الفتنة :﴿ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ﴾ ونلحظ أن الحق أمر بتامين من لجئوا بضعفهم على الرغم من نفاقهم إما إلى المسلمين وإما إلى حلفاء المسلمين حين قال في الآية السابقة :﴿ فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ﴾( من الآية٩٠سورة النساء ).
وهذا إنصاف وتنبيه إلهي من الحق ألا يسمع أحد صوت حفيظته ويفترس قوما ضعفاء. أما الذين يحاولون التمرد والاستسلام لصوت الكفر وإيقاع الأذى بالمسلمين، ولم يلقوا بالسلم للمسلمين ويكفوا أيديهم عنهم، هؤلاء يأتي فيهم الأمر الإلهي : خذوهم واقتلوهم. وجعل الله للمسلمين على هؤلاء السلطان المبين. والسلطان كما نعرف هو القوة، والقوة تأخذ لونين : هناك قوة تقهر الإنسان على الفعل كان يأتي واحد ويأمر إنسانا بالوقوف فيقف، وكان يأمر القوي الضعيف بالسجود فيسجد. وهذا سلطان القوة الذي يقهر القالب، لكنه لا يقدر على قهر القلب أبدا. والسلطان الثاني هو سلطان الحجة، وقوة المنطق وقوة الأداء والأدلة التي تقنع الإنسان أن يفعل.
والفارق بين سلطان القوة وسلطان الحجة أن سلطان القوة قد يقهر الإنسان على السجود، لكن سلطان الحجة يجعل الإنسان يسجد بالاقتناع. والسلطان المبين الذي جعله الله للمؤمنين على المنافقين الذين يقاتلون المؤمنين، هذا السلطان يمكن لكم أيها المسلمون قوة تفعلون بها ما تريدون من هؤلاء ماداموا حاولوا القتال وإلحاق الأذى بالمسلمين، فالحزم والعدل هو أخذهم بالعنف.
وحتى نفهم معنى السلطان جيدا فلنتذكر الجدل الذي سيحدث في الآخرة بين الشيطان والذين اتبعوا الشيطان، سنجد الشيطان يقول : لقد أغويتكم، هذا صحيح، وأنتم اتبعتموني، فأنتم المسئولون عن ذلك، فلم يكن لي عليكم من سلطان قوة أو سلطان إقناع :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾( من الآية٢٢ سورة إبراهيم ).
وبعد أن تكلم الحق عن القتال ومشروعيته، وقتال المنافقين، وقتال الآخرين. نجد الكلام يصل إلى موضوع القتل. فأوضح لهم : المسألة أنني أنا الذي عملت البنيان الآدمي، والحياة أنا الذي أهبها، وليس من السهل لباني البنيان أن يحرض على هدمه، إنما أنا أحرض على هدم هؤلاء الذين يقاتلونكم ؛ لكي يسلم باقي البنيان لكم، وإياكم أن تجترئوا على بنيانات الناس، فملعون من يهدم بنيان الله ؛ فالنفس التي خلقها الله، إياك أن تقترب من ناحيتها إلا بحقها وذلك بأن اجترأت على حدود الله ؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق الحياة وهو الذي يأخذ الحياة، وحياة الناس ليست ملكا لهم ؛ فحياة الإنسان نفسه ليست ملكا لنفسه، ولذلك فمن يقتل واحدا، عدوانا دون حق نقتص منه، وأما ان كان ذلك قد قتل خطا فنأخذ منه الدية، وتنتهي المسألة. لكن قاتل نفسه تحرم عليه الجنة.
إذن فقبل أن يقول لي : لا تقتل غيرك قال لي : إياك وأن تقتل نفسك. إذن فسبحانه ليس بغيور فقط على الناس منك، بل يغار عليك أيضا من نفسك، ولذلك فحين شرع سبحانه القصاص في القتل شرعه ليحميك لا ليجرئك على أن تقتل، أما عندما يأمر سبحانه : أن من قتل يقتل. فهو يقسط ويعدل، والقصد من هذا الحفاظ على حياتين ؛ لأنك إن علمت أنك إن قتلته قتلت لا تقتل. ومادمت لا تقتل فقد حميت حياتين حياة من كنت ستقتله وحياتك من أن يقتص منك وهذا هو معنى قوله :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ﴾( من الآية ١٧٩سورة البقرة ).
إذن فالذي يتفلسف ويقول : هذه بشاعة وكذا وكذا نقول له : الذي يشرع القصاص أيريد أن يقتل ؟ لا، بل يريد أن يحمي حياتك ؛ لأن القاتل عندما يعلم أنه إن قتل يقتل فلا يقتل، ومادام لا يقتل نكون قد حافظنا على حياته وحياة الآخر. إذن فقوله :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ قول صدق.
﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما٩٢ ﴾.
جاء هذا القول بعد أن تكلم سبحانه عن القتال لتثبيت أمر الدعوة، ولما كان القتال يتطلب قتل نفس مؤمنة نفسا كافرة، ناسب ذلك أن يتكلم الحق سبحانه عن القتل.
والقتل كما نعلم إزهاق روح الحي بنقض بنيته. والحي وإن لم ننقض بنيته حين يأتي أجله يموت. إذن فنقض اللبنية من الإنسان الذي يريد أن يقضي على إنسان عمل غايته إنهاء الحياة، فلا يظنن ظان أن القاتل الذي أراد أن ينقض بنية شخص يملك أن ينهي حياته، ولكنه يصادف انقضاء الحياة، فالذي ينهي الحياة هو الحق سبحانه وتعالى. ولذلك قلنا : إن الجزاء إنما وقع على القاتل لا لأنه أمات القتيل ولكن لأن القاتل تعجل في أمر استأثر الله وحده به، والقتيل ميت بأجله، فالحق سبحانه وتعالى هو الذي استخلف الإنسان في الكون، والاستخلاف شرحه الحق في قوله :﴿ واستعمركم فيها ﴾( من الاية٦١سورة هود ).
فالله هو الذي جعل الإنسان خليفة في الكون ليعمر هذا الكون، وعمارة الكون تنشأ بالتفكير في الارتقاء والصالح في الكون، فالصالح نتركه صالحا، وإن استطعنا أن نزيد في صلاحه فلنفعل.
الأرض على سبيل المثال تنبت الزرع، وإن لم يزرعها الإنسان فهو يجد زرعا خارجا منها، والحق يريد من الإنسان أن ينمي في الأرض هذه الخاصية فيأتي الإنسان بالبذور ويحرث الأرض ويزرعها. فهذا يزيد الأمر الصالح صلاحا. وهذا كله فرع وجود الحياة.
إذن فالاستخلاف في الأرض لإعمارها يتطلب حياة واستبقاء حياة للخليفة. ومادام استبقاء الحياة أمرا ضروريا فلا تأتي ايها الخليفة لخليفة آخر مثلك لتنهي حياته فتعطل إحياءه للأرض واستعماره لها. فالقتال إنما شرع للمؤمنين ضد الكافرين ؛ لأن حركة الكافرين في الحياة حركات مفسدة، ودرء المفسدة دائما مقدم على جلب المصلحة. فالذي يفسد الحياة يقاتله المؤمنون كي ننهي الحياة فيه، ونخلص الحياة من معوق فيها.
إذن فيريد الحق أن تكون الحياة لمن تصلح الأرض بحياته. والكافرون يعيثون في الأرض فسادا، ويعيشون على غير منهج، ويأخذون خير الضعيف ليصيروا هم به أقوياء، فشرع الله القتال إما ليؤمنوا فيخضعوا للمنهج، وإما ليخلص الحياة من شرهم. فإذا ما وجه الإنسان القتل لمؤمن وهو في ذاته صالح للاستعمار في الحياة يكون قد جنى على الحياة، وأيضا لو قتل الإنسان نفسه يكون قد جنة على الحياة كذلك، لماذا ؟ لأنه أفقد الحياة واحدا كان من الممكن أن يعمر بحركته الأرض.
فإن اجترأ على حياته أو على حياة سواه فلابد أن نؤدبه. كيف ؟ قال سبحانه :﴿ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ﴾( من الآية٢٧سورة يونس ).
والتشريع الإسلامي وضع للقاتل عن سبق إصرار وترصد عقابا هو القتل. وبذلك يحمي التشريع الحياة ولا ينمي القتل، بل يمنع القتل. إذن، فالحدود والقصاصات إنما وضعت لتعطي الحياة سعة في مقوماتها لا تضييقا في هذه المقومات، والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن القتال المشروع أراد أن يوضح لنا : إياكم أن تتعدوا بهذه المسألة، وتستعملوا القتال في غير الأمر المشروع، فإذا ما اجترأ إنسان على إنسان لينهي حياته في غير حرب إيمانية شرعية فماذا يكون الموقف ؟.
يقول التشريع : إنه يقتل، وكان يجب أن يكون في بالك ألا تجترئ على إزهاق حياة أحد إلا أن يكون ذلك خطأ منك، ولكن إن أنت فعلت خطأ نتج عنه الأثر وهو القتل. فماذا يكون الأمر ؟ هناك منفعل لك وهو القتيل وأنت القاتل ولكن لم تكن تقصده، هما إذن أمران : عدم القصد في ارتكاب القتل الخطأ، والأمر الثاني هو حدوث القتل.
يقول التشريع في هذه المسألة : إن القاتل بدون قصد قد أزهق حياة إنسان، وحياة هذا الإنسان لها ارتباطات شتى في بيئته الإيمانية العامة، وله ارتباطات ببيئته الأهلية الخاصة كعائلته، العائلة له أو العائل لها أو الأسرة أو الأقرب من الأسرة وهو الأصل والفرع، فكم دائرة إذن ؟ دائرة إيمانية عامة، ودائرة الأهل في عمومها الواسع، ودائرة الاسرة ودائرة خصوصية الأسرة في الأصل والفرع. وحين تنهي حياة إنسان في البيئة الإيمانية العامة فسوف تتأثر هذه البيئة بنقصان واحد مؤمن خاضع لمنهج الله ومفيد في حركته ؛ لأن الدائرة الإيمانية فيها نفع عام.
لكن الدائرة الأهلية يكون فيها نفع خاص قليلا والدائرة الأسرية نجد أن نفعه فيها كان خاصا بشكل ما، وفي الأصل والفرع نجده نفعا مهما وخاصا جدا. إذن فهذا القتل يشمل تفزيعا لبيئة عامة ولبيئة أسرة ولبيئة أصل وفرع.
ولذلك أريد أن تلاحظوا في أحداث الحياة شيئا يمر علينا جميعا، ولعل كثيرا منا لا يلتفت إليه، مع أنه كثير الحدوث، مثلا : إذا كنا جالسين في مجتمع وجاء واحد وقال :" فلان مات "، وفي هذا المجتمع أناس يعرفونه معرفة عامة. وآخرون يعرفونه معرفة خاصة ولهم به صلة، وأناس من أهله، وفيه والد الميت أو ابنه، انظروا إلى أثر النعي أو الخبر في وجوه القوم، فكل واحد سينفعل بالقدر الذي يصله ويربطه بمن مات. فواحد يقول :" يرحمه الله " وثان يتساءل بفزع :" كيف حدث ذلك " ؟ وثالث يبكي بكاء مرا، ورابع يبكي جاريا ليرى الميت. الخبر واحد فلماذا يتعدد أثر وصدى الانفعالات، ولماذا لم يكن الانفعال واحدا ؟.
نقول : إن الانفعال إنما نشأ قهرا بعملية لا شعورية على مقدار نفع الفقيد لمن ينفعل لموته ؛ فالذي كان يلتقي به لماما ويسيرا في أحايين متباعدة يقول :" رحمه الله ". والذي كان يجالسه كل عيد يفكر في ذكرياته معه، وحتى نصل إلى أولاده فنجد أن المتخرج الموظف وله أسرة يختلف انفعاله عن الخريج حديثا أو الذي يدرس، أو البنت الصغيرة التي مازالت تتلقى التعليم، هؤلاء الأولاد يختلف تلقيهم للخبر بانفعالات شتى، فالابن الذي له أسرة وله سكن يتلقى الخبر بانفعال مختلف عن الابن الذي مازال في الدراسة، وانفعال الابنة التي تزوجت ولها أسرة يختلف عن انفعال الابنة التي مازالت لم تجهز بعد.
إذن فالانفعال يحدث على مقدار النفعية، ولذلك قد نجدها على صديق أكثر مما نجدها على شقيق. وقالوا : من أحب إليك، أخوك أم صديقك ؟. قال : النافع. إذن تلقي خبر انتهاء الحياة يكون مختلفا، فالحزن عليه والأسف لفراقه إنما يكون على قدر إشاعة نفعه في المجتمع.
فالذي تجد المجتمع كله هائجا وثائرا وحزينا لفراقه كان نافعا للمجتمع كله، والذي تبكي عليه أسرته فقط نقول : إنه كان على قدر نفعه لأسرته وأولاده، وقد يموت واحد ولا يحس أحد أن الكون قد نقص. وهذا هو السبب في أنهم أرادوا أن يجعلوا لكل واحد وطنا. وقالوا : إن أوطان الناس على قدر همتهم. فواحد ليس له وطن إلا نفسه فقط ؛ يرى كل شيء لنفسه ولا يرى نفسه لأحد حتى ولو كانوا أولاده.
وهناك واحد يكون وطنه أسرته يعمل على قدر نفعها، وواحد يكون وطنه عائلته وقريته، وواحد وطنه أمته. وواحد وطنه العالم كله. إذن فعندما يفجع المجتمع في واحد فالهزة تأتي على قدر وطنه، وعندما يفاجأ الناس بواحد يقتل عن طريق الخطأ فالفاعل معذور. ولكن عذره لم يمنع أن تعدى فعله وأن الآخر قد قتل ؟. فالأثر قد حصل، وتحدث الهزة للأقرب له في الانتفاع، ولأن القتل خطأ فلن يتم القصاص من القاتل، ولكن عليه أن يدفع دية، وهذه الدية توزع على الناس الذين تأثروا بفقدان حياته ؛ لأن هناك قاعدة تقول : " بسط النفع وقبض الضر ".
إنك ساعة ترى شيئا سينفعك فإن النفس تنبسط، وعندما ترى شيئا سيضرك فان النفس تنقبض. وعندما يأتي للإنسان خبر موت عزيز عليه فإن نفسه تنقبض، وساعة يأتيه من بعد ذلك خير وهو حصوله على جزء من دية القتيل فالنفس تنبسط، وبذلك يتم علاج الأثر الحادث عن القتل الخطأ.
والدية بحكم الشرع تأتي من العاقلة، وبشرط ألا تؤخذ من الأصول والفروع، فلا تجتمع عليهم مصيبة فقد إنسان على يد أحد من أصولهم أو فروعهم وهم بذلك يفزعون فلا يجمع عليهم هذا الأمر مع المشاركة في الدية. كأن التشريع أراد أن يعالج الهزة التي صنعها انحراف بعلاج هو وقاية من رد الفعل فيحقق التوازن في المجتمع. فمن يقتل خطأ لا يقتص منه المجتمع ولكن هناك الدية. ومن أجل إشاعة المسئولية فالقاتل لا يدفعها، ولكن تدفعها العاقلة ؛ لأن العاقلة إذا ما عملت أن من يجني من أهلها جناية وأنها ستتحمل معه فإنها تعلم أفرادها فن صيانة حقوق غيرهم ؛ لأن كل واحد منها سيدفع، وبذلك يحدث التوازن في المجتمع.
والحق سبحانه وتعالى يعلمنا أن نستبعد أن يقتل مؤمن مؤمنا إلا عن خطأ، فلا يستقيم ان يحدث ذلك عمدا فيقول :﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ﴾ ومعنى هذا أن مثل هذا القتل لا يصح أن يحدث عن قصد ؛ لأن اللحمة بضم اللام الإيمانية تمنع هذا. لكن إن حدث هذا فما العلاج ؟. ﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ﴾.
ولا يذكر سبحانه هنا القصاص، فالقصاص قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾( من الآية١٧٨ سورة البقرة ).
والقصاص حق الولي فله ان يعفو او ان يأخذ الدية، كان يقول : عفوت عن القصاص على الدية. ويجب أن نفرق بين الحد وبين القصاص. فالقصاص حق الولي، والحد حق الله. وللولي ان يتنازل في القصاص، اما الحدود فلا يقدر أحد ان يتنازل عنها، لأنها ليست حقا لأحد ولكنها حق لله.
إذن فالقتل الخطأ قال فيه :﴿ فتحرير رقبة مؤمنة ﴾وهنا قد نسأل : وماذا يستفيد أهل المجنى عليه بالقتل من تحرير رقبة مؤمنة ؟. هل يعود ذلك على أهل القتيل ببسط في النفعية ؟. قد لا تفيدهم في شيء، لكنها تفيد المجتمع ؛ لأن مملوك الرقبة وهو العبد أو الأمة هو مملوك لسيده، والسيد يملك حركة العبد، ولكن عندما يكون العبد حرا فهو حر الحركة ؛ فحركة العبد مع السيد محدودة، وفي حريته حركة مفيدة للمجتمع.
إذن فالقبض الذي حدث من قتل نفس مؤمنة يقابلها بسط في حرية واحد كان محكوما في حركته فنقول له : انطلق في حركتك لتخدم كل مجتمعك. ويريد الحق بذلك أن يفتح مصرفا لحرية الأرقاء ضمن المصارف الكثيرة التي جعلها الإسلام لذلك.
وبعد هذا القول﴿ ودية مسلمة إلى أهله ﴾لكي تصنع البسط في نفوس أهله ليعقب القبض نتيجة خبر القتل. ولذلك نجد أسرة قد فجعت في أحد أفرادها بحادثة وعاشوا الحزن أياما ثم يأخذون الأوراق ويصرفون بها الدية أو التعويض، مما يدل على أن في ذلك شيئا من السلوى وشيئا من التعزية وشيئا من التعويض، ولو كانت المسألة مزهودا فيها لقالوا :" نحن لا نريد ذلك "، ولكن ذلك لا يحدث.
وبعد ذلك نجد الذي فقد حياة حبيب لا يظل في حالة حزن ليفقد حياة نفسه، ففي الواقع يكون الحزن من الحزين عل
﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما٩٣ ﴾.
والقتل هنا لمؤمن بعمد، فالأمر إذن مختلف عن القتل الخطأ الذي لا يدري به القاتل إلا بعد أن يقع. وجزاء القاتل عمدا لمؤمن هو جهنم، وليس له كفارة أبدا. هكذا يبشع الحق لنا جريمة القتل العمد. لأن التعمد يعني أن القاتل قد عاش في فكرة أن يقتل، ولذلك يقال في القانون " قتل مع سبق الإصرار ". أي أن القاتل قد عاش القتل في تخيله ثم في فعله، وكان المفروض في الفترة التي يرتب فيها القتل أن يراجعه وازعه الديني، وهذا يعني أن الله قد غاب عن باله مدة التحضير للجريمة، ومادام قد عاش ذلك فهو قد غاب عن الله، فلو جاء الله في باله لتراجع، ومادام الإنسان قد غاب باله عن الله فالله يغيبه عن رحمته.
﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾ وقالوا في سبب هذه الآية : إن واحدا اسمه مقيس بن ضبابة كان له أخ اسمه هشام، فوجد أخاه مقتولا في بني النجار، وهم قوم من الأنصار بالمدينة. فلما وجد هشاما قتيلا ذهب مقيس إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر، فأرسل معه رجلا من بني فهر وكتب إليهم أن يدفعوا إلى مقيس قاتل أخيه، فقال بنو النجار والله ما نعلم له قاتلا، ولكننا نؤدي الدية فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة مرتدا وجعل ينشد :
قتلت به فهرا وحملت عقله*** سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به وترى وأدركت ثورتي | وكنت إلى الأوثان أول راجع |
وهنا نجد أكثر من مرحلة في العذاب : جزاء جهنم، خلود في النار، غضب من الله، لعنة من الله، إعداد من الله لعذاب عظيم ؟ فكان جهنم ليست كل العذاب ؛ ففيه عذاب وفيه خلود في النار وفيه غضب وفيه لعنة ثم إعداد لعذاب عظيم. وهذا ما نستعيذ بالله منه. فبعضنا يتصور أن العذاب هو جهنم فحسب، وقد يغفل بعض عن أن هناك ألوانا متعددة من العذاب. وفي الحياة نرى إنسانا يتم حبسه فنظن أن الحبس هو كل شيء، ولكن عندما وصل إلى علمنا ما يحدث في الحبس عرفنا أن فيه ما هو أشر من الحبس.
وهنا وقفة وقف العلماء فيها : هل لهذا القاتل توبة ؟ واختلف العلماء في ذلك، فعالم يقول : لا توبة لمثل هذا القاتل. وعالم آخر قال : لا، هناك توبة. وجاء سيدنا ابن العباس وجلس في جماعة وجاء واحد وسأله : أللقاتل عمدا توبة ؟ قال ابن العباس : لا. وبعد ذلك بمدة جاء واحد وسأل ابن العباس : أللقاتل عمدا توبة ؟ فقال ابن العباس : نعم. فقال جلساؤه : كيف تقول ذلك وقد سبق أن قلت لا، واليوم تقول نعم.
قال ابن العباس : سائلي أولا كان يريد ان يقتل عمدا، أما سائلي ثانيا فقد قتل بالفعل، فالأول أرهبته والثاني لم أقنطه من رحمة ربه.
وكيف فرق ابن العباس بين الحالتين ؟ إنها الفطنة الإيمانية والبصيرة التي يبسطها الله على المفتي. فساعة يوجد النبي صلى الله عليه وسلم في صحابته يسأله واحد قائلا :" أي الإسلام خير " ؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه : " تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " ١ ويسأله آخر فيجيبه بقوله :" من سلم السلمون من لسانه ويده " وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يجيب كل سائل بما يراه أصلح لحاله أو حال المستمع، ويجيب كل جماعة بما هو أنفع لهم.. ويسأله عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : أي الأعمال أفضل ؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه :" الصلاة على ميقاتها. قلت : ثم ماذا يا رسول الله ؟ قال : أن يسلم الناس من لسانك " ٢.
ونعرف أن آية القتل العمد تتطلب المزيد من التفكر حول نصها﴿ فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾. وهل الخلود هو المكث طويلا أو على طريقة التأييد.. بمعنى أن زمن الخلود لا ينتهي ؟ ولو أن زمن الخلود لا ينتهي لما وصف الحق المكث في النار مرة بقوله :﴿ خالدين فيها ﴾( من الآية٨٨ سورة آل عمران ). ومرة أخرى بقوله :﴿ خالدين فيها أبدا ﴾( من الاية١٦٩سورة النساء ).
هذا القول يدل على أن لفظ التأبيد في " أبدا " فيه ملحظ يزيد على معنى الخلود دون تأبيد. وإذا اتحد القولان في أن الخلود على إطلاقه يفيد التأبيد، وأن﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ تفيد التأبيد أيضا، فمعنى ذلك أن اللفظ " أبدا " لم يأت بشيء زائد. والقرآن كلام الله، وكلام الله منزه عن العبث أو التكرار. إذن لابد من وقفة تفيدنا أن الخلود هو المكث طويلا، وأن الخلود أبدا هو المكث طويلا طولا لا ينتهي، وعلى ذلك يكون لنا فهم. فكل لفظ من القرآن محكم وله معنى. ثم إن كلمة " خالدين " حين وردت في القرآن فإننا نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في خلود النار :﴿ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد١٠٥ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق١٠٦ خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد١٠٧ ﴾( سورة هود ).
فكان الحق سبحانه وتعالى استثنى من الخلود﴿ إلا ما شاء ربك ﴾. والاستثناء لابد له من زمن، فلا نأخذ الخلود بمعنى التأبيد، ولكن الخلود هو زمن طويل، وكذلك يقول في خلود الجنة :﴿ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ١٠٨ ﴾ ( سورة هود ).
وقوله الحق :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾تفيد أن الخلود عندهم ينتهي. مادام هناك استثناء ؛ فالاستثناء لابد له من زمن، والزمن مستثنى من الخلود وعلى ذلك لا يكون الخلود تأبيديا.
وعلينا أن نتناول الآيات بهذه الروح، وفي هذه المسألة نجد وقفة لعالم من أعلام العقائد في العصر العباسي هو عمروا بن عبيد، وكان عمرو من العلماء الذين اشتهروا بالمحافظة على كرامة العلم وعزة العلماء لدرجة أن خليفة ذلك الزمان قال عنه وسط بعض المنتسبين إلى العلم :" كلهم طالب صيد إلا عمرو بن عبيد " وقد كانت منزلته العلمية عالية ونفسه ذات عزة إيمانية تعلو على صغائر الحياة. وكان عمرو بن عبيد دقيق الرأي، ويحكي عنه قيس بن أنس هذه الحكاية : كنت في مجلس عمرو بن عبيد فإذا بعمرو بن عبيد يقول :" يؤتى بي يوم القيامة فيقال لي : لم قلت بأن قاتل العمد لا توبة له. قال : فقرأت الآية :﴿ فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾وكان يجب أن يلتفت عمرو بن عبيد إلى أن الإلهام الذي جاءه أو الرؤيا التي أراها له الله بأنه سوف يؤتى به يوم القيامة ليسأل لماذا أفتى بألا توبة لقاتل العمد، كان يجب أن يلتفت إلى ذلك يتضمن أن لقاتل العمد توبة ؛ لأن سؤاله عن ذلك يوم القيامة يشير إلى عتاب في ذلك.
نقول ذلك لنعرف أن الحق سبحانه وتعالى جعل فوق كل ذي علم عليما.. ولكن عمرا ذكر ما جاء في قول الحق :﴿ فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾. وقال قيس بن أنس : وكنت أصغر الجالسين سنا، فقلت له : لو كنت معك لقلت كما قلت :﴿ فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾وقلت أيضا :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾( من الآية٤٨سورة النساء ). قال قيس : فوالله مارد على عمرو بن عبيد ما قلت. ومعنى ذلك موافقة عمرو بن عبيد. ماذا تفيد هذه ؟. تفيد ألا نأخذ كلمة﴿ خالدين فيها ﴾ بمعنى التأبيد الذي لا نهاية له ؛ لأن الله قد استثنى من الخلود في آية أخرى.
والحق سبحانه وتعالى بعد أن شرح حكم القتل العمد والقتل الخطأ، بحث العلماء ووجدوا أن هناك قتلا اسمه " شبه العمد " أي انه لا عمد ولا خطأ، وكأن يأتي إنسان إنسانا آخر ويضربه بآلة لا تقتل عادة فيموت مقتولا، وهنا يكون العمد موجودا، فالضارب يضرب، ويمسك بآلة ويضرب بها، وصادف ان تقتل الآلة التي لا تقتل غالبا، وقال العلماء : القتل معه لا به، فلا قصاص، ولكن فيه دية.
٢ رواه الطبراني..
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا٩٤ ﴾.
فيأيها المؤمنون حين تضربون في سبيل الله فتبينوا وتثبتوا فلا تعمل سيوفكم أو رماحكم أو سهامكم إلا بعد أن تتثبتوا :﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾.
إذن فهذه آية تجمع بين كل المعاني، ففيها الحكم وحيثيته والمراد منه، وسبحانه يبدأها بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾، والخطاب الإيماني حيثية الالتزام بالحكم، فلم يقل :﴿ يا أيها الناس إذا ضربتم فتبينوا ﴾، ولكنه قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ﴾فهو يطلب المؤمنين به بحكم لانهم آمنوا به إلها، وماداموا قد آمنوا فعليهم إتباع ما يطلبه الله. فحيثية كل حكم من الأحكام ان المؤمن قد آمن بمن أصدر الحكم، فإياك أيها المؤمن أن تقول :" ما العلة " أو " ما الحكمة " وذلك حتى لا تدخل نفسك في متاهة. ولا نزال نكرر هذه المسألة، لأن هذه المسألة تطفو في أذهان الناس كثيرا، ويسأل بعضهم عن حكمة كل شيء، ولذلك نقول : الشيء إذا عرفت حكمته صرت إلى الحكمة لا إلى الآمر بالحكم.
ونرى الآن المسرفين على أنفسهم الذين لا يؤمنون بالله، أو يؤمنون بالله ولكنهم ارتكبوا الكبائر من شهادة زور، إلى ربا، إلى شرب خمر، وعندما يحلل الأطباء للكشف عن كبد شارب الخمر على سبيل المثال نجده قد تليف، وان أي جرعة خمر ستسبب الوفاة. هنا يمتنع عن شرب الخمر. لماذا امتنع ؟. لأنه عرف الحكمة. وقد يكون قائلها له مجوسيا، فهل كان امتناعه عن الحكم تنفيذا لأمر إلهي ؟. لا، ولكن المؤمن يمتنع عن الخمر لأنها حرمت بحكم من الخمر لأنها حرمت بحكم من الله والمؤمن ينفذ كل الأحكام حتى في الأشياء غير الضارة، فمن الذي قال : إن الله لا يحرم إلا الشيء الضار ؟ إنه قد يحرم أمرا تأديبيا للإنسان. ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نجد الزوج يقول لزوجه : إياك أن تعطي ابننا بعضا من الحلوى التي أحضرتها. وهو يحرم على ابنه الحلوى لا لأنها ضارة، ولكنه يريد تأديب الابن والتزامه.
والحق يقول :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾( من الآية١٦٠سورة النساء ). فالذي يذهب إلى تنفيذ حكم الله إنما يذهب إليه لأن الله قد قاله، لا لأن حكمة الحكم مفيدة له، فلو ذهب إنسان إلى الحكم من أجل فائدته أو ضرره فإن الإيمان يكون ناقصا، والله يدير في كثير من الأوقات حكمته في الأحكام حتى يرى الإنسان وجها من الوجوه اللانهائية لحكمة الله التي خفيت عليه، فيقول الإنسان : انا كنت أقف في حكمة كذا، ثم بينت لي الأحداث والأيام صدق الله فيما قال. وهذا يشجع الإنسان أن يأخذ أحكام الله وهو مسلم بها. والحق يقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾والإيمان هو الحيثية، يا من آمنت بي إلها قادرا حكيما.. اسمع مني ما أريده :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ﴾ والضرب كما نعرف هو انفعال الجارحة على شيء آخر بعنف وقوة. وقوله :﴿ وإذا ضربتم في الأرض ﴾( من الآية١٠١سورة النساء ).
معناها أن الحياة كلها حركة وانفعال، ولماذا الضرب في الأرض ؟. لأن الله أودع فيها كل أقوات الخلق، فحين يحبون أن يخرجوا خيراتها ؛ يقومون بحرثها حتى يهيجوها، ويرموا البذور، وبعد ذلك الري. ومن بعد ذلك تخرج الثمار، وهذه هي عملية إثارة الأرض. إذن كل حركة تحتاج إلى شدة ومكافحة، والحق يقول :﴿ وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ﴾( من الآية٢٠سورة المزمل ).
ومادامت المسألة ضربا في الأرض فهي تحتاج إلى عزم من الإنسان وإلى قوة. ولذلك يقال : الأرض تحب من يهينها بالعزق والحرث. وكلما اشتدت حركة الإنسان في الأرض أخرجت له خيرا. والضرب في سبيل الله هو الجهاد، أو لإعداد مقومات الجهاد. والحق سبحانه يقول لنا :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾( من الآية٦٠سورة الأنفال ).
فالإعداد هو أمر يسبق المعارك، وكيف يتم الإعداد ؟.
إن نقوم بإعداد الأجسام، والأجسام تحتاج إلى مقومات الحياة. وإن نقوم بإعداد العدد. والعدد تحتاج إلى بحث في عناصر الأرض، وبحث في الصناعات المختلفة لنختار الأفضل منها. وكل عمليات الإعداد تطلب من الإنسان البحث والصنعة. ولذلك يقال في الأثر الصالح :" إن السهم الواحد في سبيل الله يغفر الله به لأربعة ".
لماذا ؟. لأن هناك إنسانا قام بقطع الخشب الذي منه صناعة السهم وصقله، وهناك إنسان وضع للسهم الريش حتى يطيره إلى الأمام، وهناك واضع النبل، وهناك من يرمي السهم بالقوس. والحق يريد منا أن نكون أقوياء حتى يكون الضرب منا قويا، فيقول :﴿ إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ﴾ ونعرف أن الضرب في سبيل الله لا يكون في ساعة الجهاد فقط، ولكن في كل أحوال الحياة ؛ لأن كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ﴿ وتبينوا ﴾ تعني ألا تأخذوا الأمور بظواهرها فلا تمضوا أمرا أو تعملوا عملا إلا إذا تثبتم وتأكدتم حتى لا يصيب المؤمنون قوما بظلم.
ولهذا الأمر قصة، كان هناك رجل اسمه " محلم بن جثامة "، وكان بينه وبين آخر اسمه " عامر بن الأضبط الأشجعي " إحن أي شيء من البغضاء وبعد ذلك كان " محلم " في سرية، وهي بعض من الجند المحدود العدد وصادف " عامرا الأشجعي "، وكان " عامر " قد أسلم، لذلك ألقى السلام إلى " محلم " فقال " محلم " : إن عامرا قد أسلم ليهرب مني. وقتل محلم عامرا. وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله الرسول : ولماذا لم تتبين ؟. ألم يلق إليك السلام، فكيف تقول إنه يقول :" السلام عليكم " لينقذ نفسه من القتل ؟.
فقال " محلم " : استغفر لي يا رسول الله.
وإذا ما قال أحد لرسول الله : استغفر لي يا رسول الله.. فرسول الله ببصيرته الإيمانية يعرف على الفور حال طالب الاستغفار، فإن قال رسول الله :" غفر الله لك " فهو يعلم أنه كان معذورا، وإن لم يقل رسول الله ذلك، فيعرف طالب الاستغفار أنه مذنب. ولأن بين " محلم " و " عامر " إحنا وعداوات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحلم لا غفر الله لك لان الرسول صلى الله عليه وسلم علم الاحن والبغضاء هي التي جعلته لا يدقق في أمر " عامر ".
وقال الرواة : ومات محلم بعد سبعة أيام من هذه الحادثة، ودفنوه فلفظته الأرض. فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروها ذلك له فقال( إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله أراد أن يعظكم، ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة )١.
وعندما كانت تأتي آية مخالفة لنواميس الدنيا المفهومة للناس فالنبي يريد ألا يفتتن الناس في هذه الآيات، ومثال ذلك عندما مات إبراهيم ابن النبي.. انكسفت الشمس.. وقال الناس : انكسفت الشمس من أجل ابن رسول الله. ولكن لأن المسالة مسألة عقائد فقد وضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الشريف :
عن المغيرة بن شعبة قال : كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس : كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله " ٢.
لقد قالوا ذلك تكريما لرسول الله وابنه إبراهيم، ولكن الرسول يريد أن يصحح للناس مفاهيمهم وعقائدهم. وكذلك عندما لفظت الأرض " محلم " حتى لا يفتت أحد ولا يقولن أحد. إن كل من لا تلفظه الأرض هو حسن العمل، فهناك كفار كثيرون قد دفنوا ولم يلفظوا. لذلك قال رسول الله : إن الأرض قبلت من هو شر من " محلم " ولكن الله أراد أن يعظ الناس حتى لا يعودوا لمثلها، ولو لم يقل ذلك، فماذا كان يحدث ؟. قد تحدث هزة قليلة في جزئية ولظن الناس وقالوا : إن كل من لم تلفظه الأرض فهو حسن العمل، ولكان أبو جهل في حال لا بأس به، وكذلك الوليد بن المغيرة. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يضع مثل هذه الأمور في وضعها الصحيح ؛ لذلك قال : ان الأرض تقبل من هو شر من " محلم "، ولكن الله أراد أن يعظ القوم ألا يعودوا٣.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ﴾. وعلى ذكر ذلك قال لي أخ كريم : كنت أسمع إحدى الإذاعات واخطئوا وقالوا( فتثبتوا ) بدل من( فتبينوا ) في قوله الحق :﴿ إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾( من الاية٦ سورة الحجرات )، وأقول : هذه قراءة من القراءات، والمعاني دائما ملتقية، ف " تبين " معناها " طلب البيان ليتثبت ". ونعرف أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف، وكتابة القرآن كانت بغير نقط وبغير شكل، وهذا حال غير حالنا ؛ حيث نجد الحروف قد تم تشكيلها بالفتحة والضمة والكسرة.
ونحن نعرف أن هناك حروفا مشتبهة الصورة. ف " الباء " تتشابه مع كل من :" الياء "، وال " نون " وال " تاء " وال " ثاء "، ولم تكن هذه النقط موجودة، ولم تكن هذه العلامات موجودة قبل الحجاج الثقفي، وكانوا يقرؤون من ملكة العربية ومن تلقين وإتباع للوحي، ولذلك :﴿ فتبينوا ﴾ ممن تتكون ؟ تتكون من : ال " فاء " ولم يحدث فيها خلاف، وال " تاء " وبقية الحروف هي ال " باء " و ال " ياء " وال " نون ".
وكل واحدة من هذه الأحرف تصلح أن تجعلها " تثبتوا " بوضع النقاط أو تجعلها " تبينوا "، إنه خلاف في النقط. ولو حذفنا النقط لقرأناها على أكثر من صورة، والذي نتبعه في ذلك هو ما ورد عن الوحي الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك عندما جاءوا بشخص لم يكن يحفظ القرآن وأحضروا له مصحفا ليقرأ ما فيه فقال :( صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة ).
ولم يحدث خلاف في ال " صاد " ولكن حدث خلاف في ال " باء " فهي صالحة لتكون باء أو نونا، وكذلك " الغين " يمكن أن تكون " عينا " وقراءة هذه الآية في قراءة " حفص " :﴿ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ﴾( من الآية١٣٨سورة البقرة ).
وعندما قرأها الإنسان الذي لا يجيد حفظ القرآن قال :( صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة ). والمعنى واحد.
ولكن قراءة القرآن توفيقية، وإتباع للوحي الذي نزل به جبريل عليه السلام من عند رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يصح لأحد أن يقرأ القرآن حسب ما يراه وإن كانت صورة الكلمة تقبل ذلك وتتسع له ولا تمنعه، ولذا قالوا : أن للقراءة الصحيحة أركانا هي :
١ أن تكون موافقة لوجه من وجوه اللغة العربية.
٢ أن تكون موافقة لرسم أحد المصاحف العثمانية.
٣ أن يصح إسنادها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق يقيني متواتر لا يحتمل الشك.
وهذه الضوابط نظمها صاحب طيبة النشر فقال :
وكل ما وافق وجه نحو | وكان للرسم احتمالا يحوي |
وصح إسنادا هو القرآن | فهذه الثلاثة الأركان |
{ قال عذابي أصيب به من أشا
٢ رواه البخاري..
٣ رواه أحمد وابن جرير..
﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على ا لقاعدين أجرا عظيما٩٥ ﴾.
ولهذه الآية قصة.. واقتناص الخواطر من هذه القصة يتطلب يقظة تعلمنا كيف يخاطب الحق خلقه. فقد حدثنا سيدنا زيد بن ثابت وهو المأمون على كتابة وحي رسول الله. وهو المأمون على جمع كتاب الله من اللخاف١ ومن العظام ومن صدور الصحابة، حدثنا فقال :
كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغشيته السكينة وهذه كانت دائما تسبق نزول الوحي على رسول الله فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها.
أي أن فخذ رسول الله كانت ثقيلة.
والوحي ساعة كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما كان يصنع في كيماوية رسول الله تأثيرا ماديا بحيث إذا كان على دابة عرف الناس أنه يوحى إليه ؛ لأن الدابة كانت تئط تحته فإذا كانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد بن ثابت، فلابد أن يشعر سيدنا زيد بثقل فخذ رسول الله وقد جاءه الوحي. قال زيد : خشيت أن ترض فخذه فخذي أي تصيبها بالدق الشديد أو الكسر. فلما سري عنه قال اكتب :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ﴾، فقال سيدنا ابن أم مكتوم، وكان كما نعلم ضريرا مكفوف البصر قال : فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين يا رسول الله ؟.
إنها اليقظة الإيمانية من ابن مكتوم، لأنه فهم موقفه من هذا لقول، ومن أنه لا يستطيع الجهاد، وعلم أنه إن كانت الآية ستظل على هذا فلن يكون مستويا مع من جاهد، ولهذا قال قولته اليقظة : فكيف بمن لا يستطيع ذلك يا رسول الله ؟.
فأخذت رسول الله السكينة ثانية، ثم سرى عنه، فقال لزيد بن ثابت : اكتب :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله ﴾.
فكأنها نزلت جوابا مطمئنا لمن لا يستطيع القتال مثل ابن أم مكتوم. ولقائل أن يقول : وهل كانت الآية تنتظر أن يستدرك ابن ام مكتوم ليقول هذا ؟.
ونقول : إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن ينبه كل مؤمن أنه حين يتلقى كلمة من الله أن يتدبر ويبين موقعه من هذه الكلمة ؛ فإذا كان حال سيدنا ابن أم مكتوم فيما سمع رسول الله عن ربه فهو يعلمنا كيف نستحضر دورنا من أية قضية نسمعها. وحينما سمع ابن أم مكتوم الآية رأى موقفه من هذه الآية، وهذا ما يريده الحق من خلقه.
وقال زيد بن ثابت : فكتبتها.
إنها الدقة في أداء زيد بن ثابت لتدلنا على صدق الرواية، فحين يكتب أولا ﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ﴾ألا تلتصق كلمة ﴿ المجاهدون ﴾بكلمة﴿ المؤمنين ﴾فإذا زاد الحق سبحانه وتعالى﴿ غير أولي الضرر ﴾فأين تكتب ؟.
كان زيد بن ثابت كان عليه أن يقوم بتصغير الكتابة ليكتب﴿ غير أولي الضرر ﴾بين كلمة﴿ من المؤمنين ﴾وكلمة﴿ المجاهدون ﴾. قال سيدنا زيد بن ثابت : لقد نزلت﴿ غير أولي الضرر ﴾وحدها وكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع الكتف فقد كانوا يكتبون على أكتاف العظم والكف التي كتب عليها سيدنا زيد بن ثابت كانت مشروخة وكانت هذه علامة بها.
ويريد الحق بذلك أن ينبه المؤمنين إلى أنهم حين يتلقون كتاب الله يجب أن يتلقوه بيقظة إيمانية بحيث لا تسمع آذانهم إلا ما يمر على عقولهم أولا ليفهم كل مؤمن موقفه منها، وتمر الآية على قلوبهم ثانية لتستقر في ذاتهم عقيدة.
كذلك كانت قصة زيد بن ثابت وابن أم مكتوم والوحي في هذه الآية :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون ﴾.
وهناك حالات يأتي الفعل فلا يصح له فاعل واحد بل لابد له من اثنين.. مثال ذلك عندما نقول : تشارك زيد وعمرو. وعندما نصف لاعبي الكرة، نجد من يتلقف الكرة واحدا بعد الآخر، فنقول : تلقف اللاعبون الكرة رجلا بعد رجل.
وعندما يقول الحق :﴿ لا يستوي ﴾فهذا يدل على أن هناك شيئين لا يتساويان، فأيهما غير المساوي للآخر ؟. كلاهما لا يتساوى مع الآخر، ولذلك يكون الاثنان في الإعراب " فاعلا "، فلا يساوي المجاهدون القاعدين ولا يساوي القاعدون المجاهدين ؛ لأن كلا منهما فاعل ومفعول.
وعندما نقول :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين ﴾فما هو مقابل " القاعدين " في الآية الكريمة ؟ إنه " المجاهدين " لكن المقابل في الحياة، العادية للقاعدين هو القائمون ومقابل المجاهدين هو " غير المجاهدين ". وبذلك كان من الممكن القول : لا يستوي القاعدون والقائمون، أو أن يقال : لا يستوي المجاهدون وغير المجاهدين. فما الحكمة في مجيء القاعدين والمجاهدين ؟.
إن الحق يريد أن يبين أنه في بداية الإسلام كان كل مؤمن حين يدخل الإسلام يعتبر نفسه جنديا في حالة تأهب، وكانوا دائما على درجة استعداد قصوى ليلبوا النداء فورا ؛ فالمسلم لم يكن في حالة استرخاء، بل في تأهب وكأنه واقف دائما ليلبي النداء، وكان القاعد هو الذي ليس من صفوف المؤمنين، ويبين لنا ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام :" من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار إليها يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير " ٢.
فإن لم يكن المؤمن متأهبا فهو قاعد، والقاعد كما نعرف هو ضد القائم. والحق يقول :﴿ فاذكروا الله قياما وقعودا ﴾( من الآية١٠٣ سورة النساء ).
من هذا القول نعرف أن المقابل للقيام هو القعود.
وعلينا أن نعرف أن لكل لفظ معنى محددا، فبعضنا يتصور أن القعود كالجلوس، ولكن الدقة تقتضي أن نعرف أن القعود يكون عن قيام، وأن الجلوس يكون عن الاضطجاع، فيقال : كان مضطجعا فجلس، وكان قائما فقعد.
وعندما يقول الحق هنا :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ﴾فالقعود مقابل القيام، فكان المجاهد حالته القيام دائما، وهو لا ينتظر إلى أن يقوم، لكنه في انتباه واستعداد. ويوسع الحديث الشريف الدائرة في مسئوليات المجاهد فيرسم صورة للمقاتل أنه على أتم استعداد وعلى صهوة الفرس وممسك باللجام حتى لا تدهمه أية مفاجأة.
وهل كانت هناك مظنة أن يستوي القاعد والمجاهد ؟. لا، ولكن يريد الله أن يبين قضية إيمانية مستورة، فيظهرها بشكل واضح لكل الأفهام.
ونحن نقول للطالب :" إن من يستذكر ينجح ومن لا يستذكر يرسب " وهذه مسألة بديهية، لكننا نقولها حتى نجعلها واضحة في بؤرة شعور التلميذ فيلتفت لمسئولياته.
وعندما يقول الحق :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله ﴾هل معنى ذلك أن عقلا واحدا في زمن رسول الله كان يظن المساواة بين القاعد والمجاهد ؟ لا، ولكن الحق يريدها قضية إيمانية في بلغ إيماني من الله. وبعد ذلك يلفت الأنظار إلى صفة القاعدين الذين لا يستوون مع المجاهدين فيقول :﴿ غير أولي الضرر ﴾. والضرر هو الذي يفسد الشيء مثل المرض، وهذا ما يوضحه قوله الحق :
﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم٩١ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون٩٢ ﴾( سورة التوبة ).
فالضعف ضرر أخرج الإنسان عن مقومات الصحة والعافية، والمرض ضرر، والذين لا يجدون مالا ينفقون منه ؟، ولا الذين يجيئون لرسول الله فلا يكون بحوزة الرسول دواب تحملهم، فينصرفون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا لأنهم لا يجدون ما ينفقون. وكان المؤمن من هؤلاء يحزن لأن رسول الله لم يجد له فرسا أو دابة تنقله إلى موقع القتال :﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون٩٢ ﴾( سورة التوبة ).
لقد تولوا وأعينهم تفيض من الدمع، وكلمة " تولوا " هنا لها معنى كبير، فلم يقل الحق : إن أعينهم تفيض من الدمع من غير التولي، هم لا يدمعون أمام النبي، ولكنهم يدمعون في حالة توليهم، وهذا انفعال نفسي من فرط التأثر ؛ لأنهم لا يشتركون في القتال. وكلمة " تفيض " تدل على أن الدمع قد غلب على العين كلها، فهم لا يصطنعون ذلك، لكن الانفعال يغمرهم ؛ لأن الذي يتصنع ذلك يقوم بتعصير عينيه ويبذل جهدا للمراءاة، ولكن انفعال المؤمنين الذين لا يقاتلون يغلبهم فتفيض أعينهم من الدمع.
وهناك آية أخرى حدد فيها الحق الحالات التي لا يطالب فيها المؤمن بالقتال :﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾( من الآية ١٧سورة الفتح ).
هؤلاء إذن هم أولو الضرر.
﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ﴾، وماداموا لا يستوون فمن الذي فيهم يكون هو الأفضل ؟.
ذلك ما توضحه بقية الآية التي تحمل المقولة الإيمانية الواضحة :﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ﴾. وسبحانه وعد الاثنين بالحسنى الإيمانية ؛ لأن كلا منهما مؤمن، ولكن للمجاهد درجة على القاعد. وإن تساءل أحد : ولماذا وعد الله القاعد من أولي الضرر بالحسنى ؟ وهنا أقول : علينا أن ننتبه وأن نحسن الفهم والتدبر عندما نقرأ القرآن ؛ لأن الذي أصابته آفة فناله منها ضرر، فصبر لحكم الله في نفسه، ألا يأخذ ثوابا على هذه ؟.
لقد أخذ الثواب ولابد إذن أن يعطي الحق من لم يأخذ ثوابا مثله فرصة ليأخذ ثوابا آخر حتى يكون الجميع في الاستطراق الإيماني سواء. لذلك يقول سبحانه :﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾.
والحسنى في أولى الضرر أنه أخذ جزاء الصبر على المصيبة التي أصابته، والذي لم يصب بضرر سيأخذ ثواب الجهاد، وبذلك يكون الجميع قد نالوا الحسنى من الله.
﴿ وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ﴾.
وسبحانه يضع أجرا جديدا للقائم مجاهدا على القاعد، ففي صدر الآية جاء ب " درجة " أعلى للقائم مجاهدا، وهنا " أجر عظيم ". ما تفسير هذا الأجر العظيم ؟. التفسير يجيء في قوله :﴿ درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما٩٦ ﴾.
٢ رواه مسلم في الإمارة وابن ماجة في الفتن ورواه أحمد. و(الهيعة) هي الصوت عند حضور العدو. و(الفزعة)هي النهوض إلى العدو. و(الشعفة)هي أعلى الجبل..
ولكن هل الدرجات هي لكل المجاهدين ؟. لا ؛ لأننا لابد أن نلحظ الفرق بين الخروج من الوطن وترك الأهل للجهاد ؛ وعملية الجهاد في ذاتها ؛ فعملية الجهاد في ذاتها تحتاج إلى همة إيمانية، ولذلك جاء الحق بنص في سورة التوبة :﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين١٢٠ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون١٢١ ﴾( سورة التوبة ).
هنا يوضح الحق أنه لا يصح لأهل المدينة والأعراب الذين حولهم أن يتخلفوا عن الجهاد مع رسول الله، ولا يرضوا لأنفسهم بالسعة والدعة والراحة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشدة والمشقة، فكما ذهب إلى القتال يجب أن يذهبوا ؛ لأن الثواب كبير، فلا يصيبهم تعب إلا ولهم عليه أجر العمل الصالح، ولا يعانون من جوع إلا ولهم أجر العمل الصالح، ولا يسيرون في مكان يغيظ الكفار إلا ولهم أجر العمل الصالح. ولا ينالون من عدو نيلا إلا ويكتبه الله لهم عملا صالحا، فسبحانه يجزي بأحسن ما كانوا يعملون.
وقام العلماء بخصر تلك العطاءات الربانية بسبع درجات، فواحد ينال الدرجات جميعا. وآخر أصابه ظمأ فقط فنال درجة الظمأ، وآخر أصابه نصب فأخذ درجة النصب أي التعب، وثالث أصابته مخمصة، ورابع جمع ثلاث درجات، وخامس جمع كل الدرجات.
وعندما نقوم بحساب هذه الدرجات نجدها : الإصابة بالظمأ، والنصب أي التعب الجوع، ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار أي لا ينزلون في مكان يتمكن فيه المسلمون منهم ويبسطون سلطانهم عليهم، والمقصود الحصن الحصين عند الكافر، النيل : التنكيل بالعدو، النفقة الصغيرة أو الكبيرة، وقطع أي واد في سبيل الله، وهذه هي الدرجات السبع التي يجزي الله عنها بأحسن مما عمل أصحابها، كما فسرها العلماء، فمن نال الدرجات السبع فقد نال منزلة عظيمة، وكل مجاهد على حسب ما بذل من جهد. فمن المجاهدين من ينال درجة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو ست أو سبع درجات. وعندما نقرأ الآيتين معا :
﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما٩٥درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما٩٦ ﴾( سورة النساء ).
نجد أن الله يرغب المؤمنين في أن يكونوا مجاهدين، وأن يبذلوا الجهد لتكون كلمة الله هي العليا. فإذا ما آمن الإنسان فليس له أن يتخلف عن الصف الإيماني ؛ لأنه مادام قد نفع نفسه بالإيمان فلم لا ينضم إلى ركب من ينفع سواه بالإيمان ؟. ويريد الله أن يعبئ كل من مس الإيمان قلبه، وحتى ولو كان موجودا في مكان يسيطر عليه الكفار، فيدعوه لأن يتخلص من التفاف الكفار حوله وليخرج منضما إلى إخوته المؤمنين. وليشيع الإيمان لسواه ويعبر عمليا عن حبه للناس مما أحبه لنفسه. ولكن هناك من قالوا : نحن ضعاف غير قادرين على الهجرة أو القتال في سبيل الله. فيأتي القرآن بقطع العذر لأي إنسان يتخلف عن ركب الجهاد في سبيل الله وسبيل نصرة دين الله فيقول الحق :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا٩٧ ﴾.
وتنسب الوفاة الى عزرائيل " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " من الاية ١١ سورة السجدة وإذا ما أطلق الحق هذه الأساليب الثلاثة في وصف عملية الوفاة فهل هذا اختلاف وتناقض وتضارب في أساليب القرآن ؟ لا، بل هو إيضاح لمراحل الولاية التي صنعها الله، فهو الآمر الأعلى يصدر الأمر إلى عزرائيل، وعزرائيل يطلق الأمر لجنوده. وفي حياتنا ما يشرح لنا هذا المثل ولله المثل الأعلى فالتلميذ قد يذهب إلى المدرسة بعد امتحان آخر العام ويعود إلى بيته قائلا : لقد وجدت نفسي راسبا، والسبب في ذلك هم المدرسون الذين قصدوا عدم إنجاحي.
ويرد عليه والده : المدرسون لم يفعلوا ذلك، ولكن اللوائح التي وضعتها الوزارة لتصحيح الامتحانات هي التي جعلتك راسبا. فيرد التلميذ : لقد جعلني الناظر راسبا. وهذا قول صحيح ؛ لأن الناظر يطبق القوانين التي يحكم بمقتضاها على الطالب أن يكون ناجحا أو راسبا. وقد يقول التلميذ : إن وزير التربية والتعليم هو من جعلني راسبا. وهذا أيضا صحيح ؛ لأن الوزير يرسم مع معاونيه الخطوط الأساسية التي يتم حساب درجات كل تلميذ عليها، فإذا قال التلميذ : لقد جعلتني الدولة راسبا، فهو قول صحيح ؛ لأنه فهم تسلسل التقنين إلى مراحل العلو المختلفة، وأي حلقة من هذه الحلقات تصلح أن تكون فاعلا. ومن هنا نفهم أن الحق سبحانه حين يقول :﴿ والله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾( من الآية٤٢ سورة الزمر ).
فهذا قول صحيح، مثل قوله سبحانه :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ﴾ ( من الآية١١ سورة السجدة ).
ومثل قوله سبحانه :﴿ توفته رسلنا ﴾( من الآية ٦١سورة الأنعام ).
كل هذه الأقوال صحيحة ؛ لأنها تتعلق بمدارج الآمر.
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾والظلم هو أن تأتي لغير ذي الحق وتعطيه ما تأخذ من ذي الحق، والظلم يقتضي ظالما ومظلوما وأمر وقع الظلم فيه. فكيف يكون الإنسان ظالما لنفسه وتتوفاه الملائكة على ذلك ؟. لابد أنهم فعلوا ما يستحق ذلك. فساعة تأتي للإنسان الشخصية المعنوية الإيمانية بعد أن آمن بالله وآمن بالمنهج، ثم تحدثه نفسه بالمخالفة، هنا يواجه صراعا بين أمرين : مسئولية الشخصية الإيمانية التي تقبل بها المنهج من الله، ووازع النفس التي تلح عليه بالانحراف. ويدور ما هو أشبه بالحوار بين المسئولية الإيمانية ووازع النفس الملح بالانحراف. وعندما تتغلب النفس الإيمانية يعرف الإنسان أن نفسه صارت مطمئنة وسعيدة، ويقول لنفسه : إنك إن طاوعت وازع الانحراف تكن قد حققت شهوة عاجلة ستكوى بها في آخر الأمر، وأنت برفضك للشهوة تكون قد أنصفت نفسك. ولو طاوعت شهوتك العاجلة تكون قد ظلمت نفسك مثل ذلك يحدث في حياتنا العادية : عندما تدلل الأم ابنها بينما يطلب منه والده الاستذكار ويحاول أن يردعه ليقوم بمسئوليته الدراسية، وإن هذه الأم تظلم ابنها، وكذلك يعطينا الحق فكرة عن الصراع بين الشخصية الإيمانية والنفس الانحرافية التي تريد الهوى فقط فيقول :﴿ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين٢٧ ﴾( سورة المائدة ).
هنا يقول هابيل لقابيل :
ولماذا تقتلني ؟. إنني لست أنا الذي تقبل القربان ولكن الذي تقبله هو الله فما ذنبي ؟.
ويأتي بعد ذلك الحوار :﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين٢٨ ﴾( سورة المائدة ).
ولنلتفت إلى هذا القول الحكيم :﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه ﴾( من الآية ٣٠سورة المائدة ).
كأن هناك صراعا في نفس قابيل بين أمرين " اقتل " و " لا تقتل "، النفس الإيمانية تقول :" لا تقتل " والنفس الشهوانية تقول :" بل عليك أن تقتل ".
وتغلبت النفس الشهوانية عندما طوعت له قتل أخيه، ومهدت له ذلك. وبعد أن قتل أخاه، وضاعت شرة الغضب صار من النادمين، ثم بدات الحيثيات تظهر وتتضح. ويبعث الله غرابا يبحث ويحفر في الأرض ليواري جثة غراب آخر. هنا قال قابيل :﴿ أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي ﴾ ( من الآية ٣١سورة المائدة ).
وهكذا نرى أن ظلم النفس هو أن نخالف ما شرع الله للنفس لينفعها نفعا
أبديا مستوفيا، ولكن النفس قد تندفع وراء حبها للشهوات وتمنيها للنفع العاجل الذي لا خلود له، وعندما يحقق الإنسان هذا النفع العاجل لنفسه فهو يظلم نفسه.
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ﴾إذن فالملائكة تسأل ظالمي أنفسهم :﴿ فيم كنتم ﴾ أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم ؟ والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع أي لماذا ظلمتم أنفسكم ؟ ولماذا لم تفعلوا مثلما فعل إخوانكم وهاجرتم وانضممتم لموكب الإيمان وموكب الجهاد ؟. ، ولماذا ظللتم في أماكنكم محجوزين ومحاصرين ولا تستطيعون الحركة ولا تستطيعون الفكاك ؟ وتكون إجابة الذين ظلموا أنفسهم :﴿ قالوا كنا مستضعفين في الأرض ﴾. وبالله عندما يحكى لنا الله هذه الصورة التي تحدث يوم القيامة فهل سيكون عندنا وقت للاستفادة منها ؟. طبعا لا ؛ لأنه لن يكون لنا قدرة الاستدراك لنصحح الخطأ.
والحق حين يقص علينا هذا المشهد فذلك من لطفه بنا، وتنبيه لكل منا : احذروا أن يأتي موقف ويحدث فيه ما أوضحته لكم ولن يستطيع أحد أن يستدرك الحياة ليصنع العمل الطيب. وعلى كل منكم أن يبحث أمر نفسه الآن.
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ﴾وكلمة ﴿ كنا مستضعفين في الأرض ﴾ تفيد أن قوما استضعفوهم، أي أنهم لم يكونوا قادرين على الخروج والهجرة ولا يعرفون السبيل إليها، وخافوا على أموالهم وديارهم، والقوا الذين استضعفوهم قالوا لهم : إن خرجتم لا تأخذوا شيئا من أموالكم. هذه هي بعض مظاهر الاستضعاف. وهنا تقول الملائكة ما يفيد أن هذا الكلام لا يليق ولا ينفع، تقول الملائكة :﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾.
وكان هذا تنبيه آخر، وإعلان أن مثل هذا القول ومثل تلك الحجة لا قيمة لها ؛ لأن الذي يمسكه مكانه وماله دون الله إنما هو من وضع وربط يقينه بالأسباب. أما الذي يضع منهج الله فوق مكانه وولده وكل شيء فهذا هو الذي وثق بالله لأنه هو المسبب وهو مانح ومعطي الأسباب.
﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾وهذا القول على لسان الملائكة قادم من القانون الأعلى، فقد خلق الحق الخلق جميعا وأسكنهم في الأرض، وهذه الأرض ليست لأحد دون أحد، فمن يضيق به مكان فليذهب إلى مكان آخر.
وإذا كان الإنسان من ظلمه وجبروته وعتوه قد صنع تحديدا للمكان، فلا ينتقل إنسان من مكان إلى مكان إلا بعد سلسلة طويلة من التعقيدات التي تحول دون الانتقال من مكان إلى مكان، فذلك مناقضة لقضية الخلافة في الأرض ؛ لأن الخلافة لم توزع كل جماعة على أرض ما. ولكن الإنسان، كل إنسان خليفة في الأرض كل الأرض، مصداقا لقول الحق :﴿ والأرض وضعها للأنام١٠ ﴾ ( سورة الرحمن ).
فقد جعل الله الأرض متضعة مسخرة مذللة للإنسان، والأرض هي أي أرض، والأنام هم كل الأنام. وإن لم ينتبه العالم إلى هذه القضية ويجعلها قضية كونية اجتماعية، سيظل العالم في فساد وشقاء. فالذي يجعل الحياة في الأرض فاسدة هو خروج بعض الآراء التي تقول : إن الكثافة السكانية تمنع أن نجد الطعام لسكان بلد ما. يقولون ذلك في حين أن أرضا أخرى تحتاج إلى أيد عاملة، ولذلك نجد أن البشرية أمام وضع مقلوب، فأرض في بلاد تحتاج إلى أناس، وأناس في بلاد يحتاجون إلى الأرض.
ومن الواجب أن تسيح المسألة فتأخذ الأرض التي بلا رجال ما تحتاجه من الرجال من البلاد التي لا أرض فيها. وهذا الضجيج الذي يعلو في الكون سببه أنه يوجد في كون الله أرض بلا رجال ورجال بلا أرض، فإذا ما ضاق مكان بإنسان فله أن يذهب إلى مكان آخر، ولو كان الأمر كذلك لسعدت البشرية، ومن ينقض هذه القضية فعلية أن يعرف أنه يأخذ الخلافة في الأرض بغير شروطها، فالذي يفسد الأمر في الأرض أن الإنسان الخليفة في الأرض نسي أنه خليفة واعتبر نفسه أصيلا في الكون. ومادام قد اعتبر نفسه أصيلا في الكون فهذا هو الفساد :
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا٩٧ ﴾( سورة النساء ).
إذن، فإن أقام الإنسان على ضيم ولم يعمل فكره وعقله ولم يطرح قضية الكون أمامه ليرى الأرض التي تسعه فيهاجر فيها فعليه أن يعرف أنه مهدد بسوء المصير ؛ لأن الله قد جعل له الكون كله ليكون فيه خليفة، أما الذين سوف ينجون من هذا العقاب ومن تعنيف الملائكة لهم ساعة الوفاة فهم من يقول عنهم الحق في الآية التالية :﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا٩٨ ﴾.
أما " المستضعف الحقيقي " فهو من هؤلاء الذين يحددهم الحق :﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ﴾. هؤلاء هم المستضعفون فعلا حسب طبيعة عجزهم من الرجال والنساء والولدان.
هل الولد من الولدان يكون مستضعفا ؟ نعم ؛ لأن الاستضعاف إما أن يكون طارئا وإما أن يكون ذاتيا ؛ فبعض من الرجال يكون مملوكا لغيره ولا يقدر على التصرف أو الذهاب، وكذلك النساء ؛ فالمرأة لا تستطيع أن تمشي وحدها وتحمي نفسها، بل لابد أن يوجد معها من يحميها من زوج أو محرم لها، وكذلك الولدان ؛ لأنهم بطبيعتهم غير مكلفين وهم بذلك يخرجون عن نطاق التعنيف من الملائكة ؛ لأنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
وهذه دقة في الأداء القرآني، فالإنسان مكلف بالخروج عن ظلم غيره له ولو بالاحتيال، والاحتيال هو إعمال الفكر إعمالا يعطي للإنسان فرصة أكثر مما هو متاح له بالفعل. فقد تكون القوة ضعيفة. ولكن بالاحتيال قد يوسع الإنسان من فرص القوة. ومثال ذلك : الإنسان حين يريد أن يحمل صخرة، وقد لا يستطيع ذلك بيديه، لكنه أن يأتي بقضيب من الحديد ويصنع منه عتلة ويضع تحت العتلة عجلة، ليدحرج الصخرة، هذه هي حيلة من الحيل، وكذلك السقالات التي نبني عليها، إنها حيلة.
والذي قام ببناء الهرم، كيف وضع الحجر الأخير على القمة ؟ لقد فعل ذلك بالحيلة، والذي جلس لينحت مسلة من الجرانيت طولها يزيد على العشرة الأمتار، ثم نقلها وأقامها. إنه فعل ذلك بالحيلة. فالحيلة هو فكر يعطي الإنسان قدرة فوق قدرته على المقدور عليه، كذلك معرفة السبيل إلى الهجرة. وكانت معرفة الطرق إلى الهجرة من مكة إلى المدينة في زمن رسول الله تحتاج إلى خبرة حتى يتجنب الواحد منهم المفازات والمتاهات، وحينما قام الرسول بالهجرة أحضر دليلا للطريق، وكان دليله كافرا، فلا يتأتى السير في مثل هذه الأرض بلا دليل.
﴿ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا٩٩ ﴾.
" فأولئك " إشارة إلى من جاء ذكرهم في الآية السابقة لهذه الآية :﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا٩٨ ﴾. ومع ذلك فإن الله حين أشار إلى هؤلاء المستضعفين بحق قال :﴿ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ﴾( من الآية٩٩ سورة النساء ). وكان مقتضى الكلام أن يقول الحق :﴿ فأولئك عفا الله عنهم ﴾، لكن الحق جاء ب " عسى " ليحثهم على رجاء أن يعفو الله عنهم، والرجاء من الممكن أن يحدث أو لا يحدث. ونعرف أن " عسى " للرجاء، وأنها تستخدم حين يأتي بعدها أمر محبوب نحب أن يقع.
فقد ترجو شيئا من غيرك وتقول : عساك أن تفعل كذا. وقد يقول الإنسان : عساي أن أفعل كذا، وهنا يكون القائل هو الذي يملك الفعل وهذا أقوى قليلا، ولكن الإنسان قد تخونه قوته ؛ لذلك فعليه أن يقول : عسى الله أن يفعل كذا، وفي هذا اعتماد على مطلق القوة. وإذا كان الله هو الذي يقول :﴿ عسى الله أن يعفو عنهم ﴾، فهذا إطماع من كريم قادر.
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما١٠٠ ﴾.
فالذي يهاجر في سبيل الله سيجد السعة إن كان قد وضع في نفسه العملية الإيمانية. وفي البداية كان المسلمون يهاجرون إلى الحبشة ؛ لأنهم لم يكونوا آمنين في مكة على دينهم.
ولذلك قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسط الله له كونه واستعرض قضية العدالة في الكون، فلم يقبل النبي إلا أن يذهب المهاجرون إلى الحبشة. ولابد أن الحق قد أعلمه أن الحبشة في ذلك الزمان هي أرض بلا فتنة.
وقد يقول قائل : ولماذا لم يختر النبي أن يهاجر المهاجرون الأوائل إلى قبيلة عربية في الجنوب أو في الشمال ؟.
لقد كانت لقريش السيادة على كل الجزيرة العربية بقبائلها، فكل القبائل تحج عند قريش ولم تكن هناك أي بيئة عربية قادرة على أن تقف أمام هوى قريش. ولذلك استعرض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد جميعا إلى أن أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، والعلة في الذهاب إلى الحبشة أن هناك ملكا لا يظلم عنده أحد. وكان العدل في ذاته وساما لذلك الملك وسماها المؤمنون دار أمن، وإن لم تكن دار إيمان. وأما الهجرة إلى المدينة فقد كانت إلى دار إيمان. وعلينا أن نعرف نحن الذين نعيش في هذا الزمان أنه لا هجرة بعد الفتح، إلا إن كانت هجرة يقصد بها صاحبها المعونة على طاعة الله. وهو ما يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه )١. وهناك هجرة باقية لنا وهي الحج، أو الهجرة إلى طلب العلم، أو الهجرة لأن هناك مجالا للطاعة أكثر، فلنفترض أن هناك مكانا يضيق الحكام فيه على الذهاب إلى المسجد، فيترك أهل الإيمان هذا المكان إلى مكان فيه مجال يأخذ فيه الإنسان حرية أداء الفروض الدينية، كل هذه هجرات إلى الله. والنية في هذه الهجرات لا يمكن أن تكون محصورة فقط في طلب سعة العيش. ولذلك لا يصح أن يكون الشغل الشاغل للناس ما يشغلهم في هذا الزمان هو سعة العيش.
وها هو ذا الإمام علي كرم الله وجهه يقول : عجبت للقوم يسعون فيما ضمن بالبناء للمفعول لهم ويتركون ما طلب منهم. فكل سعى الناس إنما هو للرزق والعيش وهو أمر مضمون لهم من خالقهم جل وعلا :﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما١٠٠ ﴾( سورة النساء ).
ولن يجد المهاجر إلا السعة من الله، والشاعر يقول :
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها | ولكن أخلاق الرجال تضيق |
ونجد بعضا ممن يطلبون سعة الرزق يريد الواحد منهم أن يجلس على مكتب ويقبض مرتبا، بينما يبحث المجتمع عن العامل الفني بصعوبة، كأن الذين يبحثون عن سعة الرزق يريدون هذه السعة مع الكسل، لا مع بذل الجهد.
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا ﴾وساعة تقرأ كلمة " مراغم " تعرف أنها تفتح المجال أمام المستضعفين الذين يستذلهم الجبارون. ومادة " مراغم " هي " الراء والغين والميم " والأصل فيها " الرغام " أي " التراب ". ويقال : سوف أفعل كذا وأنف فلان راغم، أي أنف فلان يذهب إلى التراب وسأفعل ما أنا مصمم عليه. ومادام هناك إنسان سيفعل شيئا برغم أنف إنسان آخر، فمعناه أن الثاني كان يريد أن يستذله وأراد أن يرغمه على شيء، لكنه رفض وفعل ما يريد.
وعندما يرى الإنسان جبارا يشمخ بأنفه ويتكبر، فهو يحاول أن يعانده ويصنع غير ما يريد ويجعل مكانة هذا الأنف في التراب، ويقال في المثل الشعبي : أريد أن أكسر أنف فلان.
وعندما يهاجر من كان مستضعفا ويعاني من الذلة في بلده، سيجد أرضا يعثر فيها على ما يرغم أنف عدوه. فيقول العدو : برغم أنني ضيقت عليه راح إلى أحسن مما كنت أتوقع. ويرغم الإنسان بهجرته أنف الجبارين.
وكلمة " مراغم " هي اسم مفعول، وتعني مكانا إذا ما وصلت إليه ترغم أنف خصمك الذي كان يستضعفك، فهل هناك أفضل من هذا ؟.
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا ﴾ أي أنه سبحانه يعطي المهاجر أشياء تجعل من كان يستضعفه ويستذله يشعر بالخزي إلى درجة أن تكون أنفه في الرغام.
والمستضعف في أرض ما يجد من يضيق عليه حركته لكنه عندما يهاجر في سبيل الله سيجد سعة ورزقا.
ويتابع الحق الآية :﴿ ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ﴾، ولا أحد يعرف ميعاد الموت. فإن هاجر إنسان في سبيل الله فقد لا يصل إلى المراغم، لأن الموت قد يأتيه، وهنا يقع أجره على الله. فإذا كان سبحانه قد وعد المهاجر في سبيله بالمكان الذي يرغم أنف خصمه وذلك سبب، ومن مات قبل أن يصل إلى ذلك السبب فهو قد ذهب إلى رب السبب، ومن المؤكد أن الذهاب إلى رب السبب أكثر عطاء وهكذا نجد أن المهاجر رابح حيا أو ميتا.
" ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما " وكلمة " وقع أجره على الله " أي سقط أجره على الله. كأن الحق سبحانه وتعالى يقول للعبد : أنت عندما تهاجر إلى أرض الله الواسعة، إن أدركك الموت قبل أن تصل إلى السعة والمراغم، فأنت تذهب إلى رحابي. والمراغم سبب من أسبابي وأنا المسبب.
وحتى نفهم معنى :" وقع أجره على الله " علينا أن نقرأ قوله الحق :﴿ وإذا وقع القول عليهم ﴾ ( من الآية٨٢سورة النمل )
والوقوع هنا هو سقوط، ولكنه ليس كالسقوط الذي نعرفه، بل هو الذهاب إلى الله، ولماذا يستخدم الحق هنا " وقع " بمعنى " سقط " ؟
هو سبحانه يلفتنا إلى ملحظ هام : حيث يكون الجزاء أحرص على العبد من حرص العبد عليه، فإذا ما أدرك العبد الموت فالجزاء يسعى إليه وهو عند الله، ويعرف الجزاء من يذهب إليه معرفة كاملة.
وهكذا يجب أن نفهم قوله الحق :
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما( ١٠٠ ) ﴾ ( سورة النساء )
والله غفور رحيم حتى لمن توانى قليلا، وذلك حتى يلحق بالركب الإيماني ويتدارك ما فاته لأن الله يغفر ما فات إن حاول العبد تداركه. والهجرة تقتضي ضربا في الأرض وتقتضي الجهاد.
( رأس الأمر كله الإسلام وعموده الصلاة )١
ولأن الصلاة هي الركن الذي لا يسقط أبدا فقد جمع الله فيها كل الأركان، فعند إقامة الصلاة يشهد المسلم ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وخلال الصلاة يصوم الإنسان عن الطعام والشراب، وإضافة إلى ذلك يصوم ويمتنع عن الكلام أيضا، وهكذا نجد الصلاة أوسع في الإمساك عن ركن الصيام، فالإنسان وهو يقيم الصلاة يحبس نفسه عن أشياء كثير قد يفعلها وهو صائم، فالصوم مثلا لا يمنع الإنسان من الحركة إلى أي مكان لكن الصلاة تمنع الإنسان إلا من الوقوف بين يدي الله.
إذن فالصلاة تأخذ إمساكا من نوع أوسع من إمساك المؤمن في الصيام. والزكاة هي إخراج جزء من المال والمال يأتي به الإنسان من الحركة والعمل. والحركة والعمل تأخذ من الوقت وحين يصلي المسلم فهو يزكي بالأصل إنه يزكي ببذل الوقت الذي هو وعاء الحركة، إذن ففي الصلاة زكاة واسعة.
والحج إلى بيت الله الحرام موجود في الصلاة، لأن المسلم يتحرى الاتجاه إلى البيت الحرام كقبلة في كل صلاة وهكذا.
ولذلك اختلفت الصلاة عن بقية الأركان فلم تشرع بواسطة الوحي وإنما شرعت بالمباشرة بين رب محمد صلى الله عليه وسلم ولأن هذه هي منزلة الصلاة نجد الحق يحذرنا من أن يشغلنا الضرب في الأرض عنها، بل شرع سبحانه صلاة مخصوصة اسمها " صلاة الحرب وصلاة الخوف " حتى لا يقولن أحد إن الحرب تمنعنا من الصلاة ففي الحرب يكون من الأولى بالمسلم أن يلتحم بمنهج ربه.
كذلك في السفر يشرع الحق قصر الصلوات.
﴿ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا( ١٠١ ) ﴾
والضرب في الأرض مقصود به أن يمشي المؤمن في الأرض بصلابة وعزم وقوة. والقصر في الصلاة هو اختزال الكمية العددية لركعاتها وفي اللغة " اختصار " و " اقتصار ". " الاقتصار " أن تأخذ بعضا وتترك بعضا، " والاختصار " هو أخذ الكل بصفة موجزة مثال ذلك عندما نختصر كتابا ما فنحن نوجز كل المعاني التي فيه في عدد أقل من الكلمات.
وقد يفكر إنسان في أن يكتب خطابا ثم يقول لنفسه : سأرسل برقية في الموضوع نفسه، وهنا لابد أن يختزل الكلمات لتحمل معاني كثيرة في ألفاظ موجزة.
والإسهاب كما نعلم- لا يأخذ من الوقت مثلما يأخذ الإيجاز، فعندما يريد الإنسان الإيجاز فهو يقدح ذهنه في وقت أطول ليصل إلى المعاني في كلمات أقل.
ويحكى عن سعد زغلول زعيم ثورة١٩١٩المصرية أنه كتب رسالة لصديق فأطال وأنهى رسالته بكلمات :
وإني أعتذر إليك عن التطويل فليس عندي الوقت الكافي للإيجاز، ويحكي التاريخ عن الخليفة المسلم الذي أراد أن يهدد قائد الروم فكتب إليه، أما بعد : فسآتيك بجيش أوله عندك وآخره عندي وهكذا أوجز الخليفة حجم الخطر الداهم الذي سيواجه ملك الروم من جيش عرمرم سيملأ الأرض إلخ.
وينقل التاريخ عن أحد قادة العرب وموقفه القتالي الذي كان صعبا في " دومة الجندل " أنه كتب إلى خالد ابن الوليد كلمتين لا غيرهما " إياك أريد " ولم يقل أكثر من ذلك ليتضح من هذا الإيجاز حجم المعاناة التي يعانيها، وقد أوردنا هذا الكلام ونحن بصدد الحديث عن القصر والإيجاز.
والقصر في الصلاة هو أن يؤدي المؤمن كلا من صلاة الظهر والعصر والعشاء ركعتين بدلا من أربع ركعات، أما الصبح والمغرب فكلاهما على حاله، الصبح ركعتان والمغرب ثلاث ركعات، وحكمة مشروعية ذلك أن الصلاة في وقت الحرب تقتضي ألا ينشغل المقاتلون عن العدو، ولا ينشغلوا أيضا عن قول الحق :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾( من الآية١٠٣سورة النساء ).
فإذا شرع الله للخوف صلاة، وللحرب صلاة فمعنى ذلك أنه لا سبيل أبدا لأن ينسى العبد المؤمن إقامة الصلاة، وإذا كانت الصلاة واجبة في الحرب فلن تكون هناك مشاغل في الحياة أكثر من مشاغل الحرب والسيف وصلاة الحرب أي صلاة الخوف جاء بها القرآن، أما صلاة السفر فقد جاءت بها السنة أيضا، وفيها يقصر المؤمن صلواته أيضا :
﴿ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا( ١٠١ ﴾( سورة النساء )
ولو رأى الكافرون المؤمنين مصفوفين جميعا في الصلاة فقد يهجمون عليهم هجمة واحدة، ولذلك شرع الحق قصر الصلاة.
﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا( ١٠٢ ) ﴾
ولو رأى الكافرون المؤمنين مصفوفين جميعا في الصلاة فقد يهجمون عليهم هجمة واحدة، ولذلك شرع الحق قصر الصلاة.
وحين يقول الحق : " فلتقم طائفة منهم " نفهم أن ينقسم المؤمنون إلى طائفتين : طائفة تصلي مع رسول الله، وأخرى ترقب العدو وتحمي المؤمنين.
ولكن كيف تصلي طائفة خلف رسول الله ولا تصلي أخرى وكلهم مؤمنون يطلبون شرف الصلاة مع رسول الله ؟ ويأمر الحق أن يقسم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ليصلي بكل طائفة مرة، ليشرف كل مقاتل بالصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقصر الصلاة كما عرفنا ينطبق على الصلاة الرباعية وهي الظهر والعصر والعشاء أما صلاة الفجر وصلاة المغرب فلا قصر فيهما، فليس من المتصور أن يصلي أحد ركعة ونصف ركعة، وفي علم الحساب نحن نجبر الكسور إلى الرقم الأكبر.
وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بهيئات متعددة، ولا مانع من أن نلم بها إلماما عاجلا لأن تعليم هذه الصلاة عادة يكون واجبا على الأئمة والعلماء الذين يصلون بالجيوش في حالة حرب. ولصلاة الخوف طرق وكيفيات : كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم الجيش إلى قسمين قسم يصلي معه وقسم يرقب العدو، ويصلي بكل فرقة ركعتين.
وهناك طريق أخرى وهي أن يصلي بطائفة وفرقة ركعة واحدة، ثم ينصرفون وتأتي الطائفة التي حمت الطائفة الأولى في أثناء الصلاة لتصلى هذه الطائفة الثانية ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يسلم رسول الله لأنه أنهى الصلاة.
وبعد ذلك تصلي الطائفة الأولى الركعة الثانية التي عليها في القصر وتسلم، ثم تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية التي عليها في القصر وتسلم.
وهناك كيفية ثالثة وهي أن تأتي الطائفة الأولى تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ولا يصلي النبي صلى الله عليه وسلم معها الركعة الثانية بل يظل واقفا إلى أن تخرج من صلاتها بالتسليم لتنادي الطائفة التي تقف في مواجهة العدو لتصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم بينما هي الركعة الأولى بالنسبة إليها، ويظل النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا إلى أن تأتي الطائفة الثانية بركعتها الثانية ويسلم النبي صلى الله عليه وسلم بها وتنال الطائفة الأولى بشرف بدء الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحظى الطائفة الثانية بشرف السلام معه صلى الله عليه وسلم.
وهنا نسأل : هل هذه الصلاة بهذا الأسلوب مقصورة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإتماما به لأن الصلاة معه هي الشرف ؟ فكيف يصلي المقاتلون الخوف بعده صلى الله عليه وسلم ؟ قال العلماء : إذا كنت تعتبر القائمين بأمر القيادة هم خلفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الولاية فتقام صلاة الخوف على صورتها التي جاءت في القرآن، ولكن إذا كان لكل جماعة إمام فلتصل كل جماعة صلاة القصر كاملة خلف الإمام.
" وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم " وهذه الأسلحة المقصود بها الأسلحة الحقيقية مثل السيف أو الرمح أو النبلة أو البندقية فيأخذها المقاتل معه، أما من معه سلاح ثقيل فلن يأخذه بطبيعة الحال إلى الصلاة.
فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم " والقول القرآني هنا ليس مجرد ألفاظ تقال ولكنها ألفاظ لها مدلولات من رب العالمين، فمن قدموا إلى الصلاة أولا : تركوا خلفهم من يحميهم.
ولكن الطائفة الثانية التي سوف تترك المواقع من أجل الركعة الثانية خلف رسول الله صلى الله عليه سلم فبالهم مشغول بذواتهم وبحماية من يصلون فلعلهم حين يذهبون إلى الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلهيهم المسألة، لذلك قال الله :" وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم " وهكذا نجد أن الطائفة الأولى ملزمة بأخذ السلاح، والطائفة الثانية ملزمة بأخذ الحذر والسلاح.
وقد يقول قائل : صحيح إن الأسلحة تؤخذ، ولكن كيف يؤخذ الحذر وهو عملية معنوية ؟
ونقول : إنه سبحانه يصور المعنويات ويجسمها تجسيم الماديات حتى لا يغفل الإنسان عنها، فكأن الحذر آلة من آلات القتال وإياك أيها المقاتل أن تغفل عنها.
وهذا أمر يشيع في أساليب القرآن الكريم فالحق سبحانه يقول :
﴿ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ﴾( من الآية٩سورة الحشر )
والدار هي مكان باستطاعة الإنسان أن يتبوأه ويقيم به، فما معنى أن يتبوأ الإنسان الإيمان وهو أمر معنوي ؟ إنه سبحانه في هذا القول يصف الأنصار الذين أكرموا وفادة المهاجرين، والدار كما نعرف هي المكان الذي يرجع إليه الإنسان، والإيمان هو مرجع كل أمر من الأمور.
إذن فقد جعل الحق سبحانه الإيمان كأنه يتبوأ، أي جعله شيئا ينزل الإنسان فيه، والإيمان كذلك حقا والدار في هذا القول مقصود بها هنا المدينة المنورة، حيث استقبل الأنصار المهاجرين.
{ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون( ٩ )( سورة الحشر ).
وهكذا يجسم الحق المعنويات لنفهم منها الأمر وكأنه أمر حسي، تماما كما قال الحق :" فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ".
وهذا ما يوضح لنا لماذا أمر الله أن يأخذ المسلمون الحذر والأسلحة لأن المقاتل يجب أن يخاف على سلاحه ومتاعه فلو فقدها المقاتل لفقد أداة القتال ولصارت أدوات قتاله قوة لعدوه، فحين يأخذ المقاتل السلاح من عدوه يتحول السلاح إلى قوة ضد العدو.
لذلك كان التحذير من فقد الأسلحة والأمتعة حتى لا تضاف قوة السلاح والمتاع إلى قوة العدو، لأن في ذلك إضعافا للمؤمن وقوة لخصمه، وعدو الإسلام يود أن يغفل المسلمون عن الأسلحة والمتاع، والمؤمن ساعة الصلاة يستغرق بيقظته مع الله، ولكن على الإنسان ألا يفقد يقظته إن كان يصلي أثناء الحرب، فلا يصح أن ينسى الإنسان سلاحه أثناء القتال حتى وهو يصلي، فالقتال موقف لله، فلا تفصل القتال في سبيل الله عن الصلاة لله.
﴿ ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم " والغفلة هي نسيان طارئ على مالا يصح أن ينسى وفي هذا تحذير واضح لأن الغفلة أثناء القتال هي حلم للكافرين حتى يحققوا هدفهم المتمثل في قول الله : " فيميلون عليكم ميلة واحدة "، فمعسكر الكفر يتمنى أن يهجم على المؤمنين في لحظة واحدة، هذا هو المقصود بقوله : " فيميلون عليكم ميلة واحدة ﴾.
ولكن لنر من بعد ذلك قول الحق :﴿ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ﴾( من الآية ١٠٢سورة النساء ).
ونجد هنا أن كلمة " الحذر " تكررت، وسبحانه بجلال جبروته أعد للكافرين عذابا مهينا، وفي ذلك بشارة منه أن الكافرين لن ينالوا من المؤمنين شيئا، فلماذا جاء الأمر هنا بأخذ الحذر ؟ إن أخذ الحذر لا يعني أن الله تخلى عن المؤمنين ولكن لتنبيه المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب، ولا يغفلوا عن المسبب لأنه سبحانه هيأ وأعد العذاب المهين للكافرين. ﴿ إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ﴾.
وهذا ما يجب أن نفهمه حتى لا يتوهم أحد أن الله عندما نبه كثيرا بضرورة الأخذ بالحذر ثم أنه يتخلى عنا، لا. إنه سبحانه يوضح لنا أن نأخذ بالأسباب ولا نهملها وهو القائل " إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ".
﴿ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا( ١٠٣ ) ﴾.
كأن المؤمن مطالب بألا يسوف ويؤخر الصلاة عن وقتها، وأن يذكر الله قائما وقاعدا، وعلى جنبه وذلك لتكون الصلاة دائما بؤرة شعور الإنسان بل إن المؤمن مطالب بذكر الله حتى وهو يسايف عدوه وينازله، فهو يحمل السيف ولسانه رطب بذكر الله ويقول :" سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ".
والإنسان حين يسبح الله حتى وهو في حالة الاشتباك مع العدو لا ينساه الله. والمؤمن قد يؤخر الصلاة في حالة الاشتباك مع العدو والالتحام به، ولكن عليه أن يدفع قلبه ونفسه إلى ذكر الله، ففي وقت الصلاة يكون مع ربه فليذكره قائما وقاعدا وفي كل حال، وبعد أن يطمئن المسلم لموقفه القتالي فليقض الصلاة، وأنه لا يترك ربه أبدا بل وهو في الحرب يكون ذلك منه أولى، لأنه في حال الاحتياج إليه سبحانه والقتال يدفع المؤمن إلى الاستعانة بربه، وإذا كان المسلم يعرف أن لله في أوقاته تجليات، فلا يحرمن واحد نفسه من هذه التجليات في أي وقت، وذكر الله يقرب العبد من مولاه فسبحانه مع عبده إذا ذكره، فإذا كان الإنسان مشبعا بالاطمئنان وقت الخوف والقتال فليذكر الله ليدعم موقفه بالقوة العليا.
وقوله الحق : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " أي إذا انتهى الاشتباك القتالي فعلى المؤمن أن ينتقل من ذكر الله أثناء الاشتباك إلى الصلاة التي حان ميقاتها أثناء القتال، فقد كان ذكر الله وقت الاشتباك من أجل ألا يضيع وقت الصلاة بلا كرامة لهذا الوقت وبلا كرامة للقاء العبد مع الرب، ولماذا كل ذلك ؟ ويأتي القول الفصل :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾.
وقد أوضح لنا حق صلاة الخوف، وشرع سبحانه لنا ذكره إذا ما جاء وقت الصلاة في أثناء الاشتباك القتالي، وإذا ما اتفق توقيته مع وقت الصلاة، وشرحت لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم كيفية قصر الصلاة في أثناء السفر لماذا كل ذلك ؟ لأن الصلاة فرض لا غنى عنه على الإطلاق " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا "، أي أن الصلاة لها وقت.
ولا يصح أن يفهم أحد هذا المعنى كما يفهمه البعض بأن صلاة الظهر على سبيل المثال وقتها ممتد من الظهر إلى العصر وصحيح أن الإنسان إذا عاش حتى يصل الظهر قبيل العصر فإنها تسقط عنه، ولكن ماذا يحدث لو مات العبد وقد فات عليه وقت يسعها ؟ إذا فقد أثم العبد، ومن يضمن حياته حتى يؤدي الصلاة مؤجلة عن موعد أدائها ؟.
وقد يقول قائل " أحيانا أسمع أذان الصلاة وأكون في عمل لا أستطيع أن أتركه فقد أكون في إجراء جراحة أو راكبا طائرة، ونقول : أسألك بالله إذا كنت في هذا العمل الذي تتخيل أنك غير قادر على تركه وأردت أن تقضي حاجة، فماذا تصنع ؟ إنك تذهب لقضاء حاجتك، فلماذا استقطعت جزءا من وقتك من أجل أن تقضي حاجتك ؟ وقد تجد قوما كافرين يسهلون لك سؤالك عن دورة المياه لتقضي حاجتك.
وساعة يراك هؤلاء وأنت تصلي فأنت ترى على وجوههم سمة الاستبشار، لأن فيهم العبودية الفطرية لله، وتجد منهم من يسهل ذلك ويحضر لك ملاءة لتصلى فوقها، ويقف في ارتعاش سببه العبودية الفطرية لله، فلا تقل أبدا : إن الوقت لا يتسع للصلاة لأن الله لا يكلف أبدا عبده شيئا ليس في سعته، والحق كلف العبد بالصلاة ومعها الوقت الذي يسعها.
ولله المثل الأعلى نحن نرى رئيس العمال في موقع ما يوزع العمل على عماله بما يسع وقت كل منهم، فما بالنا بالرب الخالق ولذلك يقول الحق :
﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا( ٢ )ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾( من الآية٢إلى الآية٣سورة الطلاق ).
والصلاة رزق عبودي يحررك من أي خوف، وفضلها لا حدود له لأن فارضها هو الخالق المربي فكيف تبخل على نفسك أن تكون موصولا بربك ؟
﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما( ١٠٤ ) ﴾.
﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما( ١٠٤ ) ﴾
وهذه الآية تذكرة لنا بكيفية الرد على من يدعون التحرر ويحاولون إظهار الإسلام بأنه يصلح للعصر الذي نحياه عندما نؤوله ونطوعه لمرادات العصر ناسين مرادات الإسلام، فهم يقولون : لقد شرع الحق الحرب في الإسلام لرد العدوان، ونقول لهم : صحيح أن الحرب في الإسلام لرد العدوان والحرب في الإسلام أيضا هي لتوسيع المجال لحرية الاعتقاد للإنسان.
إن الذي يخيف هؤلاء أن يكون القتال في الإسلام فريضة، فيقاوم المسلمون الطغيان في أي مكان وهذه محاولة من أعداء الإسلام لصرف المسلمين حتى لا يقاوموا قهر الناس والطغيان عليهم لأن أعداء الإسلام يعرفون تماما قوة الإسلام الكامنة والتي يهبها لمن يؤمن به دينا وينخدع بعض المسلمين بدعاوى أعداء الإسلام الذين يقولون : إن الإسلام لم يشرع الحرب إلا لرد العدوان.
ولذلك نقول لهؤلاء و وأولئك : لا، إن الإسلام جاء بالقتال ليحرر حق الإنسان في الاعتقاد والمسلم مطلوب منه أن يعلن كلمة الله، وأن يقف في وجه من يقاوم إعلانها ولكن الإسلام لا يفرض العقيدة بالسيف إنما يحمي بالسيف حرية المعتقد، فالحق يقول :" ولا تهنوا في ابتغاء القوم " أي لا تضعفوا في طلب القوم الذين يحاربون الإسلام، والابتغاء هو أن يجعل الإنسان شيئا بغية له، أي هدفا وغاية ويجند لها كل تخطيطات الفكر ومتعلقات الطاقة، كأن الإنسان لا يرد القوم الكافرين فقط ساعة يهاجمون دار الإسلام، ولكن على المسلم أن يبتغيهم أيضا امتثالا لقول الله :" ولا تهنوا في ابتغاء الله " فعلى المسلمين أن يعلوا كلمة الله ويدعوا الناس كافة إلى الإيمان بالله، وهم في هذه الدعوة لا يفرضون كلمة الله، لكنهم يرفعون السيف في وجه الجبروت الذي يمنع الإنسان من حرية الاعتقاد. إن على المسلمين رفع الجبروت عن البشر حتى ولو كان في ذلك مشقة عليهم لأن الحق قال :
﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ﴾( من الآية٢١٦سورة البقرة ).
وقد خلق الله في المؤمن القدرة على أن يبتغي عدو الإسلام ليرفع الجبروت عن غيره من البشر، صحيح أن الحرب مسألة مكروهة من البشر وليست رحلة سهلة، ولكنها أحيانا تكون واجبة، والذين أدركوا الحرب العالمية الثانية عرفوا أن " تشرشل " جاء رئيسا لوزراء بريطانيا بعد " تشمبرلن " الذي عرف عنه أنه رجل سلام، وحاول " تشمبرلن " أن يماطل ويلوح بالسلام مع ألمانيا حتى تستعد انجلترا بالحرب، وعندما استعدت انجلترا أعلن " تشمبرلن " أن سياسته غير نافعة، وجاء " تشرشل " وقاد دفة الحرب وقال للإنجليز :
انتظروا أياما سوداء وانتظروا الجوع.
لقد قال تشرشل ذلك للإنجليز، حتى إذا ما جاء الواقع بأقل من قوله فهم يستبشرون ويفرحون.
والحق سبحانه يقول :" ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ". إن الحرب ترهقهم أيضا كما ترهقكم لكنكم أيها المؤمنون تمتازون على الكافرين بما يلي :" وترجون من الله مالا يرجون وكان الله عليما حكيما ". فأنتم وهم في الألم سواء، ولكن الاختلاف هو أن المؤمنين يرجون ما لا يرجوه الكافرون، إن المؤمنين يعلمون لحظة دخولهم الحرب إن الله معهم وهو الذي ينصرهم ومن يمت منهم يذهب إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وهذا ما لا يرجوه الكفرة.
والحق سبحانه وتعالى يطالب الفئة المؤمنة التي انتهت قضية عقيدتها إلى الإيمان بإله واحد، هو سبحانه أنشأهم وخلقهم وإليه يعودون وهذه القضية تحكم حركات حياتهم إنه سبحانه يطالبهم أن يؤدوا مطلوبات هذه القضية، وأن يدافعوا عن هذه العقيدة التي تثبت للناس جميعا أنه لا معبود أي لا مطاع في أمر إلا الحق سبحانه وتعالى.
وحين تحكم هذه القضية أناسا فهي توحد اتجاهاتهم ولا تتضارب مع حركاتهم، ويصبحون جميعا متعاونين متساندين متعاضدين لذلك جعل الله الطائفة المؤمنة خير أمة أخرجت للناس، لأن رسولها صلى الله عليه وسلم خير رسول أرسل للناس، وطلب الحق من أهل الإيمان أن يجاهدوا الكافرين المنافقين لتصفو رقعة الإيمان مما يكدر صفو حركة الحياة.
والحق يعامل خلقه كبشر، إنه خلقهم ويعلم طبائعهم وغرائزهم ولا يخاطبهم على أنهم ملائكة، وإنما يخاطبهم على أنهم بشر وهم أغيار، ومن الأغيار أن يصفو لهم أمر العقيدة مرة، وأن تعكر عليهم شهواتهم صفو العقيدة مرة أخرى، لذلك يؤكد لهم أن طريق العقيدة ليس مفروشا بالرياحين والورود، وإنما هو مفروش بالأشواك حتى لا يتحمل رسالة الحق في الأرض إلا من صبر على هذه البلايا وهذه المحن، فلو كانت القضية على طرف الثمام١ أي سهلة التناول لا مشقة في الحصول عليها وتدرك آلام وبدون متاعب فسيدعيها كل إنسان ويصبح غير مأمون على حمل العقيدة.
من أجل ذلك لم ينصر الله الإسلام أولا، إنما جعل الإسلام في أول أمره ضعيفا مضطهدا، لا يستطيع أهله أن يحموا أنفسهم حتى لا يصبر على هذا الإيذاء إلا من ذاق حلاوة الإيمان مما يجعله، لا يشعر بمرارة الاضطهاد ووطأة التعذيب ومشقته، فقال الحق سبحانه وتعالى :" ولا تهنوا في ابتغاء القوم " أي لا تضعفوا في طلب القوم.
وكلمة " لا تهنوا في ابتغاء القوم " أي في طلبهم تدل على أن الأمة الإسلامية ليس مطلوبا منها فقط أن تدفع عن نفسها عدوانا، بل عليها أن تطب هؤلاء الذين يقفون في وجه الدعوة لتؤدبهم حتى يتركوا الناس أحرارا في أن يختاروا العقيدة.
إذن فالطلب منه سبحانه : ألا تهنوا ولا تضعفوا في طلب القوم الذين يقفون في وجه الدعوة، ثم قال سبحانه :" إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " أي إنه إذا كان يصيبكم ألم الحرب والإعداد لها، فأنتم أيضا تحاربون قوما يصيبهم ألم المواقع والحروب والإعداد لها، فأنتم وهم متساوون في إدراك الألم والمشقة والتعب، ولكن يجب ألا يغفلوا عن تقييم القوة فلا تهملوها، لأنها هي القوة المرجحة فأنتم تزيدون عليهم أنكم ترجون من الله ما لا يرجون.
والأشياء يجب أن تقوم بغاياتها والثواب على العمل ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في شرح هذه المعادلة حتى تكون الأذهان على بينة منها إعدادا وخوضا للحرب واحتمالا لآلامها :﴿ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ﴾( من الآية٥٢سورة التوبة ).
عليكم أيها الكافرون أن تعلموا أن الذي ينتظرنا هو إحدى الحسنيين إما أن ننتصر ونقهركم وإما أن نستشهد فنظفر بالحياة الأخرى. وماذا عن تربص المؤمنين بالكافرين :
﴿ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ﴾( من الآية٥٢سورة التوبة )
كفة من إذن هي الراجحة في المعادلة ؟ إنها كفة المؤمنين لذلك قال الحق :" ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " فلا تضعفوا أيها المؤمنون في طلب القوم لأنهم يألمون كما تألمون، ولكن لكم مرجحا أعلى وهو أنكم ترجون من الله ما لا يرجون.
ويذيل الحق قضية حث المؤمنين على طلب الكافرين وكيف يزيد المؤمنون على الكافرين بأنهم يرجون من الله ما لا يرجوه الكافرون فيقول :" وكان الله عليما حكيما " إنه عليما حكيما " إنه عليم بكل ما يصيب المؤمن من ألم، فلا تعتقد أيها المؤمن أن لك أجرا سيضيع منك، فالشوكة التي تشاك بها في القتال محسوبة لك، وهو سبحانه وتعالى يتركك تألم أمام الكافر كما يألم، فذلك لحكمة هي أن تسير إلى القتال وأنت واثق من قدرة إيمانك على تحمل تبعات هذا الدين.
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه خطيئة )٢
.
٢ رواه مسلم في البر..
والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن نفسه يتكلم فيما يتعلق بالفعل بصفة التعظيم والجمع. مثال ذلك قوله " إنا أنزلنا " وهذه " نون الجماعة " حيث يتطلب إنزال القرآن قوى متعددة لا تتوافر إلا لمن له الملك في كل الكون ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى إننا نجد أن رئيس الدولة أو الملك في أي بلد يصدر قرارا فيقول :" نحن فلانا أصدرنا القرار " والملك أو الرئيس يعرف أنه ليس وحده الذي يصدر القرار، ولكن يصدره معه كل المتعاونين معه وكل العاملين تحت رئاسته، فما بالنا بالحق الأعلى سبحانه وتعالى ؟ لذلك فحين يتكلم سبحانه فيما يتعلق بالذات يكون الحديث بواسطة ضمير الأفراد فيقول :
﴿ إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري( ١٤ ) ﴾( سورة طه ).
ولا يأتي هنا ضمير الجمع أبدا، ولا تأتي " نون التعظيم " ولكن في هذه الآية نجد الحق يقول :" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق " ونرى " نون التعظيم " واضحة، فالقرآن كلام الله، ونزول القرآن يتطلب صفات متعاضدة فسبحانه مرة يقول :
﴿ أنزلنا إليك الكتاب ﴾( من الآية٤٧سورة العنكبوت )
ومرة يقول :
﴿ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ﴾( من الآية٥١سورة العنكبوت )
ومرة ثالثة يقول :
﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون( ١٠ ) ﴾( سورة الأنبياء ).
ما الغاية من الإنزال ؟ الغاية من الإنزال أن يوجد على الأرض منهج يحكم حركة الحياة، والقرآن قد أنزل إلى الرسول وإلى من آمن بالرسالة وحين يقول الحق :" أنزلنا عليك " فمعنى ذلك نزول التكليف وساعة نسمع كلمة " أنزلنا " فعلينا أن نعرف أن كل شيء يجيء من الحق فهو ينزل إلينا منه سبحانه، وكلمة " أنزل " تشعر السامع أو القارئ لها أن الجهة التي أنزلت هي جهة أعلى، وليست مساوية لمن أنزل إليه، وليست أدنى منه أيضا.
وكلمة أنزلنا على أن جهة أنزلت وجهة أنزل إليها، وشيء أنزلته الجهة إلى المنزل إليه، والكتاب المنزل والذي أنزله هو الله، والمنزل إليه هو رسول الله وأمته، وهل أنزل الحق سبحانه الكتاب فقط أو أنزل قبل ذلك كل ما يتعلق بمقومات الحياة ؟
وعندما نقرأ هذا القول الكريم :﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ﴾( من الآية٢٦سورة الأعراف ).
إنه لباس جاء من أعلى لذلك استخدم الحق كلمة " أنزلنا " وهو ليس لباسا فقط ولكنه أيضا يزينكم مأخوذ من ريش الطائر لأنه لباسه وزينته فهو لا يواري العورة فحسب ولكنه جميل أيضا، والأجمل منه أنه لباس التقوى.
لقد جاء الحق بالمقوم للحياة سترا ورفاهية وبعد ذلك أنزل الحق لباس التقوى وهو الخير، فاللباس الأول يواري عورة مادية، ولباس التقوى يواري العورات القيمية المعنوية وكل ذلك إنزال من أعلى وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :
﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ﴾( من الآية٢٥سورة الحديد ).
إذن فكلمة " الإنزال " تدل على أن كل ما جاء من قبل الحق الأعلى إلينا، فهو نازل إلينا بشيء يعالج مادتنا وقوامنا، وبشيء يعالج معنوياتنا وقيمنا.
ويقول الحق في الآية التي نحن بصدد تناولها الآن :" إنا أنزلنا إليك الكتاب " وحين يطلق الكتاب فالمعنى ينصرف إلى الكتاب الجامع المانع المهيمن على سائر الكتب وهو القرآن وإن كان " الكتاب " يطلق على المكتوب الذي نزل على أي رسول من الله سبحانه وتعالى.
" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق " والحق هو الشيء الثابت الذي لا يأتي واقع آخر لينقضه وعلى سبيل المثال : أنت في حياتك العادية حين تقول قضية صدق تحكي بها واقعا مهما تكررت روايتك لهذه التفاصيل مدة عشرين سنة فهي لا تتغير، لأنها مطابقة للواقع وأنت حين تقولها تستحضر الواقع الذي حدث أمامك ولكن إذا حدث إنسان بقضية كذب لا واقع له. فماذا يكون موقفه ؟ سيحكي القضية مرة بأسلوب وإن مر عليه أسبوع فهو ينسى بعضا مما قاله في أول مرة فيحكي وقائع أخرى ذلك أن ما يرويه ليس له واقع لذلك يقول كلاما مغايرا لما قاله في المرة الأولى وهنا يعرف السامع أن هذه المسألة كاذبة.
إذن فالحق هو الشيء الثابت الذي لا ينقضه واقع أبدا، وأنزل الله الكتاب بالحق أي أنزله بالقضايا الثابتة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها فهو ثابت لا ينقضه واقع.
ويقال في حياتنا للتلميذ الناجح من أساتذته : لقد أعطيناك المرتبة الأولى على زملائك بالحق أي أن هذا التلميذ قد أخذ حقه لأنه يستحق هذه المكانة وقوله الحق سبحانه :" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق " أي إن إنزال الكتاب على سيدنا رسول الله ليبلغه جاء ملتبسا ومرتبطا بالحق ولا ينفك عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل لأن ينزل عليه الكتاب. ووجود معنى بجانب معنى في القرآن هو من أسرار إشعاعات الكلمات القرآنية فهي لا تتناقض ولكنها توضع بحكمة الخالق لتجلو لنا المعاني.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس ﴾وهذا يوضح لنا أن حكومة الدين الإسلامي وعلى رأسها الحاكم الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جاء لا ليحكم بين المؤمنين به فقط بل ليحكم بين الناس ومن شرط الحكم بين الناس القيام بالعدل فيما يختصمون فيه، فلا يقولن واحد، هذا مسلم وذاك كافر فإذا كان الحق مع الكافر فلا بد أن تعطيه له، وإذا كان الحق مع المسلم فيجب أن تعطيه له، لأنك لا تحكم بين المؤمنين فقط ولكنك تحكم بين الناس.
وأنت إن حكمت بين الناس حكما يتفق مع منطق الواقع والحق، تجعل الذي حكم له يشهد أن دينك حق فعندما يكون الحق مع الكافر وتحكم على المؤمن بالحكم الحق الذي لا حيف فيه حتى وإن كان عقابا، فالكافر يقرع نفسه على أنه لم يكن من أهل هذا الدين الذي يعترف بالحق ويحكم به ولو كان على مسلم وأيضا يعرف المسلم ساعة يحكم عليه لصالح واحد غير مسلم أن المسألة ليست نسبة شكلية إلى الإسلام، ولكنها نسبة موضوعية فلا يظنن أحد أن الإسلام قد جاء ليحابي مسلما على أي إنسان آخر، ولكن الإسلام قد جاء ليأخذ الجميع بمنطق الحق، ويطبق على الجميع منهج الحق، وليكون المسلم دائما في جانب الحق.
وسبحانه وتعالى يعطي هذه القضية لواقعة حدثت معاصرة لرسول الله. والوقائع التي حدثت معاصرة لرسول الله كانت بمثابة استدرار السماء للأحكام، فالقضية تحدث وينزل فيها الحكم ولو جاءت الأحكام مبوبة وسقطت ونزلت مرة واحدة، فقد تحدث الحادثة ويكون لدى المؤمنين الحكم ويحاولون الحث عنه في الكتاب، لكن إذا ما جاء الحكم ساعة وقوع الحادثة فهو ينصب عليها، ويكون الأمر أدعى للإذعان له، لأنه ثبت وأيد ووثق بواقعة تطبيقية.
والحكم الذي نزل هو " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ". وعندما يقول سبحانه " أراك " أو " علمك " فلتعلم أن تعليم الله هو أكثر تصديقا من رؤيتك الإنسانية، وكأنك تتمثل الشيء الذي يعلمه لك الله وكأنه مجسد أمامك وليس مع العين أين.
والواقعة التي حدثت هي : كان في " بني ظفر " واحد اسمه " طعمة بن أبيرق " وسرق " طعمة " درعا، وهذا الدرع كان " لقتادة بن النعمان " وخاف " طعمة " أن يحتفظ بالدرع في بيته فيعرف الناس أنه سرق الدرع وكان طعمة فيما يبدو مشهورا بأنه لص، فذهب إلى يهودي وأودع عنده الدرع، وكان الدرع في جراب دقيق وحينما خرج به " طعمة " وحمله صار الدقيق ينتثر من خرق في الجراب وتكون من الدقيق أثرا في الأرض إلى بيت اليهودي وكان اسمه " زيد بن السمين "، وعندما تتبعوا أثر الدقيق وجدوه إلى بيت طعمة ولكنه حلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها وقالوا :" لقد سرق ابن السمين " وهنا قال ابن السمين :" أنا لم أسرق الدرع ولكن أودعه عندي " طعمة بن أبيرق " وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء " بنو ظفر " وهم مسلمون " وطعمة بن أبيرق " منهم وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو حكمت على المسلم ضد اليهودي فستكون المسألة ضد المسلمين وسيوجد العار بين المسلمين.
ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى أرسل رسوله ليعدل منهج الغرائز البشرية، والغريزة البشرية بحسب اندفاعها وقصر نظرتها قد تتصور أن الحكم على المسلم وتبرئة اليهودي هو إضعاف للمسلمين ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يقيم الأمر بالقسط فينزل على رسوله :﴿ إنا أنزلنا الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما( ١٠٥ ) ﴾سورة النساء ).
أي إياك أن تقول : إن هذا مسلم ولا يصح أن نلصق به الجريمة التي ارتكبها حتى لا تكون سبة عليه، وإياك أن تخشى ارتفاع رأس اليهودي لأن هناك لصا قد ظهر من بين المسلمين. ومن الشرف للإسلام أن يعاقب أي إنسان ارتكب خطأ لأنه مادام قد انتسب للإسلام فعليه أن يصون هذا الانتساب وعقاب المسلم على خطأ هو شهادة للإسلام على أنه لم يأت ليجامل مسلما وعلى كل مسلم أن يعرف أنه دخل الإسلام بحق الإسلام.
لقد نظر بعض السطحيين إلى قوله الحق :" ولا تكن للخائنين خصيما } قائلين : إن كان هناك لص أو خائن أو مستغل لقوته فاتركه ولا تنظر إليه ولا تلتفت حتى لا يسبب لك تعبا، ولهؤلاء نقول : لا، فسبحانه وتعالى يقول :" ولا تكن للخائنين خصيما " و " اللام " التي في أول " الخائنين " هي للملكية أي أن الحق يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يقف موقفا لصالح الخائن، بل عليه أن يخاصم لمصلحة الحق.
وقد حاول العلماء أن يقربوا المسافة فقالوا : ربما لا يتنبه أحد لمسألة اللام وأنها هنا للنفعية فيكون المنهي عنه أن يقف مسلم موقفا ينفع خائنا، بل لا بد أن يكون على الخائن وليس معه، فاللام هنا تكون بمعنى " عن " كأن الحق يقول : ولا تكن عن الخائنين خصيما أي لا تكن يا محمد مدافعا عن الخائنين.
ولماذا لم يقل الحق " عن " بدلا من " اللام " نقول : إن الغاية من الدفاع عن الخصم أن ترجح أمره وتكون له لا عليه، لذلك جاء الحق ب " اللام " هنا من أجل أن نعرف الغاية من " عن " واضحة فاللام تفيد ألا ينفع المسلم خائنا، فلا تكون المسألة له، ولذلك جاء الحق بها إيضاحا واختصارا لنعرف أن رسوله لن يقف في جانب الخائن ولن يأتي له بما ينفعه ولذلك قال العلماء : إن اللام هنا بمعنى " عن ". والقرآن فيه الكثير من مثل هذا.
وبعض الناس يقول : لماذا لا يأتي باللفظ الواضح الذي يجعلنا نعرف المعنى مباشرة ؟ ونقول : إن الملحظية
أو أن كل خطاب من هذا اللون موجه لمن جعل المسألة موضع مساومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كقول " بني ظفر " عندما أرادوا ألا يحكم الرسول على اللص الذي بينهم، وتمحكوا في الإسلام لذلك يأمر الحق الذين حدثوا رسول الله عن هذا الموضوع بالاستغفار أو أن يستغفر الرسول لهم الله لأنهم لم يقولوا ذلك إلا رغبة في ألا ينفضح أمر المسلمين.
﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما( ١٠٧ ) ﴾.
وسبحانه يريد أن يشبع هذه القضية بحثا، فقد كان يكفي أن يقول لنا ما سبق. لكنه يريد أن يحسم مثل هذه الأمور، فلا مجادلة في الذين يختانون أنفسهم والجدل كما نعرف هو القتل، وحين يفتل الإنسان شيئا، مثل أن يحضر بعضا من الشعر أو الصوف أو الليف ويجدلها ليصنع حبلا فهو يفتل هذا الغزل ليقويه ويجعله غير هش وقابلا للشد والجذب ولذلك يقال عن مثل هذه العملية : إننا نجدل الحبل حتى نعطيه القوة وكذلك شأن الخصمين كل واحد منهما يريد تقوية حجته فيحاول جاهدا أن يقويها بما يشاء من أساليب لي القول ولحنه أو الفصاحة في الأسلوب لذلك يأتي الأمر إلى الرسول : لا تقو مركز أي إنسان يختان نفسه.
والقرآن حين يعدل عن يخونون أنفسهم إلى " يختانون أنفسهم " فلا بدأن لهذا معنى كبيرا، لأن الخيانة هي أن تأخذ غير الحق ومن المحتمل أن يخون الإنسان غيره، لكن أمن المعقول أن يخون الإنسان نفسه ؟ إن مثل هذه العملية تحتاج إلى افتعال كبير، فقد يخون الإنسان غيره من أجل مصلحة نفسه أو ليعطي نفسه شهوة ومعصية عليها عقوبة وهذه خيانة للنفس، لأن الإنسان في مثل هذه الحالة يغفل عن العقوبة الآجلة بالشهوة العابرة العاجلة.
وهكذا نرى أن الذي يخون الناس إنما يخون ضمنا مصلحة نفسه وإذا ما خان الإنسان نفسه فهذا ليس سهلا ويتطلب افتعالا ولذلك يقول الحق :" ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ".
والآية التي تحدثت من قبل ذلك عن هذا الموقف لن تأت بكلمة " خوانين " ولكن جاءت بالخائنين، وهنا يأتي الحق بكلمة خوان وفيه فرق بين " خائن "، و " خوان "، فالخائن تصدر منه الخيانة مرة واحدة، أما الخوان فتصدر منه الخيانة مرارا أو يكون المعنى هو : أن الخائن تصدر منه الخيانة في أمر يسير صغير، أما الخوان فتصدر منه الخيانة في أمر كبير إذن فمرة تأتي المبالغة في تكرير الفعل، وأخرى في تضخيم الفعل.
ومن لطف الله أنه لم يقل " خائن " لأن الخائن هو من خان لمرة عابرة وانتهى الأمر، ولم يخرجه الله عن دائرة الستر إلا إذا أخذ الخيانة طبعا وعادة وحرفة، وقد جاءت لسيدنا عمر رضي الله عنه امرأة أخذ ولدها بسرقة وأراد عمر رضي الله عنه أن يقيم على ذلك الولد الحد، فبكت الأم قائلة : يا أمير المؤمنين والله ما فعل هذا إلا هذه المرة قال عمر : كذبت والله ما كان الله ليأخذ عبدا بأول مرة.
ولذلك يقولون : إذا عرفت في رجل سيئة انكشفت وصارت واضحة فلتعلم أن لها أخوات فالله لا يمكن أن يفضح أول سيئة لأنه سبحانه يحب أن يستر عباده، لذلك يستر العبد مرة وثانية، ثم يستمر العبد في السيئة فيفضحها الله :" إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ".
﴿ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا( ١٠٨ ) ﴾
إنهم يطلبون البراءة أمام الناس في أن " طعمة " لم يفعل السرقة، ولكن هل يملك الناس ما يملكه الله عنهم ؟ إنه سبحانه أحق بذلك من الناس فإذا كنتم تريدون التعمية في قضاء الأرض فلن تعموا على قضاء السماء. وهذه القضية يجب أن تحكم حركة المؤمن، فإذا ما فكر إنسان منسوب إلى الإسلام أن يفعل شيئا يغضب الله فعليه أن يفكر : أنا لو فعلت ذلك لفضحت نفسي أو فضحت ولدي أو فضحت أسرتي أو فضحت المسلمين وعلى الإنسان المسلم ألا يخشى الناس إن فعل أخ له شيئا يشين المسلمين، بل عليه أن يأخذ على يديه ويرده عن فعله ونقول لمن يستتر عن الناس، أنت استخفيت من الناس ولم تستخف من الله لذلك فأنت غير مأمون على ولاية.
" يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم " وكلمة " معهم " هذه تريد أن تجعل المؤمن مصدقا أن الله لا تخفى عليه خافية إنه من الممكن أن يستتر الشخص عن الناس ولكنه لا يستطيع أبدا أن يستتر عن الله لأن الله مع كل إنسان في الخلوة والعلن، فإن قدر واحد على الاستخفاء من الناس فهو لن يقدر على الاستخفاء من الله.
" يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول " و " يبيت " أي أنه يفعل أمره في الليل لأن الناس كانت تلجأ إلى بيوتهم في الليل ومعنى يبيت أن يصنع مكيدة في البيت ليلا، وكل تدبير بخفاء اسمه " تبييت " حتى ولو كان في وضح النهار، ولا يبيت إنسان في خفاء إلا رغبة منه في أن ينقض عنه عيون الرائين فنقول له : أنت تنفض العيون التي مثلك، لكن العيون الأزلية وهي عيون الحق فلن تقدر عليها.
﴿ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا( ١٠٨ ) ﴾( سورة النساء ).
حين نسمع كلمة " محيط " فلنعلم أن الإحاطة هي تطويق المحيط للمحاط، بحيث لا يستطيع أن يفلت منه علما بحاله التي هو عليها ولا قدرة على أن يفلت منه مآلا وعاقبة فهو سبحانه محيط علما لأنه هو الذي لا تخفى عليه خافية، ومحيط قدرة فلا يستطيع أن يفلت أحد منه إلى الخارج، وسبحانه محيط علما بكل جزئيات الكون وتفاصيله وهو القادر فوق كل شيء، فإذا ما سمعنا كلمة " محيط " فمعناها أن الحق سبحانه وتعالى يحيط ما يحيط به علما بكل جزئياته فلا تستطيع جزئية أن تهرب من علم الحق وسبحانه محيط بكل شيء قدرة فلا يستطيع أن يفلت من مآله شيء من الجزاء الحق.
﴿ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا( ١٠٩ ) ﴾.
فالذي جادل عن ابن أبيرق كان يريد أن يبرئ ساحته أمام الناس ويدين اليهودي وفي أنه قد جادل أمام بشر عن بشر فهل تنتهي المسألة بهذا اليسر ؟ لا، لأن الدنيا ليست دار جزاء وهب أنه أفلت من العقوبة البشرية أيفلت من عقوبة الله في الآخرة، لا، إذن فالذي يجادل يريد أن يعمى على قضاء الأرض، ولن يستطيع أن يعمى على قضاء الحق، ولن يجد من يجادل عن مثل هذا الخطأ يوم القيامة، وليس هذا فقط، ولكن الحق يذيل الآية :" أم من يكون عليهم وكيلا " أي فمن إذن يستطيع أن يكون وكيلا عن هؤلاء يوم القيامة ؟ ونعرف أن الوكيل هو الشخص اللبق الذي يختاره بعض الناس ليكون قادرا على إقناع من أمامه فمن يستطيع أن يقوم بذلك العمل أمام الله ؟ لا أحد.
﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما( ١١٠ ) ﴾.
وسبحانه وتعالى حينما خلق الخلق جعلهم أهل أغيار، لذلك لم يشأ أن يخرج مذنبا بذنب عن دائرة قدرته ورحمته بل إنه سبحانه شرع التوبة للمذنب حماية للمجتمع من استشراء شره، فلو خرج كل من ارتكب ذنبا من رحمة الله فسوف يعاني المجتمع من شرور مثل هذا الإنسان، ويصبح كل عمله نقمة مستطيرة الشر على المجتمع إذن فالتوبة من الله، مشروعية وقبولا إنما هي حماية للبشر من شراسة من يصنع أول ذنب. وهكذا جاءت التوبة لتحمي الناس من شراسة أهل المعصية الذين بدأوا بمعصية واحدة.
إن الذين وقفوا في محاولة تبرئة " ابن أبيرق " انقسموا إلى قسمين : قسم في باله أن يبرئ " ابن أبيرق " وقسم في باله ألا يفضح مسلما وكل من القسمين قد أذنب ولكن هل يخرجهم هذا الذنب من رحمة الله ؟ لا، فسبحانه يقول :" يجد الله غفورا رحيما " والحق يعفو عن تلك المسألة إن القسمين جميعا أصبحوا مطالبين بعمل طيب بعد أن أوضح لهم الرسول وفهموا مراد الحق، وسبحانه يبقيهم في الصف الإيماني، وقد حكم رسول الله على " ابن أبيرق " لصالح اليهودي، وبعد ذلك ارتد " ابن أبيرق " وذهب إلى مكة مصاحبا لعادة الخيانة، فنقب حائطا على رجل ليسرق متاعه فوقع الحائط عليه فمات.
والحق سبحانه يضع المعايير فمن يرتكب ذنبا أو يظلم نفسه بخطيئة ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ونلاحظ أن بعض السطحيين لا يفهمون جيدا قول الحق : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " فيتساءلون : أليس الذي ارتكب العمل السيئ قد ظلم نفسه ؟.
ونقول : إن دقة القرآن توضح لنا المعنى فمعنى عمل سوءا أضر بهذا العمل آخرين، إنه غير الذي ارتكب شيئا يضر به نفسه فقط، فالذي سرق أو قتل أو اعتدى على آخر قذفا أو ضربا أو إهانة، مثل هذه الأعمال هي ارتكاب للسوء فالسوء هو عمل يكرهه الناس، ويقال : فلان رجل سوء، أي يلقى الناس بما يكرهون.
لكن الذي يشرب الخمر قد يكون في عزلة عن الناس لم يرتكب إساءة إلى أحد، لكنه ظلم نفسه لأن الإنسان المسلم مطلوب منه الولاية على نفسه أيضا والمنهج يحمي المسلم حتى من نفسه ويحمي النفس من صاحبها بدليل أننا نأخذ من يقتل غيره بالعقوبة وكذلك يحرم الله من الجنة من قتل نفسه انتحارا.
وهكذا نرى حماية المنهج للإنسان وكيف تحيطه من كل الجهات لأن الإنسان فرد من كون الله، والحق يطلب من كل فرد أن يحمي نفسه، فإن صنع سوءا أي أضر بغيره فهذا اسمه " سوء " أما حين يصنع فعلا يضر نفسه فهذا ظلم النفس :
﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون( ١٣٥ ) ﴾( سورة آل عمران ).
وهل فعل الفاحشة مخالف لظلم النفس ؟ إنه إساءة لغيره أيضا لكن ظلم النفس هو الفعل الذي يسيء إلى النفس وحدها، أو أن الإنسان يصنع سيئة ويمتع نفسه بها لحظة من اللحظات ولا يستحضر عقوبتها الشديدة في الآخرة، وقد تجد إنسانا يرتكب المعصية ليحقق لغيره متعة، مثال ذلك شاهد الزور الذي يعطي حق إنسان لإنسان آخر ولم يأخذ شيئا لنفسه، بل باع دينه بدنيا غيره وينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
" بادروا بالأعمال ستكون فتنة كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض الدنيا " ١.
﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ والله غفور ورحيم أزلا ودائما، والعبد التائب يرى مغفرة الله ورحمته.
.
﴿ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما( ١١١ ) ﴾.
ويورد الحق كلمة " كسب " عندما يتناول أمرا خيرا فعله الإنسان، ويصف ارتكاب الفعل السيئ ب " اكتسب "، لماذا ؟ لأن فعل الخير عملية فطرية في الإنسان لا يستحي منه، لكن الشر دائما هو عملية يستحي منها الإنسان لذلك يحب أن يقوم بها في خفية وتحتاج إلى افتعال من الإنسان.
ولنضرب هذا المثل للإيضاح ولله المثل الأعلى نحن نجد الرجل ينظر إلى وسامة زوجته بكل ملكاته، لكنه لو نظر إلى واحدة أخرى من غير محارمه فهو يقوم بعملية لخداع ملكات النفس حتى يتلصص ليرى هذه المرأة، ويحاول التحايل والافتعال ليتلصص على ما ليس له، ولذلك يقال عن الحلال، إنه " كسب " ويقال عن الحرام : إنه " اكتساب ".
فإذا ما جاء القرآن للسيئة وقال :" كسب سيئة " فهذا أمر يستحق الالتفات، فالإنسان قد يعمل السيئة ويندم عليها بمجرد الانتهاء منها إن كان من أهل الخير، ونجده يوبخ نفسه ويلومها ويعزم على ألا يعود إليها، لكن لو ارتكب واحد سيئة وسعد بذلك وكأنها حققت له كسبا ويفخر بها متناسيا الخطر الجسيم الذي سوف يواجهه يوم القيامة والمصير الأسود، وهو حين يفخر بالمعصية ففي ذلك إعلان عن فساد الفطرة، وسيادة الفجور في أعماقه وهو يختلف عن ذلك الذي تقع عليه المعصية ولحظة ما يتذكرها يقشعر بدنه ويستغفر الله.
" ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه " فإياك أيها الإنسان أن تظن أنك حين تظلم أحدا بعمل سوء قد كسبت الدنيا، فوالله لو علم الظالم ماذا أعد الله للمظلوم لضن على عدوه أن يظلمه وأضرب هذا المثل للإيضاح ولله المثل الأعلى دائما هب أن رجلا له ولدان وجاء ولد منهما وضرب أخاه أو خطف منه شيئا يملكه، ورأى الأب هذا الحادث فأين يكون قلب الأب ومع من يكون ؟
إن الأب يقف مع المظلوم، ويحاول أن يرضيه، فإن كان الأخ الظالم قد أخذ منه شيئا يساوي عشرة قروش، فالأب يعوض الابن المظلوم بشيء يساوي مائة قرش، ويعيش الظالم في حسرة ولو علم أن والده سيكرم أخاه المظلوم لما ظلمه أبدا. إذن فالظلم قمة من قمم الغباء.
ومن ضمن المفارقات التي تروي مفارقة تقول : إن كنت ولا بد مغتابا فاغتب أبويك ولا بد أن يقول السامع لذلك : وكيف أغتاب أبي وأمي ؟ فيقول صاحب المفارقة : إن والديك أولى بحسناتك، فبدلا من أن تعطى حسناتك لعدوك، ابحث عمن تحبهم وأعطهم حسناتك وحيثية ذلك هي : لا تكن أيها المغتاب أحمق لأنك لا تغتاب إلا عن عداوة، وكيف تعطي لعدوك حسناتك وهي نتيجة أعمالك ؟.
ونعرف ما فعله سيدنا الحسن البصري، عندما بلغه أن واحدا قد اغتابه فأرسل إلى المغتاب طبقا من البلح الرطب مع رسول وقال للرسول : اذهب بهذا الطبق إلى فلان وقل له : بلغ سيدي أنك اغتبته بالأمس فأهديت له حسناتك وحسناتك بلا شك أثمن من هذا الرطب وفي هذا إيضاح كاف لذم الغيبة.
" ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما " ونعلم أنه إذا جاءت أي صفة من صفات الحق داخلة في صورة كينونة أي مسبوقة ب " كان " فإياكم أن تأخذوا " كان " على أنها وصف لما حدث في زمان ماض، ولكن لنقل " كان وما زال " لماذا ؟ لأن الله كان أزلا، فهو غفور رحيم قبل أن يوجد مغفور له أو مرحوم، فالله ليس من أهل الأغيار والصفات ثابتة له لأن الزمن في الأحداث يتغير بالنسبة للأغيار فقط، وعلى سبيل المثال نجد الواحد من البشر صحيحا في زمن ومريضا في زمن آخر.
ولذلك لا يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الماضي إلا أصحاب الأغيار وكذلك لا يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الحاضر إلا في أصحاب الأغيار، ومادام الله هو الذي يغير ولا يتغير فلن يغيره زمن ما، بل كان في الأزل غفورا رحيما، ولا يزال أيضا غفورا رحيما وكذلك كان علم الله أزليا وحكمته لا حدود لها.
{ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا( ١١٢ ).
قالوا : إن الخطيئة هي الشيء غير المتعمد، مثال ذلك حين نعلم التلميذ قاعدة من قواعد النحو، ثم نطلب منه أن يطالع نصا من النصوص ونلتفت لنجد التلميذ قد نصب الفاعل ورفع المفعول، ونصحح له الخطأ، إنه لم يتعمده بل نسي القاعدة ولم يستحضرها ونظل نصحح له الخطأ إلى أن يتذكر القاعدة النحوية، وبالتدريب يصبح الإعراب ملكة عند التلميذ فلا يخطئ.
والخطيئة إذن هي الخطأ غير المتعمد أما الإثم فهو الأمر المتعمد فكيف إذا رمى واحد بإثم ارتكبه أو خطيئة ارتكبها هو ما حكم الله في ذلك ؟.
﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا( ١١٢ ) ﴾( سورة النساء ).
لقد ارتكب الخطيئة أو الإثم ويا ليته اكتفى بهذا لا بل يريد أن يصعد الجريمة بارتكاب جريمة ثانية وذلك بأن يرمي بالخطيئة أو الإثم بريئا إن إثمه مركب ولذلك قال الحق :" فقد احتمل الحق بهتانا وإثما مبينا " واستخدم الحق هنا لكلمة " احتمل " وليس " حمل " تؤكد لنا أن هناك علاجا ومكابدة وشدة ليحمل الإنسان هذا الشيء الثقيل فالجريمة جريمتان وليست واحدة لقد فعل الخطيئة ورمى بها بريئا وفاعل الخطيئة يندم على فعلها مرة، ويندم أيضا على إلصاقها العداوة. يهون عليه أن يصنع المعصية ولكن بعد أن يهدأ سعار العداوة فالندم يأتيه. قال الحق :﴿ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين( ٢٧ ) ﴾( سورة المائدة ).
هابيل إذن يسأل قابيل : وما ذنبي أنا في ذلك إن الله هو الذي يقبل القربان وليس أنا فلماذا تقتلني ؟
ويستمر القول الحكيم :﴿ لئن بسطت إلي يديك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين( ٢٨ ) ﴾( سورة المائدة ).
وماذا يقول الحق من بعد ذلك :
﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين( ٢٠ ) ﴾( سورة المائدة ).
كأن مسألة القتل كانت عملية شاقة وليست سهلة وأخذت مغالبة وعلى سبيل المثال : لن يقول أحد :" لقد طوعت الحبل " ولكن هناك من يقول :" أنا طوعت الحديد " وسعار الغضب جعل قابيل ينسى كل شيء وقت الجريمة وبعد أن وقعت وهدأ سعار الغضب الذي ستر موازين القيم، هنا ظهرت موازين القيم ناصعة في النفس.
ولذلك نجد من يرتكب جريمة ما، ويتجه بعد ذلك لتسليم نفسه إلى الشرطة، وهو يفعل ذلك لأن سعار الجريمة انتهى وظهر ضوء موازين القيم ساطعا. وعلى ذلك نفهم قول الحق :" فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ".
وهذا يدل على أن من يصنع جريمة ثم يرمي البرئ بالإثم إنما يرتكب عملا يتطلب مشقة وتتنازعه نفسه مرة بالندم، لأنه فعل الجريمة وتنازعه نفسه مرة ثانية لأنه رمى بريئا بالجريمة، لذلك قال الحق :" فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " وساعة نسمع كلمة " بهتان " فهي مأخوذة من مادة " بهت " والبهتان هو الأمر الذي يتعجب من صدوره من فاعله، مثال ذلك قوله الحق في شرح قضية سيدنا إبراهيم مع النمرود حيث يقول سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم :
﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ﴾( من الآية٢٥٨سورة البقرة )فماذا كان موقف الرجل ؟ ﴿ فبهت الذي كفر ﴾( من الآية٢٥٨سورة البقرة )، أي أنه سمع شيئا عجيبا يخرسه عن أن يتكلم فقد جاء له سيدنا إبراهيم بأمر عجيب لا يخطر على باله، ولا يستطيع أن يجد منه مفرا، فكأن الأمور المخالفة لمنطق الحق ولمطلوب القيم أمور غريبة عن الناس إنها هي البهتان والدليل على ذلك أنها أمور يستتر فاعلها عن الناس.
وإذا ما نظرنا إلى القضية التي نزلت الآية بسببها وجدنا أن سارقا سرق وأراد أن يبرئ نفسه وأن يدخل في الجريمة بريئا ويلصقها به، وأن يرتكب المجرم الجريمة فهذا يحمله إثما أما أن ينقل الجريمة إلى سواه فهذا يدل على وجود طاقة أخرى حتى يحتمل ما فعله، وهذا صعب على النفس ولا يتعجب أحد لسماع شيء إلا إذا كان هذا الشيء مخالفا لما هو مألوف ومعروف، وإن في الحوار بين سيدنا إبراهيم والنمرود لدليلا واضحا وناصعا فعندما قال النمرود :
﴿ أنا أحيي وأميت ﴾( من الآية٢٥٨سورة البقرة )، قصد بذلك قدرته على أن يقتل إنسانا ويترك إنسانا آخر لمسعاه وهنا عاجله سيدنا إبراهيم بالقضية التي تبهته ولا يدخل فيها هذا التماحك اللفظي فقال :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ﴾( من الآية٢٥٨سورة البقرة ).
أي أن النمرود سمع قولا عجيبا وليس عنده من الذكاء ما يحتاط به إلى دفعه، وكذلك الرجل الذي صنع الجريمة ثم رمى بها غيره احتاج إلى طاقة تتحمل هذا، مما يدل على أن الفطرة السليمة كارهة لفعل القبيح فإذا ما فعل الإنسان ذنبا فقد حمل بهتانا وإذا ما عدى ذلك إلى أن يحمله إلى برئ فذلك يعني أن الأمر يحتاج إلى طاقة أخرى.
إذن فقوله الحق :" فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " أي أنه احتمل أمرا عجيبا يبهت السامع ويتعجب كيف حدث ذلك ويحتمل من يفعل ذلك الإثم أيضا.
والإثم كما عرفنا هو السيئة المتعمدة ويوضح الحق سبحانه وتعالى هذه القضية : إن الله سبحانه وتعالى يحوطك يا محمد بعنايته وبرعايته وبفضله وإن حاول بعض من قليلي الإيمان أن يخرجوك عن هذه المسألة وأن يزينوا لك أن تبرئ مذنبا لتجرم آخر بريئا وإن كان المذنب مسلما وإن كان البريء غير مسلم والله لم يرسل محمدا ليحكم بين المؤمنين فقط، ولكن صدر هذه الآية يوضح لنا أن الله أرسل رسوله ليحكم بالحق :" لتحكم بين الناس " أي ليحكم بين الناس على إطلاقهم. فإياك حين تحكم أو تقول : هذا مسلم وذلك كافر، أو تقول : هذا مسلم وذلك من أهل الكتاب بل كل الناس أمام قضايا الحق سواء.
ولذلك أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الجرعة الإيمانية التي جاءت بها حادثة من الحوادث ليقول بعد ذلك في قصة المخزومية حينما سرقت وأراد أن يقيم عليها الحد، وكلمه حبيبه أسامة بن زيد في أن يرفع عنها الحد، فقال رسول الله :
عن عائشة رضي الله عنه أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يجرؤ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب فقال :" أيها الناس : إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإن سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها١.
هذا القول مستخلص من القضية السابقة ويقول سبحانه وتعالى :
﴿ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما( ١١٣ ) ﴾.
وكان قصد الذين دافعوا عن " أبيرق " أن يزينوا لرسول الله وهذا هو هم التزيين لا هم الإنفاد، وكان الهدف من التزيين أن يضروا الرسول ويضلوه والعياذ بالله، ليأخذوه إلى غير طريق الحق وغير طريق الهدى وهذا أمر يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو أن رسول الله برأ المذنب الذي يعلم أنه مذنب لاستقر في ذهن المذنب أن قضايا الدين ليست جادة أما البريء الذي كان مطلوبا أن يدينه رسول الله ماذا يكون موقفه ؟ لابد أن يقول لنفسه : إن دين محمد لا صدق فيه لأنه يعاقب بريئا. إذن فهم التزيين يضر بالرسول عند المبرأ وعند من يراد إلصاق الجريمة به. لكن الله صان رسوله بالفضل وبالرحمة عن هذا أيضا.
﴿ لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ﴾( من الآية١١٣سورة النساء ).
لقد أنزل الحق كتابا ليفصل في القضية ونزول الحكم بعد وقوع تلك الحادثة إنما جاء ليبين ضمن ما يبين سر نزول القرآن منجما، لأن القرآن يعالج أحداثا واقعية، فيترك الأمر إلى أن يقع الحدث ثم يصب على الحدث حكم الله الذي ينزل من السماء وقت حدوث الحدث وإلا كيف يعالج القرآن الأحداث لو نزل مرة واحدة بينما الأحداث لم تقع ؟ لذلك أراد الله أن تنزل الأحداث أولا ثم يأتي الحكم وقد سبق أن قال الكفار :
﴿ لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ﴾( من الآية٣٢ )سورة الفرقان )
لا، فقد أراد الله القرآن منجما ومتفرقا ومقسطا لماذا ؟
﴿ كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ﴾( من الآية٣٢سورة الفرقان )
فكلما حدثت هزة للفؤاد من اللدد والخصومة الشديدة ومن العناد كان عليه الكفار وردهم للحق، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ينزل نجم من القرآن وفي شغب البشر مع الرسول تنزل رحمة السماء تثبت الفؤاد فإن تعب الفؤاد من شغب الناس فآيات اتصال الرسول بالسماء وبالوحي تنفي عنه هذه المتاعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الدعوة كانت تحدث له كل يوم هزات، لذلك كان في كل لحظة يحتاج إلى تثبيت وعندما ينزل النجم القرآني بعد العراك مع الخصوم فإن حلاوة النجم القرآني تهون عليه الأمر وإذا ما جاء للرسول صلى الله عليه وسلم أمر آخر يعكر صفوه فهو ينتظر حلاوة الوحي لتنزل عليه، وهذا معنى قوله الحق :﴿ كذلك لنثبت به فؤادك ﴾( من الآية٣٢سزورة الفرقان )
أي أنزلناه منجما لنثبت به فؤادك ولو نزل القرآن جملة واحدة لقلل من مرات اتصال السماء بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يريد مداومة اتصال السماء به.
بدليل أن الوحي عندما فتر جلس الرسول يتطلع إلى السماء ويتشوق لماذا ؟ ففي بداية النزول أرهقه الوحي لذلك قال الرسول :" فضمني إليه حتى بلغ مني الجهد " ١.
ورأته خديجة رضي الله عنها " وإن جبينه ليتفصد عرقا " فاتصال جبريل بملكيته ونورانيته برسول الله صلى الله عليه وسلم في بشريته لا بد أن يحدث تغييرا كيميائيا في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة رضي الله عنها : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا " ٢.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يواجه المتاعب وأراد الله بفترة الوحي أن يحس محمد حلاوة الوحي الذي نزل إليه، وأن يشتاق إليه فالشوق يعين الرسول على تحمل متاعب الوحي عندما يجيء، ولذلك نجد أن عملية تفصد العرق لم تستمر كثيرا لأن الحق قال :
{ وللآخرة خير لك من الأولى( ٤ )( سورة الضحى ).
أي أن الحق أوضح لرسوله : إنك ستجد شوقا وحلاوة ولذة في أن تستقبل هذه الأشياء.
﴿ كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ﴾( من الآية٣٢سورة الفرقان ).
وهكذا كان القرآن ينزل منجما على فترات، ويسمع الصحابة عددا من آيات القرآن ويحفظونها ويكتبها كتاب الوحي وبعد ذلك تأتي معجزة أخرى من معجزات القرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنزل سورة كاملة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن يسري عنه يقول للكتبة : اكتبوا هذه ويرتب رسول الله الآيات بمواقعها من السورة ثم يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة في الصلاة ويسمع المصلون الترتيل الذي تكون فيه كل آية في موقعها وهذا دليل على أن المسألة مدروسة دراسة دقيقة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يحكي إنما يحكي صدقا.
وإلا فقولوا لي : كيف ينزل الوحي على رسول الله بسورة بأكملها ويمليها للكتبة، ثم يقرؤها في الصلاة كما نزلت وكما كتبها أصحابه، كيف يحدث ذلك إن لم يكن ما نزل عليه صدقا كاملا من عند الله ؟ ونحن قد نجد إنسانا يتكلم لمدة ربع ساعة لكن لو قلنا له : أعد ما تكلمت به فلن يعيد أبدا الكلمات نفسها لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الآيات كما نزلت. مما يدل على أنه يقرأ كتاب الله المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنه تنزيل من حكيم حميد. ولذلك يقول الحق :
﴿ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا( ٢٣ ) ﴾( سورة الفرقان ).
أي لا يأتونك بحادثة تحدث إلا جئناك بالحق فيها.
إذن لم يكن للقرآن أن ينزل منجما إلا ليثبت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تتابع الهزات التي يتعرض لها، وأراد الله أن ينشر اتصال السماء برسول الله صلى الله عليه وسلم على الثلاثة والعشرين عاما التي استغرقتها الرسالة.
والترتيل هو التنجيم والتفريق الذي ينزل به القرآن فيقرأه الرسول في الصلاة مثلما نزل عليه قبل ذلك دون تحريف أو تبديل والحق يقول :{ سنقرئك فلا تنسى( ٦ )( سورة الأعلى ).
وكل حادثة تحدث ينزل الله ما يناسبها من القرآن كما حدثت سرقة ابن أبيرق فنزل فيها الحكم والحق يقول :" وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ".
فإذا ما علمك الله يا رسول الله ما لم تكن تعلم بنزول الكتاب، فهل أنت يا سيدي يا رسول الله مشرع فقط بما نزل من الكتاب ؟ لا، فالكتاب معجزة وفيه يشرع وتلك ميزة لم تكن لرسول قبله بدليل قوله الحق :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾( من الآية٧سورة الحشر ).
فالرسل من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم يتناولون ما أخذوه عن الله وميز سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم بتفويض التشريع، وأوضح الحق أنه علم رسوله الكتاب والحكمة. والحكمة مقصود بها السنة، فسبحانه القائل :﴿ واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ﴾( من الآية٣٤سورة الأحزاب ).
وسبحانه صاحب الفضل على كل الخلق وصاحب الفضل على رسوله :" وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " ولنا أن نلحظ أن " فضل الله " تكرر في هذه الآية مرتين ففضل الله الأول في هذه الآية أنه عصمه من أن تضله طائفة وتنأى به عن الحق، ثم كان فضل الله عليه ثانيا أنه أنزل عليه الكتاب بكل أحكامه وأعطاه الحكمة وهي التفويض من الله لرسوله أن يشرع. إذن فالحق سبحانه وتعالى جعل من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم امتدادا لوحيه. ولذلك إذا قيل من قوم يحاولون التشكيك في حديث رسول الله : إن الصلاة لم تأت في القرآن.
نقول سائلين الواحد منهم : هل تؤدى الصلاة أم لا ؟
فيقول : إنني أصلي.
فنقول له : كم فرضا تصلي ؟
فيقول : خمسة فروض.
فنقول : هات هذه الفروض الخمسة من القرآن ولسوف يصيبه البهت، وسيلتبس عليه أمر تحديد الصبح بركعتين والظهر بأربع ركعات والعصر بمثلها، والمغرب بثلاث والعشاء بأربع ركعات، وسيعترف أخيرا أنه يصلي على ضوء قول الرسول( صلوا كما رأيتموني أصلي )٣وهذه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " وقد نجد واحدا من أهل السطحية واللجاجة يقول : القرآن يكرر الكلمات في أكثر من مواقع ولماذا يذكر فضل الله في صدر هذه الآية ويذكره مرة أخرى في ذيل نفس الآية ؟
نقول : أنت لن تلحظ فضل الله في الجزئية الأولى لأنه أنقذ رسوله من هم التزيين بالحكم على واحد من أهل الكتاب ظلما، وفي الجزئية الثانية هو فضل في الإتمام بأنه علم رسوله
الكتاب والحكمة وكان هذا الفضل عظيما حقا.
٢ رواه البخاري في كتاب: بدء الوحي..
٣ رواه البخاري والبيهقي في السنن الكبرى..
لقد قاموا بالتداول فيما بينهم لأمر طعمة واتفقوا على أن يذهبوا للرسول فكانت الصلة قريبة من النجوى ولذلك حرص أدب الإسلام على أن يحترم كرامة أي جليس ثالث مع اثنين فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما لأن ذلك يحزنه.
وقد يكون الأمر جائزا لو كان الجلوس أربعة فواحد يتحدث مع آخر وهناك يستطيع اثنان أن يتناجيا إذن فالنجوى معناها المسارة. والمسارة لا تكون إلا عن أمر لا يحبون أن يشيع وقد فعل القوم ذلك قبل أن يذهبوا إلى الرسول ليتكلموا عن حادثة طعمة بن أبيرق، ولذلك يفضح الحق أمر هذه النجوى، فينزل القول الحق :
﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما( ١١٤ ) ﴾.
وسبحانه يوضح أمر هذه النجوى التي تحمل التبييت للإضلال ولكن ماذا إن كانت النجوى لتعين على الحق ؟ إنه سبحانه يستثنيها هنا، لذلك لم يصدر حكما جازما ضد كل نجوى واستثنى منها نجوى من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، بل ويجزي عليها حسن الثواب لذلك قال :" ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الناس فسوف نؤتيه أجرا عظيما ". ويستخدم الحق هنا كلمة " سوف " وكان من الممكن أن يأتي القول " فسنؤتيه أجرا عظيما " لكن لدقة الأداء القرآني البالغة جاءت بأبعد المسافات وهي " سوف ".
ونعرف أن جواب شرط الفعل إذا ما جاء على مسافة قريبة فنحن نستخدم " السين " وإذا ما جاء جواب الشرط على مسافة بعيدة فنحن نستخدم " سوف " وجاء الحق هنا ب " سوف " لأن مناط الجزاء هو الآخرة، فإياك أيها العبد المؤمن أن تقول : لماذا لم يعطيني الله الجزاء على الطيب في الدنيا ؟ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يقل :" فسنؤتيه " ولكنه قال :" فسوف نؤتيه أجرا عظيما " مما يدل على أن الفضل والإكرام من الله، وإن كان عاجلا ليس هو الجزاء على هذا العمل، لأن جزاء الحق لعباده المؤمنين سيكون كبيرا، ولا يدل على هذا الجزاء في الآخرة إلا " فسوف ". ونعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يمني أمته الإيمانية بشيء فهو يمنيها بالآخرة، ولننظر إلى بيعة العقبة عندما جاء الأنصار من المدينة لمبايعة رسول الله :
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه :" بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه١.
لقد أخذت لنفسك يا رسول الله ونحن نريد أن نأخذ لأنفسنا، ماذا لنا نحن وفينا بهذا ؟ ولنر عظمة الجواب وإلهامية الرد. قال الرسول صلى الله عليه وسلم( لكم الجنة ).
كان في استطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : إنكم ستنتصرون وإنكم ستأخذون مشارق الأرض ومغاربها وسيأتي لكم خير البلاد الإسلامية كلها لكنه بحكمته لم يقل ذلك أبدا فقد يستشهد واحد منهم في قتال من أجل نصرة دين الله، فماذا سيأخذ في الدنيا ؟ إنه لن يأخذ حظه من التكريم في الدنيا ولكنه سينال الجزاء في الآخرة. لذلك جاء بالجزاء الذي سيشمل الكل، وهو الجنة ليدلهم على أن الدنيا أتفه من أن يكون جزاء الله محصورا فيها، ويحض المؤمنين على أن يطلبوا جزاء الآخرة ونعلم جميعا هذه الحكاية ونجد رجلا يقول لصاحبه أتحبني ؟ فأجاب الصاحب : نعم أحبك، فسأل السائل : على أي قدر تحبني ؟ قال الصاحب : قدر الدنيا. أجاب الرجل : ما أتفهني عندك.
يقول الحق :" ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما " ومن صاحب " نؤتيه " والفاعل لهذا العطاء ؟ إنه الحق سبحانه وتعالى الذي وصف الأجر بأنه أجر عظيم وكأن الحق يبلغنا :
يا معشر الأمة الإيمانية التحموا بمنهج رسول الله وامتزجوا به لتكونوا معه شيئا واحدا وإياكم أن يكون لكم رأي منفصل عن المنهج فهو مبلغ عن الله، فمن آمن به فليلتحم به ولذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه ساعة حدثوه في حكاية الإسراء والمعراج نجده يسأل محدثه : أقال رسول الله ما قلتموه ؟ فيقولون : بلى، لقد قال : فيرد عليهم الصديق : إن كان قال فقد صدق، فالصديق أبو بكر لا يحتاج إلى دليل على صدق ما قال رسول الله.
﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا( ١١٥ ) ﴾.
وكلمة " يشاقق " تدل على أن شقا قد حدث في أمر كان ملتحما، مثلما نشق قطعة الخشب فنجعلها جزئين بعد أن كانت كتلة واحدة. وأنتم أيها المؤمنين قد التحمتم بمنهج رسول الله إيمانا واعترفتم به رسولا ومبلغ صدق عن الله فإياكم أن تشرخوا هذا الالتحام فإن جاء حكم وحاول أحد المؤمنين أن يخرج عنه، فهذا شقاق للرسول والعياذ بالله أو المعنى ومن سلك غير الطريقة التي جاء بها الرسول بأن صار في شق وشرع الله في شق آخر.
" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " نعم فقد تبين الهدى للمسلم حينما آمن بالله خالقا وربا وآمن بالرسول مبلغا وهو بذلك قد أسلم زمامه إلى الله، ولذلك قلنا : إن عمل العقل هو أن ينظر في أدلة الوجود الأعلى لله، فإذا ما آمن الإنسان بالوجود الأعلى لله بقيت مرتبة وهي أن يؤمن الإنسان بالرسول المبلغ عن الله، لأن قصارى ما يطلبه العقل من الدليل الإيماني على وجود الله أن وراء الإنسان ووراء الكون قوة قادرة حكيمة عالمة فيها كل صفات الكمال.
إن العقل لا يستطيع معرفة اسم هذه القوة، ولا يستطيع العقل أن يتعرف على مطلوباتها لذلك لا بد من البلاغ عن هذه القوة، وإذا تبين للإنسان الهدى في الوجود الأعلى وفي البلاغ عن الله فلا بد للإنسان أن يلتحم بالمنهج الذي جاء به المبلغ عن الله ويفعل الإنسان مطلوب القوة العليا، لأن الله قد أمر به، ولأن رسول الله قد بلغ الأمر أو فعله أو أقره، أما إذا دخل الإنسان في مماحكتك فإننا نقول له : راجع إيمانك بالله أولا وإيمانك برسول الله ثانيا، لذلك يقول الحق :﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا( ١١٥ ) ﴾( سورة النساء ).
والهدى كما نعرف هو الطريق الموصل إلى الغاية، فكل فعل من أفعال الخلق لا بد له من الهدف ومن فعل فعلا بلا هدف يعتبره المجتمع فاقدا للتمييز أما إذا كان الإنسان صاحب هدف فهو يتعرف على جدية هدفه وأهميته ويبحث له عن أقصر طريق هذا الطريق هو ما نسميه الهدى، ومن يعرف الطريق الموصل إلى الهدى ثم يتبع غير سبيل المؤمنين فهو يشاقق الرسول، ولا يلتحم بمنهج الإيمان ولا يلتزم به، ومن يشاقق إنما يرجع عن إيمانه.
وهكذا نعرف أن هناك سبيلا وطريقا للرسول، ومؤمنين اتبعوا الرسول بالتحام بالمنهج، ومن يشاقق الرسول يخالف المنهج الذي جاء به الرسول ويخالف المؤمنين أيضا.
والحق هو القائل :
﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ﴾( من الآية١٥٣سورة الأنعام ).
فليس للحق إلا سبيل واحد ومن يخرج عن هذا السبيل فما الذي يحدث له ؟ هاهي ذي إجابة الحق :" نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " وقد يأتي لفظ من المحتمل أن يكون أداة شرط ويحتمل أن يكون اسما موصولا مثل قولنا : من يذاكر ينجح بالضم فيهما، و " من " هنا هي اسم موصول فالذي يذاكر هو من ينجح وقد نقول : من يذاكر ينجح بالسكون وهنا " من " شرطية.
وفي الاسم الموصول نجد الجملة تسير على ما هي، أما إذا كانت شرطية فهناك الجزم الذي يقتضي سكون الفعل ويقتضي سكون الفعل أيضا جوابا للشرط و " من " تصلح أن تكون اسما موصولا وتصلح أن تكون أداة شرط، ونتعرف عادة على وضعها مما يأتي بعدها مثال ذلك قوله الحق :
" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع " ونجد " يتبع " هنا عليها سكون الجزم وهذا يدل على أن " من " شرطية.
وتختلف القراءة لو اعتبرنا " من " اسم موصول، لأن هذا يستدعي ترك الفعل " يشاقق " في وضعه كفعل مضارع مرفوع بالضمة وكذلك يكون " يتبع " فعلا مضارعا مرفوعا بالضمة عند ذلك نقول :" نوليه ما تولى ونصليه " ولكن إن اعتبرنا " من " أداة شرط وفي هذه الآية شرطية فلا بد من جزم الفعل فنقرأها ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " وكذلك نجزم الفعل المعطوف وهو قوله :﴿ ويتبع ﴾ ويجزم جواب الشرط وما عطف عليه وهو قوله :( ونوله ) ( ونصله ) والجواب وما عطف عليه مجزومان بحذف حرف العلة وهي الياء من آخره " ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ". ومعنى " تولى " أي قرب ويقال : فلان ولي فلان، أي صار قريبا له. ومن يتبع غير سبيل المؤمنين فالحق لا يريده بل يقربه من غير المؤمنين ويكله إلى أصحاب الكفر وها هو ذا الحق سبحانه يقول :" أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه تركته وشركه " ١.
فالذي يحتاج إلى الشرك هو من به زاوية من ضعف ويريد شريكا ليقويه فيها وعلى سبيل المثال ولله المثل الأعلى لا نجد أحدا يشارك واحدا على تجارة إلا إذا كان يملك المال الكافي لإدارة التجارة أو لا يستطيع أن يقوم على شأنها وسبحانه حين يعلمنا " أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ".
أي أن له مطلق القوة الفاعلة التي تحتاج إلى المعونة ولا تحتاج إلى شريك لأن الشركة أول ما تشهد فإنها تشهد ضعفا من شريك واحتياجا لغريب ولذلك فمن يشاقق الرسول في أمر إيماني فالحق يوليه مع الذي كفر ويقربه من مراده. وسبحانه يعلم أن الإنسان لن ينتفع بالشيء المشاقق لرسول الله، بل يكون جزاء المشاقق لرسول الله والمتبع لغير سبيل المؤمنين أن يقربه الله ويدنيه من أهل الكفر والمعاصي ويلحقه بهم ويحشره في زمرتهم ولا يعني هذا أن الله يمنع عن العبد الرزق، لا فالرزق للمؤمن وللكافر وقد أمر الله الأسباب أن تخدم العبد إن فعلها ومن رحمة الله وفضله أنه لا يقبض النعمة عن مثل هذا العبد فالشمس تعطيه الضوء والحرارة والهواء يهب عليه والأرض تعطيه من عناصرها الخير :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب( ٢٠ ) ﴾ ( سورة الشورى ).
ويقول سبحانه :﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا( ٢٠ ) ﴾ ( سورة الإسراء ).
وهكذا نجد العطاء الرباني غير مقصور على المؤمنين فقط ولكنه للمؤمن وللكافر، ولو لم يكن لله إلا هذه المسألة لكانت كافية في أن نلتحم بمنهجه ونحبه.
" ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " ولا بد أن يكون المصير المؤدي إلى جهنم غاية في السوء.
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لما يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا( ١١٦ ) ﴾.
والحق هنا يتكلم عن إنسان لم تحدث له توبة عن الشرك فيؤمن لأن الإيمان يجب ما قبله أي يقطع ما كان قبله من الكفر والذنوب التي لا تتعلق بحقوق الآخرين كظلم العباد بعضهم بعضا، ومن عظمة الإيمان أن الإنسان حين يؤمن بالله وتخلص النية بهذا الإيمان وبعد ذلك جاءه قدر الله بالموت فقد يعطيه سبحانه نعيما يفوق من عاش مؤمنا لفترة طويلة قد يكون مرتكبا فيها لبعض السيئات فينال عقابها.
مثال ذلك " مخيريق " فحينما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد قال مخيريق لليهود : ألا تنصرون محمدا والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم فقالوا : اليوم يوم سبت فقال : لا سبت، وأخذ سيفه ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراحة ( أي لا يستطيع أن يقوم معها ) فلما حضره الموت قال : أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء، فلم يصل في حياته ركعة واحدة ومع ذلك نال مرتبة الشهيد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مخيريق سائق يهود وسلمان سائق فارس وبلال سائق الحبشة ".
وسبحانه يبلغنا هنا :" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ولله المثل الأعلى نرى في حياتنا مجتمعا قد تقوم في ثورة أو انقلاب ونجد قادة الثورة أو الانقلاب يرون واحدا يفعل ما شاء له فلا يقتربون منه إلى أن يتعرض للثورة بالنقد أو يحاول أن يصنع انقلابا، هنا تتم محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، فما بالنا بالذي يخرج عن نطاق الإيمان كلية ويشرك بالله ؟ سبحانه لا يغفر ذلك أبدا، ولكنه يغفر ما دون ذلك، ومن رحمة الله بالخلق أن احتفظ هو بإرادة الغفران حتى لا يصير الناس إلى ارتكاب كل المعاصي، ولكن لابد من توبة العبد عن الذنب ونعلم أن العبد لا يتم طرده من رحمة الله لمجرد ارتكاب الذنب، ونعلم أن هناك فرقا بين من يأتي الذنب ويفعله ويقترفه وهو يعلم أنه مذنب وأن حكم الله صحيح وصادق، لكن نفسه ضعفت والذي يرد الحكم على الله، وقد نجد عبدا يريد أن يرتكب الذنب فيلتمس له وجه حل، كقول بعضهم : إن الربا ليس حراما هذا هو رد الحكم على الله أما العبد الذي يقول : إنني أعرف أنا الربا حرام ولكن ظروفي قاسية وضروراتي ملحة فهو عبد عاص فقط لا يرد الحكم على الله ومن يرد الحكم على الله هو والعياذ بالله كافر.
" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ولننتبه إلى أن بعض المستشرقين الذين يريدون أن يعيثوا في الأرض فسادا ولكنهم بدون أن يدروا ينشرون فضيلة الإسلام وهم كما يقول الشاعر :
وإذا أراد الله نشر فضيلة | طويت أتاح لها لسان حسود |
إنهم يقولون : بلغ محمد قومه " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " لكن يبدو أن السهو قد غلبه فقال في آية أخرى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾( من الآية٥٣سورة الزمر ).
هم يحاولون نسبة القرآن إلى محمد لا إلى الله، ويحاولون إيجاد تضارب بين الآيتين الكريمتين ونقول ردا عليهم : إن الواحد منكم أمي ويجهل ملكة اللغة، فلو كانت اللغة عندكم ملكة وسليقة وطبيعة لفهم الواحد قوله الحق :
﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾( من الآية ٥٣ سورة الزمر ).
وكان الواجب أن يفهم الواحد منكم أن الشرك مسألة أكبر من الذنب، فالذنب هو أن يعرف الإنسان قضية إيمانية ثم يخالفها ولكن المشرك لا يدخل في هذا الأمر كله، لأنه كافر في القمة ولذلك فلا تناقض ولا تعارض ولا تخالف بين الآيتين الكريمتين والمستشرقون إنما هم قوم لا يفقهون حقيقة المعاني القرآنية.
" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " والمشرك مهما أخذ من متع لحياته فحياته محدودة، فإن بقيت له المتع فلسوف يتركها وإن لم تبق له المتع فهي تخرج منه، إذن هو إما تارك للمتع بالموت أو المتع تاركة له بحكم الأغيار، فهو بين أمرين : إما أن يفوتها وإما أن تفوته وهو راجع إلى الله، فإذا ما ذهب إلى الله في الآخرة والحساب فالآخرة لا زمن لها، ولذلك ما أطول شقاءه بجريمته وهذا ضلال بعيد جدا، أما الذي يضل قليلا فهو يعود مرة أخرى إلى رشده ومن المشركين بالله هؤلاء الذين لا يجادلون في ألوهية الحق، ولكنهم يجعلون لله شركاء. وهناك بعض المشركين ينكرون الألوهية كلها وهذا هو الكفر، فهناك إذن مشرك يؤمن بالله ولكن يجعل له شركاء.
ولذلك نجد أن المشركين عل عهد رسول الله يقولون عن الأصنام :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾( من الآية٣سورة الزمر ).
ولو قالوا : لا نذبح لهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، مثلا لكان من الجائز أن يدخلوا في عبادة الله ولكنهم يثبتون العبادة للأصنام لذلك لا مفر من دخولهم في الشرك، ويقول سيدنا إبراهيم عن الأصنام :{ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين( ٧٧ )( سورة الشعراء ).
إنه يضع الاستثناء ليحدد بوضوح قاطع ويقول لقومه :
إن ما تعبدونه من الأصنام كلهم عدو لي، إلا رب العالمين كأن قوم إبراهيم كانوا يؤمنون بالله ولكن وضعوا معه بعض الشركاء ولذلك قال إبراهيم عليه السلام عن الله :
﴿ الذي خلقني فهو يهدين( ٧٨ )والذي هو يطعمني ويسقيني( ٧٩ ) ﴾( سورة الشعراء ).
﴿ إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا( ١١٧ ) ﴾.
و " إن " هنا بمعنى ما، ف " إن " مرة تكون شرطية ومرة تكون نافية مثل قوله في موقع آخر :
﴿ إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ﴾( من الآية٢سورة المجادلة )، أي إن الحق يقول :" إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم " وكذلك " إن " في قوله :" إن يدعون من دونه إلا إناثا "، وكان العرب ينسبون إلى المرأة كل ما هو هين وضعيف ولذلك قال الحق :
﴿ أو من ينشئوا في الحلية وهو في الخصام غير مبين( ١٨ ) ﴾( سورة الزخرف )
فالإناث في عرف العرب لا تستطيع النصر أو الدفاع، ولذلك يقول الشاعر :
وما أدري ولست أخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء |
ولذلك قال الحق :
﴿ تلك إذا قسمة ضيزى( ٢٢ ) ﴾( سورة النجم )، أي قسمة جائرة لم يراع فيها العدل.
وعندما ننظر إلى الأصنام كلها نجد أن أسماءها أسماء مؤنثة :
﴿ أفرأيتم اللات والعزى( ١٩ )ومناة الثالثة الأخرى( ٢٠ ) ﴾( سورة النجم )
وكذلك كان هناك صنم اسمه " إساف " و " نائلة " فهل هذه الأصنام إناث ؟ وكيف تدعون النساء والنساء لا ينصرن ولا ينفعن ؟ وهل ما تعبدون من دون الله أصنام بأسماء إناث، أو هي نساء أو هي ملائكة ؟.
والحق يقول : إن يدعون من دونه إلا إناثا " والأسلوب هنا أسلوب قطع أي ما يدعون إلا إناثا تماما مثلما نقول : " ما أكرم إلا زيدا " وهذا نفي الإكرام لغير زيد وإثبات للإكرام لزيد فساعة يقول الحق " إن يدعون من دونه إلا إناثا "، فغير الإناث لا يدعونهم ولذلك يعطف عليها الحق :" وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ".
واستخدم الحق في صدر الآية أسلوب القصر، وأسلوب القصر معناه أن يقصر الفعل على المقصور عليه فلا يتعداه إلى غيره فهم يعبدون الإناث هذا قصر أول، ثم قصر ثان هو قوله الحق :" وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ".
وكان خدم الأصنام يدعون أن في جوف كل صنم شيئا يتكلم إليهم لذلك كان لا بد أن يكون في جوف كل صنم شيطان يكلمهم وكان ذلك لونا من الخداع، فالشياطين ليست جنا فقط ولكن من الإنس أيضا.
فهناك سدنة وخدم يقومون على خدمة الآلهة ويريدون أن يجعلوا للآلهة سلطانا ونفوذا حتى يأتي الخير للآلهة كالقرابين والنذور ويسعد السدنة بذلك لذلك كانوا يستأجرون واحدا له صوت أجش يتكلم من وراء الصنم ويقول : اذبحوا لي كذا، أو هاتوا لي كذا تماما كما يحدث من الدجالين حتى يثبتوا لأنفسهم سلطانا وهكذا كان الذي يتكلم في جوف هذه الأصنام إما شياطين من الجن وإما شياطين من الإنس، والشيطان من " الشطن " وهو " البعد ".
ووصف الشيطان بأنه مريد يتطلب منا أن نعرف أن هناك كلمة " مارد " وكلمة " مريد " وكل الأمور التي تغيب عن الحس مأخوذة من الأمور الحسية وعندما نمسك مادة " الميم والراء والدال " نجد كلمات مثل " أمرد " و " امرأة مرداء " و " شجرة مرداء " و " صرح ممرد ".
إن المادة كلها تدور حول الملمس الأملس، فأمرد تعني أملس أي أن منابت الشعر فيه ناعمة وصرح ممرد كصرح بلقيس أي صرح مصقول صقلا ناعما لدرجة أنها اشتبهت في أنه ماء، ولذلك كشفت عن ساقيها خوفا أن يبتل ثوبها.
والشجرة المرداء هي التي لا يمكن الصعود عليها من فرط نعومة ساقها تماما كالنخلة فإنه لا تبقى عليها الفروع ولذلك يدقون في ساق هذه النخلة بعض المسامير الكبيرة حتى يصعدوا إليها.
والشيطان المريد هو المتمرد الذي لا تستطيع الإمساك به، إذن ف " مارد " و " مريد " و " ممرد " و " مرداء " و " أمرد " كلها من نعومة الملمس.
" وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ".
وعندما يحاول العصاة الإمساك بالشيطان في الآخرة يقول لهم :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾( من الآية٢٢سورة إبراهيم ). وهو بذلك يتملص من الذين اتبعوه لأنه لم يكن يملك قوة إقناع أو قوة قهر، فقط نادى بعضا من الخلق فزاغت أبصارهم واتبعوه من فرط غبائهم.
﴿ لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا١١٨ ﴾.
لماذا هذا اللعن ؟ لقد أذنب الشيطان وعصى الله. وآدم أذنب أيضا وعصى الله فلماذا لعن الله الشيطان ولماذا عفا الله عن آدم ؟ نجد الإجابة في القرآن :
{ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم( ٣٧ )( سورة البقرة )
ونعرف بهذا القول " أن هناك فرقا بين أن يرد المخلوق على الله حكما، وفعل المعصية للغفلة. فحين أمر الحق إبليس بالسجود قال إبليس :
﴿ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾( من الآية١٢سورة الأعراف )
وهذا رد للحكم على الله، ويختلف هذا القول عن قول آدم وحواء قالا :﴿ ربنا ظلمنا أنفسنا ﴾( من الآية٢٣سورة الأعراف ).
وهكذا نجد أن آدم قد اعترف بحكم الله واعترف بأنه لم يقدر على نفسه ولذلك فليحذر كل واحد أن يأتي إلى ما حرم الله ويقول : لا، ليس هذا الأمر حراما لكن إن كان لا يقدر على نفسه فليعترف ويقول : إن ما حرم الله حرام، لكني غير قادر على نفسي وبذلك يستبعد الكفر عن نفسه، ويكون عاصيا فقط ولعل التوبة أو الاستغفار يذهبان عنه سيئات أما من يحلل ما حرم الله فهو يصر على الكفر، وطمس الله على بصيرته نتيجة لذلك.
وسبحانه وتعالى يصف الشيطان بقوله سبحانه :" لعنه الله " أي طرده من رحمته وليتيقظ ابن آدم لحبائل الشيطان وليحذره لأنه مطرود من رحمة الله.
ولو أن سيدنا آدم أعمل فكره لفند قول الشيطان وكيده ذلك أن كيد الشيطان ضعيف ولكن آدم عليه السلام لم يتصور أن هناك من يقسم بالله كذبا، فقد أقسم الشيطان :
﴿ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين( ٢١ ) ﴾( سورة الأعراف ).
وكانت غفلة آدم عليه السلام لأمر أراده الله وهو أن يكون آدم خليفة في هذه الدنيا، لذلك كان من السهل أن يوسوس الشيطان لآدم ولزوجه :
﴿ فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين( ٢٠ ) ﴾( سورة الأعراف )
وأغوى الشيطان آدم وحواء بأن الله قد نهاهما عن الأكل من تلك الشجرة حتى لا يكونا ملكين وحتى لا يستمروا في الخلود ولو أن آدم أعمل فكره في المسألة لقال الشيطان : كل أنت من الشجرة لتكون ملكا وتكون من الخالدين فأنت أيها الشيطان الذي قلت بخوف شديد لله :﴿ رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ﴾( من الآية٣٦سورة الحجر )، والحق يريد لنا أن نتعلم من غفلة آدم لذلك لا بد للمؤمن أن يكون يقظا.
فسبحانه يقول عن الشيطان :" لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ".
والقرآن الكريم حين يعالج قضية ما فهذه القضية تحتاج إلى تدبر. ونلحظ أن إبليس قد تكلم بذلك ولم يكن موجودا من البشر إلا آدم وحواء فكيف علم ما يكون في المستقبل من أنه سيكون له أتباع من البشر ؟ وكيف قال :" لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا " ؟
لقد عرف أنه قد قدر على أبيهم آدم وأمهم حواء فلسوف يقدر على أولادهما ويأخذ بعضا من هؤلاء الأولاد إلى جانبه قال ذلك ظنا من واقع أنه قدر على آدم وعلى حواء، والذين اتبعوا إبليس من البشر صدقوا إبليس في ظنه، وكان هذا الظن ساعة قال :{ لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ".
وأخذ إبليس هذا الظن لأنه قدر على آدم وحواء مع أن آدم وحواء قد أخذا التكليف من الله مباشرة، فما بالك بالأولاد الذين لم يأخذوا التكليف مباشرة بل عن طريق الرسل، إذن كان ظن إبليس مبنيا على الدليل فالظن كما نعلم هو نسبة راجحة وغير متيقنة ويقابلها الوهم وهو نسبة مرجوحة :﴿ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ﴾( من الآية٢٠سورة سبأ )، ولذلك قال إبليس أيضا :﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ﴾( من الآية٦٢سورة الإسراء ).
وقال كذلك :{ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين( ٨٢ )( سورة ص ).
وما وسيلة إبليس إذن لأخذ نصيب مفروض من بني آدم ؟
ويوضح الحق لنا وسائل إبليس، على لسان إبليس :
﴿ ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا( ١١٩ ) ﴾.
وفي هذه الآية تفصيل لطرق أخذ إبليس لنصيب مفروض من بني آدم فإبليس هو القائل كما يحكي القرآن :﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ﴾( من الآية١٦سورة الأعراف ).
وعرفنا من قبل أنه لن يقعد إلا على الطريق الطيب، لأن طريق من اختار السلوك السيئ لا يحتاج إلى شيطان لأنه هو نفسه شيطان لذلك لا يذهب إبليس إلى الخمارة ولكنه يقف على باب المسجد ليرى الناس وهي تفعل الخير فيوسوس لهم، وفي هذا إجابة لمن يقولون : إن الوساوس تأتيني لحظة الصلاة، والصلاة كما نعلم هي أشرف موقف للعبد لأنه يقف بين يدي الرب لذلك يحاول الشيطان أن يلهي الإنسان عنها حتى يحبس عنه الثواب وهذه الوساوس ظاهرة صحية في الإيمان ولكنها تحتاج إلى اليقظة فساعة ينزغ الشيطان الإنسان نزغة فليتذكر قول الحق :
﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ﴾( من الآية٢٠٠سورة الأعراف )
وعندما نستعيذ بالله فورا يعرف الشيطان أنك منتبه له، حتى ولو كنت تقرأ القرآن في أثناء الصلاة ووسوس لك الشيطان، اقطع القراءة واستعذ بالله ثم واصل القراءة والصلاة وحين يعرف الشيطان أنك منتبه له مرة واثنتين وثلاثا فهو يبتعد عنك فلا يأتي لك من بعد ذلك إلا إذا أحس منك غفلة.
ويبين لنا الحق طريقة في أخذ النصيب المفروض من عباد الله فقال عن إبليس :" ولأضلنهم " والإضلال معناه أن يسلك الشيطان بالإنسان سبيلا غير مؤد للغاية الحميدة لأنه حين يسلك الشخص أقصر الطرق الموصلة إلى الغاية المنصوبة فمعنى ذلك أنه اهتدى أما إذا ذهب بعيدا عن الغاية فهذا هو الضلال، والحق سبحانه وتعالى بوضعه منهج الهداية أعطانا أقصر طريق مستقيم إلى الغاية فإذا ما انحرفنا هنا وهناك فالانحراف في البداية يتسع حتى ننتهي إلى غير غاية.
وضربنا قديما هذا المثل وقلنا : إن هناك نقطة في منتصف كل دائرة تسمى مركز الدائرة فإذا ما انحرف المتجه إليها بنسبة واحد على الألف من الملليمتر فتتسع مسافة ابتعاده عنها كلما سار على نسبة الانحراف نفسها برغم أنه يفترض في أن كل خطوة يخطوها تهيئ له القرب إلى الغاية.
لقد ضربنا مثلا توضيحيا ب " الكشك " الذي يوجد قبل محطات السكك الحديدية حيث ينظم عامل " كشك " اتجاهات القطارات على القضبان المختلفة ويتيح لكل قطار أن يتوقف عند رصيف معين حتى لا تتصادم القطارات ومن أجل إنجاح تلك المهمة نجد عامل التحويلات في هذا " الكشك " يحرك قضيبا يكون سمكه في بعض الأحيان عددا من الملليمترات، ليلتصق هذا القضيب بقضيب آخر وبذلك يسمح لعجلات القطار أن تنتقل من قضيب إلى آخر.
الضلال إذن أن يسلك الإنسان سبيلا غير موصل للغاية، وكلما خطا الإنسان خطوة في هذا السبيل ابتعد عنها، وهذا الابتعاد عن الغاية هو الضلال البعيد، والإضلال من الشيطان يكون بتزيينه الشر والقبح للإنسان ليبعده عن مسالك الخير والفضيلة.
ومن بعد ذلك يأتي على لسان الشيطان ما قاله الحق في هذه الآية :" ولأمنينهم " والأماني هي أن ينصب الإنسان في خياله شيئا يستمتع به من غير أن يخطو له خطوة عمل تقربه من ذلك، ومثال ذلك الإنسان الذي نراه جالسا ويمني نفسه قائلا : سيكون عندي كذا وكذا وكذا ولا يتقدم خطوة واحدة لتحقيق ذلك.
ولذلك يقول الشاعر تسلية لنفسه :
منى.. إن تكن حقا.. تكن أحسن المنى | وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا |
ومن بعد ذلك يقول الشيطان :" ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " والبتك هو القطع والأنعام : هي الإبل والبقر والغنم أي قطع آذان الأنعام والقرآن قال في الأنعام :
﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل أالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين( ١٤٣ )ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ألذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ﴾( الآية١٤٣وجزء من الآية١٤٤سورة الأنعام ).
لو كان الزوج يطلق على " الاثنين " لكان العدد أربعة فقط، ويعلمنا التعبير القرآني ويوضح لنا أن نفرق جيدا لنفهم أن معنى كلمة " زوج " ليس أبدا " اثنين "، ولكن معناها : واحد معه غيره من نوعه أو جنسه فيقال عن فردة الحذاء " زوج " لأن معها فردة أخرى، ومثال آخر أيضا : كلمة " توأم " التي نظن أنها تعني " اثنين "، لكن المعنى الحقيقي أن التوأم هو واحد له توأم آخر، فإذا ما أردنا التعبير عن الاثنين قلنا :" توأمان ".
وحين أورد من خطط الشيطان " ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " فلهذا قصة، ونحن نعرف أن المنتفعين بالضلالات يصنعون لهم سلطة زمنية حتى يربطوا الناس بأشخاصهم هم. وكان المشرفون على الأصنام يقومون على خدمتها ولم يلحظ أحد أنه من الغباء تقبل فكرة أن يخدم البشر الآلهة فالإله هو القيوم على خلقه يرعاهم ويقوم بأسبابهم وكان هؤلاء الناس هم المنتفعين بخيبة الغفلة عند البشر، وكانوا يعيشون سدنة ليأخذوا الخير، وبطبيعة الحال فالشيطان من البشر أو الجن يجدها وسيلة فيجلس في جوف الصنم ويتكلم فيأخذ السدنة والخدم هذه المسألة لترويج الدعايات للصنم، فيأتي الأغبياء له بالأنعام من الإبل والبقر والغنم فيذبحونها ويأكلونها ولذلك كان السدنة دائما وفي أغلب الحالات أهل سمنة لأنهم أهل بطنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن الله يبغض الحبر السمين )١.
فمثل هذا الحبر يستسهل أكل خير الناس والانتفاع به، فهو ينتفع به بضلالات الناس، ومن ينتفع بالضلالة يرى أن حظه في أن تستمر الضلالة مثله في ذلك مثل المنتفع من تجارة المخدرات إنه يتمنى أن يتعاطى الناس جميعهم المخدرات وعندما تقوم حملات لمقاومة المخدرات يغضب ويحزن.
ومثل ذلك أيضا تاجر السوق السوداء الذي يصيبه الغم عندما تأتي البضائع على قدر حاجات الناس وتكفيهم فكل فساد مستتر وراءه أناس ينتفعون به. وعندما يرى المنتفع بالفساد هبة إصلاح يغضب ويحاول أن يجد وسيلة لاستمرار الفساد، ولهذا كان السدنة ينفخون في الأصنام لتصدر أصواتا ليطلبوا من وراء ذلك مطالب من الأغبياء المصدقين لهم، مثلهم مثل الدجالين الذين نسمع عنهم حيث يقول الواحد منهم لأهل المريض : إن على المريض عفريتا والعفريت يطلب ناقة أو ذبيحة أو دما.
هكذا كان يفعل السدنة ويحاولون بشتى الطرق من الحيل والخدع حتى يأخذوا من الغافلين السذج الإبل والبقر والغنم، وعندما يقطع صاحب الإبل أو البقر أو الغنم أذن أي واحدة منها فهذا يعني أنها منذورة للأصنام والأصنام بطبيعتها لا تأكل ولكن السدنة يأكلون.
وفي آية أخرى يقول فيها الحق :
﴿ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ﴾( من الآية٥٩سورة يونس )
ويورد الحق أيضا في هذا الأمر :
﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل أالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين( ١٤٣ )ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين( ١٤٤ ) ﴾( سورة الأنعام ).
فهل المحرم هو " الذكران " أو الأنثيان أو الذي اشتملت عليه أرحام الأنثيين ؟
لا شيء من هذه كلها محرم فقد خلقها الله كلها رزقا حلالا والنعمة نفسها تعرف وظيفتها ونلحظ في الريف المصري عندما تختنق جاموسة أو بقرة أو خروف بالحبل أو يصاب بأذى أو مرض فإنه ينام ويمد عنقه فيقال :" لقد طلب الحلال "، كأن البهيمة تقول لصاحبها : ألحقني بالذبح لتستفيد من لحمي ونتعجب لأن الحمار مثلا لا يفعل ذلك لأن لحمه غير محلل لكن البهيمة تعرف فائدتها بالنسبة للإنسان فتمد رقبتها طالبة الذبح كما نعرف أنها في أثناء حياتها تخدم الإنسان إما في أن تحمل الأثقال، وإما أن يأخذ منها الألبان أو الوبر أو الصوف أو الشعر ولحظة ما يدهمها ويغشاها ويصيبها خطر فهي تمد رقبتها كأنها تطلب الذبح ليستفيد الإنسان من لحمها فهي مسخرة للإنسان وتعرف ذلك إلهاما وتسخيرا.
وما دام الله قد جعل لنا كل هذا فلم نقبل تحريم غير محرم وتحليل غير الحلال ؟ لكن السدنة كانوا يفعلون الأعاجيب للسيطرة على الناس فإذا ما ولدت الناقة أربعة أبطن وجاءت بالمولود الخامس ذكرا يقول السدنة : يكفي أنها جاءت بأربعة بطون وأتت بالخامس فحلا ذكرا ويشقون أذن الناقة ويتركونها وعندما يراها أحد ويجد أذنها مشقوقة فالعرف يقضي بألا تستخدم في أي شيء لا في الرضاعة ولا في الحمل ولا يحلب لبنها ولا تمنع من المياه أو الكلأ وتسمى " البحيرة " ويأخذها السدنة في أي وقت لأنهم لا يريدون تخزين اللحوم يريدونها حية ليذبحوها في الوقت الذي يتراءى لهم ولذلك قال الحق :
﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾( من الآية١٠٣سورة المائدة )
والبحيرة إذن هي الناقة التي تبحر آذاتها أي تشق فذلك يعني أنها جاءت بأربعة أبطن تباعا ثم جاءت بالذكر في البطن الخامسة ويهبها صاحبها للأصنام، والبحيرة سائبة مع وجود سائبة أخرى، وهي وإن لم تأت بأربعة أبطن ولا بالذكر في البطن الخامسة ولكن صاحبها يقدمها نذرا أو هدية لأحد الأصنام، وتسمى " سائبة " لأن أحدا لا يقوم على شأنها ولكنها ترعى في أي الأرض وتشرب من أي ماء ولا أحد يأخذ من لبنها أو يركبها ويأخذها السدنة وقت احتياجهم للحم الطازج الغض، وإذا ولدت الشاة أنثى جعلوها لهم، وإن ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى لم يذبحوا الذكر لآلهتهم وقالوا عن الشاة : وصلت أخاها فهذه هي الوصيلة، لأن الناس كانت تحتفظ بالإناث من البهائم فهي وعاء النسل لذلك فهبة الفحل للسدنة كان أمرا مقدورا عليه، ويقول الشاعر :
وإنما أمهات القوم أوعية | مستحدثات وللأحساب آباء |
أي أنهم عندما كانت الماشية تلد في بطن واحد أنثى وذكرا لا يذبحون الذكر ويقولون : الأنثى وصلت أخاها ويضمن الذكر حياته ويستخدم كفحل ليلقح بقية الإناث ويقال عنها : الوصيلة.
هكذا نجد البحيرة هي الناقة التي أنجبت خمسة أبطن آخرها ذكر، والسائبة وهي النذر من أول الأمر، والوصيلة وهي التي ولدت
﴿ يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا( ١٢٠ ) ﴾.
وهذا يعني أن الشيطان يقدم الوعود الكاذبة لمواليه ويخبرهم بشيء يسرهم فالوعد هو أن يخبر أحد آخر بشيء يسره أن يوجد.
والمثال على ذلك نراه في الحياة العادية فلإنسان منا يحب ماله الذي قد جاء بالتعب، والصدقة في ظاهر الأمر تنقص المال فيقول الحق :
﴿ الشيطان يعدكم الفقر ﴾( من الآية٢٦٨سورة البقرة ).
لماذا ؟
لأن الشيطان يوسوس في صدر صاحب المال قائلا : إنك عندما تتصدق ببعض المال فمالك ينقص وويل لمن يرضخ لوساوس الشيطان، لأنه يورده موارد التهلكة والشيطان أيضا يقدم الأماني الكاذبة في الوساوس :" ويمنيهم " ومثال ذلك ما جاء على لسان المتفاخر على أخيه بلون من الاستهزاء والعياذ بالله :
﴿ وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منهما منقلبا( ٣٦ ) ﴾( سورة الكهف ).
المتفاخر يقول : مادام الله قد أعطاني في الدنيا وما دامت مهمة الله هي العطاء الدائم فلا بد أن يعطيني ربي في الآخرة أضعاف ما في الدنيا ذلك أن سعيد الدنيا هو سعيد في الآخرة، فماذا كان جزاؤه ؟
لقد رأى انهيار زراعته وعرف سوء مصير الغرور لأنه استجاب لوعود الشيطان ووعود الشيطان ليست إلا غرورا " وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ".
فما هو الغرور ؟ هناك " غرور " بضم الغين وغرور بفتح الغين والغرور بضم الغين هو الشيء يصور لك على أنه حقيقة وهو في الواقع وهم. والغرور بفتح الغين هو من يفعل هذه العملية ولذلك فالغرور بفتح الغين هو الشيطان لأنه يزين للإنسان الأمر الوهمي، ويؤثر مثلما يؤثر السراب فالإنسان حين يرى انكسار الأشعة يخيل إليه أنه يرى ماء، ويقول الحق عن ذلك :
﴿ كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ﴾( من الآية٣٩سورة النور ).
وكذلك الغرور حيث يزين الشيطان شيئا للإنسان ويوهمه أنه سيستمتع به، فإذا ما ذهب الإنسان إليه فلن يجد له حقيقة بل العكس ولذلك يفصل لنا الحق أعمال الكفار فيقول عنها :
﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب( ٣٩ ) ﴾( سورة النور )
ويفاجأ الكافر بوجود الله الذي كان كافرا به، ويصير أمام نكبتين نكبة أنه كان ذاهبا إلى ماء فلا يجده فيخيب أمله، والنكبة الثانية أن يجد الله الذي يحاسبه على الإنكار والكفر.
ويقول الحق :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا( ٢٣ ) ﴾( سورة الفرقان )
وقد يأتي واحد ويدعي لنفسه الإنسانية ويظن أنه يتكلم بالمنطق فيقول :
هل هؤلاء الناس الذين قدموا للبشرية كل هذه المخترعات التي أفادت الناس كالمواصلات وغيرها، أيصيرون إلى عذاب ؟ ونقول : هؤلاء سيأخذون جزاء الكفر، لأن الواحد منهم قد عمل أعماله وليس في باله الله، بل قام بتلك الأعمال وفي باله عبقرية الابتكار والإنسانية وهو يأخذ من الإنسانية التكريم وعليه أن يطلب أجره ممن عمل له وليس مما لم يعمل له، وينطبق عليه قول الرسول :
عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار " ١.
ولم يغمطهم الله جزاء أعمالهم في الدنيا فقد أخذوا من الدنيا كل التكريم.
ووزع سبحانه فضل هذه المواهب على الناس الذين في بالهم الله، لذلك ترى المسلم غير المتعلم يركب الطائرة ليحج بيت الله ويسجل أحاديث الإيمان على شرائط ليسمعها من لم يحضر ويشاهد هذه الشعيرة إذن فهؤلاء الكافرون مسخرون للمؤمنين لأنهم أتاحوا لهم الانتفاع بعلمهم واكتشافاتهم والمؤمنون أيضا مطالبون بأن يأخذوا بأسباب الله لينالوا كرم الله في عطاء العلم، بل إن ذلك واجب عليهم يأثمون إذا لم يقوموا به حتى لا يكونوا عالة على سواهم فلا يستذلون.
﴿ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا( ١٢١ ) ﴾.
وكلمة " مأوى " معناها المكان الذي يضطر الإنسان إلى أن يأوي إليه، فهل هذا الاضطراب يكون اندفاعا أو جذبا ؟ سبحانه يقول عن النار ستنطق قائلة :
﴿ هل من مزيد ﴾( من الآية٣٠سورة ق )
كأن النار ستجذب أصحابها وهم لن يجدوا عنها محيصا أي لا مهرب ولا مفر ولا معدى، وكان باستطاعة الواحد منهم أن يفر من مخلوق مثله في دنيا الأغيار، ولكن حين يكون الأمر لله وحده فلا مفر.
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾( من الآية١٦سورة غافر ).
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا( ١٢٢ ) ﴾.
وحين يأتي سبحانه بأمر يتعلق بالكفار وعقابهم فالنفوس مهيأة ومستعدة لتسمع عن المقابل، فإذا كان جزاء الكفار ينفر الإنسان من أن يكون منهم، فالنفس السامعة تنجذب إلى المقابل وهو الحديث عن جزاء المؤمنين أصحاب العمل الصالح، وسبحانه قال من قبل :
﴿ فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾( من الآية١١٤سورة النساء ).
وهنا يقول :" سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار "، والمتيقن من الله والواثق به يعلم أنه لا توجد مسافة تبعده عن عطاء الله مثال ذلك حينما سأل النبي أحد الصحابة وكان اسمه الحارث بن مالك الأنصاري :( كيف أصبحت يا حارث ؟ ).
قال : أصبحت مؤمنا حقا لقد أجاب الصحابي بكلمة كبيرة المعاني وهي الإيمان حقا، لذلك قال الرسول : انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك " ؟
أجاب الصحابي : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها( يتصايحون فيها ).
فقال :" يا حارث : عرفت فالزم ثلاثا " ١.
والحق ساعة يقول :" س " وساعة يقول :" سوف " فلكل حرف من الحروف الداخلة على الفعل ملحظ ومغزى وكل عطاء من الله جميل " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ".
والجنة كما قلنا من قبل على إطلاقها تنصرف إلى جنة الآخرة فهي الجنة بحق، أما جنة الدنيا فمن الممكن أن يتصوح نباتها وشجرها وييبس ويتناثر أو يصيبها الجدب، أما جنة الآخرة فهي ذات الأكل الدائم وإن لم تطلق كلمة " الجنة " من أي قيد أو وصف بل قيدت، فالقصد منها معنى آخر كقول الحق :﴿ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين( ١٧ ) ﴾( سورة القلم ).
وقوله سبحانه :﴿ كمثل جنة بربوة أصابها وابل ﴾( من الآية٢٦٥سورة البقرة ).
والجنة بربوة هي البستان على مكان عال وهي ذات مواصفات أعلى مما وصل إليه العلم الحديث، لأن الأرض إذا كانت عالية لا تستطيع المياه الجوفية أن تفسد جذور النبات المزروع في هذه الأرض فيظل النبات أخضر اللون، ويقول الحق عن مثل هذه الجنة :
﴿ فآتت أكلها ضعفين ﴾( من الآية٢٦٥سورة البقرة ).
ويزيد على ذلك أنها بربوة، وأنها تروى بالمطر من أعلى، ومن الطل، فتأخذ الري من المطر للجذور والطل لغسل الأوراق كل ذلك يطلق على الجنة.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :" جنات تجري من تحتها الأنهار " ويطمئنها سبحانه على احتفاظها بنضرتها وخضرتها، وأول شيء يمنع الخضرة هو أن يقل الماء فتذبل الخضرة.
ونجد القرآن مرة يقول :" جنات تجري تحتها الأنهار " وهذا يعني أن منبع المياه بعيد، ومرة أخرى يقول :" جنات تجري من تحتها الأنهار " ويعني أن منبع المياه لن يحجزه أحد، لأن الأنهار تجري وتنبع من تحتها. ويعد الحق المؤمنين أصحاب العمل الصالح بالخلود في الجنة والخلود هو المكث طويلا فإذا قال الحق :" خالدين فيها أبدا " أي أن المكث في الجنة ينتقل من المكث إلى المكث الدائم.
وهذا وعد من ؟ " وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ". وحين يعدك من لا يخرجه شيء عن إنفاذ وعده، فهذا هو وعد الحق سبحانه أما وعد المساوي لك في البشرية فقد لا يتحقق لعله ساعة إنفاذ الوعد يغير رأيه أو لا يجد الوجد واليسار والسعة والغنى فلا يستطيع أن يوفي بما وعد به، أو قد يتغير قلبه من ناحيتك، لكن الله سبحانه وتعالى لا تتناوله الأغيار، ولا يعجزه شيء وليس معه إله آخر يقول له لا إن وعده سبحانه لا رجوع فيه ولا محيص عن تحقيقه.
قول الله هنا " وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا " هو كلام منه ليوضح لكل واحد منا : أنا لا أريد أن أستفهم منك، لكنه جاء على صورة الاستفهام لتكون الإجابة من الخلق إقرارا منهم بصدق ما يقوله، أيوجد أصدق من الله ؟
وتكون الإجابة : لا يمكن حاشا لله، لأن الكذب إنما يأتي من الكذاب ليحقق لنفسه أمرا لم يكن الصدق ليحققه أو لخوف ممن يكذب عنده، والله منزه عن ذلك فإذا قال قولا فهو صدق.
.
﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا( ١٢٣ ) ﴾.
والأمنية كما عرفنا هي أن يطمح الإنسان إلى شيء ممتع مسعد بدون رصيد من عمل، إن الحق سبحانه وتعالى حينما استخلف الإنسان في الأرض طلب منه أن يستقبل كل شيء صالح في الوجود استقبال المحافظ عليه، فلا يفسد الصالح بالفعل وإن أراد الإنسان طموحا إلى ما يسعد، فعليه أن يزيد الصالح صلاحا.
والمثل الذي نضربه لذلك عندما يوجد بئر يشرب منها الناس، فهذه البئر لها حواف وجوانب وأطراف وتفسد البئر إذا جاء أحد لهذه الحوافي وأزاح ما فيها من الأتربة ليطمر البئر.
ومن يرد استمرار صلاح البئر فهو يتركها كما هي وبذلك يترك الصالح على صلاحه، وإن شاء إنسان أن يطمح إلى عمل مسعد ممتع له ولغيره فهو يعمل ليزيد الصالح صلاحا، كأن يأتي إلى جوانب البئر ويبني حولها جدارا من الطوب كي لا يتسلل التراب إلى الماء أو على الأقل يصنع غطاء للبئر، فإن طمح الإنسان أكثر فهو يفكر في راحة الناس ويحاول أن يوفر عليهم الذهاب إلى البئر ليملأوا جرارهم وقربهم فيفكر في رفع المياه بمضحة ماصة كابسة إلى صهريج عال، ثم يخرج من هذا الصهريج الأنابيب لتصل إلى البيوت فيأخذ كل واحد المياه وهو مرتاح إنه بذلك يزيد الصالح صلاحا.
أما إن أراد الإنسان أن يطمح إلى ممتع دون عمل فهذه الأماني الكاذبة ولو ظل إنسان يحلم بالأمنيات ولا ينفذها بخطة من عمل فهذه هي الأماني التي لا ثمرة لها سوى الخيبة والتخلف.
إذن فالأمنية هي أن يطمح إنسان إلى أمر ممتع مسعد بدون رصيد من عمل ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى أعطانا من كل شيء سببا، ولنلحظ أن الحق قد قال :﴿ فأتبع سببا( ٨٥ ) ﴾( سورة الكهف ).
أي أن الإنسان مطالب بأن يصنع أشياء ترقي أساليب الحياة في الأرض، فالله ضمن للإنسان الخليفة مقومات الحياة الضرورية، وعندما يريد الإنسان الترف والتنعم فلا بد أن يكدح ومثال ذلك : لقد أعطى الحق الإنسان المطر فينزل الماء من السماء، وينزل ماء المطر في مجار محددة حفرها المطر لنفسه، وقد يكون في كل مجرى تراب من صخور أو طمي لذلك يقوم الإنسان بترويق المياه، ويرفعها في صهاريج لتأتيه إلى المنزل، وبدلا من أن يشربها بيده من النهر مباشرة، يصنع كوبا جميلا، وصنع الإنسان الكوب في البداية من الفخار ثم من مواد مختلفة كالنحاس ثم البلور وهكذا نجد أن كل ترف يحتاج إلى عمل يوصل إليه، فليست المسألة بالأماني.
وكذلك الانتساب إلى الدين، ليست المسألة أن يمتثل الإنسان وينتسب إلى الدين شكلا، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليحكم بين الناس جميعا، ولا يمكن لواحد أن ينتسب شكلا إلى الإسلام ليأخذ المميزات ويتميز بها عن بقية خلق الله من الديانات الأخرى، لا، فالإنسان محكوم بما يدين به، والمسلم أول محكوم بما دان به.
كذلك قال الحق : " ليس بأمانيكم " والخطاب هنا لمن ؟ إن كان الخطاب للمؤمنين فالحق يوضح لهم يا أيها المؤمنون ليست المسألة مسألة أماني ولكنها مسألة عمل لأن انتسابكم للإسلام لا يعفيكم من العمل، فكم من أناس يعبرون الدنيا وتنقضي حياتهم فيها ولا يصنعون حسنة، فإذا قيل لهم : ولماذا تعيشون الحياة بلا عمل ؟ يقولون : أحسنا الظن بالله. ونسمع الحسن البصري يقول لهؤلاء : ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا : نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل له.
وسبحانه يقول لهؤلاء :" ليس بأمانيكم " أما إن كان الخطاب موجها لغير المؤمنين فالحق لم يمنع عطاء الدنيا لمن أخذ بالأسباب حتى ولو لم يؤمن، أما جزاء الآخرة فهو وعد منه سبحانه للمؤمنين الذين عملوا صالحا وهو الوعد الحق هذا الوعد الحق ليس بالأماني بل إن الوصول إلى هذا الوعد يكون بالعمل.
إذن فقد يصح أن يكون الخطاب ب " ليس بأمانيكم " شاملا أيضا الكفار والمنافقين وأهل الكتاب وكان للكفار بعض من الأماني كقول المنكر للبعث :
﴿ وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا( ٢٦ ) ﴾( سورة الكهف )
هذه هي أماني الكفار ولن يتحقق هذا الوعد بالجنة لأهل الكتاب فقد قال الحق عن أمانيهم :
﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾( من الآية١١١سورة البقرة ). وقالوا :﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾( من الآية٨٠سورة البقرة ).
كل هذه الأماني خادعة، لأن منهج الله واحد على الناس أجمعين من انتسب للإسلام الذي جاء خاتما فليعمل لأن القضية الواضحة التي يحكم بها الله خلقه هي قوله سبحانه : " من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ".
وأبو هريرة رضي الله عنه يقول : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها " ١.
وقال بعض العلماء : المراد بالسوء في هذه الآية هو الشرك بالله، لأن الله وعد أن يغفر بعض الذنوب واستند في ذلك إلى قوله الحق :﴿ كذلك نجزي كل كفور ﴾( من الآية٣٦سورة فاطر ). كأن الجزاء المؤلم يكون للكفار، أما الذين آمنوا فالإيمان يرفعهم إلى شرف المنزلة ليقبل الله توبتهم ويغفر لهم فسبحانه الحق جعل الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، وجعل صلاة الجمعة إلى صلاة الجمعة كفارة لما بينهما، وجعل الحج كفارة لما سبقه، وكل ذلك امتيازات إيمانية أما جزاء الكفار فهو :" من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ".
ولا يقال فلان لا يجد إلا إذا بحث هذا الشخص عن شيء فلم يجده فالإنسان بذاته لا يستغني، ولكن من يعمل سوءا فليبحث لنفسه عن ولي أو نصير ولن يجد.
والولي هو الذي يلي الإنسان أي يقرب منه ومثلها النصير والمعاون ولا يلي الإنسان ولا يقرب منه إلا من أحبه، ومادام قد أحب قوي ضعيفا فهو قادر على الدفاع عنه ومعاونته.
ولماذا أورد الحق هنا " الولي "، و " النصير " ؟، والولي كما عرفنا هو القريب الذي يلي الإنسان، أما كلمة " نصير " فتوحي أن هناك معارك وخصومة بين المؤمن وغيره، وهناك قوة كبرى قد يظهر للإنسان أنها لا تسأل عنه لأنه في سلام ورخاء، إن هذه القوة عندما تعلم أن هناك خصوما للمؤمن تأتي لنصرته، بينما لا يجد الكافر وليا أو نصيرا ولن يجد من يقرب منه ولن يجد من ينصره إن عضته الأحداث، وعض الأحداث هو الذي يجعل الناس تتعاطف مع المصاب حتى إن البعيد عن الإنسان يفزع إليه لينصره لكن أحدا لا ينصر على الله.
.
﴿ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا( ١٢٤ ) ﴾.
وجاءت كلمتا " ذكر " و " أنثى " هنا حتى لا يفهم أحد أن مجيء الفعل بصيغة التذكير في قوله( يعمل )أن المرأة معفية منه، لأن المرأة في كثير الأحكام نجد حكمها مطمورا في مسألة الرجل، وفي ذلك إيحاء بأن أمرها مبني على الستر.
لكن الأشياء التي تحتاج إلى النص فيها فسبحانه ينص عليها، " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى "، وجاء سبحانه هنا بلفظة ( من ) التي تدل على التبعيض أي على جزء من كل فيقول :" ومن يعمل من الصالحات " ولم يقل :" ومن يعمل الصالحات " لأنه يعلم خلقه فلا يوجد إنسان يعمل كل الصالحات، هناك من يحاول عمل بعض من الصالحات حسب قدرته والمطلوب من المؤمن أن يعمل من الصالحات على قدر إمكاناته ومواهبه وتبدأ الأعمال الصالحة من أن يترك الإنسان الأمور الصالحة على صلاحها فإبقاء الصالح على صلاحه معناه أن المؤمن لن يعمل الفساد، هذه هي أول مرتبة ومن بعد ذلك يترقى الإنسان في الأعمال الصالحة التي تتفق مع خلافته في الأرض، وكل عمل تصلح به خلافة الإنسان في الأرض هو عمل صالح، فالذي يرصف طريقا حتى يستريح الناس من التعب عمل صالح، وتهيئة المواصلات للبشر حتى يصلوا إلى غايتهم عمل صالح، ومن يعمل على ألا ينشغل بال البشر بأشياء من ضروريات الحياة فهذا عمل صالح.
كل ما يعين على حركة الحياة هو عمل صالح وقد يصنع الإنسان الأعمال الصالحة وليس في باله إله كعلماء الدولة المتقدمة غير المؤمنة بإله واحد، كذلك العلماء الملاحدة قد يصنعون أعمالا صالحة للإنسان كرصف طرق وصناعة بعض الآلات التي ينتفع بها الناس، وقاموا بها للطموح الكشفي والواحد من تلك الفئة يريد أن يثبت أنه اخترع واكتشف وخدم الإنسانية ونطبق عليه أنه عمل صالحا، ولكنه غير مؤمن لذلك سيأخذ هؤلاء العلماء جزاءهم من الإنسانية التي عملوا لها، وليس لهم جزاء عند الله.
أما من يعمل الصالحات وهو مؤمن فله جزاء واضح هو :
﴿ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا( ١٢٤ ) ﴾( سورة النساء ).
قد يقول البعض : إن عدم الظلم يشمل من عمل صالحا أو سوءا ونجد من يقول : من يعمل السوء هو الذي يجب أن يتلقى العقاب، وتلقيه العقاب أمر ليس فيه ظلم، والحق هو القائل :
﴿ جزاء سيئة بمثلها ﴾( من الآية٢٧سورة يونس ).
ومن يصنع الحسنة يأخذ عشرة أمثالها، وقد يكون الجزاء سبعمائة ضعف ويأتيه ذلك فضلا من الله، والفضل من الله غير مقيد وهو فضل بلا حدود، فكيف يأتي في هذا المقام قوله تعالى :( ولا يظلمون نقيرا ) وهم قد أعطوا أضعافا مضاعفة من الجزاء الحسن، ونقول : إن الفضل من الخلق غير ملزم لهم، مثل من يستأجر عاملا ويعطيه مائة جنيه كأجر شهري، وفي آخر الشهر يعطيه فوق الأجر خمسين جنيها أو مائة، وفي شهر آخر لا يعطيه سوى أجره، وهذه الزيادة إعطاؤها ومنحها فضل من صاحب العمل، أما الفضل بالنسبة لله فأمره مختلف إنه غير محدود ولا رجوع فيه وهذا هو معنى " ولا يظلمون نقيرا "، فسبحانه لا يكتفي بجزاء صاحب الحسنة بحسنة، بل يعطي جزاء الحسنة عشر أمثالها وإلى سبعمائة ضعف، ولا يتراجع عن الفضل، فالتراجع في الفضل بالنسبة لله هو ظلم للعبد، ولا يقارن الفضل من الله بالفضل من البشر. فالبشر يمكن أن يتراجعوا في الفضل أما الله فلا رجوع عنده عن الفضل.
وهو القائل :
﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون( ٥٨ ) ﴾( سورة يونس ).
وأصحاب العمل الصالح مع الإيمان يدخلون الجنة مصداقا لقوله تعالى :" فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " والنقير هو : النقرة في ظهره النواة، وهي أمر ضئيل للغاية، وهناك شيء آخر يسمى( الفتيل ) وهو المادة التي تشبه الخيط في بطن نواة التمر، وشيء ثالث يشبه الورقة ويغلف النواة واسمه " القطمير ".
وضرب الله الأمثال بهذه الأشياء القليلة لنعرف مدى فضله سبحانه وتعالى في عطائه للمؤمنين.
﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا( ١٢٥ ) ﴾.
وساعة نسمع استفهاما مثل قوله الحق : " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله "، فحسن الاستنباط يقتضي أن نفهم أن الذي أسلم وجهه لله هو الأحسن دينا، وفي حديثنا اليومي نقول : ومن أكرم من زيد ؟ معنى ذلك أن القائل لا يريد أن يصرح بأن زيدا هو أكرم الناس لكنه يترك ذلك الاستنباط الحسن، ولا يقال مثل هذا على صورة الاستفهام إلا إذا كان المخبر عنه محددا ومعينا، والقائل مطمئن إلى أن من يسمع سؤاله لن يجد جوابا إلا الأمر المحدد المعين لمسئول عنه، وكأن الناس ساعة تدير رأسها بحثا عن جواب للسؤال لن تجد إلا ما حدده السائل.
" ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله " والإجابة على مثل هذا التساؤل : لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله، وهكذا نرى أن الله يلقي خبرا مؤكدا في صيغة تساؤل مع أنه لو تكلم بالخبر لكان هو الصدق كله :﴿ ومن أصدق من الله قيلا ﴾( من الآية١٢٢سورة النساء ).
وسبحانه يلقي إلينا بالسؤال ليترك لنا حرية الجواب في الكلام، كأنه سبحانه يقول :
أنا أطرح السؤال عليك أيها الإنسان وأترك لك الإجابة في إطار ذمتك وحكمك فقل لي من أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ؟ وتبحث أنت عن الجواب فلا تجد أحسن ممن أسلم وجهه لله فتقول : لا أحد أحسن ممن أسلم وجهه لله وبذلك تكون الإجابة من المخاطب إقرارا والإقرار كما نعلم سيد الأدلة.
" ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله " ونعلم أن الكلمة إذا أطلقت في عدة مواضع فهي لا تأخذ معنى واحدا بل يتطلب كل موضع معنى يفرضه سياق الكلام، فإذا قال الله تعالى :
﴿ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ﴾( من الآية١٠٦سورة آل عمران ).
فذلك لأن الوجه هو العضو المواجه الذي توجد به تميزات تبين وتوضح ملامح الأشخاص، لأننا لن نتعرف على واحد من كتفه أو من رجله بل تعرف الأشخاص من سمات الوجوه.
وعندما نسمع قول الحق :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾( من الاية٨٨سورة القصص ).
فإننا نتساءل : ما المراد بالوجه هنا ؟.
إن أردنا الوجه الذي يشبه وجوهنا فهذا وقوع في المحظور لأن كل شيء متعلق بالله سبحانه وتعالى نأخذه على ضوء " ليس كمثله شيء " نقول ذلك حتى لا يقولن قائل : ما دام وجه الله هو الذي لن يهلك يوم القيامة فهل تهلك يده أو غير ذلك ؟.
لا، إن الحق حين قال :" كل شيء هالك إلا وجهه " فالمقصود بذلك ذاته فهو سبحانه وتعالى منزه عن التشبيه وسبحانه القائل :
﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾( من الآية١١٥سورة البقرة ).
إذن فوجه الله هنا هو الجهة التي يرتضيها والإنسان يتجه بوجهه إلى الكعبة في أثناء الصلاة وإياك أن تظن أنك حينما تولي وجهك صوب الكعبة أنها وجه الله، لأن الله موجود في كل الوجود، فأي متجه للإنسان فيه الله، بدليل أننا نصلي حول الكعبة، وتكون شرق واحد وغرب آخر وشمال ثالث وجنوب رابع فكل الجهات موجودة في أثناء الطواف حول الكعبة وفي أثناء الصلاة والكعبة موجودة هكذا لنطوف حولها ولتكون متجهنا إلى الله في جميع الاتجاهات.
﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾( من الاية١١٥سورة البقرة )، أي الجهة التي ارتضاها سبحانه وتعالى.
ونحن هنا في هذه الآية نرى قول الله :" ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ".
وأسلم وجهه أي أسلم اتجاهه، لأن الإنسان حين يكون ذاهبا إلى قصد أو هدف أو غرض فيكون وجهه هو المتجه لأن الإنسان لا يسير بظهره والوجه هنا إذن هو الاتجاه.
ولماذا جاء الحق بالوجه فقط برغم أن المؤمن يسلم مع الوجه كل الجوارح ؟، لأن الوجه أشرف الأعضاء ولذلك جعل سبحانه السجود أشرف موقع للعبد، لأن القامة العالية والوجه الذي يحرص الإنسان على نظافته يسجد لله.
إذن أسلم وجهه لله، أي أسلم وجهته واتجاهه لله، ومعنى " أسلم " من الإسلام، ف " أسلم " تعني : سلم زمام أموره لواحد وحين يسلم الإنسان زمامه إلى مساو له فهذه شهادة لهذا المساوي أنه يعرف في هذا الأمر أفضل منه، ولا يسلم لمساو إلا أن شهد له قبل أن يلقي إليه بزمامه أنه صاحب حكمة وعلم ودراية عنه. فإن لم يلمس الإنسان ذلك فلن يسلم له، وما أجدر الإنسان أن يسلم نفسه لمن خلقه، أليس هذا هو أفضل الأمور ؟
إن الإنسان قد يسلم زمامه لإنسان آخر لأنه يظن فيه الحكمة، ولكن أيضمن أن يبقى هذا الإنسان حكيما ؟ إنه كإنسان هو ابن أغيار، وقد يتغير قلبه أو أن المسألة المسلم له بها تكون مستعصية عليه، لكن عندما أسلم زمامي لمن خلقني فهذا منتهى الحكمة، ولذلك قلنا : إن الإسلام هو أن تسلم زمامك لمن آمنت به إلها قويا وقادرا وحكيما وعليما وله القيومية في كل زمان ومكان، وحين يسلم الإنسان وجهه لله فلن يصنع عملا إلا كانت وجهته إلى الله.
﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ﴾( من الآية١٢٥سورة النساء )
ولماذا جاءت كلمة " محسن " هنا ؟ وقد تكلم صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، ونعرف أننا آمنا بالله غيبا، لكن عندما ندخل بالإيمان إلى مقام الإحسان، فإننا نعبد الله كأننا نراه فإن لم نكن نراه فهو يرانا، والحوار الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد صحابته وكان اسمه الحارث فقال له : " كيف أصبحت يا حارث ؟ فقال : أصبحت مؤمنا حقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظر ما تقول، فإن كل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ " قال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها( يتصايحون فيها )فقال : " يا حارث عرفت فالتزم ثلاثا ". ١
ويعرف الإنسان من أهل الصلاح أنه في لقاء دائم مع الله، لذلك يضع برنامجا لنفسه موجزه أنه يعلم أنه لا يخلو من نظر الله إليه( وهو معكم أينما كنتم ) إنه يستحضر أنه لا يغيب عن الله طرفة عين فيستحي أن يعصيه.
ويوضح الحديث ما رواه سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عندما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ٢.
وعندما تتيقن أن الله ينظر إليك فكيف تعصيه ؟ أنت لا تجرؤ أن تفعل ذلك مع عبد مساو لك... فكيف تفعله مع الله ؟
وتتجلى العظمة في الحق " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا " لماذا إذن " ملة إبراهيم " ؟ لأن القران يقول عن إبراهيم :( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ) ( من الآية ١٢٠ سورة النحل ).
ومعنى كونه " أمة " أنه الجامع لكل خصال الخير التي لا تكاد تجتمع في فرد إلا إن وزعنا الخصال في أمة بأكملها، فهذا شجاع وذلك حليم والثالث عالم والرابع قوي، وهذه الصفات الخيرة كلها لا تجتمع في فرد واحد إلا إذا جمعناها من أمة وأراد الحق سبحانه لإبراهيم أن يكون جامعا لخير كثير فوصفه بقوله :﴿ إن إبراهيم كان أمة ﴾( من الآية١٢٠سورة النحل )
ويقول هنا عن ملة إبراهيم :" واتبع ملة إبراهيم حنيفا ". والملة هي الديانة و " حنيفا " أي " مائلا عن الباطل إلى الحق ". والمعنى اللغوي لكلمة " حنيف " أنه هو " المائل ". وكان إبراهيم حنيفا عن الباطل، ومتى ترسل الرسل إلى الأقوام نعرف أن الرسل تأتي إذا طم الفساد وعم، وحين تكون المجتمعات قادرة على إصلاح الفساد الذي فيها فالحق سبحانه يمهل الناس وينظرهم لكن إذا ما بلغ الفساد أوجه، فالحق يرسل رسولا وحين يأتي الرسول إلى قوم ينتشر فيهم الفساد فالرسول يميل عن الفساد بهذا يكون الميل عن الاعوجاج اعتدالا.
" واتبع ملة إبراهيم حنيفا ".
ويأتي الحق من بعد ذلك بالغاية الواضحة " واتخذ الله إبراهيم خليلا " فما هي حيثيات الخلة ؟ لأنه يتبع أفضل دين، ويسلم لله وجهه، وكان محسنا، واتبع الملة، وكان حنيفا هذه هي حيثيات الخلة، وكلها كانت صفات سيدنا إبراهيم عليه السلام.
لقد حدثونا أن جبريل عليه السلام قد جاء لسيدنا إبراهيم عندما ألقاه أهله في النار، فقال جبريل يا إبراهيم : ألك حاجة ؟ فقال إبراهيم :" أما إليك فلا "، فقال جبريل فاسأل ربك فقال :" حسبي من سؤالي علمه بحالي " فقال الله : " يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " ٣ أي أنه لا يطلب من جبريل بذاته شيئا، وتلك قمة الإسلام لله، كما أننا نعرف مدى أنس الناس بأبنائها ونعلم إن إسماعيل قد جاءه ولدا في آخر حياته، وأوضح له الحق أنه مبتليه، ولكن الابتلاء غاية في الصعوبة فالابن لا يموت، ولا يقتله أحد ولكن يقوم الأب بذبحه، فكم درجة من الابتلاء مر بها إبراهيم عليه السلام ؟.
وسار إبراهيم لتنفيذ أمر ربه، ولذلك نقرأ على لسان إبراهيم عليه السلام :
﴿ يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ﴾( من الآية١٠٢سورة الصافات ).
ويجعل الحق ذلك برؤيا في المنام لا بالوحي المباشر ولننظر إلى ما قاله إسماعيل عليه السلام لم يقل : " افعل ما بدا لك يا أبي " ولكنه قال :﴿ يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ﴾( من الآية١٠٢سورة الصافات )أي أن إسماعيل وإبراهيم أسلما معا لأمر الله. فماذا فعل الله ؟
﴿ وناديناه أن يا إبراهيم( ١٠٤ ) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين( ١٠٥ )إن هذا لهو البلاء المبين( ١٠٦ )وفديناه بذبح عظيم( ١٠٧ )وتركنا عليه في الآخرين( ١٠٨ )سلام على إبراهيم( ١٠٩ )كذلك نجزي المحسنين( ١١٠ )إنه من عبادنا المؤمنين( ١١١ )وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين( ١١٢ ) ﴾( سورة الصافات ).
ولا يكتفي الحق بإعطاء إبراهيم إسماعيل ابنا، وله فداء، ولكن رزق الله إبراهيم بابن آخر هو إسحاق. " واتخذ الله إبراهيم خليلا ".
وجلس العلماء ليبحثوا معنى كلمة " خليلا "، ويبحثوا ما فيها من صفات، وكل الأساليب التي وردت فيها والكلمة مأخوذة من " الخاء ولام ولام ". و " الخل " بفتح الخاء هو الطريق في الرمل وهو ما نسميه في عرفنا " مدقا "، وعادة يكون ضيفا، وحينما يسير فيه اثنان فهما يتكاتفان إن كان بينهما ود عال، وإن لم يكن بينهما ود فواحد يمشي خلف الآخر، ولذلك سموا الاثنين الذين يسيران متكاتفين " خليل " فكلاهما متخلل في الآخر أي متداخل فيه، والخليل أيضا هو من يسد خلل صاحبه، والخليل هو الذي يتحد ويتوافق مع صديقه في الخلال والصفات والأخلاق، أو هو من يتخيل إليه الإنسان في مساتره، ويتخلل هو أيضا في مساتر الإنسان والإنسان قد يستقبل واحدا من أصحابه في أي مكان سواء في الصالون أو في غرفة المكتب أو في غرفة النوم، لكن هناك من لا يستقبله إلا في الصالون أو في غرفة المكتب.
" واتخذ الله إبراهيم خليلا " أي اصطفاه الحق اصطفاء خاصا "، والحب قد يشارك فيه، فهو سبحانه يحب واحدا وآخر وثالثا ورابعا وكل المؤمنين، فهو القائل :
﴿ إن الله يحب التوابين ﴾( من الآية٢٢٢سورة البقرة ).
وسبحانه القائل :﴿ فإن الله يحب المتقين ﴾( من الآية٧٦سورة آل عمران ).
وهو يعلمنا :﴿ والله يحب الصابرين ﴾( من الآية١٤٦سورة آل عمران ).
ويقول لنا :﴿ والله يحب المحسنين ﴾( من الآية١٤٨سورة آل عمران ).
ويقول أيضا :﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾( من الآية٨سورة الممتحنة ).
لكنه اصطفى إبراهيم خليلا، أي لا مشاركة لأحد في مكانته أما الحب فيعم، ولكن الخلة لا مشاركة فيها، ولذلك نرى
٢ من حديث طويل رواه الإمام مسلم..
٣ من الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، وذكر نحوه تفسير ابن كثير وفي الكشاف للزمخشري.
.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا( ١٢٦ ) ﴾.
وسبحانه أوضح في آية سابقة أنه لا ولي ولا نصير للكافرين أو للمنافقين ويؤكد لنا المعنى هنا : إياكم أن تظنوا أن هناك مهربا أو محيصا أو معزلا أو مفرا، فلله ما في السماوات وما في الأرض، فلا السماوات تؤوي هاربا منه ولا من في السماوات يعاون هاربا منه، وسبحانه المحيط علما بكل شيء والقادر على كل شيء.
﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء الاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما( ١٢٧ ) ﴾.
" ويستفتونك " أي يطلبون الفتيا، ونعرف أن الدين قد مر بمراحل منها قول الحق :( يسألونك ). وهي تعبير عن سؤال المؤمنين في مواضع كثيرة ومرحلة ثانية هي :" ويستفتونك " وما الفارق بين الاثنين ؟.
لقد سألوا عن الخمر والأهلة والمحيض والإنفاق والسؤال هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه قال :" ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " ١.
أي أنه طلب منهم ألا ينبشوا وألا يفتشوا أشياء قد يجلبون بها على أنفسهم تكاليف جديدة، ومع ذلك سألوه عن رغبة في معرفة أي حكم يحدد حركة الإنسان في الحياة.
ولو كانوا لا يريدون تحديد حياتهم فلماذا يسألونه ؟ كان السؤال دليلا على أن السائل قد عشق منهج الله فأحب أن يجعل منهج الله مسيطرا على كل أفعاله، فالشيء الذي أجمله وأوجزه الله يحب أن يسأل عنه.
وأيضا فالإسلام جاء ليجد عادات للجاهلية وللعرب ولهم أحكام يسيرون عليها صنعوها لأنفسهم فلم يغير الإسلام فيها شيئا، فما أحبوا أن يستمروا في ذلك لمجرد أنه من عمل آباءهم، ولكن أحبوا أن يكون كل سلوك من صميم أمر الإسلام، لذلك سألوه في أشياء كثيرة.
أما الاستفتاء فهو عن أمر قد يوجد فيه حكم ملتبس، ولذلك يقول الواحد في أمر ما : فلنستفت عالما في هذا الأمر، لأن معنى الاستفتاء عدم قدرة واحد من الناس أو جماعة منهم استنباط حكم أو معرفة هذا الحكم، ولذلك يردون هذا الأمر إلى أهله.
والحق يقول :
﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾( من الآية٨٣سورة النساء ).
الاستفتاء إذن يكون لحكم موجود ولكن المستفتي لا يملك القدرة على استنباطه ولذلك نجد المجتمعات الإسلامية تخصص دارا للإفتاء لأن المؤمن قد لا يعلم كل الجزئيات في الدين. وقد يعيش حياته ولا تمر به هذه الجزئيات مثل أبواب الوقف أو المضاربة أو الميراث، فإن حدثت له مسألة فهو يستفتي فيها أهل الذكر، فالسؤال يكون محل العمل الرتيب أما الفتوى فهي في أمر ليس المطلوب أن تكون المعرفة به عامة ولذلك يتجه المستفتي إلى أهل الذكر طالبا الفتيا. والحق يقول " ويستفتونك في النساء " كأنهم قالوا للرسول : نريد حكم الله فيما يتعلق بالنساء حلا وحرمة وتصرفا.
فكيف يكون الجواب ؟ " قل الله يفتيكم فيهن " ولم يؤجل الله الفتوى لاستفتائهم بل سبق أن قاله، وعلى الرغم من ذلك فإنه سبحانه يفتيهم من جديد.
فلعل الحكم الذي نزل أولا ليس على بالهم أو ليسوا على ذكر منه.
فقال الحق :
﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ﴾( من الآية١٢٧سورة النساء ).
أي أن الحق يفتيكم في أمرهن، وسبق أن نزل في الكتاب، آية من سورة النساء قال الحق فيها :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ﴾( من الآية٣سورة النساء ).
وتوالت آيات من بعد ذلك في أمر النساء.
فقوله الحق :" قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ".
إنما يعلمنا أن الإنسان لا يصح أن يتعجل الاستفتاء في شيء إلا إذا استعرض قبل ذلك ما عنده من علم لعله يجد فيه الجواب الذي يغنيه عن أن يستفتي.
ومع أن الاستفتاء في أمر النساء جملة : صغيرات وكبيرات يتيمات وغير يتيمات فلماذا جاء الجواب في يتامى النساء، لأن النساء الكبيرات لهن القدرة على أن يبحثن أمورهن ولسن ضعيفات أما اليتيمة فهي ضعيفة الضعيفات وعرفنا معنى اليتيم، واليتيم حيث لا يبلغ الإنسان المبلغ الذي يصبح فيه مستقلا، فلا يقال لمن بلغ حد البلوغ سواء أكان رجلا أم امرأة أنه يتيم، لذلك جاء الجواب خاصا بيتامى النساء، لأن يتامى النساء هن دائما تحت أولياء، هؤلاء الأولياء الذين نسميهم في عصرنا ب " الأوصياء " وكان للأوصياء حالتان : فإن كانت البنت جميلة وذات مال فالوصي يحب أن ينكحها ليستمتع بجمالها ويستولي على مالها، وإن كانت دميمة فالوصي لا يرغب في زواجها لذلك يعضلها أي يمنعها من أن تتزوج لأنها إن تزوجت فسيكون الزوج هو الأولى بالمال.
فاحتاجت هذه المسألة إلى تشريع واضح، وها نحن أولاء نجد سيدنا عمر رضي الله عنه وكانت له الفراسات التي تسمي الفراسات الفاروقية جاءه واحد يسأله عن أمر يتيمة تحت وصايته فقال سيدنا عمر :
إن كانت جميلة فدعها تأخذ خيرا منك، وإن كانت دميمة فخذها زوجة وليكن مالها شفيعا لدمامتها.
ويقول الحق :﴿ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن ﴾( من الآية١٢٧سورة النساء ).
والذي كتب لهن إما أن يكون مهورا وإما أن يكون تركة وجاء القول الحكيم ليرفع عن المرأة عسف الولي، وجاء الأمر بهذا الأسلوب العالي الذي لا يمكن أن يقوله غير رب كريم، ونجد مادة " رغب " تعني " أحب " فإذا ما كان الحال " أحب أن يكون " يقال :" رغب فيه "، وإذا " أحب ألا يكون "، فيقال :" رغب عنه ". ولذلك قال الحق :
﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم ﴾( من الآية١٣٠سورة البقرة ).
ومادامت " عن " جاءت كما في الآية فما بعدها هو المتروك، لكن لو كان القول " رغب في " فهو لأمر محبوب وكلمة " ترغبون " في هذه الآية نجدها محذوفة الحرف الذي يقوم بالتعدية حبا أو كرها، لأنها تقصد المعنيين فإن كانت الرغبة في المرأة تصير " ترغبون في " وإن كانت المرأة دميمة وزهد فيها فالقول يكون :" ترغبون عن " ولا يقدر أحد غير الله أن يأتي بأسلوب يجمع بين الموقفين المتناقضين وجاء الحق ليقنن للأمرين معا.
ويأتي الحق من بعد ذلك بالقول :" والمستضعفين من الولدان " بجانب اليتيمات وهو الصنف المستضعف الآخر، أي اليتيم الذي لم يبلغ مبلغ الرجال، وحينما يتكلم سبحانه عن الولاية والوصاية على مثل هؤلاء فهو يتكلم بأسلوبين اثنين، وإن لم يكن للإنسان ملكة استقبال الأسلوب البليغ فقد يقول : هذا كلام متناقض لكن لو تمتع الإنسان بملكة استقبال الأسلوب البليغ فقد يقول : إن عظمة هذا الأسلوب لا يمكن أن يأتي به إلا رب كريم، فالحق قال :
﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾( من الآية٥سورة النساء ).
قال الله ذلك على الرغم من أن الأموال هي في الأصل ملك للسفهاء فالمال ليس ماله إلى أن يعود إليه رشده وقد جعل الإسلام الأخوة الإيمانية للتكاتف والتكافل وساعة يرى المسلمون واحدا من السفهاء فهم يحجرون على سلوكه حماية لماله من سفهه، والمال يصان ويحفظ ومطلوب من الوصي والولي أن يحميه، هذا ما قاله الحق في السفهاء.
والحق يتكلم في اليتامى فيقول سبحانه :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾( من الآية٦سورة النساء ).
لأن السفيه أو المبذر ليس لأي منهما سلطة التصرف في المال بل سلطة التصرف تكون للوصي وينتسب المال في هذه الحالة للوصي لأنه القائم عليه والحافظ له، لكن ما إن يبلغ القاصر الرشد فعلى الوصي أن يرد له المال.
ونحن أمام آية تضع القواعد لليتامى من النساء والمستضعفين من الولدان :
﴿ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ﴾( من الآية١٢٧سورة النساء ).
ما معنى القيامة لليتامى بالقسط ؟ والقسط بالكسر تعني العدل وتختلف عن " القسط " بفتح القاف وهو يعني الجور، قسط يقسط أي عدل، وقسط يقسط أي جار فالعدل مصدره " القسط " بالكسر للقاف والجور مصدره " القسط " بالفتح للقاف.
وبعض من الذين يريدون الاستدراك على كلام الله سفها بغير علم قالوا : يأتي القرآن بالقسط بمعنى العدل في آيات متعددة، ثم يأتي في موقع آخر ليقول :
﴿ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا( ١٥ ) ﴾( سورة الجن ).
و " القاسطون " هي اسم فاعل من قسط، ومن قال لكم : إن " قسط " تستخدم فقط في معنى " عدل "، إنها تستعمل في " عدل " وفي " جار "، وسبحانه يقول عن العادلين :
﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾( من الآية٤٢سورة المائدة )
القاسط يذهب إلى النار، وهي مأخوذة من " قسط يقسط " والمقسط يذهب إلى الجنة، ومقسط مأخوذة من أقسط.
وعندما نرى " أقسط " نراها تبدأ بهمزة الإزالة، أي كان هناك جور فأزلناه أما القسط بالكسر فهو العدل من البداية والمقسط هو الذي وجد جورا فأزاله، والذي يفصل بين الاثنين هو الفعل المضارع ففي العدل هو " يقسط " بكسر السين في المضارع، أما يقسط بضم السين في المضارع تعني " يجور ويظلم " ومن محاسن اللغة نجد اللفظ الواحد يستعمل لأكثر من معنى ليتعلم الإنسان لباقة الاستقبال وليفهم الكلمات في ضوء السياق.
وقديما كانت اللغة ملكة لا صناعة كما هي الآن في عصرنا، كانت اللغة ملكة إلى درجة أنهم إذا شكلوا الكتاب إلى المرسل إليه يغضب ويرد إلى مرسله ويقول لمن أرسله : أتشك في قدرتي على قراءة كتابك دون تشكيل ؟ فتشكيل الكتاب سوء ظن بالمكتوب إليه، وفي عصرنا نجد من يلقي خطابا يطلب تشكيل الخطاب حتى ينطق النطق السليم.
والحق سبحانه وتعالى يقول :" وأن تقوموا لليتامى بالقسط " وجاء الحكم في قوله الحق( وآتوا اليتامى أموالهم ) وسبحانه يتكلم في المهور والأموال ويرتفع بالأمر إلى مرتبة اعتبار حسن التصرف في أمور اليتامى من المسؤولية الإيمانية، فقد تكون اليتيمة لا مال لها وليست جميلة حتى يطمع فيها أو في مالها، وفي هذه الحالة يجب على الولي أن يرعاها ويرعى حق الله فيها.
وقوله الحق :" وأن تقوموا لليتامى بالقسط " وهو أمر بأن يقوم المؤمن على أمر اليتامى بالعدل لأن اليتيمة قد تكون مع الولي ومع أهله وقد يكون لليتيمة شيء من الوسامة فيسرع إليها الولي بعطف وحنان زائد عن أولاده وينبه الحق أن رعاية اليتيمة يجب أن تتسم بالعدل، ولا تزيد ويقول سبحانه :
" وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما " ليدلنا على أن أمر الفعل والقيام به ليس مناط الجزاء ولكن أمر النية في الفعل هو مناط الجزاء، فإياك أيها المؤمن أن تقول : فعلت، ولكن قل : فعلت بنية كذا.
إن الذي يمسح على رأس اليتيم يكون صاحب حظ عظيم في الثواب، ومن يكفل اليتيم فهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، والذي يقدر ذلك هو الله سبحانه العليم بالخفايا حسب نية الشخص الذي يقوم بهذا العمل فقد يتقرب واحد من يتيم ويتكلف العطف والحنان بينما يقصد التقرب إلى أم اليتيم، لذلك فمناط الجزاء ومناط الثواب هو في النية الدافعة والباعثة على العمل ولا يكفي أن يقول الإنسان : إن نيتي طيبة ولا يعمل فالحديث الشريف يقول :
( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )٢
أي لا بد من ارتباط واقتران النية بالعمل لأن الله يريد منا أن نعمل الخير وبذلك يعدى الإنسان الخير من نفسه إ
.
٢ رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن)
.
﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا( ١٢٨ ) ﴾.
وساعة نرى " إن " وبعدها اسم مرفوع كما في قوله :﴿ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ﴾( من الآية٦سورة التوبة ).
فلنعرف أن " إن " هذه داخلة على فعل، أي أن ترتيبها الأساسي هو : وإن استجارك أحد المشركين فأجره وهنا في هذه الآية : يكون التقدير : وإن خافت امرأة من بعلها نشوزا وما الخوف ؟ هو توقع أمر محزن أو مسيء لم يحدث بعد ولكن الإنسان ينتظره وحين يخاف الإنسان فهو يتوقع حدوث الأمر السيئ وهكذا نجد أن الخوف هو توقع ما يمكن أن يكون متعبا، وقوله الحق :" وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " أي أن النشوز لم يحدث ولكن المرأة تخاف أن يحدث، ورتب الحق الحكم على مجرد الخوف من النشوز لا حدوث النشوز بالفعل، وهذه لفتة لكل منا ألا يترك المسائل حتى تقع، بل عليه أن يتلافى أسبابها قبل أن تقع، لأنها إن وقعت ربما استعصى عليه تداركها وإن رأت المرأة بعضا من ملامح نشوز الزوج فعليها أن تعالج الأمر.
ونلحظ أن الحق يتكلم هنا عن نشوز الرجل، وسبق أن تكلم سبحانه عن نشوز المرأة :
﴿ والاتي تخافون نشوزهن ﴾( من الآية٣٤سورة النساء ).
ما النشوز ؟ عندما نسمع عن الموسيقى نجد من يقول :" هذه نغمة نشاز " أي أنها نغمة خرجت عن تسلسل النغم وإيقاعه والأصل فيها مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع وظهر من الأرض، والمفروض في الأرض أن تكون مبسوطة فإن وجدنا فيها نتوءا فهذا اسمه نشوز.
والأصل في علاقة الرجل بزوجته، أن الرجل قد أخذ المرأة سكنا له ومودة ورحمة وأفضى إليها وأفضت إليه، واشترط الفقهاء في الزواج التكافؤ أي يكون الزوجان متقاربين ولذلك قال الحق :
﴿ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ﴾( من الآية٢٦سورة النور ).
حتى الكفاءة تكون في الطيبة أو الخبث فلا يأتي واحد بامرأة خبيثة ويزوجها لرجل طيب كي لا تتعبه ولا يأتي واحد برجل خبيث ويزوجه بامرأة طيبة كي لا يتعبها، لأن الطيب عندما يتزوج طيبة تريحه وتقدره.
وكذلك الخبيث عندما يتزوج خبيثة فإنهما يتوافقان في الطباع والسلوك وفي هذا توازن، والخبيث إن لم يخجل من الفضيحة فالخبيثة لا تخجل منها أيضا، أما الطيب والطيبة فكلاهما يخشى على مشاعر الآخر ويحافظ على كرامته فإن خافت امرأة من بعلها نشوزا أي ارتفاعا عن المستوى المفترض في المعاملة في السكن والمودة والرحمة التي ينبغي أن تكون موجودة بين الزوجين وهي قد أفضت إليه وأفضى إليها، فإن خافت أن يستعلي عليها بنفسه أو بالنفقة أو ينالها بالاحتقار، أو ضاعت منه مودته أو رحمته هذا كله نشوز وقبل حدوث ذلك على الزوجة الذكية أن تنتبه لنفسها وترى ملامح ذلك النشوز في الزوج قبل أن يقع فإن كانت الأسباب من جهتها فعليها أن تعالج هذه الأسباب وترجع إلى نفسها وتصلح من الأمر وإن كانت منه تحاول كسب مودته مرة أخرى.
" وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " والإعراض يعني أنه لم ينشز بعد ولكنه لا يؤانس الزوجة ولا يحدثها ولا يلاطفها على الرغم من أنه يعطيها كل حقوقها وعلى المرأة أن تعالج هذه المسألة أيضا والقضية التي بين اثنين كما قلنا وقال الله عنهما :
﴿ وقد أفضى بعضكم إلى بعض ﴾( من الآية٢١سورة النساء ).
وقال في ذلك أيضا :
﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾( من الآية١٨٧سورة البقرة ).
أي أن يغطي الرجل المرأة وتغطي المرأة الرجل فهي ستر له وحماية ونعرف أن المرأة إن دخل عليها أبوها أو أخوها فهي تداري أي جزء ظاهر من جسمها، أما عندما يدخل عليها زوجها فلا تستر ولا تخفي شيئا.
ويعرف كل رجل متزوج وكل امرأة متزوجة أن بينهما إفضاء متبادلا فقد أباح الله للرجل من زوجته ما لا يبيحه لأحد، وكذلك المرأة فلا يقول الرجل أي نعت أو وصف جارح للمرأة، وعلى المرأة أن تحافظ كذلك على زوجها، ولها أن تتذكر أنها اطلعت على عورته بحق الله واطلع على عورتها بحق الله.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينهي هذا الخلاف قبل أن يقع، لذلك أوجب على المرأة أن تبحث عن سبب النشوز وسبب الإعراض فقد تكون قد كبرت في العمر أو نزلت بها علة ومرض وما زال في الرجل بقية من فتوة، وقد يصح أن امرأة أخرى قد استمالته، أو يرغب في الزواج بأخرى لأي سبب من الأسباب، هنا على المرأة أن تعالج المسألة علاج العقلاء وتتنازل عن قسمها فقد تكون غير مليحة وأراد هو الزواج فلتسمح له بذلك أو تتنازل له عن شيء من المهر المهم أن يدور الصلح بين الرجل وزوجته وهي مهمة الرجل كما أنها مهمة المرأة.
" فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا " والصلح هنا مهمة الاثنين معا، لأن كل مشكلة لا تتعدى الرجل والمرأة يكون حلها يسيرا، والذي يجعل المشكلات صعبة هم هؤلاء الذين يتدخلون في العلاقة بين الرجل والمرأة وليس بينهما ما يبن الرجل والمرأة والرجل قد يختلف مع المرأة ويخرج من المنزل ويهدأ ويعود، فتقول له الزوجة كلمة تنهي الخلاف لكن إن تدخل أحد الأقارب فالمشكلة قد تتعقد من تدخل من لا يملك سببا أو دفعا لحل المشكلة.
لذلك يجب أن ننتبه إلى قول الحق هنا :" فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما ".
وأولى درجات الصلح بين الرجل والمرأة هو أن يقوم كل منهما بمسؤوليته وليتذكر الاثنان قول الحق :
﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ﴾( من الآية٢١٦سورة البقرة ).
وكذلك قول الحق سبحانه :
﴿ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( من الآية١٩سورة النساء ).
ولا يظنن رجل أن هناك امرأة هي مجمع كل الجمال والخيرات، لأن كل خصال الخير التي تتطلبها الحياة قد لا تتوافر في المرأة الجميلة بل قد توجد في المرأة التي ليست على حظ من الحسن، لأن ذات الحسن قد تستند إلى رصيد حسنها، أما التي ليس لها حظ من الحسن فهي تحاول أن تكون أمينة ومطيعة ومدبرة وحسنة التصرف مع أهل الزوج لأنها تريد أن تستبقي لنفسها رصيد استبقاء.
ولذلك نجد اللاتي ليس لهن حظ من الحسن هن الغالبية الكبيرة في حمل أعباء تكوين الأسرة فلا يصح أن يأخذ الرجل الزاوية الوحيدة للجمال الحسي، بل عليه أن يأخذ الجمال بكل جوانبه وزواياه لأن الجمال الحسي قد يأخذ بعقل الرجال لكن عمره قصير وهناك زوايا من الجمال لا نهاية لها إلا بنهاية العمر.
وقد حدثونا عن واحد من الصالحين كانت له امرأة شديدة المراس والتسلط عليه، وهو رجل طيب فقال لها : آه لو رأيتني وأنا في دروس العلم والناس يستشرفون إلى سماعي لقد ظن أنها عندما تراه في مجلس العلم سترتدع وتكون حنونة عليه.
وذهبت لحضور درس العلم، ورآها وظن أن ذلك سيزرع هيبة له في قلبها وعاد إليها آخر النهار وقال لها : لقد رأيتني اليوم فقالت : رأيتك ويا حسرة ما رأيت، رأيت كل الناس تجلس باتزان إلا أنت فقد كنت تصرخ.
وحدثونا عن هذا الرجل أن الله كان يكرمه بالمدد جزاء صبره على امرأته وكان المريدون يرون إشراقات الله في تصرفاته وماتت امرأته وذهب المريدون ولم يجدوا عنده الإشراقات التي كانت عنده من قبل، فسألوه لماذا ؟ فقال : ماتت التي كان يكرمني الله من أجلها.
فكما أن المطلوب من المرأة أن تصبر على الرجل فالرجل مطلوب منه أن يصبر على المرأة والذي يصبر عليها يؤتيه الله خيرها، ولذلك قالوا : " إن عمران بن حطان كان من الخوارج وكان له امرأة جميلة وكان هو دميم الملامح فنظرت إليه زوجته مرة وقالت : الحمد لله فقال لها : على أي شيء تحمدين الله ؟ قالت : على أني وأنك في الجنة قال : لم ؟ قالت : لأنك رزقت بي فشكرت، ورزقت بك فصبرت والشاكر والصابر كلاهما في الجنة.
ولا يظنن واحد أنه سيجد امرأة هي مجمع الجمال والحسن في كل شيء فإن كانت متدنية المستوى في جانب فهي متميزة في جانب آخر، فلا تضيع الامتياز الذي فيها من أجل قصورها في جانب ما، وزوايا الحياة كثيرة وقلنا سابقا : إنه لا يوجد أحد ابنا لله، بل كلنا بالنسبة لله عبيد، وما دمنا جميعا بالنسبة لله عبيدا وليس فينا ابن له، وسبحانه أعطانا أسباب الفضل على سواء فهناك فرد قد أخذ الامتياز في جانب، والآخر قد نال الامتياز في جانب آخر هذا النقص في زاوية ما، والامتياز في زاوية أخرى، أراد به الله أن يجعل مجموع صفات ومزايا أي إنسان يساوي مجموع إنسان آخر حتى يتوازن العالم.
فإن وجد الإنسان شيئا لا يعجبه في المرأة، ووجدت المرأة شيئا لا يعجبها في الرجل فعلى الرجل أن يضم الزوايا كلها ليرى الصورة المكتملة للمرأة وأن تضم المرأة كل الزوايا حتى ترى الصورة المكتملة للرجل.
والرجل الذي ينظر إلى كل الزوايا يحيا مرتاح البال، لأنه يرى من الزوايا الحسنة أضعاف الزوايا التي ليست كذلك والذي يرضى هو من ينظر إلى المحاسن والذي يغضب هو من ينظر إلى المقابح والعادل في الغضب والرضا هو من ينظر إلى مجموع هذا ومجموع هذا، إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن تبني الأسرة على السلامة فيوضح لنا :
لا تنتظر أيها الرجل ولا تنتظري أيتها المرأة إلى أن يقع الخلاف، فما أن تبدو البوادر فعليكما بحل المشكلات فليس هناك أحد قادر على حل المشكلات مثلكما، لأنه لا يوجد أحد بينه وبين غيره من الروابط والوشائج مثل ما بين الرجل وزوجته لذلك قال سبحانه :" فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ".
إننا في بعض الأحيان نجد الصلح يأخذ شكلية الصلح، أما موضوع الصلح وهو إنهاء الجفوة والمواجيد النفسية فقد لا يوجد، والذي يعرقل الصلح هو أننا نقوم بالشكلية ولا نعالج الأسباب الحقيقية المدفونة في النفوس والتي تتسرب إلى موضوعات أخرى لذلك يجب أن يكون الصلح ويتم بحقيقته كقول الله تعالى : " أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " وعندما تتراضى النفوس يعم الخير على الزوجين وعلى المجتمع.
وبعد ذلك يتابع الحق : " وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " يوضح لنا سبحانه : أنا خالقكم وأعلم طبائعكم وسجاياكم وأعلم أنني عندما أطلب من المرأة أن تتنازل عن شيء من نفقتها كمهرها أو هدية الخطبة الأولى( الشبكة )، أو أن تتنازل له عن ليلتها لينام عند الزوجة الأخرى. وأعلم أن هذا قد يصعب على النفس، وكذلك يصعب على الرجل أن يتنازل عن مقاييسه إياكم أن يستولي الشح على تصرفاتكم بالنسبة لبعضكم البعض، وجاء الحق في آية وقال :
﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا( ٢١ ) ﴾( سورة النساء ).
وهنا يقول :" وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " وهناك فرق بين الحقوق التي قد يتمسك بها أحد الزوجين، والإحسان الذي يتطوع به، ونعرف ما فعله قاض فاضل عندما قال لخصمين : أأحكم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل ؟.
فسأل واحد : وهل هناك خير من العدل ؟ فقال القاضي : نعم إنه الفضل فالعدل إعطاء الحق فقط، والفضل أن يتنازل الإنسان عن حقه بالتراضي لأخيه.
ويذيل الحق الآية :" وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " وسبحانه وتعالى يريد أن يحل مشكلة نفسية قد تتعرض لها الأسر التي لا توجد فيها خميرة عق
﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما( ١٢٩ ) ﴾.
أي أن العدل الحبي مستحيل وقال النبي عليه الصلاة والسلام( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) يعني القلب١.
إذن ففيه فرق بين ميل القلب وهو مواجيد نفسية والنزوع النفسي، والعملية الوجدانية لا يقدر عليها أحد، ولا يوجد تقنين يقول للرجل :" أحب فلانة " إلا إذا أراد الحب العقلي، أما الحب العاطفي فلا، والذي يأمر به الشرع هو أن يحب الإنسان بالعقل أما حب العاطفة فلا تقنين له أبدا.
وقد يحب الإنسان الدواء المر بعقله لا بعاطفته ويسر الإنسان من صديق جاء بهذا الدواء من الخارج، لأن الدواء سيشفيه بإذن الله.
إذن " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل "، ما هو كل الميل ؟ ويوضحه سبحانه بقوله :" فتذروها كالمعلقة " وهي المرأة التي لا هي أيم أي لا زوج لها فتطلب الزواج، ولا هي متزوجة فتستمتع بوجود زوج، ويحجزها الرجل دون أن يمارس مسؤوليته عنها، فيوضح الحق : أنا لا أطلب منك أن تميل بقلبك هنا، أو هناك لأن هذه المسألة ليست ملكا لك، ولكني أريد العدالة في الموضوعات الأخرى، كأن تسوي في البيتوتة والنفقة، ومطلوبات أولادك، وأن تعدل بين أزواجك في المؤانسة، أما المعنى الآخر وهو ميل القلب فأنا لا أكلف به.
وسبحانه حينما يشرع لخلقه أعلم بمن خلق وقد جعل لكل مخلوق منا عواطف ينشأ عنها ميل، وجعل له غرائز وخيارات في الانفعالات ولو أراد سبحانه أن يحجر على الميل لما خلقه ولكنه جل وعلا يطلق الميول لتتم بالميول مصالح الكون مجتمعة، فحين يمنح القلب أن يحب يعلم سبحانه أن عمارة الكون تنشأ بالحب، فلو لم يحب العالم أن يكتشف أسرار الله في خلقه لما حمل نفسه متاعب البحث والإطلاع والتجربة وكل ما يترتب على ذلك من مشقات.
ولو لم يحب الإنسان إتقان عمله لما رأيت عملا مجودا، ولو لم يحب الإنسان أولاده لما تحمل المشقة في تبعات تربيتهم، إذن فالحب له مهمة، والله لا يريد منا أن نمنع الحب، لكنه يريد منا أن نعلي مطالب الحب، فنجعل للحب مجالاته المشروعة لا أن ينطلق الحب في الكون ليعربد في أعراض الناس.
إنك حين تجعل الحب موجها إلى خير لا يأتيك منه أو للناس شر، وعندما ننظر مثلا إلى دافع وغريزة حب الاستطلاع نجد أن الله قد خلقها في الإنسان ليصعد ابتكاراته المسعدة في الحياة، ولو لم توجد غرائز حب الاستطلاع لما تعب المكتشف في أن يبتكر شيئا أو يخترعه ويكتشفه حتى يريحنا نحن البشر، ولما فكر الإنسان في أن يستعمل البخار ليحمل عن الناس مشقات السفر ومشقات حمل الثقيل أن هذا الاكتشاف أراحنا باختراع الباخرة أو القطار.
ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يعلي غريزة حب الاستطلاع فينبغي أن نجعلها في مجالها المشروع فلا نجعلها تجسسا على عورات الناس مثلا وكذلك جعل الله غريزة حب المال في الإنسان لأن حب المال يدفع الإنسان إلى أن يعمل ويستفيد الناس من عمله أراد أو لم يرد، كذلك غريزة الجنس جعلها الله في الإنسان ولها سعار ليحفظ بها النوع الإنساني، إنه سبحانه لا يريد منها أن تنطلق انطلاقا يلغ في أعراض الناس إذن فالغرائز خلقها الله لمهمة والشرائع جاءت لتحفظ الغرائز في مجال مهمتها وتمنع عنها انطلاقاتها المسعورة في غير المجالات التي حددها لها المنهج.
إذن فالميل أمر فطري في النفس البشرية وقد أوضح الحق سبحانه : أنا خلقت الميل ليخدم في عمارة الكون، ولكن أريد منكم أن تصعدوا الهوى وتعلوه في هذا الميل، وحين تعددون الزوجات لا أطلب منكم البعد عن كل الميل، لأن ذلك أمر لا يحكمه منطق عقلي، ولكن أحب أن تحددوا الميل وتجعلوه في مجاله القلبي فقط، ولا يصح أن يتعدى الميل عند أحدكم إلى ميله القلبي.
أحب أيها العبد المؤمن من شئت وأبغض من شئت، لكن لا تجعل هذا الحب يقود قالبك لتعطي من تحب خير غيره ظلما، وأبغض أيها العبد من شئت فلا يستطيع مقنن أن يقنن للقلب أن يبغض أو يحب، لكن بغضك لا تعديه عن قلبك إلى جوارحك لتظلم من تبغض.
ولنا الأسوة في سيدنا عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه حينما مر عليه قاتل أخيه، ولفت نظره جليس له، هذا قاتل أخيك.
هنا قال عمر رضي الله عنه : وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام ؟ كأن إسلام هذا القاتل قد أنهى المسألة عند عمر رضي الله عنه وعندما جاء هذا القاتل لمجلس عمر، قال له سيدنا عمر : إذا أقبلت علي إلو وجهك عني، لأن قلبي لا يرتاح لك، فسأل الرجل : أو عدم حبك لي يمنعني حقا من حقوقي ؟ قال عمر : لا.
قال الرجل : إنما يبكي على الحب النساء. هذا عمر وهو الخليفة والرجل من الرعية لكن عمر الخليفة يخاف من الظلم ويملك هذا الشخص وهو تحت إمرة وحكم الخليفة عمر رضي الله عنه قدرة الرفض لمشاعر الحب والكراهية ما دامت لا تمنع حقوقه كمواطن.
إن الحق سبحانه وتعالى حينما يخلق ميول القلوب يضع أيضا القاعدة : إياك أيها المؤمن أن تعدي ميل القلب إلى القالب، وليكن ميل القلب كما تحب، كذلك إن أنت أيها المؤمن تزوجت وبعد ذلك تزوجت امرأة أخرى فالمنهج لا يطلب منك أن تعدل العدل المطلق الذي ينصب على شيء لا تملكه وهو ميل قلبك ولكن المنهج يضع لك القواعد التي يسير عليها سلوك قالبك، وعليك أن تعدل في قسمة الزمن والنفقة والكسوة وبشاشة الوجه وحسن الحديث، ولا تخضع ذلك لميل القلب، وبعد ذلك أنت وقلبك أحرار.
ونرى بعضا من الذين يحبون أن يظهروا بين الناس كفاهمين للقرآن أو دعاة تجديد، يركبون الموجة ضد التعدد ونقول : قبل أن يركب الواحد منكم الموجة ضد التعدد ويقف منه موقف الرافض له مدعيا أنه يفهم النص القرآني، إننا نقول له : عليك أن تبحث عن أسباب السخط على التعدد هي ليست في التعدد في ذاته ولكنها تأتي من أن المسلم يأخذ إباحة الله للتعدد، ولا يأخذ حكم الله في العدالة فلو أن المسلم أخذ بالعدالة مع التعدد لما وجدنا مثل هذه الأزمة ولذلك يقول الواحد من هؤلاء : إن الحق سبحانه وتعالى أمر بلزوم واحدة والاقتصار عليها عند خوف ترك العدل في التعدد فقال :﴿ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ﴾( من الآية٣سورة النساء ).
ثم جاء في آية أخرى وقال :" ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ".
ونقول : إن الواحد منكم إن أراد أن يفهم القرآن فعليه أن يعلم أن الحق سبحانه لم يقف في هذه الآية عند قوله ( ولو حرصتم )إنما فرع على عدم الاستطاعة في العدل فقال :" فلا تميلوا كل الميل " إنه سبحانه فرع على عدم الاستطاعة في العدل فأمر بعدم الميل كل الميل، وتلك حكمة المشرع الأول الذي يعلم من خلق وكيف خلق، ولو أن الحق لم يفرع على " ولن تستطيعوا " لجاز لهؤلاء الذين يركبون الموجة المطالبة بعد التعدد أن يقولوا ما يقولون، لذلك نقول لهم : انتبهوا إلى أن الحق سبحانه أوضح : عدم استطاعتكم للعدل هو أمر أنا أعلمه، ولذلك أطلب منكم ألا تميلوا كل الميل وذلك باستطاعتكم ومعنى هذا أنه سبحانه قد أبقى الحكم ولم يسلبه.
" فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " وفي هذا القول أمر بألا يترك الرجل زوجته الأولى كالمعلقة وهي المرأة التي لم يتحدد مصيرها ومسارها في الحياة فلا هي بغير زوج فتتزوج ولا هي متزوجة فتأخذ قسمها وحظها من زوجها، بل عليه أن يعطيها حظها في البيتوتة والنفقة والملبس وحسن الاستقبال والبشاشة والمؤانسة والمواساة.
ويقول الحق من بعد ذلك :" وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ".
وقوله :" تصلحوا " دليل على أنه كان هناك إفساد موجود والمطلوب أن تقوم بالبحث عن الأسباب التي جعلت الرجل يفسد في علاقته الزوجية ليقضي عليها، وبعد ذلك على المسلم أن يستأنف تقوى جديدة في المعاملة على ضوء ما شرع الله. وحين يصلح المسلم ما أفسد من جعل الزوجة الأولى كالمعلقة ويعطيها حقها في البيتوتة والنفقة ورعاية أولادها والإقبال عليها وعلى الأولاد بصورة طيبة فالله سبحانه يغفر ويرحم ولا يصلح المسلم ما أفسد إلا وهو ينوي ألا يستأنف عملا إلا إذا كان على منهج التقي، ويجد الحق غفورا لما سبق ورحيما به.
وإن لم يستطع الرجل هذا، ولا قبلت المرأة أن تتنازل عن شيء من قسمها ترضية له تكن التفرقة هنا أمرا واجبا، فليس من المعقول أن نحكم الحياة الزوجية والحياة الأسرية بسلاسل من حديد، ولا يمكن أن نربط الزوجين بعدم الافتراق إن كانت القلوب متنافرة وكذلك لا نأمن على المرأة أن تعيش هكذا.
إن الذي يقول : لا يصح أن نفرق بين الزوجين نقول له : كيف تريد أن تحكم الحياة الزوجية بالسلاسل ؟ والزواج صلة مبناها السكن والمودة والرحمة، فإن انعدمت هذه العناصر فكيف يستمر الزواج وكيف ترغم زوجا على أن يعايش زوجة لا يحبها ولا يقبلها وترغم زوجة أن تعيش مع زوج لا تحبه ؟ إن التفريق بينهما في مثل هذه الحالة قد يكون وسيلة أرادها الله سبحانه وتعالى ليرزق الزوج خيرا منها ويرزق الزوجة خيرا منه.
وكثيرا ما شهدنا هذا في واقع الحياة وعاش الزوج مع الزوجة الجديدة سعيدا، وعاشت الزوجة مع الزوج الجديد سعيدة أما الذين تشدقوا بمسألة عدم التفريق مع استحالة الحياة الزوجية وهاجموا الإسلام في هذا المجال. فهم يرددون ما كان عند أهل الغرب : من أن الزواج لا انفصال فيه.
﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما( ١٣٠ ) ﴾.
وسبحانه عنده الفضل الواسع، وهو القادر أن يرزق الزوج زوجة صالحة تشبع كل مطالبه ويرزق الزوجة زوجا آخر يشبع كل احتياجاتها ويقبل دمامتها لو كانت دميمة ويجعله الله صاحب عيون ترى نواحي الخير والجمال فيها، وقد نجد رجلا قد عضته الأحداث بجمال امرأة كان متزوجا بها وخبلته وجعلت أفكاره مشوشة مضطربة وبعد ذلك يرزقه الله بمن تشتاق إليه، بامرأة أمينة عليه ويطمئن عندما يغترب عنها في عمله، ولا تملأ الهواجس صدره لأن قلبه قد امتلأ ثقة بها وإن كانت قليلة الحظ من الجمال.
" وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما } فإياك أن تظن بأن الله ليس عنده ما يريح كل إنسان فسبحانه عنده كل ما يريح كل الناس وصيدلية منهج الله مليئة بالأدوية، وبعض الخلق لا يفقهون في استخدام هذه الأدوية لعلاج أمراضهم.
ومن الحكمة أنه سبحانه لا يرغم اثنين على أن يعيشا معا وهما كارهان لأنهما افتقدا المودة والرحمة فيما بينهما.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا( ١٣١ ) ﴾.
وسبحانه هو الذي يرضي الزوج إن افترق عن زوجته ويرضي الزوجة إن افترقت عن زوجها، لأنه جل وعلا خلق الدنيا التي لن تضيق بمطلوب الرجل أو المرأة بعد الانفصال بالطلاق فله ملك السماوات والأرض وهو القادر على أن يرزق الرجل امرأة هي خير بمن فارق ويرزق المرأة رجلا هو خير ممن فارقت فلا شيء خرج عن ملك الله وهو الواسع العطاء.
إننا كثيرا ما نجد رجلا كان يتزوج امرأة ولا تلد ويشاع عنها أنها عقيم ويذهب الاثنان إلى معامل التحليل ويقال أحيانا : المرأة هي السبب في عدم النسل، أو : الرجل هو السبب في عدم النسل ويفترق الاثنان ويتزوج كل منهما بآخر، فتلد المرأة من الزوج الجديد ويولد للرجل من الزوجة الجديدة لأن المسألة كلها مرادات الله، وليست أمور الحياة مجرد اكتمال أسباب تفرض على الله بل هو المسبب دائما فهو القائل :
﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور( ٤٩ )أو يزوجكم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير( ٥٠ ) ﴾.
كم صورة إذن عندنا لمثل هذا الموقف ؟ يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما هي بأربعة مقادير تجري على الرجل والمرأة وعندما يهب الله المؤمن الإناث يكون سعيدا وكذلك عندما يهبه الذكور، وعندما يهب الله لأسرة أبناء من الذكور فقط فالزوجة تحن أن يكون لها ابنة وإن وهب الحق لأسرة ذرية من الإناث فقط، فالمرأة والرجل يتمنيان الابن وإن أعطاهما الله الذكور والإناث نجدهما قد وصلا إلى الحالة التي تقر بها العيون عادة، والحالة التي تقر بها العيون عادة مؤخرة.
إن الحالة التي تزهد النفس فيها فالحق يقربها إلى أوليات الهبة، فقال أولا :" يخلق ما يشاء " وبعد ذلك :" يهب لمن يشاء إناثا " ثم ذكر عطاء الذكور ثم يأتي بالحالة التي يكون العطاء فيها في القمة : " أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ".
وأخيرا يأتي بالقدر الرابع الذي يجريه على بعض خلقه وهو :" ويجعل من يشاء عقيما ".
ولماذا يسر الإنسان بقدر الله حينما يهبه الله الإناث أو الذكور ويزداد السرور بقدر الله حينما يهبه سبحانه الذكور والإناث ولماذا لا تسر إذن أيها الإنسان بقدر الله حينما يجعلك عقيما ؟ أتعتقد أنك تأخذ القدر الذي تهواه وترد القدر الذي ليس على هواك ؟ إن المواقف الأربعة هي قدر من الله.
ولو نظر الإنسان إلى كل أمر من الأمور الأربعة لرضي بها.
إنه سبحانه يخلق ما يشاء ويجعل من يشاء عقيما، إن قالها الإنسان باستقبال مطمئن لقدر الله فالله قد يقر عينه كما أقر عيون الآخرين بالإناث أو بالذكور أو بالذكور والإناث معا وأقسم لكم لو أن إنسانا أو زوجين أخذا قدر الله في العقم كما أخذاه في غيره من المواقف السابقة برضا إلا رزقهم الله، لا أقول ببنين وبنات يرهقونهن في الحمل والتربية وغيرها بل يرزقهم بأناس يخدمونهم وقد رباهم غيرهم، والذي يجعل الأزواج المفتقدين للإنجاب يعيشون في ضيق هو أنهم في حياتهم ساخطون على قدر الله والعياذ بالله فيجعل الله حياتهم سخطا، فهو القائل في حديثه القدسي :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )١.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يقول :" ولله ما في السماوات وما في الأرض " فإياك أن تقول كون الله سيضيق عن رزق الرجل المفارق لزوجته أو المرأة المفارقة لزوجها من عطاء الله لهما فما دام سبحانه قد قرر الفراق كحل لعدم توافق في حياتهما معا فهو سبحانه سيعطي عن سعة للزوج وعن سعة للزوجة، وعليك أيها المسلم أن تطيع منهج الحق كما أطاع كل ما في السماوات وكل ما في والأرض، ثم اسأل نفسك هذا السؤال : من يقضي مصالحك كلها.
إنه الحق سبحانه الذي سخر أشياء ليست في طوق قدرتك أأرغمت الشمس أن تشرق لك بالضوء والحرارة ؟ أأرغمت الماء أن يتبخر وينزل مطرا نقيا ؟.
أأرغمت الريح أن تهب ؟ أضربت الأرض لتقول لها : غذي ما أضعه فيك من بذر بالعناصر الملازمة له والمحتاج إليها لينتج النبات ؟ كل هذا ليس في طوق إرادتك بل هو مسخر لك بأمر الله وإن أردت الاستقامة في أمرك لكنت كالمسخر فيما جعل الله لك فيه اختيار ولقلت لله : أنا أحب منهجك يا رب وما يطلبه مني سأنفذه قدر استطاعتي فتكون بقلبك وقالبك مع أوامر المنهج ونواهيه فينسجم ويتوافق الكون معك كما انسجم الكون المسخر المقهور المسير.
﴿ ولله ما في السماوات وما الأرض ﴾، وهذا تذكير بأن كل شيء مملوك لله وفي طاعته، فلا تشذ أيها الخليفة لله عن الكون، فكل ما فيه يخدمك ولتسأل نفسك : أتعيش في ضوء منهج الله أم لا ؟ لأن الكون قد انسجم وهو مسخر لله، ولم يحدث أي خلل في القوانين الكلية وسبحانه القائل :
{ والسماء رفعها ووضع الميزان( ٧ )ألا تطغوا في الميزان( ٨ )وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان( ٩ )( سورة الرحمن ).
وهذا إيضاح من الحق تبارك وتعالى : إن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الاختيارية فانظروا إلى الكون فالأشياء المسخرة لا يحدث منها خلل على الإطلاق، ولكن الخلل إنما يأتي من اختيارات الإنسان لغير منهج الله.
" ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله " يوضح سبحانه : لقد وصينا الذين أنزلنا إليهم المنهج من قبلكم، ووصيناكم أنتم أهل الأمة الخاتمة أن التزموا المنهج بالأوامر والنواهي لتجعلوا اختياراتكم خاضعة لمرادات الله منكم حتى تكونوا منسجمين كالكون الذي تعيشون فيه، ويصبح كل شيء يسير منتظما في حياتكم ولم يقل الحق هذه القضية للمسلمين فقط لكنها قضية كونية عامة جاء بها كل رسول :" ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ".
ولم يقل : شرعنا للذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ولم يقل : فرضنا إنما قال :" ولقد وصينا " وكلمة " وصية " تشعر المتلقي لها بحب الموصي للموصى " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله " وتقوى الله تعني أن نفعل أوامر الله وأن نتجنب نواهيه لنحكم حركة اختياراتنا بمنهج ربنا، فإن حكمنا حركة اختياراتنا بمنهج الله صرنا مع الكون كأننا مسخرون لقضايا المصلحة والخير.
ومن بعد ذلك يقول الحق : " وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا " ومقابل الكفر هو الإيمان، ومن يخرج عن الإيمان فالله غني عنه، فلا تعتقدوا أيها المخاطبون بمنهج الله أنني أستميلكم إلى الإيمان لأني في حاجة إلى إيمانكم لا، لكني أريد منكم فقط أن تكونوا مجتمعا سليما مجتمعا سعيدا وإن تكفروا فسيظل الملك كله لله، حتى ولو كنت متمردا في قبضة مرادات ربك، فلن تتحكم في مولد أو في ممات أو في مقدورات فالكون ثابت وسليم وجاء القرآن باللفت إلى انتظام الكون يقول الحق :
{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج( ٦ )والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج( ٧ )تبصرة وذكرى لكل عبد منيب( ٨ )ونزلنا من السماء ماءا مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد( ٩ )والنخل باسقات لها طلع نضيد( ١٠ )رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج( ١١ )( سورة ق ).
وفي لحظة من اللحظات يأمر الحق كونا من كونه فيختل نظامه فترى الأرض المستقرة وقد تزلزلت، والتي قال عنها سبحانه :
﴿ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ﴾( من الآية١٥سورة النحل ).
وسبحانه هو الذي يملكها فيجعلها تضطرب ويحدث في موقع منها زلزالا فتندثر المباني التي عليه حتى تفهم أن الدنيا ليست محكومة آليا، بل محكومة بالأسباب وزمامها ما زال في قيومية المسبب، ونلتفت إلى بعض من الزوابع من التراب وهي تغلق المجال الجوي كله بحيث لا يستطيع واحد أن ينظر من خلاله وهذا لفت من الله لنا يوضح : لقد صنعت هذه القوانين بقدرتي ولن تخرج هذه القوانين عن طلاقة قدرتي.
ونرى بلادا تحيا على أمطار دائمة تغذي الأرض، فنجد الخضرة تكسو الجبال ولا نجد شبرا واحدا دون خصوبة أو خضرة أو شجر وقد يظن ظان أن هذه المسألة أمر آلي، ويأتي الحق ليجري على هذه المنطقة قدر الجفاف فيمنع المطر وتصير الأرض الخصبة إلى جدب، وتنفق وتهلك الماشية ويموت البشر عطشا، وذلك ليلفتنا الحق إلى أن المسألة غير آلية ولكنها مرادات مريد.
وفي موقع آخر من الكرة الأرضية نجد أرضا منبسطة هادئة يعلوها جبل جميل، وفجأة تتحول قمة الجبل إلى فوهة بركان تلقي الحمم وتقذف بالنار وتجري الناس لتنقذ نفسها، ولذلك علينا أن نعرف أن عقل العاقل إنما يتجلى في أن يختار مراداته بما يتفق مع مرادات الله وعلى سبيل المثال لم يؤت العقل البشري القدرة الذاتية على التبوء بالزلازل، لكن الحمار يملك هذه القدرة.
" وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا }وصدر الآية بالمقولة نفسها :" ولله ما في السماوات وما في الأرض " وذلك لتثبيت وتأكيد ضرورة الطاعة لمنهج الله حتى ينسجم الإنسان مع الكون وتجيء المقولة مرة ثانية في الآية نفسها ليثبت الحق أنه غني ولا تقل إن المقولة تكررت أكثر من مرة في الآية الواحدة ولكن قل : إن الحق جاء بها في صدر الآية لتثبت معنى، وجاءت في ذيل الآية لتثبت معنى آخر فسبحانه هو الغني عن العباد :﴿ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾( من الآية٢٩سورة الكهف ).
ومجيء " ولله ما في السماوات وما في الأرض " لإثبات حيثية أن يطيع العبد خالقه ومجيء " لله ما في السماوات وما في الأرض " في ذيل الآية لإثبات حيثية غنى الله عن كل العباد والمقولة نفسها تأتي في الآية التالية حيث يقول سبحانه :
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا( ١٣٢ ) ﴾.
ومجيء المقولة لثالث مرة لطمأنة الإنسان أن الله يضمن ويحفظ مقومات الحياة فلن تتمرد الشمس يوما ولا تشرق أو يتمرد الهواء ولا يهب، أو تضن الأرض عليك بعناصرها لأن كل هذه الأمور مسخرة بأمر الله الذي خلقك وقد خلقها وقدر فيها قوتك.
ولذلك يوضح ربنا : أنا الوكيل الذي أكلفكم وأكفيكم وأغنيكم عن كل وكيل.
والوكيل هو الذي يقوم لك بمهامك وتجلس أنت مرتاح البال والإنسان منا عندما يوكل عنه وكيلا ليقوم ببعض الأعمال يحس بالسعادة على الرغم من أن هذا الوكيل الذي من البشر قد يخطئ أو يضطرب أو يخون أو يفقد حكمته أو يرتشي لكن الحق بكامل قدرته يطمئن العبد أنه الوكيل القادر، فلتطمئن إلى أن مقومات وجودك ثابتة فسبحانه مالك الشمس فلن تخرج عن تسخيرها ومالك المياه ومالك الريح ومالك عناصر الأرض كلها ومادام الله هو المليك فهو الحفيظ على كل هذه الأشياء وهو نعم الوكيل لأنه وكيل قادر وليس له مصلحة.
وتعالوا نقرأ هذا الحديث :
فقد ورد أن أعرابيا جاء فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أتقولون هذا أضل أم بعيره ألن تسمعوا ما قال ؟ " قالوا : بلى، قال :" لقد حظرت١رحمة واسعة، إن الله عز وجل خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها وأخر عنده تسعا وتسعين رحمة أتقولون هو أضل أم بعيره " ٢
هو إذن كفى بالله وكيلا وهو نعم الوكيل وهو يطمئن عباده ويبين أنه سبحانه هو القيوم وتعني المبالغة في القيام، إذن كل شيء في الكون يحتاج إلى قائم لذلك فهو قيوم ويوضح الحق لكل إنسان : أن اجتهد في العمل وبعد أن تتعب نم ملء جفونك لأني أنا الحق لا تأخذني سنة ولا نوم، فهل هناك وكيل أفضل من هذا ؟ " وكفى بالله وكيلا ".
٢ رواه أحمد وأبو داود..
﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا( ١٣٣ ) ﴾.
وبعض الفاقدين للبصيرة من الفلاسفة قالوا : صحيح أن الله قد خلقنا ولكنا خرجنا من دائرة نفوذه لا، بل سبحانه إن شاء لذهب بكم جميعا وأتى بآخرين، وما ذلك على الله بعزيز، وهو القائل : " وكان الله على ذلك قديرا ".
حين نقرأ " كان بجانب كلمة " الله " فهي لا تحمل معنى الزمن، فالله قدير حتى قبل أن يوجد مقدور عليه، فلم يكون قديرا فقط عندما خلق الإنسان بل بصفة القدرة خلق الإنسان لأن الله سبحانه وتعالى له أغيار لذلك يظل قديرا وموجودا في كل لحظة وهو كان ولا يزال.
﴿ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا١٣٤ ﴾
ومادام الرسل قد أبلغوا الإنسان أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة فلم الغفلة ؟ ولم لا تأخذ الزيادة ؟، ولماذا نذهب إلى صفقة الدنيا فقط مادام الحق يملك ثواب الدنيا من صحة ومال وكل شيء، وإن اجتهد الإنسان في الأسباب يأخذ نتيجة أسبابه فالحق يقول :
﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب( ٢٠ ) ﴾( سورة الشورى ).
ولم يقل الحق : إن " الآخرة " في مقابل الدنيا وأن من يأخذ الدنيا لن يأخذ الآخرة أو العكس، بل يريد سبحانه للإنسان أن يأخذ الدنيا والآخرة معا، فيا من تريد ثواب الدنيا لا تحرم نفسك بالحمق من ثواب الآخرة وكلمة " ثواب " فيها ملحظ، فهناك أشياء تفعل لك وإن لم تطلب منها أن تفعل وتنتفع بعملها وإن لم تطلب من الأشياء أن تفعل وهناك أشياء أخرى تنفعل بحركتك فإن تحركت وسعيت وعملت فيها تعطك.
مثال ذلك الأرض، فإن بذرت فيها تخرج الزرع، واختلافات الناس في الدنيا تقدما وتأخرا وحضارة وبداوة وقوة وضعفا إنما تأتي من القسم الذي ينفعل للإنسان، لا من القسم الذي يفعل للإنسان ويسخر له، وتقدم بعض البشر في الحضارة إنما جاء لأنهم بحثوا في المادة والعناصر، وأنجزوا إنجازات علمية هائلة في المعامل فإن أردت أن تكون متقدما فعليك أن تتعامل مع العناصر التي تنفعل لك، والأمم كلها إنما تأخذ حضارتها من قسم ما ينفعل لها، وهم والمتأخرون شركاء فقط فيما يفعل لهم ويسخر لصالحهم.
وإن أردنا الارتقاء أكثر في التحضر فعلينا أن نذهب إلى ما يفعل ويسخر لنا ونتعامل معه حتى ينفعل لنا.. كيف ؟.
الشمس تمدنا بالضوء والحرارة ونستطيع أن نتعامل مع الشمس تعاملا آخر يجعلها تنفعل لنا، مثلما جئنا بعدسة اسمها " العدسة اللاّمة " التي تستقبل أشعة الشمس وتتجمع الأشعة في بؤرة العدسة فتحدث حرارة تشعل النار، أي أننا جعلنا ما يفعل لنا يتحول إلى منفعل لنا أيضا ويسمون ذلك الطموح الإنبعاثي، والمطر يفعل للإنسان عندما ينزل من السماء في وديان، ويستطيع الإنسان أن يحوله إلى منفعل عندما يضم توربينات ضخمة في مسارات نزوله فينتج الكهرباء.
إذن فحضارات الأمم إنما تنشأ من مراحل، المرحلة الأولى : تستخدم ما ينفعل لها، والمرحلة الثانية : ترتقي فتستخدم ما ينفعل معها، والمرحلة الثالثة : تستخدم ما يفعل لها كمنفعل لها، مثال ذلك استخدام الطاقة الشمسية بواسطة أجهزة تجمع هذه الطاقة ارتقاء مع استخدام ما يفعل للإنسان لينفعل مع الإنسان.
وأسمى شيء في الحضارة الآن هو أشعة الليزر التي تصنع شبه المعجزات في دنيا الطب، وكلمة " ليزر " مأخوذة كحروف من كلمات تؤدي معنى تضخيم الطاقة بواسطة الانبعاث الاستحثاثي، فكلمة " ليزر " إذن مثلها مثل كلمة " ليمتد " فاللام من كلمة والياء من كلمة والميم من كلمة، والتاء من كلمة والدال من كلمة وذلك لتدل على مسمى.
وترجمة مسمى " ليزر " هو تضخيم الطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثاثي ففيه انبعاث تلقائي هو مصدر الطاقة الذي يفعل للإنسان وإن لم يطلبه، أما الانبعاث الاستحثاثي فينتج عندما يحث الإنسان الطاقة لتفعل له شيئا آخر والانبعاث التلقائي متمثل في الشمس فتعطي ضوءا وحرارة وعندما جلس العلماء في المعامل وصمموا العدسة التي تنتج هذه الأشعة أهاجوها وأثاروها وأخذوها ليصنعوا منها طاقة كبيرة وهكذا أنتجوا أشعة الليزر التي هي تضخيم للطاقة عن طريق الانبعاث الاستحتاثي، ولأن العنوان طويل فقد أخذوا من كل كلمة حرفا وكونوا كلمة " ليزر ".
إذن فالارتقاءات الحضارية تأتي عن طريق تعامل الإنسان مع القسم الذي ينفعل للإنسان واستحثاث واستخدام ما يفعل له بطريقته التلقائية لينفعل معه كأشعة الشمس مثلا.
وجئنا بذكر كل ذلك من أجل أن نستوضح آفاق قول الحق :" من كان يريد ثواب الدنيا " وكلمة " ثواب " إذن توحي بأن هناك عملا، فالثواب جزاء على عمل فإن أردت ثواب الدنيا، فلا بد أن تعمل من أجل ذلك فلا أحد يأخذ ثواب الدنيا بدون عمل.
ومن عظمة الحق ولطفه وفضله ورحمته أن جعل ثواب الدنيا جائزة لمن يعمل، سواء آمن أم كفر، ولكنه خص المؤمنين بثواب باق في الآخرة.
ولذلك يقال : " الدنيا متاع "، ويزيد الحق على ذلك :" فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ". ومن الحمق أن يوجد طريق يعطي الإنسان جزاءين ثم يقصر همته على جزاء واحد.
وهنا ملحظ آخر، فحينما تكلم الحق عن ثواب الدنيا دل على أنه لا بد من العمل لنأخذ الدنيا ولم يذكر الحق ثوابا للآخرة، بل جعل سبحانه الثواب للاثنين الدنيا والآخرة، إذن فالذي يعمل للدنيا من المؤمنين إنما يأخذ الآخرة أيضا، لأن الآخرة هي دار جزاء، والدنيا هي مطية وطريق وسبيل فكأن كل عمل يفعله المسلم ويجعل الله في باله فالله يعطيه ثوابا في الدنيا، ويعطيه ثوابا في الآخرة.
ويذيل الحق الآية :" وكان الله سميعا بصيرا " إذن فثواب الدنيا والآخرة لا يتأتى إلا بالعمل والعمل هو كل حدث يحدث من جوارح الإنسان، القول مثلا حدث من اللسان وهو عمل أيضا والمقابل للقول هو الفعل فالأعمال تنقسم إلى قسمين : إلى الأقوال وإلى الأفعال ولتوضيح هذا الأمر نقرأ قول الحق :﴿ كلا بل لا تكرمون اليتيم( ١٧ )ولا تحاضون على طعام المسكين( ١٨ )وتأكلون التراث أكلا لما( ١٩ ) ﴾( سورة الفجر ).
وعندما سمع الأغنياء هذا القول عرفوا سلوكهم ولما سمع الفقراء هذا القول كأنهم قالوا : نحن لا نملك ما نطعم به المسكين فكان في قوله تعالى :" ولا تحاضون على طعام المسكين " ما يوضح لهم الطريق إلى العطاء : أي حضوا غيركم على العطاء أي أن الذي لا يملك يمكنه أن يكلم الغني ليعطي المسكين والحض هو كلام والكلام نوع من العمل.
والحق سبحانه وتعالى يستنفر المؤمنين لينصروا دين الله فيقول :{ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين سبيل والله غفور رحيم( ٩١ )( سورة التوبة ).
هو سبحانه أعفى الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون في القتال وأسقطه عنهم ولم يحاسبهم عليه، ولكن في الآية نفسها ما يحدد المطلوب من هؤلاء وهو أن ينصحوا لله ورسوله إذن فغير القادر يمكنه أن يتكلم بفعل الخير ويذكر به الآخرين وينصح به، هذا هو معنى قول الحق : " وكان الله سميعا بصيرا " فسبحانه يسمع قول من لا يستطيع ولا يملك القدرة على سلوك ما وسبحانه بصير يرى صاحب كل سلوك.
إذن فثواب الدنيا يحتاج إلى عمل والعمل هو انفعال كل جارحة بمطلوبها فاللسان جارحة تتكلم واليد تعمل، وكل جوارح الإنسان تعمل لكن ما عمل القلوب ؟ عمل القلوب لا يسمع ولا يرى ولذلك قال الحق عن إخلاص القلب في حديث قدسي :
( الإخلاص سر من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي )١.
وهكذا نعرف أن نية القلوب خاصة بالله مباشرة ولا تدخل في اختصاص رقيب وعتيد وهما الملكان المختصان برقابة وكتابة سلوك وعمل الإنسان، ولذلك نجد الحق يصف ذاته في مواقع كثيرة من القرآن بأنه لطيف خبير، لطيف بعلم ما يدخل ويتغلغل في الأشياء وخبير بكل شيء وقدير على كل شيء ونجد الحديث الشريف يقول لنا :
( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )٢.
فالعمل يكون بالجوارح ومن الجوارح اللسان، وحتى نضبط هذه المسألة لنفرق ما بين الفعل والعمل نقرأ ونفهم الآية :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون( ٢ ) ﴾( سورة الصف ).
ونجد المقابل للقول هو الفعل والكل عمل، ويأتي نوع آخر من الأعمال لا هو قول ولا هو فعل وهو " النية القلبية " وعندما يقول الحق : إنه كان سميعا بصيرا فالمعنى أنه سميع للقول، وبصير بالفعل.
.
٢ رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن.
وساعة ينادي الحق عباده المؤمنين قائلا : يا أيها الذين آمنوا فكأنه يقدم حيثية الحكم الذي يأتي بعده، ونحن نرى القضاء البشري قبل أن ينطق بمنطوق الحكم، يورد حيثيته فيقول :" بما أن المادة القانونية رقم كذا تنص على كذا، حكمنا بكذا " إذن : فالحيثيات تتقدم الحكم وحيثيات الحكم الذي يحكم به الله هي الإيمان به، مثل قول الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ﴾( من الآية١٨٣سورة البقرة ).
حيثية الكتابة هنا وفي أي حكم آخر هي إيمان العبد بالله ربا، فليسمع العبد من ربه وسبحانه لا يكلف كل الناس بالتكاليف الإيمانية ولكنه يكلف المؤمنين فقط، وهو يقول : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط " فالمؤمن يدخل على الإيمان بقمة القسط، فالقسط هو العدل، والعدل أن يعطي العادل كل ذي حق حقه، وحق الإله الواحد أن يؤمن به الإنسان ويعترف أنه إله واحد.
إن قمة القسط إذن هي الإيمان وما دام المؤمن قد بدأ إيمانه بقمة القسط وهو الإيمان فليجعل القسط سائدا في كل تصرفاته وإياك أن تجعل القسط أمرا أو حدثا يقع مرة وينتهي وإلا لما قال الحق مع إخوانك المؤمنين :" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ".
ولم يقل الحق لك مع إخوانك المؤمنين : كونوا قائمين بالقسط بل قال " كونوا قوامين بالقسط "، أي أن المطلوب هو الاستمرارية للسلوك العادل فنحن نقول :" فلان قائم "، " وفلان قوام " ونعرف أن كلمة " قوام " هي صيغة مبالغة، وعلى ذلك يكون الأمر الإلهي لكل مؤمن : لا تقم بالقسط مرة واحدة فقط، بل اجعله خصلة لازمة فيك ولتفعل القسط في كل أمور حياتك والقسط كما علمنا من قبل في ظاهر أمره هو العدل، وأيضا الأقساط هي العدل.
وقد أحدثت كلمة " القسط " ضجة عند العلماء، وقلنا تعليقا على ذلك : إن المسألة بسيرة فقسط يقسط قسوطا أي جار وظلم، فإذا أذهب الإنسان الجور والظلم يقال : " أقسط فلان " أي أذهب الجور إذن " القسط بكسر القاف هو العدل الابتدائي لكن الإقساط هو عدل أزال جورا كان قد وقع.
وهب أن أناسا جاءوا لقاض فحكم بينهم بالعدل فهذا هو القسط وقد يستأنف أحد الطرفين حكم المحكمة الابتدائية ووجدت محكمة الاستئناف خطأ في التطبيق فأصدرت حكما بإزالة الجور، وهذا الحكم الذي من الدرجة الثانية اسمه إقساط وهكذا ينتهي جدل العلماء حول هذه المسألة فالقسط عدل من أول درجة، والإقساط يعني أنه كان هناك جور فرفع لأنه مسبوق بهمزة اسمها " همزة الإزالة "، فيقال : أعجم الكتاب أي أن الكتاب كان فيه عجمة أي كان بالكتاب شيء مستتر وخفي عليهم فأزال ما به من عجمة وتسمى قواميس اللغة " المعاجم " والواحد معجم أي يعطي معاني الألفاظ فيزيل خفاءها وكذلك معنى 'أقسط " أي أزال الجور.
والحق يقول :" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط " فأنت أيها المؤمن قد فعلت بالعقل أول مرتبة في القسط، ورددت الإيمان إلى الرب فهو المستحق له وعليك إشاعة كل القسط في كل سلوكك.
" كونوا قوامين بالقسط شهداء لله "، ولا يكفي أن يكون المؤمن قائما بالقسط فقط، بل لا بد أن تكون الشهادة لله ؟ لماذا ؟.
هب أن رجلا كافرا بالله والعياذ بالله ويقيم العدل بين الناس لكنه لا يدخل بذلك العدل في حيثية الإيمان، فالذي يدخل في حيثية الإيمان يكون قائما بالقسط وفي باله الله وبذلك تكون الشهادة وإقامة حقوق الله لا لمنفعة ولا لغاية ولا لهوى ولا لغرض وإنما ليستقيم كون الله كما أراد الله، وإلا لو حكم أحد بهوى لفسدت الأرض، والحق يقول :
﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ﴾( من الآية٧١سورة المؤمنون ).
لذلك لا بد أن يكون المؤمن قواما بالقسط وفي باله الله، ولذلك فالقيام بالقسط وحده لا يكفي ونحن نسمع : فلان عادل ولو أنه من ديانة أخرى غير الإسلام أو كان ملحدا ونقول : هذا العادل من أي دين أو عقيدة غير الإسلام يأخذ ثناء البشر لكنه لا يأخذ ثناء الله ولا ثوابه ولذلك فالقوام بالقسط يجب أن يفعل بقصد امتثال أمر الله لينال الثواب من الله.
" كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم " والشاهد في العادة هو من يشهد لمصلحة واحد ضد آخر، وعندما يقر الشاهد بذنب فهو قد شهد على نفسه، والشاهد لمصلحة واحد إنما يفعل ذلك ليرجح الحكم، والشاهد على نفسه يقر بما فعل، والإقرار سيد الأدلة وشهادة الشاهد تقدم للقاضي الدليل الذي يرتب عليه الحكم، وهكذا يشهد المؤمن على نفسه.
وهناك معنى آخر : أنه يشهد على نفسه ولو كانت الشهادة تجر وبالا عليه، وهذه المعاني من معطيات الإشعاعات القرآنية فالمؤمن يشهد على نفسه للإقرار وقد لا تكون الشهادة على النفس بل قد تكون الشهادة واجبة عليه يؤديها لمصلحة غيره ولا يخاف فيها الشاهد من السلطان حتى وإن جار السلطان على المؤمن وأصابه بوبال في نفسه أو ماله، ومن الناس من أصابه وبال في نفسه أو أهله من السلطان لمجرد كلمة حق قيلت، فالسلطان قد لا يأخذ الإنسان بذنبه بل قد يأخذ أهل الإنسان بهذا الذنب والحق يوضح للعبد : لا تهتم بذلك ولا تقولن سيعذبون العيال أو سيأخذون كل شيء إنني أنا الموجود المتكفل بعبادي.
ويطلب الحق من المؤمنين :" كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ". وحين يشهد الإنسان على نفسه فلن يكون أبوه أو أمه أو أحد أقاربه أعز منه.
ثم يدخل بنا الحق إلى أن استحثاثات مخالفة العدالة تدخل فيها الأهواء وحين يرجح إنسان الباطل غير الواقع على حق واقع فالمرجح هو هوى النفس، ومنشأ الهوى أن يكون المشهود عليه غنيا فيخاف الإنسان أن يشهد عليه، فيمنعه من خير ما.
ولذلك حدد الحق قوامة المؤمنين بالقسط والشهادة لله ولو على النفس أو الأب أو الأم أو الأقارب، ولا يصح أن يضع أحد المؤمنين ثراء أو فقر المشهود له أو عليه في البال بل يجب أن يكون البال مع الله فقط لذلك قال :" إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ".
وقد يقول قائل " إن الهوى قد ينحاز إلى الغني طمعا في ثرائه فلماذا يذكر الله الفقير أيضا ؟ ونقول : قد ينحاز الهوى إلى الفقير رحمة بالفقير فيحدث الشاهد نفسه " أنه فقير ويستحق الرحمة "، لذلك يحذرنا الحق من الانحياز إلى الغني أو إلى الفقير.
ولا دخل للشهادة بثراء الثري أو بفقر الفقير لأن العبد المؤمن ليس أولى أو أحق برعاية مصالح الناس من خالقهم جل شأنه ولذلك جاء بالحيثية الملجمة " فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " أي أنك أيها العبد لم تخلق أحدا منهما ولكن الله خالق الاثنين وهو أولى بهما فليس لك أن تقيم شهادتك على الثراء أو على الفقر لأنك لست القيم على الوجود.
والذي يفسد ويشوش على العدل هو الهوى، والمثل العربي يقول :" آفة الرأي الهوى " وإياكم أيها المؤمنون وإتباع الهوى حتى لا تفسد قدرتكم على العدل وتجنحوا بعيدا عنه والتاريخ العربي يحفظ لنا في ذاكرته حكاية رجل فاضل ذهب إلى الخليفة وقال له : أعفني من القضاء فقال الخليفة : فمن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له كل الناس بذلك.
فقال القاضي : والله يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرطب أي البلح وبينما أنا في بيتي وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب وكنا في بواكير الرطب ومن الطبيعي أن تكون النفس في لهفة عليه مادامت تحبه، ويتابع القاضي حكايته للخليفة : فقلت للخدام من جاء به ؟ فأجاب الخادم : إنه واحد صفته كذا وكذا فتذكرت أن من أرسل الرطب هو واحد من المتقاضين أمامي فرددت عليه الرطب ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب دخل الرجل علي فعرفته فوالله يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه على الرغم من أني رددت الطبق وهكذا استقال القاضي العربي المسلم من منصب القضاء.
ويتابع الحق سبحانه :" وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " أن تلووا في الشهادة واللي هو التحريف أي تحرفوا الشهادة وتغيروها فإن الله بما تعملون خبير أو أن يعرض الشخص عن أداء الشهادة لأنه يخاف من المشهود عليه، لذلك يقال إنه خائف من المشهود عليه لأن الشهادة ترجح حكم المشهود له لهذا فهو يعرض عن الشهادة وإن جاء للشهادة فهو يلف الكلمات ويلوي لسانه بها، لذلك يقول الحق :" وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ".
إذن فالذي يفسد العدل هو الهوى والهوى عمل القلب لذلك نحتاج إلى خبرة الخبير اللطيف فعلينا أن نعلم أن النيات عمل القلوب، وبذلك صار العمل ينقسم الآن أمامنا إلى ثلاثة أقسام : قول الإنسان وفعل بجوارح غير الإنسان ونيات قلوب وهوى.
﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا( ١٣٦ ) ﴾.
وقد يقول إنسان ما : كيف يقول الحق في صدر هذه الآية مناديا المؤمنين بالإيمان فقال : آمنوا، وبعد ذلك يطالبهم بأن يؤمنوا ؟ ونقول : نرى في بعض الأحيان رجلا يجري كلمة الإيمان على لسانه ويعلم الله أن قلبه غير مصدق لما يقول، فتكون كلمة الإيمان هي حق صحيح، ولكن بالنسبة لمطابقتها لقلبه ليست حقا، وتعرضنا من قبول لقول الحق :
﴿ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون( ١ ) ﴾( سورة المنافقون ).
لقد شهد المنافقون أن رسول الله مرسل من عند الله هذه قضية صدق لكن الله العليم بما في القلوب يكشف أمرهم إلى الرسول فيقول :﴿ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ﴾( من الآية١سورة المنافقون ).
لقد وافقت شهادتهم بألسنتهم ما علمه الله لكن القول منهم يخالف ما في قلوبهم، فشهد الحق إنهم لكاذبون، ويعلم سبحانه كذبهم في شهادتهم لأن المنافق منهم لم يشهد صحيح الشهادة لأن الشهادة الحقة هي أن يواطئ اللسان القلب، وبعض من الأغبياء الذين يحاولون الاستدراك على القرآن قد عميت بصيرتهم عن الإحساس باللغة والفهم لأسرارها لذلك يتخبطون في الفهم فهم لا يعرفون صفات التلقي عن الله، وقالوا : إن بالقرآن تضاربا ولم يعرفوا أن كذب المنافقين لم يكن في مقولة : إن محمدا رسول الله ولكن في شهادتهم بذلك وكذبهم الله في قولهم :" نشهد " فقط، فقد أعلنوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
وإن أردنا أن نفهم أن الخطاب للمؤمنين عامة بأن يؤمنوا فهذا طلب للارتقاء بمزيد من الإيمان ولنا في قول الحق المثل الواضح في حديثه للنبي قال الحق :
﴿ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما( ١ ) ﴾( سورة الأحزاب ).
الحق هنا يقول للمتقي الأول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اتق الله "، أي يأمره بالقيام دائما على التقوى.
إذن فمعنى قول الحق :" يا أيها الذين آمنوا آمنوا "، أن الحق يخاطبكم بلفظ الإيمان ويريد أن يتصل إيمانكم بعد كلامه الحق مع إيمانكم قبل كلامه، فلا ينقطع ولا ينفصم خيط الإيمان أبدا، بل لا بد من المداومة على الإيمان وألا يترك مؤمن هذا الشرف، فإن رأى واحد منكم منادى بوصف طلب منه الوصف بعده فليعلم أن المراد هو المداومة.
ونعلم أن الحق هنا يخاطب مؤمنين ومنافقين وأهل الكتاب، لذلك فلا بد أن تشملهم الآية :" يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " لأن الإنسان إن آمن بالله فقط، فهذا يقتضي أن يبحث المؤمن بالله عن مطلوب الله ومطلوب الله إنما جاء به رسول. لذلك فالإيمان بالله يقضي أن يؤمن الإنسان برسول، لأن قصارى ما يعطيك العقل أيها الإنسان أن تؤمن بأن وراء الكون إلها خلقه ويدبره، ولكن ما اسم هذا الإله ؟ لا يعرف الإنسان ذلك إلا عن طريق الرسول.
إن هذه الأمور لا تعرف بالعقل ولكن لا بد من الإخبار بها، وكذلك مطلوبات الله، وكذلك جزاء المؤمنين على حسن إيمانهم، ولذلك لا بد من مجيء رسول للبلاغ.
إذن فلا بد مع الإيمان بالله أن تؤمن بالرسول ومادمت أيها المؤمن قد آمنت برسوله فلا بد أن تؤمن بالكتب التي جاءت على لسان الرسول، وهذه الكتب تقول لك : إن هناك خلقا لله لا تراهم وهم الملائكة والملك يأتي بالوحي وينزل به على الرسول على الرغم من أنك لم تر الملك فأنت تؤمن بوجوده.
إذن فالقمة الإيمانية هي أن تؤمن بالله، ولازمها أن تؤمن برسول الله وأن تؤمن بكتاب مع الرسول وأن تؤمن بما يقوله الله عن خلق لا تستطيع أن تدركهم كالملائكة وهذا الأمر بالإيمان هو مطلوب من أهل الكتاب لأنهم آمنوا برسلهم، ويطلب منهم أن يؤمنوا برسول الله وبما أنزل عليه، ويترك الحق سبحانه وتعالى لخلقه أن يكتشفوا وجودا لكائنات لم تكن معلومة لأنهم حدثوا بأن في الكون كائنات أبلغنا الله بوجودها ولا ندركها وهم الملائكة إذن فالدليل عندهم يحثهم ويدفعهم إلى الكشف والبحث.
والمثال على ذلك الميكروب الذي لم تعرفه البشرية إلا في القرن السابع عشر الميلادي وكان الميكروب موجودا من البداية، لكننا لم نكن ندركه وبعد أن توصلت البشرية إلى صناعة المجاهر أدركناه وعرفنا خصائصه وفصائله وأنواعه ومازالت الاكتشافات تسعى إلى معرفة الجديد فيه، هو جديد بالنسبة لنا، لكنه قديم في وجوده.
ومعنى ذلك أن الله يوضح لنا : إذا حدثت أيها الإنسان من صادق على أن في الكون خلقا لا تدركه أنت الآن فعليك بالتصديق فقبل اكتشاف الميكروب لو حدث الناس أحد بوجود الميكروب في أثناء ظلام العصور الوسطى لما صدقوا ذلك، على الرغم من أن الميكروب مادة من مادة الإنسان نفسها لكنه صغير الحجم بحيث لا توجد آلة إدراك تدركه وعندما اخترعنا واكتشفنا الأشياء التي تضاعف صورة الشيء مئات المرات استطعنا رؤيته فعدم رؤية الشيء لا يعني أنه غير موجود.
فإذا ما حدثنا الله عن خلق الملائكة والجن والشيطان الذي يجري في الإنسان مجرى الدم، فهنا يجب أن يصدق ويؤمن الكافر والملحد بذلك لأنه يصدق أن الميكروب يدخل الجسم دون أن يشعر الإنسان وبعد ذلك يتفاعل مع الدم ثم تظهر أعراض المرض من بعد ذلك وقد علم ذلك بعد أن تهيأت أسباب الرؤية والعلم فإذا كان الله قد خلق أجناسا من غير جنس مادة الإنسان فلنصدق الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾( من الآية١٣٦سورة النساء ).
والمعروف أن الكتاب هو القرآن وهو علم عليه، أما الكتاب الذي أنزل من قبل فلنعرف أن المراد به هو جنس الكتاب أي كل الكتب التي نزلت على الرسل السابقين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك يقال على " ال " السابقة لكلمة الكتاب الثانية : هي " ال " الجنسية والجنس كما نعلم تحته أفراد كثيرة بدليل أن الحق سبحانه يأتي بالمفرد ويدخل عليه الألف واللام ويستثني منه جماعة، مثال ذلك :
﴿ والعصر( ١ )إن الإنسان لفي خسر( ٢ )إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾( سورة العصر )
نجد " الإنسان " هنا مفرد، ودخلت عليه " ال "، واستثنى من الإنسان جماعة هم الذين آمنوا وهذا دليل على أن " الإنسان " أكثر من جماعة، ولذلك يقولون : إن الاستثناء معيار العموم أي أن اللفظ الذي استثنينا وأخذنا وأخرجنا منه لفظ عام.
ويطالبنا الحق بالإيمان بالكتاب أي القرآن، فإذا أطلقت كلمة " الكتاب " انصرفت إلى القرآن، لأن " ال " هنا( للغلبة )، مثال ذلك : يقال :" هو الرجل "، وهذا يعني أنه رجل متفرد بمزايا الرجولة وشهامتها وقوتها فإذا أطلقنا الكتاب فهي تعني القرآن، لأن كلمة الكتاب غلب إطلاقها على القرآن فلا تنصرف إلا إليه، أو أنه هو الكتاب الكامل الذي لا نسخ ولا تبديل له، ف " ال " هنا للكمال أما الكتاب الذي أنزل من قبل فهو يشمل التوراة والإنجيل وسائر الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء السابقين.
" ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا " أي إن آمن بالله وكفر ببقية ما ذكر في الآية فهو كافر أيضا.
وكان بعض اليهود كعبد الله بن سلام وسلام بن أخته وسلمة بن أخيه، وأسد وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، ويامين بن يامين قد ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : نحن نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال عليه الصلاة والسلام :" بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله " فقالوا : لا نفعل فنزلت فآمنوا كلهم١.
والخطاب والنداء يشمل أيضا المنافقين أي يا أيها الذين آمنوا في الظاهر نفاقا، أخلصوا لله واجعلوا قلوبكم مطابقة لألسنتكم فالنداء إذن يشمل المؤمنين ليستديموا ويستمروا على إيمانهم ويضم الكافرين من أهل الكتاب ليؤمنوا بكل رسول وبكل كتاب، وهو أيضا للمنافقين ليخلصوا في إيمانهم حتى تطابق وتوافق قلوبهم ألسنتهم.
إذن فمن كفر بأي شيء ذكره الله في هذه الآية فقد كفر بالله.
" ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا، و " ضل " أي سار على غير هدى، فعندما يتوه الإنسان عن هدفه المقصود يقال : ضل الطريق والذي " ضل ضلالا بعيدا " هو من يذهب إلى متاهة بعيدة، والمقصود بها متاهة الكفر.
وهناك ضلال عن الهدى يمكن استدراكه أما الضلال البعيد والغرق في متاهة الكفر فمن الصعب استدراكه والضلال متحدون في نقطة البداية، لكنهم فريقان يختلفان فأحدهما يسير في طريق الإيمان وهو منتبه دائما إلى غايته وهي رضاء الله بتطبيق مطلوباته ويحذر أن يخالف عن أمره والآخر انحرف من البداية فوصل إلى متاهة الكفر.
.
﴿ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا( ١٣٧ ) ﴾.
وهؤلاء هم المنافقون الذين أعلنوا الإيمان وأبطنوا الكفر وقال الله عنهم :
﴿ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون( ٧٢ ) ﴾( سورة آل عمران ).
إذن هم حولوا الإيمان من عقيدة إلى مجرد كلمة تقال، وكانوا في غاية الحرص على تأدية مطلوبات الإسلام بالأعمال الظاهرية حتى يدفعوا عن إسلامهم الريبة، أما قلوبهم فهي مع الكفر لذلك أرادوا أن يلبسوا في المنطق ويدلسوا فيه.
﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾( من الآية١٤سورة الحجرات ).
ويفضحهم الحق أمام أنفسهم وبالله عندما يعرفون أنهم مجرد مسلمين باللسان ولكن قلوبهم لم تؤمن ويخبرهم الرسول بذلك ويقول لهم بلاغا عن الله : " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " وكانوا أسبق الناس إلى صفوف الصلاة وعندما فضحهم الرسول وأوضح لهم : أنتم لم تؤمنوا ولكنكم أسلمتم فقط، هنا عرفوا أن محمدا قد عرف خبايا قلوبهم بلاغا عن الله.
ولو قالوا إن محمدا هو الذي عرف هذه الخبايا لما اقتصر اعترافهم به كرسول، بل ربما تمادوا في الغي وأرادوا أن يجعلوه إلها، ولكن رسول الله يحسم الأمر : ويبين لهم أن الله هو الذي أبلغني بدليل أنه أمر أن يقول لهم :" قل لم تؤمنوا ".
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقر بأن هذا الأمر ليس فيه شيء من عنده بل هو مأمور بالبلاغ عن الله ربه، وفي عصرنا قال برناردشو : إن الذين يكذبون أن محمدا رسول من عند الله يريدون أن يجعلوه إلها، فمن أين أتى بهذه الأشياء التي لم تكن معلومة في عصره ؟.
إن الناس جميعا مطالبون بالتصديق بمحمد رسولا من عند الله، لأنه قال عن أشياء لا يمكن أن يقولها واحد من البشر والرسول صلى الله عليه وسلم بذاته يوضح بحسم هذا الكلام ويبين أن هذا ليس من عندي لكنه من عند الله.
" قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ". وهذا كشف محرج ومنطقي لما في قلوبهم لهذا قال السامعون للآية : الحمد لله أن هناك أملا في أن يدخل الإيمان قلوبنا وقد دخل الإيمان في قلوبهم بالفعل لأن كلمة( لما )تفيد نفي الإيمان عنهم في الزمن الماضي ولكنها تفيد أيضا توقع وحصول الإيمان منهم وقد حصل.
" إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا " أي ماتوا على الكفر، أو آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى وجاء أناس آخرون آمنوا بعيسى، وازدادوا كفرا بعدم الإيمان بمحمد فليس من بعد محمد صلى الله عليه وسلم استدراك.
ويخبرنا سبحانه بمصيرهم :" لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا "، لأنهم دخلوا في الإيمان مرة ثم خرجوا من الإيمان، ومعنى سلوكهم أنهم قصدوا الفتنة لأن الآخرين سيشاهدونهم وقد آمنوا، وسيشاهدونهم وهم يكفرون، وسيعللون ذلك بأنهم عندما تعمقوا في المسائل العقدية كفروا وهم يفعلون ذلك ليهونوا من شأن الإسلام ولذلك يقول سبحانه وتعالى :﴿ وقال طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون( ٧٢ ) ﴾( سورة آل عمران ).
هم إذن يقصدون الفتنة بإظهار الإيمان ثم إعلانهم الكفر وفي ذلك تشكيك للمسلمين ويكون مصير من تردد بين الإيمان والكفر وكان عاقبة أمرهم أنهم ازدادوا كفرا يكون مصيرهم ما جاء في قوله : " لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " فهم قد دخلوا في الخيانة العظمى الإيمانية التي يحكمها قوله الحق :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾( من الآية٤٨سورة النساء ).
ويقول الحق عنهم هنا :" لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } والهداية كما نعلم ترد بمعان متعددة فقد يكون المقصود منها الدلالة فإن شئت تدخل الإيمان وإن شئت لا، ولا شأن لأحد بك، والمعنى الثاني هو المعونة أي يقدم لك الله ما يهديك بالفعل، وعندما تعرض القرآن لهذه المسألة قال :﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون( ١٧ ) ﴾( سورة فصلت ).
فسبحانه هنا قد دلهم على الهداية ولم يقدم لهم الهداية الفعلية لأنهم استحبوا العمى على الهدى فكأن الله قد دل على المنهج الذي يوصل الخير والبر لكل الناس، فمن أقبل بإيمان يمده بهداية المعونة ويعاونه على ازدياد الهدى مصداقا لقوله.
﴿ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ﴾( من الآية١٣سورة الكهف ).
ولا نريد لهذا المثل أن يغيب عن الأذهان لذلك أؤكده دائما : شرطي المرور الواقف في بداية الطريق الصحراوي يسأله سائل : ذاهب إلى الإسكندرية عن الطريق، فيدله على الطريق الموصل للإسكندرية هنا قام الشرطي بالدلالة ثم شكر الرجل الشرطي وحمد الله على حسن شرح الشرطي، ويحس ويشعر رجل المرور بالسعادة ويحذر الرجل المسافر من عقبات الطريق ويركب معه ليشير له على تلك العقبات حتى يتفاداها أي أنه من بعد الدلالة قد حدثت المعونة كذلك الحق يدل الناس على الإيمان وعلى المنهج فالذي يؤمن به يساعده ويخفف عليه الطاعة، قال الحق سبحانه في شأن الصلاة :
﴿ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ﴾( من الآية٤٥سورة البقرة ).
إذن نحن نجد الهداية على مرحلتين هداية الدلالة وهداية المعونة.
ويريد الحق لقضية الإيمان أن تكون قضية ثابتة متأصلة بحيث لا تطفو إلى العقل لتناقش من جديد فمبدأ الإيمان لا يتغير في مواكب الرسالات من سيدنا آدم إلى أن ختمها بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا( ١٣٦ ) ﴾( سورة النساء ).
إذن سبحانه يريد من المؤمن أن يؤمن بالقمة العليا، وهي الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى، وأن يؤمن بالبلاغ عنه كتابا وأن يؤمن بالبلاغ عنه رسالة على لسان أي رسول والذين يؤمنون مرة برسول ثم يكفرون برسول آخر، أو الذين يؤمنون برسول ثم يكفرون بنسبة الصاحبة أو الولد لله ثم يزدادون كفرا بالخاتم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لهم مجال مع الهداية إلى الله لأن الإسلام جاء بالنهاية الخاتمة وليس للسماء من بعد ذلك استدراك، وليس لأحد من بعد ذلك استدراك ولذلك قال في أول الآية :" آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا " وقال في آخر الآية : " ثم ازدادوا كفرا " أي أنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وليس هناك مجال أن ينتظروا رسولا آخر لينسخوا كفرهم بمحمد ويؤمنوا بالرسول الجديد.
ويوضح سبحانه : لم يكن الله ليهديهم لأنهم هم الذين صرفوا أنفسهم عنه، فالله لا يمنع الهداية عمن قدم يده ومدها إليه، بل يعاونه في هدايته أما من ينقض يده من يد الله فلا يبايعه على الإيمان فالله غني عنه، ومادام الله غنيا عنه فسيظل في ضلاله لأن الهداية لا تكون إلا من الله ولم يكن الله ليهديهم سبيلا إلى هداية أخرى ولا هادي إلا هو، ولم يكن ليهديهم سبيلا إلى الجنة لأنهم لم يقدموا الأسباب التي تؤهلهم للدخول إلى الجنة.
ولذلك يشرحها الله في آية أخرى :﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا( ١٦٨ )إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا ﴾( من الآية١٦٨ومن الآية١٦٩سورة النساء )
وهكذا نجد طريق جهنم معبدا مذللا بالنسبة لهم.
سمة التردد والتذبذب بين الإيمان والكفر لا تأتي من أصيل في الإيمان، بل تأتي من متلون في الإيمان تبدو له أسباب فيؤمن، وبعد هذا تبدو له أغيار فيكفر وذلك شأن المنافقين المذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء فيقول الحق :" بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ".
ونحن نعلم أن المنافق هو الذي جمع بين أمرين : إعلان إسلام وإبطان كفر، والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع وهي إحدى جحوره التي يستتر ويختفي فيها، واليربوع حيوان صحراوي يخادع من يريد به شرا فيفتح لنفسه بابين يدخل أمام الرجل من باب ثم يخرج من باب آخر فإن انتظره الرجل على باب فاليربوع يخرج من الآخر.
" بشر المنافقين " والبشارة هي الإخبار بشيء يسر سيأتي زمنه بعد، وهل المنافقون يبشرون ؟ لا إن البشارة تكون بخير لذلك نتوقع أن ينذر المنافقون ولا يبشرون ولكن لله في أساليبه البلاغية تعبيرات لتصعيد العذاب فلو قال :
أنذرهم بعذاب أليم، لكان الكلام محتملا فهم كمنافقين مستعدون لسماع الشر ولكن الحق يقول :" بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " وذلك هو التهكم والاستهزاء والسخرية، وهي من معينات البليغ على أداء مهمته البلاغية ونسمع المفارقات أحيانا لتعطينا صورة أصدق من الحقيقة فإذا جئت إلى بخيل مثلا وقلت له : مرحبا بك يا حاتم ماذا يكون موقف من يحضر هذا اللقاء ؟.
أنت تنقله من واقع البخيل إلى تصور حاتم الطائي أصل الكرم وبذلك نقلت البخيل نقلتين : نقلة من وضعه كبخيل ثم السخرية منه لأن قولك لبخيل ما : يا حاتم هو تقريع وتهكم وسخرية واستهزاء لأنك نقلته من وصف خسيس وحقير إلى وصف مقابل هو سام ورفيع وعظيم تحقيرا له واستهزاء به، ومن المقارنة يبدو الفارق كبير، وإذا ما جئت مثلا لرجل طويل جدا وقلت : مرحبا بك يا قزم هذه هي المفارقة كما تقول لقصير : مرحبا يا مارد أو إذا جئت لطويل لتصافحه فيجلس على الأرض ليسلم عليك هذه أيضا مفارقة وإن جئت لرجل قصير لتصافحه فتجلس على الأرض لتسلم عليه فهذه هي السخرية والتهكم.
وهذه المفارقات إنما تأتي للأداء البلاغي للمعنى الذي يريده المتكلم فقول الحق :" بشر المنافقين " معناه : أنكم أيها المنافقون قد صنعتم لأنفسكم بالنفاق ما كنتم تحبون، وكأنكم نافقتم لأنكم تحبون العذاب، ومادمتم قد نافقتم لأنكم تحبون العذاب، فأنا أبشركم بأنكم ستتعذبون والذي ينافق ألا يريد من ذلك غاية ؟ لذلك يصور له الحق أن غايته هي العذاب فقال الحق :" بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ".
إنك حين تريد تصعيد أمر ما، فأنت تنقل مخاطبك من شيء إلى الشيء المقابل وهو النقيض مثال ذلك : إنسان عطشان لأنه محجوز أو مسجون وأراد أن يشرب شربة ماء، من الممكن أن يقول له الحارس : لا، ويجعله ييأس من أن يأتي له بكوب ماء، أما إن أراد الحارس تصعيد العذاب له فهو يذهب ويأتي بكوب ماء ويقربه منه فإذا مد السجين يده ليأخذ كوب الماء فيسكب الحارس كوب الماء على الأرض هذا هو تصعيد العذاب وحين يقال : " بشر " فالمستمع يفهم أن هناك شيئا يسر، فإذا قال الحق : " بأن لهم عذابا أليما " فمعنى ذلك أن الغم يأتي مركبا فقد بسط الحق أنفسهم بالبشارة أولا ثم أنهاها بالنذارة.
وعلى سبيل المثال ولله المثل الأعلى يقول الأب لابنه : استذكر يا بني حتى لا ترسب، لكن الابن يستمر في اللعب ثم يقول الأب : يا بني لقد اقترب الامتحان ولا بد أن تذاكر ولا يأبه الابن لكلام الأب ثم يأتي الامتحان ويذهب الأب يوم إعلان النتيجة فيكون الابن راسبا فيقول الأب لابنه : أهنئك لقد رسبت في الامتحان فقوله أهنئك تبسط نفس الابن لأنه يتوقع سماع خبر سار، ويسمع بعدها لقد رسبت تعطيه الشعور بالقبض.
والحق سبحانه وتعالى يبلغ رسوله : " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " " بشر " لها علاقة بالمدلول الاشتقاقي لأن الانفعالات يظهر أثرها على بشرة وجهه فإن كان الانفعال حزنا فالوجه يظهر عليه الحزن بالانقباض وإن كان الانفعال سرورا فالوجه يظهر عليه السرور بالانبساط وتعكس البشرة انفعالات النفس البشرية من سرور وبشاشة وإشراق أو عبوس وتجهم فالبشارة تصلح للإخبار بخبر يسر أو بخبر يحزن ويسيء ولكنها غلبت على الخبر السار وخصت النذارة بالخبر الذي يحزن وتنقبض النفس له.
" بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ". والبشارة كما قلنا توحي بأن هناك خبرا سارا، فيأتي الخبر غير سار وكما يقول الحق في آية أخرى يصور بها عذاب الكافرين يوم القيامة وكيف أنه يصعد العذاب معهم.
﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا ﴾( من الآية ٢٩سورة الكهف ).
ساعة نسمع " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء " نفهم أن بردا يأتي لهم أو رحمة تهب عليهم ولكن الإغاثة التي تأتي لهم هي " كالمهل " ( من الآية ٢٩ سورة الكهف ).
ويتساءل السامع أو القارئ : هل هذه إغاثة أو تعذيب ؟ وهذا تصوير لتصعيد العذاب، فالماء الذي يعطى لهم كالمهل يصعد الألم في نفوسهم.
والعذاب كما نعلم يأخذ قوته من المعذب فإن كان المعذب ذا قوة محدودة كان العذاب محدودا وإن كان المعذب غير محدود القوة فالعذاب غير محدود فإذا ما نسب العذاب إلى قوة القوي وهو الله فكيف يكون ؟ والعذاب يوصف مرة بأنه أليم، ومرة بأنه مهين، ومرة بأنه عظيم هذه الأوصاف كلها تتجمع ولكل وصف منها جهة، فالألم هو إحساس النفس بما يتعبها والعذاب العظيم هو العذاب الذي يبلغ القمة وقد يبلغ العذاب القمة ولكن المعذب يتجلد، وعذاب الحق يفوق قدرة متلقي العذاب فلا يقدر أن يكتم الألم، لأن درجة تحمل أي إنسان مهما تجلد لا تستطيع أن تدفع الألم، ومع العذاب العظيم نجده أليما أيضا فيكون العذاب الأليم العظيم مؤلما للمادة لكن النفس قد تكون متجلدة متأبية ثم تنهار حينئذ يكون العذاب مهينا.
﴿ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا( ١٣٩ ) ﴾.
أول مظهر من مظاهر النفاق أن يتخذ المنافق الكافر وليا له يقرب منه ويوده ويستمد منه النصرة والمعونة والمؤانسة والمجالسة ويترك المؤمنين وعرفنا أن كل فعل من الأفعال البشرية لابد أن يحدث لغاية تطلب منه، ولا يتجرد الفعل عن الغاية إلا في المجنون الذي يفعل الأفعال بدون أي غاية، لكن العاقل يفعل الفعل لغاية ولهدف يرجو والمنافقون يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين لأي غاية ولأي هدف ؟
ويكشف الحق هذه المسألة فيوضح : أنهم يبتغون العزة من الكافرين ولذلك اتخذوهم أولياء من دون المؤمنين ويلفتهم جل شأنه إلى جهلهم لأنهم أخذوا طريقا يوصلهم إلى ما هو ضد الغاية.
فماداموا يبتغون العزة فليعرفوا أولا : ما العزة ؟ العزة مأخوذة من معنى مادي وهو الصلابة والشدة فالأرض العزاز أي الصلبة التي لا ينال منها المعول ثم نقلت إلى كل شيء فكل شيء شديد فيه عزة والمرد بها هنا : الغلبة والنصر وكل هذه المعاني تتضمنها العزة.
فإذا قيل : الله عزيز أي أنه سبحانه وتعالى غالب على أمره شديد لا يمكن أن يقدر على محاله أو مكره أو قوته أو عقابه أحد وإذا قيل : فلان عزيز أي لا يغلب وإذا قيل : هذا الشيء عزيز أي نادر ومادام الشيء نادرا فهو نفيس والمعادن النفسية كلها أخذت حظها من ندرتها وقلتها.
وما دمتم أيها المنافقون تطلبون العزة، ألا تطلبونها ممن عنده ؟ أتطلبونها من نظائركم ؟ وعندما تطلبون العزة فذلك لأنكم لا تملكون عزة ذاتية فلو كانت عندكم عزة ذاتية لما طلبتم العزة من عند الكافرين وهذا دليل على فقدانهم العزة لأنهم طلبوها من مساو لهم من الأغيار فالمنافقون بشر والكفار بشر وبما أن كل البشر أغيار فمن الممكن أن يكونوا أعزاء اليوم وأذلاء غدا، لأن أسباب العزة هي غنى أو قوة أو جاه وكل هذه من الأغيار.
فأنتم أيها المنافقون قد طلبتم العزة ممن لم يزد عليكم وهو من الأغيار مثلكم ولم تطلبوها من صاحب العزة الذاتية الأزلية الأبدية وهو الحق سبحانه وتعالى ولو أردتم العزة الحقيقية التي تغنيكم عن الطلب من الأغيار مثلكم فلتذهبوا إلى مصدر العزة الذي لا تناله الأغيار وهو الحق سبحانه وتعالى.
لذلك أوضح لهم الحق : إن أردتم أن تتعلموا طلب العزة فعليكم أن تغيروا من أسلوبكم في طلبها فأنتم تتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتبتغون عندهم العزة وهم من أهل الأغيار والأغيار تتبدل من يوم إلى يوم فإن كان الكفار أغنياء اليوم، فغدا لن يكونوا كذلك ولقد رأيتم كبشر أن الغني يفتقر، ورأيتم قويا قد ضعف، وطلب العزة من الأغيار يعني أنكم غير أعزاء، ومع ذلك فأنتم تطلبون العزة من غير موضعها فإن أردتم عزة حقيقية فاطلبوها ممن لا تتغير عزته وهو الحق سبحانه وتعالى :" فإن العزة لله جميعا ".
وفي هذا القول تصويب لطلب العزة وليطلب كل إنسان العزة إيمانا بالله، فسبحانه الذي يهب العزة ولا تتغير عزته :" فإن العزة لله جميعا ". وكلمة " جميعا " هذه دلت على أن العزة لها أفراد شتى : عزة غني عزة سلطان عزة جاه فإن أراد واحد أن يعرفها ويعلمها فهي جميعا في الحق سبحانه وتعالى.
والمؤمنون في عبوديتهم لله عبيد لإله واحد وقد أغنانا الله بالعبودية له عن أن نذل لأناس كثيرين وسبحانه قد أنقذ المؤمن بالإيمان من أن يذل نفسه لأي مصدر من مصادر القوة، أنقذ الضعيف من أن يذل نفسه لقوي، وأنقذ الفقير من أن يذل نفسه لغني وأنقذ المريض من أن يذل نفسه لصحيح.
إذن ساعة يقول الحق :" فإن العزة لله جميعا " فمعناها : إن أردت أيها الإنسان عزا ينتظم ويفوق كل عز فاذهب إلى الله لأنه سبحانه أعزنا فنحن خلقه وعلى سبيل المثال نجد أن الحق لم يجعل الفقير يقترض بل قال :
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ﴾( من الآية٢٤٥سورة البقرة ).
وهنا يرفع الله عبده الفقير إلى أعلى درجات العزة، العبد الفقير لا يقترض ولكن القرض مطلوب لله، ولذلك قال أحدهم لأحد الضعفاء إنك تسأل الناس، ألا تعف ولا تسأل ؟ فقال : أنا سألت الناس بأمر الله فالسائل يسأل بالله أي أنه يتخذ الله شفيعا ويسأل به وعندما يطلب الإنسان العزة من مثيل له فهو يعتز بقوة هذا الكائن وهي قوة ممنوحة له من الله وقد يستردها سبحانه منه، فما بالنا بالقوة اللانهائية لله، وكل قوة في الدنيا موهوبة من الله المال موهوب منه والجاه موهوب منه وكل عزة هي لله.
﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا( ١٤٠ ) ﴾.
يأمر الحق المؤمنين أنهم إذا سمعوا بعضا من الكافرين يهزأ بآيات الله أو يكفر بها فلا يقعدوا معهم إلا أن يتحولوا إلى حديث آخر وذلك حتى لا يكونوا مثل الكافرين لأنه سبحانه سيجمع المنافقين والكافرين في جهنم، وبذلك يحمي الله وحده أهل الإيمان ويصونهم من أي تهجم عليهم فالذين يغارون على الإيمان هم الذين آمنوا فما دمت قد آمنت وارتضيت لنفسك الإسلام فإياك أن تهادن من يتهجم على الدين لأنك إن هادنته كان أعز في نفسك من الإيمان ومادمت أيها المؤمن قد ارتضيت الإيمان طريقا لك وعقيدة فلتحم هذا الإيمان من أن يتهجم عليه أحد، فإن اجترأ أحد على الإيمان بشيء من النقد أو السخرية أو الرمي بالباطل فالغيرة الإيمانية للمسلم تحتم عليه أن يرفض هذا المجلس.
وكان المؤمنون في البداية قلة مستضعفة لا تستطيع الوقوف في وجه الكافرين أو المنافقين فساعة يترك المؤمنون الكافرين أو المنافقين لحظة اللغو في آيات الله، فالكافرون والمنافقون يعلمون بذلك السلوك أن عرض الإيمان أعز على المسلمين من مجالسة هؤلاء أما إذا جالسهم مسلم وهم يخوضون في الإيمان فهذا يعني أنهم أعز من الإيمان والكافرون قد يجعلونها حديثا مستمرا لسبر غور الإيمان في قلوب المسلمين أما حين يرى الكافر مؤمنا يهب وينفر من أي حديث فيه سخرية من الإسلام، هنا يعرف الكافر أن إيمان المسلم عزيز عليه.
وهذه الآية ليست آية ابتدائية إنما هي إشارة إلى حكم سبق، ونعرف أنها نزلت في المدينة فالحق يقول :" وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها " ومعنى هذا أن هناك آية قد نزلت قبل في مكة ويقول فيها الحق :
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين( ٦٨ ) ﴾( سورة الأنعام ).
ويشير الحق هنا إلى أنه قد أنزل حكما في البداية وهو الحكم الذي نزل مع الكافرين في مكة، حيث استضعف الكافرون المؤمنين ولم يكن المنهج الإيماني قد جاء بمنع المؤمنين أن يجالسوا الكافرين، فقد كان بعض المؤمنين عبيدا للكافرين وبعض المسلمين الأوائل كان لهم مصالح مشتركة قائمة مع الكافرين وجاء الحكم : إن ولغ هؤلاء الكافرون في الدين بالباطل فاتركوا لهم المكان.
وسبحانه هنا في سورة النساء يذكر المؤمنين بأن حكم ترك الكافرين لحظة اللغو في الإيمان هو حكم ممتد منقول للمؤمنين من البيئة الأولى حيث كنتم أيها المؤمنون مع المشركين عبدة الأصنام والحكم مستمر أيضا في المدينة حيث يوجد بعض أهل الكتاب، والتكليف من الله هو تكليف بما يطيقه الجنس البشري فالإنسان عرضة لأن ينسى وعليه بمجرد أن يتذكر فليقم تاركا هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله وقد نزل في القرآن أن إذا سمع المؤمنون من يكفر بآيات لله ويستهزئ بها فليغادروا المكان، ونلحظ أن الذي نزل في الآية الأولى ليس سماعا بل رؤية :
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ﴾( من الآية٦٨سورة الأنعام )
ويأتي السماع في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها " والمهم هو مجرد العلم سواء كان رؤية أو سماعا بأنهم يخوضون في دين الله، فقد يخوض أهل الشرك أو غيرهم من أعداء الإسلام بما يرى وقد يخوضون بما يسمع، وقد يخوض بعض المشركين بالغمز أو اللمز من فور رؤيتهم لمسلم.
وقوله الحق :" فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " يوحي أنهم إذا ما خاضوا في حديث غير الخوض في آيات الله فليقعد المؤمنون معهم، وكان ذلك في صدر الإسلام، والمؤمنون لهم مصالح مشتركة مع المشركين وأهل الكتاب، ولا يستطيع المجتمع الإسلامي آنئذ أن يتميز بوحدته فلو قال لهم الحق على لسان رسوله : لا تقعدوا مع الكافرين أو المشركين فورا لكان في ذلك قطع لمصالح المؤمنين.
وكلمة " يخوضون " تعطي معنى واضحا مجسما، لأن الأصل في الخوض أن تدخل في مائع أي سائل، مثل الخوض في المياه أو الطين والقصد في الدخول في سائل أو مائع هو إيجاد منفذ إلى غاية.
وساعة تخوض في مائع فالمائع لا ينفصل حتى يصير جزءا هنا وجزءا هناك ويفسح لك طريقا بل مجرد أن يمشي الإنسان ويترك المائع يختلط المائع مرة أخرى، ولذلك يستحيل أن تصنع في المائع طريقا لك أما إذا دخل الإنسان في طريق رملي فهو يزيح الرمال أولا ويفسح لنفسه طريقا ولا تعود الرمال إلى سد الطريق إلا بفعل فاعل، وأخذوا من هذا المعنى وصف الأمر الباطل بأنه خوض. ذلك أن الباطل لا هدف له وهو مختلط ومرتبك والجدال في الباطل لا ينتهي إلى نتيجة.
إذن " الخوض " هو الدخول في باطل أو الدخول إلى ما لا ينتهي الكلام فيه إلى غاية ويقرر العلماء : لا تخوضوا في مسألة الصفات العلية لأنه لا يصح الخوض فيها والكلام فيها لن ينتهي إلى غاية، ولذلك يقول الحق في موقع آخر بالقرآن الكريم :
﴿ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون( ٩١ ) ﴾( سورة الأنعام ).
لقد أبلغتهم يا محمد أن الذي أنزل الكتاب عليك هو الحق سبحانه وتعالى الذي أنزل من قبل التوراة فأخفيتم بعضها وأظهرتم البعض الآخر، ثم بعد البلاغ أتركهم يخوضون في باطلهم.
وفي موقع آخر يتكلم الحق من الخوض :﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون( ٦٤ )ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون( ٦٥ ) ﴾( سورة التوبة ).
إذن الخوض هو الدخول في مائع، ومادمت قد دخلت في مائع فلن تجد فيه طريقا محددا بل يختلط المدخول فيه بالمدخول عليه فلا تتميز الأشياء وأخذ منه الخوض بالباطل أو الخوض باللعب الذي ليس فيه غاية.
" وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ".
وتأتي الكلمة التي ترهب المؤمن وترعبه :" إنكم إذا مثلهم " أي إنكم إذا قعدتم معهم وهم يخوضون في آيات الله تكفرون مثلهم، لأنكم تسمعون الخوض في الدين بالباطل ومن يرض بالكفر يكفر.
لقد أعطتنا الآية مرحلية أولية فإذا ما كانت البيئة الإيمانية مجتمعا ذاتيا متكافلا فليس لأحد من المؤمنين أن يجالس الكافرين ولا نواليهم إلا إذا والونا لأن الجلوس معهم في أثناء الخوض في الدين يجرئهم على مناهج الله وعلى المؤمن أن ينهر أي ساخر من الدين، وعلى المؤمنين أن يعرضوا عمن ينحرف عن منهج الله أو يتعرض له، ولكن المجتمعات المعاصرة تكرم من يخوض بالباطل وفي ذلك إغراء للناس على أن يخوضوا في الدين بالباطل.
لكن لو أعرضنا عن ذلك فسيلتمس الخارجون عن منهج الله وسيلة غير طريق الاجتراء على الدين والخوض بالباطل في دين الله ومنهجه وفساد المجتمع إنما يأتي من أننا نرى من يخوض في دين الله بالباطل يكرمه البعض ويعطيه مكانة ومنزلة.
وقوله الحق :" وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم " نعلم منه وسيلة للإعلام البشري هي أن يرى الإنسان فعلا أو يسمع قولا، فإن رأيت أيها المسلم فعلا يشجع منهج الفساد في الأرض فاعلم أن ذلك خوض في دين الله بالباطل.
وقوله الحق :" فلا تقعدوا معهم " هو إيذان بالمقاطعة فلو أن إنسانا بهذا الشكل يسكن في منزل ويذهب إلى البقال ليشتري منه شيئا ليأكله فيرفض البيع له، وكذلك الجزار وكذلك أي إنسان في يده مصلحة لمثل هذا الخارج عن المنهج، وبذلك تكون المقاطعة حتى يتأدب ويعلم كل إنسان أن المجتمع غيور على دينه الذي آمن به، وأن الله أعز عليهم من كل تكريم يرونه في مجتمعهم ولو أن كل واحد من هؤلاء المنحرفين والموغلين في الباطل لو رأوا المجتمع وقد قاطعهم ووضع لهم حدودا لذهبوا إلى الصواب ولبحثوا عن شيء آخر ومجال آخر يأكلون العيش منه ويطعمون أولادهم اللقمة الحلال من هذا العمل المشروع.
ويقول الحق :" إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " ولا تستبطئوا هذه الحياة لأن المسلم لا يأخذ الأمور بعمر الدنيا كقرن أو اثنين أو حتى عشرة قرون، بل عليه أن يعرف أن الدنيا بالنسبة له هي عمره فيها، والعمر يمكن أن ينتهي فجأة، ويعمل المسلم لا من أجل الدنيا فقط ولكن من أجل أن يلقى الله مسلما في الآخرة، والمؤمن يخشى أن يحشره الله مع المنافقين والكافرين في جهنم، وهذا مصير من يقبل السخرية أو الاستهزاء بدينه.
{ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا( ١٤١ ).
وقوله الحق : " الذين يتربصون بكم " وصف للمنافقين، ويتربص فلان بفلان، أي أن واحدا يتحفز ليتحسس أخبار آخر، ويرتب حاجته منه على قدر ما يرى من أخبار وعرفنا هذا المعنى من قوله الحق :﴿ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ﴾( من الآية٥٢سورة التوبة )
ويتربص المنافقون بالمؤمنين لأنهم إن وجدوا خيرا قد أتى لهم فهم يريدون الاستفادة منه، وإن جاء شر فالمنافقون يتجهون للاستفادة من الخصوم فظاهرا هم يعلنون الإيمان وهم في باطنهم كفار وهم يتربصون بالمؤمنين انتظارا لما يحدث وليرتبوا أمورهم على ما يجيء.
" الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم " فإن فتح الله بنصره على المؤمنين في معركة وأخذوا مغانم قال المنافقون : " ألم نكن معكم "، فلا بد لنا من سهم في هذه الغنيمة وإذا انتصر الكفار يذهبون إلى الكافرين مصداقا لقول الحق : " وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ".
هم يحاولون إذن الاستفادة من الكفار بقولهم : لقد تربصنا بالمؤمنين وانتظرنا ما يحدث لهم، ولا بد لنا من نصيب ويقول الحق على ألسنتهم :" قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين " واستحوذ على الشيء أي حازه وجعله في حيزه وملكه وسلطانه والحق هو القائل :﴿ استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ﴾( من الآية١٢سورة المجادلة ).
أي جعلهم الشيطان في حيزه، وقول المنافقين للكافرين : " ألم نستحوذ عليكم " يكشف موقفهم عندما تقوم معركة بين معسكري الكفر والإيمان فيحاول المنافقون معرفة تفاصيل ما ينويه المؤمنون، ولحظة أن يدخل المنافقون أرض المعركة فهم يمثلون دور من يأسر الكافرين حماية لهم من سيوف المؤمنين ثم يقولون للكافرين : نحن استحوذنا عليكم أي منعناكم أن يقتلكم المؤمنون ويطلبون منهم الثمن.
ولنر الأداء البياني حين يقول عن انتصار المؤمنين : " فإن كان لكم فتح " أما تعبير القرآن عن انتصار الكافرين فيأتي بكلمة " نصيب " أي مجرد شيء من الغلبة المؤقتة ثم يأتي قول الفصل من الحق : " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ".
وحين يرد الله أمر الكافرين والمؤمنين لا يرده دائما إلى أمد قد لا يطول أجل السامع وعمره ليراه في الدنيا فيأتي له بالمسألة المقطوع بها لذلك لا يقول المؤمن : إنك سوف تنتصر فالمؤمن قد يموت قبل أن يرى الانتصار ولذلك يأتي بالأمر المقطوع وهو يوم القيامة حين تكون الجنة مصيرا مؤكدا لكل مؤمن لأن الحياة أتفه من أن تكون ثمنا للإيمان.
ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نطلب الثمن في الدنيا لأن الغايات تأتي لها الأغيار في هذه الدنيا فنعيم الحياة إما أن يفوت الإنسان وإما أن يفوته الإنسان وثمن الإيمان باق ببقاء من آمنت به، إن القاعدة الإيمانية تقول : من يعمل صالحا يدخل الجنة، والحق يقول عن هؤلاء الصالحين :
﴿ ففي رحمة الله هم فيها خالدون ﴾( من الآية١٠٧سورة آل عمران ).
أي أن الجنة بإبقاء الله لها وهو قادر على إفنائها، أما رحمة الله فلا فناء لها لأنها صفة من صفاته وهو الدائم أبدا وحين يقول الحق سبحانه وتعالى :'فالله يحكم بينكم يوم القيامة " أي لن يوجد نقض لهذا الحكم لأنه لا إله إلا هو وتكون المسألة منتهية وقد حكم الحق سبحانه وتعالى على قوم من أقارب محمد صلى الله عليه وسلم، لقد حكم الله على عم الرسول فقال فيه :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب( ١ )ما أغنى عنه ماله وما كسب( ٢ )سيصلى نارا ذات لهب( ٣ )وامرأته حمالة الحطب( ٤ )في جيدها حبل من المسد( ٥ ) ﴾ ( سورة المسد ).
قول الحق سبحانه :" سيصلى نارا ذات لهب " يدل على أن أبا لهب سيموت على الكفر ولن يهديه الله للإيمان مع أن كثيرا من الذين وقفوا من رسول الله مواقف العداء آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهد معسكر الكفر فقدان عدد من صناديده، ذهبوا إلى معسكر الإيمان فها هو ذا عمر ابن الخطاب وخالد ابن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم كل هؤلاء آمنوا فما الذي كان يدري محمدا صلى الله عليه وسلم أن أبا لهب لن يكون من هؤلاء ؟ ولماذا لم يقل أبا لهب : قال ابن أخي : إنني سأصلي نارا ذات لهب، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقلت كلمة الإيمان. لكنه لم يقل ذلك وعلم الله الذي حكم عليه أنه لن يقول كلمة الإيمان.
ألم يكن باستطاعة أبي لهب وزوجه أن يقولا في جمع : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويتم انتهاء المسألة ؟ ولكن الله الذي لا معقب لحكمه قد قضى بكفرهم وبعد أن ينزل الحق هذا القول الفصل في أبي لهب وزوجه يأتي قول الحق في ترتيبه المصحفي ليقول ما يوضح : إياكم أن تفهموا أن هذه القضية تنقض، فسيصلى أبا لهب نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب، وقال الحق بعدها مباشرة :﴿ قل هو الله أحد( ١ )الله الصمد( ٢ ) ﴾( سورة الإخلاص )، فلا أحد سيغير حكم الله.
إذن فقوله الحق :" فالله يحكم بينهم يوم القيامة " أي لا معقب لحكم الله، فلا إله غيره يعقب عليه﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ﴾ وهذه نتيجة لحكم الله، فلا يمكن أن يحكم الله للكافرين على المؤمنين ولن يكون للكافرين حجة أو قوة أو طريق على المؤمنين وهل هذه القضية تتحقق في الدنيا أو في الآخرة ؟ ونعلم أن الحق يحكم في الآخرة التي تعطلت فيها الأسباب ولكنه جعل الأسباب في الدنيا، فمن أخذ بالأسباب فنتائج الأسباب تعطيه لأن مناط الربوبية يعطي المؤمن والكافر، فإن أخذ الكافرون بالأسباب ولم يأخذ المؤمنون بها فالله يجعل لهم على المؤمنين سبيلا وقد ينهزم المؤمنون أمام الكافرين.
والحكمة العربية تعلمنا : إياك أن تعتبر أن الخطأ ليس من جند الصواب، لأن الإنسان عندما يخطئ يصحح له الخطأ، فعندما يعلم المدرس تلميذه أن الفاعل مرفوع، وأخطأ التلميذ مرة ونصب الفاعل، فهذا يعني أنه أخذ القاعدة أولا ثم سها عنها، والمدرس يصحح له الخطأ فتلتصق القاعدة في رأس التلميذ بأن الفاعل مرفوع وهكذا يكون الخطأ من جنود الصواب والباطل أيضا من جنود الحق.
فعندما يستشري الباطل في الناس يبرز بينهم هاتف الحق وهكذا نرى الباطل نفسه من جند الحق فالباطل هو الذي يظهر اللذعة من استشراء الفساد ويجعل البشر تصرخ وكذلك الألم الذي يصيب الإنسان هو من جنود الشفاء، لأن الألم يقول للإنسان : يا هذا هناك شيء غير طبيعي في هذا المكان ولولا الألم لما ذهب الإنسان إلى الطبيب.
علينا إذن أن نعرف ذلك كقاعدة : الخطأ من جنود الصواب، والباطل من جنود الحق والألم من جنود الشفاء وكل خطأ يقود إلى صواب، ولكن بلذعة وذلك حتى لا ينساه الإنسان، وتاريخ اللغة العربية يحكي عن العلامة سيبويه، وهو من نذكره عندما يلحن أحد بخطأ في اللغة فنقول :" أغضب المخطئ سيبويه "، لأن سيبويه هو الذي وضح النحو والقواعد حتى إننا إذا أطلقنا كلمة الكتاب في عرف اللغة فالمعنى ينصرف إلى كتاب سيبويه فهو مؤلف الكتاب.
وسيبويه لم يكن أصلا عالم نحو بل كان عالم قراءات للقرآن، حدث له أن كان جالسا وعيبت عليه لحنة في مجلس، أي أنه أخطأ في النحو وعاب من حوله ذلك، فغضب من نفسه وحزن، وقال : والله لأجيدن العربية حتى لا ألحن فيها وأصبح مؤلفا في النحو.
ومثال آخر : الإمام الشاطبي رضي الله عنه لم يكن عالم قراءات بل كان عالما في النحو وبعد ذلك جاءت له مشكلة في القراءات فلم يتعرف عليها، فأقسم أن يجلس للقراءات ويدرسها جيدا وصار من بعد ذلك شيخا للقراء، فلحنة أي غلطة هي التي صنعت من سيبويه عالما في النحو، ومشكلة وعدم اهتداء في القراءات جعل من الإمام الشاطبي شيخا للقراء. على الرغم من أن سيبويه كان عالم قراءات والشاطبي كان رجل نحو.
ولذلك أكررها حتى نفهمها جيدا : الخطأ من جنود الصواب والباطل من جنود الحق، والألم من جنود الشفاء والعافية.
وقد نجد الكافرين قد انتصروا في ظاهر الأمر على المؤمنين في بعض المواقع مثل أحد، وكان ذلك للتربية ففي " أحد " خالف بعض المقاتلين من المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الهزيمة مقدمة للتصويب، وكذلك كانت موقعة حنين حينما أعجبتهم الكثرة.
﴿ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ﴾( من الآية٢٥سورة التوبة ).
والشاعر العربي الذي تعرض لهذه المسألة قال :
إن الهزيمة لا تكون هزيمة *** إلا إذا لم تقتلع أسبابها
لكن إذا جهدت لتطرد شائبا *** فالحمق كل الحمق فيمن عابها
فعندما يقتلع الإنسان أسباب الهزيمة تصبح نصرا، وقد حدث ذلك في أحد، هم خالفوا في البداية فغلبهم الأعداء ثم كانت درسا مستفادا أفسح الطريق للنصر.
فإن رأيت أيها المسلم للكافرين سبيلا على المؤمنين فلتعلم أن الإيمان قد تخلخل في نفوس المسلمين فلا نتيجة دون أسباب، وإن أخذ المؤمنون بالأسباب أعطاهم النتائج فهو القائل :
﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾( من الآية٦سورة الأنفال ).
فإن لم يعد المؤمنون ما استطاعوا أو غرتهم الكثرة فالنتيجة هي الهزيمة عن استحقاق، وعلى كل مؤمن أن يضع في يقينه هذا القول الرباني :
﴿ فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ﴾( من الآية٤٣سورة فاطر ).
إن إعلان الإيمان بالله ليس هو نهاية أي شيء بل هو البداية، والمؤمن بالله يأخذ جزاءه على قد عمله ويغار الله على عبده المؤمن عندما يخطئ لذلك يؤدبه ويربيه ولله المثل الأعلى نجد أن الإنسان منا قد لا يصبر على مراجعة الدروس مع أولاده فيأتي بمدرس ليفعل ذلك، لأن حب الأب لأولاده يدفع الأب للانفعال إذا ما أخطأ الولد، وقد يضربه أما المدرس الخارجي فلا ينفعل بل يأخذ الأمور بحجمها العادي، إذن فكلما أحب الإنسان فهو يتدخل بمقياس الود ويقسو أحيانا على من يرحم.
والشاعر العربي يقول :
فقسى ليزدجروا ومن يك حازما *** فليقس أحيانا على من يرحم ومثال آخر ولله المثل الأعلى الإنسان إذا ما دخل منزله ووجد في صحن المنزل أطفالا يلعبون الميسر منهم ابنه وابن الجار، وطفل آخر لا يعرفه فيتجه فورا إلى ابنه ليصفعه ويأمره بالعودة فورا إلى الشقة أما الأولاد الآخرون فلن يأخذ ابن الجار إلا كلمة تأنيب أما الطفل الذي لا يعرفه فلن يتكلم معه.
وهكذا نجد العقاب على قدر المحبة والود، والتأديب على قدر المنزلة في النفس.
ومن لا نهتم بأمره لا نعطي لسلوكه السيئ بالا، وساعة نرى أن للكافرين سبيلا على المؤمنين فلنعلم أن قضية من قضايا الإيمان قد اختلت في نفوسهم ولا يريد الله أن يظلوا هكذا بل يصفيهم الحق من هذه الأخطاء بأن تعضهم الأحداث فينتبهوا إلى أنهم لا يأخذون بأسباب الله.
{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا( ١٤٢ ).
نعرف واقع المنافقين أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويوضح الحق : إياكم أن تظنوا أن في قدرة مخلوق أن يفعل شيئا بدون علم الله، وقد يمكر إنسان بك، وهو يعلم أنك تعلم بمكره فهل هذا مكر ؟ لا، لأن المكر هو الأمر الذي يتم خفية بتدبير لا تعلمه، والأصول في المكر ألا يعلم الممكور به شيئا والمنافقون حين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر يخادعون من يعلم خافية الصدور. وكان يجب أن يأخذوا درسا من معاملة الله بوساطة المؤمنين لهم، فقد صان المؤمنون دم المنافقين ومالهم وأجرى المسلمون على المنافقين أحكام الإسلام، لكن ما الذي يبيته الله لهؤلاء المنافقين ؟ لقد بيت لهم الدرك الأسفل من النار، فمن الأقدر إذن على الخداع ؟.
إن الذكي حقا هو من لا يخدع من يعلم أنه قادر على كشف الخداع، وكلمة " خدع " تعني مكر به مكرا فيبدي له قولا وفعلا ويخفي سواهما حتى يثق فيه، وبعد ذلك ينفذ المكر وهناك كلمة " خدع " وكلمة " خادع " والحق في هذه الآية لم يقل إن الله يخدعهم بل قال :" يخادعون الله وهو خادعهم ".
و " خادع " تعني حدوث عمليتين، مثل قولنا : قاتل فلان فلانا فالقتال يحدث بين طرفين وكذلك نقول : شارك فلان فلانا، لأن مادة " فاعل " تحتاج إلى طرفين لكن عندما نقول " قتل "، فالفعل يحدث من جانب واحد والخداع يبدأ من واحد، وعندما يرى الشخص الذي يراد خداعه أن خصمه أقوى منه فإنه يبيت له خداعا آخر، وتسمى العملية كلها " مخادعة "، ويقال : خادعه فخدعه إذا غلبه وكان أخدع منه ومن إذن الذي غلب ؟ إن الذي بيت الخداع ردا على خداع خصمه هو الغالب.
ولأن الخداع يحدث أولا، وبعد ذلك يتلقى " المخدوع " الأمر بتبييت أكبر، فهو " خادع "، والذي يغلب نقول عنه :" أخدعه "، أي أزال خداعه والله سبحانه وتعالى عاملهم بمثل ما أرادوا أن يعاملوا به المؤمنين فالمنافقون أظهروا الإيمان أولا وأضمروا الكفر، وأعطاهم الله في ظاهر الأمر أحكام المسلمين وفي الباطن قرر أن يعذبهم عذاب الكافرين بل وأشد من ذلك لأنهم سيكونون في الدرك الأسفل من النار.
" إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " وإياك أيها المسلم أن تشتق من هذه العملية اسما لله وتقول " المخادع "، لأن أسماء الله توقيفية أي لا نسمي الله إلا بالأسماء التي سمى بها نفسه وسبحانه يفعل الفعل، لكن لا تأخذ من هذا الفعل اسما، والحق يعطينا هنا " مشاكلة " ليوضح لنا أن المنافقين يمكرون ويبيتون شرا للمؤمنين، وأنت أيها المسلم تعرف أن الإنسان إنما يبيت الشر على قدر طاقته التي مهما كبرت فهي محدودة بجانب طلاقة قدرة الله ولذلك يفضح الله هذا الشر المبيت من هؤلاء المنافقين وهم حين يمكرون فالله بطلاقة قدرته يمكر بهم أي يبطل مكرهم ويجازيهم على سوء فعلتهم ولا نقول :" " الله ماكر "، ولله أن يقول في الفعل المشاكل ما يشاء.
" إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ".
إن الغايات من الأحداث هي التي تضفي على الجوارح الإقبال على الأحداث، فإذا كنت تحب الحدث الذي تقبل عليه فأنت تقبل عليه بكل اشتياق ولهفة ويقيسون لهفة اللقاء لأنها درجة المحبة، والشاعر العربي يصف لقاء حبيب بحبيبته :
لقاء الاثنين يبين حده | تلهف كيف واستطالة مدة |
إذن فالذي يبين قيمة الود : التلهف، الكيفية، المدة، وهذه العناصر الثلاثة أخذها الشعراء للتعبير عن المودة والحب بين البشر وقديما كان الذين يتيمون بالنساء يسترون في السلام مودتهم وفي الحضارة الغربية التي سقطت فيها قيم الأديان نجد أن الرجل يتلقى المرأة بالقبلات.
وفي بعض البلاد نجد الرجل يصافح المرأة، فهل يصافحها بتلهف وهل تبادله هذه اللهفة ؟ فإن وجدت الكف مفرودة ومبسوطة للمصافحة فقط فهذا سلام عادي أما إذا ثنى أحدهما إصبعه البنصر على كف الآخر فعليك أن ترى أي طرف هو الذي قام بثني أصبعه ليحتضن اليد كلها في يده، فإن كان ذلك من الرجل فاللهفة منه، وإن كان من المرأة فاللهفة منها، وإن كان من الاثنين فاللهفة منهما معا، ثم ما المدة التي يستغرقها بقاء اليد في اليد ؟
وقد يحلو لكليهما أن يتكلما معا رجل وامرأة وكأن الكلام قد أخذهما فنسي كل منهما يده في يد الآخر.
سلام نوعين يبين حده | تلهف كيه واستطالة مدة |
" يا بلال أرحنا بالصلاة " ١.
لأن المؤمن يرتاح عندما يؤدي الصلاة، أما المنافق فهي عملية شاقة بالنسبة إليه لأنه يؤديها ليستتر بها عن أعين المسلمين ولذلك يقوم إليها بتكاسل. " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ".
هم يقيمون الصلاة أمام الناس ليخدعوا المسلمين وليشاهدهم غيرهم وهم يصلون، وفي الصلاة التي يراءون بها الناس لا يقولون كل المطلوب منهم لتمامها، يقولون فقط المطلوب قوله جهرا، كأن يقرأوا الفاتحة وبعض القرآن ولكنهم في أثناء الركوع لا يسبحون باسم الله العظيم وكذلك في السجود لا يسبحون باسم الله الأعلى.
ففي داخل كل منافق تياران متعارضان تيار يظهر به مع المؤمنين وآخر مع الكافرين والتيار الذي مع المؤمنين يجبر المنافق على أن يقوم إلى الصلاة ويذكر الله قليلا والتيار الذي مع الكافرين يجعله كسولا عن ذلك، ولا يذكر الله كثيرا.
وإذا ما حسبنا كم شيئا يجهر به المصلي وكم شيئا يجريه سرا، فسنجد أن ما يجريه المصلي سرا في أثناء الصلاة أكثر من الجهر ففي الركوع يقول : سبحان ربي العظيم ثلاث مرات ويقول : سبحان ربي الأعلى، في كل سجود ثلاث مرات، أما المنافق فلا يذكر الله إلا جهرا وهو ذكر قليل ونجد المنافق لا يفعل فعلا إلا إذا كان مرئيا ومسموعا من غيره، هذا هو معنى المراءاة، أما الأعمال والأقوال التي لا ترى من الناس ولا تسمع فلا يؤديها.
ولا يهز المجتمعات ولا يزلزلها ويهدها إلا هذه المراءاة، لأن الحق سبحانه يحب أن يؤدي المسلم كل عمل جاعلا الله في باله، وهو الذي لا تخفى عليه خافية ويلفتنا إلى هذه القضية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول عن الإحسان :
" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ٢.
وإذا كان الإنسان يخجل من أن يغش واحدا مثله من البشر غشا ظاهريا فما بالنا بالذي يحاول غش الله وهو يعلم أن الله يراه ؟ ولماذا يجعل ذلك العبد ربه أهون الناظرين إليه ؟
وعندما يغش واحدا آخر واكتشف الآخر غشه فهو يعاقبه فما بالنا بغش الله ؟ ولذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم ينقل لنا حال المرائي للناس فيقول : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء، يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء ؟ " ٣
وقال صلى الله عليه وسلم :
" إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة " يا فاجر " " يا غادر " يا مرائي " ضل عملك وحبط أجرك فخذ أجرك ممن كنت تعمل له " ٤.
إذن فالمنافق إنما يخدع نفسه، هو يتظاهر بالصلاة ليراه الناس ويزكي ليراه الناس، ويحج ليراه الناس هو يعمل ما أمر الله به، لكنه لا يعمله لله، ولذلك قال القرآن "
﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب( ٢٩ ) ﴾( سورة النور ).
وقال عن لون ثان من نفاقهم :
﴿ كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾( من الآية٢٦٤سورة البقرة ).
والصفوان هو الحجر الأملس تماما وهو الذي ليس فيه خشونة، لأن الحجر إن كان به جزء من خشونة وعليه تراب ثم سقط عليه المطر، فالتراب يتخلل الخشونة أما الحجر الأملس فمن فور نزول المطر ينزلق من عليه التراب ومن يرائي المؤمنين عليه أن يأخذ أجره ممن عمل له.
.
٢ رواه مسلم من حديث جبريل.
.
٣ رواه أحمد والبيهقي في الشعب، والطبراني من رواية محمود بن لبيد عن رافع بن خديج.
.
٤ ابن أبي الدنيا وإسناده ضعيف..
﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا( ١٤٣ ) ﴾.
والشيء المذبذب مثل المعلق في خيط فيأخذه الريح إلى ناحية ليقذفه في ناحية أخرى لأنه غير ثابت، مأخوذ من " المذبة " ومنه جاءت تسمية " الذباب " الذي يذبه الإنسان فيعود مرة أخرى، فمن سلوك الذباب أنه إذا ذب عن مكان لا بد أن يعود إليه.
" مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " فهل هم الذين ذبذبوا أنفسهم أم تلك هي طبيعتهم ؟ ولنتأمل عظمة الحق الذي سوى النفس البشرية ففي الذات الواحدة آمر ومأمور والحق يقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾( من الآية٦سورة التحريم ).
أي أن الإنسان يقي نفسه بأن يجعل الآمر يوجه الأمر للمأمور ويجعل المأمور يطيع الآمر ودليل ذلك قول الحق عن قابيل :﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه ﴾( من الآية٣٠سورة المائدة ).
أي أن جزءا من الذات هو الذي طوع بقية ذات قابيل لتقتل هابيل، فقد خلق الله النفس البشرية كملكات متعددة، ملكة تحت الأريحية وأخرى تحب الشح، والملكة التي تحب الأريحية إنما تطلب ثناء الناس، والتي تحب الشح إنما تفعل ذلك ليطمئن صاحبها أنه يملك ما يغنيه، وكلتا الملكتين تتصارع في النفس الواحدة، لذلك يقول الحق :" قوا أنفسكم " فالنفس تقي النفس، لأن الملكات فيها متعددة وبعض الملكات تحب تحقيق المتعة والشهوة، لكن هناك ملكة إيمانية تقول : تذكر أن هذه الشهوات عاجلة ولكنها عظيمة المتاعب فيما بعد.
إذن فهناك صراع داخل ملكات الإنسان، ويوضح لنا الحق هذا الصراع في قوله :( فطوعت له نفسه قتل أخيه ).
لأن قابيل أراد أن يقتل هابيل بغريزة الاستعلاء، ونازعته نفسه بالخوف من الإثم لقد دارت المراودة في نفس قابيل إلى أن سيطرت غريزة الاستعلاء فأمرت بالقتل وطوعت بقية النفس، وهذا يكشف لنا أن النفس البشرية فيها ملكات متعددة كل ملكة لها مطلوب والدين هو الذي يقيم التعايش السلمي بين الملكات.
مثال آخر : الغريزة الجنسية تقيم السعار في النفس، فيقوم الوعي الإيماني بردع ذلك بأن تقول النفس الإيمانية : إياك أن تلغ في أعراض الناس حتى لا تلغ الناس في أعراضك، ولماذا لا تذهب وتتزوج كما شرع الله، ولا ترم أبناءك في فراش غيرك، لأن الغريزة مخلوقة لله فلا تجعل سلطان الغريزة يأمر وينهى.
وهكذا نرى أن النفس تضم وتشمل الملكات والغرائز، ولا يصح أن يعدي الإنسان غريزة إلى أمر آخر، لأنه إن عدى الشهوات فسدت الدنيا.
وعلى سبيل المثال نحن نستخدم الكهرباء التي تعطي لنا النور في حدود ما يرسم لنا مهندس الكهرباء، الذي وضع القطب الموجب في مجاله وكذلك القطب السالب، بحيث نأخذ الضوء الذي نريده أو تعطينا شرارة لنستخدمها كقوة لإدارة آلة، لكن لو التقى القطب الموجب بالقطب السالب على غير ما صنع المهندس لحدثت قفلة كهربائية تسبب حريقا أو فسادا، وكذلك النفس البشرية إن التقى الذكر مع الأنثى كما شرع الله فإن البشرية تسعد وإن حدث غير ذلك فالذي يحدث في المجتمع يصير حريقا نفسيا واجتماعيا لا حدود لآثاره الضارة، وهكذا نرى أن النفس ليس فيها دافع واحد بل فيها دوافع متعددة.
ونجد غريزة الجوع تحرك النفس إلى الطعام ويستجيب الدين لذلك لكنه يوصي أن يأكل الإنسان بشرط ألا يتحول تناول الطعام إلى شره، كما جاء في الحديث :" بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه " ١.
فالطعام لبقاء النوع والإنسان محب للاستطلاع فيأمر الإسلام الإنسان بأن يستطلع أسباب الله في الكون ليزيد من صلاح الكون، وينهى الإسلام عن استخدام حب الاستطلاع في التجسس على الناس، وهكذا تتوازن الملكات بمنهج الإسلام، وعلى المسلم أن يعايش ملكاته في ضوء منهج الله معايشة سليمة حتى تكون النفس الإنسانية متساندة لا متعاندة لتعيش كل الملكات في سلام ويؤدي كل جهاز مهمته كما أراد الله.
لكن المنافق يحيا مذبذبا وقد صنع ذلك بنفسه، فقد أرخى لبعض ملكاته العنان على حساب ملكات أخرى " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " إن الكافر يمتاز عن المنافق ظاهرا بأنه منسجم مع نفسه، هو غير مؤمن بالإسلام ويعلن ذلك ولكنه في حقيقة الأمر يتصارع مع فطرته التي تدعوه إلى الإيمان.
قد يقول قائل : وكيف يتساوى الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر مع الذي أعلن الكفر ؟ ونقول : الكافر لم يخدع الطائفة المؤمنة ولم يقل كالمنافق إنه من الفئة المؤمنة وهو ليس معها، بل يعلن الكافر كفره منسجما مع نفسه، لكن المنافق مذبذب خسيس في وضعه الإنساني والرجولي.
" مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ".
والله لا يضل عبدا بشكل مباشر، فسبحانه يعلم خلقه أولا بالرسل والمنهج، لكنه يضل من يصر على عدم الإيمان لذلك يتركه على ضلاله وعماه، صحيح أن في قدرة الله أن يأخذه إلى الإيمان قهرا، لكنه سبحانه يترك الإنسان لاختياره.
فإذا أقبل الإنسان على الله فسبحانه يعينه على الهداية، أما إن لم يقبل فليذهب إلى تيه الضلال، ويزين الدنيا ويعطيه منها لكنه لم يجد سبيلا فسبيل الله واحد وليس هناك سبيلان.
ونذكر هذه الحكاية لنعرف قيمة سبيل الله كان الأصمعي وهو مؤلف عربي له قيمة كبيرة يملك أذنا أدبية تميل إلى الأساليب الجميلة من الشعر والنثر، ووجد الأصمعي إنسانا يقف أمام باب الملتزم بالكعبة المشرفة، وكان الرجل يدعو الله دعاء حارا " يا رب : أنا عاصيك ولولا أنني عاصيك لما جئت أطلب منك المغفرة، فلا إله إلا أنت، كان يجب أن أخجل من معصيتك ولكن ماذا أفعل ". وأعجب الأصمعي بالدعاء، فقال : يا هذا إن الله يغفر لك لحسن مسألتك.
.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا( ١٤٤ ) ﴾.
لقد أخذ الحق على المنافقين أنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون الله، وكذلك أخذ المؤمنون على المنافقين أنهم اتخذوا من معسكر الكفر وليا لهم من دون الله ومن دون المؤمنين، ولهذا فأولى بالمؤمنين ألا يصنعوا ذلك، ويوضح سبحانه : لقد أخذنا على المنافقين أنهم اتخذوا الكافرين أولياء من دون الله، فإياكم أن تفعلوا مثلهم.
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ".
وهذا أمر منطقي يستقيم مع منهج الإيمان لأنكم إن فعلتم ذلك فإنما تقدمون الحجة ليعذبكم الله، وتعلمون أن المنافق يعلن الإيمان بلسانه ويخفي الكفر في قلبه، فكيف يكون وضع المؤمن مع الكافر مثل وضع المنافق مع الكافر ؟ ذلك أمر لا يستقيم ومن يفعل ذلك إنما يقدم حجة لله ليعذبه.
الحق سبحانه في إرساله للرسل وفي تأييد الرسل بالمعجزات وفي إرساله المناهج المستوفية لتنظيم حركة الإنسان في الحياة، كل ذلك ليقطع الحجة على الناس حتى لا يقولن واحد : أنت لم تقل لنا يا رب كيف نسير على منهج ما، لذلك لم يترك سبحانه الإنسان ليفكر بعقله ليصل بفكره إلى وجود الله، ويكتشف أن هناك خالقا للكون لم يتركنا سبحانه لهذه الظنون، ولكنه أرسل لنا الرسل بمنهج واضح، من أجل ألا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل، فلا يقولن واحد : أنت لم تنبهني يا رب، والجهل بالقانون في الشرع البشري لا يعفي الإنسان من العقوبة إن ارتكب جرما، لكن الله لا يفعل ذلك، فهو أكرم على عباده من أنفسهم لذلك يرسل الرسول ليحمل المنهج الذي يبين الحلال من الحرام :
﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة ﴾( من الآية٤٢سورة الأنفال ).
فلا يقولن واحد : لقد أخذنا الله على غرة وأنتم أيها المؤمنون إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتقربتم إليهم ونصرتموهم فأنتم أكثر شرا من المنافقين لأن المنافق له أسبابه، وفي أعماقه خيط من الكفر وخيط من الإيمان، والحجة واضحة عليكم أيها المؤمنون فقد أبلغكم الحق المنهج وأعلنتم الإيمان به. فإن صنعتم غير ذلك تعطون الحق الحجة في أن يعذبكم.
" أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطنا مبينا " والسلطان المبين هو السلطان الواضح المحيط الذي لا يستطيع أن يدفعه أحد، فإذا ما كانت هناك حجة، قد يستطيع الإنسان أن ينقضها كالمحامي أمام المحاكم، لكن حجة الله هي سلطان مبين أي لا تنقض أبدا.
﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا( ١٤٥ ) ﴾.
ولنر دقة التربية الإيمانية فلم يأت الحق بفصل كتابه عن المنافقين يورد فيه كل ما يتعلق بالمنافقين لا، بل يأتي بلمحة عن المنافقين ثم يأتي بلقطة أخرى عن المؤمنين، حتى ينفر السامع من وضع المنافق ويحببه في صفات المؤمن، وهنا يقول :" إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا " والدرك مرة تنطق بسكون الراء، وتنطق مرة بفتح الراء، مثل كلمة " نهر "، والدرك دائما في نزول، والأثر الصالح يميز لنا ذلك بالقول :
" النار دركات كما أن الجنة درجات " ١.
فالنزول إلى أسفل هو الدرك، والصعود إلى أعلى هو صعود الدرج وفي عصرنا نضع مستوى سطح البحر كمقياس لأن اليابسة متعرجة أما البحر فهو مستطرق.
ونستخدم في الأمر الدقيق أيضا ميزان المياه، وعندما تسقط الأمطار على الطرق تكشف لنا عمل المقاول الذي رصف الطرق، هل أتقن هذا العمل أو لا ؟ ونحن نلقي دلوا من المياه في الحمام بعد تبليطه حتى ينكشف جودة أو رداءة عمل العامل، إذن هناك شيء يفضح شيئا آخر والقول المصري الشائع :" إن الذي يقوم بعمل المحارة هو الذي يكشف عامل البناء "، فلو أن الحائط غير مستو فعامل المحارة مضطر أن يسد الفجوات والميول حتى يستوي سطح الحائط والذي يكشف جودة عامل المحارة هو عامل طلاء الحائط، لأنه إما أن يستخدم المعجون بكثرة ليملأ المناطق غير المستوية في الحائط، وإما أن يجد الأمر سهلا والذي يكشف جودة أو رداءة عمل عامل الطلاء هي أشياء طبيعية مثل الغبار والعامل الذي يريد أن يغش هو الذي يسرع بتسليم البناء، لأن الغبار الذي يوجد في الجو يمشي في خط مستقيم وعندما يوجد جدار تم طلاؤه بمادة غير جيدة فالغبار يلتصق به، وكأن الله قد أراد بذلك أن يفضح من لا يتقن عمله، وكل شيء مرده إلى الله حتى يصل الخلق جميعا إلى الحق سبحانه مفضوحين، إلا المؤمنين الذين يعملون صالحا، فهؤلاء يسترهم الله بعملهم الصالح.
" إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا "، وسبحانه وتعالى سبق أن عرض لنا صورة المنافقين المهزوزة التي لا ثبات لها على أي رأي، ولا وجود لها على لون يحترمه المجتمع الذي يعيشون فيه فقال عنهم :﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾( من الآية١٣٤سورة النساء ).
والذبذبة لون من أرجحة الشخصية التي لا يوجد لها مقوم ذاتي، وسبحانه وتعالى حين عرضهم هذا العرض المشوه، يوضح : أن جزائي لهم حق يناسب ما فعلوه.
وقد هيأ الأذهان ليجعلها مستعدة لقبول الحكم الذي أنزله عليهم حتى لا تأخذ الناس شفقة عليهم أو رحمة بهم، وسبحانه حين يحكم حكما فهو يضمن بقيوميته ووحدانيته ألا يوجد منازع له في الحكم. وكان من الممكن أن يقول سأجعله في الدرك الأسفل من النار، ولن توجد قوة أخرى تنتشل المنافق لذلك أتبع الحق الحكم بقوله :" ولن تجد لهم نصيرا " أي أنه حكم مشمول بالنفاذ، ولن يعدله أحد من خلق الله، فسبحانه له الملك وحده وقد جعل سبحانه الملك في الدنيا لأسباب الناس أيضا، أما في الآخرة فلا ملك لأحد ولا ملك لأحد.
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾( من الآية١٦سورة غافر ).
﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما( ١٤٦ ) ﴾.
إذن فمن الممكن أن توجد فتحة خير قد تدفع الإنسان إلى التوبة، وحتى لا يظن أحد أن الحكم هنا نهائي، وذلك حتى لا يفقد الإنسان نفسه ويتورط في مزيد من الشرور، لذلك قال :" إلا الذين تابوا " أي تاب عن نفاقه الأول، وإذا ما كان قد ترتب على نفاقه السابق إفساد فلا بد أن يصلح ما أفسده ويعتصم بالله ويخلص لله نية وعملا. " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ". إذن فشروط النجاة من الدرك الأسفل من النار هي التوبة وإصلاح ما أفسد والاعتصام بالله، وإخلاص دينه لله.
والتوبة هنا إقلاع عن النفاق، وألا يترك المنافق الفساد الذي صنعه نفاقه بل عليه أن يحاول جاهدا أن يصلح ما أفسده بهذا النفاق، والاعتصام بالله كيف يكون ؟.
لقد عرفنا من قبل أنهم كانوا يفعلون ذلك لابتغاء العزة عند الكافرين، أي أن نفس المنافق تطمئن إلى هؤلاء الكافرين فيفزع إليهم ويعتز بشدتهم وبصلابتهم، لذلك يوضح الله : انزعوا هذه الفكرة من رءوسكم وليكن اعتصامكم بالله وحده لأنه لا يجير أحد على الله، واجعلوا العزة لله والمرجع إليه وحده.
والملاحظ أن الذي يتوب ويصلح ويعتصم بالله يكون قد استوفى أركان اليقين الإيماني بالله، لكن الحق يقول :" وأخلصوا دينهم لله " فلماذا أكد على الإخلاص هنا ؟ لأن تدبير النفاق كان ينبع من قلوبهم أولا ونعلم أن القلب قد يذنب، فذنب الجارحة أن تعتدي، مثال ذلك العين تذنب حين تعتدي على محارم الآخرين، واللسان يذنب إن تعرض بالسب أو الشتم للناس، إذن فكل جارحة لها مجال معصية، وهنا مجال معصية القلب هو النفاق وهو الأمر المستور إذن فقوله الحق :" وأخلصوا دينهم لله " جاء ليؤكد ضرورة الإخلاص في التوبة عن النفاق، والإخلاص محله القلب.
فكأن توبة القلوب غير توبة الجوارح، فتوبة الجوارح تكون بأن تكف الجوارح عن مجال معاصيها أما توبة القلب فهو أن يكف عن مجال نفاقه بأن يخلص وبذلك أثبت الحق مزية المؤمنين الذين لم ينغمسوا في النفاق وجعل التائبين من المنافقين مع المؤمنين، فكأن الأصل في التنعيم وفي نيل الجزاء العظيم هو الوجود مع المؤمنين. " فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ".
ومن هنا نعلم أن الأجر العظيم يكون للمؤمنين ومن يوجد مع المؤمنين ينال الأجر نفسه، وقد جعل الحق الجزاء من جنس العمل وكان المنافقون ينافقون ليأخذوا من المؤمنين ظواهر الإسلام كصون المال والدماء وليعتبرهم الجميع ظاهريا وشكليا من المسلمين وهم حين نافقوا المسلمين أعطاهم المسلمون ما عندهم وعندما تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا الدين لله جعلهم الله مع المؤمنين، ويعطي سبحانه لأهل الإيمان أجرا عظيما.
﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما( ١٤٧ ) ﴾.
وسبحانه قد أوضح من قبل أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، واستثنى منهم من تاب وأصلح واعتصم بالله وأخلص، ويتحدث هنا عن فكرة العذاب نفسها، ليجليها فيقول :" ما يفعل الله بعذابكم " وهذا استفهام، والاستفهام أصلا سؤال من سائل يتطلب جوابا من مجيب وسبحانه وتعالى يريد أن يعرض قضية موثوقا بها فهو لا يأتي بها خبرا، فهو القادر على أن يقول : أنا لا أفعل بعذابي لكم ولا أحقق لذاتي من ورائه شيئا، فلا أستجلب به لي نفعا ولا أدفع به عني ضرا.
لكنه هنا لا يأتي بهذه القضية كخبر من عنده، بل يجعل المنافقين يقولونها مثال ذلك ولله المثل الأعلى يقول واحد لآخر : أنت أهنتني ومن الجائز أن يرد الآخر : أنا لم أهنك، وأقسم لك أنني ما أهنتك وقد يضيف : أبغني شاهدا. وهنا نجد مراحل المسألة تبدأ بالإبلاغ عن عدم الإهانة ثم القسم بأن الإهانة لم تحدث، ومن بعد ذلك طلب شاهدا على أن الإهانة المزعومة قد حدثت.
وقد يقول الإنسان ردا على من يتهمه بالإهانة : أنا أترك لك هذه المسألة فماذا قلت لك حتى تعتبره إهانة ؟ ومن يقول ذلك واثق أن من شعر بالإهانة لو أدار رأسه وفكره فلن يجد كلمة واحدة تحمل في طياتها شبهة الإهانة.
ولو كان الإنسان واثقا من أنه أهان الآخر، فهو يخاف أن يقيم الآخر دليلا على صحة اتهامه له، ولكن حين يقول له : وماذا قلت لك حتى تعتبر ذلك إهانة ؟ فعليه أن يبحث ولن يجد وبذلك يكون الحكم قد صدر منه هو.
وإذا كان الله يقول :" ما يفعل الله بعذابكم " فهذا خطاب لجماعة كانت ستتعذب وكانت فيهم محادة لله، ورضي الله شهادتهم ؟، فكأن هذه لفتة على أن العاصي يستحق العذاب بنص الآية :" ما يفعل الله بعذابكم "، ومستعد لهذا العذاب لأنه محاد لله، ولكن الله يقبل منه ومن أمثاله أن يشهدوا وهذا دليل على أن الإيمان الفطري في النفس البشرية فإذا ما حزبها واشتد عليها الأمر لم تجد إلا منطق الإيمان.
ويوضح الحق للمنافقين : ماذا أفعل أنا بعذابكم ؟ فلن يجدوا سببا خاصا بالله ليعذبهم، فكأن الفطرة الطبيعية قد استيقظت فيهم، لأنهم سيديرون المسألة في نفوسهم.
وعلى مستوانا نحن البشر نرى أن الذي يدفع الإنسان ليعذب إنسانا آخر إنما يحدث ذلك ليشفي غيظ قلبه، أو ليثأر منه، لأنه قد آلمه فيريد أن يرد هذا الإيلام أو ليمنع ضرره عنه، والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون في أي موقع من هذه المواقع، فإذا أدار المنافقون هذه المسألة فطريا بدون إيمان فلن يكون جوابهم إلا الآتي : لن يفعل الله بعذابنا شيئا، إن شكرنا وآمنا.
ونستخلص من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يريد عرض قضية يثبت فيها الحكم من الخصم نفسه، يلقيها على هيئة سؤال وكان من الممكن أن يجري هذه المسألة خبرا، إلا أن الخبر هو شهادة من الله لنفسه، أما السؤال فستكون إجابته إقرار من المقابل، وهذا يعني أنهم كانوا عاصين ومخالفين وكأنه سبحانه قد ائتمنهم على هذا الجواب، لأن الجواب أمر فطري لا مندوحة عنه، وحين يدير الكافر رأسه ليظن بالله ما لا يليق، فلن يجد مثل هذا الظن أبدا.
" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما "، وإن لم يشكروا ولم يؤمنوا فما الذي يناله الحق من عذابهم ؟ ونعلم أن عظمة الحق أنه لا يوجد شيء من طاعة يعود إلى الله بنفع، ولا يوجد شيء من معصية يعود إلى الله بالضرر، ولكنه يعتبر النفع والضرر عائدين على خلق الله لا على الله سبحانه.
وسبحانه يريدنا طائعين حتى نحقق السلامة في المجتمع، سلامة البشر بعضهم من بعض، إذن فالمسألة التي يريدها الحق لا يريدها لنفسه فهو قبل أن يخلق الخلق موجود وبكل صفات الكمال له، وبصفات الكمال أوجد الخلق، وإيجاد الخلق لن يزيد معه شيئا ولذلك قال في الحديث القدسي :
" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر " ١.
إذن فالطاعة بالنسبة لله والمعصية بالنسبة لله، إنما لشيء يعود على خلق الله ولننظر إلى الرحمة من الحق سبحانه وتعالى الذي خلق خلقا ثم حمى الخلق من الخلق، واعتبر سبحانه أن من يحسن معاملة المخلوق مثله فهو طائع لله، ويحبه الله لأنه أحسن إلى صنعة الله.
" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " فإن تشكروا وتؤمنوا فلن يفعل الله بعذابكم شيئا، أي فقد أبعدتم أنفسكم عن استحقاق العذاب.
وسبحانه يريد أن يعدل مزاج المجتمع وتفاعلات أفراده مع بعضهم بعضا، وذلك حتى يكون المجتمع ذا بقاء ونماء وتعايش، ونعلم أن لكل إنسان سمة وموهبة، وهذه الموهبة يريدها المجتمع.
فمن الجائز أن يكون لإنسان ما أرض ويريد أن يقيم عليها بناء، وصاحب الأرض ليس مفترضا فيه أن يدرس الهندسة أولا حتى يصمم البناء ورسومه، وليس مفترضا فيه أن يتقن حرفة البناء ليبني البيت، وكذلك ليس مفروضا فيه أن يتعلم حرفة الطلاء والكهرباء وغيرهما.
وكذلك ليس من المفروض فيمن يريد ارتداء جلباب أن يتعلم جز الصوف من الغنم أو غزل القطن وكيف ينسجه وكيف يقوم بتفصيله وحياكته من بعد ذلك، لا، لا بد أن يكون لكل إنسان عمل ما ينفع الناس، إذن فلكل إنسان عمل ينفع الناس به حتى يتحقق الاستطراق النفعي، ولأن كلا منا يحتاج إلى الآخر فلا بد من إطار التعايش السلمي في الحياة، لا أن يكون العراك هو أساس كل شيء، لأن العراك يضعف القوة ويذهب بها سدى، وسبحانه يريد كل قوى المجتمع متساندة لا متعاندة ولذلك قال :" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم "، أما إن لم تشكروا وتؤمنوا فعذابكم تأديب لكم لا يعود على الله بشيء.
ولماذا وضع الحق الشكر مع الإيمان ؟ لنعرف أولا ما الشكر ؟ الشكر : هو إسداء ثناء إلى المنعم ممن نالته نعمته، فتوجيه الشكر يعني أن تقول لمن أسدى لك معروفا :" كثر خيرك "، وما الإيمان ؟ إنه اليقين بأن الله واحد لكن ما الذي يسبق الآخر الشكر أو الإيمان ؟ إن الإيمان بالذات جاء بعد الانتفاع بالنعمة فعندما جاء الإنسان إلى الكون وجد الكون منظما، ولم يقل له أحد أي شيء عن أي دين أو خالق ألا تهفو نفس هذا الإنسان إلى الاستشراف إلى معرفة من صنع له هذا الكون ؟.
وعندما يأتي رسول، فالرسول يقول للإنسان : أنت تبحث عن القوة التي صنعت لك كل هذا الكون الذي يحيط بك، إن اسمها الله، ومطلوبها أن تسير على هذا المنهج، هنا يكون الإيمان قد وقع موقعه من النعمة فالشكر يكون أولا، وبعد ذلك يوجد الإيمان فالشكر عرفان إجمالي والإيمان عرفان تفصيلي والشكر متعلق بالنعمة والإيمان متعلق بالذات التي وهبت النعمة.
" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما " والحق سبحانه يوضح لا : أنا الإله واهب النعمة أشكركم كيف يكون ذلك ؟.
لنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى أنت اشتريت لابنك بعضا من اللعب ولم تفعل ذلك إلا بعد أن استوفيت ضرورات الحياة فلا أحد يأتي باللعب لابنه وهو لم يأت له بطعام أو ملابس.
إذن فأنت تأتي لابنك باللعب بعد الطعام والملبس ليملأ وقت فراغه، وهذا يعني أن الضرورات قد اكتملت وحين تقول لابنك : إن هذه اللعبة للعب فقط، ستأخذها ساعة تحب أن تلعب وتضعها في مكانها وقت أن تذاكر، فكل شيء هنا في هذا المنزل له مهمة يجب أن يؤديها، وهذا يعني إنك كوالد تريد أن تؤدب ابنك حتى يلعب بلعبته وقت اللعب ولا يلعب بأي شيء غيرها في المنزل، لأنه لو لعب بكل شيء في المنزل فلا بد من أن يكسر شيئا، فلا مجال للعب في التليفزيون أو في الساعة أو الثلاجة أو الغسالة حتى لا تتعطل تلك الأجهزة.
وأنت كوالد تريد أن تفرق بين شيء يلعب به وشيء يجد به، وأشياء الجد لا توجد إلا عند طلبها فقط، فالغسالة لا تستخدم إلا ساعة غسل الملابس والساعة لا نستخدمها إلا لحظة أن نرغب في معرفة الوقت، والثلاجة لا تفتحها إلا ساعة تريد أن تستخرج شيئا تأكله أو تشربه، والوالد يأتي للابن بقليل اللعب ليضع له حدا بين الأشياء التي يمكنه أن يلعب بها وبين الأشياء التي لا يصح أن يلعب بها، فأشياء المنزل يجب ألا يقرب منها الابن إلا وقت استعمالها لكن بالنسبة للعبة فالابن يلعب بها عندما يحين وقت اللعب، لكن عليه أن يحافظ عليها وعندما يرقب الوالد ابنه ويجده منفذا للتعليمات ويحافظ على حاجات المنزل، ويلعب بلعبه محافظا عليها، وإن لم يعلم الأب ابنه ذلك فقد يفسد الابن لعبه.
وحين يقوم الابن بتنفيذ تعليمات أبيه فالأب يرضى عنه ويسعد به، وعندما تخرج لعبة جديدة في السوق فالأب الراضي عن ابنه يشتري له هذه اللعبة الجديدة، لأن الولد صار مأمونا لأنه يعرف قواعد اللعب مع المحافظة على أداة اللعب، ويعرف أيضا كيف يحافظ على حاجات المنزل، ويزداد رضاء الأب عن تصرفات الابن، وينشأ عن هذا الرضاء أن يشتري الأب لعبا جديدة فإذا كان ذلك هو ما يحدث في العلاقة بين الأب والابن، وهما مخلوقان لله، فما بالنا بالخالق الأعلى سبحانه وتعالى الذي أوجد كل المخلوقات ؟
إن الإنسان حين يضع كل المسائل في ضوء منهج الله، فالله شاكر وعليم، لأن الله يرضى عن العبد الذي يسير على منهجه، وعندما يرضى الرب عن العبد فهو يعطي له زيادة فالله شاكر بمعنى أن البشر إن أحسنوا استقبال النعمة بوضع كل نعمة في مجالها فلا تتعدى نعمة جادة على نعمة هازلة، ولا نعمة هازلة على نعمة جادة فالله يرضى عن العباد.
ومعنى رضاء الله أن يعطي البشر أشياء ليست من الضرورات فقط ولكن ما فوق ذلك فسبحانه يعطي الضرورات للكل حتى الكافر ويعطي سبحانه ما فوق الضرورات وهي أشياء تسعد البشر.
إذن فمعنى أن الله شاكرا أي أنه سبحانه وتعالى راض، ويثيب نتيجة لذلك ويعطي الإنسان من جنس الأشياء ويسمو عطاؤه مصداقا لقوله الحق :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾( من الآية٧سورة إبراهيم ).
فالشكر هنا موجه من العبد للرب، والزيادة من الرب إلى العبد وإياك أيها الإنسان أن تصنع الأشياء شكليا، مثل الطفل الذي يصون لعبته لحظة أن يرى الأب، ومن فور أن يختفي الأب من أمام عيني الطفل فهو يفسد اللعبة، والله ليس كالأب أبدا، فالأب قدراته محدودة ولكن الله هو الخالق الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية أبدا وسبحانه شاكرا، وهو أيضا عليم.
﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما( ١٤٨ ) ﴾.
إنه سبحانه وتعالى يريد أن يحمي آذان المجتمع الإيماني من " قالات السوء " أي من الألفاظ الرديئة لأننا نعلم أن الناس إنما تتكلم بما تسمع فاللفظ الذي لا تسمعه الأذن لا تجد لسانا يتكلم به، ونجد الطفل الذي نشأ في بيت مهذب لا ينطق ألفاظا قبيحة، وبعد ذلك تجيء على لسانه ألفاظ قبيحة وحينئذ نتساءل : من أين جاءت هذه الألفاظ على لسان هذا الابن ؟ ونعرف أنها جاءت من الشارع، لأن البيئة الدائمة للطفل ليس بها ألفاظ رديئة، وعندما يتقصى الإنسان عن مصدر هذه الألفاظ يعرف أن الطفل المهذب قضى بعضا من الوقت في بيئة أخرى تسربت إليه منها بعض الألفاظ الرديئة.
إذن فاللغة هي بنت المحاكاة، وما تسمعه الأذن يحكيه اللسان ونعلم أن اللغة ليست جنسا وليست دما، بمعنى أن الطفل الإنجليزي لو نشأ في بيئة عربية فهو يتحدث العربية ولو أخذنا طفلا عربيا ووضعناه في بيئة إنجليزية فسيتكلم الإنجليزية.
واللغة الواحدة فيها ألفاظ لا يتكلم بها لسان إلا إن سمعها، وإن لم يسمعها الإنسان فلن ينطق بها، والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي المجتمع الإيماني من قالات السوء التي تطرق آذان الناس لأنها ستعطيهم لغة رديئة، لأن الناس إن تكلمت بقالات السوء، فسيكون شكل المجتمع غريبا وتتردد فيه قالات سوء في آذان السوء فكأن الحق سبحانه يوضح : إياكم أن تنطق ألسنتكم بأشياء لا يحبها الله، فليست المسألة أن يريح الإنسان نفسه فقط بنطق كلمة، ولكن نطق هذه الكلمة سيرهق أجيالا لأن من يسمع الكلمة الرديئة سيرددها وسيسمعها غيره فيرددها، وتتوالى القدوة السيئة ويتحمل الوزر الإنسان الذي نطق بكلمة السوء أولا.
وقالات السوء هذه قد تكون بالحق وقد تكون بالباطل، فإن كانت في الحق مثلا فلن نستطيع أن نقول : إن كل الناس أهل سوء وقد يبتدئ إنسان آخر بسباب، ويجوز أن يدعي إنسان على آخر سبابا إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي الآذان الإيمانية من ألسنة السوء، لذلك يقول :" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " ومقابلها بالطبع هو : أن الله يحب الجهر بالحسن من القول وساعة يحبك الحق المجتمع هذه الحبكة الإيمانية، أيعالج ملكة على حساب ملكة أخرى ؟ لا.
ونعلم أن النفس فيها حب الانتقام وحب الدفاع عن النفس وحب الثأر وما يروح به عن نفسه ويخفف ما يجده من الغيظ، والمثل العربي يقول : " من استغضب ولم يغضب فهو حمار "، لأن الذي يستغضب ولا يغضب يكون ناقص التكوين، فهل معنى ذلك أن الله يمنع الناس من قول كلمة سوء ينفث بها الإنسان عن صدره ويريح بها نفسه ؟ لا، لكنه سبحانه يضع شرطا لكلمة السوء هو :" إلا من ظلم "، لأن الظلم هو أخذ حق من إنسان لغيره، وكل إنسان حريص على نفسه وعلى حقوقه فإن وقع ظلم على إنسان فملكات نفسه تغضب وتفور، فإما أن ينفث بما يقول عن نفسه، وإما أن يكبت ويكتم ذلك.
فإن قال الله :" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " واكتفى بذلك لكان كبتا للنفس البشرية، وعملية الكبت هذه وإن كانت طاعة لأمر الله لأنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، ولكن قد ينفلت الكبت عند الانفعال، وينفجر لذلك يضع الحق الشرط وهو وقوع ظلم، فيوضح سبحانه : أنا لا أحب الجهر بالسوء من القول، وأسمح به في حدوده المنفثة عن غيظ القلوب، لأني لا أحب أن أصلح ملكة على حساب ملكة أخرى، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس وإن كان جالسا فلينم فإن لم يزل ذلك فليتوضأ بالماء البارد أو يغتسل فإن النار لا يطفئها إلا الماء " ١.
أي أن يتحرك الإنسان من فور إحساسه بالغضب فيغير من وضعه أو يقوم إلى الصلاة بعد أن يتوضأ أو يغتسل لأنه بذلك ينفث تنفيثا حركيا ليخفف من ضغط المواجيد على النفس الفاعلة، تماما كما يفك إنسان صماما عن آلة بها بخار ليخرج بعض البخار.
إذن فمن وقع عليه ظلم له أن يجهر بالسوء والجهر له فائدتان : الأولى : أن ينفث الإنسان عن نفسه فلا يكبت، وثانيا : أنه أشاع وأعلن أن : هذا إنسان ظالم، وبذلك يحتاط الناس في تعاملهم معه وحتى لا يخدع إنسان نفسه ويظن أنه بمنجاة عن سيئاته، فلو ستر كل إنسان الظلم الذي وقع عليه لاستشرى الظلم في عمل السيئات ولكن إياك أن تتوسع أيها العبد في فهم معنى كلمة " ظلم " هذه، لأن الذي ينالك ممن ظلمك إما فعل وإما قول وعليك أيها المسلم أن تقيس الأمر بمقياس دقيق على قدر ما وقع عليك من ظلم.
﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾( من الآية ١٩٤سورة البقرة ).
إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يعطينا في الاستثناء إلا على قدر الضرورة، ويوضح : إياكم أن تزيدوا على هذه الضرورة فإن كان ظلمكم بقول فأنا السميع وإن كان ظلمكم بفعل فأنا العليم فلا يتزيد واحد عن حدود اللياقة.
وبذلك يضع الحق الضوابط الإيمانية والنفسية فأزاح الكبت وفي الوقت نفسه لم يقفل باب الطموح الإيماني لقد سمح للعبد أن يجهر إن وقع عليه ظلم، لكن إن امتلك الإنسان الطموح الإيماني فيمكنه ألا يجهر وأن يعفو، إذن فهناك فارق بين أمر يضعه الحق في يد الإنسان وأمر يلزمه به قسرا وإكراها عليه، فمن ناحية الجهر جعل سبحانه المسألة في يد الإنسان، ويحب سبحانه أن يعفو الإنسان لأن المبادئ القرآنية يتساند بعضها مع بعض وسبحانه يقول :﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ﴾( من الآية٣٤سورة فصلت ).
فإن أباح الله لك أن تجهر بالسوء من القول إذا ظلمك أحد فقد جعل لك ألا تجهر بل تعفو عنه، وغالب الظن أن صاحب السوء يستخزي ويعرف أن هناك أناسا أكرم منه في الخلق، ولا يتعب إنسان إلا أن يرى إنسانا خيرا منه في شيء، وعندما يرى الظالم أن المظلوم قد عفا فقد تنفجر في نفسه الرغبة أن يكون أفضل منه.
إذن فالمبدأ الإيماني : " ادفع بالتي هي أحسن " جعله الله مجالا محبوبا ولم يجعله قسرا، لأنك إن أعطيت الإنسان حقه، ثم جعلت لأريحيته أن يتنازل عن الحق فهذا إرضاء للكل وهكذا ينمي الحق الأريحية الإيمانية في النفس البشرية لأنه لو جعلها قسرا لأصلح ملكة على حساب ملكة أخرى ولذلك إذا رأيت إنسانا قد اعتدى على إنسان آخر فدفع الإنسان المعتدي عليه بالتي هي أحسن وعفا وأصلح فقد ينصلح حال المعتدي، وسبحانه القائل :( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ).
فإذا تمادى من بعد ذلك فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لا يكذب أبدا، ولا بد أن الخلل في سلوكك يا من تظن أنك دفعت بالتي هي أحسن.
قد يكون الذي دفع بالتي هي أحسن قد قال بلهجة من التعالي : سأعفو عنك، ومثل هذا السلوك المتكبر لا يجعل أحدا وليا حميما، لكم إن دفع حقيقة بالتي هي أحسن تواضعا وسماحة، فلا بد أن يصير الأمر إلى ما قاله الله :( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) والتفاعلات النفسية المتقابلة يضعها الله في إطارات واضحة وسبحانه القائل :
﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾( من الآية١٩٤سورة البقرة )
وذلك حتى لا يستشري المعتدي أيضا، فهناك إنسان إذا تركناه مرة ومرة يستشري، لكن إذا ما أوقفناه عند حده فهو يسكت، وبذلك نرحم المجتمع من استشراء الفساد ويصعب الحق المسألة في رد الاعتداء.
ويثور سؤال : من القادر على تحقيق المثلية بعدالة ؟ ونجد على سبيل المثال إنسانا ضرب إنسانا آخر صفعة على الوجه، فبأية قوة دفع قد ضرب ؟ وفي أي مكان ضرب ؟ ولذلك نجد أن رد العدوان على درجة المثلية المتساوية أمر صعب ومادام المأمور به أن أعتدي بمثل ما اعتدى به علي، ولم أستطيع تحقيق المثلية، ولربما زاد الأمر على المثلية وبعد أن كنت المعتدى عليه صرت المعتدي، بذلك يكون العفو أقرب وأسلم.
والعملية الشعورية التي تنتاب الإنسان في التفاعلات المتقابلة يكون لها مواجيد في النفس تدفع إلى النزوع والعملية النزوعية هي رد الفعل لما تدركه فإن آذاك إنسان وأتعبك واعتدى عليك فأنت تبذل جهدا لتكظم الغيظ، أي أن تحبس الغيظ على شدة فالغيظ يكون موجودا، ولكن المطلوب أن يمنع الإنسان الحركة النزوعية فقط، وعلى المغتاظ أن يمنع نفسه من النزوع، وإن بقي الغيظ في القلب.
﴿ والكاظمين الغيظ ﴾( من الآية١٣٤سورة آل عمران ).
هذه مرحلة أولى تتبعها مرحلة ثانية هي :
﴿ والعافين عن الناس ﴾( من الآية١٣٤سورة آل عمران ).
فإذا كان المطلوب في المرحلة الأولى منع العمل النزوعي، فالأرقى من ذلك أن تعفو، والعفو هو أن تخرج المسألة التي تغيظك من قلبك، وإن كنت تطلب مرحلة أرقى في كظم الغيظ والعفو فأحسن إليه، لأن من يرتكب الأعمال المخالفة هو المريض إيمانيا وعندما ترى مريضا في بدنه فأنت تعاونه وتساعده وإن كان عدوا لك وتتناسى عداوته فما بالنا بالمصاب في قيمه. إنه يحتاج منا إلى كظم الغيظ، أو العفو كدرجة أرقى أو الإحسان إليه كمرحلة أكثر علوا في الارتقاء. إذن فالحق سبحانه وتعالى يبيح أن تعتدي بالمثل، ثم يفسح المجال لنكظم الغيظ فلا نعتدي ولكن يظل السبب في القلب ثم يرتقي بنا مرحلة أخرى إلى العفو وأن نخرج المسألة من قلوبنا، ثم يترقى ارتقاء آخر، فيقول سبحانه :( والله يحب المحسنين )، ومن فينا غير راغب في حب الله ؟ وهكذا نرى أن الدين الإسلامي يأمر بأن يحسن المؤمن إلى من أساء إليه.
وقد يتساءل إنسان : كيف تطلب مني أن أحسن إلى من أساء إلي ؟ والرد : أنت وهو لستما بمعزل عن القيوم، فهو قيوم ولا تأخذه سنة ولا نوم وكل شيء مرئي له وكلاهما صنعة الله، وعندما يرى الله واحدا من صنعته يعتدي عليك أو يسيء إليك فسبحانه يكون معك ويجيرك، ويقف إلى جانبك لأنك المعتدى عليه، إذن فالإساءة من الآخر تجعل الحق سبحانه في جانبك، وتكون تلك الإساءة في جوهرها هدية لك.
وعندما نفلسف كل المسائل نجد أن الذي عفا قد أخذ أكثر مما لو كان قد انتقم وثأر لنفسه، لأنه إن انتقم سيفعل ذلك بقدرته المحدودة وحين يعفوا فهو يجعل المسألة لله وقدرته سبحانه غير محدودة، إن أراد أن يرد عليه، وبعطاء غير محدود إن أراد أن يرضى المعتدي عليه هذا هو الحق سبحانه وتعالى عندما يلجأ إليه المظلوم العافي المحسن وهو السميع العليم بكل شيء.
﴿ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا( ١٤٩ ) ﴾.
لقد عرفنا أن الحق لا يسمح لك بالجهر بالسوء من القول إلا إذا كنت مظلوما وهذا يعني أن المسألة تحتمل الجهر وتحتمل الإخفاء، فقال :" إن تبدوا خيرا " أي إن تظهر الخير، أو تخفي ذلك أو تعفو عن السوء وكل هذه الأمور من ظاهر وخفي من الأغيار البشرية، لكن شيئا لا يخفى على الله، ولا يمكن أن يكون للعفو مزية إيمانية إلا إذا كان مصحوبا بقدرة، فإن كان عاجزا لما قال : عفوت، وسبحانه يعفو مع القدرة. فإن أردت أن تعفو فلتتخلق بأخلاق منهج الله، فيكون لك العفو مع القدرة ولنا أن نعلم أن الحق لا يريد منا أن نستخزي أو نستذل ولكن يريد منا أن نكون قادرين ومادمنا قادرين فالعفو يكون عن قدرة وهذه هي المزية الإيمانية لأن عفو العاجز لا يعتبر عفوا.
والناس تنظر إلى العاجز الذي يقول : إنه عفا وهو على غير قدرة تراه أنه استخزى أما من أراد أن يتخلق بأخلاق منهج الله فليأخذ من عطاءات الله في الكون، ليكون قادرا وعزيزا بحيث إن ناله سوء فهو يعفو عن قدرة " فإن الله كان عفوا قديرا ".
وقلنا من قبل : إنك إذا لمحت كلمة " كان " على نسبة لله سبحانه وتعالى كنسبة الغفران له أو الرحمة، فعلينا أن نقول : كان ولا يزال لأن الفعل مع الله ينحل عن الزمان الماضي وعن الحاضر وعن المستقبل فهو سبحانه مادام قد كان وهو لا تناله الأغيار، فهو يظل إلى الأبد.
﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا( ١٥٠ ) ﴾.
وسبحانه يريد أن يجعل من قضية الإيمان قضية كلية واحدة لا أبعاض فيها، فليس إعلان الإيمان بالله وحده كافيا لأن يكون الإنسان مؤمنا، لأن مقتضى أن تؤمن بالله يحتاج إلى رسول يعرفك أن الخالق هو الذي سخر لك قوى الكون واسمه الله، وأنت لا تهتدي إلى معرفة اسم القوة الخالقة إلا بواسطة رسول منزل من عند الله.
ونعرف أن عمل العقل في الاستنباط العقدي عاجز عن معرفة اسم خالق الكون، لأن الإنسان قد طرأ على كون منظم، وكان من الواجب عليه أن يلتفت لفتة ليعلم القوة التي سبقت هذا الوجود وخلقته وأن الإنسان قد طرأ على وجود متكامل، وقد يسمع الإنسان من أبيه مثلا أن هذا البيت بناه الأب أو الجد، وذلك الشيء فعله فلان ابن فلان، لكن لم يسمع أحدا يقول له :" ومن بنى السماء ؟ " ولم يسمع أحدا يقول :" ومن خلق الشمس ؟ "، مع أن الناس تدعي ما ليس لها، فكيف يترك أعظم ما في كون الله بدون أن نعرف من أوجده ؟
إننا نجد الناس تؤرخ للشيء التافه أو المهم نسبيا في حياتهم، نجد دراسات عن تاريخ الحجارة، ودراسات عن تاريخ صناعة الأشياء تاريخ المصباح الكهربي الذي اخترعه أديسون وقام بتوليد الكهرباء من مصادره ضئيلة ويسيره، باختصار نجد أن كل شيء في هذا الوجود له تاريخ، وهذا التاريخ يرجع بالشيء إلى أصل وجوده، وأنت إن نسبت أي صنعة مهما كانت مهمة أو تافهة نكتشف أن واحدا تلقاها عن واحد، ولم يبتكرها هو دفعة واحدة.
إن كل مبتكر أخذ ما انتهى إليه سابقا وبدأ عملا جديدا إلى أن وصلت المخترعات بميلادها، ومن يصدق أن مصباحا يضيء وينطفئ ويحترق يصنعه إنسان ونعرف له تاريخا وبعد ذلك ننظر إلى الشمس التي لم تخفت ولم تضعف ولم تنطفئ ولم تحترق، والمصباح ينير حيزا قليلا يسيرا، والشمس تنير كونا ووجودا، ألا تحتاج الشمس إلى من يفكر في تاريخها ؟.
لقد سبق لنا أن قلنا : إن الإنسان حينما ينظر إلى الكون نظرة بعيدة عن فكرة الدين وبعيدا عن بلاغ الرسل عن الخالق وكيفية الخلق ومنهج الهداية، فهو يقول لنفسه : تختلف مقادير الناس باختلاف مراكزها وقوتها فيما يفعلون، هناك من يجلس على كرسي من شجر الجميز وآخر على كرسي مصنوع من شجر الورد وثالث يجلس على حصيرة.
إن الإنسان يعيش بصناعات غيره من البشر حسب قدره ومكانته فالريفي أو البدوي يشعل النار بصك حديدة بحجر الصوان ويحتفظ بالنار لمدة ليستخدمها لأكثر من مرة، وعندما يرتقي في استخدام النار يستخدم " مسرجة "، ولما ازداد تحضرا استخدم " مصباح جاز " بزجاج ولها أرقام تدل على قدرتها على الإضاءة.
فهناك مصباح رقم خمسة، ورقمها دليل على قوتها الخافتة، وتتضاعف قوة " المصباح " من بعد ذلك حسب المساحة المطلوب إنارتها ولما ارتقى الإنسان أكثر استخدم " الكلوب " ولما ارتقى أكثر استخدم الكهرباء أو النيون أو الطاقة الشمسية، فإذا ما أشرقت الشمس فكل إنسان يطفئ الضوء الذي يستخدمه، فنورها يغني عن أي نور، وفي الليل يحاول الإنسان أن تكون حالة الكهرباء في منزله جيدة خشية أن ينقطع سلك ما فيظلم المكان، فما بالنا بالشمس التي لا يحدث لها مثل ذلك.
إننا نجد الإنسان على مر التاريخ يحاول أن يرقى إلى فهم طلاقة قدرة الحق، وإن لم يأت رسول، أما أسماء القدرة الخالقة فلا يعرفها أحد بالعقل بل بوساطة الرسل، فاسم " الله " اسم توقيفي، فكيف يتأتى إذن مثل قول هؤلاء : سنؤمن بالله ونكفر برسله ؟ كيف عرفوا إذن أن القوة التي سيؤمنون بها اسمها الله ؟ لا بد أنهم قد عرفوا ذلك من خلال رسول لأن الإيمان بالله إنما يأتي بعد بلاغ عن الله لرسول ليقول اسمه لمن يؤمن به.
وهل الإيمان بالله كقوة خفية مبهمة وعظيمة يكفي ؟ أو أن الإنسان لا بد له أن يفكر فيما تطلبه منه هذه القوة ؟ وإذا كانت هذه القوة تطلب من الإنسان أن يسير على منهج معين، فمن الذي يبلغ المنهج ؟.
لا بد إذن من الرسول يبلغنا اسم القوة الخالقة ومطلوبها من الإنسان للسير على المنهج، ويشرح لنا كيفية طاعة هذه القوة فلا أحد إذن يستطيع أن يفصل الإيمان بالله عن الرسول، وإلا كان إيمانا بقوة مبهمة، ولا يجترئ صاحب هذا اللون من الإيمان أن يقول : إن اسم هذه القوة " الله "، لأن هذا الاسم يحتاج إلى بلاغ من رسول.
إذن فعندما يسمع أحدنا إنسانا يقول : أنا أؤمن بالله ولا أؤمن بالرسل : علينا أن نقول له : هذا أول الزلل العقلي لأن الإيمان بالله يقتضي الإيمان ببلاغ جاء به رسول لأن الإيمان بالله لا ينفصل عن الإيمان بالرسول.
والحق سبحانه وتعالى خلق آدم بعد أن خلق الكون وبقية المخلوقات ولا نجد من يدعي أن آدم هو أول من عمر هذا الوجود.
وما آدم في منطق العقل واحد | ولكنه عند القياس أوادم |
إذن كان لابد لآدم من معرفة الأسماء كلها من خلال معلم، لأن اللغة بنت المحاكاة، لأن أحدا لا يستطيع أن يتكلم كلمة إلا بعد أن يكون قد سمعها والواحد منا سمع من أبيه والآباء سمعوا من الأجداد وتتوالى المسألة إلى أن تصل إلى آدم، فممن سمع آدم حتى يتكلم أول كلمة ؟ لا بد أنه الله، وهذه مسألة يجب أن يعترف بها كل إنسان عاقل، إذن قول الحق في القرآن :﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ﴾( من الآية٣١سورة البقرة ).
هو كلام منطقي بالإحصاء الاستقرائي وهو قول يتميز بمنتهى الصدق.
والإنسان منا عندما يعلم ابنه الكلام يعلمه الأسماء أما الأفعال فلا أحد يعرف كيف تعلمها، الإنسان يقول لابنه : هذا كوب وهذه منضدة وذلك طبق وهذا طعام لكن لا أحد يقول لابنه :" شرب " معناها كذا، و " أكل " معناها كذا إذن فالخميرة الأولى للكلام هي الأسماء وبعد ذلك تأتي المزاولات والممارسات ليتعلم الإنسان الأفعال.
لقد ترك الحق لنا في كونه أدلة عظيمة تناسب عظمته كخالق لهذا الكون والرسول هو الذي يأتي بالبلاغ عنه سبحانه، فيقول لنا اسم القوة " الله "، وصفاتها هي " كذا "، ومن يطعها يدخل الجنة ومن يعصها يدخل النار ولو لم يوجد رسول نظل تائهين ولا نعرف اسم القوة الخالقة ولا نعرف مطلوبها وهذا ما يرد به على الجماعة التي تعبد الشمس أو القمر أو النجوم ونقول لهم : هل أنتم تعبدون الشمس ؟ لعلكم فعلتم ذلك لأنها أكبر قوة في نظركم.
لكن هناك سؤال هو : " ما العبادة " ؟ الإجابة هي : العبادة طاعة عابد لمعبود، فماذا طلبت منكم الشمس أن تفعلوه وماذا نهتكم ومنعتكم الشمس ألا تفعلوه ؟ ويعترف عبدة الشمس : لم تطلب الشمس منا شيئا وعلى ذلك فعبادتهم للشمس لا أساس لها، لأنها لم تحدد منهاجا لعبادتها ولا تستطيع أن تعد شيئا لمن عبدها، فإله بلا منهج لا قيمة له، وهكذا نرى أن عبادة أي قوة غير الله هي عبادة تحمل تكذيبها والإيمان بالله لا ينفصل أبدا عن الإيمان بالقوة المبلغة عن الله إنها الرسل.
ويشرح الرسول لنا كيف يتصل بهذه القوة الإلهية وتشرح القوة الإلهية لنا كيفية اتصاله بالرسول البشري بواسطة خلق آخر خلقته هذه القوة المطلقة لأن الرسول من البشر والبشر لا يستطيع أن يتلقى عن القوة الفاعلة الكبرى، ونحن نفعل مثل هذه الأشياء في صناعتنا ونعلم أن الإنسان عندما يريد أن ينام لا يرغب في وجود ضوء في أثناء نومه فيتخذ الليل سكنا ويتمتع بالظلمة لكن إن استيقظ في الليل فهو يخاف أن يسير في منزله بدون ضوء حتى لا يصطدم بشيء لذلك قد يوقد مصباحا صغيرا في قوة الشمعة الصغيرة ليعطي نفسه الضوء، ونسميها " الوناسة ".
ولا نستطيع توصيل هذا المصباح الصغير بالكهرباء مباشرة وإنما نقوم بتركيب محول صغير يأخذ من القوة الكهربائية العالية ويعطي للمصباح الصغير، فما بالنا بقوة القوى ؟
إن الله جعل خلقا آخر هم الملائكة ليكونوا واسطة بينه وبين رسله وهؤلاء الرسل أعدهم سبحانه إعدادا خاصا لتلقي هذه المهمة إذن فالذين يريدون أن يؤمنون بالله ثم يكفروا برسله نقول لهم : لا، هذا إيمان ناقص ووضع الحق سبحانه وتعالى الإيمان بالرسل في صيغة جمع حتى لا تفهم كل أمة أن رسولها فقط هو الرسول المنزل من عند الله بل لا بد أن تؤمن كل أمة بالرسل كلهم لأن كل رسول إنما جاء على ميعاده من متطلبات المجتمع الذي يعاصره وكلهم جاءوا بعقائد واحدة، فلم يأت رسول بعقيدة مخالفة لعقيدة الرسول الآخر وإن اختلفوا في الوسائل والمسائل التي تترتب عليها الإرتقاءات الحياتية وقد خلق الحق أولا سيدنا آدم وخلق منه زوجته حواء، اثنين فقط ثم قال سبحانه :
﴿ وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ﴾( من الآية١سورة النساء ).
كان الاثنان يعيشان معا وأنجبا عددا من الأبناء وتناسل الأبناء فصار مطلوبا لكل أسرة من الأبناء بيتا، وكل بيت فيه أسرة يحتاج إلى رقعة من الأرض ليستخرج منها أفراد الأسرة خيرات تكفي الطعام وكل فرد يحتاج على الأقل إلى نصف فدان ليستخرج منه حاجته للطعام، وكلما كثر النسل اتسعت رقعة الوجود بالمواصلات البدائية، فهذا إنسان ضاقت به منطقته فرحل إلى منطقة أخرى فيها مطر أكثر ليستفيد منه أو خير أكثر يستخرجه، وتنتشر الجماعات وتنعزل وصارت لكل جماعة عادات وتقاليد وأمراض ومعايب غير موجودة في الجماعة الأخرى، ولذلك ينزل الحق سبحانه وتعالى رسولا إلى كل جماعة ليعالج الداءات في كل بيئة على حدة، وسخر الحق سبحانه وتعالى بعض العقول لاكتشافات الكون، وبعد ذلك يصبح الكون قطعة واحدة فالحدث يحدث في أمريكا لنراه في اللحظة نفسها في مصر، وزادت الارتقاءات ولذلك كادت العادات السيئة تكون واحدة في المجتمع الإنساني كله، فتظهر السيئة في أمريكا أو ألمانيا لنجدها في مجتمعنا، إذن فالارتقاءات الطموحية جعلت العالم وحدة واحدة، : آفاته واحدة، وعاداته واحدة وعندما يأتي الرسول الواحد يشملهم كلهم.
ولذلك كان لابد أن يأتي الرسول الخاتم الجامع صلى الله عليه وسلم، لأن العالم لم يعد منعزلا ليخاطب الجمع كله وهو خير الرسل وأمته خير الأمم إن اتبعت تعاليمه ومن ضرورة إيمان رسول الله والذين معه أن يؤمنوا بمن سبق من الرسل.
والذين يحاولون أن يفرقوا بين الرسل هم قوم لا يفقهون فاليهود آمنوا بموسى عليه السلام وأرهقوه وكفروا بعيسى وعندما جاء عيسى عليه السلام آمن به بعض، وعندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم آمن به بعض وكفر به بعض، ولذلك سمي الحق كفرهم بالنبي الخاتم ( ثم ازدادوا كفرا ) أي أنه كفر في القمة فلن يأتي نبي من بعد ذلك واكتمل به صلى الله عليه وسلم موكب الرسالات.
إذن فالمراد من الآية أن الإيمان فيه إيمان قمة، تؤمن بقوة لكنك لا تعرف اسم هذه القوة ولا مطلوبات هذه القوة ولا ما أعدته القوة من ثواب للمطيع ولا من عقاب للعاصي، ولذلك كان لا بد أن يوجد رسول، لأن العقل يقود إلى ضرورة الإيمان بالله والرسل، وجاء الرسل في مو
ونلحظ أن الحق ساعة يتكلم عن الكافرين لا يعزلهم عن الحكم والجزاء الذي ينتظرهم، بل يوجد الحكم معهم في النص الواحد ولا يحيل الحق الحكم إلى آية أخرى :" أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " وقد جاء هنا بالجزاء على الكفر ملتصقا بالكفر فسبحانه قد جهز بالفعل العذاب المهين وأعده للكافرين ولم يؤجل أمرهم أو يسوفه ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن الجنة عرضت علي ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت " ١
لقد أعد الحق الجنة والنار فعلا وعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو شاء الرسول أن يأتي المؤمنين بقطاف من ثمار الجنة لفعل، فإياكم أن تعتقدوا أن الله سيظل إلى أن تقوم الساعة ثم يرى كم واحدا قد كفر فيعد لهم عذابا على حسب عددهم، أو كم واحدا قد آمن فيعد لهم جنة ونعيما على قدر عددهم، بل أعد الحق الجنة على أن كل الناس مؤمنون ولهم مكان في الجنة، وأعد النار على أن كل الناس كافرون ولهم أماكن في النار فيأتي المؤمن للآخرة ويأخذ المكان المعد له، ويأخذ أيضا بعضا من الأماكن في الجنة التي سبق إعدادها لمن كفر، مصداقا لقوله الحق :
﴿ أولئك هم الوارثون( ١٠ )الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون( ١١ ) ﴾( سورة المؤمنون )
فسبحانه لم ينتظر ولم يؤجل المسألة إلى حد عمل الإحصائية ليسأل من الذي آمن ومن الذي كفر ليعد كل جماعة حسب تعدادها نارا أو جنة، بل عامل خلقه على أساس أن كل الذي يأتي إليه من البشر قد يكون مؤمنا، لذلك أعد لكل منهم مكانا في الجنة، أو أن يكون كافرا فأعد لكل منهم مكانا في النار، ونجد السؤال في الآخرة للنار :
﴿ يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾( سورة ق ).
فالنار تطلب المزيد للأماكن التي كانت معدة لمن لم يدخلها لأنه آمن بالله، ويرث الذين آمنوا الأماكن التي كانت معدة لمن لم يدخل الجنة لأنه كفر بالله وبرسله وفرق بين الله ورسله وقال نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويأتي من بعد ذلك المقابل للذين كفروا بالله ورسله وهم المؤمنون، هذا هو المقابل المنطقي.
والمجيء بالمقابلات أدعى لرسوخها في الذهن مثال ذلك عندما ينظر مدير المدرسة إلى شابين، كل منهما في الثانوية العامة فيقول : فلان قد نجح لأنه اجتهد، والثاني قد خاب وفشل هذه المفارقة تحدث لدى السامع لها المقارنة بين سلوك الاثنين.
.
﴿ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما( ١٥٢ ) ﴾.
ويؤكد الحق هنا على أمر واضح : " ولم يفرقوا بين أحد منهم " وكلمة " أحد " في اللغة تطلق مرة ويراد بها المفرد، ومرة يراد بها المفردة ومرة يراد بها المثنى مذكرا أو المثنى مؤنثا أو جمع الإناث وجمع التذكير وهكذا تكون " أحد " في هذه الآية تشمل كل الرسل، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ﴾( من الآية٣٢سورة النساء ).
فكلمة أحد يستوي فيها المذكر والمؤنث والمثنى والمفرد والجمع وكما قال الحق عن الذين يكفرون بالله ورسله أو يفرقون بين الرسل : " أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا "، يقول الحق في هذه الآية عن الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم : " أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما " فكل مقابل قد جاء معه حكمه
﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا( ١٥٣ ) ﴾.
هذا خطأ منهم في السؤال، وكان المفروض أن يكون : يسألك أهل الكتاب أن تسأل الله أن ينزل عليهم كتابا وقد حاول المشركون في مكة أن يجدوا في القرآن ثغرة فلم يجدوا وهم أمة فصاحة وبلاغة ولسان، واعترفوا بأن القرآن عظيم ولكن الآفة بالنسبة إليهم أنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم( ٣١ ) ﴾( سورة الزخرف ).
هم اعترفوا بعظمة القرآن، واعترافهم بعظمة القرآن مع غيظهم من نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم مضطربين فكريا، لقد اعترفوا بعظمة القرآن بعد أن نظروا إليه فمرة قالوا : إنه سحر ومرة قالوا : إنه من تلقين بعض البشر، وقالوا : إنه شعر وقالوا : إنه من أساطير الأولين وكل ذلك رهبة أمام عظمة القرآن ثم أخيرا قالوا :( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ).
ولكن ألم يكن هو القرآن نفسه الذي نزل ؟ إذن فالآفة عندهم أنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وذلك من الحسد.
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ﴾( من الآية٥٤سورة النساء ).
لأن قولهم لا يتسم أبدا بالموضوعية، بل كل كلامهم بُعد عن الحق وتخبط، لقد قالوا مرة عن القرآن : إنه سحر، وعندما سألهم الناس : لماذا لم يسحركم القرآن إذن ؟ فليس للمسحور إرادة مع الساحر ولم يجدوا إجابة وقالوا مرة عن القرآن : إنه شعر فتعجب منهم القوم لأنهم أمة الشعر، وقد سبق لهم أن علقوا المعلقات على جدار الكعبة، لكنه كلام التخبط.
إذن فالمسألة كلها تنحصر في رفضهم الإيمان، فإذا أمسكتهم الحجة من تلابيبهم في شيء انتقلوا إلى شيء آخر.
ويوضح سبحانه : إن كانوا يطلبون كتابا فالكتاب قد نزل، تماما كما نزل كتاب من قبل على موسى وماداموا قد صدقوا نزول الكتاب على موسى فلماذا لا يصدقون نزول الكتاب على محمد ؟ ولا بد أن هناك معنى خاصا وراء قوله الحق : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " ونعلم أن الكتاب نزل على موسى مكتوبا جملة واحدة، وهم كأهل كتاب يطلبون نزول القرآن بالطريقة نفسها، وعندما ندقق في الآية نجدهم يسألون أن ينزل عليهم الكتاب من السماء، وكأنهم يريدون أن يعزلوا رسول الله وأن يكونون الكلام مباشرة من الله لهم، لذلك يقول الحق في موقع آخر :
﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ﴾ ( من الآية٣٢سورة الزخرف ).
الحق إذن قسم الأمور في الحياة الدنيا فكيف يتدخلون في مسألة الوحي وهو من رحمة الله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء "، وهم قد نسبوا التنزيل إلى رسول الله، ورسول الله ما قال إني نزلت، بل قال :" أنزل علي ".
ويقال في رواية من الروايات أن كعب بن الأشرف والجماعة الذين كانوا حوله أرادوا أن ينزل الوحي على كل واحد منهم بكتاب، فيقول الوحي لكعب :" يا كعب آمن بمحمد ".
وينزل إلى كل واحد كتابا بهذا الشكل الخصوصي أو أن ينزل الله لهم كتابا مخصوصا مع القرآن وكيف يطلبون ذلك وعندهم التوراة ويوضح الله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم : لا تستكثر منهم يا محمد أن يسألوك كتابا ينزل عليهم لأنهم سألوا موسى أكبر من ذلك، وطلبهم تنزيل الكتاب، هو طلب لفعل من الله، وقد سبق لهم الغلو أكثر من ذلك عندما قالوا لموسى( أرنا الله جهرة ) وهم بمثل هذا القول تعدوا من فعل الله إلى ذات الحق سبحانه وتعالى، لذلك لا تستكثر عليهم مسألة طلبهم لنزول كتاب إليهم، فقد سألوا موسى وهو رسولهم رؤية الله جهرة :" يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ".
ولحظة أن ترى كلمة " الصاعقة " تفهم أنها شيء يأتي من أعلى يبدأ بصوت مزعج وقلنا من قبل أثناء خواطرنا حول آية في سورة البقرة.
﴿ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق ﴾( من الآية١٩سورة البقرة ).
أي أنهم يضعون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، وهذا دليل على أن صوت الصاعقة مزعج قد يخرق طبلة الأذن، ودليل على أن إزعاج الصاعقة فوق طاقة الانسداد بأصبع واحدة، لأن الإنسان ساعة يسد أذنيه يسدها بطرف الأصبع لا بكل الأصابع وبلغ من شدة إزعاج الصوت أنهم كلما وضعوا أناملهم في آذانهم لم يمتنع الصوت المزعج.
إذن فالصاعقة صوت مزعج يأتي من أعلى، وبعد ذلك ينزل قضاء الله إما بأمر مهلك وإما بنار تحرق وإما بريح تدمر " فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " والظلم هو أن تجعل حقا لغير صاحبه ولا تجعل حقا لغير صاحبه إلا أن تكون قد أخذت حقا من صاحبه، وسؤالهم هذا لون من الظلم، لأن الإدراك للأشياء هو إحاطة المدرك بالمدرك.
وحين تدرك شيئا بعينك فمعنى ذلك أن عينك أحاطت بالشيء المدرك وحيزته بالتفصيل وكذلك الأذن عندما تسمع الصوت وكذلك الأنف عندما تشم الرائحة وكذلك اللمس لمعرفة النعومة أو الخشونة وكذلك الذوق ليحس الإنسان الطعم إذن فمعنى الإدراك بوسيلة من الوسائل أن تحيط بالشيء المدرك إحاطة شاملة جامعة.
فإذا كانوا قد طلبوا أن يروا الله جهرة، فمعنى ذلك أنهم طلبوا أن تكون آلة الإدراك وهي العين محيطة بالله وحين يحيط المدرك بالمدرك يقال قدر عليه وهل ينقلب القادر الأعلى مقدورا عليه ؟ حاشا لله وذلك مطلق الظلم ونهايته فمن الجائز أن يرى الإنسان إنسانا، ولكن لا يستقيم أبدا ولا يصح أن ينقل الإنسان هذه المسألة إلى الله، لماذا ؟ لأنه سبحانه القائل :
﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾( من الآية١٠٣سورة الأنعام ).
ومادام الله إلها قادرا فلن ينقلب إلى مقدور.
ونحن إن أعطينا لواحد مسألة ليحلها فهذا معناه أن فكره قد قدر عليها، وأما إذا أعطيناه مسألة ولم يقدر على حلها ففكره لم يقدر عليها إذن فكل شيء يقع تحت دائرة الإدراك يقول لنا : إن الآلة المدركة قد قدرت عليه.
والحق سبحانه وتعالى قادر أعلى لا ينقلب مقدورا لما خلق، " فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات "، وكان يكفي بعد أن أخذتهم الصاعقة أن يتأدبوا ولا يجترئوا على الله، ولكنهم اتخذوا العجل من بعد أن جاوز الحق بهم البحر وعبره بهم تيسيرا عليهم وتأييدا لهم وأراهم معجزة حقيقية، بعد أن قالوا :
﴿ إنا لمدركون ﴾( من الآية٦١سورة الشعراء ).
فقد كان البحر أمامهم وفرعون من خلفهم ولا مفر من هلاكهم لأن المنطق الطبيعي أن يدركهم فرعون، وآتى الله سيدنا موسى إلهامات الوحي فقال :
﴿ قال كلا إن معي ربي سيهدني( ٦٢ ) ﴾( سورة الشعراء ).
لقد لجأ موسى إلى القانون الأعلى قانون الله فأمره الله أن يضرب بعصاه البحر، ويتفرق البحر وتصير كل فرقة كالطود والجبل العظيم، وبعد أن ساروا في البحر، وأغرق فرعون أمامهم وأنجاهم سبحانه لكنهم من بعد ذلك كله يتخذون العجل إلها.
هكذا قابلوا جميل الله بالنكران والكفران " ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا " والسلطان المبين الذي آتاه الله لموسى عليه السلام هو التسلط والاستيلاء الظاهر عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم، وجاءوا بالسيوف لأن الله قد أعطى سيدنا موسى قوة فلا يخرج أحد عن أمره، والقوة سلطان قاهر.
﴿ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا( ١٥٤ ) ﴾.
إذن اجتراؤهم في البداية كان في طلب رؤية الله جهرة، ثم العملية الثانية وهي اتخاذهم العجل إلها، ويعالج الله هؤلاء بالأوامر الحسية لذلك نتق الجبل فوقهم :
( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم }( من الآية١٧١سورة الأعراف ).
مثل هؤلاء لا يرضخون إلا بالآيات المادية، لذلك رفع الله فوقهم الجبل فإما أن يأخذوا ما آتاهم الله بقوة وينفذوا المطلوب منهم، وإما أن ينطبق عليهم الجبل، وهكذا نرى أن كل اقتناعاتهم نتيجة للأمر المادي، فجاءت كل الأمور إليهم من جهة المادة " وقلنا ادخلوا الباب سجدا " أي أن يدخلوا ساجدين وهذا إخضاع مادي أيضا وكان هذا الباب الذي أمرهم موسى أن يدخلوه ساجدين هو باب قرية أريحا في الشام، " وقلنا لهم لا تعدوا في السبت " وسبحانه قال عنهم :
﴿ إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ﴾( من الآية١٦٣سورة الأعراف ).
وكلمة " السبت " لها اشتقاق لغوي من " سبت " و " يسبت " أي سكن وهدأ ويقول الحق سبحانه :
﴿ وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا ﴾( من الآية٤٧سورة الفرقان ).
أي جعل النوم سكنا لكم وقطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم " وقلنا لهم لا تعدوا في السبت " أي نهاهم الله أن يصطادوا في يوم السبت ويأتي يوم السبت فتأتيهم الحيتان مغرية تخرج أشرعتها من زعانفها وهي تعوم فوق الماء أو تظهر على وجه الماء من كل ناحية، وهذا من الابتلاءات " ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " أي أن الأيام التي يكون مسموحا لهم فيها بالصيد لا تأتي لهم الأسماك ولذلك يحتالون ويصنعون الحظائر الثابتة من السلك ليدخلها السمك يوم السبت ولا يستطيع الخروج منها.
لقد احتالوا على أمر الله هكذا يبين الحق سبحانه وتعالى مراوغة بني إسرائيل وفعل الله بهم كل ذلك ولكنهم احتالوا وتمردوا وردوه وحين يهادن الحق القوم الذين يدعوهم إلى الإيمان فسبحانه يقدر أنه خلقهم ويقدر الغريزة البشرية التي قد يكون من الصعب أن تلين لأول داع، فهو يدعوها مرة فلا تستقبل فيعفو وأخذ الله عليهم العهد الوثيق المؤكد بأن يطيعوه ولكنهم عصوا ونقضوا العهد، وبعد ذلك يقول لنا الخبر لنتعلم أن الله لا يمل حتى تملوا أيها البشر.
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا( ١٥٥ ) ﴾.
لقد نقضوا كل المواثيق والأشياء التي تقدمت ومعنى الميثاق هو العهد المؤكد الموثق، ونقض الميثاق هو حله، وهذا ما يستوجب ما يهددهم الله به، وكفروا بآيات الله التي أنزلها لتؤيد موسى عليه السلام وقتلوا أنبياء الله بغير حق، وادعوا تعليلا لذلك أن قلوبهم غلف لا تسمع للدعوى الإيمانية، أي أن قلوبهم مغلفة مغطاة أي جعل عليها غلاف بحيث لا يخرج منها ما فيها ولا يدخل فيها ما هو خارج عنها، وأرادوا بذلك الاستدراك على الله فقالوا : قلوبنا لا يخرج منها ضلال ولا يدخل فيها إيمان وسبق أن تقدم مثل هذا في قول الحق :
﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون( ٦ )ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم( ٧ ) ﴾( سورة البقرة ).
ونقول : أهي القلوب خلقت غلفا أي أن القلوب خلقت مختوما عليها بحيث لا يدخلها هدى ولا يخرج منها ضلال، أم أنتم الذين فعلتم الختم وأنتم الذين صنعتم الغلاف ؟
وسبحانه أوضح في آيتي سورة البقرة أنه جل وعلا الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فالختم على القلب حتى لا يتعرفوا إلى الدليل، لأن القلب محل الأدلة واليقين والعقائد والختم على الأسماع والأبصار هو الختم على آلات إدراك الدلائل البينات على وجود الحق الأعلى فمقر العقائد مختوم عليه وهو القلب، ومضروب على الآذان وعلى البصر غشاوة، فهل هذا كائن بطبيعة تكوين هؤلاء ؟ لا، لأنه إذا كان هذا بطبيعة التكوين فلماذا خصهم الله بذلك التكوين ؟ ولماذا لم يكن الذين اهتدوا مختوما لا على قلوبهم ولا على أسماعهم ولا على أبصارهم ؟.
غير أن الواحد منهم يبرر لنفسه وللآخرين انحرافه وإسرافه على نفسه بالقول " خلقني الله هكذا " وهذا قول مزيف وكاذب لأن صاحبه إنما يكفر أولا، فلما كفر وانصرف عن الحق تركه الله على حاله، لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك فمن اتخذ مع الله شريكا فهو للشريك وليس لله. إذن فالختم جاء كنتيجة للكفر.
وقدمت آيات سورة البقرة الحيثية : أن الكفر يحدث أولا، ثم يأتي الختم على القلب والسمع والبصر نتيجة لذلك وهنا في آية سورة النساء : " وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا "، فالكفر جاء أولا، وفي ذلك رد على أي إنسان يقول : " إن الله لا يهديني " ولا يلتفت إلى أن الله لا يهدي من كفر به، وكذلك الفاسق أو الظالم والمثال الأكبر على ذلك إبليس الذي كفر أولا، وبعد ذلك تركه الله لنفسه واستغنى عنه.
ولنا هنا وقفة لفظية مع قوله الحق :" فبما نقضهم " لأن الفهم السطحي لأصول الأسلوب قد يتساءل : لماذا جاءت " ما " هنا ؟ وبعضهم قال : إن " ما " هنا زائدة ونقول : إياك أن تقول إن في كلام الله حرفا زائدا، لأن معنى ذلك أن المعنى يتم بغير وجوده ويكون فضولا وزائدا على الحاجة ولا فائدة فيه، ولكن عليك أن تقول : " أنا لا أفهم لماذا جاء هذا الحرف "، خصوصا ونحن في هذا العصر نعيش كأمة بلاغتها مصنوعة ولا نملك اللسان العربي المطبوع ولولا أننا تعلمنا العربية لما استطعنا أن نتكلمها أما العربي الفصيح الذي نزل عليه القرآن فقد كان يتكلم اللغة العربية دون أن يجلس إلى معلم ولم يتلق العلم بأن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب بل تكلم اللغة بطبيعته وملكته.
أما نحن فنعيش في زمن مختلف وطغت علينا العجمة وامتلأت آذاننا باللحن، وصرنا نعلم أنفسنا قواعد اللغة العربية حتى نتكلم بأسلوب صحيح.
وقد جاءت القواعد في النحو من الاستنباط من السليقة العربية الأولى التي كانت بغير تعليم واستقرأ العلماء الأساليب العربية فوجدوا أن الفاعل مرفوع والمثنى يرفع بالألف، وجمع المذكر السالم يرفع ب " الواو "، وهكذا أخذنا القواعد من الذين لا قواعد لهم بل كانوا يتكلمون بالسليقة وبالطبيعة والملكة.
لقد سمع العربي قديما ساعة نزل القرآن قوله الحق : " فبما نقضهم " ولم يتنبه واحد منهم إلى أن شيئا قد خرج عن الأسلوب الصحيح، ونعلم أن بعضا من العرب كانوا كافرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصدقون القرآن، ولو كانت هناك كلمة واحدة تخرج عن المألوف في اللغة لصرخوا بها وأعلنوها ولكن القرآن جاء بالكلام المعجز على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغهم به، موضحا : جئت بالقرآن معجزة تعجزون عن محاكاته، مع أنكم عرب وفصحاء.
والمتحدي يحاول دائما أن يتصيد خطأ ما، ولم يقل واحد من العرب إن في القرآن لحنا، وهذا دليل على أن الأسلوب القرآني يتفق مع الملكة العربية.
وقول الحق : " فبما نقضهم " هي في الأصل : بنقضهم الميثاق فعلنا بهم ما صاروا إليه، و " ما " جاءت هنا لماذا ؟ قال بعض العلماء : إنها " ما " زائدة، وهي زائدة للتأكيد ونكرر : إياك أن تقول إن في كلام الله حرفا زائدا، لقد جاءت " ما " هنا لمعنى واضح، والحق في موقع آخر من القرآن يقول :
﴿ ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾( من الآية١٩سورة المائدة ).
وقالوا : إن أصل العبارة " ما جاءنا بشير "، وإن " من " جاءت زائدة حتى يتسق اللفظ ونقول : لو أن العبارة جاءت كما قالوا لما استقام المعنى، ولإيضاح ذلك أضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى عندما يقول واحد : " ما عندي مال " فهذا نفي أن يكون عند القائل مال، ولعل لديه قدرا من المال القليل الذي لا يستأهل أن يسميه مالا، ولكن إذا قال واحد :" ما عندي من مال " فالمعنى أنه لا يملك المال على إطلاقه أي أنه مفلس تماما، ولا يملك أي شيء من بداية ما يقال إنه مال إذن " ما جاءنا بشير " ليست مثل قوله : " ما جاءنا من بشير " فالمعنى أنه لم يأتهم أي رسول بشير أو نذير من بداية ما يقال إنه رسول.
إذن فقول الحق : " فبما نقضهم ميثاقهم " أي بسبب نقض الميثاق فعلنا بهم كذا، لماذا إذن أثار العلماء هذه الضجة ؟ السبب في ذلك هو وجود ما بعد " الباء " وقبل المصدر، أي أنهم نقضوا العهد بكل صورة من صوره، فنقض العهد الميثاق له صور متعددة ف( ما ) هنا استفهامية جاءت للتعجيب أي على أية صورة من صور نقض ونكث العهد لعناهم ؟ لعناهم لكثرة ما نقضوا من العهود والمواثيق والحق قد قال :
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا( ١٥٥ ) ﴾( سورة النساء ).
ولم يقل : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف، طبع الله على قلوبهم فوجود " بل " يدلنا على أن هنالك أمرا أضربنا عنه، فنحن نقول : جاءني زيد بل عمرو أي أن القائل قد أخطأ فقال :" جاءني زيد " واستدرك لنفسه فقال :" بل عمرو " وبذلك نفى مجيء زيد وأكد مجيء عمرو.
والحق قال :" بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا "، كان المقتضي في الأسلوب العادي أن يقول : بكفرهم وبقتلهم الأنبياء طبع الله على قلوبهم ). ولكن سبحانه لم يقل ذلك لحكمة بالغة وحتى نعرف تلك الحكمة فلنبحث عن المقابل ل " طبع الله على قلوبهم "، المقابل هو " فتح الله على قلوبهم بالهدى ".
وجاء قول الحق معبرا تمام التعبير عن موقفهم :" فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها ).
وهكذا نرى عظمة القرآن الذي يأتي بالمعنى الدقيق ويجب أن نفكر فيه ونتدبر كل كلمة منه.
الحق إذن يقدم الأسباب لما صنعه بهم بالحيثيات، من نقضهم للميثاق، وكفرهم بآيات الله وبقتلهم للأنبياء بغير حق، لذلك لم يفتح الله عليهم بالهدى، بل طبع الله على قلوبهم بالكفر فوجود " بل " دليل على أن هناك أمرا قد نفى وأمرا قد تأكد والأمر الذي نفا الله عنهم أنه لم يفتح عليهم بالهدى والإيمان، والأمر الذي تأكد أنه سبحانه قد طبع على قلوبهم بالكفر وفي آية أخرى قال عنهم :
﴿ وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون( ٨٨ ) ﴾( سورة البقرة ).
فقلوبهم ليست غلفا، ولكن هي لعنة الله لهم وإبعاده لهم وطردهم واستغناؤه عنهم، لذلك تركهم لأنفسهم فغلبت عليهم الشهوات، ولماذا ذيل الحق الآية بقوله :" فلا يؤمنون إلا قليلا " ؟ لأن المقصود به عدم إغلاق باب الإيمان على إطلاقه أمام هؤلاء الناس، وهو كما عرفنا من قبل " صيانة الاحتمال " فقد يعلن واحد من هؤلاء إيمانه الذي خبأه في نفسه، فكيف يجد الفرصة لذلك إن كان الله قد قال عنهم جميعا " طبع الله على قلوبهم " ؟.
إن الذي يرغب في إعلان الإيمان منهم لا يجد الباب مفتوحا، ولكن عندما يجد الحق قد قال :" فلا يؤمنون إلا قليلا " فهو يعلم أن باب الإيمان مفتوح للجميع.
﴿ وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما( ١٥٦ ) ﴾.
ويقول قائل : ألم يقل الحق من قبل إن " كفرهم " هو سبب من أسباب طبع الله على قلوبهم ؟ وأقول : إياك أن تقول إن هناك كلمة في القرآن مكررة لأن الذي يتكلم هو الله سبحانه وتعالى الذي لا ينسى شيئا، ولا يكرر من غير داع والكفر أيضا على درجات، مرة يكون الكفر بالله، ومرة يكون الكفر بآيات الله، وثالثة يكون الكفر بالرسل، ورابعة يكون الكفر ببعض النبيين وخامسة يكون الكفر ببعض الكتب السماوية.
إذن فألوان الكفر شتى، والكفر في الآية السابقة كان كفرا بآيات الله، أما كفرهم في هذه الآية فالحق يشرحه :" وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما "، لقد كفروا بعيسى عليه السلام وقالوا البهتان العظيم على مريم هذا كفر بآيات الله وبرسول من عند الله.
وقوله الحق :" وبكفرهم " هو عطف على " نقضهم " وعلى " كفرهم بآيات الله " وعلى " قتلهم الأنبياء " وعلى " قولهم قلوبنا غلف " ونلاحظ هنا أن الحق لم يذكر الباء التي جاءت في أول الآية السابقة حين قال :" فبما نقضهم ميثاقهم ".
وهذا يدل على أننا أمام مناط الرحمة من ربنا سبحانه وتعالى فقد كان يكفي ارتكابهم لأي واحدة من هذه الأعمال المذكورة لكي يطبع الله على قلوبهم، ولكنهم ارتكبوا كل الأعمال المذكورة مجتمعة، ولم يرتكبوا فعلا واحدا منها، وهذا دليل على أن الله لا يترصد لعبيده، ولا يتصيد ويحتال ليوقعهم في الكفر ولكن يحنن العباد إلى الإيمان.
لقد ارتكبوا أربعة أفعال جسيمة : نقضوا الميثاق، وكفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق، وادعوا أن الله طبع على قلوبهم.
وحين جعل هذه الأفعال الأربعة جريمة واحدة فهذا فضل ورحمة منه.
وبعد ذلك يذكر لهم جريمة أخرى : " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وهنا نجد أنه سبحانه قد ساوى بين قولهم البهتان على مريم وبين كل الأفعال السابقة، لأنهم اعترضوا على رسالة ونبوة عيسى عليه السلام وهو نبي من أولي العزم من الرسل بأشياء قد تكون ضمن الأسباب التي فتنت بعض الناس فيه، لقد خلقه الله خلقا خاصا، فسبحانه خلق الناس جميعا من آدم عليه السلام الذي صوره الله من طين ثم نفخ فيه الروح، وجاء الخلق من التزاوج.
أما عيسى عليه السلام فقد خلقه الله بطريقة خاصة، فكيف كفروا به وكيف يتهمون أمه مريم عليها السلام وهي البتول ؟.
ومن الجائز أن تتهم المرأة وترمي وتوصف بكل شيء، كاذبة، سارقة أو دميمة لكن الاتهام في العرض : لا، والحق هنا يحدد موضوعين للكفر : قولهم البهتان على مريم وهو كفر بالله، وكفرهم بعيسى الذي جاء بميلاد على غير طريقة الميلاد العادية على الرغم من أن هذا تكريم له ولذع لليهود الذين غرقوا في المادية حتى إنهم قالوا( أرنا الله جهرة ).
بل إن الحق رزقهم برزق غيبي لا يعرفون أسبابه : في التيه رزقهم بالمن والسلوى والمن في لون القشدة وطعم العسل الأبيض وهو شيء يقع على أوراق الشجر في بعض البيئات والسلوى طائر يشبه السمانى، وكانوا يأخذون المن من الأشجار ويجمعونه ويأكلونه رزقا يأتيهم ولا يزرعونه ولا يتبعون فيه، لكنهم قالوا : لا، نحن نريد أن نزرع نباتا ينمو من الأرض ولا ننتظر الغيب لأن الغيب قد يضن علينا.
﴿ فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها ﴾( من الآية٦١سورة البقرة ).
هم إذن لا يثقون بما في يد الله، ويريدون الأمر المادي ولذلك يلفتهم الحق سبحانه وتعالى لفتة قسرية ويأتي بأمر يناقض قانون المادة من أساسه وهو ميلاد عيسى عليه السلام بأسلوب غير تقليدي والإنسان يأتي إلى الدنيا من أب وأم، ويأتي الحق بعيسى مخلوقا من أم دون أب، فانتقضت المادية وهم كماديين غفلوا عن الخلق الأول :
﴿ أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد( ١٥ ) ﴾( سورة ق ).
إذن فلماذا الفتنة في عيسى عليه السلام ؟ لقد نقض أمامهم الأساس التقليدي المادي لمجيء الإنسان إلى الدنيا من ذكر وأنثى وجاء عيسى عليه السلام من أم دون أب، ليثبت سبحانه طلاقة القدرة وأنه جعل الأسباب للبشر، فإن أراد البشر مسببا فعليهم أن يأخذوا الأسباب، أما سبحانه وتعالى فهو مسبب الأسباب وخالقها وهو القادر وحده على إيجاد الشيء بتنحيه كل الأسباب.
ونعلم أن قضية الخلق دارت على أربعة أنحاء، إما أن ينشأ الشيء من وجود الشيئين هذه هي الصورة الأولى، وإما أن ينشأ الشيء من عدم وجود الشيئين وهذه هي الصورة الثانية، وإما أن ينشأ الشيء من وجود الشيء الأول وعدم وجود الشيء الثاني، وهذه هي الصورة الثالثة، وإما أن ينشأ الشيء من وجود الشيء الثاني مع عدم وجود الشيء الأول، وهذه هي الصورة الرابعة.
تلك هي الصور الأربع لوجود شيء ما ولم يشأ الله أن يجعل الخلق وهو الإنسان المكرم الذي سخر له الحق كل ما في الكون على نحو واحد حتى لا يقولن أحد : إن السببية مشروطة للوجود.
بل المسبب هو المشروط في الوجود بدليل أنه سبحانه خلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، وخلقنا جميعا نحن من أب وأم، وخلق عيسى عليه السلام من أم دون أب، وخلق حواء من أب دون أم.
هذه هي القسمة العقلية الواضحة فليست المسألة عنصرية موجودة ولكن قيمة واقتدار واجد، وقدرة الحق تتجلى أيضا أمامنا حينما تكون الأسباب موجودة كالأب والأم، لكن يشاء سبحانه أن يكون الاثنان عقيمين فهو القائل :
﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور( ٤٩ )أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ﴾( سورة الشورى ).
إذن فليست المسألة مدار أسباب توجد، بل مسبب يريد أن يوجد وأراد الحق أن يكون مجيء عيسى عليه السلام بهذه الصورة ليلفت بني إسرائيل لعلهم يخرجون من ضلالات المادية، فأوجده من أم دون أب، فكان هذا آية على طلاقة قدرته، ولكن اليهود استقبلوا هذه المسألة استقبالا على غير مراد الله، فكذبوا عيسى، وقد حدث التكذيب من قبل أن يتكلم عيسى بالإنجيل ووقفوا أمام رسالته بعنف، والذي يدلنا على أنهم قوم كذابون، هو رغبتهم في استمرار السيطرة الدينية لهم، وكان عندهم شريعة تقتضي الرجم للزانية، فلماذا إذن لم يتهموا مريم بالزنا عندما ولدت عيسى ؟ ولماذا لم يعاقبوها حسب شريعة التوراة ؟ ولماذا انتظروا إلى أن يجيء عيسى عليه السلام بالإنجيل ليقولوا : يا فاعل يا ابن الفاعلة، كان انتظارهم دليلا على أن ميلاد عيسى عليه السلام كان آية بينة صدعتهم وصدتهم عن ذلك، فقد نطق عيسى عليه السلام بعد ميلاده ولم تتكلم مريم قط، لأن ما حدث أمر فوق منطقها وجهزها الله لهذا الموقف، وأمرها بالصمت عندما يسألونها وأن تشير إلى المولود الذي في المهد :
﴿ فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا( ٢٩ )قال إني عبد الله آتني الكتاب وجعلني نبيا( ٢٠ )وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا( ٣١ ) ﴾( سورة مريم ).
وانبهروا انبهارا فتت فيهم القوى، فقوى الخصومة ساعة ترى هذا لا تجد إلا الانهيار فالحق أبلج، والباطل لجلج.. إذن كان الأمر بيدهم وفي توراتهم أن من يزن يرجم، فلماذا لم يرجموا أم عيسى إذن ؟ لا بد أنهم صدموا بقوة جعلت موازين حقدهم تختل، المعجزة الباهرة هي كلام عيسى ابن مريم في المهد ( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) وجعلت المفاجأة أقوى الأقوياء فيهم ينهار، وتخور قواه.
هذا من ناحية اليهود، فماذا عن ناحية بعض أتباع عيسى عليه السلام ؟ إن صبيا يتكلم في المهد هو معجزة بكل المقاييس، فكيف تخلو كتبهم من قول عيسى في المهد : " إني عبد الله "، وكان لا بد أن تكون الكلمة مدروسة بعناية، وألا تنسى. وحفظ جنود الله سبحانه وتعالى الكلمة، التي تؤكد بشرية عيسى عليه السلام.
وعندما نقول هذا الكلام فليس الهدف منه تصحيح عقائد أحد ولكننا فقط، نريد أن يتضح منطق الإيمان في عقول المسلمين، أما أبناء الديانات الأخرى فهم أحرار فيما يعتقدون، والمهم بالنسبة لنا أن يكون ديننا وقرآننا متضحا أمام أعيننا، ولا يجرؤ أحد أن يميل به.
" وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " ونحن كمسلمين نستنكف أن نقول ما قالوه من بهتان على مريم البتول، والبهتان هو الكذب الشرس فهناك لون من الكذب قد يكون مقبولا ولون من الكذب غير مقبول : فأن يقول قائل عن رجل ورع : إنه شرب الخمر، والقائل يعلم أنه كاذب فهذا كذب ثقيل شرس يتحير ويتعجب من يسمعه، وهذا هو البهتان ولم يستح ويمتنع اليهود حينما رموا مريم الطاهرة بأمر الله بالبهتان مع أنهم علموا أن لمريم سابقة خير واستقامة.
لقد كان ماضي مريم ناصعا، عاشت في المحراب متبتلة لمن خلقها لذلك يصف الحق هذا البهتان بأنه عظيم، لأنه جرح مريم في عرضها ولو رجعوا إلى تاريخهم قبل ميلاد عيسى من مريم لوجدوا أن كل واحدة من بنات بني إسرائيل كانت تستشرف أن يكون النبي المولود بعد موسى من بطنها وكانوا يعرفون أن النبي القادم من بعد موسى ستلده عذراء، وأبلغ بنو إسرائيل بناتهم بكيفية مجيء النبي القادم عيسى ابن مريم تماما مثل قضية البشارة برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم :
﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ﴾( من الآية٨٩سورة البقرة ).
ومن رحمة الله بمريم نفسها أن الله جعل لها التمهيدات التي تثبت لها أمام نفسها أنها بريئة، وأن العملية كلها قد تمت ب( كن ) من الله، لم يجعل الله المسألة سرا عن مريم فتحمل بأمر قوله : " كن " دون أن تدري، لا بل أراد سبحانه أن تكون عملية مادية وجاء الملك لمريم ونفخ فيها بالحمل وعرفت هي السبب ماديا بالملك والنفخ حتى لا تتهم نفسها أو تشك بأن شيئا قد حدث لها وهي نائمة أو غير ذلك.
لقد أراد الله المسألة على تلك الصورة ليجعلها أمرا يقطع الشك لديها، وهي التي بشرت به إيناسا لها، عندما كانت صغيرة قبل البلوغ وجاءها زكريا وهو الكفيل لها والذي يأتيها بالطعام ودخل عليها المحراب فوجد عندها الرزق وسألها :
( أنى لك هذا )أجابت :﴿ هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾( من الآية٣٧سورة آل عمران ).
لقد نطقت مريم البتول من قبل : " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " ومن الحساب أن يكون للمرأة زوج لترزق بالولد، ولكن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ومن العجيب أنها في هذا القول نبهت زكريا إلى قضية كانت في بؤرة شعوره، ولذلك يقول الحق :
﴿ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء( ٣٨ )فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين( ٣٩ )، قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء( ٤٠ ) ﴾( سورة آل عمران ).
إذن فقد شجعت مريم زكريا على أن يدعو ربه، وتلك سلسلة تمهيدية ليطمئن إحساس مريم أن ولادتها لعيسى عليه السلام إنما جاءت ب " كن " وجاء لها الحق بفاكهة الصيف في الشتاء، وعندما قالت لسيدنا زكريا : " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " تنبه ودخل من هذا الباب، فدعا ربه على الرغم من علمه أن امرأته عاقر وأنه بلغ من الكبر عتيا، ومفهوم لنا معنى قول الرجل عن نفسه إنه بلغ من الكبر عتيا، أي أنه لم يعد يملك القدرة على
﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا( ١٥٧ ) ﴾.
ونلاحظ أن الآية تبدأ بواو العطف على ما قبلها وهو قوله الحق :
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا( ١٥٥ )وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما( ١٥٦ ) ﴾( سورة النساء ).
ويعطف سبحانه على جرائمهم هذه الجريمة الجديدة ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ) وأكثر ما يدهش في هذا القول هو كلمة " رسول الله "، فهل هي هنا من قولهم ؟ إن كانوا قد قالوها فهذا دليل اللجاجة المطلقة، ولو قالوا : إنهم قتلوه فقط لكان الجرم أقل وطأة، ولكن إن كانوا قد عرفوا أنه رسول الله وقتلوه فهذا جرم صعب للغاية أو أن كلمة " رسول الله " هنا في هذه الآية ليست من مقولهم الحقيقي وإنما من مقولهم التهكمي.
وأضرب المثل لأوضح هذا الأمر، كأن يأتي شخص ذو قوة هائلة ومشهور بقوته ويأتي له شخص آخر ويضربه ويهزمه ويقول لجماعته : لقد ضربت الفتى القوي فيكم، إذن قد يكون قولهم : " رسول الله " وهو من قبيل التهكم، أو أن كلمة " رسول الله " هنا هي من قول الحق سبحانه وتعالى مضافا إلى قولهم ليبشع عملهم.
" وقولهم : " إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله " فكأن الحق لم يشأ أن يذكر عيسى ابن مريم إلا مرتبطا أو موصوفا بقوله : " رسول الله "، لنعلم بشاعة ما فعلوه، فعيسى ابن مريم رسول الله على رغم أنوفهم وخاصة أن الكلام في مجال إنكارهم وجحودهم لنعم الله، وكفرهم بآيات الله، وكأن الحق يسخر منهم لأنه ما كان الله ليرسل رسولا ليبين منهجه للناس ثم يسلط الناس على قتله قبل أن يؤدي مهمته، وجاء بكلمة " رسول الله " هنا كمقدمة ليلتفت الذهن إلى أن ما قالوه هو الكذب.
وبعد ذلك يقول لنا سبحانه : " وما قتلوه وما صلبوه " وكلمة " وما صلبوه " هنا هي لتوضيح أن مجرد ظنهم أنهم قتلوا المسيح جعلهم يشيعون ذلك ويعلنونه للناس، وهم قد فعلوا ذلك قبل أن يتوجهوا إلى فكرة الصلب، فقد قتلوا شخصا شبهه الله لهم ولم يكن هو المسيح وصلبوه من بعد ذلك، وبمجرد قتل هذا الشخص طاروا بخبر القتل قبل أن تبدأ فكرة الصلب ويقطع الله عليهم هذا الأمر، فيقول :" وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ".
وقد لفتنا سبحانه من قبل إلى أن عملية ميلاد المسيح ثم استقبالها من بني إسرائيل بضجة، فعلى رغم علمهم خبر مجيء المسيح بالميلاد من غير أب، وعلى رغم أنهم علموا بناتهم الاستشراف أن يكون لأية واحدة منهن شرف حمل المسيح، وعلى رغم ذلك قالوا البهتان في مريم التي اصطفاها الله وكذلك كان لمسألة الوفاة ضجة.
واقتران الضجتين : ضجة الميلاد وضجة الوفاة معا في رسالة السيد المسيح يدلنا على أن العقل يجب أن تكون له وحدة تفسيرية فساعة يتكلم العقل عن قضية الميلاد بالنسبة لعيسى ابن مريم لا بد أن يستشعر الإنسان أن الأمر قد جاء على غير سنة موجودة، وساعة يبلغنا الحق أن بني إسرائيل بيتوا النية لقتل عيسى ابن مريم، وأن الله رفعه إليه تكون المسألة قد جاءت أيضا بقضية مخالفة، ولا بد أن نصدق ما بلغنا الله به، وأن يتذكر العقل أن الميلاد كان مخالفا، فلماذا لا تكون النهاية مخالفة أيضا ؟.
وكما صدقنا أن عيسى ابن مريم جاء من غير أب، لا بد أن نصدق أن الحق قد رفعه في النهاية وأخذه، فلم يكن الميلاد في حدود تصور العقل لولا بلاغ الحق لنا، وكذلك الوفاة لا بد أن تكون مقبولة في حدود بلاغ الحق لنا والميلاد والنهاية بالنسبة لعيسى ابن مريم كل منهما عجيبة وإن فهمنا العجيبة الأولى في الميلاد فنحن نعتبرها تمهيدا إلى عيسى ابن مريم دخل الوجود ودخل الحياة بأمر عجيب، فلماذا لا يخرج منها بأمر عجيب ؟ وإن حدثنا الحق أن عيسى ابن مريم خرج من الحياة بأمر عجيب فنحن لا نستعجب ذلك، لأن من بدأ بعجيب لا عجب أن ينتهي بعجيب.
وسبحانه وتعالى حكم وقال : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " وكلمة " شبه لهم " هذه هي دليل على هوج المحاولة للقتل، فقد ألقى شبهه على شخص آخر، وذلك دليل على أن المسألة كانت غير طبيعية، ليس فيها حزم التبين من المتربصين القتلة، ونعلم أن الحواريين وأتباع سيدنا عيسى كانوا يلفون رءوسهم ويدارون سماتهم، ولذلك قال الحق لنا :" ولكن شبه لهم " أي أنهم قد شبه لهم أنهم قتلوه.
واختلفت الروايات في كلمة " شبه لهم "، فمن قائل : إنهم حينما طلبوا عيسى ابن مريم ليقتلوه دخل خوخة والخوخة هي باب في باب، وفي البيوت القديمة كان يوجد للبيت باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة، وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد وفي سقف البيت توجد فتحة وكوة اسمها ( روزنة ) أو( ناروظة ).
فلما طلبوا عيسى دخل الخوخة، ودخل خلفه رجل اسمه " تيطانوس " وعندما رأى سيدنا عيسى هذا الأمر ألهمه الله أن ينظر إلى أعلى فوجد شيئا يرفعه، فلما استبطأ القوم " تيطانوس " خرج عليهم فتساءلوا : إن كان هذا تيطانوس فأين عيسى ؟ وإن كان هذا عيسى فأين تيطانوس ؟.
إذن فقد اختلط عليهم الشبه بين " تيطانوس "، وعيسى وألقى الله شبه عيسى على " تيطانوس " فقتلوه، أو أن عيسى عليه السلام حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال لهم عيسى : أيكم يلقى عليه شبهي وله الجنة ؟ فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة ؟ وقدم عيسى عليه السلام الجائزة الكبرى لأي مؤمن، وقبل واحد من الحواريين هذه المهمة، ويقال له " سرخس " فألقى شبه المسيح عيسى عليه، فقتل اليهود " سرخس ".
وقالوا : إنه حينما عرف بعض الذين ذهبوا لقتل عيسى أنه رفع خافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا برسالة عيسى، وقد ينتقم الناس من الذين أرادوا قتله ولذلك جاء القتلة بشخص وقتلوه وألقى على هذا القتيل شبه عيسى وأعلن القتلة أنهم قتلوا عيسى ابن مريم، أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا نبي الله عيسى لليهود، ولما رأى المشهد ووجد المتربصين بعيسى يدخلون على الحواريين وفيهم عيسى وسأل المتربصون الحواريين : أيكم عيسى ؟ فتيقظت ملكة التوبة في نفس الذي وشى بعيسى وقاده تأنيب الضمير على خيانة الرسول إلى أن يقول :" أنا عيسى " ولم يتصور المتربصون أن يجيب إنسان على قولهم :" أيكم عيسى " إلا وهو عيسى بالفعل، لأن مشهد المتربصين يوحي أنهم سيقتلون عيسى وقتلوا الذي اعترف على نفسه دون تثبت أو أن واحدا باع عيسى لقاء ثلاثين دينارا وتشابه عليهم فقتلوا الواشي، ولم يظفروا بعيسى ابن مريم ونحن كمسلمين لا نهتم اهتماما كبيرا بتلك الروايات فالمهم أنهم قالوا قتلنا عيسى وصلبناه.
وقرآننا الذي نزل على رسولنا صلى الله عليهم وسلم قال :" وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " وقال الحق لنا : إنه رفع عيسى إليه، وانتهت المسألة بالنسبة لنا، لأننا كمؤمنين لا نأخذ الجزئيات الدينية أولا فإن صدقناها آمنا، لا نحن نؤمن أولا بمنزل هذه الجزئيات ونصدق من بعد ذلك كل ما جاء منه سبحانه، وهو قال ذلك فآمنا به وانتهت المسألة.
إن البحث في هذا الأمر لا يعنينا في شيء، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال :" وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ويدلنا هذا القول على عدم تثبت القتلة من شخصية القتيل، وهو أمر متوقع في مسألة مثل هذه، حيث يمكن أن تختلط الأمور.
إننا نرى في أية حادثة تحدث مع وجود أعداد كبيرة من البشر وأعينهم مفتوحة وعلى الرغم من ذلك تختلف فيها الروايات بل وقد تكون الحادثة مصورة ومسجلة ومع ذلك تختلف الروايات فما بالنا بوجود حادثة مثل هذه في زمن قديم لا توجد به كل الإحتياطات التي نراها في زماننا ؟ إذن فاضطراب الآراء والروايات في تلك الحادثة أمر وارد، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال : " وما قتلوه وما صلبوه ".
فعيسى باق لأن الحق لم يأت لنا بخبر موت عيسى ويبقى الأمر على أصل ما وردت به الآيات من أن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى ابن مريم، وكمسلمين لا نستبعد أن يكون الحق سبحانه وتعالى قد رفعه إلى السماء لأن المبدأ مبدأ وجود بشر في السماء قد ثبت لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد حدثنا صلى الله عليه وسلم أنه عرج به إلى السماء، وأنه صعد وقابل الأنبياء ورأى الكثير من الرؤى، إذن فمبدأ صعود واحد من البشر من الأرض وهو لا يزال على قيد الحياة البشرية المادية إلى السماء أمر وارد والخلاف يكون في المدة الزمنية، لكنه خلاف لا ينقض مبدأ، سواء صعد وبقي في السماء دقائق أو ساعات أو شهورا، فإن حاول أحد أن يشكك في هذه المسألة نقول له : كل أمر قد يقف العقل فيه يتناوله الحق سبحانه وتعالى تناولا موسعا فسبحانه خالق رحيم لا يورد نصا بحيث يتوقف العقل أمامه، فإن قبل العقل النص كان بها، وإن لم يقبله وجدت له مندوحة، لأنه أمر لا يتعلق بصلب العقيدة.
فهب أن إنسانا قال إن عيسى لم يرفع بل مات، فما الذي زاد من العقائد وما الذي نقص ؟ ذلك أمر لا يضر ولا ينفع ومثل ذلك الإسراء جاء فيه الحق بالقول القرآني :
﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير( ١ ) ﴾( سور الإسراء ).
ولم يقل الحق أي قول في أمر المعراج، لأن الإسراء آية أرضية انتقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ونعلم أن رسول الله لم يذهب إلى بيت المقدس قبل الإسراء بدليل أن كفار مكة أرادوا إحراج الرسول فقالوا له : صف لنا بيت المقدس وهم واثقون من عدم ذهابه إليه من قبل وكان في الطريق قوافل لهم رآها صلى الله عليه وسلم، ووصف صلى الله عليه وسلم بيت المقدس وقال لهم عن أخبار قوافلهم وجاءت القوافل مثبتة لصدق محمد صلى الله عليه وسلم.
إذن كان الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم آية أرضية يمكن أن يقام عليها الدليل ولذلك جاء بها الحق صريحة فقال ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ).
لكن المعراج لم يذكره الحق صراحة فلم يكن من قريش ولا من أهل الأرض من رأى سدرة المنتهى ولم يكن لأحد من أهل الأرض القدرة على أن يصف طريق المعراج.
إذن فالآيات التي يقف فيها العقل يتناولها القرآن تناولا موسعا رحمة بالعقول لأن الإنسان إن اعتقد بها فهذا أمر جائز، وعدم الاعتقاد بها لا يؤثر في أصل العقيدة ولا في أصول التكليفات ومدارها التصديق ومادام الحق سبحانه وتعالى قد فوض رسوله أن يعطينا أحكاما إن عملنا بها جزانا الله الثواب وإن لم نعمل بها نالنا العقاب " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا "، فكيف لا يفوضه في أن يقول لنا بعضا من الأخبار ؟
ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكره البخاري في صحيحه أنه قال :
" والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها "، ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يك
لقد رفعه العزيز الذي لا يغلبه أحد على الإطلاق فهو القوي الشديد الذي لا ينال منه أحد فإذا كانوا قد أرادوا قتل رسوله عيسى ابن مريم فالله غالب على أمره، وهو العزيز بحكمة.
﴿ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا( ١٥٩ ) ﴾.
و " إن " هنا هي " إن " النافية، وهي غير " إن " الشرطية وإليكم هذا المثال عن " إن " النافية من موضع آخر من القرآن حين قال الحق :
﴿ الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ﴾( من الآية٢سورة المجادلة ).
يصحح الحق هنا الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الذين يظاهرون من نسائهم بقول الواحد منهم لزوجته : " أنت علي كظهر أمي "، فيقول سبحانه :
﴿ إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ﴾( من الآية٢سورة المجادلة ).
فيوضح سبحانه : ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم و " إن " في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا الآن عنها هي " إن " النافية.
كأن الحق يقول : ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته، وهذا شرح لمعنى " إن النافية " وقد يقول قائل : ما حكاية الضمائر في هذه الآية ؟ فالآية بها أكثر من ضمير، مثل قوله الحق : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " وعلى من تعود " به " ؟ وعلى من تعود الهاء في آخر قوله " موته " ؟ هل هو موت عيسى أو موت أي واحد من أهل الكتاب، فالمذكور عيسى ومذكور أيضا أهل الكتاب، فيصح أن يكون القول كالآتي :
لن يموت واحد من أهل الكتاب إلا بعد أن يؤمن بعيسى، ويصح أيضا : لن يموت عيسى إلا بعد أن يؤمن به كل واحد من أهل الكتاب، ولأن الضمير لا يعرفه إلا بمرجعه والمرجع يبين الضمير فإن كانت هناك ألفاظ سبقت فكل منها يصح أن يكون مرجعا أو أن يعود الضمير على بعض مرجعه كقول الحق :
﴿ وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ﴾( من الآية١١سورة فاطر ).
والمعمر هو الإنسان الذي طعن في السن، ولا ينقص من عمر هذا المعمر إلا كما أراد الله، والهاء في " عمره " تعود إلى بعض من المعمر ذلك أن كلمة " معمر " مكونة من عنصرين هما " ذات الرجل "، فلما عاد الضمير عاد على الذات دون التعمير، فيكون المعنى هو : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر ذات لم يثبت لها التعمير وماذا يكون الحال حين يوجد مرجعان ؟ مثل قوله الحق :
﴿ رفع السماوات بغير عمد ترونها ﴾( من الآية٢سورة الرعد ).
هنا نجد مرجعين : " السماء " و " العمد " فعلى أي منهما تعود الهاء الموجودة في كلمة " ترونها "، هل تعود " الهاء " إلى المرجع الأول وهو السماوات، أو للمرجع الثاني وهو " العمد " ؟ يصح أن تعود " الهاء " إلى السماوات أي خلق السماوات مرتفعة قائمة بقدرته لا تستند على شيء وأنتم تنظرون إليها وتشاهدونها بغير دعائم، ويصح أيضا أن تعود إلى العمد أي بغير العمد التي نعرفها ولكن رفعها الحق بقوانين الجاذبية أو رفع السماوات " بغير عمد ترونها " أي أن العمد مختفية عن رؤية البشر، وهكذا يصح أن ينسب الضمير ويعود إلى أحد المرجعين.
والآية التي نحن بصددها نجد أنه قد تقدم فيها شيئان هما المسيح وأهل الكتاب وفيهما ضميران اثنان فهل يعود الضميران على عيسى، أو يعودان على أهل الكتاب ؟ أو يعود ضمير منهما على عيسى والآخر على أهل الكتاب ؟ وأي منهما الذي يرجع على عيسى وأي منهما الذي يرجع على أهل الكتاب ؟ أو أن هناك مرجعا ثالثا لم يذكر ويعلم من السياق هو محمد صلى الله عليه وسلم، ونجد أن الضميرين قد يرجعان إلى المرجع الثالث، أي إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر بمجيئه عيسى ابن مريم، وتواتر الأحاديث عن أن عيسى يوشك أن ينزل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ولسوف يصلي عيسى ابن مريم خلف واحد من أمة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
ولماذا التقى النصارى مع اليهود في مسألة القتل والصلب ؟ هم معذورون في ذلك، لأن الحق لم يأت ببيان فيها آنئذ وقوله : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " يدل على أنهم معذورون إن قالوا ذلك ولكن كان الواجب أن يتمردوا على مسألة الصلب إن كان فيه ألوهية أو جزء من الألوهية وكان من الواجب أن يخفوا مسألة الصلب ويأتي الإسلام ليبرئ عيسى عليه السلام من هذه المسألة ويعين أتباع عيسى على تبرئته منها.
ولكن لم يلتفت أتباع عيسى إلى قول الإسلام في هذه القضية " ولكن شبه لهم " وكان يجب أن يلتفت إليها أتباع المسيح وحين يقص الحق كل ذلك فهو يحكم من بعد ذلك حكما إلهيا( بل رفعه الله إليه ) النصارى يقولون بالرفع، ولكن بعد الصلب، ونحن مسلمين نقول بالرفع ولا صلب رفعه الله إليه وسينزل وحكمة ذلك أنه لم يوجد رسول من الرسل السابقين فتن فيه قومه فجعلوه بعضا من إله أو إلها فلم تسكت السماء عن ذلك فرفعه سبحانه وسينزله ليسفه هذه القضية وبعد ذلك يجري عليه قدر الله في خلقه وهو الموت.
إن الذين يقفون في هذه المسألة يجب ألا يقفوا لأن مسألة سيدنا عيسى عليه السلام بدأها الله بعجيبة خرقت النواميس لأنه ولد من أم دون أب، فإن كنتم قد صدقتم العجيبة في الميلاد، فلماذا لا تصدون العجيبة في مسألة الرفع ؟.
وإن قال واحد منا : لقد مات عيسى عليه السلام نقول : ماذا تقولون في نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام ؟ أصعد إلى السماء معروجا به إليها ؟ ألم يكن رسول الله حيا بقانون الإحياء ؟ نعم كان حيا بقانون الإحياء. وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة وجيزة في السماء ثم نزل إلينا، إذن فالمسألة في أن يذهب خلق من خلق الله بإرادة الحق وقدرته إلى السماء وهو حي ثم ينزل إلى الأرض وهو حي ليس عجيبة.
والخلاف بين رفع عيسى وصعود محمد صلى الله عليه وسلم بالمعراج خلاف في المدة، وهذا لا ينقض المبدأ فالمهم أنه صعد بحياته ونزل بحياته وظل فترة من الزمن بحياته، إذن فمسألة الصعود إلى السماء والبقاء فيها لمدة أمر وارد في شريعتنا الإسلامية ولتأكيد هذه المسألة يقول الحق :
﴿ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته ﴾( من الآية١٥٩سورة النساء ).
السامع السطحي لهذه الآية قد يقول : إنهم من أهل كتاب ولا بد أن يكونوا قد آمنوا به، وأقول : لا، لقد آمنوا به إيمانا مرادا لأنفسهم، وليس الإيمان المراد لله، آمنوا به إلها وجزءا من إله وهو ما يسمى لديهم بالثالوث الآب والابن وروح القدس، ولكن الله يريد أن يؤمنوا به رسولا وبشرا وعبدا.
وإذا قال الحق :" وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " فمعنى هذا : ما أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام رسولا وعبدا وبشرا قبل أن يموت.
والضمير في قوله " إلا ليؤمنن به " يرجع إلى عيسى والضمير الآخر الموجود في " قبل موته " قد يرجع إلى عيسى أي قبل موت عيسى ولن يموت عليه السلام الموتة الحقيقية التي تنهي أجله في الحياة إلا بعد أن يؤمنوا به عبدا ورسولا وبشرا، ولن يتحقق ذلك إلا إذا جاء بشحمه ولحمه ودمه ليقول لهم : أنتم مخطئون في أنكم أنكرتم بشارتي بمحمد الخاتم، وأنتم مخطئون في اتهامكم لأمي، والدليل على خطئكم هو أنني جئت مبشرا برسول للناس كافة هو محمد بن عبد الله، وهأنذا أصلي خلف واحد من أمة ذلك الرسول فلن يأتي عيسى عليه السلام بتشريع جديد بل ليصلي خلف واحد من المؤمنين بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وحين يصنع عيسى ابن مريم ذلك، ماذا سيقول الذين فتنوا فيه ؟ لا شك أنهم سيعلنون الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن كل كتابي من الذين عاشوا في المسافة الزمنية من بعد رفعه وحتى نزوله مرة أخرى سيعلن الإيمان بعيسى كبشر ورسول وعبد قبل أن يموت ولو في غيبوبة النهاية عندما تبلغ الروح الحلقوم وتتردد في الحلق عند الموت فقد يصح أن تكون الآية عامة " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ويعود الضمير فيها إلى كل كتابي قبل أن يموت.
إن النفس البشرية لها هوى قد يستر عنها الحقائق ويغلق دونها باب اليقين ويدفعها إلى ذلك غرور الحياة، فإذا ما جاءت سكرة الموت بالحق، انتهى كل شيء يبعد الإنسان عن منهج الحق اليقين، ولا تبقى إلا القضايا بحقها وصدقها ويقينها، وتستيقظ النفس البشرية لحظة تظن أنها ستلقى الله فيها ويسقط غرور الحياة ويراجع الإنسان منهم نفسه في هذه اللحظة ويقول : أنا اتبعت هوى نفسي، ولكن أينفع مثل هذا اللون من الإيمان صاحبه ؟ لا، لأن مثله في ذلك مثل إيمان فرعون، فقد قال حين أدركه الغرق :
﴿ حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ﴾( من الآية٩٠سورة يونس ).
فيسمع صوت الحق في تلك اللحظة :﴿ ألآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين( ٩١ ) ﴾( سورة يونس )، فلم ينتفع فرعون لحظة الغرق بالإيمان.
ويقول سبحانه :﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما( ١٨ ) ﴾( سورة النساء )
ويذيل الحق الآية : " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " وهذا يؤكد أن عيسى عليه السلام سيشهد على من عاصروا نزوله في الدنيا، وسوف يشهد يوم القيامة على الذين ادعوا له بالألوهية :﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب( ١١٦ ) ﴾( سورة المائدة ).
﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا( ١٦٠ ) ﴾.
هو سبحانه يوضح أن تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل جاء نتيجة لمواقف يعددها الله، لقد ارتكبوا ما ارتكبوا من ذنوب كبيرة وظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم وصدوا عن دين الله بمعنى أنهم لم يدخلوا في الإسلام
﴿ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما( ١٦١ ) ﴾.
وأي ظلم يتحدث عنه الحق في قوله : " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " ؟ الظلم معناه أن يحكم واحد لغير ذي الحق بحق، وقمة الظلم أن يحكم واحد بأن لله شريكا، ولذلك قال سبحانه :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾( من الآية١٣سورة لقمان ).
وحيثيات حكم الله بتحريم أشياء كانت حلالا لبني إسرائيل متعددة وحين يحرم الله شيئا فمن المؤكد أنه محدود بالنسبة للمحلل فالمحرم قليل وبقية ما لم يذكره الله إنما يدخل في نطاق الحلال.
مثال ذلك قوله الحق :
{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون( ١٥١ )ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون( ١٥٢ )( سورة الأنعام ).
يورد الحق هنا المحرمات وهي أشياء محددة محدودة، أما النعم كلها حلال، ومن هذا الأمر نفهم اتساع مدى رحمانية الحق بالخلق فقد وهبنا الكثير والكثير من النعم التي لا تعد ولا تحصى ولم يحرم إلا القليل، وتحري القليل جاء لتبقى كل نعمة في مجالها.
فإذا قال إنسان : حرم الله هذا الشيء لأنه ضار نقول : ما تقوله جائز، ولكن ليس الضرر هو سبب الحكم لكل المحرمات فقد يحرم سبحانه أمرا لتأديب قوم ما، ولله المثل الأعلى نرى المسئول عن تربية أسر قد يحرم على ولد فيها لونا من الطعام أو جزءا من مصروف اليد ويكون القصد من ذلك هو العقوبة.
ولماذا استحق بنو إسرائيل عقوبة التحريم ؟ لقد جاءوا من خلف منهج الله وأحلوا لأنفسهم ما حرم الله وماداموا قد زاغوا فأحلوا ما حرم الله فالحق يرد عليهم : لقد اجترأتم على ما حرمت فحللتموه، ومن حقي أن أحرم عليكم ما أحللت لكم من قبل ذلك حتى لا يفهم الإنسان أنه بتحليله لنفسه ما حرم الله قد أخذ شيئا من وراء الله فلا أحد يمكنه أن يغلب الله ولذلك يحرم سبحانه عليه شيئا من حلاله.
والتحريم إما أن يكون تحريم تشريع وإما تحريم طبع أو فطرة أو ضرورة نجد الرجل الذي أسرف على نفسه في تناول محرمات كالخمر مثلا يحرم الله عليه أشياء كانت حلالا له، ويقول له الطبيب : تهرأ كبدك وصار من الممنوع عليك أن تأكل صنوفا كثيرة من الطعام والشراب وهكذا نرى ظلم الإنسان لنفسه وكيف نتج عنه تحريم أشياء كانت حلالا له.
ومن أسرف على نفسه في تناول صنف معين من الطعام كالسكر مثلا فأكله فوق ما تدعو به الحاجة نجد سنة الله الكونية تقول له : لقد أخذت أكثر من حقك، وعطلت في جسدك القدرة على حسن استخدام السكر فصرت مريضا، إياك أن تتناول السكريات مرة أخرى، ويشتهي المريض السكر والحلوى ويملك القدرة على شرائهما، ولكنها محرمة عليه، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول له : بظلم منك لنفسك حرمت ما أحللته لك.
وآخر يملك الثروات والخدم والمزارع الشاسعة، ويقوم له الآخرون بطحن الغلال ويأمر بأن يصنعوا له الخبز من أنقى أصناف الدقيق الخالي من أية قدر من " النخالة "، ويصنعون له الخبز الأبيض ويأكله بينما الأتباع يصنعون لأنفسهم الخبز من الدقيق الأقل نقاوة، فتقول له سنة الله : ستأكل الخبز المصنوع من النخالة بأمر الطبيب علاجا لأمعائك لأنك أسرفت على نفسك في أكل الخبز المصنوع من أنقى أنواع الدقيق وليأكل رعاياك وعمالك الخبز المصنوع من أفخر ألوان الدقيق، فبظلم منك حرمنا ما أحل لك.
وعندما نرى إنسانا قد حرم من نعمة الله التي هي حلال له، نعلم أنه قد حلل لنفسه شيئا حرمه الله عليه، أو أسرف في استعمال حق أحله الله له، ولا أحد منا يفلت من رقابة الله، إذن فالتحريم قد يكون بالتشريع، إذا كانت العقوبة التحريم من المشرع، وقد يكون تحريما بالطبع والفطرة إن كان في الأمر إسراف من النفس.
ولنقرأ دائما هذه الآية : " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " وكذلك الذين يأخذون مالا بالربا لقد أخذوا الربا ليزيد مالهم، لماذا تريدون المال ؟ أتريدون المال لذات المال، أم لهدف آخر ؟ صحيح أن المال رزق لكنه رزق غير مباشر لأنه يشتري به الأشياء التي ينتفع بها الإنسان وهي الرزق المباشر، وقلنا قديما : هب أن إنسانا في صحراء ومعه جبل من ذهب لكن الطعام انقطع منه، وجبل الذهب في مثل هذه الحالة لا ينفع، بل يصبح رغيف الخبز وكوب الماء في تلك الحالة أغلى من الذهب والذي يزيد ماله بالربا أيريد تلك الزيادة من أجل المتع ؟ سبحانه يمحق ذلك المال ويذهبه في كوارث.
ومن أراد أن يبقى له ما أحل الله إلى أن يأتي أجله فعليه ألا يبيح لنفسه أي شيء حرمه الله وبذلك يظل متمتعا بنعم الله عليه فالحق هو القائل :( وما ربك بظلام للعبيد ).
الإنسان إذن هو الذي يظلم نفسه مصداقا لقوله الحق :﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾( سورة يونس ).
وهكذا ظلم اليهود أنفسهم فحرم الله عليهم طيبات أحلت لهم، ومن الذي نقل الأمر الطيب إلى أمر غير طيب ؟ إنه الإنسان ولكن هل نقل ذات الشيء أو حكم الشيء ؟ لقد نقل حكم الشيء فجعل الشيء الحرام شيئا حلالا " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ".
كيف يكون باستطاعتهم الصد عن سبيل الله ؟ لقد ظلموا أنفسهم وأخذوا الربا وتلك أمور تجعلهم في ناحية الضلال وفي جانب الباطل، وليت الأمر وقف عند هذا بل أرادوا أيضا إضلال غيرهم وهذا هو مضمون الصد عن سبيل الله وجعلهم هذا الأمر أصحاب وزر آخر فوق أوزارهم، فلم يكتفوا بضلالهم بل تحملوا أوزار غيرهم.
﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون( ٢٥ ) ﴾ ( سورة النحل ).
وقد يسمع متشكك هذا القول فيتساءل : كيف يناقض القرآن بعضه فيقول :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ ( من الآية١٦٤سورة الأنعام ).
ونقول : إن لكل وزر طريقا وحسابا، فالإنسان يحمل وزر ضلاله وحده إن لم يضل به أحدا غيره، ولكن إن حاول إضلال غيره فهو يتحمل وزر هذا الإضلال.
ويقول الحق في تكملة ظلمهم لأنفسهم : " وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما "، وقد تعرضنا للربا من قبل وقد أخذوا الرشوة وهو أكل لمال الناس بالباطل وكذلك السرقة والغش في السلع كل ذلك أخذ مال من الناس بغير حق، وما أخذ بغير حق فهو باطل وأعد سبحانه لهم مسبقا عذابا أليما. ولكل إنسان مقعدان : مقعد من الجنة إن قدر إيمانه، ومقعد من النار إن قدر كفره، ولا مجال للظن بإمكان ازدحام الجنة أو ازدحام النار، فقد خلق الله مقاعد الجنة على أساس أن كل الناس مؤمنون، وجعل مقاعد النار على أساس أن كل الناس كافرون.
ولذلك يقول الحق :﴿ الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون( ١١ ) ﴾( سورة المؤمنين ).
وحين يتبوأ المؤمن مقعده في الجنة يورثه الله المقعد الآخر الذي أعده للكافر، فقد كان للكافر قبل أن يكفر مقعد في الجنة لو اختار الإيمان وقد أعد الحق العذاب الأليم لهم أي الشديد إيلامه وهو مهين أيضا أن في قدرته قهر أي إنسان يتجلد للشدة، فلا أحد يقدر على الجلد أمام عذاب الله.
وهل هذا هو كل ما كان من أهل الكتاب ؟ ألم يوجد في أهل الكتاب من كان يدير مسألة الإيمان برسول الله صلى الله عليه سلم في عقله، ويبحث في القضايا والسمات التي جاءت مبشرة به صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ؟ كان من بينهم من فعل ذلك، ويورد الحق سبحانه وتعالى التاريخ الصادق، فيستثني من أهل الكتاب الراسخين في العلم فيقول :﴿ لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنأتيهم أجرا عظيما( ١٦٢ ﴾.
إذن لم يعمم الله الحكم على أهل الكتاب الذي سبق بكفرهم وظلمهم لأنفسهم وأخذهم الربا وغير ذلك، بل وضع الاستثناء ومثال لذلك " عبد الله بن سلام " الذي أدار مسألة الإيمان برسول الله في رأسه وكان يعلم أن اليهود قوم بهت.
فقال لرسول الله : إني أومن بك رسولا، والله لقد عرفتك حين رأيتك كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد.
ويقول الحق عن مثل هذا الموقف : " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم " ولا أحد يتوه عن معرفة ابنه، كذلك الراسخون في العلم يعرفون محمدا رسولا من الله ومبلغا عنه، والراسخ في العلم هو الثابت على إيمانه لا يتزحزح عنه ولا تأخذه الأهواء والنزوات بل هو صاحب ارتقاء صفائي في اليقين لا تشوبه شائبة أو شبهة.
لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك "، وقوله الحق " بما أنزل إليك " هو القرآن وهو أصل يرد إليه كل كتاب سابق عليه، فحين يؤمنون بما أنزل إلى سيدنا رسول الله، لا بد أن يؤمنون بما جاء من كتب سابقة.
والملاحظ للنسق الأسلوبي سيجد أن هناك اختلافا فيما يأتي من قول الحق :" والمقيمين الصلاة " فقد بدأ الحق الآية : " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة ".
ونحن نعلم أن جمع المذكر السالم يرفع بالواو وينصب ويجر بالياء، ونجد هنا " المقيمين " جاءت بالياء، على الرغم من أنها معطوفة على مرفوع ويسمي علماء اللغة هذا الأمر ب " كسر الإعراب "، لأن الإعراب يقتضي حكما، وهنا نلتفت لكسر الحكم والأذن العربية التي نزل فيها القرآن طبعت على الفصاحة تنتبه لحظة كسر الإعراب.
لذلك فساعة يسمع العربي لحنا في اللغة فهو يفزع وكلنا يعرف قصة العربي الذي سمع خليفة من الخلفاء يخطب، فلحن الخليفة لحنة فصر الأعرابي أذنيه أي جعل أصابعه خلف أذنيه يديرها وينصبها ليسمع جيدا ما يقول الخليفة، ثم لحن الخليفة لحنة أخرى، فهب الأعرابي واقفا ثم لحن الثالثة فقال الأعرابي : أشهد أنك وليت هذا الأمر بقضاء وقدر وكأنه يريد أن يقول :" أنت لا تستحق أن تكون في هذه المكانة ".
وعندما تأتي آية في الكتاب الذي يتحدى بالفصاحة وفيها كسر في الإعراب كان على أهل الفصاحة أن يقولوا كيف يقول محمد إنه يتحدى بالفصاحة ولم يستقم له الإعراب، لكن أحدا لم يقلها مما يدل على أنهم تنبهوا إلى السر في كسر الإعراب الذي يلفت به الحق كل نفس إلى استحضار الوعي بهذه القضية التي يجب أن يقف الذهن عندها :" والمقيمين الصلاة ".
لماذا ؟ لأن الصلاة تضم وتشمل العماد الأساسي في أركان الإسلام، لأن كل ركن من الأركان له مدة وله زمن وله مناط تكليف فالشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يكفي أن يقولها المسلم مرة واحدة في العمر، والصوم شهر في العام وقد لا يصوم الإنسان ويأخذ برخص الإفطار إن كانت له من واقع حياته أسباب للأخذ برخص الإفطار والزكاة يؤديها المرء كل عام أو كل زراعة إن كان لديه وعاء للزكاة. والحج قد يستطيعه الإنسان وقد لا يستطيعه وتبقى الصلاة كركن أساسي للدين ولذلك نجد هذا القول الكريم :
﴿ ما سلككم في سقر( ٤٢ )قالوا لم نك من المصلين( ٤٣ ) ﴾( سورة المدثر ).
وأركان الإسلام كما نعلم خمسة وهي واضحة ومن الجائز ألا يستطيع المسلم إقامتها كلها بل يقيم فقط ركنين اثنين، كالشهادة وإقامة الصلاة وحين يقول الحق :" والمقيمين الصلاة " يلفت كل مؤمن إلى استمرارية الودادة مع الله، فهم قد يودون الله شهرا في السنة بالصيام، أو يودون بإيتاء الزكاة كلما جاء لهم عطاء من أرض أو من مال، أو يودون الله فقط إن استطاعوا الذهاب إلى الحج، وبالصلاة يود المؤمن ربه كل يوم خمس مرات، هي إذن إعلان دائم للولاء، لقد قلنا : إن الصلاة جمعت كل أركان الدين ففيها نقول : " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله "، ونعلم أننا نزكي بالمال، والمال فرع العمل، والعمل يحتاج إلى وقت والإنسان حين يصلي يزكي بالوقت والإنسان حين يصلي يصوم عن كل المحللات له، ففي الصلاة صيام ويستقبل المسلم البيت الحرام في كل صلاة فكأنه في حج.
إذن فحين يكسر الحق الإعراب عند قوله :" والمقيمين الصلاة " إنما جاء ليلفتنا إلى أهمية هذه العبادة ولذلك يقولون : هذا كسر إعراب بقصد المدح فهي منصوبة على الاختصاص ويخص به الحق المقيمين الصلاة لأن إقامة الصلاة فيها دوام إعلان الولاء لله، ولا ينقطع هذا الولاء في أي حال من أحوال المسلم ولا في أي زمن من أزمان المسلم مادام فيه عقل.
ويقول الحق من بعد ذلك : " والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر " كأن كل الأعمال العبادية من أجل أن يستديم إعلان الولاء من العبد للإيمان بالله، والإيمان كما نعلم بين قوسين : القوس الأول : أن يؤمن الإنسان بقمة الإيمان وهو الإيمان بالله، والقوس الثاني : أن يؤمن الإنسان بالنهاية التي نصير إليها وهي اليوم الآخر ويقول سبحانه جزاءا لهؤلاء : " أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما " هو أجر عظيم، لأن كل واحد منهم قد شذ عن جماعته من بقية أهل الكتاب ووقف الموقف المتأبي والرافض المتمرد على تدليس غيره، ولأنه فعل ذلك ليبين صدق القرآن في أن الإعلام بالرسول قد سبق وجاء في التوراة.
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا( ١٦٣ ) ﴾.
ونعلم أن الحق حينما يتكلم يأتي بضمير التكلم وضمير التكلم له ثلاثة أوجه فهو يقول مرة :" إنا " ومرة ثانية : " إنني " وثالثة يخاطب خلقه بقوله : " نحن "، وهنا يقول : " إنا أوحينا إليك كما أوحينا " ونشاهد في موقع آخر من القرآن الكريم قوله الحق :
﴿ إنني أنا الله لا إله إلا أنا ﴾( من الآية١٤سورة طه )
وفي موضع ثالث يقول :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون( ٩ ) ﴾( سورة الحجر ).
لأن الذكر يحتاج إلى صفات كثيرة ومتنوعة تتكاثف لتنزيل الذكر وحفظه وحين يخاطب الله خلقه يخاطبهم بما يجلي مواقع الصفات من الكون الذي نعيش فيه، والكون الذي نعيش فيه يمتلئ بالكائنات التي تخدم الإنسان وهذه الكائنات قد احتاجت إلى الكثير لتهيئ للإنسان الكون قبل أن يوجد الإنسان وذلك حتى يأتي إلى الكون ليجد نعم الله له، فالإنسان هو الذي طرأ على كون الله.
هذا الكون الذي صار إلى إبداع كبير احتاج إلى صفات كثيرة لإعداده، احتاج إلى علم عن الأشياء وإلى حكمة لوضع كل شيء في مكانه، ولقدرة تبرزه وإلى غني بخزائنه حتى يفيض على هذا الموقع بخير يختلف عن خير الموقع الآخر، وساعة يكون العمل متطلبا لمجالات صفات متعددة من صفات الحق، يقول سبحانه :" إنا " أو " نحن " وعندما يأتي الحديث عن ذات الحق سبحانه وتعالى يقول : " إني أنا الله "، ولا تأتي في هذه الحالة " إنا " ولا تأتي " نحن ". ؟
والحق هنا يقول :" إنا أوحينا إليك " أي أنه أوحى بمنهج ليصير الإنسان سيدا في الكون، يصون نفسه والكون معا، وصيانة الكائن والكون تقتضي علما وحكمة وقدرة ورحمة، لذلك فالوحي يحتاج إلى صفات كثيرة متآزرة صنعت الكون. ورحمة من الله بخلقه أن جعل لهم مدخلا فيقول على سبيل المثال :
﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ﴾( من الآية٢٧سورة فاطر ).
هو الذي أنزل من السماء ماء، ليس لأحد من خلقه أي دخل في هذا، لأن الماء إنما يتبخر دون أن يدري الإنسان ولم يعرف ذلك إلا منذ قرون قليلة وعرفنا كيف يتكون السحاب من البخار، ثم ينزل المطر من بعد ذلك إذن لا دخل للإنسان بهذا الأمر، لذلك يقول الحق :" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء "، ويأتي من بعد ذلك إنصاف الحق للخلق، فيقول :" فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها " ولم يقل : " فأخرجت " بل أنصف الحق خلقه وهم المتحركون في نعمه بالعقول التي خلقها لهم فسبحانه يقدر عمل الخلق من حرث وبذر وري وذلك حتى يخرج الثمر.
إذن الأسلوب القرآني حين يأتي ب " إني " يشير إلى وحدة الذات وحين يأتي ب " إنا " يشير إلى تجمع صفات الكمال لأن كل فعل من أفعال الله يقتضي حشدا من الصفات علما وإرادة وقدرة وحكمة وقبضا وبسطا وإعزازا وإذلالا وقهارية ورحمانية لذلك لا بد من ضمير التعظيم الذي يقول فيه النحويون : إن " نحن " و " نا " للمعظم نفسه وقد عظم الحق نفسه، لأن الأمر هنا حشد صفات يتطلبها إيجاد الكون والقيام على أمر الكون ولذلك نجد بعض العارفين الذي لمحوا جلال الله في ذاته وجماله في صفاته يقولون :
فسبحان رب فوق كل مظنة *** تعالى جلالا أن يحاط بذاته
إذا قال " إني " ذاك وحدة قدسه | وإن قال " إنا " ذاك حشد صفاته |
وحين أوجد الحق خلقه من عدم، جعل لخلق من خلقه إيجادا ولكن هناك فرق بين إيجاد المادة، وإيجاد ما يتركب من المادة فقد خلق سبحانه كل شيء من عدم، ولكن جعل لخلقه أن يخلقوا أشياء لكن ليست من عدم وما ضن سبحانه وتعالى عليهم بأن يذكرهم بلفظ الخلق فقال :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾( من الآية١٤سورة المؤمنون ).
فكأنه سبحانه وتعالى جعل من خلقه خالقين، لكن الخالقين من خلقه لم يخلقوا من عدم محض وإنما كونوا مركبا من موجود في مواده، فأخذوا من مواد خلقها الله فركبوا وأوجدوا والإنسان الذي صنع كوب الماء لم ينشئ الكوب من عدم محض وإن كانت " الكلية " في الكوب غير موجودة فجزئيات إيجاد الكوب موجودة فالرمل موجود في بيئات متعددة، وموجود أيضا ما يصهر الرمل والعقل الذي يأخذ تلك العناصر، والفكر الذي يصنع من الرمل عجينة ومصمم الآلات التي تصنع هذا الكوب موجود إذن فقد أوجد الإنسان كوبا من جزئيات موجودة فالفارق إذن بين خلق الله وخلق خلق الله أن الله خلق من عدم محض، لذلك وصف ذاته بقوله ( فتبارك الله أحسن الخالقين ).
فأنتم أيها البشر إنما تخلقون من مخلوقات الله ولم تخلقوا من غير مخلوق لله فهو سبحانه وتعالى أحسن الخالقين وكما أنصف الحق خلقه بأن نسب لهم خلقا، فلا بد أن يصف نفسه بأنه أحسن الخالقين وأيضا إن خلق الخلق كما قلنا وأنا لا أزال أكررها لتستقر ثابتة في الأذهان يجمد الشيء على ما أوجدوه عليه، فيخلقون الكوب ليظل كوبا في حجمه وشكله ولونه، ولكنهم لم يخلقوا كوبا ذكرا وكوبا أنثى ليجتمعا معا وينشأ أكوابا صغيرة تنمو وتكبر، ولكن الله ينفخ بسر الحياة في كل شيء فيوجده، لذلك هو أحسن الخالقين.
ولو نظرت إلى كل شيء في الوجود لوجدت فيه سر الذات الفاعلة، فلو نظرت إلى ذات نفسك، لوجدت لك وسائل إدراك لوجدت لك سمعا ولوجدت لك عينا ولوجدت لك أنفا ولمسا وذوقا ولكن لبعض الآلات تحكم في اختيارك، فأنت حين تفتح عينيك ترى وإن لم ترد أن ترى تغمض عينيك ولكن إذا أردت ألا تسمع، أتستطيع أن تجعل في أذنك آلة تقول " لا أسمع " ؟ وأنت تفتح فمك لتأكل وتتذوق، ولكن أنت لا تفتح أنفك لتشم، أنت تمد يدك لتلمس، وقل لي بالله أي انفعال لك أن أردت أن تضحك ؟ ما الآلة التي في بدنك تحركها لتضحك ؟ أنت لا تعرف شيئا إلا سببا مثيرا يضحك، لكنك لا تعرف ما هي الآلات التي تعمل في جسمك لتضحك وكذلك حينما تبكي ما هي الآلات التي تعمل في ذاتك لتجعلك باكيا ؟ أنت لا تعرف ولذلك جعل الله الإضحاك والإبكاء مع الإيجاد بالحياة والعدم بالموت جعل ذلك له سبحانه وتعالى.
﴿ وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) ﴾ ( سورة النجم ).
جعل الحق في ذاتك الإنسانية أشياء تفعل ولكنك لا تعرف بأي شيء تفعل ولا بأي شيء تنفعل والأذن ليس لها ما يسدها عن السمع لذلك لا يأمرك الحق بألا تسمع أي شيء، ولكن الأثر الصالح يأمر ( لا تتسمع إلى القيلة ).
لم يقل الأثر الصالح " لا تسمع إلا قيلة " لأن الإنسان لا يستطيع أن يصم أذنيه عما يدور حوله لكنه يستطيع ألا يتسمع بألا يلقي بأذنيه إلى ما يقال : إذن فقد جعل الحق التكليف في مقدور اختيارات المسلم ولذلك قال :﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾( من الآية٦٨سورة الأنعام ).
واستخدم هنا كلمة " رأيت " لأن المسلم لا يملك شيئا يسد به أذنيه حتى لا يسمع حديث الذين يخوضون في آيات الله، لكن أمر الله الذين يسمعون ذلك أن يسيروا بعيدا معرضين عن هؤلاء الخائضين وسبحانه يوضح لنا ما خفي عنا وكل شيء في الكون وإن كان ظاهره أنه " يفعل " لكنه في الحقيقة هو مقهور لما ينفعل لمرادات الله بأمر الله ولذلك يقول العارفون بالله : من جميل إحسانه إليك أن فعل ونسب إليك.
فسبحانه وتعالى الذي يفعل كل شيء وليس على الإنسان إلا توجيه الآلة الفاعلة ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن الإنسان حين يكون قويا لا يمكنه أن يعطي قوته لضعيف، فلا أحد منا يقول لضعيف : خذ قدرا من قوتي لتساعدك على التحمل بينما يوضح الله للضعيف عمليا : تعال إلي أعطك من مطلق قدرتي قدرا من القوة لتفعل.
إذن القوة في المخلوق لا يعطيها أبدا لمثله بل يعطي أثرها مثال ذلك عندما لا يستطيع شخص أن يحمل شيئا ثقيلا فيأتي آخر قوي ليحمله عنه، والقوي بفعله إنما يعدي أثر قوته للضعيف، لكنه لا يستطيع أن ينقل قوته إلى ذات الضعيف ليحمل الشيء الثقيل.
والله لا يعدى أثر قوته فحسب ولكنه يمنح ويعطي قوة إلى كل ضعيف يلجأ إليه وإلى كل قوي أيضا، وسبحانه يتفضل بالغني والسعة لكل غني وفقير وبرحمته إلى كل رحيم وبقدرته لكل قادر وبحكمته لكل حكيم إذن فكل هذه مستمدات من الحق سبحانه وتعالى هذا هو كلامنا في " إنا ".
وحين يتكلم الحق قائلا : " أوحينا " فهو سبحانه يأتي بصيغة الجمع وما الوحي ؟ قال العلماء الوحي : إعلام بخفاء لأن وسائل الإعلام شتى. وسائل الإعلام هي التي تنقل قولا يقوله المبلغ فيعلم السامع أو هو إشارة يشير بها فيفهم معناها الرائي وهذه إعلامات ليست بخفاء بل بوضوح وعندما يقول : " أوحينا " فهو يعني أنه قد أعلم، ولكن بطريق خفي وحين تطلق كلمة " وحي " يكون لها معان شتى فكل إعلام بخفاء وحي لكن من الذي أوحى في خفاء ؟ ومن الذي أوحي إليه في خفاء ؟ وما الذي أوحي به في خفاء ؟ نجد أن الحق سبحانه وتعالى جاء في أجناس الوجود، وقال عن الأرض وهي الجماد :
﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها( ١ )وأخرجت الأرض أثقالها( ٢ )وقال الإنسان مالها( ٣ )يومئذ تحدث أخبارها( ٤ )بأن ربك أوحى لها( ٥ ) ﴾ ( سورة الزلزلة ).
أي أن الحق قد ضبط الأرض على مسافة زمن قيام القيامة فتتحدث عندئذ ولله المثل الأعلى نحن نقدر العمر الافتراضي لما نصنع لينتهي في وقت محدد إذن فقد أوحى الله للجماد وهي الأرض.
ويترك لنا سبحانه في صناعة المخلوقين ما يقرب لنا صنعة الخالق، فعندما يريد الإنسان أن يستيقظ في الثالثة صباحا، وهو وقت لم يعتد فيه هذا الإنسان على الاستيقاظ، فهو يضبط المنبه ليصدر عنه الجرس في الوقت المحدد، كأن الإنسان بهذا الفعل قد أوحى للمنبه، كذلك الحق صنع الأرض وأوحى لها : في الوقت المحدد ستنفجرين بحكم تكويني لك، ويوحي الحق إلى جنس الحيوان :﴿ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون( ٦٨ ) ﴾( سورة النحل ).
هذا إعلام بخفاء من الله للنحل فقد جعل الله في تكوينها الغرزي ما يؤدي إلى ذلك وهناك فرق بين التكوين الغرزي والتكوين الاختياري فالتكوين الغرزي يسير بنظام آلي لا يعدل عنه، أما التكوين الاختياري فيصح أن يعدل عنه.
ومثال آخر على الآلية نجد الحاسب الآلي المسمى العقل الإلكتروني ويقوم الإنسان بتخزين المعلومات فيه، وهذا الحاسب الآلي لا يستطيع أن يقول لواضع المعلومات فيه : لا تقل هذه الحقيقة ولا يستطيع أن يمتنع عن إعطاء ما فيه لمن يطلب هذه المعلومات إن كان يعرف كيفية استدعائها فلا اختيار للحاسب الآلي.
ويختلف الوضع في العقل البشري الذي يتميز بالقدرة على انتقاء المعلومات ويعرف كيف يدلي بهذه المعلومات حسب المواقف المختلفة، ويتحكم بوعي فيما يجب أن يستر وفيما لا يجب ستره، بل إن العقل البشري قد يكذب ويلون المعلومات وهو قادر على تغيير الحقائق والتحكم فيها بينما الحاسب الآلي المسمى بعقل إليكتروني لا يقدر على ذلك لأنه يدلي بالمعلومات حسب ما تم " برمجته " به وتخزينه ووضعه فيه، وهكذا يرتقي الإنسان في الفكر.
والحق س
﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما١٦٤ ﴾.
والرسل الذين ذكرهم الله في الآية السابقة ليسوا كل الرسل الذين يجب الإيمان بهم تفصيلا فحسب، فكما علمونا في الأزهر الشريف يجب أن نؤمن بخمسة وعشرين رسولا وقد نظمهم بعض الشعراء في قوله :
في تلك حجتنا منهم ثمانية | من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو |
إدريس، هود، شعيب، صالح وكذا | ذو الكفل آدام بالمختار قد ختموا |
وفي هذه الآيات ثمانية عشر رسولا، وبالإضافة إلى سبعة هم إدريس وهود وشعيب وصالح وذو الكفل وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم، هم إذن خمسة وعشرون رسولا ذكرهم الله، لكن الآية التي تسبق الآية التي نحن بصددها لم يذكر الله كل أسماء الرسل، وذكر أسماء بعض الرسل في سورة الأنعام وبعضهم في سورة هود وبعضهم في سورة الشعراء ويقول الحق :
{ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما( ١٦٤ )( سورة النساء ).
أي أن الخمسة والعشرين رسولا ليسوا كل الرسل الذين أرسلهم الحق إلى الخلق فقد قال :
﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾( من الآية٢٤سورة فاطر ).
أي أنه قد قص علينا أعلام الرسل الذين كانت أممهم لها كثافة أو حيز واسع أو لرسلهم معهم عمل كثيف، ولكن هناك بعض الرسل أرسلهم سبحانه إلى مائة ألف أو يزيدون مثل يونس عليه السلام ﴿ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون( ١٤٧ ) ﴾( سورة الصافات ).
وكان العالم قديما في انعزالية ولم يكن يملك من وسائل الالتقاء ما يجعل الأمم تندمج، وكان لكل بيئة داءاتها ولكل بيئة طابع مميز في السلوك ولذلك أرسل الله رسولا إلى كل بيئة ليعالج هذه الداءات ولا يذكر الداءات الأخرى حتى لا تنتقل من مجتمع إلى مجتمع آخر بالأسوة وحين علم الحق بعلمه الأزلي أن خلقه بما أقدرهم هو سبحانه على الفكر والإنتاج والبحث في أسرار الكون سيبتكرون وسائل الالتقاء ليصير العالم وحدة واحدة، وأن الشيء يحدث في الشرق فيعلمه الغرب في اللحظة نفسها، وأن الداءات ستصبح في العالم كله داءات واحدة، لذلك كان ولا بد أن يوجد الرسول الذي يعالج الداءات المجتمعة، فكان صلى الله عليه سلم الخاتم والرسول الجامع والرسول المانع.
﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما( ١٦٤ ) ﴾( سورة النساء ).
ويتكلم الحق سبحانه عن تاريخ النبوات مع قومهم بكلمة " قصصنا " ولذلك حكمة، فالقصص معناه أنه لا عمل في الأحداث للرسول بل تأتي الأحداث في السياق كما وقعت وسبحانه يعلم أزلا أن خلقه سيبتكرون فنا اسمه " فن القصص ".
ومن العجيب أنهم يسمونه فن القصص، وينسج المؤلفون حكايات خيالية أو حكايات ليس لها واقع، وعندما يأتون إلى التاريخ الواقع يزيد المؤلف جزءا من الأحداث أو يضيف من خياله أشياء، ويقولون هذه متطلبات إتقان فن القص، ويحرمون أنفسهم من أمانة النقل، ولذلك يأتي الحق ليوضح لنا أن القص الخاص بالرسل وبغيرهم في القرآن قصص واقعي حقيقي حدث فعلا.
وكلمة " القصص " مأخوذة من قص الأثر أي أن نسير مع القدم كما تذهب، فلا نذهب هنا ولا نذهب هناك، وحكايات الأنبياء في القرآن واقعية ومن رواية الحق لا من رواية الخلق، وثمة فارق بين ما يرويه الحق لخلقه ليسيروا على المنهج وما يرويه الخلق بعضهم لبعض للتسلية أو غير ذلك ونجد روايات الخلق تزدحم في بعض الأحيان بخيال البشر مثل روايات جورجي زيدان عن الإسلام والأنبياء، وعندما سألوه لماذا أضاف من عنده إلى الواقع أجاب الإجابة التقليدية : فعلت ذلك من أجل الحبكة القصصية.
ويجب أن نميز ونفرق بين روايات الخلق وقصص الحق ونضعه في بؤرة الشعور حتى لا يدخل أحد من خياله على قصص القرآن ما ليس فيه وحتى لا يأتي واحد ذات يوم ويقول : إن كل القصص واحد، فنحن في القرآن لسنا أمام مؤلف بل أمام الخالق الأعلى الذي يروي لنا ما يعلمنا وسبحانه علم أزلا ما سيدور في كونه لذلك قال :
﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين( ٣ ) ﴾( سورة يوسف ).
وسبحانه قد قص على الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن أحسن القصص، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعالج أجناس العالم التي توزعت على جميع الرسل من إخوانه ومادام عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون مع كل الأجناس البشرية الذين تفرقوا من قبل على الرسل من إخوانه فلا بد أن يوضح سبحانه للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده : أنه حدث مع الرسول فلان كذا، وكان مبعوثا إلى قوم كان موقفهم منه كذا، وكانت داءات ذلك المجتمع هي كذا وكذا، ومحمد صلى الله عليه وسلم كما نعلم موكول إليه علاج كل أجناس البشر وكذلك أمته من بعده، ولا بد أن يعرفوا أخبار كل المجتمعات والرسل ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ).
إذن فكلمة " قصص " تدل على أنها حكايات لحركة العقيدة التي كانت مع كل الرسل، والتاريخ كما نعلم هو ربط الأحداث بأزمانها فمرة نجعل الحدث هو المؤرخ له، ثم نأتي بأشخاص كثيرين يدورون حول الحدث ومرة نجعل الشخص هو الأصل والأحداث تدور حوله، فإذا قلنا كلمة " سيرة " فنعني أننا جعلنا الشخص هو محور الكلام، ثم تدور الأحداث حوله وإن أرخنا للحدث، نجعل الحدث هو الأصل والأشخاص تدور حوله.
مثال ذلك : عندما نأتي لنتكلم عن حدث الهجرة نجعل هذا الحدث هو المحور ونروي كيف هاجر رسول الله ومعه أبو بكر، وكيف هاجر عمر ابن الخطاب وغيره من الصحابة وبذلك تكون الهجرة هي المحور وكيف دار الأشخاص حول هذا الحدث الجليل.
ومثال آخر : عندما نروي سيرة من السير مثل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، نجعل النبي صلى الله عليه وسلم محور الحديث والتاريخ ونروي كيف دارت الأحداث في حياته.
إذن فأخبار قصص الرسل تكون هي المحور ونلتقط الأحداث التي مرت عليهم، لأن الرسالات حين تأتي بمنهج السماء تنقسم إلى قسمين : قسم نظري يريد الحق أن يعلمه لخلقه بواسطة الرسول، وهو القسم العلمي فتلك قضايا يجب أن يعلموها وقسم عملي، لأن الحق يريد من خلقه أن يعلموا ويريد منهم أيضا بعد أن يعلموا أن يطوعوا حركة حياتهم على ضوء ما علموا فليست المسألة رفاهية علم، ولكنها مسؤولية تطبيق ما علموا في محور " افعل " و " لا تفعل ". ولو كانت المسألة أن يعلم الخلق فقط، لكان من الممكن أن نقول : ما أيسرها من رحلة.
لقد وجدنا كفار قريش عندما طلب الرسول منهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، قاوموا ذلك، ولو كانوا يعلمون أنها مجرد كلمة تقال لقالوها لكنهم عرفوا مطلوب الكلمة وعرفوا أنهم لن توجد سيادة ولا عبودية ولا أوامر لأحد غير الله ومعنى ذلك المساواة المطلقة بين العباد.
إذن فكل تكليف من السماء إنما نزل، والقصد من العلم به هو العمل به، أي توظيف العلم تطبيقا فلا قيمة لعلم دون عمل وعندما يبلغ الرسول القوم : هذا هو الحكم ومطلوب من كل واحد منكم أن يطوع حركة حياته على ضوء هذا الحكم وتجيء الأحكام دائما في طاقة البشر.
وهناك أناس قد علموا وعملوا وهذه هي قصصهم، هذه قصة فلان وقصة فلان، فالقصص يعطينا الجانب العملي المطلوب للمنهج ولذلك قص لنا الحق قصص الرسل في القرآن ويبلغنا الحق بالنسب الإيماني ويعلمنا النسب المعترف به عند الأنبياء فيحكي قصة نوح عليه السلام، عندما أوحي إليه بضرورة أن يصنع السفينة وسخر قومه منه وبعد أن صنعها جاءه الأمر الإلهي بأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ويقول الحق :
﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون( ٣٨ )فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم( ٣٩ )حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل( ٤٠ ) ﴾( سورة هود ).
قوله الحق " إلا من سبق عليه القول " كان يجب ألا تمر على فطنة نوح ذلك لأنها تتضمن أن هناك أناسا من أهله لن يؤمنوا فيقول لابنه :
﴿ ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ﴾( من الآية٤٢سورة هود ).
وكان الرد :
﴿ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ﴾( من الآية٤٣سورة هود )
فقال نوح :
﴿ قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ﴾( من الآية٤٣سورة هود )
وبعد أن غرق ابن نوح وابتلعت الأرض ماءها نادى نوح ربه فقال :
﴿ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ﴾( من الآية٤٥سورة هود )
نحن إذن أمام لقطة قصصية في قصة نوح يلفتنا بها الحق إلى مسألة بنوة الرسالات فالبنوة هنا منهجية ومن يتبع النبي هو الذي يكون من نسبه ومن لا يتبع النبي فليس من نسبة. لذلك قال الحق ( يا نوح إنه ليس من أهلك ). فأهل النبوة هم الذين اتبعوا منهج النبي ويشرحها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال عن سلمان الفارسي :
( سلمان منا أهل البيت )١.
ولم يقل : إن سلمان عربي، أو إنه من المسلمين لكنه قال : إنه من أهل البيت وقد أوضح الحق ذلك في قصة ابن نوح ( إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ).
وخاض في معنى " ليس من أهلك " بعض الخائضين باللغو وقالوا : إن أم ابن نوح قد فعلت السوء ولهؤلاء نقول : استغفروا ربكم وانظروا إلى حيثية الحكم.
﴿ إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم ﴾ ( من الآية٤٦سورة هود ).
إذن فنسبة الأبناء للآباء من الأنبياء نسبة عمل لا نسبة دم ولا نسبة عن زواج أو إنجاب أما الذين قالوا السوء في امرأة فعليهم أن يستغفروا الله، فالحق سبحانه منزه عن التدليس على رسوله وهب أن أم الولد قد فعلت ذلك معاذ الله فما ذنب الولد حين تصير أمه إلى هذا ؟ لا دخل للولد بذلك لكن قول الله : " إنه عمل غير صالح " يدل على أن ثبوت البنوة الإيمانية يكون بالعمل فقط.
ولننظر إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله وعشيرته فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : لما نزلت ( وأنذر عشيرتك الأقربين جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بطون قريش بطنا بطنا : يا بني فلان أنقذوا أنفسكم من النار حتى انتهى إلى فاطمة فقال : يا فاطمة ابنة محمد أنقذي نفسك من النار لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها )٢.
ويضرب الله المثل في الزوجات، فيقول :
﴿ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين( ١٠ ) ﴾( سورة التحريم )
وليس المقصود بالخيانة هنا الخيانة الجنسية، لكن لنستدل على أن الرسول وإن كان رسولا ليس له من القدرة على أن يقهر زوجه وامرأته على عقيدة، فهي تملك حرية الاعتقاد فلا ولاية هنا للرجل على المرأة في العقيدة حتى إن ادعى الألوهية كفرعون مثلا يقول ا
.
٢ رواه الإمام أحمد ورواه مسلم في الإيمان، والبخاري في الأدب والترمذي في التفسير والنسائي في الوصايا.
.
﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما( ١٦٥ ) ﴾.
نعرف أن البشارة تكون بأمر سار يأتي من بعد والنذارة هي إخبار بأمر مسيء يأتي من بعد والعزيز سبحانه لا يغلب والحكيم سبحانه وضع كل شيء في موضعه، لماذا ؟ لأن الرسل يبشرون وينذرون بأن هناك جنة ونارا وحسابا فإياكم أن تظنوا أن الذي كفر بقادر على أن يصنع شيئا لنفسه والله عزيز وغني عن خلقه جميعا.
ونعلم أن الحق لا يجرم سلوكا إلا بنص، وقبل أن يعاقب فهو يضع القواعد التي لا يصح الخروج عنها وحين يقول الحق : " وكان الله عزيزا حكيما " فعزته وحكمته هي التي أتاحت لنا أن نعرف منهجه.
﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا( ١٦٦ ) ﴾.
وساعة نسمع " لكن " فمعنى ذلك أن هناك استدراكا وقوله الحق : " لكن الله يشهد " نأخذ منها بلاغا من الحق، خصومك يا محمد لا يشهدون أنك أهل لهذه الرسالة ويستدرك الله عليهم ويوضح لهم أنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بقانون صيانته ومنهج الله إلى البشر بواسطة الرسل هو قانون صيانة ذلك الإنسان.
وإذا كان أهل الكتاب لا يشهدون بما أنزل الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينكرون ما في كتبهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم كرسول خاتم فإن الله يشهد وكفى بالله شهيدا.
لقد أنزل القرآن بعلمه وهو الذي لا تخفى عليه خافية، وهو الذي خلق كل الخلق ويعلم وهو العليم ما يصلح للبشر من قوانين وفي أعرافنا البشرية نجد أن الذي يصنع الصنعة يضع قانون صيانتها لتؤدي مهمتها كما ينبغي، كذلك الله الذي خلق الإنسان، هو سبحانه الذي وضع له قانون صيانته ب " " افعل " و " لا تفعل " ولذلك يقول الحق :
﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير( ١٤ ) ﴾( سورة الملك ).
ونجد الإنسان منا يذهب بساعته إلى عامل إصلاح الساعات فيكشف عليها ويقرر ما فيها من فساد، فما بالنا بخالق الإنسان، إن العبث الذي يوجد في العالم سببه أن الناس قد استقبلوا خلق الله لهم، ولم يدع أحد أنه خلق نفسه أو خلق غيره، ومع ذلك يحاولون أن يقننوا قوانين صيانة للإنسان خارجة عن منهج الله.
ونقول : دعوا خالق الإنسان يضع لكم قانون الإنسان ب " افعل " ولا " تفعل " وإن أردتم أن تشرعوا، فلتشرعوا في ضوء منهج الله، وإن حدث أي عطب في الإنسان فلنرده إلى قانون صيانة الصانع الأول وهو القرآن لأن المتاعب إنما تنبع من أن الإنسان يتناسى في بعض الأحيان أنه من صنعة الله، ويحاول أن يصنع لنفسه قانون صيانة بعيدا عن منهج الله، والذي يزيل متاعب الإنسانية هو أن تعود إلى قانون صيانتها الذي وضعه الخالق تبارك وتعالى.
" لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون " والملائكة تشهد لأنها نالت شرف أن يكون المبلغ لرسول الله منهم وهو جبريل عليه السلام، وهم أيضا الذين يحسبون حسابات الأعمال الصالح أو الفاسد للإنسان ويكتبونها في صحيفته، وهم كذلك الذين حملوا ما في اللوح المحفوظ وبلغوا ما أمروا بتبليغه وهم يعرفون الكثير " وكفى بالله شهيدا " لماذا لم يقل الله هنا وكفى بالله وبالملائكة شهودا ؟ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يأخذ شهادة الملائكة تعزيزا لشهادته.
ونحن لا نأخذ شهادة الملائكة تعزيزا لشهادة الله وإلا كانت الملائكة أوثق عندنا من الله وسبحانه يؤرخ شهادة الناس وشهادة الملائكة لكنك يا رسول الله تكفيك شهادة الله.
﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا( ١٦٧ ) ﴾.
إن كفر الكافر إنما يعود إليه، وهو يملك الاختيار بين الكفر والإيمان لكن أن يصد الكافر غيره عن الإيمان فهذا ضلال متعد، لقد ضل في نفسه وهو يحاول أن يضل غيره لذلك لا يحمل وزره فقط ولكن يحمل أوزار من يضلهم.
وكيف يكون الصد عن سبيل الله ؟ بمحاولة أهل الضلال أن يمنعوا آيات الهدى من أن تصل إلى آذان الناس، فيقولوا ما رواه الحق منهم :
﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾( من الآية٢٦سورة فصلت ).
ولو فهموا معنى هذه الآية لما قالوا ما جاء فيها، فقولهم : " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " أي اصنعوا ضجة تشوش على سماع القرآن، وهم قد علموا أن هذا القرآن عندما يصل إلى الأسماع فإنه يبلغ الهداية ولو كان القرآن غير مؤثر لما قالوا ذلك، إذن هم يعترفون بأنهم يغلبون عندما يصل صوت القرآن إلى آذان البشر المدعوين إلى الهداية.
" إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا " كان يكفي أن يقول الحق : " قد ضلوا " لكنه جاء بالمصدر التأكيدي " قد ضلوا ضلالا بعيدا " أي إنه ضلال بعينه وهو فوق ذلك ضلال بعيد.
وعندما ننظر في كلمة " بعيد "، نعرف أن الشيء البعيد هو الذي بينه وبين مصدره مسافة زمنية طويلة والذي يضل قصارى ضلاله أن ينتهي بانتهاء حياته، لكن الذي يعمل على إضلال غيره فهو يجعل الضلال يمتد، أي أن الضلال سيأخذ في هذه الحالة زمنا أكبر من حياة المضل ويتوالى الضلال عن المضلين أجيالا، وهكذا يصبح الضلال ممتدا.
والضلال المعروف في الماديات البشرية على سبيل المثال أن يسير الإنسان إلى طريق فيضل إلى طريق آخر وقصارى ما يضل فيه هو أن يذهب إلى مفازة أي صحراء ولا يجد ماء ولا طعاما فيموت لكن الضال المضل يجعل ضلاله يأخذ زمن الدنيا والآخرة وبذلك يكون ضلاله ممتدا.
﴿ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا( ١٦٨ ) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا( ١٦٩ ) ﴾.
والحديث هنا يبدأ عن الكفر والظلم " إن الذين كفروا وظلموا " والكفر هو ستر الوجود الأعلى والظلم معناه أنهم عاشوا بمنهج بشري لا يؤدي لهم متاعا ولا سعادة في حياتهم الدنيا وبذلك يكونون قد ظلموا أنفسهم ومن بعد ذلك يقودهم هذا المنهج إلى عذاب الآخرة والذي كفر ستر وجود الله وحرم نفسه بستر الوجود الأعلى من المنهج الذي يأتي به الله إنه بذلك قد ضل ضلالا بعيدا وسبحانه القائل :
﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ﴾( من الآية١٢٣سورة طه ).
وهناك آية أخرى يقول فيها الحق :﴿ فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾( من الآية٣٨سورة البقرة ).
والذي يأخذ بهوى نفسه وبمنهج البشر فإن له معيشة ضنكا ضيقة شديدة. ولا يظنن ظان أن الذي يأخذ ويتناول الأمور بهواه قد أخذ انطلاقا بلا حدود وراحة لا نهاية لها، لا، لأن الذي يفعل ذلك قد يرتاح مرة لكنه يقابل التعب ويعيش فيه ولا ينفك عنه من بعد ذلك، وهكذا يظلم نفسه.
وقد يقول قائل : لقد ظلموا أنفسهم، ومعنى ذلك أنه لا بد من وجود ظالم ومظلوم فمن هو الظالم ومن هو المظلوم ؟ كل واحد منهم الظالم وكل واحد منهم المظلوم، لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة، ملكة شهوات تريد أن تنطلق إلى الشهوات وملكة قيم تريد أن يحفظ الإنسان نفسه ويسير على صراط القيم المستقيم.
وفي حالة من يكفر ولا يتبع منهج الله إنما يترك الفرصة لملكة الشهوات أن تظلم ملكة القيم، والإسلام إنما جاء ليوازي بين الملكات لتتساند في النفس البشرية فلا يطغى سيال ملكة على سيال ملكة أخرى.
﴿ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا( ١٦٨ )إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا( ١٦٩ ) ﴾( سورة النساء ).
هذا هو حكم الحق في الذين يكفرون ويظلمون أنفسهم، لن ينالوا مغفرة الله وليس أمامهم إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا.
﴿ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما( ١٧٠ ) ﴾ :
﴿ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما( ١٧٠ ) ﴾ :
فبعد أن وصف لنا بإيجاز محكم سلسلة المعارك التي نشأت بين الرسول واليهود مرة، ومرة أخرى بينه وبين المشركين وها هو ذا سبحانه يخاطب الناس جميعا، ليصفي مركز منهج الله في الأرض، فيقول منبها كل الناس : لقد جاءت رسالة محمد عليه الصلاة والسلام تصفية لكل الرسالات التي سبقت، وعلى الناس جميعا أن يميزوا، ليختاروا الحياة الإيمانية الجديدة، لأن الرسول قد جاء بالنور والبرهان، البرهان الذي يرجح ما هو عليه صلى الله عليه وسلم على ما هم عليه، والنور الذي يهديهم سواء السبيل.
لقد كان الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملل وعلى أديان ونحل شتى، فجاء البرهان بأن الإسلام قد جاء ناسخا وخاتما والبرهان هو تعاليم هذا الدين وأدلته، فلا حجة لأحد أن يتمسك بشيء مما كان عليه وجاء محمد بالنور الذي يهدي الإنسان إلى سواء السبيل، وهذه تصفية عقدية شاملة، أو كما نقول بالعامية " أوكازيون إيماني " تتخلص به البشرية من كل ما يشوب عقائدها ولتبدأ مرحلة جديدة.
" يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم " والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير مهما تغيرت عليه الظروف، لأن الحق صدق له لون واحد، فإذا ما رأيتم جميعا حادثة واحدة ثم جاء كل واحد منكم فأخبر بها إخبار صدق فلن تختلف رواية الحادثة من واحد لآخر، أما إن سولت نفس بعض الناس لهم أن يتزيدوا في الحادثة فكل واحد سيحكي الحادثة على لون مختلف عن بقية الألوان، وقد يسافر خيال أحدهم في شطحة الكذب ويسترسل فيه.
إذن فالذي لا يتغير في الحق هو أن يحكوا جميعا الرواية الواحدة بصدق ولو كانوا ملايين الناس، لكن إن سولت نفوس بعضهم الكذب وحسنته له وأغرته به لاختلفت الرواية، لأن الكذب مشاع أوهام ولا حقيقة له، والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : لقد جاءكم الرسول بالحق مهما تغيرت الظروف والأحوال، ومهما جئتم إليه من أي لون، سواء في العقديات أو في العباديات أو في الأخلاق أو في السلوك وستجدون كل شيء ثابتا لأنه الحق.
ويضرب الحق سبحانه وتعالى لنا مثلا في هذا الحق :﴿ أنزل من السماء ماءا فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل ﴾( من الآية١٧سورة الرعد ).
كل واد يأخذ ماء على قدر حجمه، وساعة ينزل السيل من الجبال يحمل معه التراب والقش والأشياء التي لا لزوم لها، وهو ما نسميه " الريم " وهو الزبد الرابي، وكذلك الحديد أو النحاس أو الذهب الذي نصنع منه الحلي أو أدوات المتاع، وعندما نضع هذه المعادن في النار نجد الزبد يفور على سطح هذه المعادن عندما تنصهر، وتسمى هذه الأشياء الخبث، ويوضح الحق لنا كيف يضرب الحق والباطل.
﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾( من الآية١٧سورة الرعد )،
ومهما اختلطت بالحق أشياء فهو كحق يبعد ويطرد هذه الفقاقيع والخبث وينجيها عنه، فإن علا الباطل يوما على الحق فلنعلم أنه علو الزبد الذي يذهب جفاء مرميا به ومطروحا، وسيظل الحق هو الحق، وسبحانه يقول : " يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم ". والإيمان هو اعتناق العقيدة بوجود الإله الأعلى، والبلاغ عنه بواسطة الرسل، وأن للحق ملائكة وأن هناك بعثا بعد الموت وحسابا ويقتضي الإيمان أن نعمل العمل وفق مقتضياته وذلك هو اختيار الخير، ولنعلم جيدا أن الإيمان لا ينفصل عن العمل.
وماذا يحدث لو لم يؤمن الناس ؟ ها هو ذا الحق يقول : " وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما " وسبحانه غني وسيظل كونه الثابت بنظرية القهر والتسخير هو كونه، ولن يتغير شيء في الكون بكفر الكافرين، سوى سخط الكون عليهم لأنه مسخر لهم، لأن الكون ملك الله، ولن تتغير السماء ولا النجوم ولا القمر ولا المطر ولا أي شيء.
ونقول لك : لو نظرت إلى الدنيا لوجدت الفساد فيها ناشئا مما فعلته وأحدثته يد الإنسان على غير منهج الله، أما الشيء الذي لم تدخل فيه يد الإنسان فهو لا يفسد، ولم نر يوما الشمس وقد عصيت عن الشروق أو الغروب، وكذلك القمر لم تختل حركته، وكذلك النجوم في الأفلاك، وتسير الرياح بأمر خالقها، وكل شيء في الكون منتظم الحركة، اللهم إلا الأشياء التي يتدخل فيها الإنسان، فإذا كان قد دخلها بمواصفات منهج الله فهي منسجمة مع نفسها ومع الكون، وإن دخلها بغير مواصفات منهج الله فلن تستقيم، بل تفسد.
ولذلك قال الحق :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾( من الآية١١سورة الرعد ).
إن الأمر الفاسد إنما يأتي من داخل نفوس البشر عندما يضلون عن منهج الله ولذلك نقول : أشكى الناس أزمة ضوء ؟ لا، لأن الشمس في متناولنا، وكذلك لم يشك الناس أزمة هواء، لكنهم يشكون أزمة طعام لأن الطعام ينبت من الأرض فإما أن يكسل الإنسان مثلا فلا يعمل، وإما أن يعمل ويخرج ثمرا فيأخذه بعضهم ويضنوا ويبخلوا ولا يعطوه لغيرهم وهذا سبب من أسباب الفساد الناشئ في الكون.
﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خير لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا( ١٧١ ) ﴾ :
يبدأ الحق بأمر موجه لأهل الكتاب : " لا تغلوا في دينكم " والغلو هو الخروج عن حد الاعتدال في الحكم، لأن كل شيء له وسط وله طرفان، وعندما يمسك شخص طرفا نطلب منه ألا يكون هناك إفراط أو تفريط وقد وقع أهل الكتاب في هذا المأزق، فلم يأخذوا الأمر بالاعتدال دون إفراط وتفريط لقد كفر اليهود بعيسى واتهموا مريم بالزنا، وهذا غلو في الكره، وغالى النصارى في الحب لعيسى فقالوا : إنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة، وهذا غلو ويطلب الحق منهم أن يقفوا من أمر الدين موقف الاعتدال : " لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ".
إن أمر المنهج لا يحتاج إلى غلو، ولذلك جاء محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله بالدين الوسط الذي يضع كل أمر في نصابه وشرح لنا بإخبارات النبوة وإلهامها ما سوف يحدث للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد حدث ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالخوارج كفروا عليا، والمسرفون بالتشيع قالوا : إنه نبي، وبعضهم زاد في الإسراف فجعله إلها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه : " إن فيك من عيسى مثلا أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه وأحبته النصارى حتى أنزلوه المنزل الذي ليس له ".
وكما قال سيدنا علي كرم الله وجهه : " ألا وإنه يهلك في اثنان : محب يقرظني بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا إني لست بنبي ولا يوحى إلي ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم " ١.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عليا أن المحب الذي يغالي في حبه ليس مع علي وكذلك الكاره المبغض، فالذي يحب عليا بغلو جعل منه إلها أو رسولا، والذي أبغض عليا جعله كافرا وكذلك النصارى من أهل الكتاب جاءوا إلى عيسى فأحبوه بغلو وجعلوه إلها أو ابن إله أو ثالث ثلاثة، فيقول لهم الحق : " لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله "، وقوله الحق :" عيسى ابن مريم رسول الله "، رد على غلو اليهود الذين رفضوا الإيمان بعيسى، وقالوا في عيسى وأمه البهتان العظيم.
وقوله الحق عن عيسى ابن مريم : " رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه "، رد على غلو النصارى الذي نصبوا إلها أو جعلوه ابنا لله أو ثالث ثلاثة فعيسى عليه السلام هو ابن مريم وعندما بشرها به الحق وقالت :﴿ أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ﴾( من الآية٤٧سورة آل عمران ) :
قالت ذلك بفطنة الصديقية التي جعلتها تنبه إلى أنها لم يمسسها بشر، ومادام الحق قد نسبه إليها فليس له أب، سيولد عيسى دون أن يمسسها بشر، ويوضح سبحانه ذلك عندما يقول : " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " فعيسى روح من الحق، لأنه سبحانه قال :﴿ فنفخنا فيها من روحنا ﴾( من الآية٩١سورة الأنبياء ) :
وما معنى " كلمته " ؟ هذا القول يدل على أن الروح نفخت ثم جاءت كلمة " كن " التي قال عنها سبحانه :
﴿ إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾( من الآية٤٧سورة آل عمران ) :
لقد احتاج وجود عيسى إلى أمرين : " روح " و " كن " والشبهة عند النصارى مردها إلى أن عنصر الذكورة لم يلمس مريم، وقالوا : مادام الله قد قال : إن عيسى روح منه فهو جزء من الله، ونسوا أن كل شيء من الله، وسبحانه القائل :
﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ﴾( من الآية١٣سورة الجاثية )
فهل هذا يعني أن " الأرض قطعة من الله وكذلك الشمس ؟ لا، فإذا كانت الشبهة قد جاءت من غياب عنصر الذكورة مع وجود عنصر الأنوثة لكان من الواجب منطقيا أن تكون الشبهة في آدم قبل أن تكون الشبهة في عيسى، لأن آدم جاء من غير ذكورة ولا أنوثة، فلا أب ولا أم له، لقد قال القرآن بمنتهى البساطة ومنتهى الوسع :
﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون( ٥٩ ) ﴾( سورة آل عمران ).
ولا يملك أحد القيد على فضل الله ووسعه، ومسألة آدم كانت أدق لكن الله بتفضله يساوي بين خلق عيسى وخلق آدم، وهذا هو التلطف في الجدل، وأخبرنا سبحانه عن عيسى أنه جاء بأمر منه وقال في آدم :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ﴾( من الآية٢٩سورة الحجر ) :
إذن فآدم قد احتاج إلى الأمرين نفسيهما :" كن "، و " النفخ فيه من الروح "، وعندما ننظر إلى هذه المسألة نجد أننا لا بد أن نتعرض لقضية خلق آدم، حتى نعرف كيف تسلسلت مسألة الخلق، سواء أكان الخلق ملائكة أم خلق آدم أم خلق حواء أم غيرهم من الخلق، كذلك خلق عيسى، لقد كان خلق آدم غيبا عن آدم وليس لآدم نفسه ولا لمن جاء بعده أن يتكلم كيف خلق لأن هذه مسألة لا دخل لأحد بها، ويقول لنا الحق محذرا من أن نستمع إلى قوم يقولون بغير ذلك عن الخلق فقال :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا( ٥١ ) ﴾( سورة الكهف ).
ولا يمكن إذن أن نستمع إلى هؤلاء الذين افترضوا أن أصل الإنسان قرد أو غير ذلك، لأن الذي يتكلم عن الخلق بغير علم من عند الله، فهو يتكلم في أمر لم يشهده، والخلق الأول أمر لا يمكن أن يدخل المعمل التجريبي، لأن المعمل التجريبي إنما يحلل مواد موجودة بالفعل، إذن فالحكم على أمور بغير ما أخبرنا بها الله أمر باطل، ولم يكن هناك أحد مع الله ساعة خلق الخلق ليقول لنا كيف تم ذلك، وعلمنا هذا المسائل بإخبار الخالق لنا فهو الأعلم بنا، والخالق أخبرنا أنه خلقنا من ماء وتراب وطين وحمأ مسنون وصلصال كالفخار، وحدثنا بذلك في آيات متعددة والذين يريدون أن يكذبوا القرآن يقولون : إن القرآن لم يأت بخبر واحد عن خلق الخلق، فمرة يقول إن الخلق كان من ماء ومرة كان من تراب ومرة كان من طين، ومرة كان من صلصال.
ونقول : أحين يتكلم الحق عن مراحل الخلق فهل في هذا تضاد ؟ أصل الخلق ماء، خلطه بتراب وبعد وضع الماء على التراب صار الاثنان طينا، ثم إذا تركنا الطين إلى أن يختمر يصير حمأ مسنونا، وبعد ذلك يصير صلصالا، ومن بعد ذلك خلق منه الحق آدم، إذن فكل شيء تكلم عنه سبحانه في خلق آدم إنما يتفق مع كل الآيات التي جاءت عن هذا الخلق وهو القائل عن آدم :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ﴾( من الآية٢٩سورة الحجر ) :
وبعد صنع الله القالب الذي يشبه التمثال الذي نراه ولكن تنقصه الحركة والحياة فيأتي النفخ في الروح بكلمة " كن "، إذن نحن نحتاج إلى روح وإلى كلمة، والروح عنصر وجودي وعندما تختلط بالقالب تحدث الحياة ولا بد من بعد ذلك من الإرادة بكلمة " كن "، ولذلك نجد الإنسان قد يصنع نفس خلطة الإنسان الكيماوية لكنها لا تصير إنسانا، لأن الأمر ينقص الإذن بميلاد الإنسان.
وساعة يتكلم الحق عن خلق آدم وهو أمر لم نشهده فذلك من رحمته بنا، ويترك لنا سبحانه في الكون دليلا على صدقه عن خلق آدم، فإذا كنا لم نشهد خلق الحياة فنحن نشهد نقيض الحياة وهو الموت، الذي يحدث فيه أولا خروج الروح، ومن بعد ذلك ينتفخ الجسم كأنه الحمأ المسنون، ثم يتبخر الماء، وبعد ذلك يتحلل إلى تراب هذه هي مراحل الموت التي تبدأ من خروج الروح ويتصلب الجسم إلى أن يرم ثم يتبخر الماء، وتبقى العناصر في الأرض.
وإذا كنا لم نعرف كيف بدأت الحياة، فنحن نعرف كيف انتهت الحياة أمامنا بالأمر المشهدي، وجعل سبحانه أمر انتهاء الحياة أمامنا دليلا على صدقه في إخبارنا بالحياة وكيف بدأت، لأن نقض الحياة يكون بالموت، ونقض أي شيء إنما يتم على عكس طريقة بنائه وآخر أمر دخل في الإنسان هو الروح ولذلك فهي أول ما يخرج من الإنسان عند الموت وبعد ذلك يتصلب الجسم، وبعد ذلك يصير رمة وهي الحمأ المسنون وبعد ذلك يتبخر الماء ويبقى أخيرا التراب.
وقد حللوا الإنسان حديثا فوجدوا فيه عناصر كثيرة ثم حللوا طينة الأرض الخصبة التي يخرج منها الزرع الذي يقتات منه الإنسان، فوجدوا هذه الطينة مكونة من هذه العناصر.
ومن العجيب أن العناصر المكونة للإنسان هي نفسها المكونة لطين التربة الخصبة، مما يدل على تأكيد الصدق في أن الله خلقنا من طين وجعل استبقاء حياتنا مما يخرج من هذا الطين بعناصره المختلفة، حتى يمد كل عنصر من الطين كل عنصر من الوجود الإنساني ولما قاموا بتحليل الإنسان مقارنا بتحليل التربة وجدوا أن أضخم عنصر في تكوين الإنسان هو الأكسجين ونسبته على ما أذكر سبع وستون بالمائة، وبعده عنصر الكربون، ونسبته على ما أذكر تسع عشرة بالمائة إلى أن تنتهي العناصر المكونة للإنسان والتربة إلى المنجنيز ونسبته تقل عن واحدة بالمائة، وأهم هذه العناصر هو :
الأوكسجين، الكربون، الهيدروجين، النتروجين، الكلور، الكبريت، الكالسيوم، والفوسفور والبوتاسيوم، والصوديوم الحديد اليود والسيلوز، والمنجنيز، هذه هي أهم وأكثر العناصر المكونة لتركيب الإنسان وهي العناصر نفسها الموجودة في تركيبة الطين وبعضها عناصر مكونة للمركبات العضوية وبعضها عناصر غير عضوية وبعضها عناصر وظائفها ثابتة ومعروفة ويسأل أهل الذكر في تفاصيل ذلك.
وبطبيعة الحال فالذين قاموا بتحليل التربة وعناصر الإنسان لم يكونوا علماء دين، ولم يكن في بالهم إقامة الدليل على صدق الله في القرآن، ذلك أن بعضهم يجهل مسألة القرآن كلها، ولكن الحق سبحانه وتعالى أجرى على لسان رسوله حديثا يشرح لنا حقيقة إثبات صحة كل ما فيه ولو جاء على لسان رجل فاجر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر )٢.
فسبحانه إذن أراد أن ينصر الدين بالكافرين، وجعل بعضا منهم يصلون إلى أشياء لو أنهم علموا أنها ستخدم قضايا الهدى لما أعلنوها. ومن حكمة الله أن جعل الكافرين غير قادرين على إغفال نصرة الدين، وجعل سبحانه بعضا منهم يخدمون الدين على رغم أنوفهم، ونريد أن نأخذ من هذه المسألة فهما عميقا يتسم باللطف والسماحة فإذا كان الله قد خلق الإنسان الأول من طين وهناك آية أخرى قال عنها الحق :
﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ﴾( من الآية٢٩سورة الحجر ).
وآية ثالثة قال فيها سبحانه :
﴿ كن فيكون ﴾ ( من الآية٤٧سورة آل عمران ).
إذن فخلق آدم احتاج إلى أمرين : النفخ من روح الحق، والأمر " كن "، وهما الأمران أنفسهما في مسألة خلق عيسى روح من الحق، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وهذه دليل صدق لقوله الحق :
﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾( من الآية٥٩سورة آل عمران ).
والحق قد نص لنا أنه خلق آدم من طين وصنع القالب وسواه بيديه :
﴿ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين( ٧٥ )قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين( ٧٦ ) ﴾( سورة ص ).
فإذا كان الهيكل الذي خلقه الله ونف
.
٢ رواه البخاري في الجهاد والقدر، ورواه مسلم في الإيمان ورواه أحمد، والدارمي في السيرة.
.
﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا( ١٧٢ ) ﴾ :
مصدر الشرف للإنسان أن يحس ويشعر بتجلي الله عليه بعبوديته له، وسبحانه عندما أراد أن يتجلى على نبينا الخاتم صلى الله عليه وسلم ويسري به إلى المسجد الأقصى قال :
﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ﴾( من الآية١سورة الإسراء )، ولم يقل : " سبحان الذي أسرى برسوله " ولكنه قال : سبحان الذي أسرى بعبده " لأن " العبودية " عطاء علوي من الله، فكأن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم عندما تناهى في العبودية لله نال تناهي الخير، فمن إذن يستنكف أن يكون عبدا لله ؟ لا يستنكف المسيح ذلك، وكذلك الملائكة لا تستنكف أن تكون عبيدا لله " ولا الملائكة المقربون " ويسمون ذلك ارتقاء في النفي مثلما يقول فلاح : لا يستطيع شيخ الخفر أن يقف أمامي ولا العمدة.
إذن فالملائكة في الخلق أحسن من البشر، ولذلك قال الحق : " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون " وقال بعض العلماء : إن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة المقربون " وقال بعض العلماء : إن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر والأصل في اللغات أن توضع الألفاظ أولا لمحسات، ثم تنتقل من المحسات إلى المعنويات لأن إلف الإنسان في أول تكوين المدركات له إنما يكون بالحس، كما قال الحق :
﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون٧٨ ﴾( سورة النحل ).
إذن مادام سبحانه قد قال : " لا تعلمون شيئا " فالذي يأتي من بعدها إنما يأتي كوسيلة للعلم، وهي حواس السمع والإبصار والقدرة على تكوين الخبرة ومثال ذلك عندما ندرس في الفقه موضوع الغصب والغصب هو أن يأخذ أحد حق غيره قهرا وعلانية وهو غير السرقة التي يأخذها السارق خفية وغير الخطف لأن الخطف هو أن تمتد يد لتشد شيئا من أمام صاحبه ويجري الخاطف بعيدا أما الغصب فهو الأخذ عنوة.
وكلها -الغصب، والسرقة والخطف- هي أخذ لغير الحق، والغصب مأخوذ من أمر حسي هو سلخ الجلد عن الشاة وسمي اخذ الحق من صاحبه غصبا كأنه أخذ للجلد ونقل المعنى من المحسات إلى المعنويات وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق : " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون " و " يستنكف " مثلها مثل " يستفهم "، ومثل " يستخرج ".
إذن فهناك مادة اسمها " نكف "، و " النكف " عملية حسية تتمثل في أن يزيل الإنسان دمعة العين بأصبعه ولنفرض أن إنسانا يعلم أن له كرامة في البيت وجاء له ظرف نفسي جعله يبكي، فدخل عليه ابنه أو زوجته فهو يحاول إزالة الدمع بأصبعه و " استنكف " معناها أزال " النكف "، والنكف معناه أن يزيل الدمع بأصبعه، وإزالة الدمع بالأصبع تعني أن صاحب الدمع يستكبر أن يراه أحد باكيا لأنه مقهور على أمر قد كان، وهذه العملية لا تحدث إلا عندما يريد الإنسان أن يستر بكاءه عن أحد.
وانتقلت هذه الكلمة من المعنى الحسي إلى أي مجال فيه استعلاء مثلما يستنكف إنسان أن يسير في طريق آخر، أو أن يجلس مع آخر أو يجلس في مقعد أقل من مقعد آخر.
ويشرح ذلك المعنى الدارج بأن المسيح لا يجد غضاضة أن كان عبدا لله، ولا يستكبر على ذلك بل هو يشرف به والملائكة المقربون أيضا تشرف بهذا الأمر، والملائكة المقربون هم الذين لا يعلمون شيئا عن هذا العالم وليس لهم عمل إلا التسبيح لله، لأنهم عرفوا العبودية لله، وهي عبودية ليست لمن يستذل لكنها لمن يعز وليست عبودية للذي يأخذ ولكنها للذي يعطي والذي يستنكف من ذلك لا يعرف قيمة العبودية لله لذلك لا يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله، ولا الملائكة المقربون.
ويضيف الحق :" ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا " المستنكفون، أو الذين على طريقة الاستنكاف ومن يشجعهم على ذلك كل هؤلاء يصيرون إلى جهنم.
( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ١٧٣ ) :
لماذا لم يأت الله بشرط الآية الثاني الذي يتحدث عن المستنكفين والمستكبرين مقدما على شطر الآية الأول ؟ ولماذا لم يواصل الحديث عن الذين استنكفوا واستكبروا ليستكمل ما جاء بشأنهم في الآية السابقة ويبين كيف أن مصيرهم إلى العذاب حيث لا يجدون من دون الله وليا ولا نصيرا ثم بعد ذلك يحدثنا عن الذين آمنون وعملوا الصالحات ؟.
ذلك أن الحق ساعة يتكلم عن جماعة خرجت عن المنهج فهو لا يمنحهم ثواب هؤلاء الذين لم يخرجوا عن المنهج فيأتي أولا بثواب الطائعين ليستشرف إليه الخارجون عن طاعة الله، ثم يحرمهم من هذا الثواب لتكون حسرة الخارجين عن المنهج أشد " والضد يظهر حسنه الضد ".
لقد قال الحق : " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله " ونعلم أن الأجر على العمل لماذا الفضل إذن ؟ لقد عرفنا من قبل أن العمل جاء فيه حديث شريف.
( لن يدخل أحدا عمله الجنة، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب ). ١
والحق قد قال :
﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ﴾( من الآية٥٨سورة يونس )
وفطن الناس إلى ذلك فقالوا :" اللهم بالفضل لا بالعدل "، لأن الفضل هو الذي يعطينا المنازل المتميزة وقد يضيعنا العدل.
ويقول الحق مرة أخرى عن هؤلاء الذين استنكفوا واستكبروا : " وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " أي أنهم لن يجدوا من يشفع لهم عند الله ولا من ينصرهم ولا أحد بقادر أن يرد عنهم العذاب.
.
﴿ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا( ١٧٤ ) ﴾ :
والبرهان هو الإعجاز الدال على صدق المبلغ الأخير عن الله، وهو الحجة الدامغة.
وقد يقول قائل : ما هو البرهان وما هو النور ؟ ونعلم أن كل رسول يأتي بمعجزة تثبت صدق بلاغه عن ربه قد تكون المعجزة بعيدة عن المنهج، ثم يعطيهم الرسول المنهج ببلاغ من الله مثال ذلك أن معجزة سيدنا موسى كانت العصا لكن منهجه هو التوراة إذن فالمعجزة هي البرهان على صدق الرسول فيما بلغ عن ربه، وقد لا يكون للمعجزة صلة بالمنهج، فعيسى عليه السلام كانت معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ومنهجه الإنجيل.
أما رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم فقد تجلت معجزته في أنها عين منهجه إنها القرآن ولم تنفصل المعجزة عن المنهج، لأنه رسول عام إلى الناس كافة وإلى أن تقوم الساعة، هذا هو البرهان أما " النور " فقد جاء أيضا من أمر حسي، لأن النور يمنع الإنسان من أن يتعثر في مشيته أو أن يخطئ الطريق أو أن يصطدم بالأشياء فيؤذيها أو تؤذيه إذن النور الموجود في القرآن هو حقائق القيم أما نور الله في الماديات فهو أمر معروف للكافة.
﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما( ١٧٥ ) ﴾ :
لقد آمنوا بالله واعتصموا به، ما معنى الاعتصام ؟ قديما كان الرجل عندما يقع في هوة يصرخ ليجذبه إنسان خارج الهوة بيده، وهذا هو الأصل في الاعتصام، أي يستمسك الإنسان بمن ينقذه من هاوية أو كارثة والحق يعطي الأسباب، فإذا جاءت الشمس وسار فيها إنسان فقد أعطاه الله الشجرة ليستظل بها، وإذا ما نزل المطر فيمكن أن نستتر منه بمظلة، وإذا عطش إنسان فالله يعطيه سببا ليأخذ كوب ماء، والعاقل هو الذي يذكر عند كل سبب من أوجد السبب.
فإياك أيها المؤمن أن تغتر بالأسباب لأن عدم الاغترار بالأسباب يحمي الإنسان، فعندما تأتيه أمور في ظاهرها شر، فمادام مجريها عليك هو الله فهي خير بالتأكيد لكنك لا تعلم.
وما أضل علم الإنسان في كثير من المسائل فالإنسان قد يحسب أمرا أنه هو الحسن، فيظهر له بعد حين أنه السوء، وقد يعتبر إنسان أمرا هو السيئ فيظهر له بعد حين أنه الحسن ولا يوجد واحد منا إلا وفي حياته أشياء كان يظنها خيرا، فإذا بها شر، أو كان يظنها شرا فإذا بها خير، والشر هو ما يأتيه الإنسان لنفسه بعمله، أما الأمور التي تقع على الإنسان فحكمتها تمشي على مقتضى علم الله لا على مقتضى هوى البشر.
إننا نجد من يقول : إنني أدعو الله بكذا ولا يستجيب لي ونقول : إنك تدعو بأشياء تظنها الخير لك، لكن الله يعلم أن هذه الأشياء ليست هي الخير لذلك لا يعطيها لك، فإن كنت مؤمنا بالله ومعتصما به فأنت تهمس لنفسك : ألي في هذا الأمر مدخل أم لا مدخل لي فيه ؟ فإذا كان لك فيه مدخل فاللوم على نفسك وإن كان الله قد أجراه عليك فهو خير لك ولله حكمة في ذلك.
وحظي من الدنيا سواء لأنني | رضيت بحكم الله في العسر واليسر |
" فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما "، وماداموا قد آمنوا بالله واعتصموا به فسيهديهم صراطه المستقيم، وعاقبة الهداية وثمرتها فسرها وبينها قوله الحق :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم( ١٧ ) ﴾( سورة محمد ).
وقال لنا الرسول صلى الله عليه وسلم :( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ) :١
أي يصير مأمونا على العلم، لأن العلم الذي أخذه عن الله وظفه في خدمة غيره، ولم يدخره أو يعطله.
والاستفتاء هو طلب الفتيا ومعناها إرادة معرفة حكم شرعي لله في أمر لا يجد السائل علما فيه وكان الصحابة يستفتون رسول الله مع أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم :
{ ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ). ١
وجاء القرآن في كثير من الآيات ب " يسألونك " كأن الحق يعلمنا أن الصحابة أرادوا أن يثبتوا أنهم أحبوا منهج الله فأرادوا أن يبنوا حياتهم كلها على منهج الله، ولو كانوا قد كرهوا منهج الله لما سألوا لقد وجدوا أن الإسلام قد جاء، ووجد أشياء في الجاهلية وأقرها، ووجد أشياء قام بتغييرها ولم يرد الصحابة أن يصنعوا الأشياء على أنها امتداد لصنع الجاهلية بل أرادوا أن يصنعوها على أنها حكم الإسلام، لذلك جاءت أسئلتهم الكثيرة، والفتوى تكون في حكم. والسؤال يكون في حكم وفي غير حكم، وهم يطلبون الفتوى في الكلالة ودقة القرآن في إيجاز السؤال : " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " وقد تقدم من قبل الحديث عن الكلالة :﴿ وإن كان رجل يورث كلالة ﴾( من ألاية١٢سورة النساء )
إلا أن الذي تقدم هناك كان عن الصلة من ناحية الأم وسؤال جابر بن عبد الله كان عن الصلة من ناحية الأب.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :( مرضت مرضا فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما ماشيان فوجداني أغمي علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه علي فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي ؟ كيف أقضي في مالي ؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث "، ٢
وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فأنزل الله آية الفرائض وبعض العلماء قال : إن كلمة " كلالة " مأخوذة من كلال التعب لأن الكلالة في الشرع هو من ليس له ولد ولا والد، والإنسان بين حياتين حياة يعولها والد، وعندما يكبر ويضعف تصير حياته يعولها ولد، لذلك فالذي ليس له والد ولا ولد يعيش مرهقا، فليس له والد سبق بالرعاية وليس له ولد يحمله في الكبر لذا سمي بالكلالة.
وبعضهم قال : إنها من الإكليل أي التاج، وهو محيط بالرأس من جوانبه والمقصود به الأقارب المحيطون بالإنسان وليس لهم به صلة أعلى أي من الآباء أو من أدنى أي من الأبناء.
" إن امرئ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد " أي إن الكلالة هي أن يموت أحد وله أخت شقيقة أو أخت من أب فهي ترث النصف، وإذا ماتت هذه الأخت فالأخ يرثها سواء أكان شقيقا أم أخا لأب، وإن ترك الرجل الكلال أختين أو أكثر فلهما الثلثان مما ترك ذلك الأخ، وإن كان له إخوة من رجال ونساء، فها هو ذا قول الحق : " وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ". أي أن للذكر من الإخوة مثل حظ الأنثيين.
ويختم الحق الآية :﴿ يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ﴾. أي أنه الحق يبين أحكامه خشية أن يصيب القوم الضلال وقد علم سبحانه أزلا بكل سلوك وكل خافية وهو العليم أبدا بما ينفع الناس جميعا وبذلك انتهينا بعون الله من خواطرنا في سورة النساء.
.
٢ أخرجه البخاري..