ﰡ
فإن قلتَ : إذا كانت مخلوقة من " آدم " ونحن مخلوقون منه أيضا، تكون نسبتها إليه نسبة الولد، فتكون أختا لنا، لا أمّا ؟
قلتُ : خلقُها من آدم لم يكن بتوليد، كخلق الأولاد من الآباء، فلا يلزم منه ثبوت حكم " البنتيّة " و " الأختيّة " فيها.
قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حُوبا كبيرا ﴾ [ النساء : ٢ ] أي مضمومة إليها.
إن قلتَ : أكل مال اليتيم حرام، وإن لم يُضمّ إلى مال الوصيّ، فلم خُصّ النهي بالمضموم ؟
قلتُ : لأن أكل مال اليتيم مع الاغتناء عنه أقبح، فلذلك خصّ النهي به، ولأنهم كانوا يأكلونه مع الاغتناء عنه، فجاء النهي على ما وقع منهم.
وما يأخذه الأب فيما إذا كان الولد " أنثى "، من الزائد على السدس، إنما يأخذه تعصيبا، والآية إنما وردت لبيان الفرض.
ذكر " الواو " فيه هنا، وتركها في التوبة( ١ )، موافقة لذكرها هنا قبله، في قوله تعالى :﴿ ومن يطع الله ﴾ [ النساء : ١٣ ] وبعده في قوله تعالى :﴿ ومن يعص الله ﴾ [ النساء : ١٤ ] وقوله تعالى :﴿ وله عذاب مهين ﴾ [ النساء : ١٤ ] بخلاف ذلك.
فإن قلتَ : لم قيّد " بجهالة " مع أن من عمل سوء بغير جهالة، ثم تاب قُبلت توبته ؟
قلتُ : المراد " بالجهالة " الجهالة بقدر قُبح المعصية، وسوء عاقبتها، لا بكونها " معصية " و " ذمّا " ! !
وكلّ عاص جاهل بذلك حال معصيته، لأنه حال المعصية مسلوب كمال العلم به، بسبب غلبة الهوى.
قوله تعالى :﴿ ثم يتوبون من قريب... ﴾ [ النساء : ١٧ ].
ليس المراد ب " القريب " مقابلة البعيد، إذ حكمهما هنا واحد، بل المراد من قوله :﴿ من قريب ﴾ من قبل معاينة سبب الموت، بقرينة قوله تعالى :﴿ حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ﴾ [ النساء : ١٨ ].
إن قلت : حرمة الأخذ ثابتة، وإن لم يكن قد آتاها المسمّى، بل كان في ذمته أو في يده ؟
قلتُ : المراد بالإيتاء : الالتزام والضّمان، كما في قوله تعالى :﴿ إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] أي التزمتم وضمنتم.
قوله تعالى :﴿ أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ﴾ [ النساء : ٢٠ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك مع أن " البهتان " الكذب مكابرة، وأخذ مهر المرأة قهرا ظلم لا بهتان ؟
قلتُ : المراد بالبهتان هنا الظلم( ١ ) تجوّزا، كما قال به ابن عباس وغيره.
وقيل : المراد أنه يرمي امرأته بتهمة، ليتوصل إلى أخذ المهر.
إن قلتَ : المستثنى منه مستقبل، والمستثنى ماضٍ، فكيف صحّ استثناؤه من المستقبل ؟
قلتُ : " إلا " بمعنى " بعد " أو " لكن " كما قيل في قوله تعالى :﴿ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ﴾( ١ ) [ الدخان : ٥٦ ] والاستثناء هنا كهو في قوله :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فُلولٌ من قِراعِ الكَتائبِ
والمعنى : إن أمكن كون فلول السيوف من الكتائب عيبا، فهو عيب فيهم، فهو من باب التعليق بالمستحيل.
قوله تعالى :﴿ إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ﴾ [ النساء : ٢٢ ].
إن قلتَ : كيف جاء بلفظ الماضي، مع أن نكاح منكوحة الأب، فاحشة في الحال والاستقبال ؟
قلتُ : " كان " تُستعمل تارة للماضي المنقطع نحو : كان زيد غنيا، وتارة للماضي المتّصل بالحال نحو ﴿ وكان الله غفورا رحيما... ﴾ [ النساء : ٩٦ ] ﴿ وكان الله بكل شيء عليما ﴾ [ الأحزاب : ٤٠ ] ومنه ﴿ إنه كان فاحشة ﴾ [ النساء : ٢٢ ].
إن قلتَ : ما فائدة ذلك مع أنه مفهوم من قوله :﴿ وأحلّ لكم ما وراء ذلكم ﴾ [ النساء : ٢٤ ] ومن مفهوم قوله :﴿ من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ ﴾.
قلتُ : فائدته رفع توهّم أنّ " قيد الدخول " خرج مخرج الغالب، كما قيل : في حجوركم.
اقتصر عليه هنا، لأنه في " الحرائر " المسلمات، وهنّ إلى الخيانة أبعد من بقيّة النساء.
وزاد بعد في قوله ﴿ محصنات غير مسافحات ولا متّخذات أخذان ﴾( ١ ) [ النساء : ٢٥ ] لأنه في " الإماء " وهنّ إلى الخيانة أقرب من حرائر المسلمات.
وزاد أيضا في المائدة في قوله ﴿ محصنين غير مسافحين ﴾ [ النساء : ٢٤ ] قوله :﴿ ولا متخذات أخذان ﴾ [ المائدة : ٥ ] لأنه في " الكتابيات " الحرائر، وهنّ إلى الخيانة أقرب من الحرائر المسلمات.
فإن أُعطي لهنّ بإذن مواليهنّ فلا حذف.
قوله تعالى :﴿ فإذا أُحصنّ... ﴾ ( ١ ) [ النساء : ٢٥ ] أي تزوجن.
فإن قلتَ : الإحصان ليس قيدا في وجوب تنصيف الحدّ على الأمة إذا زنت، بل هو عليها أُحصنت أو لا ؟
قلتُ : ذكر الإحصان خرج مخرج جواب سؤال، فلا مفهوم له، إذ الصحابة عرفوا مقدار حدّ الأمة التي لم تتزوّج، دون مقداره من التي تزوجت، فسألوا عنه فنزلت الآية.
زاد في المائدة عليه " منه "، لأن المذكور ثم جميع واجبات الوضوء والتيمّم، فحسن البيان والزّيادة، بخلاف ما هنا فحسن التّرك.
قال ذلك هنا، وقال في غيره " يا أهل الكتاب " لموافقة التعبير هنا قبله وبعده " باللذين أوتو ".
ولأنه تعالى استخفّ بهم هنا قبل، وختم بعد الطمس وغيره، بخلاف ذلك في غير هذا الموضع.
قوله تعالى :﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾ [ النساء : ٤٨ ].
ختم الآية مرة بقوله :«فقد افترى إثما عظيما ».
ومرّة بقوله :«فقد ضلّ ضلالا بعيدا ».
ولا تكرار فيه وإن أشركا في الضلال، لأن الأول نزل في اليهود، والثاني في كفار لا كتاب لهم، وخصّ ما نزل في " اليهود " بالافتراء، لأنهم حرّفوا وكتموا ما في كتابهم وذلك افتراء، بخلافه في الكفار الذين لا كتاب لهم.
إن قلتَ : كيف ذمّهم على ذلك، بما قاله ونهى عنه بقوله :﴿ فلا تزكّوا أنفسكم ﴾ [ يوسف : ٥٥ ] مع قول النبي صلى الله عليه وسلم :«والله إني لأمين في السماء، أمين في الأرض » وقول يوسف عليه السلام :﴿ قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ﴾( ١ ) [ يوسف : ٥٥ ] ؟
قلتُ : إنما قال النبي ما قاله حين قال المنافقون «إعْدِلْ في القسمة »( ٢ ) تكذيبا لهم، حيث وصفوه بخلاف ما كان عليه من العدل والأمانة، وإنما قال " يوسف " ما قاله، ليتوصّل إلى ما هو وظيفة الأنبياء، وهو إقامة العدل، وبسط الحق( ٣ ).
ولأنه عَلِم أنه لا أحد في زمنه أقوم منه بذلك العمل، فكان متعيّنا عليه.
٢ - إنما قال ذلك يوسف عليه السلام تحدثا بنعمة الله وبينانا لحنكته ومعرفته، لا تزكية للنفس..
٣ - تتمة الآية: ﴿من النبيئين والصدّقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا﴾ النساء: ٦٩ فقد بدأ بالنبيين، ثم بالصديقين، ثم بالشهداء، والصالحين على حسب ترتيبهم في الشرف ورفعة المنزلة والقدر..
وهو عبارة عن المستلذّ المستطاب كقوله تعالى :﴿ ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيّا ﴾ [ مريم : ٦٢ ] جريا على المتعارف بين الناس، وإلا فلا شمس في الجنة طالعة، ولا غاربة( ١ )، كما أنه لا بكرة فيها ولا عشية.
إن قلتَ : هذا مدح لمن يطيع الله والرسول، وعادة العرب في صفات المدح، الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، وهذا عكسه ؟
قلتُ : ليس هو من ذاك الباب، بل المقصود منه الإخبار إجمالا عن كون المطيعين لله ولرسوله، يكونون يوم القيامة مع الأشراف، وقد تمّ الكلام عند قوله :﴿ أنعم الله عليهم ﴾ [ النساء : ٦٩ ] ثم فصّلهم بذكر الأشراف فالأشراف بقوله :﴿ من النبيئين ﴾ [ النساء : ٦٩ ] إلى آخره جريا على العادة في تعديد الأشراف، ومثله ﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ [ النساء : ٥٩ ] وكذلك ﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم ﴾ [ آل عمران : ١٨ ].
إن قلتَ : كيف وصف فيه كيد الشيطان بالضعف، وفي قوله :﴿ إن كيدهنّ عظيم ﴾( ١ ) [ يوسف " ٢٨ ] وصف كيد النّساء بالعِظم، مع أن كيد الشيطان أعظم ؟
قلتُ : المراد أن كيد الشيطان ضعيف بالنسبة إلى نصرة الله أولياءه، وكيد النساء عظيم بالنسبة إلى الرجال.
جمع بينه وبين قوله تعالى :﴿ قل كلّ من عند الله ﴾ [ النساء : ٧٨ ] الواقع ردّا لقول المشركين ﴿ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله... ﴾ الآية [ النساء : ٧٨ ].
بأن قوله تعالى :﴿ قل كل من عند الله ﴾ أي إيجادا.
وقوله :﴿ وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾ [ النساء : ٧٩ ] أي كسباً، كما في قوله تعالى :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ [ الشورى : ٣٠ ]. وبأن قوله :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله ﴾ [ النساء : ٧٩ ] الآية حكاية قول المشركين( ١ )، والتقدير : فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا فيقولون : ما أصابك ؟ الآية.
وأُجيبَ : بأن التقيد بالكثرة، للمبالغة في إثبات الملازمة، أي لو كان من عند غير الله، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، فضلا عن القليل، لكنه من عند الله، فليس فيه اختلاف كثير ولا قليل.
إن قلتَ : كيف استثنى القليلَ، بتقدير انتفاء الفضل والرحمة، مع أنه لولاهما لاتّبع الكلّ الشيطان ؟
قلتُ : الاستثناء راجع إلى ﴿ أذاعوا به ﴾ [ النساء : ٨٣ ] أو إلى ﴿ لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ [ النساء : ٨٣ ] أو إلى ﴿ لاتّبعتم الشيطان ﴾ لكن بتقييد الفضل والرحمة بإرسال الرسول، أي لاتبعتم الشيطان في الكفر والضلال، إلا قليلا منكم كانوا يهتدون بعقولهم، إلى معرفة الله وتوحيده، ك " قسّ بن ساعدة " و " ورقة بن نوفل " قبل البعثة، والخطاب في الآية للمؤمنين.
فإن قلتَ : " إلاّ " بمعنى " ولا " كما في قوله تعالى :﴿ إني لا يخاف لديّ المرسلون إلا من ظلم ﴾ [ النمل : ١٠، ١١ ] وقوله :﴿ لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم ﴾ [ البقرة : ١٥٠ ].
إن قلتَ : كيف قال هنا " درجة " وقال في التي بعدها " درجات " ؟
قلتُ : المراد بالأول تفضيلهم على القاعدين بعذر، لأن لهم أجرا لكونهم من الغزاة بالهمّة والقصد، ولهذا قال :﴿ وكلاّ وعد الله الحسنى ﴾ [ النساء : ٩٥ ] أي الجنة.
والمراد بالثاني تفضيلهم على القاعدين بلا عذر، لأنهم مقصّرون ومسيئون، فكان فضل الغزاة عليهم درجات، لانتفاء الفضل لهم.
إن قلتَ : هذا الجواب ليس مطابقا للسؤال، بل المطابق له : كنّا في كذا، أو لم نكن في شيء ؟
قلتُ : المراد بالسؤال توبيخهم بأنهم لم يكونوا على الدّين، حيث قدروا على الهجرة ولم يهاجروا، فصار قول الملائكة «فيم كنتم » مجازاً عن قولهم : لم تركتم الهجرة ؟ فقالوا اعتذاراً عمّا وُبِّخوا به «كنا مستضعفين في الأرض ».
قوله تعالى :﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغَماً ﴾ [ النساء : ١٠٠ ] أي متحولا يتحوّل إليه، من " الرَّغام " وهو التُّراب، وسُمّيت المهاجرة مراغمة، لأن من يهاجر يُراغم قومه، لما يجد في ذلك البلد من النّعمة والخير، ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه، الذين كانوا معه في بلده الأصليّ، فإنه إذا استقام حاله في البلد الأجنبيّ، ووصل خبره إلى أهل بلده، خجلوا من سوء معاملتهم له، ورغِمت أنوفهم بذلك.
تقييد القصر بالخوف جرى على الغالب، فلا مفهوم له، إذ للمسافر القصر في الأمن أيضا.
إن قلتَ : رجاء الفريقين مشترك، إذِ الكفّار يرجون الثواب في قتالهم المؤمنين، لاعتقادهم أنه قربة لله، كالمؤمنين في قتالهم الكفار ؟
قلتُ : ممنوع إذِ المراد بالكفّار عبدة الأوثان، ونحوهم ممن لا يعتقد الجزاء، فاعتقادهم فاسد لبنائه على فاسد، فرجاؤهم وهميّ فهو كالمعدوم.
قلتُ : المراد بالهمّ المؤثّر أي لهمّت همّا يؤثّر عندك، والمراد بالإضلال الإضلالُ عن الشريعة أي لهمّت أن يضلوك – أي يصرفوك- عن دينك وشريعتك، وكلّ من هذين الهمّين لم يقع.
قوله تعالى :﴿ من يعمل سوءا يُجز به... ﴾ الآية [ الحشر : ٤ ] أي إن مات مصرّا عليه، فإن تاب منه لم يُجز به.
٢ - في قوله تعالى: ﴿ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاقق الله فإن الله شديد العقاب﴾ الحشر: ٤..
إن قلتَ : اليهود الداخلون تحت لفظ ( أهل الكتاب )، كانوا كافرين بعيسى، فكيف أقرّوا بأنه رسول الله ؟ !
قلتُ : قالوه استهزاء كما قال فرعون ﴿ إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ﴾( ١ ) [ الشعراء : ٢٧ ].
قوله تعالى :﴿ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه... ﴾ الآية [ النساء : ١٥٧ ] وصفهم بالشك لا ينافي بعده وصفهم بالظن، لأن المراد بالشك هنا " شك الظن " واستثناء الظن من العلم في الآية منقطع، ف " إلا " فيها بمعنى " لكن " كما في قوله تعالى :﴿ لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ﴾ [ الواقعة : ٢٥، ٢٦ ] ونحوه.
إن قلتَ : كيف قال :«أنزله بعلمه » ولم يقل : بقدرته، أو بعلمه وقدرته، مع أنه تعالى لا يُنزل إلا عن علم وقدرة ؟ !
قلتُ : معناه أنزله ملتبسا بعلمه، أي عالما به، أو فيه علمه أي معلومه.
فإن قلتَ : كلامه تعالى صفة قديمة قائمة بذاته، وعيسى مخلوق وحادث، فكيف صحّ إطلاق الكلمة عليه ؟ !
قلتُ : معناه أن وجوده كان بكلمة الله تعالى، وهي قوله : " كن " من غير واسطة أب، بخلاف غيره من البشر سوى آدم، وإنما خصّ ذلك بعيسى، لأنه جيء به للردّ على من افترى عليه وعلى أمه مريم عليهما السلام.