تفسير سورة النساء

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة النساء من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة النساء
سورة مدنية على الصحيح وزعم النحاس أنها مكية مستندا إلى أن قوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم ﴾ الآية نزلت بمكة اتفاقا( ١ ) في شأن مفتاح الكعبة وتعقبه العلامة السيوطي بأن ذلك مستند واه لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات بمكة من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلى الله تعالى عليه وسلم وبناؤه عليها صلى الله تعالى عليه وسلم كان بعد الهجرة إتفاقا وقيل : إنها نزلت عند الهجرة وعدة آياتها عند الشاميين مائة وسبع وسبعون وعند الكوفيين ست وسبعون وعند الباقين خمس وسبعون والمختلف فيه منها آيتان : إحداهما ﴿ أن تضلوا السبيل ﴾ وثانيتهما ﴿ فيعذبهم عذابا أليما ﴾ فالكوفيون يثبتون الأولى آية فقط والشاميون يثبتون الثانية أيضا والباقون يقولون هما بعضا آية ووجه مناسبتها لآل عمران أمور منها أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى وأفتتحت هذه السورة به وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف( ٢ ) وقوم يسمونه بالتسبيغ وذلك كقول ليلى الإخيلية : إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة رواها رواها فأرواها بشرب سجالها دماء رجال حيث نال حشاها ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة وفي هذه السورة ذكر ذيلها وهو قوله تعالى :﴿ فمالكم في المنافقين فئتين ﴾ فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى مرويا عن البخاري ومسلم وغيرهما ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى :﴿ الذين استجابوا لله والرسول ﴾ إلخ وأشير إليها ههنا بقوله سبحانه :﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم ﴾ الآية وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها كما في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب فيه التأخير ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الإرتباط وغاية الإحتباك
١ - وذكر الطبرسي أن آية الكلالة نزلت بمكة أيضاً اهـ منه..
٢ - ولا يضر في ذلك كون الخطاب الأول: (يا أيها الذين آمنوا) والخطاب الثاني: (يا أيها الناس) كما لا يخفى اهـ منه..

يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب يعم المكلفين من لدن نزل إلى يوم القيامة على ما مرّ تحقيقه، وفي تناول نحو هذه الصيغة للعبيد شرعا حتى يعمهم الحكم خلاف، فذهب الأكثرون إلى التناول لأن العبد من الناس مثلا فيدخل في الخطاب العام له قطعا وكونه عبدا لا يصلح مانعا لذلك، وذهب البعض إلى عدم التناول قالوا: لأنه قد ثبت بالإجماع صرف منافع العبد إلى سيده فلو كلف بالخطاب لكان صرفا لمنافعه إلى غير سيده وذلك تناقض فيتبع الإجماع ويترك الظاهر، وأيضا خرج العبد عن الخطاب بالجهاد والجمعة والعمرة والحج والتبرعات والأقارير ونحوها، ولو كان الخطاب متناولا له للعموم لزم التخصيص، والأصل عدمه، والجواب عن الأول أنا لا نسلم صرف منافعه إلى سيده عموما بل قد يستثنى من ذلك وقت تضايق العبادات حتى لو أمره السيد في آخر وقت الظهر ولو أطاعه لفاتته الصلاة وجبت عليه الصلاة، وعدم صرف منفعته في ذلك الوقت إلى السيد، وإذا ثبت هذا فالتعبد بالعبادة ليس مناقضا لقولهم: بصرف المنافع للسيد، وعن الثاني بأن خروجه بدليل اقتضى خروجه وذلك كخروج المريض، والمسافر، والحائض عن العمومات الدالة على وجوب الصوم والصلاة والجهاد، وذلك لا يدل على عدم تناولها اتفاقا، غايته أنه خلاف الأصل ارتكب لدليل وهو جائز ثم الصحيح أن الأمم الدارجة قبل نزول هذا الخطاب لا حظ لها فيه لاختصاص الأوامر والنواهي بمن يتصور منه الامتثال، وأنى لهم به وهم تحت أطباق الثرى لا يقومون حتى ينفخ في الصور.
وجوز بعضهم كون الخطاب عاما بحيث يندرجون فيه، ثم قال: ولا يبعد أن يكون الأمر الآتي عاما لهم أيضا بالنسبة إلى الكلام القديم القائم بذاته تعالى، وإن كان كونه عربيا عارضا بالنسبة إلى هذه الأمة، وفيه نظر لأن المنظور إليه إنما هو أحكام القرآن بعد النزول وإلا لكان النداء وجميع ما فيه من خطاب المشافهة مجازات ولا قائل به فتأمل.
وعلى العلات لفظ النَّاسُ يشمل الذكور والإناث بلا نزاع، وفي شمول نحو قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمُ خلاف والأكثرون على أن الإناث لا يدخلن في مثل هذه الصيغة ظاهرا خلافا للحنابلة، استدل الأولون بأنه قد روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله تعالى ذكر إلا الرجال فأنزل ذكرهن، فنفت ذكرهن مطلقا ولو كن داخت لما صدق نفيهن ولم يجز تقريره عليه الصلاة والسلام للنفي، وبأنه قد أجمع أرباب العربية على أن نحو هذه الصيغة جمع مذكر وأنه لتضعيف المفرد والمفرد مذكر، وبأن نظير هذه الصيغة المسلمون ولو كان مدلول
390
المسلمات داخلا فيه لما حسن العطف فيقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: ٣٥] إلا باعتبار التأكيد، والتأسيس خير من التأكيد، وقال الآخرون: المعروف من أهل اللسان تغليبهم المذكر على المؤنث عند اجتماعهما باتفاق، وأيضا لو لم تدخل الإناث في ذلك لما شاركن في الأحكام لثبوت أكثرها بمثل هذه الصيغة، واللازم منتف بالاتفاق كما في أحكام الصلاة والصيام الزكاة، وأيضا لو أوصى لرجال ونساء بمائة درهم، ثم قال:
أوصيت لهم بكذا دخلت النساء بغير قرينة، وهو معنى الحقيقة فيكون حقيقة في الرجال والنساء ظاهرا فيهما وهو المطلوب، وأجيب أما عن الأول فبإنه إنما يدل على أن الإطلاق صحيح إذا قصد الجميع، والجمهور يقولون به، لكنه يكون مجازا ولا يلزم أن يكون ظاهرا وفيه النزاع (١).
وأما عن الثاني فبمنع الملازمة، نعم يلزم أن لا يشاركن في الأحكام بمثل هذه الصيغة، وما المانع أن يشاركن بدليل خارج؟ والأمر كذلك، ولذلك لم يدخلن في الجهاد والجمعة مثلا لعدم الدليل الخارجي هناك، وأما عن الثالث فبمنع المبادرة ثمة بلا قرينة فإن الوصية المتقدمة قرينة دالة على الإرادة، فالحق عدم دخول الإناث ظاهرا، نعم الأولى هنا القول بدخولهن باعتبار التغليب، وزعم بعضهم أن لا تغليب بل الأمر للرجال فقط كما يقتضيه ظاهر الصيغة، ودخول الإناث في الأمر- بالتقوى- للدليل الخارجي، ولا يخفى أن هذا يستدعي تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده لأن إبقاءه حينئذ على عمومه مما يأباه الذوق السليم، والمأمور به إما الاتقاء بحيث يشمل ما كان باجتناب الكفر والمعاصي وسائر القبائح، ويتناول رعاية حقوق الناس كما يتناول رعاية حقوق الله تعالى.
وأما الاتقاء في الإخلال بما يجب حفظه من الحقوق فيما بين العباد- وهذا المعنى مطابق لما في السورة من رعاية حال الأيتام وصلة الأرحام والعدل في النكاح والإرث ونحو ذلك بالخصوص- بخلاف الأول فإنه إنما يطابقها من حيث العموم، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من تأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال، وكذا في وصف الرب بقوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ لأن الاستعمال جار على أن الوصف الذي علق به الحكم علة موجبة له، أو باعثة عليه، داعية إليه، ولا يخفى أن ما هنا كذلك لأن ما ذكر يدل على القدرة العظيمة، أو النعمة الجسيمة، ولا شك أن الأول يوجب التقوى مطلقا حذرا عن العقاب العظيم، وأن الثاني يدعو إليها وفاء بالشكر الواجب، وإيجاب الخلق من أصل واحد للاتقاء على الاحتمال الثاني ظاهر جدا، وفي الوصف المذكور تنبيه على أن المخاطبين عالمون بما ذكر مما يستدعي التحلي بالتقوى، وفيه كمال توبيخ لمن يفوته ذلك، والمراد من النفس الواحدة آدم عليه السلام، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحد- وهو أبو البشر-
وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم وآدم، بين كل آدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم عليه السلام،
وروي ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال: لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشرا غيركم بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين،
وقال الميثم في شرحه الكبير على النهج- ونقل عن محمد بن علي الباقر- أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم وأكثر،
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم
(١) فإن قيل: الأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يصار إلى المجاز إلا لدليل، أجيب بأنه لا نزاع في أن الصيغة للرجال وحدهم حقيقة ولو كانت لهم وللنساء معا حقيقة أيضا لزم الاشتراك، وإلا فالمجاز وقد تقرر في الأصول أن المجاز أولى من الاشتراك اهـ منه.
391
بأربعين ألف سنة آدم غيره، وفي كتاب الخصائص (١) ما يكاد يفهم منه التعدد أيضا الآن حيث
روى فيه عن الصادق أنه قال: إن لله تعالى اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سموات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أن لله عز وجل عالما غيرهم، وأنى للحجة عليهم،
ولعل هذا وأمثاله من أرض السمسمة وجابرسا وجابلقا إن صح محمول على عالم المثال لا على هذا العالم الذي نحن فيه، وحمل تعدد آدم في ذلك العالم أيضا غير بعيد، وأما القول بظواهر هذه الأخبار فما لا يراه أهل السنة والجماعة، بل قد صرح زين العرب بكفر من يعتقد التعدد، نعم إن آدمنا هذا عليه السلام مسبوق بخلق آخرين كالملائكة والجن وكثير من الحيوانات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى لا يخلق أمثاله وهو حادث نوعا وشخصا خلافا لبعض الفلاسفة في زعمهم قدم نوع الإنسان، وذهب الكثير منا إلى أنه منذ كان إلى زمن البعثة ستة آلاف سنة وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ورووا أخبارا كثيرة في ذلك، والحق عندي أنه كان بعد أن لم يكن ولا يكون بعد أن كان، وأما أنه متى كان ومتى لا يكون فمما لا يعلمه إلا الله تعالى، الأخبار مضطربة في هذا الباب فلا يكاد يعول عليها.
والقول- بأن النفس الكلي يجلس لفصل القضاء بين الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة وأن قيام الساعة بعد تمام ألف البعثة محمول على ذلك- فمما لا أرتضيه دينا ولا أختاره يقينا، والخطاب في رَبَّكُمُ وخَلَقَكُمْ للمأمورين وتعميمه بحيث يشمل الأمم السالفة مع بقاء ما تقدم من الخطاب غير شامل بناء على أن شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل أتم في تأكيد الأمر السابق مع أن فيه تفكيكا للنظم مستغنى عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كانوا بواسطة ما بينه وبينهم من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنا لحق الوسائط جميعا، وكذا التعرض لربوبيته تعالى لهم متضمن لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد أردف الكلام بقوله تعالى شأنه: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وهو عطف على خَلَقَكُمْ داخل معه في حيز الصلة، وأعيد الفعل لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت لأن الأول بطريق التفريع من الأصل، والثاني بطريق الإنشاء من المادة فإن المراد من الزوج حواء وهي قد خلقت من ضلع آدم عليه السلام والأيسر (٢) كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره،
وروى الشيخان «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج»
وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع لأنه سبحانه قادر على خلقها من التراب فأي فائدة في خلقها من ذلك، وزعم أن معنى منها من جنسها والآية على حد قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل: ٧٢] ووافقه على ذلك بعضهم مدعيا أن القول بما ذكر يجر إلى القول بأن آدم عليه السلام كان ينكح بعضه بعضا، وفيه من الاستهجان ما لا يخفى، وزعم بعض أن حواء كانت حورية خلقت مما خلق منه الحور بعد أن أسكن آدم الجنة وكلا القولين باطل، أما الثاني فلأنه ليس في الآيات ولا الأحاديث ما يتوهم منه الإشارة إليه أصلا فضلا عن التصريح به، ومع هذا يقال عليه:
إن الحور خلقن من زعفران الجنة- كما ورد في بعض الآثار-
فإن كانت حواء مخلوقة مما خلقن منه- كما هو نص كلام الزاعم- فبينها وبين آدم عليه السلام المخلوق من تراب الدنيا بعد كليّ يكاد يكون افتراقا في الجنسية التي ربما توهمها الآية، ويستدعي بعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة وإن كانت مخلوقة مما خلق منه آدم فهو مع كونه خلاف نص كلامه يردّ عليه أن هذا قول بما قاله أبو مسلم وإلا يكنه فهو قريب
(١) لابن بابويه اهـ منه.
(٢) وقيل: إنها خلقت من فضل طينته ونسب للباقر اهـ منه.
392
منه، وأما الأول فلأنه لو كان الأمر كما ذكر فيه لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص، وأيضا هو خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهذا يردّ على الثاني أيضا.
والقول بأنه أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب؟ يقال عليه: إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي لا على سبيل التوالد- كما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلك- ولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانه- كما أنه قادر على خلق آدم من التراب- هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضا، فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب والقول: بأن ذلك يجر إلى ما فيه استهجان لا يخفى ما فيه. لأن هذا التشخص الخاص الحاصل لذلك الجزء بحيث لم يبق من تشخصه الأصلي شيء ظاهر يدفع الاستهجان الذي لا مقتضى له إلا الوهم الخالص لا سيما والحكمة تقتضي ذلك التناكح الكذائي.
فقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن حواء لما انفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية التي بها وقع الغشيان لظهور التوالد والتناسل وكان الهواء الخارج الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لا خلاء في العالم فطلب ذلك الجزء الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معمورا بحواء، فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقي بعد ذلك سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع، لكن الإنسان هو الكلمة الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه، وليس الإنسان بجزء واحد من العالم وكان سبب الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الذي هو النوع الأخص، وليكون في عالم الأجسام بهذا الالتحام الطبيعي للإنسان الكامل بالصورة التي أرادها الله تعالى ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية انتهى.
ويفهم من كلامهم أن هذا الخلق لم يقع هكذا إلا بين هذين الزوجين دون سائر أزواج الحيوانات ولم أظفر في ذلك بما يشفي الغليل، نعم أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زوج إبليس عليهما اللعنة خلقت من خلفه الأيسر، والخلف- كما في الصحاح- أقصر أضلاع الجنب، وبذلك فسره الضحاك في هذا المقام، وإنما أخر بيان خلق الزوج عن بيان خلق المخاطبين لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على امتثال الأمر من تذكير خلقها، وقدم الجار للاعتناء ببيان مبدئية آدم عليه السلام لها مع ما في التقديم من التشويق إلى المؤخر واختير عنوان الزوجية تمهيدا لما بعده من التناسل.
وذهب بعض المحققين إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدر ينبئ عنه السوق لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة، كأنه قيل: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خلقها أولا وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها إلخ، وهذا المقدر إما استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ، وبيان كيفية خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أولا، وإما صفة لنفس مفيدة لذلك، وأوجب بعضهم هذا التقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدم عاما في الجنس، ولعل ذلك لأنه لولا التقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى: وَبَثَّ مِنْهُما أي نشر وفرق من تلك النفس وزوجها على وجه التناسل والتوالد رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً تكرارا لقوله سبحانه: خَلَقَكُمْ لأن مؤادهما واحد وليس على سبيل بيان الأول لأنه معطوف عليه على عدم التقدير ولأوهم أن الرجال والنساء غير المخلوقين من نفس واحدة، وأنهم منفردون بالخلق منها ومن زوجها، والناس إنما خلقوا مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ من غير مدخل للزوج، ولا يلزم ذلك على
393
العطف، وجعل المخاطب- بخلقكم- من بعث إليهم عليه الصلاة والسلام إذ يكون وَبَثَّ مِنْهُما إلخ واقعا على من عدا المبعوث إليهم من الأمم الفائتة للحصر، والتوهم في غاية البعد وكذا لا يلزم على تقدير حذف المعطوف عليه وجعل الخطاب عامّا لأن ذلك المحذوف وما عطف عليه يكونان بيانا لكيفية الخلق من تلك النفس، ومن الناس من ادعى أنه لا مانع من جعل الخطاب عامّا من غير حاجة إلى تقدير معطوف عليه معه، وإلى ذلك ذهب صاحب التقريب. والمحذور الذي يذكرونه ليس بمتوجه إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا.
والمعطوف متكفل ببيان ذلك، وقد ذكر غير واحد أن اللازم في العطف تغاير المعطوفات ولو من وجه وهو هنا محقق بلا ريب كما لا يخفى، والتلوين في رِجالًا وَنِساءً للتكثير، وكَثِيراً نعت ل رِجالًا مؤكد لما أفاده التنكير، والإفراد باعتبار معنى الجمع أو العدد أو لرعاية صيغة فعيل، ونقل أبو البقاء أنه نعت لمصدر محذوف أي بثا كَثِيراً ولهذا أفرد، وجعله صفة حين- كما قيل- تكلف سمج، وليس المراد بالرجال والنساء البالغين والبالغات، بل الذكور والإناث مطلقا تجوزا، ولعل إيثارهما على الذكور والإناث لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره، وقيل: ذكر الكبار منهم لأنه في معرض المكلفين بالتقوى واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها لأن الحكمة تقتضي أن يكن أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة قاله الخطيب، واحتج بعضهم بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال، وأجيب بأنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور، على أن الآية لا تدل على أكثر من خلقنا وخلق الزوج مما ذكر سبحانه وهو غير واف بالمدعى، وقرئ- وخالق، وباث- على حذف المبتدأ لأنه صلة لعطفه على الصلة فلا يكون إلا جملة بخلاف نحو- زيد راكب وذاهب- أي وهو- خالق وباث.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ تكرير للأمر الأول وتأكيد له، والمخاطب من بعث إليهم صلّى الله عليه وسلم أيضا كما مر، وقيل: المخاطب هنا وهناك هم العرب- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- لأن دأبهم هذا التناشد، وقيل: المخاطب هناك من بعث إليهم مطلقا وهنا العرب خاصة، وعموم أول الآية لا يمنع خصوص آخرها كالعكس ولا يخفى ما فيه من التفكيك، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشارة إلى جميع صفات الكمال ترقيا بعد صفة الربوبية فكأنه قيل: اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقا بديعا ولكونه مستحقا لصفات الكمال كلها.
وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى بعض آخر من موجبات الامتثال، فإن قول القائل لصاحبه:
أسألك بالله، وأنشدك الله تعالى على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه، وتَسائَلُونَ إما بمعنى يسأل بعضكم بعضا فالمفاعلة على ظاهرها، وإما بمعنى تسألون- كما قرئ به- وتفاعل يرد بمعنى فعل إذا تعدد فاعله وأصله على القراءة المشهورة- «تتساءلون» - بتاءين فحذفت إحداهما للثقل، وقرأ نافع وابن كثير وسائر أهل الكوفة تَسائَلُونَ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس وَالْأَرْحامَ بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما، أو على محل المجرور إن كان المحل له، والكلام على حدّ مررت بزيد، وعمرا، وينصره قراءة- «تساءلون به وبالأرحام» وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى، ويقولون:
أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم- كما أخرج ذلك غير واحد- عن مجاهد، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى، وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد، والضحاك عن ابن عباس، وابن المنذر عن عكرمة، وحكي عن أبي جعفر
394
رضي الله تعالى عنه، واختاره الفراء. والزجاج، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها، وقرأ حمزة بالجر، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.
وأول من شنع على حمزة في هذه القراءة أبو العباس المبرد حتى قال: لا تحل القراءة بها، وتبعه في ذلك جماعة- منهم ابن عطية- وزعم أنه يردها وجهان: أحدهما أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيها أكثر من الاخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا مما يغض من الفصاحة، والثاني أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك،
فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «من كان حالفا فليحلف بالله تعالى أو ليصمت».
وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش.
والإمام بن أعين ومحمد بن أبي ليلى وجعفر بن محمد الصادق- وكان صالحا ورعا ثقة في الحديث- من الطبقة الثالثة.
وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه، ومنهم إمام الكوفة- قراءة وعربية- أبو الحسن الكسائي، وهو أحد القراء السبعة الذين قال أساطين الدين: إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم- كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم، وقد أطال أبو حيان في البحر الكلام في الردّ عليهم، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح، بل الصحيح ما ذهب اليه الكوفيون من الجواز، وورد ذلك في لسان العرب نثرا ونظما، وإلى ذلك ذهب ابن مالك، وحديث إن ذكر الأرحام- حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى- ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة- وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام يقتضيه بلا ريب، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى، فقد قيل في جوابها: لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقا منهي عنه، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلا فمما لا بأس به
ففي الخبر «أفلح وأبيه إن صدق».
وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو- كقول القائل- والرحم لأفعلن كذا. ولقد فعلت كذا، فلا يكون متعلق النهي في شيء، والقول بأن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية- لا يخفى ما فيه فافهم، وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر فقال في الخصائص: باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك. رسم دار وقفت في طلله.
أي رب رسم دار، وكان رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت؟ بقول: خير عفاك الله تعالى- أي بخير- ويحذف الباء لدلالة الحال عليها، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة، وفي شرح المفصل أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها، وقد مشى على ذلك أيضا الزمخشري في أحاجيه، وذكر صاحب الكشف أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو- الله لأفعلن- وفي نحو- ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان ذلك- والحمل
395
على ما ثبت هو الوجه، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو- اتق الله تعالى فو الله إنه مطلع عليك- ترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن.
وقرأ ابن زيد وَالْأَرْحامَ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي وَالْأَرْحامَ كذلك أي مما يتقى لقرينة اتَّقُوا أو مما يتساءل به لقرينة تَسائَلُونَ وقدره ابن عطية- أهل لأن توصل- وابن جني- مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه- ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى
وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال: نعم أما ترضين أني أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى قال: فذلك لك»
وأخرج البزار بإسناد حسن «الرحم حجنة (١) متمسكة بالعرش تكلم بلسان زلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تعالى: أنا الرحمن أنا الرحيم فإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بتكها بتكته».
وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح «إن من أربى الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة (٢) من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة».
والأخبار في هذا الباب كثيرة، والمراد بالرحم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بعد ويطلق على الأقارب من جهة النساء وتخصيصه في باب الصلة بمن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً أي حفيظا- قاله مجاهد- فهو من رقبه بمعنى حفظه- كما قاله الراغب- وقد يفسر بالمطلع، ومنه المرقب للمكان العالي الذي يشرف عليه ليطلع على ما دونه، ومن هنا فسره ابن زيد بالعالم، وعلى كل فهو فعيل بمعنى فاعل، والجملة في موضع التعليل للأمر ووجوب الامتثال، وإظهار الاسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار لرعاية الفواصل وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ شروع في تفصيل موارد الاتقاء على أتم وجه، وبدأ بما يتعلق باليتامى إظهارا لكمال العناية بشأنهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأوصياء والأولياء وقلما تفوض الوصاية لأجنبي، واليتيم- من الإنسان من مات أبوه، ومن سائر الحيوانات فاقد الأم- من اليتم وهو الانفراد، ومن هنا يطلق على كل شيء عز نظيره، ومنه الدرة اليتيمة وجمع على يتامى مع أن فعيلا لا يجمع على فعالى بل على فعال- ككريم وكرام وفعلاء- ككريم وكرماء- وفعل كنذير ونذر- وفعلى- كمريض ومرضى- إما لأنه أجري مجرى الأسماء، ولذا قلما يجري على موصوف فجمع على يتايم كأفيل (٣) وأفايل، ثم قلب فقيل: يتامي بالكسر، ثم خفف بقلب الكسرة فتحة فقبلت الياء ألفا، وقد جاء على الأصل في قوله:
أأطلال حسن بالبراق «اليتايم» سلام على أحجاركنّ القدايم
أو لأنه جمع أولا على يتمى، ثم جمع يتمى على يتامى إلحاقا له بباب الآفات والأوجاع، فإن فعيلا فيها يجمع على فعلى، وفعلى يجمع على فعالى كما جمع أسير على أسرى ثم على أسارى، ووجه الشبه ما فيه من الذل
(١) الحجنة بفتح الحاء المهملة والجيم وتخفيف النون- صنارة المغزل التي يعلق بها الخيط ثم يفتل الغزل اهـ منه.
(٢) الشجنة- بسكر أوله المعجم وضمه- القرابة المشتبكة اشتباك العروق اهـ منه.
(٣) بوزن- أمير ابن المخاض فما فوقه- الفصيل اهـ منه.
396
والانكسار المؤلم، وقيل: ما فيه من سوء الأدب المشبه بالآفات، والاشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الصغار والكبار لكن الشرع- وكذا العرف- خصصه بالصغار،
وحديث «لا يتم بعد احتلام»
تعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ.
والمراد بإيتاء أموالهم تركها سالمة غير متعرض لها بسوء فهو مجاز مستعمل في لازم معناه لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك، والنكتة في هذا التعبير الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الغرض من ترك التعرض إيصال الأموال إلى من ذكر لا مجرد ترك التعرض لها. وعلى هذا يصح أن يراد باليتامى الصغار على ما هو المتبادر، والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء، وشمول حكمه لأولياء من كان بالغا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة، ويصح أن يراد من جرى عليه اليتم في الجملة مجازا أعم من أن يكون كذلك عند النزول، أو بالغا فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من كف الكف عنها، وعدم فك الفك لأكلها، وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به، وقيل: المراد من الإيتاء الإعطاء بالفعل، واليتامى إما بمعناه اللغوي الأصلي فهو حقيقة وارد على أصل اللغة، وإما مجاز باعتبار ما كان أوثر لقرب العهد بالصغر، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حتى كأن اسم اليتيم باق بعد غير زائل، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص، وهو أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر، وهذا في الكون نظير المشارفة في الأول، وقيل: يجوز أن يراد باليتامى الصغار، ولا مجاز بأن يجعل الحكم مقيدا كأنه قيل: وآتوهم إذا بلغوا، وردّ بأنه قال في التلويح: إن المراد من قوله تعالى: «وآتوا اليتامى أموالهم» وقت البلوغ باعتبار ما كان، فإن العبرة بحال النسبة لا بحال التكلم، فالورود للبالغ على كل حال.
وقال بعض المحققين: تقدير القيد لا يغني عن التجوز إذ الحكم على ما عبر عنه بالصفة يوجب اتصافه بالوصف حين تعلق الوصف وحين تعلق الإيتاء به يكون يتيما فلا بدّ من التأويل بما مر، وأجيب بأن هذه المسألة وإن كانت مذكورة في التلويح لكنها ليست مسلمة، وقد تردد فيها الشريف في حواشيه، والتحقيق أن في مثل ذلك نسبتين: نسبة بين الشرط والجزاء- وهي التعليقية- وهي واقعة الآن، ولا تتوقف على وجودهما في الخارج، ونسبة إسنادية في كل من الطرفين- وهي غير واقعة في الحال بل مستقبلة- والمقصود الأولى، وفي زمان تلك النسبة كانوا يتامى حقيقة، ألا تراهم قالوا في نحو- عصرت هذا الخل في السنة الماضية- أنه حقيقة؟ مع أنه في حال العصر عصير لا خل لأن المقصود النسبة التي هي تبعية فيما بين اسم الإشارة وتابعه لا النسبة الإيقاعية بينه وبين العصر كما حققه بعض الفضلاء- وقد مرت الإشارة إليه في أوائل البقرة فتأمله فإنه دقيق.
وقيل: المراد من الإيتاء ما هو أعم من الإيتاء حالا أو مآلا، ومن الْيَتامى ما يعم الصغار والكبار بطريق التغليب، والخطاب عام لأولياء الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وإن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع اليه عند بلوغه رشيدا، ورجح غير واحد الوجه الأول لقوله تعالى بعد آيات: وَابْتَلُوا الْيَتامى [النساء: ٦] إلخ فإنه كالدليل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد، ويلوح بذلك التعبير بالإيتاء هنا وبالدفع هناك، وايضا تعقيب هذه الآية بقوله تعالى:
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ يقوي ذلك، فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره، وأما على سائر الوجوه فيكون مؤدى هذه الآية- وما سيأتي بعد- كالشيء الواحد من حيث إن فيهما الأمر بالإيتاء حقيقة، ومن قال بذلك جعل الأولى كالمجملة والثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ
397
وإيناس الرشد، ويرد على آخر الوجوه أيضا أن فيه تكلفا لا يخفى، ولا يرد على الوجه الراجح
أن ابن أبي حاتم أخرج عن سعيد بن جبير أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت وَآتُوا الْيَتامى إلخ،
فإن ذلك يدل على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل لا سيما وقد روى الثعلبي. والواحدي عن مقاتل. والكلبي أن العمّ لما سمعها قال: أطعنا الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم نعوذ بالله عز وجل من الحوب الكبير لما أنهم قالوا: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولعل العمّ لم يفهم الأمر بالإعطاء حقيقة بطريق العبارة بل بشيء آخر، فقال ما قال هذا وتبدل الشيء بالشيء واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ [البقرة: ١٠٨] إلخ، وقوله سبحانه: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: ٦١] وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ: ١٦] إلخ، وأخرى بالعكس كما في قولك: بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وجعلته حلقة، واقتصر الدميري على الأول، ونقل الأزهري عن ثعلب الثاني، ويشهد له قول الطفيل لما أسلم. وبدل طالعي نحسي بسعدي. وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى:
فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: ٧] فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ [الكهف: ٨١] بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيرا منه، ومرة يتعدى إلى مفعول واحد مثل بدلت الشيء أي غيرته، وقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ [البقرة: ١٨١] وذكر الطيبي أن معنى التبديل التغيير وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء، وفي طلب ما ليس عنده وترك ما عنده، وهذا معنى قول الجوهري: تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدل، ومعنى التبدل الاستبدال، والاستبدال طلب البدل فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل تبدلا، وفرق بعضهم بين التبديل والإبدال بأن الأول تغيير الشيء مع بقاء عينه والثاني رفع الشيء ووضع غيره مكانه فيقال: أبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وفيما ذكر كفاية لما نحن بصدده.
والمراد- بالخبيث والطيب- إما الحرام والحلال، والمعنى لا تستبدلوا أموال اليتامى بأموالكم أو لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهي عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقا، أو أكل ماله مكان مالهم المحقق أو المقدر، وإلى الأول ذهب الفراء والزجاج، وقيل: المعنى لا تستبدلوا الأمر الخبيث- وهو اختزال مال اليتيم- بالأمر الطيب- وهو حفظ ذلك المال- وأيّا ما كان فالتعبير عن ذلك بالخبيث والطيب للتنفير عما أخذوه والترغيب فيما أعطوه وإما الرديء والجيد، ومورد النهي حينئذ ما كان الأوصياء عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الرديء من مال أنفسهم، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل في مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويضع مكانه الزائف، ويقول:
درهم بدرهم وإلى هذا ذهب النخعي والزهري وابن المسيب، وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها فلا مفهوم لانخرام شرطه عنه القائل به واعترض هذا بأن المناسب حينئذ التبديل. أو تبدل الطيب بالخبيث على ما يقتضيه الكلام السابق.
وأجيب بأنه إذا أعطى الوصي رديئا وأخذ جيدا من مال اليتيم بصدق عليه أنه تبدل الرديء بالجيد لليتيم وبدل لنفسه، وظاهر الآية أنه أريد التبدل لليتيم لأن الأوصياء هم المتصرفون في أموال اليتامى فنهوا عن بيع بوكس من أنفسهم ومن غيرهم وما ضاهاه، ولا يضر تبدل لنفسه أيضا باعتبار آخر لأن المتبادر إلى الفهم النهي عن تصرف لأجل
398
اليتيم ضار سواء عامل الوصي نفسه أو غيره، ومن غفل عن اختلاف الاعتبار كالزمخشري أول (١) بما لا اشعار للفظ به، وعلى العلات المراد من الآية النهي عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهي الضمني عن أخذه على الإطلاق، والمراد من الأكل في النهي الأخير مطلق الانتفاع والتصرف، وعبر بذلك عنه لأنه أغلب أحواله، والمعنى لا تأكلوا أموالهم مضمونة إلى أموالكم أي تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما، وهذا حلال وذاك حرام، فإلى متعلقة بمقدر يتعدى بها، وقد وقع حالا، وقدره أبو البقاء مضافة، ويجوز تعلقها بالأكل على تضمينه معنى الضم، واختار بعضهم كونها بمعنى مع كما في «الذود إلى الذود إبل»، والمراد بالمعية مجرد التسوية بين المالين في الانتفاع أعم من أن يكون على الانفراد، أو مع أموالهم، يفهم من الكشاف أن المعية تدل على غاية قبح فعلهم حيث أكلوا أموالهم مع الغنى عنها، وفي ذلك تشهير لهم بما كانوا يصنعون فلا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها، ويندفع السؤال بذلك.
وأنت تعلم أن السؤال لا يرد ليحتاج إلى الجواب إذا فسر تبدل الخبيث بالطيب باستبدال أموال اليتامى بماله وأكلها مكانه لأنه حينئذ يكون ذلك نهيا عن أكلها وحدها وهذا عن ضمها، وليس الأول مطلقا حتى يرد سؤال بأنه أي فائدة في هذا بعد ورود النهي المطلق، وفي الكشف لو حمل الانتهاء في إلى على أصله- على أن النهي عن أكلها مع بقاء مالهم لأن أموالهم جعلت غاية- لحصلت المبالغة، والتخلص عن الاعتذار، وظاهر هذا النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرا، وكون ذلك من مال اليتيم مما لا يكاد يخفى فالقول- بأنه لا حاجة إلى التخصيص لأن ما يأخذه الأولياء من الأجرة فهو مالهم وليس أكله أكل مالهم مع مالهم- لا يخلو عن خفاء إِنَّهُ أي الأكل المفهوم من النهي، وقيل: الضمير للتبدل، وقيل: لهما وهو منزل منزلة اسم الإشارة في ذلك كانَ حُوباً أي إثما، أو ظلما وكلاهما عن ابن عباس وهما متقاربان، وأخرج الطبراني أن رافع بن الأزرق سأله رضي الله تعالى عنه عن الحوب، فقال: هو الإثم بلغة الحبشة، فقال: فهل تعرف العرب ذلك؟
فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى:
فإني وما كلفتموني من أمركم ليعلم من أمسى أعق «وأحوبا»
وخصه بعضهم بالذنب العظيم، وقرأ الحسن «حوبا» بفتح الحاء وهو مصدر حاب يحوب حوبا.
وقرىء- «حابا» - وهو أيضا مصدر كالقول والقال وهو على القراءة المشهورة اسم لا مصدر خلافا لبعضهم وتنوينه للتعظيم أي حوبا عظيما، ووصف بقوله تعالى كَبِيراً للمبالغة في تهويل أمر المنهي عنه كأنه قيل إنه من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها.
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ شروع في النهي عن منكر آخر كانوا يباشرونه متعلق بأنفس اليتامى أصالة وبأموالهم تبعا عقيب النهي عما يتعلق بأموالهم خاصة، وتأخيره عنه لقلة وقوع المنهي عنه بالنسبة إلى الأموال ونزوله منه منزلة المركب من المفرد مع كون المراد من اليتامى هنا صنفا مما أريد منه فيما تقدم، وذلك أنهم كانوا يتزوجون من تحل لهم من يتامى النساء اللاتي يلونهم (٢) لكن لا رغبة فيهن بل في ما لهنّ
(١) قيل: وإن ذهب إلى التأويل لا محالة فالأولى أن يقال: المهزول هو الطيب، والسمين هو الخبيث ضربه مثالا للحرام والحلال فتدبر اهـ منه.
(٢) كذا بخطه، والخطب سهل اهـ.
399
ويسيئون صحبتهن ويتربصون بهن أن يمتن فيرثوهن فوعظو في ذلك وهذا قول الحسن، ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وأخرج هؤلاء من طريق آخر والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية. فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن فالمراد من اليتامى المتزوج بهن والقرينة على ذلك الجواب فإنه صريح فيه- والربط يقتضيه- ومِنَ النِّساءِ غير اليتامى كما صرحت به الحميراء رضي الله تعالى عنها لدلالة المعنى وإشارة لفظ النساء إليه، والإقساط العدل والإنصاف، وجعل بعض الهمزة فيه للإزالة فأصل معناه حينئذ إزالة القسوط أي الظلم والحيف، وقرأ النخعي تُقْسِطُوا بفتح التاء فقيل: هو من قسط بمعنى جار وظلم، ومنه أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: ١٥] ولا مزيدة كما في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد: ٢٩]، وقيل: هو بمعنى أقسط فإن الزجاج حكى أن قسط بلا همزة تستعمل استعمال أقسط، والْيَتامى جمع يتيمة على القلب كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم وهو كما يقال للذكور يقال للإناث، والمراد من الخوف العلم عبر عنه بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا لا معناه الحقيقي لأن الذي علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه وإلا لم يكن الأمر شاملا لمن يصبر على الجور ولا يخافه، وإِنْ وما بعدها في تأويل مصدر فإن لم تقدر من كان منصوبا وكان الفعل واصلا إليه بنفسه وإن قدرت جاز فيه أمران: النصب عند سيبويه، والجر عند الخليل، وما موصولة أو موصوفة وما بعدها صلتها، أو صفتها، وأوثرت على من ذهابا إلى الوصف من البكر أو الثيب مثلا، وما تختص- أو تغلب- في غير العقلاء فيما إذا أريد الذات، وأما إذا أريد الوصف فلا كما تقول: ما زيد؟ في الاستفهام، أي أفاضل أم كريم؟
وأكرم ما شئت من الرجال تعني الكريم أو اللئيم.
وحكي عن الفراء أنها هنا مصدرية وأن المصدر المقدر بها وبالفعل مقدر باسم الفاعل أي- انكحوا الطيب من النساء- وهو تكلف مستغنى عنه، وقيل: إن إيثارها على مِنَ بناء على أن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء لما روي في حقهن أنهن ناقصات عقل ودين، وفيه أنه مخل بمقام الترغيب فيهن، ومِنَ بيانية، وقيل:
تبعيضية، والمراد مما طاب لكم ما مالت له نفوسكم واستطابته، وقيل: ما حل لكم، وروي ذلك عن عائشة، وبه قال الحسن وابن جبير وأبو مالك، واعترضه الإمام بأنه في قوة أبيح المباح، ويلزم الإجمال حيث لا يعلم المباح من الآية وآثر الحمل على الأول ويلزم التخصيص وجعله أولى من الإجمال، وأجاب المدقق في الكشف بأن المبين تحريمه في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: ٢٣] إلخ إن كان مقدم النزول فلا إجمال ولا تخصيص لأن الموصول جار مجرى المعرف باللام، والحمل على العهد في مثله هو الوجه وإلا فالإجمال المؤخر بيانه أولى من التخصيص بغير المقارن لأن تأخير بيان المجمل جائز عند الفريقين، وتأخير بيان التخصيص غير جائز عند أكثر الحنفية.
وقال بعض المحققين: ما طابَ لَكُمْ ما لا تحرج منه لأنه في مقابل المتحرج منه من اليتامى ولا يخلو عن حسن، وكيفما كان فالتعبير عن الأجنبيات بهذا العنوان فيه من المبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن ما لا يخفى، والسر في ذلك الاعتناء بصرف المخاطبين عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل رعاية ليتمهن وجبرا لانكسارهن ولهذا الاعتناء أوثر الأمر بنكاح الأجنبيات على النهي عن نكاحهن مع أنه المقصود بالذات وذلك لما فيه
400
من مزيد اللطف في استنزالهم فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه، ووجه النهي الضمني إلى النكاح المترقب مع أن سبب النزول هو النكاح المحقق على ما فهمه البعض من الأخبار، ودل عليه ما أخرجه البخاري عن عائشة أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عزق فكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فأنزل الله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ إلخ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشر قبل وقوعه فرب واقع لا يرفع، والمبالغة في بيان حال النكاح المحقق فإن محظورية المترقب حيث كان للجور المترقب فيه فمحظورية المحقق مع تحقق الجور فيه أولى، وقرأ ابن أبي عبلة- من طاب- وفي بعض المصاحف- كما في الدر المنثور- ما طيب لكم بالياء، وفي الآية على هذا التفسير دليل الجواز نكاح اليتيمة وهي الصغيرة إذ يقتضي جوازه إلا عند خوف الجور.
وقد بسط الكلام في كتب الفقه على ولي النكاح، ومذهب الإمام مالك أن اليتيمة الصغيرة لا تزوج إذ لا إذن لها وعنده خلاف في تزويج الوصي لها إذا جعل له الأب الإجبار أو فهم عنه ذلك، والمشهور أن له ذلك فيحمل اليتامى في الآية على الحديثات العهد بالبلوغ، واسم اليتيم كما أشرنا إليه فيما مر مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ منصوبة على الحال من فاعل طابَ المستتر، أو من مرجعه، وجوز العلامة كونها حالا من النساء على تقدير جعل مِنَ بيانية، وذهب أبو البقاء إلى كونها بدلا من ما وإلى الحالية ذهب البصريون وهو المذهب المختار، والكوفيون لم يجوزوا ذلك لأنها معارف عندهم، وأوجبوا في هذا المقام ما ذهب إليه أبو البقاء، وهي ممنوعة من الصرف على الصحيح، وجوز الفراء صرفها، والمذاهب المنقولة في علة منع صرفها أربعة: أحدها قول سيبويه والخليل وأبي عمرو:
إنه العدل والوصف، وأورد عليه أن الوصفية في أسماء العدد عارضة وهي لا تمنع الصرف، وأجيب بأنها وإن عرضت في أصلها فهي نقلت عنها بعد ملاحظة الوصف العارض فكان أصليا في هذه دون أصلها ولا يخلو عن نظر، والثاني قول الفراء: إنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام ولذا لم تجز إضافتها ولا دخول (١) أل عليها، والثالث ما نقل عن الزجاج أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فعدلت عن ألفاظ العدد وعن المؤنث إلى المذكر ففيها عدلان وهما سببان، والرابع ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف تكرار العدل فيه لأن مثنى مثلا عدلت عن لفظ اثنين ومعناه لأنها لا تستعمل في موضع تستعمل فيه إذ لا تلي العوامل وإنما تقع بعد جمع إما خبرا، أو حالا، أو وصفا وشذ أن تلي العوامل وأن تضاف، وزاد السفاقسي في علة المنع خامسا وهو العدل من غير جهة العدل لأن باب العدل أن يكون في المعارف وهذا عدل في النكرات، وسادسا وهو العدل والجمع لأنه يقتضي التكرار فصار في معنى الجمع، وقال: زاد هذين ابن الصائغ في شرح الجمل، وجاء آحاد وموحد، وثناء ومثنى وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، ولم يسمع فيما زاد على ذلك- كما قال أبو عبيدة- إلا في قول الكميت:
ولم يستر يثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا
من هنا أعابوا (٢) على المتنبي قوله:
أحاد أم سداس في أحاد لييلتنا المنوطة بالتناد
ومن الناس من جوز خماس ومخمس إلى آخر العقد قياسا، وليس بشيء، واختير التكرار، والعطف بالواو لتفهم الآية أن لكل واحد من المخاطبين أن يختار من هذه الأعداد المذكورة أي عدد شاء إذ هو المقصود لا أن بعضها
(١) ودعوى الزمخشري دخولها عليها لا دليل لها وكان اللائق الاستشهاد على ذلك اهـ منه.
(٢) كذا بخطه. [.....]
401
لبعض منهم والبعض الآخر لآخر، ولو أفردت الأعداد لفهم من ذلك تجويز الجمع بين تلك الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بكلمة- أو- لفات تجويز الاختلاف في العدد بأن ينكح واحد اثنتين، وآخر ثلاثا أو أربعا وما قيل إنه لا يلتفت إليه الذهن- لأنه لم يذهب إليه أحد- لا يلتفت إليه لأن الكلام في الظاهر الذي هو نكتة العدول، وادعى بعض المحققين أنه لو أتى من الأعداد بما لا يدل على التكرار لم يصح جعله حالا معللا ذلك بأن جميع الطيبات ليس حالها أنها اثنان ولا حالها أنها ثلاثة، وكذا لو قيل: اقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم درهما واثنين وثلاثة وأربعة لم يصح جعل العدد حالا من المال الذي هو ألف درهم لأن حال الألف ليس ذلك بخلاف ما إذا كرر فإن المقصود حينئذ التفصيل في حكم الانقسام كأنه قيل: فانكحوا الطيبات لكم مفصلة ومقسمة إلى ثنتين ثنتين (١)، وثلثا ثلثا، وأربعا أربعا، واقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم مفصلا ومقسما إلى درهم درهم، واثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وبهذا يظهر فساد ما قيل: من أنه لا فرق بين اثنين ومثنى في صحة الحالية لأن انفهام الانقسام ظاهر من الثاني دون الأول كما لا يخفى، وأنه إنما أتي بالواو دون أو ليفيد الكلام أن تكون الأقسام على هذه الأنواع غير متجاوز إياها إلى ما فوقها لا أن تكون على أحد هذه الأنواع غير مجموع بين اثنين منها وذلك بناء على أن الحال بيان لكيفية الفعل، والقيد في الكلام نفي لما يقابله والواو ليست لأحد الأمرين أو الأمور كأو، وبهذا يندفع ما ذهب إليه البعض من جواز التسع تمسكا بأن الواو للجمع فيجوز الثنتان والثلاث والأربع وهي تسع، وذلك لأن من نكح الخمس أو ما فوقها لم يحافظ على القيد أعني كيفية النكاح وهي كونه على هذا التقدير والتفصيل بل جاوزه إلى ما فوقه ولعل هذا مراد القطب بقوله: إنه تعالى لما ختم الأعداد على الأربعة لم يكن لهم الزيادة عليها وإلا لكان نكاحهم خمسا خمسا، فقول بعضهم: اللزوم ممنوع لعدم دلالة الكلام على الحصر فإن الإنسان إذا قال لولده: افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان هذا تنصيصا في تفويض زمام الاختيار إليه مطلقا ورفع الحجر عنه ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا هنا، وأيضا ذكر جميع الأعداد متعذر- فإذا ذكر بعض الأعداد بعد فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد- كلام ليس في محله، وفرق ظاهر بين ما نحن فيه والمثال الحادث.
وقد ذكر الإمام الرازي شبه المجوزين التزوج بأي عدد أريد، وأطال الكلام في هذا المقام إلا أنه لم يأت بما يشرح الصدر ويريح الفكر، وذلك أنه قال: إن قوما شذاذا ذهبوا إلى جواز التزوج بأي عدد واحتجوا بالقرآن والخبر، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية بثلاثة أوجه: الأول أن قوله سبحانه: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا، والثاني أن مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا يصلح مخصصا لذلك العموم لأن التخصيص بالبعض لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي، والثالث أن الواو للجمع المطلق- فمثنى وثلاث ورباع- يفيد حل المجموع وهو تسع بل ثماني عشرة.
وأما الخبر فمن وجهين: الأول أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مات عن تسع ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه، فقال فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣، ١٥٥] وأقل مراتب الأمر الإباحة، الثاني أن سنة الرجل طريقته والتزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فكان ذلك سنة له ثم
إنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من رغب عن سنتي فليس مني»
وظاهر الحديث يقتضي توجه الذم على من ترك التزوج بالأكثر من الأربع فلا أقل من
(١) كذا بخطه أيضا. والخطب سهل اهـ.
402
أن يثبت أصل الجواز، ثم قال: واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحسر على أمرين: الأول الخبر، وهو ما
روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «أمسك أربعا وفارق سائرهن»
وهذا الطريق ضعيف لوجهين الأول أن القرآن لما دل على عدم الحصر فلو أثبتنا الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز، والثاني أنه صلّى الله عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربع والبواقي غير جائز إما بسبب النسب، أو بسبب الرضاع، وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله، والأمر الثاني هو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد لكن فيه سؤالان: الأول أن الإجماع لا ينسخ به (١) فكيف يقال: إن الإجماع نسخ هذه الآية، الثاني أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والإجماع عند مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد.
وأجيب عن السؤال الأول أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن الثاني أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته فلا تضر في انعقاد الإجماع انتهى، ولا يخفى ما في احتجاج الشذاذ بالآية من النظر، ويعلم ذلك من التأمل فيما ذكرنا.
وأما الاحتجاج بالخبر فليس بشيء أيضا لأن الإجماع قد وقع على أن الزيادة على الأربع من خصوصياته صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن مأمورون باتباعه والرغبة في سنته عليه الصلاة والسلام في غير ما علم أنه من الخصوصيات أما فيما علم أنه منها فلا، وأما الأمران اللذان اعتمد عليهما الفقهاء في هذا المقام ففي غاية الإحكام.
والوجه الأول في تضعيف الأمر الأول منهما يرد عليه أن قول الإمام فيه: إن القرآن لما دل على عدم الحصر إلخ ممنوع، كيف وقد تقدم ما يفهم منه دلالته على الحصر؟ وبتقدير عدم دلاله على الحصر لا يدل على عدم الحصر بل غياة الأمر أنه يحتمل الأمرين الحصر وعدمه، فيكون حينئذ مجملا، وبيان المجمل بخبر الواحد جائز كما بين في الأصول، وما ذكر في الوجه الثاني من وجهي التضعيف- بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع- مما لا يكاد يقبل مع تنكير أربعا وثبوت
«اختر منهنّ أربعا» كما في بعض الروايات الصحيحة في حديث غيلان،
وكذا
في الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة والنحاس عن قيس بن الحارث الأسدي أنه قال: أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «اختر منهنّ أربعا وخل سائرهنّ ففعلت»
فإن ذلك يدل دلالة لا مرية فيها أن المقصود إبقاء أي أربع لا أربع معينات، فالاحتمال الذي ذكره الإمام قاعد لا قائم، ولو اعتبر مثله- قادحا في الدليل- لم يبق دليل على وجه الأرض، نعم الحديث مشكل على ما ذهب اليه الإمام الأعظم على ما نقل ابن هبيرة فيمن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة من أنه إن كان العقد وقع عليهن في حالة واحدة فهو باطل وإن كان في عقود صح النكاح في الأربع الأوائل فإنه حينئذ لا اختيار، وخالفه في ذلك الأئمة الثلاثة وهو بحث آخر لسنا بصدده.
وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحصر الإجماع فإنه قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف ولا يشترط في الإجماع اتفاق كل الأمة من لدن بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة كما يوهمه كلام الإمام الغزالي، وإلا لا يوجد إجماع أصلا، وبهذا يستغنى عما ذكره الإمام الرازي- وهو أحد مذاهب في المسألة- من أن
(١) أي عند الجمهور اهـ منه.
403
مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته، فالحق الذي لا محيص عنه أنه يحرم الزيادة على الأربع- وبه قال الإمامية- ورووا عن الصادق رضي الله تعالى عنه لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام، وشاع عنهم خلاف ذلك، ولعله قول شاذ عندهم.
ثم إن مشروعية نكاح الأربع خاصة بالأحرار والعبيد غير داخلين في هذا الخطاب لأنه إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه
لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر»
ولأن في تنفيذ نكاحه تعيبا له إذ النكاح عيب فيه فلا يملكه بدون إذن المولى، وأيضا قوله تعالى بعد: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لا يمكن أن يدخل فيه العبيد لعدم الملك فحيث لم يدخلوا في هذا الخطاب لم يدخلوا في الخطاب الأول لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فبعيد أن يدخل في الخطاب السابق ما لا يدخل في اللاحق وكذا لا يمكن دخولهم في قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً لأن العبد لا يأكل فيكون لسيده، وخالف في ذلك الإمام مالك فأدخل العبيد في الخطاب، وجوز لهم أن ينكحوا أربعا كالأحرار ولا يتوقف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح، ومن الفقهاء من ادعى أن ظاهر الآية يتناولهم إلا أنه خصص هذا العموم بالقياس لأن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يجعل للعبد نصف ما للحر فيه أيضا، واختلفوا في الأمر بالنكاح فقيل للإباحة ولا يلغو «طاب» إذا كان بمعنى خل لأنه يصير المعنى أبيح لكم ما أبيح هنا لأن مناط الفائدة القيد وهو العدد المذكور، وقيل: للوجوب أي الاقتصار على هذا العدد لا وجوب أصل النكاح فقد قال الإمام النووي: لا يعلم أحد أوجب النكاح إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر، ورواية عن أحمد فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى قالوا: وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة ولم يشرط بعضهم خوف العنت، وقال أهل الظاهر: إنما يلزمه التزوج فقط ولا يلزمه الوطء، واختلف العلماء في الأفضل من النكاح وتركه.
وذكر الإمام النووي أن الناس في ذلك أربعة أقسام: قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح، وقسم لا تتوق ولا يجد المؤن فيكره له، وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له أيضا، وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان، وقسم يجد المؤن ولا تتوق نفسه، فمذهب الشافعي. وجمهور الشافعية أن ترك النكاح لهذا والتخلي للتحلي بالعبادة أفضل، ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك والشافعي أن النكاح له أفضل انتهى المراد منه، وأنت تعلم أن المذكور في كتب ساداتنا الحنفية متونا وشروحا مخالف لما ذكره هذا الإمام في تحقيق مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، ففي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار في كتاب النكاح ما نصه:
ويكون واجبا عند التوقان فإن تيقن الزنا إلا به فرض كما في النهاية وهذا إن ملك المهر والنفقة وإلا فلا إثم بتركه كما في البدائع، ويكون سنة مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينا وولدا حال الاعتدال أي القدرة على وطء ومهر ونفقة.
ورجح في النهر وجوبه للمواظبة عليه، والإنكار على من رغب عنه، ومكروها لخوف الجور فإن تيقنه حرم انتهى، لكن في دليل الوجوب على ما ذكره صاحب النهر مقالا للمخالفين وتمام الكلام في محله، هذا وقد قيل: في تفسير الآية الكريمة أن المراد من النِّساءِ اليتامى أيضا، وأن المعنى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا في اليتامى المرباة في حجوركم فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ من يتامى قراباتكم، وإلى هذا ذهب الجبائي وهو كما ترى، وقيل:
إنه لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفا من
404
لحوق الحوب بترك الاقساط مع أنهم كانوا لا يتحرجون من ترك العدل في حقوق النساء حيث كان تحت الرجل منهم عشر منهن فقيل لهم: إِنْ خِفْتُمْ ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب عنه، وإلى نحو من هذا ذهب ابن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك وابن عباس في إحدى الروايات عنه، وقيل: كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم الحوب في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، ونظيره ما إذا داوم على الصلاة من لا يزكي فتقول له: إن خفت الإثم في ترك الصلاة فخف من ترك الزكاة، وإلى قريب من هذا ذهب مجاهد.
وتعقب هذين القولين العلامة شيخ الإسلام بقوله: ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالة النظم الكريم لابتنائهما على تقدم نزول الآية الأولى وشيوعها بين الناس وظهور توقف حكمها على ما بعدها من قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ إلى قوله سبحانه: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً ويفهم من كلام بعض المحققين أيضا أن الأظهر في الآية ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها دون هذين القولين لأن الآية على تلك الرواية تتنزل على قوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النساء: ١٢٧] فيتطابق الآيتان ولا يتأتى ذلك على القولين بل لا ارتباط بين الآيتين عليهما لأن مقتضاهما أن الكلام في مطلق اليتامى لا في يتامى النساء، ثم يبعدهما أن الشرط لا يرتبط معهما بالجواب إلا من وجه عام، أما الأول فمن حيث إن الجور على النساء في الحرمة كالجور على اليتامى في أن كلّا منهما جور، وأما الثاني فلأن الزنا محرم كما أن الجور على اليتامى محرم وكم من محرم يشاركهما في التحريم فليس ثم خصوصية تربط الشرط والجواب كالخصوصية الرابطة بينهما هناك، ثم الظاهر من قوله سبحانه:
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أنه وارد بصيغة التوسعة عليهم بنوع من التقييد كأنه قيل: إن خفتم من نكاح اليتامى ففي غيرهن متسع إلى كذا، وعلى القول الأول من القولين يكون المراد التضييق لأن حاصله إن خفتم الجور على النساء فاحتاطوا بأن تقللوا عدد المنكوحات وهو خلاف ما يشعر به (١) السياق من التوسعة وبعيد (٢) عن جزالة التنزيل كما لا يخفى، وقيل: إن الرجل كان يتزوج الأربع والخمس والست والعشر ويقول: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فني ماله مال على مال اليتيم الذي في حجره فأنفقه فنهى أولياء اليتامى على أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم، ونسب هذا إلى ابن عباس وعكرمة، وعليه يكون المراد من اليتامى أعم من الذكور والإناث وكذا على القولين قبله.
وأورد عليه أنه يفهم منه جواز الزيادة على الأربع لمن لا يحتاج إلى أخذ مال اليتيم وهو خلاف الإجماع، وأيضا يكون المراد من هذا الأمر التضييق وهو كما علمت خلاف ما يشعر به السياق المؤكد بقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً كأنه لما وسع عليهم أنبأهم أنه قد يلزم من الاتساع خوف الميل فالواجب حينئذ أن يحترزوا بالتقليل فيقتصروا على الواحدة، والمراد فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فيما بين هذه المعدودات ولو في أقل
(١) ووجه إشعاره بذلك أنه أطلق قوله سبحانه: ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ثم جاء مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ كأنه بيان لما وقع إطلاقه على نوع من التقييد اهـ منه.
(٢) إذ لو كان المراد التضييق لكان التقييد من الأول أوقع فيه وأمسّ به اهـ منه.
405
الأعداد المذكورة كما خفتموه في حق اليتامى، أو كما لم تعدلوا في حقهن فاختاروا، أو الزموا واحدة واتركوا الجميع بالكلية، وقرأ إبراهيم- وثلث وربع- على القصر من- ثلاث ورباع، وقرأ أبو جعفر فَواحِدَةً بالرفع أي فالمقنع واحدة، أو فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أو فالمنكوحة واحدة.
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من السراري بالغة ما بلغت كما يؤخذ من السياق، ومقابلة الواحدة وهو عطف على واحدة على أن اللزوم والاختيار فيه بطريق التسري لا بطريق النكاح كما فيما عطف عليه لاستلزامه ورود ملك النكاح على ملك اليمين بموجب اتحاد المخاطبين في الموضعين، وقد قالوا: لا يجوز أن يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها لأن النكاح ما شرع إلا مثمرا بثمرات مشتركة بين المتناكحين والمملوكية تنافي المالكية فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة، وهذا بخلاف ما سيأتي بقوله سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النساء: ٢٥] فإن المأمور بالنكاح هناك غير المخاطبين بملك اليمين وبعضهم يقدر في المعطوف عليه فانكحوا لدلالة أول الكلام عليه، ويعطف هذا عليه على معنى اقتصروا على ما ملكت، والكلام على حد قوله: علفتها تبنا وماء باردا وأو للتسوية وسوى في السهولة واليسرة بين الحرة الواحدة والسراري من غير حصر لقلة تبعتهن وخفة مؤنتهن وعدم وجوب القسم فيهن، وزعم بعضهم أن هذا معطوف على النساء أي فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ أو مما ملكت أيمانكم ولا يخفى بعده، وقرأ ابن أبي عبلة من ملكت، وعبر بما في القراءة المشهورة ذهابا للوصف ولكون المملوك لبيعه وشرائه والمبيع أكثره ما لا يعقل كان التعبير بما فيه أظهر، وإسناد الملك لليمين لما أن سببه الغالب هو الصفقة الواقعة بها، وقيل: لأنه أول ما يكون بسبب الجهاد والأسر، وذلك محتاج إلى أعمالها وقد اشتهر ذلك في الأرقاء لا سيما في إناثهم كما هو المراد هنا رعاية للمقابلة بينه وبين ملك النكاح الوارد على الحرائر، وقيل: إنما قيل للرقيق ملك اليمين لأنها مخصوصة بالمحاسن وفيها تفاؤل باليمن أيضا، وعن بعضهم أن أعرابيا سئل لم حسنتم أسماء مواليكم دون أسماء أبنائكم؟ فقال: أسماء موالينا لنا وأسماء أبنائنا لأعدائنا فليفهم، وادعى ابن الفرس أن في الآية ردا على من جعل النكاح واجبا على العين لأنه تعالى خير فيها بينه وبين التسري ولا يجب التسري بالاتفاق ولو كان النكاح واجبا لما خير بينه وبين التسري لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين واجب وغيره لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب وأن تاركه لا يكون آثما، ولا يرد هذا على من يقول: الواجب أحد الأمرين، ويمنع الاتفاق على عدم وجوب التسري في الجملة فتدبر، وزعم بعضهم أن فيها دليلا على منع نكاح الجنيات لأنه تعالى خص النساء بالذكر.
وأنت تعلم أن مفهوم المخالفة عند القائل به غير معتبر هنا لظهور نكتة تخصيص النساء بالذكر وفائدته، وادعى الإمام السيوطي أن فيها إشارة إلى حل النظر قبل النكاح لأن الطيب إنما يعرف به، ولا يخفى أن الإشارة ربما تسلم إلا أن الحصر ممنوع وهذا الحل ثبت في غير ما حديث،
وفي صحيح مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم قال للمتزوج امرأة من الأنصار:
«أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب وانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا»
وهو مذهب جماهير العلماء، وحكي عن قوم كراهته وهم محجوجون بالحديث والإجماع على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها، ثم إنه إنما يباح له النظر إلى الوجه والكفين، وقال الأوزاعي: إلى مواضع اللحم.
وقال داود: إلى جميع بدنها وهو خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإجماع، وهل يشترط رضا المرأة أم لا؟
الجمهور على عدم الاشتراط بل للرجل النظر مع الغفلة وعدم الرضا، وعن مالك كراهة النظر مع الغفلة، وفي رواية ضعيفة عنه لا يجوز النظر إليها إلا برضاها، واستحسن كثير كون هذا النظر قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير
406
إيذاء بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة كما لا يخفى، وقال بعضهم: إن فيها إشارة أيضا إلى استحباب الزيادة على الواحدة لمن لم يخف عدم العدل لأنه سبحانه قدم الأمر بالزيادة وعلق أمر الواحدة بخوف عدم العدل، ويا ما أحيلى الزيادة إن ائتلفت الزوجات وصح جمع المؤنث بعد التثنية معربا بالضم من بين سائر الحركات، وهذا لعمري أبعد من العيوق، وأعز من الكبريت الأحمر، وبيض الأنوق:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ذلِكَ أي اختيار الواحدة أو التسري أو الجميع- وهو الأولى- وإليه يشير كلام ابن أبي زيد أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا والعول في الأصل الميل المحسوس يقال: عال الميزان عولا إذا مال، ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور، ومنه عال الحاكم إذا جار، والمراد هاهنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من اختيار الواحدة والتسري أقرب بالنسبة إلى ما عداهما، من أن لا تميلوا ميلا محظورا لانتفائه رأسا بانتفاء محله في الأول، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر، وإلى هذا ذهب بعض المحققين، وجوز بعضهم كون الإشارة إلى ثلاثة أمور: التقليل من الأزواج واختيار الواحدة والتسري، أي هذه الأمور الثلاثة أدنى من جميع ما عداها، والأول أظهر.
وقد حكي عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه فسر أَلَّا تَعُولُوا بأن لا تكثر عيالكم وقد ذكر الشهاب أنه خطأه وحاشاه فيه كثير من المتقدمين لأنه إنما يقال لمن كثرت عياله: أعال يعيل إعالة ولم يقولوا عال يعول.
وأجيب بأن الإمام الشافعي سلك في هذا التفسير سبيل الكناية فقد جعل رضي الله تعالى عنه الفعل في الآية من عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم، ومن كثرت عياله لزمه أن يعولهم فاستعمل الإنفاق وأراد لازم معناه وهو كثرة العيال، واعترض بأن عال بمعنى مان وأنفق لا دلالة له على كثرة المئونة حتى يكنى به عن كثرة العيال، وأجيب بأن الراغب ذكر أن أصل معنى العول الثقل يقال: عاله أي تحمل ثقل مؤنته، والثقل إنما يكون في كثير الإنفاق لا في قليله فيراد من أَلَّا تَعُولُوا كثرة الإنفاق بقرينة المقام والسياق لأنه ليس المراد نفي المئونة والعيال من أصله إذ من تزوج واحدة كان عائلا وعليه مؤنة فالكلام كالصريح فيه واستعمال أصل الفعل في الزيادة فيه غير عزيز فلا غبار، وذكر في الكشف أنه لا حاجة إلى أصل الجواب عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فإن الكسائي نقل عن فصحاء العرب عال يعول إذا كثر عياله وممن نقله الأصمعي والأزهري وهذا التفسير نقله ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم وهو من أجلة التابعين، وقراءة طاوس- أن لا تعيلوا- مؤيدة له فلا وجه لتشنيع من شنع على الإمام جاهلا باللغات والآثار، وقد نقل الدوري إمام القراء أنها لغة حمير وأنشد:
وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا
أي وإن كثرت ماشيته وعياله، وأما ما قيل: إن عال بمعنى كثرت عياله يأتي وبمعنى جار واوي فليست التخطئة في استعمال عال في كثرة العيال بل في عدم الفرق بين المادتين، فرد أيضا بما اقتضاه كلام البعض من أن عال له معان: مال وجار وافتقر وكثرت عياله ومان وأنفق وأعجز، يقال: عالني الأمر أي أعجزني ومضارعه ويعيل يعول فهو من ذوات الواو والياء على اختلاف المعاني، تم المراد بالعيال على هذا التفسير يحتمل أن يكون الأزواج كما أشرنا إليه وعدم كثرة الأزواج في اختيار الواحدة وكذا في التقليل إن قلنا إنه داخل في المشار إليه ظاهر، وأما عدم كثرتهن في التسري فباعتبار أن ذلك صادق على عدمهنّ بالكلية.
407
ويحتمل أن يكون الأولاد وعدم كثرتهم في اختيار الواحدة وكذا في التقليل ظاهر أيضا، وأما عدم كثرتهم في التسري فباعتبار أنه مظنة قلة الأولاد إذ العادة على أن لا يتقيد المرء بمضاجعة السراري ولا يأبى العزل عنهن بخلاف المهائر فإن العادة على تقيد المرء بمضاجعتهن وإباء العزل عنهن وإن كان العزل عنهن كالعزل عن السراري جائزا شرعا بإذن وبغير إذن في المشهور من مذهب الشافعي، وفي بعض شروح الكشاف ما يدل على أن في ذلك خلافا عند الشافعية فمنعه بعضهم كما هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة أنه فسر أَلَّا تَعُولُوا بأن لا تفتقروا وقد قدمنا أن عال يجيء بمعنى افتقر، ومن وروده كذلك قوله:
فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغنى متى «يعيل»
إلا أن الفعل في البيت يائي لا واوي كما في الآية والأمر فيه سهل كما عرفت، وعلى سائر التفاسير الجملة مستأنفة جارية مما قبلها مجرى التعليل وَآتُوا النِّساءَ أي أعطوا النساء اللاتي أمر بنكاحهن صَدُقاتِهِنَّ جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال، وهي كالصداق بمعنى المهر، وقرئ صَدُقاتِهِنَّ بفتح الصاد وسكون الدال، وأصلها بضم الدال فخففت بالتسكين، وصَدُقاتِهِنَّ بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة، وقرئ صدقتهن بضم الصاد والدال على التوحيد، وأصله صدقة بضم الصاد وسكون الدال فضمت الدال اتباعا لضم الأول كما يقال: ظلمة وظلمة نِحْلَةً أي فريضة قاله ابن عباس وابن زيد وابن جريج وقتادة فانتصابها على الحالية من الصدقات أي أعطوهن مهورهنّ حال كونها فريضة من الله تعالى لهنّ.
وقال الزجاج وابن خالويه: تدينا فانتصابها على أنها مفعول له أي أعطوهنّ ديانة وشرعة، وقال الكلبي: هبة وعطية من الله وتفضلا منه تعالى عليهن فانتصابها على الحالية من الصدقات أيضا، وقيل: عطية من الأزواج لهنّ فانتصابها على المصدر، أو على الحالية من ضمير آتوا أو من النساء أو من صدقاتهنّ.
واعترض بأن الحال قيد للعامل ليلزم هنا كون الإيتاء قيدا للإيتاء والشيء لا يكون قيدا لنفسه، وأجيب بأن النحلة ليست مطلق الإيتاء بل هي نوع منه، وهو الإيتاء عن طيب نفس، فالمعنى أعطوهنّ صدقاتهن طيبي النفوس بالإعطاء، أو معاطاة عن طيب نفس، وعليه فالمصدر مبين للنوع «فإن قلت» : إن النحلة أخذ في مفهومها أيضا عدم العوض فكيف يكون المهر بلا عوض وهو في مقابلة البضع والتمتع به؟ أجيب بأنه لما كان للزوجة في الجماع مثل ما للزوج أو أزيد وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة كان المهر مجانا لمقابلة التمتع بتمتع أكثر منه، وقيل: إن الصداق كان في شرع من قبلنا للأولياء بدليل قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ [القصص: ٢٧] إلخ، ثم نسخ فصار ذلك عطية اقتطعت لهنّ فسمي نحلة، وأيد- غير واحد- قول الكلبي: بأن ما وضع له لفظ النحلة هو العطية من غير عوض كما ذهب إليه جماعة، منهم الرماني، وجعل من ذلك النحلة للديانة لأنها كالنحلة التي هي عطية من الله تعالى والنحل للدبر لما يعطي من العسل، والناحل للمهزول لأنه يأخذ لحمه حالا بعد حال كأنه المعطيه بلا عوض، والمنحول من الشعر لأنه نحلة الشاعر ما ليس له. وحينئذ فمن فسر النحلة بالفريضة نظر إلى أن هذه العطية فريضة، والخطاب على ما هو المتبادر للأزواج وإليه ذهب ابن عباس وجماعة، واختاره الطبري والجبائي وغيرهما قيل: كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول: أرثك وترثيني؟ فتقول: نعم، فأمروا أن يسرعوا إلى إعطاء المهور، وقيل: الخطاب لأولياء النساء
فقد أخرج ابن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوج أيما أخذ صداقها دونها فنهاهم الله تعالى عن ذلك ونزلت وَآتُوا النِّساءَ إلخ، وروي ذلك الجارود من الإمامية عن الباقر رضي الله تعالى عنه،
وهذه عادة كثير من العرب اليوم، وهو حرام كأكل الأزواج شيئا من مهور النساء بغير رضاهنّ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ الضمير
408
للصدقات وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك فإنه كثيرا ما يشار به إلى المتعدد كقوله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ [آل عمران: ١٥] بعد ذكر الشهوات المعدودة، وقد روي عن أبي عبيدة أنه قال: قلت لرؤبة في قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
إن أردت الخطوط: فقل كأنها، وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما، فقال: أردت كأن ذلك ويلك، أو للصداق الواقع موقعه صَدُقاتِهِنَّ كأنه قيل: وآتوا النساء صداقهن والحمل على المعنى كثير، ومنه قوله تعالى:
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: ١٠] حيث عطف على ما دل عليه المذكور ووقع موقعه، أو للصداق الذي في ضمن الجمع لأن المعنى آتوا كل واحدة من النساء صداقا، وقيل: الضمير عائد إلى الإيتاء، واعترض بأنه إنما يستقيم إذا أريد به المأتي، ورجوع ضمير إلى مصدر مفهوم، ثم تأويل ذلك المصدر بمعنى المفعول لا يخلو عن بعد، واللام متعلقة بالفعل وكذا عن بتضمينه معنى التجافي والتباعد، وإلا فأصله أن يتعدى لمثل ذلك بالباء كقوله: وما كاد نفسا بالفراق تطيب ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء أي كائن من الصداق، وفيه بعث لهنّ على تقليل الموهوب حتى نقل (١) عن الليث أنه لا يجوز تبرعهن إلا باليسير ولا فرق بين المقبوض وما في الذمة إلا أن الأول هبة والثاني إبراء، ولذلك تعامل الناس على التعويض فيه ليرتفع الخلاف نَفْساً تمييز لبيان الجنس ولذا وحد، وتوضيح ذلك على ما ذكره بعض المحققين أن التمييز- كما قاله النحاة- إن اتحد معناه بالمميز وجبت المطابقة نحو كرم الزيدون رجالا كالخبر والصفة والحال، وإلا فإن كان مفردا غير متعدد وجب إفراده نحو- كرم بنو فلان أبا- إذا المراد أن أصلهم واحد، متصف بالكرم فإن تعدد وألبس وجب خلفه بظاهر نحو- كرم الزيدون آباء إذا أريد أن لكل منهم أبا كريما إذ لو أفرد توهم أنهم من أب واحد، والغرض خلافه وإن لم يلبس جاز الأمران، ومصحح الإفراد عدم الإلباس كما هنا لأنه لا يتوهم أن لهن نفسا واحدة ومرجحه أنه الأصل مع خفته ومطابقته لضمير منه، وهو اسم جنس والغرض هنا بيان الجنس، والواحد يدل عليه كقولك: عشرون درهما والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق متجافيا عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاملتكم، وإنما أوثر ما في النظم الكريم دون فإن وهبن لكم شيئا منه عن طيب نفس إيذانا بأن العمدة في الأمر طيب النفس وتجافيها عن الموهوب بالمرة حيث جعل ذلك مبتدأ وركنا من الكلام لا فضلة كما في التركيب المفروض فَكُلُوهُ أي فكلوا ذلك الشيء الذي طابت لكم عنه نفوسهن وتصرفوا فيه تملكا، وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية.
هَنِيئاً مَرِيئاً صفتان من- هنؤ الطعام يهنؤ هناءة. ومرؤ يمرؤ مراءة- إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عنها طيبا.
وفي الصحاح نقلا عن الأخفش يقال: هنؤ وهنئ ومرؤ ومرىء، كما يقال: فقه وفقه- بكسر القاف وضمها- ويقال: هنأني الطعام يهنئني وينهنأني ولا نظير له في المهموز هنأ وهنأ، وتقول: هنئت الطعام أي تهنأت به وكذا يقال:
مرأني الطعام يمرأ مرءا، وقال بعضهم: أمرأني، وقال الفراء: يقال: هنأني الطعام ومرأني بغير ألف فإذا أفردوها عن هنأني قالوا: أمرأني، وقيل الهنيء الذي يلذه الآكل، والمريء ما تحمد عاقبته، وقيل: ما ينساغ في مجراه الذي هو المريء كأمير- وهو رأس المعدة، والكرش اللاصق بالحلقوم سمي به لمرور الطعام فيه أي انسياغه، وانتصابهما- كما قال الزمخشري- على أنهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا ووصف المصدر بهما كما قال السعد: على الإسناد
(١) وعن الأوزاعي- كما في الكشاف- لا يجوز تبرعها ما لم تلد. أو تقم في بيت زوجها سنة اهـ منه.
409
المجازي إذ الهنيء حقيقة هو المأكول أو على أنهما حالان من الضمير المنصوب أي كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على كلوه ويبتدأ هنيئا مريئا على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل: هنا مرأ، وأورد على ذلك مع أن الدعاء لا يكون من الله تعالى حتى أولوه أنه تحريف لكلام النحاة ومخالفة لهم، فإنهم يجعلون انتصاب هنيئا على الحال، ومريئا إما على الحال، وإما على الوصف، ويدل على فساد ما خرّجه الزمخشري- وصحة قول النحاة- ارتفاع الأسماء الظاهرة بعدا هنيئا مرئيا ولو كانا منتصبين انتصاب المصادر المراد بها الدعاء لما جاز ذلك فيها كما لا يجوز أن يقال: في سقيا لك ورعيا سقيا الله تعالى لك ورعيا الله لك، وإن كان ذلك جائزا في فعله، والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدهما قول كثير:
«هنيئا مريئا» غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت
فإن (ما) مرفوعة بما تقدم من هنيئا أو مريئا على طريق الإعمال، وجاز الإعمال في هذه المسألة، وإن لم يكن بينهما رابط عطف لكون مريئا في الغالب (١) لا يستعمل إلا تابعا لهنيئا فصارا كأنهما مرتبطان لذلك ورد بأن سيبويه قال: هنيئا مريئا صفتان نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه، وفيه أنه ليس بنص فيما ذهب إليه الزمخشري لاحتمال أنه أراد أنهما صفتان منصوبان على الحالية، والعامل فيهما فعل محذوف يدل الكلام عليه كالمصادر المدعو بها في أنها معمولة لفعل محذوف يدل الكلام عليه، ويؤيد ذلك أنه قال بعد ذلك كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئا فإن هذا مما يقال: على تقدير إقامتهما مقام المصدر، ومن هنا قال السفاقسي: إن مذهب سيبويه والجماعة أنهما حال منصوب بفعل مقدر محذوف وجوبا لقيامهما مقامه كقولك: أقائما وقد قعد الناس، واعترض بهذا على ما تقدم من احتمال جعلهما حالا من الضمير المنصوب في فَكُلُوهُ إذ عليه يكونان من جملة أخرى لا تعلق لهما- بكلوا- من حيث الإعراب واعترض أيضا على الاستدلال بالبيت على رفع الظاهر بهما بأنه لا يتم لجواز أن تكون ما مرفوعة بالابتداء ولعزة خبره، أو مرفوعة بفعل مقدر، وكيفما كان الأمر يكون قوله سبحانه ذلك عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة،
وفي كتاب العياشي من الإمامية مرفوعا إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن في بطني وجعا فقال: ألك زوجة؟ قال: نعم قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فإني سمعت الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً [ق: ٩] وقال تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: ٦٩] وقال عز شأنه: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنيء والمريء شفيت إن شاء الله تعالى ففعل الرجل ذلك فشفي، وأخرج عبد بن حميد وغيره من أصحابنا عن علي كرم الله تعالى وجهه ما يقرب من هذا بلفظ إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحوها فليشتر بها عسلا وليأخذ من ماء السماء فيجمع هنيئا مرئيا وشفاء ومباركا
وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن أناسا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه الى امرأته فنزلت هذه الآية، وفيها دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس وقلما يتحقق ولهذا كتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى قضاته أن النساء تعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها
(١) ومن غير الغالب
قوله صلّى الله عليه وسلم في حديث الاستسقاء: «اسقنا غيثا مريئا»
اهـ منه.
410
وحكى الشعبي أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع فقال شريح: ردها عليها فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ قال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه، وعنه ولا أقيلها وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن والذي عليه الحنفيون أن الزوجة إذا وهبت شيئا للزوج ليس لها الرجوع فيه بل ذكر ابن هبيرة اتفاق الأئمة الأربعة على أنه ليس لأحد من الزوجين الرجوع فيما وهب لصاحبه.
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ رجوع إلى بيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها وكيفيته إثر بيان الأحكام المتعلقة بالأنفس أعني النكاح، وبيان بعض الحقوق المتعلقة بالأجنبيات من حيث النفس ومن حيث المال استطرادا إذ الخطاب- كما يدل عليه كلام عكرمة- للأولياء، وصرح هو وابن جبير بأن المراد من السُّفَهاءَ اليتامى، ومن أَمْوالَكُمُ أموالهم وإنما أضيفت إلى ضمير الأولياء المخاطبين- تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بهم فكأن أموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي- مبالغة في حملهم على المحافظة عليها، ونظير ذلك قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] فإن المراد لا يقتل بعضكم بعضا إلا أنه عبر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل حتى كأن قتلهم قتل أنفسهم، وقد أيد ذلك بما دل عليه قوله سبحانه: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً حيث غير عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، ومفعول جعل الأول محذوف وهو ضمير الأموال، والمراد من
411
القيام ما به القيام والتعيش، والتعبير بذلك زيادة في المبالغة وهو المفعول الثاني لجعل، وقد جوز أن يكون المحذوف وحده مفعولا، وهذا حالا منه، وقيل: إنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء نظرا إلى كونها تحت ولايتهم.
واعترض بأنه وإن كان صحيحا في نفسه لأن الإضافة لأدنى ملابسة ثابتة في كلامهم كما في قوله:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة سهيل أذاعت غزالها في القرائب
إلا أنه غير مصحح لاتصاف الأموال بما بعدها من الصفة، وقيل: إنما أضيفت إلى ضميرهم لأن المراد بالمال جنسه مما يتعيش الناس به ونسبته إلى كل أحد كنسبته إلى الآخر لعموم النسبة والمخصوص بواحد دون واحد شخص المال فجاز أن ينسب حقيقة إلى الأولياء كما ينسب إلى الملاك، ويؤيد ذلك وصفه بما لا يختص بمال دون مال، واعترض بأن ذلك بمعزل عن حمل الأولياء على المحافظة المذكورة كيف لا والواحدة الجنسية المالية ليست مختصة بما بين أموال اليتامى وأموال الأولياء بل هي متحققة بين أموالهم وأموال الأجانب فإذا لا وجه لاعتبارها أصلا،
وروي أنه سئل الصادق رضي الله تعالى عنه عن هذه الإضافة، وقيل له: كيف كانت أموالهم أموالنا؟ فقال: إذ كنتم وارثين لهم،
وفيه احتمالان: أحدهما أنه إشارة إلى ما ذكرناه أولا في توجيه الإضافة، وثانيهما أن ذلك من مجاز الأول، ويرد عليه حينئذ بعد القول بكذب نسبته إلى الصادق رضي الله تعالى عنه أن الأول غير متحقق بل العادة في الغالب على خلافه، والحمل على التفاؤل مما يتشاءم منه الذوق السليم.
وذكر العلامة الطيبي أنه إنما أضيف الأموال إلى اليتامى في قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ولم يضفه إليهم هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم ليؤذن بترتب الحكم على الوصف فيهما فإن تسميتهم يتامى هناك يناسب قطع الطمع فيفيد المبالغة في ردّ الأموال إليهم، فاقتضى ذلك أن يقال: أموالهم، وأما الوصف هنا فهو السفاهة فناسب أن لا يختصوا بشيء من المالكية لئلا يتورطوا في الأموال فلذلك لم يضف أموالهم إليهم وأضافها إلى الأولياء انتهى، ولا يخفى أنه بيان للعلة المرجحة لإضافة الأموال لمن ذكر، وينبغي أن تكون العلة المصححة ما مرّ آنفا، ثم وصف اليتامى بأنهم سفهاء باعتبار خفة أحلامهم واضطراب آرائهم لما فيهم من الصغر وعدم التدرب، وأصل السفه الخفة والحركة، يقال: تسفهت الريح الشجر أي مالت به، قال ذو الرمة:
جرين كما اهتزت رماح «تسفهت» أعاليها مر الرياح النواسم
وقال أيضا:
على ظهر مقلات «سفيه» جديلها يعني خفيف زمامها، ولكون هذا الوصف مما ينشأ منه تبذير المال وتلفه المخل بحال اليتيم ناسب أن يجعل مناطا لهذا الحكم، وقد فسر السفهاء بالمبذرين بالفعل من اليتامى؟ وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب الكثير من المتأخرين، وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن المراد بالسفهاء النساء والصبيان، والخطاب لكل أحد كائنا من كان، والمراد نهيه عن إيتاء ماله من لا رشد له من هؤلاء، وقيل: إن المراد بهم النساء خاصة،
وروي عن مجاهد وابن عمر، وروي (١) عن أنس بن مالك أنه قال: «جاءت امرأة سوداء جرية المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قل فينا خيرا مرة واحدة فإنه بلغني أنك تقول فيناكل شر قال:
(١) ذكر ذلك الطبرسي. ولي في صحته شك اهـ منه.
412
أي شيء قلت فيكن؟ قالت: سميتنا السفهاء فقال: الله تعالى سماكن السفهاء في كتابه، قالت: وسميتنا النواقص، قال:
كفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيها، ثم قال: أما يكفي إحداكن أنها إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله تعالى وإذا وضعت كانت كالمتشحط في دمه في سبيل الله تعالى فإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل فإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشير فقالت السوداء: يا له من فضل لولا ما يتبعه من الشرط».
وقيل: إن السفهاء عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير، وقريب منه ما
روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن السفيه شارب الخمر ومن يجري مجراه،
وجعل الخطاب عاما أيضا للأولياء وسائر الناس والإضافة في أَمْوالَكُمُ لا تفيد إلا الاختصاص وهو شامل لاختصاص الملكية واختصاص التصرف، وأيد ما ذهب إليه الكثير بأنه الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة، ومن ذهب إلى غيره جعل ذكر هذا الحكم استطرادا وكون ذلك مخلا بجزالة النظم الكريم محل تأمل، وقرأ نافع وابن عامر «قيما» بغير ألف، وفيه- كما قال أبو البقاء- ثلاثة أوجه: أحدها أنه مصدر مثل الحول والعوض وكان القياس أن تثبت الواو لتحصنها بتوسطها كما صحت في العوض والحول لكن أبدلوها ياء حملا على قيام، وعلى اعتلالها في الفعل، والثاني أنها جمع قيمة- كديمة وديم- والمعنى أن الأموال كالقيم للنفوس إذ كان بقاؤها بها، وقال أبو علي: هذا لا يصح لأنه قد قرئ في قوله تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الأنعام: ١٦١] وقوله سبحانه: الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً [المائدة: ٩٧] ولا يصح معنى القيمة فيهما.
والثالث أن يكون الأصل قياما فحذفت الألف كما حذفت في خيم، وإلى هذا ذهب بعض المحققين وجعل ذلك مثل عوذا وعياذا، وقرأ ابن عمر- قواما- بكسر القاف وبواو وألف، وفيه وجهان: الأول أنه مصدر قاومت قواما مثل لاوذت لواذا فصحت في المصدر كما صحت في الفعل، والثاني أنه اسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر، وقرئ كذلك إلا أنه بغير ألف وهو مصدر صحت عينه وجاءت على الأصل كالعوض، وقرئ بفتح القاف وواو وألف، وفيه وجهان: أحدهما: أنه اسم مصدر مثل السلام والكلام والدوام، وثانيهما: أنه لغة في القوام الذي هو بمعنى يقال: جارية حسنة القوام والقوام والمعنى التي جعلها الله تعالى سبب بقاء قامتكم، وعلى سائر القراءات في الآية إشارة إلى مدح الأموال وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن ولأن أترك مالا يحاسبني الله تعالى عليه خير من أن أحتاج إلى الناس، وقال عبد الله بن عباس: الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك، وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال، وقيل لأبي الزناد:
لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها، وفي منثور الحكم من استغنى كرم على أهله، وفيه أيضا الفقر مخذلة والغنى مجذلة والبؤس مرذلة والسؤال مبذلة. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وقال أبو العتاهية:
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى وكل غنى في العيون جليل
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت اليه ومال الناس حيث يميل
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى عشية يقرى أو غداة ينيل
وقد أكثر الناس في مدح المال واختلفوا في تفضيل الغنى والفقر، واستدل كل على مدعاه بما لا يتسع له هذا المجال، ولشيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين:
413
قالوا اغتنى ناس وإنا نرى عنك وأنت العلم المال مال
قلت غنى النفس كمال الغنى والفقر كل الفقر فقد الكمال
«وله أيضا» :
قالوا حوى المال رجال وما على كمال نلت هذا المنال
فقلت حازوا بعض أجزائه وإنني حزت جميع الكمال
وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ أي اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال لئلا يأكله الإنفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، ولو قيل:
منها كان الإنفاق من نفس المال، وجوز بعضهم أن تكون في بمعنى من التبعيضية.
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي كلاما تطيب به نفوسهم كأن يقول الولي لليتيم: مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك، وعن مجاهد وابن جريج أنهما فسرا القول المعروف بعدة جميلة في البر والصلة، وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله، وإن غنمت في غزاي جعلت لك حظا، وقال الزجاج: علموهم- مع إطعامكم وكسوتكم إياهم- أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل، وقال القفال: إن كان صبيا فالوصي يعرفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه يرد المال إليه، وإن كان سفيها وعظه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإتلاف فقر واحتياج.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه فقل له: عافانا الله تعالى وإياك بارك الله تعالى فيك، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر لما أنه ظاهر في أن الخطاب في هذه الجملة ليس للأولياء، وبالجملة كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل معروف، وكل ما أنكرته لقبحه شرعا أو عقلا منكر- قاله غير واحد- وليس إشارة إلى المذهبين في الحسن والقبح هل هو شرعي أو عقلي- كما قيل- إذ لا خلاف بيننا وبين القائلين بالحسن والقبح العقليين في الصفة الملائمة للغرض والمنافرة له، وإن منها ما مأخذه العقل وقد يرد به الشرع، وإنما الخلاف- فيما يتعلق به المدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا- هل هو مأخذه للشرع فقط أو العقل على ما حقق في الأصول وَابْتَلُوا الْيَتامى شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق، والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء- قاله شيخ الإسلام- وهو ظاهر على تقدير أن يراد السفهاء المبذرين (١) بالفعل من اليتامى وأما على تقدير أن يراد بهم اليتامى مطلقا ووصفهم بالسفه باعتبار ما أشير إليه فيما مر ففيه نوع خفاء، وقيل: إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا شروع وهو مبني على أن ما تقدم كان مذكورا على سبيل الاستطراد والخطاب للأولياء، والابتلاء الاختبار أي- واختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها وجربوهم بما يليق بحالهم- والاقتصار على هذا الاهتداء رأي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، والشافعي رحمه الله تعالى يعتب مع هذا أيضا الصلاح في الدين، إلى ذلك ذهب ابن جبير، ونسب إلى ابن عباس، والحسن.
واتفق الإمامان رضي الله تعالى عنهما على أن هذا الاختبار قبل البلوغ وظاهر الكلام يشهد لهما لما تدل عليه الغاية، وقال الإمام مالك: إنه بعد البلوغ، وفرع الإمام الأعظم على كون الاختيار قبل أن تصرفات العاقل المميز بإذن
(١) قوله: «المبذرين» كذا بخط المؤلف اهـ مصححه.
414
الولي صحيحة لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء مثلا، وقال الشافعي: الاختيار لا يقتضي الإذن في التصرف لأنه يتوقف على دفع المال إلى اليتيم- وهو موقوف على الشرطين- وهما إنما يتحققان بعد، بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال، فولد التاجر مثلا يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولي إن أراد وعلى هذا القياس حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي إذا بلغوا حدّ البلوغ وهو إما بالاحتلام، أو بالسن- وهو خمس عشرة سنة- عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد- وهي رواية عن أبي حنيفة- وعليها الفتوى عند الحنفية لما أن العادة الفاشية أن الغلام والجارية يصلحان للنكاح وثمرته في هذه المدة ولا يتأخران عنها، والاستدلال بما أخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود- ضعيف لأن البيهقي نفسه صرح بأن إسناد الحديث ضعيف، وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للغلام تمام ثماني عشرة سنة وللجارية تمام سبع عرة سنة، وله في ذلك قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
[الأنعام: ١٥٢] وأشدّ الصبي ثماني عشرة سنة- هكذا قاله ابن عباس- وتابعه القتبي، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن غير أن الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة، وعنه في الغلام تسع عشرة سنة، والمراد أن يطعن في التاسعة عشرة ويتم له ثماني عشرة، وقيل: فيه اختلاف الرواية لذكر حتى يستكمل تسع عشرة سنة.
وشاع عن الإمام الشافعي أنه قد جعل الإنبات دليلا على البلوغ في المشركين خاصة، وشنع ابن حزم الضال عليه، والذي ذكره الشافعية أنه إذا أسر مراهق ولم يعلم أنه بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالبالغين من قتل ومنّ وفداء بأسرى منا أو مال واسترقاق. أو غير بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالصبيان من الرق يكشف عن سوأته فإن أنبت فله حكم الرجال وإلا فلا وإنما يفعل به ذلك لأنه لا يخبر المسلمين ببلوغه خوفا من القتل بخلاف المسلم فإنه لا يحتاج إلى معرفة بلوغه بذلك، ولا يخفى أن هذا لا يصلح محلا للتشنيع وغاية ما فيه أنه جعل الإنبات سببا لإجراء أحكام الرجال عليه في هذه المسألة لعدم السبيل إلى معرفة البلوغ فيها وصلاحتيه لأن يكون أمارة في الجملة لذلك ظاهرة، وأما أن فيه أن الإنبات أحد أدلة البلوغ مثل الاحتلام والإحبال والحيض والحبل في الكفار دون المسلمين فلا فَإِنْ آنَسْتُمْ أي أحسستم- قاله مجاهد- وأصل معنى الاستئناس- كما قال الشهاب- النظر من بعد مع وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه مما يؤنس به، ثم عم في كلامهم قال الشاعر:
«آنست» نبأة وأفزعها الق ناص عصرا وقد دنا الإمساء
ثم استعير للتبين أي علم الشيء بينا، وزعم بعضهم أن أصله الإبصار مطلقا وأنه أخذ من إنسان العين وهو حدقتها التي يبصر بها، وهو هنا محتمل لأن يراد منه المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي، وقرأ ابن مسعود أحستم بحاء مفتوحة وسين ساكنة، وأصله أحسستم بسينين نقلت حركة الأولى إلى الحاء وحذفت لالتقاء الساكنين إحداهما على غير القياس، وقيل: إنها لغة سليم وإنها مطردة في عين كل فعل مضاعف اتصل بها تاء الضمير، أو نونه كما في قول أبي زيد الطائي:
خلا أن العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس
مِنْهُمْ رُشْداً أي اهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها، وقيل: صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم، وتقديم الجار والمجرور لما مر غير مرة، وقرئ رشدا بفتحتين، ورشدا بضمتين، وهما بمعنى رشدا، وقيل: الرشد، بالضم في الأمور الدنيوية والأخروية، وبالفتح في الأخروية لا غير، والراشد والرشيد يقال فيهما فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
415
أَمْوالَهُمْ أي من غير تأخير عن حدّ البلوغ كما تدل عليه الفاء، وفي إيثار الدفع على الإيتاء في أول الأمر إيذان على ما ذهب إليه البعض بتفاوتهما بحسب المعنى، وقد تقدم الكلام في ذلك، ونظم الآية أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله:
سريت بهم حتى تكل مطيهم وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وتسمى ابتدائية في ذلك، ولا يذهب منها معنى الغاية كما نصوا عليه في عامة كتب النحو، وذكره الكثير من الأصوليين خلافا لمن وهم فيه، وما بعدها جملة شرطية جعلت غاية للابتلاء، وفعل الشرط بلغوا وجوابه الشرطية الثانية كما حققه غير واحد من المعربين، وبيان ذلك أنه ذكر في شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان فأكثر كقولك: إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك فأحسنت إليك جواب إن جئتني، واستغنى به عن جواب إن وعدتك، وزعم ابن مالك أن الشرط الثاني مقيد للأول بمنزلة الحال، وكأنه قيل: إن جئتني في حال وعدي لك، والصحيح في هذه المسألة أن الجواب للأول، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه فإذا قلت: إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر، فأنت حرّ جواب إن دخلت، وإن دخلت وجوابه دليل جواب إن كلمت، وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء، والدليل على الجواب جواب في المعنى، والجواب متأخر فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني فكأنه قيل: إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقعت هكذا مجيء ثم كلام ثم دخول، وهو مذهب الشافعي، وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف، وليس مذهب الشافعي فقط والسماع يشهد له قال:
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معاقد عز زانها كرم
وعليه فصحاء المولدين، وقال بعض الفقهاء: الجواب للأخير والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني، والشرط الثاني وجوابه جواب الأول فعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء، وقال بعضهم: إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عاطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحو- إن جئتني، أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك- وإن كان بالواو فالجواب لهما، وإن كان بالفاء فالجواب للثاني، وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف وما نحن فيه من المقرون بالفاء وهي رابطة للجواب كالفاء الثانية وما خرجناه عليه هو الذي ارتضاه جماعة منهم الزمخشري ومذهب الزجاج. وبعض النحاة والمئونة عليه أقل أن حتى الداخلة على هذه الجملة حرف جر، وإذا ممتحضة للظرفية وليس فيها معنى الشرط، والعامل فيها على التقدير الأول ما يتلخص من معنى جوابها والمعنى (١) وَابْتَلُوا الْيَتامى إلى وقت بلوغهم فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم، وعبر في البلوغ بإذا وفي الإيناس بإن للفرق بينهما ظهورا وخفاء وظاهر الآية الكريمة أنه لا يدفع إليهم ولو بلغوا ما لم يؤنس منهم الرشد، وهو مذهب الشافعي وقول الإمامين، وبه قال مجاهد، فقد أخرج ابن المنذر، وغيره عنه أنه قال: لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط ما لم يؤنس منه رشد، ونسب إلى الشعبي، وقال الإمام الأعظم: إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة كما في الحديث- يدفع إليه ماله، وإن لم يؤنس الرشد لأن المنع كان لرجاء التأديب فإذا بلغ ذلك السن ولم يتأدب انقطع عنه لرجاء غالبا فلا معنى
(١) تلخيص للمعنى وإظهار لكون المقصود الجزاء أعني الدفع وأن استحقاقهم الدفع لا يتخلف عن البلوغ البتة عند تحقق الشرط كذا في الكشف اهـ منه.
416
للحجر بعده وفي الكافي وللإمام الأعظم قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ، والمراد بعد البلوغ فهو تنصيص على وجوب دفع المال بعد البلوغ إلا أنه منع عنه ماله قبل هذه المدة بالإجماع ولا إجماع هنا فيجب دفع المال بالنص والتعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم عندنا على أن الشرط رشد نكرة فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه، وأول أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه، وإذا امتد الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا وحدث ضرب من الرشد لا محالة لأنه حال كمال لبه فقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ينتهي لب الرجل إذا بلغ خمسا وعشرين.
وقال أهل الطباع: من بلغ خمسا وعشرين سنة فقد بلغ أشده ألا ترى أنه قد يصير جدا صحيحا في هذا السن لأن أدنى مدة البلوغ اثنا عشر حولا وأدنى مدة الحمل ستة أشهر، ففي هذه المدة يمكن أن يولد له ابن ثم ضعف هذا المبلغ يولد لابنه ابن.
وأنت تعلم أن الاستدلال بما ذكر من الآية على الوجه الذي ذكر ظاهر بناء على أن المراد بالإيتاء فيها الدفع، وقد مر الكلام في ذلك، واعترض على قوله: على أن الشرط إلخ بأنه إذا كان ضرب من الرشد كافيا- كما يشعر به التنكير وكان ذلك حاصلا لا محالة في ذلك السن كما هو صريح كلامه، واستدل عليه بما استدل- كان الدفع حينئذ عند إيناس الرشد- وهو مذهب الشافعي، وقول الإمامين- فلم يصح أن يقال: إن مذهب الإمام وجوب دفع مال اليتيم إليه إن أونس منه الرشد أو لم يؤنس غاية ما في الباب أنه يبقى خلاف بين الإمام وغيره في أن الرشد المعتبر شرطا للدفع في الآية ماذا- وهو أمر آخر وراء ما شاع عن الإمام رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة- وأيضا إن أريد بهذا الضرب من الرشد الذي أشار إليه التنوين هو الرشد في مصلحة المال فكونه لا بدّ وأن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو على فرض تسليم حصوله إذ ذاك لا يجدي نفعا إذ الآية كالصريحة في اشتراط الضرب الأول فقد قال الفخر: لا شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فيجب أن يكون المراد فإن آنستم رشدا في ضبط مصالحه فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال لا ضرب من الرشد كيف كان، ثم قال:
والقياس الجلي يقوي الاستدلال بالآية لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشاب والشيخ كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليهما إن لم يؤنس منهما الرشد ومنه يعلم ما في التعليل السابق أعني قولهم لأن المنع كان لرجاء التأديب إلخ من النظر ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنع الضال ابن حزم كعادته مع سائر أئمة الدين على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وتابعه في ذلك سفهاء الشيعة- كيوسف الأوالي وغيره- ولا يخفى أن المسألة من الفروع، وكم لابن حزم وأتباعه فيها من المخالفات للكتاب والسنة ومتمسكهم في ذلك بما هو أوهى وأوهن من بيت العنكبوت.
ومن أمعن النظر فيما ذهب إليه الإمام علم أن نظره رضي الله تعالى عنه في ذلك دقيق لأن اليتيم بعد أن بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره وصار مورد الخطابات الإلهية والتكاليف الشرعية وسلم الله تعالى إليه نفسه يتصرف بها حسب اختياره المترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب كان منع ماله عنه وتصرف الغير به أشبه الأشياء بالظلم، ثم هذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ مطلقا من غير تأخير إلى بلوغه سن خمس وعشرين فيمن بلغ غير رشيد إلا أنا أخرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب ورجاء الرشد والكف عن السفه وما فيه تبذير المال وإفساده، نظير ذلك
417
من وجه أخذ أموال البغاة وحبسها عنهم ليفيئوا، واعتبرت الزيادة سبع سنين لأنها- كما تقدم- مدة معتبرة في تغير الأحوال، والعشر مثلا وإن كانت كذلك كما يشير إليه
قوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع»
إلا أنا اعتبرنا الأقل لأنه كاف في الغرض غالبا، ولا يرد أن المنع يدور مع السفه لأنا لا نسلم أنه يدور مع السفه مطلقا بل مع سفه الصبا ولا نسلم بقاءه بعد تلك المدة على أن التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند عدمه عندنا فأصل الدوران حينئذ ممنوع، وعلى هذا لا معنى للتشنيع على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيما ذهب إليه، ويؤيد مذهبه أيضا قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا فإنه مشير إلى أنه لا يمنع مال اليتيم عنه إذا كبر، إذ المعنى لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومبادرين كبرهم بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا إلا أنه قدر الكبر فيمن بلغ سفيها بما تقدم لما تقدم، فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك.
والإسراف في الأصل تجاوز الحدّ المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الإفراط، وربما كان في التقصير غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال: أسرف يسرف إسرافا، وإذا كان في التقصير يقال: سرف يسرف سرفا ويستعمل بمعنى السهو والخطأ وهو غير مراد أصلا، والمبادرة المسارعة وهي لأصل الفعل هنا وتصح المفاعلة فيه بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم واليتيم يبادر نزعه منه، وأصلها كما قيل: من البدار وهو الامتلاء ومنه البدر لامتلائه نورا، والبدرة لامتلائها بالمال، والبيدر لامتلائه بالطعام والاسمان المتعاطفان منصوبان على الحال كما أشرنا اليه، وقيل: إنهما مفعول لهما والجملة معطوفة على- ابتلوا- لا على جواب الشرط لفساد المعنى لأن الأول بعد البلوغ وهذا قبله، ويَكْبَرُوا بفتح الباء الموحدة من باب علم يستعمل في السن، وأما بالضم فهو في القدرة والشرف، وإذا تعدى الثاني بعلى كان للمشقة نحو كبر عليه كذا وتخصيص الأكل الذي هو أساس الانتفاع وتكثر الحاجة إليه بالنهي يدل على النهي عن غيره بالطريق الأولى، وفي الجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى:
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ إلخ أي ومن كان من الأولياء والأوصياء ذا مال فليكف نفسه عن أكل مال اليتيم ولينتفع بما آتاه الله تعالى من الغنى، فالاستعفاف الكف وهو أبلغ من العف، وفي المختار يقال: عف عن الحرام يعف بالكسر عفة وعفا وعفافة أي كف فهو عف وعفيف، والمرأة عفة وعفيفة، وأعفه الله تعالى، واستعف عن المسألة أي عف، وتعفف تكلف العفة، وتفسيره بالتنزه كما يشير إليه كلام البعض بيان لحاصل المعنى وَمَنْ كانَ من الأولياء والأوصياء فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بقدر حاجته الضرورية من سدّ الجوعة وستر العورة قاله عطاء وقتادة.
وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن عباس أنه قال: يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له ما لم يسرف أو يبذر،
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر سأل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال وإني ولي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله،
وهل يعد ذلك أجرة أم لا؟ قولان، ومذهبنا الثاني كما صرح به الجصاص في الأحكام، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري وعبيدة السلماني والباقر رضي الله تعالى عنهم. وآخرين أن للولي الفقير أن يأكل من مال اليتيم بقدر الكفاية على جهة القرض فإذا وجد ميسرة أعطى ما استقرض، وهذا هو الأكل بالمعروف، ويؤيده ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهما من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت، وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ. وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: وَمَنْ كانَ فَقِيراً
418
الآية نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: ١٠] إلخ، وذهب قوم إلى إباحة الأكل دون الكسوة، ورواه عكرمة عن ابن عباس، وزعم آخرون أن الآية نزلت في حق اليتيم ينفق عليه من ماله بحسب حاله، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد- وهو مردود- لأن قوله سبحانه: فَلْيَسْتَعْفِفْ لا يعطي معنى ذلك، والتفكيك مما لا ينبغي أن يخرج عليه النظم الكريم فَإِذا دَفَعْتُمْ أيها الأولياء الأوصياء إِلَيْهِمْ أي اليتامى بعد رعاية ما ذكر لكم أَمْوالَهُمْ التي تحت أيديكم، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاهتمام به فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأن قبضوها وبرئت عنها ذممكم لما أن ذلك أبعد عن التهمة وأنفى للخصومة وأدخل في الأمانة وهو أمر ندب عندنا، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه أمر وجوب، واستدلوا بذلك على أن القيم لا يصدق بقوله في الدفع بدون بينة وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي شهيدا قاله السدي، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن معنى وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم وهذا موافق لمذهبنا في عدم لزوم البينة، وقيل: إن المعنى وَكَفى به تعالى محاسبا لكم فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تجاوزوا ما حدّ لكم، ولا يخفى موقع المحاسب هنا لأن الوصي يحاسب على ما في يده، وفي فاعل كَفى كما قال أبو البقاء: وجهان، أحدهما أنه الاسم الجليل، والباء زائدة دخلت لتدل على معنى الأمر، فالتقدير اكتفوا بالله تعالى، والثاني أن الفاعل مضمر والتقدير كَفى الاكتفاء بالله تعالى، فبالله على هذا في موضع نصب على أنه مفعول به، وحَسِيباً حال، وقيل: تمييز، وَكَفى متعدية إلى مفعول واحد عند السمين، والتقدير وكفاكم الله حسيبا، وإلى مفعولين عند أبي البقاء والتقدير، وكفاكم الله شركم، ونحو ذلك.
هذا «ومن باب الإشارة» يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي احذروه من المخالفات والنظر إلى الأغيار والزموا عهد الأزل حين أشهدكم على أنفسكم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي الحقيقة المحمدية ويعبر عنها أيضا بالنفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم وبآدم الحقيقي الذي هو الأب لآدم، وإلى ذلك أشار سلطان العاشقين ابن الفارض قدس سره بقوله على لسان تلك الحقيقة:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وهي الطبيعة أو النفس الحيوانية الناشئة منها، وقد خلقت من الجهة التي تلي عالم الكون وهو الضلع الأيسر المشار إليه في الخبر، وقد خصت بذلك لأنها أضعف من الجهة التي تلي الحق وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً أي كاملين يميلون إلى أبيهم وَنِساءً ناقصين يميلون إلى أمهم وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ فلا تثبتوا لأنفسكم وجودا مع وجوده لأنه الذي أظهر تعيناتكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا واتقوا الأرحام أي اجتنبوا مخالفة أوليائي وعدم محبتهم فإن من وصلهم وصلته ومن قطعهم قطعته فالأرحام الحقيقية هي قرابة المبادئ العالية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ناظرا إلى قلوبكم مطلعا على ما فيها فإذا رأى فيها الميل إلى السوي وسوء الظن بأهل حضرته ارتحلت مطايا أنواره منها فبقيت بلاقع تتجاوب في أرجائها اليوم وَآتُوا الْيَتامى وهم يتامى القوى الروحانية المنقطعين عن تربية الروح القدسي الذي هو أبوهم أَمْوالَهُمْ وهي حقوقهم من الكمالات وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ بأن تعطوا الطيب من الصفات وتذيلوه وتأخذوه بدله الخبيث منها وتتصفوا به وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ بأن تخلطوا الحق بالباطل إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً أي حجابا عظيما وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أي تعدلوا في تربية يتامى القوى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لتقل شهواتكم وتحفظوا فروجكم فتستعينوا بذلك على التربية لما يحصل لكم من التزكية عن الفاحشة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
419
بين النساء فتقعوا في نحو ما هربتم منه فَواحِدَةً تكفيكم في تحصيل غرضكم (١) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ مهورهن نِحْلَةً عطية من الله وفضلا، وفيه إشارة إلى التخلية عن البخل والغدر والتحلية بالوفاء والكرم، وذلك من جملة ما يربى به القوى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ولا تأنفوا وتتكبروا عن ذلك وهذا أيضا نوع من التربية لما فيه من التخلية عن الكبر والأنفة والتحلية بالتواضع والشفقة وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ أي لا تودعوا الناقصين عن مراتب الكمال أسراركم وعلومكم الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي غذوهم بشيء منها وَاكْسُوهُمْ أي حلوهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً لينقادوا إليكم ويسلموا أنفسهم بأيديهم وَابْتَلُوا الْيَتامى
أي اختبروهم، ولعله إشارة إلى اختبار الناقصين من السائرين حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ وصلحوا للإرشاد والتربية فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أي استقامة في الطريق وعدم تلون فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ التي يستحقونها من الأسرار التي لا تودع إلا عند الأحرار.
والمراد إيصاء الكمل من الشيوخ أن يخلفوا ويأذنوا بالإرشاد من يصلح لذلك من المريدين السالكين على أيديهم وَلا تَأْكُلُوها أي ننتفعوا بتلك الأموال دونهم إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا بالتصدي للإرشاد فإن ذلك من أعظم أدواء النفس والسموم القاتلة وَمَنْ كانَ منكم غَنِيًّا بالله لا يلتفت إلى ضرورات الحياة أصلا فَلْيَسْتَعْفِفْ عما للمريد وَمَنْ كانَ فَقِيراً لا يتحمل الضرورة فَلْيَأْكُلْ أي فلينتفع بما للمريد بِالْمَعْرُوفِ وهو ما كان بقدر الضرورة فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ الله تعالى وأرواح أهل الحضرة وخذوا العهد عليهم برعاية الحقوق مع الحق والخلق وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً لأنه الموجود الحقيقي والمطلع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو حسبنا ونعم الوكيل لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث، والمراد من الرجال الأولاد الذكور، أو الذكور أعم من أن يكون كبارا أو صغارا، ومن الأقربين الموروثون، ومن الوالدين ما لم يكن بواسطة، والجد والجدة داخلان تحت الأقربين، وذكر الولدان مع دخولهما أيضا اعتناء بشأنهما، وجوز أن يراد من الوالدين ما هو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فيشمل الجد والجدة، واعترض بأنه يلزم توريث أولاد الأولاد مع وجود الأولاد. وأجيب بأن عدم التوريث في هذه الصورة معلوم من أمر آخر لا يخفى، والنصيب الحظ كالنصب بالكسر ويجمع على أنصباء وأنصبة، ومن- في «مما» متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله أي نصيب كائن مِمَّا تَرَكَ وجوز تعلقه بنصيب.
وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ المراد من النساء البنات مطلقا، أو الإناث كذلك، وإيراد حكمهن على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام السالفين بأن يقال للرجال والنساء نصيب إلخ للاعتناء- كما قال شيخ الإسلام- بأمرهن والإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون: إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة، وللرد عليهم نزلت هذه الآية- كما قال ابن جبير وغيره-
وروي أن أوس بن ثابت، وقيل: أوس بن مالك، وقيل: ثابت بن قيس، وقيل: أوس بن الصامت- وهو خطأ- لأنه توفي في زمن خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه مات وترك ابنتين وابنا صغيرا، وزوجته أم كجة، وقيل: بنت كجة، وقيل: أم كحلة، وقيل: أم كلثوم فجاء أبناء عمه خالد، أو سويد وعرفطة، أو قتادة وعرفجة فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما: تزوجا بالابنتين وكانت بهما دمامة فأبيا
(١) قوله: وَآتُوا إلخ سقط من خط المؤلف قبلها أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إلخ اهـ مصححه.
420
فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما أدري ما أقول؟ فنزلت لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية فأرسل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ابني العم فقال: لا تحركا من الميراث شيئا فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيبا ثم نزل بعد ذلك وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله: عَلِيماً ثم نزل يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء: ١١] فدعا صلّى الله عليه وسلم بالميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يعط ابني العم شيئا»، وفي بعض طرقه- أن الميت خلف زوجة وبنتين وابني عم فأعطى صلّى الله عليه وسلم الزوجة الثمن، والبنتين الثلثين وابني العم الباقي.
وفي الخبر دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب، ومن عمم الرجال والنساء، وقال: إن الأقربين عام لذوي القرابة النسبية والسببية جعل الآية متضمنة لحكم الزوج والزوجة واستحقاق كل منهما الإرث من صاحبه، ومن لم يذهب إلى ذلك وقال: إن الأقربين خاص بذوي القربة النسبية جعل فهم الاستحقاق كفهم المقادر المستحق مما سيأتي من الآيات، وعلل الاقتصار على ذكر الأولاد والبنات هنا بمزيد الاهتمام بشأن اليتامى، واحتج الحنفية والإمامية بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قالوا: لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله سبحانه: لِلرِّجالِ إلخ غاية ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بها، وأما المقدار فمستفاد من سائر الدلائل، والإمامية فقط على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورثون كغيرهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا رده على أتم وجه.
مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل من ما الأخيرة بإعادة العامل قبل، ولعلهم إنما لم يعتبروا كون الجار والمجرور بدلا من الجار المجرور لاستلزامه إبدال من- من من- واتحاد اللفظ في البدل غير معهود.
وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور حالا من الضمير المحذوف في تَرَكَ أي مما تركه قليلا أو كثيرا أو مستقرا مما قل، ومثل هذا القيد معتبر في الجملة الأولى إلا أنه لم يصرح به هناك تعويلا على ذكره هنا، وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال، وبهذا يرد على الإمامية لأنهم يخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس البدني بدون عوض عند أكثرهم وهذا من الغريب كعدم توريث الزوجة من العقار مع أن الآية مفيدة أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق، وتقديم القليل على الكثير من باب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩] نَصِيباً مَفْرُوضاً نصب إما على أنه مصدر مؤكد بتأويله بعطاء ونحوه من المعاني المصدرية وإلا فهو اسم جامد، ونقل عن بعضهم أنه مصدر، وإما على الحالية من الضمير المستتر في قَلَّ وكَثُرَ أو في الجار والمجرور الواقع صفة، أو من نصيب لكون وصفه بالظرف سوغ مجيء الحال منه أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا إذ المعنى ثبت لهم مفروضا نصيب، وهو حينئذ حال موطئة والحال في الحقيقة وصفه، وقيل: هو منصوب على أنه مفعول بفعل محذوف والتقدير أوجب لهم نصيبا، وقيل: منصوب على إضمار أعني ونصبه على الاختصاص بالمعنى المشهور مما أنكره أبو حيان لنصهم على اشتراط عدم التنكير في الاسم المنصوب عليه، والفرض- كالضرب- التوقيت ومنه فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة: ١٩٧] والحز في الشيء كالتفريض وما أوجبه الله تعالى كالمفروض سمي بذلك لأن له معالم وحدودا، ويستعمل بمعنى القطع، منه قوله تعالى: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء: ١١٨] أي مقتطعا محدودا كما في الصحاح، فمفروضا هنا إما بمعنى مقتطعا محدودا كما في تلك الآية، وإما بمعنى ما أوجبه الله تعالى أي نصيبا أوجبه الله تعالى لهم.
421
وفرق الحنفية بين الفرض والواجب بأن الفعل غير الكف المتعلق به خطاب بطلب فعل بحيث ينتهض تركه في جميع وقته سببا للعقاب إن ثبت بقطعي، ففرض كقراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠] وإن ثبت بظني فهو الواجب نحو تعيين الفاتحة الثابت
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»
وهو آحاد، ونفي الفضيلة محتمل ظاهر، وذهب الشافعية إلى ترادفهما، واحتج كل لمدعاه بما احتج به، والنزاع على ما حقق في الأصول لفظي قاله غير واحد، وقال بعض المحققين: لا نزاع للشافعي في تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة ولا في تفاوت ما ثبت بدليل قطعي- كحكم الكتاب- وما ثبت بدليل ظني- كحكم خبر الواحد في الشرع- فإن جاحد الأول كافر دون الثاني، وتارك العمل بالأول مؤولا فاسق دون الثاني، وإنما يزعم أن الفرض والواجب لفظان مترادفان منقولان عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذم تاركه شرعا سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني، وهذا مجرد اصطلاح، فلا معنى للاحتجاج بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد موجب للتفاوت بين مدلوليهما، أو بأن الفرض في اللغة التقدير والوجوب هو السقوط، فالفرض علم قطعا أنه مقدر علينا، والواجب ما سقط علينا بطريق الظن ولا يكون المظنون مقدرا ولا المعلوم القطعي ساقطا علينا على أن للخصم أن يقول: لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي فلا نسلم امتناع أن يثبت كون الشيء مقدرا علينا بدليل ظني، وكونه ساقطا علينا بدليل قطعي، ألا ترى أن قولهم: الفرض أي المفروض المقدر في المسح هو الربع، وأيضا الحق أن الوجوب في اللغة هو الثبوت، وأما مصدر الواجب بمعنى الساقط والمضطرب إنما هو الوجبة والوجيب، ثم استعمال الفرض- فيما ثبت بظني، والواجب فيما ثبت بقطعي- شائع مستفيض كقولهم: الوتر فرض، وتعديل الأركان فرض ونحو ذلك، ويسمى فرضا عمليا، وكقولهم: الصلاة واجبة والزكاة واجبة، ونحو ذلك، ومن هنا يعلم سقوط كلام بعض الشافعية في ردّ استدلال الحنفية بما تقدم على توريث ذوي الأرحام بأن الواجب عند الحنفية ما علم ثبوته بدليل مظنون، والمفروض ما علم بدليل قاطع، وتوريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالاتفاق، فعرفنا أنه غير مراد من الآية ووجه السقوط ظاهر غني عن البيان.
واحتج بعضهم بالآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي قسمة التركة بين أربابها وهي مفعول به، وقدمت لأنها المبحوث عنها ولأن في الفاعل تعددا فلو روعي الترتيب يفوت تجاذب أطراف الكلام، وقيل: قدمت لتكون أمام الحاضرين في اللفظ كما أنها أمامهم في الواقع، وهي نكتة للتقديم لم أر من ذكرها من علماء المعاني أُولُوا الْقُرْبى ممن لا يرث لكونه عاصبا محجوبا أو لكونه من ذوي الأرحام، والقرينة على إرادة ذلك ذكر الورثة قبله وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ من الأجانب فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم شيئا من المال، أو المقسوم المدلول عليه بالقسمة، وقيل: الضمير لما وهو أمر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييبا لقلوب المذكورين وتصدقا عليهم، وقيل: أمر وجوب، واختلف في نسخه ففي بعض الروايات عن ابن عباس أنه لا نسخ والآية محكمة وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ.
وحكي عن سعيد بن جبير أن المراد من أولي القربى هنا الوارثون، ومن الْيَتامى وَالْمَساكِينُ غير الوارثين وأن قوله سبحانه: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ راجع إلى الأولين، وقوله تعالى: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً راجع للآخرين وهو بعيد جدا، والمتبادر ما ذكر أولا وهذا القول للمرزوقين من أولئك المذكورين، والمراد من القول المعروف أن
422
يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنوا عليهم، وقوله سبحانه: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فيه أقوال: أحدها أنه أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى أو يخافوا على أولادهم فيفعلوا مع اليتامى ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية: يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم يقول: فإن ولى مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا والآية على هذا مرتبطة بما قبلها لأن قوله تعالى: لِلرِّجالِ إلخ في معنى الأمر للورثة أي أعطوهم حقهم دفعا لأمر الجاهلية وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم، وقيل في وجه الارتباط: إن هذا وصية للأوصياء بحفظ الأيتام بعد ما ذكر الوارثين الشاملين للصغار والكبار على طريق التتميم، وقيل: إن الآية مرتبطة بقوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى، وثانيها أنه أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم، ونسب نحو هذا إلى الحسن وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير.
وروي عن ابن عباس أيضا ما يؤيده، فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه أنه قال في الآية: يعني الرجل يحضره الموت فيقال له: تصدق من مالك وأعتق وأعط منه في سبيل الله فنهوا أن يأمروا بذلك يعني أن من حضر منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق من ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون يوصي لهم بالخمس، أو الربع، يقول: أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف- يعني صغار- لا يرضى أن يتركهم بغير مال فيكونوا عيالا على الناس؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك، وعلى هذا يكون أول الكلام للأوصياء وما بعده للورثة، وهذا للأجانب بأن لا يتركوه يضرهم أو لا يأمروه بما يضر، فالآية مرتبطة بما قبلها أيضا، وثالثها أنه أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم، واتصال الكلام على هذا بما قبله ظاهر لأنه حث على الإيتاء لهم وأمرهم بأن يخافوا من حرمانهم كما يخافون من حرمان ضعاف ذريتهم، ورابعها أمر للمؤمنين أن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث ويقولون: إن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث، وورد في الخبر ما يؤيده، وعلى هذا فالمراد من الذين المرضى. وأصحاب الوصية أمرهم بعدم الإسراف في الوصية خوفا على ذريتهم الضعاف، والقرينة عليه أنهم المشارفون لذلك ويكون التخويف من أكل مال اليتامى بعده تخويفا عن أخذ ما زاد من الوصية فيرتبط به، ويكون متصلا بما قبله تتميما لأمر الأوصياء، والورثة بأمر مرضى المؤمنين، وهذا أبعد الوجوه وأبعد منه ما قيل: إنه أمر لمن حضر المريض بالشفقة على ذوي القربى بأن لا يقول للمريض لا توص لأقاربك ووفر على ذريتك، وأبعد من ذلك القول: بأنه أمر للقاسمين بالعدل بين الورثة في القسمة بأن لا يراعوا الكبير منهم فيعطوه الجيد من التركة ولا يلتفتوا إلى الصغير ولو بما في حيزه صلة الموصول كما قال غير واحد. ولما كانت الصلة يجب أن تكون قصة معلومة للخاطب ثابتة للموصول كالصفة قالوا: إنها هنا كذلك أيضا وأن المعنى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع.
وذهب الأجهوري وغيره إلى أن لَوْ بمعنى إن فتقلب الماضي إلى الاستقبال، وأوجبوا حمل تَرَكُوا على المشارفة ليصح وقوع خافُوا جزاء له ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة، وفي ترتيب الأمر على الوصف المذكور في حيز الصلة المشعر بالعلية إشارة إلى أن المقصود من الأمر أن لا يضيعوا اليتامى حتى لا تضيع
423
أولادهم، وفيه تهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع الله أولادهم، ورمز إلى أنهم إن راعوا الأمر حفظ الله تعالى أولادهم، أخرج ابن جرير عن الشيباني قال: كنا في القسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانىء بن كلثوم فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان فضقت ذرعا مما سمعت فقلت لابن الديلمي: يا أبا بشر يودني أنه لا يولد لي ولد أبدا فضرب بيده على منكبي وقال: يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من نسمة كتب الله أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى، ثم قال: ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله تعالى منه وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله تعالى فيك؟ قلت: بلى فتلا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ الآية، وفي وصف الذرية بالضعاف بعث على الترحم والظاهر أن مِنْ خَلْفِهِمْ ظرف لتركوا، وفي التصريح به مبالغة في تهويل تلك الحالة، وجوز أن يكون حالا من ذُرِّيَّةً وضِعافاً كما قال أبو البقاء: يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأجل الكسرة، وجاز ذلك مع حرف الاستعلاء لأنه مكسور مقدم ففيه انحدار، وكذلك «خافوا» يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأن الخاء تنكسر في بعض الأحوال وهو خفت وقرئ- «ضعفاء» «وضعافى» و «ضعافى»، نحو سكارى وسكارى فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وإنما أمرهم سبحانه بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ولما لم ينفع الأول بدون الثاني لم يقتصر عليه مع استلزامه له عادة وَلْيَقُولُوا لليتامى، أو للمريض، أو لحاضري القسمة، أو ليقولوا في الوصية قَوْلًا سَدِيداً فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال، ويقول عائد المريض ما يذكره التوبة والنطق بكلمة الشهادة وحسن الظن بالله، وما يصده عن الإسراف بالوصية وتضييع الورثة، ويقول الوارث لحاضر القسمة ما يزيل وحشته، أو يزيد مسرته ويقول الموصي في إيصائه ما لا يؤدي إلى تجاوز الثلث، والسديد- على ما قال الطبرسي- المصيب العدل الموافق للشرع. وقيل: ما لا خلل فيه، ويقال سدّ قوله يسدّ بالكسر إذا صار سديدا، وأنه ليسد في القول فهو مسدّ إذا كان يصيب السداد أي القصد، وأمر سديد وأسد أي قاصد، والسداد بالفتح الاستقامة والصواب، وكذلك السدد مقصور منه، وأما السداد بالكسر فالبلغة، وما يسد به، ومنه قولهم: فيه سداد من عوز- قاله غير واحد- وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون: سداد من عوز فيفتحون السين- وهو لحن- والصواب الكسر، وتعقبه ابن بري بأنه وهم فإن يعقوب بن السكيت سوى بين الفتح والكسر في إصلاح المنطق في باب فعال وفعال بمعنى واحد، فقال: يقال سداد من عوز وسداد، وكذا حكاه ابن قتيبة في أدب الكاتب وكذا في الصحاح إلا أنه زاد والكسر أفصح، نعم ذكر فيها أن سداد القارورة وسداد الثغر بالكسر لا غير، وأنشد قول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة «وسداد» ثغر
فليحفظ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً استئناف جيء به لتقرير ما فصل من الأوامر والنواهي وظُلْماً إما حال أي ظالمين، أو مفعول لأجله وقيل: منصوب على المصدرية أي أكل ظلم على معنى أكلا على وجهه، وقيل: على التمييز وإنما علق الوعيد على الأكل بذلك لأنه قد يأكل مال اليتيم على وجه الاستحقاق كالأجرة والقرض مثلا فلا يكون ظلما، ولا الآكل ظالما. وقيل: ذكر الظلم للتأكيد والبيان لأن أكل مال اليتيم لا يكون إلا ظلما ومن أخذ مال اليتيم قرضا أو أجرة فقد أكل مال نفسه ولم يأكل مال اليتيم. وفيه منع ظاهر. إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي ملء بطونهم، وشاع هذا التعبير في ذلك، وكأنه مبني على أن حقيقة الظرفية المتبادر منها الإحاطة بحيث لا يفضل الظرف عن المظروف فيكون الأكل في البطن ملء البطن، وفي بعض البطن دونه، وهو المراد في قوله:
424
كلوا في «بعض بطنكم» تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
ولا ينافي هذا قول الأصوليين: إن الظرف إذا جر بفي لا يكون بتمامه ظرفا بخلاف المقدرة فيه، فنحو سرت يوم الخميس لتمامه وفي يوم الخميس لغيره، فقد قال عصام الملة: إن هذا مذهب الكوفيين، والبصريون لا يفرقون بينهما كما بين في النحو، وقال شهاب الدين: الظاهر أن ما ذكره أهل الأصول فيما يصح جره بفي ونصبه على الظرفية، وهذا ليس كذلك لأنه لا يقال: أكل بطنه بمعنى في بطنه فليس مما ذكره أهل الأصول في شيء، وهو مثل جعلت المتاع في البيت فهو صادق بملئه وبعدمه لكن الأصل الأول كما ذكروه.
وجوز أن يكون ذكر البطون للتأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: ١٦٧] والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله تعالى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: ٤٦] والقلب لا يكون إلا في الصدر، وقوله سبحانه: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨] والطير لا يطير إلا بجناح، فقد قالوا:
إن الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة، ثم المظروف هنا المفعول أي المأكول لا الفاعل، وتحقيق ذلك على ما نقل عن التمرتاشي في الإيمان أنه إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل ومفعول كما إذا قلت: إن ضربت زيدا في الدار، أو في المسجد فكذا فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر، وإن كان الفاعل فيه دون المفعول، أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه، ولذا قال بعض الفقهاء: لو قال: إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فشرط حنثه كون الفاعل فيه، ولو قال: إن ضربته، أو جرحته، أو قتلته، أو رميته فشرطه كون المفعول فيه، وإنما كان الرمي في الأول مما لا يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم من القوس بنيته، وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل، وفي الثاني مما يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم، أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيجرحه أو يوجعه ويؤلمه، ولا شك أن ما نحن فيه من قبيل هذا القسم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك، والجار والمجرور متعلق- بيأكلون- وهو الظاهر، وقيل: إنه حال من قوله تعالى: ناراً أي ما يجرّ إليها فالنار مجاز مرسل من ذكر المسبب وإرادة السبب، وجوز في ذلك الاستعارة على تشبيه ما أكل من أموال اليتامى بالنار لمحق ما معه، واستبعده بعض المحققين، وذهب بعضهم إلى جواز حمله على ظاهره، فعن عبيد الله بن جعفر أنه قال: من أكل مال اليتيم فإنه يؤخذ بمشفره يوم القيامة فيملأ فمه جمرا ويقال له كل ما أكلته في الدنيا ثم يدخل السعير الكبرى.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «حدثني النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم عن ليلة أسري به قال: نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار فيقذف في أجوافهم حتى تخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما»
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً أي سيدخلون نارا هائلة مبهمة الوصف، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم ياء المضارعة، والباقون بفتحها، وقرئ وَسَيَصْلَوْنَ بتشديد اللام، وفي الصحاح يقال: صليت اللحم، وغيره أصليه صليا مثل رميته رميا إذا شويته، وصليت الرجل نارا إذا أدخلته وجعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء- كأنك تريد الإحراق- قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية، ويقال: صلى بالأمر إذا قاسى حره وشدته، قال الطهوي:
ولا تبلى بسالتهم وإن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين
وقال بعض المحققين: إن أصل الصلي القرب من النار وقد استعمل هنا في الدخول مجازا، وظاهر كلام البعض أنه متعد بنفسه، وقيل: إنه يتعدي بالباء فيقال: صلي بالنار، وذكر الراغب أنه يتعدى بالباء تارة أو بنفسه أخرى ولعله
425
بمعنيين كما يشير إليه ما في الصحاح، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا أوقدتها وألهبتها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير أن السعير واد من فيح جهنم، وظاهر الآية أن هذا الحكم عام لكل من يأكل مال اليتيم مؤمنا كان أو مشركا، وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه قال: هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم أي اليتامى ويأكلون أموالهم، ولا يخفى أنه إن أراد حكم الآية خاص بأهل الشرك فقط فغير مسلم، وإن أراد أنها نزلت فيهم فلا بأس به إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وفي بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ [البقرة: ٢٢٠] الآية يُوصِيكُمُ اللَّهُ شروع في بيان ما أجمل في قوله عز وجل لِلرِّجالِ نَصِيبٌ إلخ، والوصية كما قال الراغب: أن يقدم إلى الغير ما يعمل فيه مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه، فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم، وبالثاني فسره في القاموس وعدل عن الأمر إلى الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب الحصول بسرعة فِي أَوْلادِكُمْ أي في توريث أولادكم، أو في شأنهم وقدر ذلك ليصح معنى الظرفية، وقيل: فِي بمعنى اللام كما
في خبر «إن امرأة دخلت النار في هرة»
أي لها كما صرح به النحاة، والخطاب قيل: للمؤمنين وبين المتضايفين مضاف محذوف أي يوصيكم في أولاد موتاكم لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده، وقيل: الخطاب لذوي الأولاد على معنى يوصيكم في توريثهم إذا متم وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف كما لو فسر يوصيكم يبين لكم، وبدأ سبحانه بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاء بعد المورث، وسبب نزول الآية ما أشرنا إليه فيما مر.
وأخرج عبد بن حميد عن جابر قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يعودني وأنا مريض فقلت كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد عليّ شيئا فنزلت لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
في موضع التفصيل والبيان للوصية فلا محل للجملة من الإعراب وجعلها أبو البقاء في موضع نصب على المفعولية ليوصي باعتبار كونه في معنى القول، أو الفرض أو الشرع وفيه تكلف، والمراد أنه يعدّ كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان من الذكور والإناث واتحدت جهة إرثهما فيضعف للذكر نصيبه كذا قيل، والظاهر أن المراد بيان حكم اجتماع الابن والبنت على الإطلاق. ولا بد في الجملة من ضمير عائد إلى الأولاد محذوف ثقة بظهوره كما في قولهم: السمن منوان بدرهم، والتقدير هنا للذكر منهم فتدبر، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه- مع أن مقتضى كون الآية نزلت في المشهور لبيان المواريث- ردا لما كانوا عليه من توريث الذكور دون الإناث الاهتمام بالإناث، وأن يقال: للأنثيين مثل حظ الذكر لأن الذكر أفضل، ولأن ذكر المحاسن أليق بالحكيم من غيره، ولذا قال سبحانه: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: ٧] فقدم ذكر الإحسان وكرره دون الإساءة، ولأن في ذلك تنبيها على أن التضعيف كاف في التفضيل فكأنه حيث كانوا يورثون الذكور دون الإناث قيل لهم: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن عن الميراث بالكلية مع تساويهما في جهة الإرث. وإيثار اسمي الذكر والأنثى على ما ذكر أولا من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا- كما هو زعم أهل الجاهلية- حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء، والحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الإناث من المال أقل من نصيب الذكور نقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الخبر مع أن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن وشهوتهنّ أكثر فقد يصير المال سببا لكثرة فجورهنّ، ومما اشتهر.
426
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده
وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه- أن حواء عليها السلام أخذت حفنة من الحنطة وأكلت وأخذت أخرى وخبأتها ثم أخرى ودفعتها إلى آدم عليه السلام فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل-
ذكره بعضهم ولم أقف على صحته، ثم محل الإرث إن لم يقم مانع كالرق والقتل واختلاف الدين كما لا يخفى، واستثني من العموم الميراث من النبي صلّى الله عليه وسلم بناء على القول بدخوله صلّى الله عليه وسلم في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة والسلام المتناولة له لغة، والدليل على الاستثناء
قوله صلّى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حيث لم يورث الزهراء رضي الله تعالى عنها من تركة أبيها صلّى الله عليه وسلم حتى قالت له بزعمهم:
يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا،
وقالوا: إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضا فهو غير متواتر بل آحاد، ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ [الطلاق: ٦] فقال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بقول امرأة. فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعا من قبوله، وأيضا العام- وهو الكتاب- قطعي، والخاص- وهو خبر الآحاد- ظني فيلزم ترك القطعي بالظني.
وقالوا أيضا: إن مما يدل على كذب الخبر قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: ١٦] وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه السلام: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم: ٦] فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون، والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص،
وقد أخرج البخاري عن مالك بن أوس ابن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالوا: اللهم نعم، ثم أقبل على عليّ والعباس فقال:
أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: اللهم نعم،
فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يلتفت إليه، وفي كتب الشيعة ما يؤيده،
فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري في الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر»
وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة فيعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث.
وقد ثبت أيضا بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة (١) من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه فإن تركة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا الأزواج المطهرات شيئا ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعا، فإذا ثبت من مجموع ما ذكرنا التواتر فحبذا ذلك لأن تخصيص القرآن بالخبر المتواتر جائز اتفاقا وإن لم يثبت وبقي الخبر
(١) كعلي كرم الله تعالى وجهه والحسن والحسين وعلي بن الحسين والحسن بن الحسن رضي الله تعالى عنهم اهـ منه.
427
من الآحاد فنقول: إن تخصيص القرآن بخبر الآحاد جائز على الصحيح وبجوازه قال الأئمة الأربعة، ويدل على جوازه أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خصصوا به من غير نكير فكان إجماعا، ومنه قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤] ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها فخص
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تنكحوا المرأة على عمتها ولا على خالتها»
والشيعة أيضا قد خصصوا عمومات كثيرة من القرآن بخبر الآحاد فإنهم لا يورثون الزوجة من العقار ويخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر، ويستندون في ذلك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك، والاحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر عمر رضي الله تعالى عنه مجاب عنه بأن عمر إنما رد خبر ابنة قيس لتردده في صدقها وكذبها، ولذلك قال بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك للظني بالظني وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوة والكمالات النفسانية لا وراثة العروض والأموال، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الأولى منهما كذلك ما
رواه الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا صلّى الله عليه وسلم وسليمان عليه السلام غير متصورة بوجه،
وأيضا إن داود عليه السلام- على ما ذكره أهل التاريخ- كان له تسعة عشر ابنا وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم فلا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لاشتراكهم فيها من غير خصوصية لسليمان عليه السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة.
وأيضا توصيف سليمان عليه السلام بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالا ولا يستدعي امتيازا لأن البر والفاجر يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه السلام، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضا أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه شيء بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه السلام كان باقيا غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى، وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثا جميع بني إسرائيل أحياء وأمواتا، وهذا أفحش من الأول، وإن كان المراد بعض الأولاد، أو أريد من يعقوب غير المتبادر، وهو ابن إسحاق عليهما السلام يقال: أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من الله تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته، والابن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف وليس المقام مقام تأكيد، وأيضا ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني واتصلت بحضائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه السلام ولدا ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه، ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف، فإن ذلك يقتضي صريحا كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها، وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية، وأيضا لا معنى لخوف زكريا عليه السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر، وأما إن كان في معصية فلأن الرجل إذا مات وانتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب على أن دفع هذا الخوف كان متيسرا له بأن يصرفه ويتصدق به في سبيل الله تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة واحتمال موت الفجأة.
وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم فما مراد ذلك النبي عليه السلام بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة فإنه عليه السلام خشي من أشرار
428
بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الإلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا علمه ولا يعملوا به ويكون ذلك سببا للفساد العظيم، فطلب الولد ليجري أحكام الله تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر واتصال الثواب، والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية، فإن قيل: الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة، فما الضرورة هنا؟ أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب، وأيضا لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الاستعمال في العرف مختصا بالمال، وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح، وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصا في استعمال القرآن المجيد، ومن ذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ [فاطر: ٣٢] وأورثوا الكتاب إلى غير ما آية، ومن الشيعة من أورد هنا بحثا، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم إذا لم يورث أحدا فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن؟
والجواب أن ذلك مغلطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنى كل حجرة لواحدة منهن فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بنى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل ذلك لفاطمة رضي الله تعالى عنها. وأمامة وسلمه إليهما، وكان كل من بيده شيء ما بناه له رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتصرف فيه تصرف المالك على عهده عليه الصلاة والسلام، ويدل على ما ذكر ما ثبت بإجماع أهل السنة، والشيعة أن الإمام الحسن رضي الله تعالى عنه لما حضرته الوفاة استأذن من عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وسألها أن تعطيه موضعا للدفن جوار جده المصطفى صلّى الله عليه وسلم فإنه إن لم تكن الحجرة ملك أم المؤمنين لم يكن للاستئذان والسؤال معنى وفي القرآن نوع إشارة إلى كون الأزواج المطهرات مالكات لتلك الحجر حيث قال سبحانه: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: ٣٣] فأضاف البيوت إليهنّ ولم يقل في بيوت الرسول، ومن أهل السنة من أجاب عن أصل البحث بأن المال بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم صار في حكم الوقف على جميع المسلمين فيجوز لخليفة الوقت أن يخص من شاء بما شاء كما خص الصديق جناب الأمير رضي الله تعالى عنهما بسيف ودرع وبغلة شهباء تسمى الدلدل. إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لم يرث النبي صلّى الله عليه وسلم بوجه، وقد صح أيضا أن الصديق أعطى الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة بعضا من متروكاته صلّى الله عليه وسلم وإنما لم يعط رضي الله تعالى عنه فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم فدكا مع أنها طلبتها إرثا وانحرف مزاج رضاها رضي الله تعالى عنها بالمنع إجماعا وعدلت عن ذلك إلى دعوى الهبة، وأتت بعلي والحسنين وأم أيمن للشهادة فلم تقم على ساق بزعم الشيعة، ولم تمكن لمصلحة دينية ودنيوية رآهما الخليفة إذ ذاك كما ذكره الأسلمي في الترجمة العبقرية والصولة الحيدرية وأطال فيه.
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه خص آية المواريث بما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخبره عليه الصلاة والسلام في حق من سمعه منه بلا واسطة مفيد للعلم اليقيني بلا شبهة والعمل بسماعة واجب عليه سوء سمعه غيره أو لم يسمع، وقد أجمع أهل الأصول من أهل السنة والشيعة على أن تقسيم الخبر إلى المتواتر وغيره بالنسبة إلى من لم يشاهدوا النبي صلّى الله عليه وسلم وسمعوا خبره بواسطة الرواة لا في حق من شاهد النبي صلّى الله عليه وسلم وسمع منه بلا واسطة،
فخبر «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
عند أبي بكر قطعي لأنه في حقه كالمتواتر بل أعلى كعبا منه، والقطعي يخصص القطعي اتفاقا، ولا تعارض بين هذا الخبر والآيات التي فيها نسبة الوراثة إلى الأنبياء عليهم السلام لما علمت، ودعوى الزهراء رضي الله تعالى عنها فدكا بحسب الوراثة لا تدل على كذب الخبر بل على عدم سماعه وهو
429
غير مخل بقدرها ورفعة شأنها ومزيد علمها، وكذا أخذ الأزواج المطهرات حجراتهن لا يدل على ذلك لما مر وحلا، وعدولها إلى دعوى الهبة غير متحقق عندنا بل المتحقق دعوى الإرث، ولئن سلمنا أنه وقع منها دعوى الهبة فلا نسلم أنها أتت بأولئك الأطهار شهودا، وذلك لأن المجمع عليه أن الهبة لا تتم إلا بالقبض ولم تكن فدك في قبضة الزهراء رضي الله تعالى عنها في وقت فلم تكن الحاجة ماسة لطلب الشهود، ولئن سلمنا أن أولئك الأطهار شهدوا فلا نسلم أن الصديق ردّ شهادتهم بل لم يقض بها، وفرق بين عدم القضاء هنا والرد، فإن الثاني عبارة عن عدم القبول لتهمة كذب مثلا، والأول عبارة عن عدم الإمضاء لفقد بعض الشروط المعتبر بعد العدالة، وانحراف مزاج رضا الزهراء كان من مقتضيات البشرية، وقد غضب موسى عليه السلام على أخيه الأكبر هارون حتى أخذ بلحيته ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئا على أن أبا بكر استرضاها رضي الله تعالى عنها مستشفعا إليها بعلي كرم الله تعالى وجهه فرضيت عنه- كما في مدارج النبوة وكتاب الوفاء وشرح المشكاة للدهلوي- وغيرها، وفي محاج السالكين. وغيره من كتب الإمامية المعتبرة ما يؤيد هذا الفصل حيث
رووا أن أبا بكر لما رأى فاطمة رضي الله تعالى عنها انقبضت عنه وهجرته ولم تتكلم بعد ذلك في أمر فدك كبر ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال: صدقت يا بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما ادعيت ولكن رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يؤتى منها قوتكم فما أنتم صانعون بها؟ فقالت: افعل فيها كما كان أبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل فيها فقال:
لك الله تعالى أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك، فقالت: والله لتفعلن؟ فقال: والله لأفعلن ذلك، فقالت: اللهم اشهد، ورضيت بذلك، وأخذت العهد عليه فكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي بين الفقراء والمساكين وابن السبيل،
وبقي الكلام في سبب عدم تمكينها رضي الله تعالى عنها من التصرف فيها، وقد كان دفع الالتباس وسد باب الطلب المنجر إلى كسر كثير من القلوب، أو تضييق الأمر على المسلمين.
وقد ورد «المؤمن إذا ابتلي ببليتين اختار أهونهما»
على أن رضا الزهراء رضي الله تعالى عنها بعد على الصديق سد باب الطعن عليه أصاب في المنع أم لم يصب، وسبحان الموفق للصواب والعاصم أنبياءه عن الخطأ في فصل الخطاب فَإِنْ كُنَّ نِساءً الضمير للأولاد مطلقا والخبر مفيد بلا تأويل، ولزوم تغليب الإناث على الذكور لا يضر لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له، ويجوز أن يعود الى المولودات أو البنات التي في ضمن مطلق الأولاد، والمعنى فإن كانت المولودات أو البنات نساء خلصا ليس معهن ذكر، وبهذا يفيد الحمل وإلا لاتحد الاسم والخبر فلا يفيد على أن قوله تعالى: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إذا جعل صفة- لنساء- فهو محل الفائدة، وأوجب ذلك أبو حيان فلم يجز ما أجازه غير واحد من كونه خبرا ثانيا ظنا منه عدم إفادة الحمل حينئذ وهو من بعض الظن كما علمت، وجوز الزمخشري أن تكون كان تامة، والضمير مبهم مفسر بالمنصوب على أنه تمييز ولم يرتضه النحاة لأن- كان- ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده لاختصاصه بباب نعم، والتنازع- كما قاله الشهاب- والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية، وفائدة ذكر ذلك التصريح بعدم اختصاص المراد بعدد دون عدد أي فَإِنْ كُنَّ نِساءً زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن.
فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ أي المتوفى منكم وأضمر لدلالة الكلام عليه، ومثله شائع سائغ وَإِنْ كانَتْ أي المولودة المفهومة من الكلام واحِدَةً أي امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت.
وقرأ نافع وأهل المدينة واحِدَةً بالرفع على أن كان تامة والمرفوع فاعل لها، ورجحت قراءة النصب بأنها أوفق بما قبل، وقال ابن تمجيد: القراءة بالرفع أولى وأنسب للنظم لتفكك النظم في قراءة النصب بحسب الظاهر، فإنه إن
430
كان ضمير كان راجعا إلى الأولاد فسد المعنى كما هو ظاهر، وإن كان راجعا إلى المولودة كما قالوه يلزم الإضمار قبل الذكر، وكلا الأمرين مرتفع على قراءة الرفع إذ المعنى وإن وجدت بنت واحدة من تلك الأولاد، والمحققون لا ينكرون مثل هذا الإضمار كما علمت آنفا فَلَهَا النِّصْفُ أي مِمَّا تَرَكَ وترك اكتفاء بالأول والنِّصْفُ مثلث كما في القاموس أحد شقي الشيء، وقرأ زيد بن ثابت النِّصْفُ بضم النون وهي لغة أهل الحجاز، وذكر أنها أقيس لأنك تقول: الثلث والربع والخمس وهكذا وكلها مضمومة الأوائل. وأخذ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بظاهر الآية فجعل الثلثين لما زاد على البنتين كالثلاث فأكثر، وجعل نصيب الاثنتين النصف كنصيب الواحدة، وجمهور الصحابة والأئمة والإمامية على خلافه حيث حكموا بأن للاثنتين وما فوقهما الثلثين، وأن النصف إنما هو للواحدة فقط، ووجه ذلك- على ما قاله القطب- أنه لما تبين أن للذكر مع الأنثى ثلثين إذ للذكر مثل حظ الأنثيين فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الثلثين ليس بحظ لهما أصلا لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الاثنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان فتعين أن تكون صورة الانفراد، وإلى هذا أشار السيد السند في شرح السراجية، وأورد أن الاستدلال دوري لأن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة موقوفة على معرفة حظ الأنثيين لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور، وأجيب بأن المستخرج هو حظ المعين للأنثيين وهو الثلثان، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا فلا دور، ولما في هذا الوجه من التكلف عدل عنه بعض المحققين، وذكر أن حكم البنتين مفهوم من النص بطريق الدلالة، أو الإشارة، وذلك لما
رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد وأن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يقضي الله تعالى في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله ﷺ إلى عمهما فقال: أعط لابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك».
فدل ذلك على أن انفهام الحكم من النص بأحد الطريقين لأنه حكم به بعد نزول الآية، ووجهه أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إذا انفردا عنه استحقتا أكثر من ذلك لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعد ما كانت معه تأخذ الثلث ولا بد أن يكون نصيبهما كما يأخذه الذكر في الجملة وهو الثلثان لأنه يأخذه مع البنت (١) فيكون قوله سبحانه: فَإِنْ كُنَّ نِساءً إلخ بيانا لحظ الواحدة، وما فوق الثنتين بعد ما بين حظهما ولذا فرعه عليه إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها، وهذا مما لا غبار عليه، وقيل: إن حكم البنتين ثبت بالقياس على البنت مع أخيها أو على الأختين.
أما الأول فلأنها لما استحقت البنت الثلث مع الأخ فمع البنت بالطريق الأولى، وأما الثاني فلأنه ذكر حكم الواحدة والثلاث فما فوقها من البنات ولم يذكر حكم البنتين، وذكر في ميراث الأخوات حكم الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر حكم الأخوات الكثيرة فيعلم حكم البنتين من ميراث الأخوات وحكم الأخوات من ميراث البنات لأنه لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثلثين فبالأولى أن لا يزداد نصيب الأخوات على ذلك، وقد ذهب إلى هذا غير واحد من المتأخرين، وجعله العلامة ناصر
(١) وليس هذا بطريق القياس بل بطريق الدلالة أو الإشارة اهـ منه.
431
الدين مؤيدا ولم يجعله دليلا للاستغناء عنه بما تقدم، ولأنه قيل: إن القياس لا يجري في الفرائض والمقادير، ونظر بعضهم في الأول بأن البنت الواحدة لم تستحق الثلث مع الأخ بل تستحق نصف حظه وكونه ثلثا على سبيل الاتفاق ولا يخفى ضعفه، وقيل: يمكن أن يقال: ألحق البنتان بالجماعة لأن وصف النساء يفوق اثنتين للتنبيه على عدم التفاوت بين عدد وعدد، والبنتان تشارك الجماعة في التعدد، وقد علم عدم تأثير القلة والكثرة، فالظاهر إلحاقهما بالجماعة بجامع التعدد، وعدم اعتبار القلة والكثرة دون الواحدة لعدم الجامع بينهما.
وقيل: إن معنى الآية فَإِنْ كُنَّ نِساءً اثنتين فما فوقهما إلا أنه قدم ذكر الفوق على الاثنتين كما
روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها»
فإن معناه لا تسافر سفرا ثلاثة أيام فما فوقها، وإلى ذلك ذهب من قال: إن أقل الجمع اثنان، واعترض على ابن عباس رضي الله تعالى عنه بأنه لو استفيد من قوله سبحانه: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أن حال الاثنتين ليس حال الجماعة بناء على مفهوم الصفة فهو معارض بأنه يستفاد من واحدة أن حالهما ليس حال الواحدة لمفهوم العدد، وقد قيل به، وأجيب بالفرق بينهما فإن النساء ظاهر فيما فوقهما فلما أكد به صار محكما في التخصيص بخلاف وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً وأورد عليه بأن هذا إنما يتم على تقدير كون الظرف صفة مؤكدة لا خبرا بعد خبر، وأجيب بأن قوله سبحانه: نِساءً ظاهر في كونها فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فعدم الاكتفاء به والإتيان بخبر بعده يدل دلالة صريحة على أن الحكم مقيد به لا يتجاوزه، وأيضا مما ينصر الحبر أن الدليلين لما تعارضا دار أمر البنتين بين الثلثين والنصف، والمتيقن هو النصف، والزائد مشكوك غير ثابت، فتعين المصير إليه، ولا يخفى أن الحديث الصحيح الذي سلف يهدم أمر التمسك بمثل هذه العرى، ولعله لم يبلغه رضي الله تعالى عنه ذلك- كما قيل- فقال ما قال، وفي شرح الينبوع نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في شرح فرائض الوسيط: صح رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن ذلك فصار إجماعا وعليه فيحتمل أنه بلغه الحديث، أو أنه أمعن النظر في الآية ففهم منها ما عليه الجمهور فرجع إلى وفاقهم.
وحكاية النظام عنه رضي الله تعالى عنه في كتاب النكت أنه قال: للبنتين نصف وقيراط لأن للواحدة النصف ولما فوق الاثنتين الثلثين فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما مما لا تكاد تصح فافهم وَلِأَبَوَيْهِ أي الميت ذكرا كان أو أنثى غير النظم الكريم لعدم اختصاص حكمه بما قبله من الصور بل هو في الحقيقة شروع في إرث الأصول بعد ذكر إرث الفروع، والمراد من الأبوين الأب والأم تغليبا للفظ الأب، ولا يجوز أن يقال في ابن وبنت ابنان للإيهام فإن لم يوهم جاز ذلك كما قاله الزجاج لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من لِأَبَوَيْهِ بتكرير العامل، وسط بين المبتدأ وهو قوله تعالى: السُّدُسُ والخبر، وهو لأبويه- وزعم ابن المنير أن في إعرابه بدلا نظرا، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، ويكون أصل الكلام- والسدس- لأبويه لكل واحد منهما ومقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس كما قال سبحانه: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فاقتضى اشتراكهن فيه، ومقتضى البدل لو قدر إهدار الأول إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل إذ يلزم فيه أن يكون مؤدى المبدل منه والبدل واحدا، وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الإعراب، وإلا لزم زيادة معنى في البدل، فالوجه أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا فصله بقوله: لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وساغ حذف المبتدأ لدلالة التفصيل عليه ضرورة إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما السدس استحقاقهما معا للثلث، ورده أبو حيان بأن هذا بدل بعض من كل، ولذلك أتى
432
بالضمير، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصنعان كذا، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا، بل تقول: يصنع كذا إلا أنه اعترض على جعل لِأَبَوَيْهِ خبر المبتدأ بأن البدل هو الذي يكون خبر المبتدأ في أمثال ذلك دون المبدل منه كما في المثال، وتعقبه الحلبي بأن في هذه المناقشة نظرا لأنه إذا قيل لك: ما محل لِأَبَوَيْهِ من الإعراب؟ تضطر إلى أن تقول: إنه في محل رفع على أنه خبر مقدم.
ولكنه نقل نسبة الخبرية إلى كل واحد منهما دون لِأَبَوَيْهِ واختير هذا التركيب دون أن يقال: ولكل واحد من أبويه السُّدُسُ لما في الأول من الإجمال، والتفصيل الذي هو أوقع في الذهن دون الثاني، ودون أن يقال:
لِأَبَوَيْهِ السدسان للتنصيص على تساوي الأبوين في الأول وعدم التنصيص على ذلك في الثاني لاحتماله التفاضل، وكونه خلاف الظاهر لا يضر لأنه يكفي نكتة للعدول.
وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة السُّدُسُ بالتخفيف وكذلك الثلث والربع والثمن مِمَّا تَرَكَ متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في الظرف الراجع إلى المبتدأ، والعامل الاستقرار أي كائنا مِمَّا تَرَكَ المتوفى إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر، وولد الابن كذلك، ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له وإن كانوا ذكورا فالباقي لهم بالسوية، وإن كانوا ذكورا وإناثا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وإن كانت بنتا فلها النصف ولأحد الأبوين السدس، أولهما السدسان والباقي يعود للأب إن كان لكن بطريق العصوبة وتعدد الجهات منزل منزلة تعدد الذوات، وإن كان هناك أم وبنت فقط فالباقي بعد فرض الأم والبنت يرد عليهما، وزعمت الإمامية في صورة أبوين أو أب أو أم وبنت أن الباقي بعد أخذ كل فرضه يرد على البنت، وعلى أحد الأبوين أو عليهما بقدر سهامهم فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ولا ولد ابن وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فقط وهو مأخوذ من التخصيص الذكرى كما تدل عليه الفحوى فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض انحصار الوارث في أبويه، وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وهو مما أجمع عليه المسلمون، وقيل: إنما لم يذكر لأن المقصود تغيير السهم، وفي هذه الصورة لم يتغير إلا سهم الأم وسهم الأب بحاله، وإنما يأخذ الباقي بعد سهمه وسهم الأم بالعصوبة فليس المقام مقام حصة الأب- وفيه تأمل- لأن الظاهر أن أخذ الأب الباقي بعد فرض الأم بطريق العصوبة وبه صرح الفرضيون، وتخصيص جانب الأم بالذكر وإحالة جانب الأب على دلالة الحال مع حصول البيان بالعكس أيضا لذلك، ولما أن حظها أخصر واستحقاقه أتم وأوفر هذا إذا لم يكن معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما ذلك وتسمى المسألتان بالغراوين وبالغريبتين وبالعمريتين، فللأم ثلث ما بقي بعد فرض أحدهما عند جمهور الصحابة والفقهاء لا ثلث الكل خلافا لابن عباس رضي الله تعالى عنهما مستدلا بأنه تعالى جعل لها أولا سدس التركة مع الولد بقوله سبحانه: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ثم ذكر أن لها مع عدمه الثلث بقوله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فيفهم منه أن المراد ثلث أصل التركة أيضا.
ويؤيده أن السهام المقدرة كلها بالنسبة إلى أصلها بعد الوصية والدين، وإلى ذلك ذهبت الإمامية وكان أبو بكر الأصم يقول: بأن لها مع الزوج ثلث ما يبقى من فرضه ومع الزوجة ثلث الأصل، ونسب إلى ابن سيرين لأنه لو جعل لها مع الزوج ثلث جميع المال لزم زيادة نصيبها على نصيب الأب لأن المسألة حينئذ من ستة لاجتماع النصف والثلث فللزوج ثلاثة وللأم اثنان على ذلك التقدير فيبقى للأب واحد، وفي ذلك تفضيل الأنثى على الذكر، وإذا جعل لها ثلث ما بقي من فرض الزوج كان لها واحد وللأب اثنان ولو جعل لها مع الزوجة ثلث الأصل لم يلزم ذلك التفضيل لأن
433
المسألة من اثني عشر لاجتماع الثلث والربع، فإذا أخذت الأم أربعة بقي للأب خمسة فلا تفضيل لها عليه، ورجح مذهب الجمهور على مذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بخلوه عن الإفضاء إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب بل الأقوى منها في الإرث بدليل إضعافه عليها عند انفرادهما عن أحد الزوجين، وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع، وهذا الإفضاء ظاهر في المسألة الأولى، وبذلك علل زيد بن ثابت حكمه فيها مخالفا لابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق والبيهقي عن عكرمة قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين. فقال زيد: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال فأرسل إليه ابن عباس أفي كتاب الله تعالى تجد هذا؟ قال: لا ولكن أكره أن أفضل أما على أب، ولا يخفى أن هذا لا ينتهض مرجحا لمذهب الجمهور على مذهب الأصم، ومن هنا قال السيد السند وغيره في نصرة مذهبهم عادلين عن المسلك الذي سلكناه: إن معنى قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ هو أن لها ثلث ما ورثاه سواء كان جميع المال أو بعضه، وذلك لأنه لو أريد ثلث الأصل لكفى في البيان فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث كما قال تعالى في حق البنات: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ بعد قوله سبحانه: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فيلزم أن يكون قوله تعالى: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ خاليا عن الفائدة، فإن قيل: نحمله على أن الوراثة لهما فقط قلنا: ليس في العبارة دلالة على حصر الإرث فيهما وإن سلم فلا دلالة في الآية حينئذ على صورة النزاع لا نفيا ولا إثباتا، فيرجع فيهما إلى أن الأبوين في الأصول كالابن والبنت في الفروع لأن السبب في وراثة الذكر والأنثى واحد وكل منهما يتصل بالميت بلا واسطة فيجعل ما بقي من فرض أحد الزوجين بينهما أثلاثا كما في حق الابن والبنت وكما في حق الأبوين إذا انفردا بالإرث فلا يزيد نصيب الأم على نصف نصيب الأب كما يقتضيه القياس فلا مجال لما ذهب إليه الأصم أيضا على هذا، وليته سمع ذلك فليفهم.
وقد اختلفوا أيضا في حظ الأم فيما إذا كان مكان الأب جد وباقي المسألة على حالها، فمذهب ابن عباس وإحدى الروايتين عن الصديق، وروى ذلك أهل الكوفة عن ابن مسعود في صورة الزوج وحده أن للأم ثلث جميع المال. وقول أبي يوسف- وهو الرواية الأخرى- عن الصديق رضي الله تعالى عنه: إن لها ثلث الباقي كما مع الأب فعلى هذه الرواية جعل الجد كالأب فيعصب الأم كما يعصبها الأب، والوجه على الرواية الأولى على ما ذكره الفرضيون هو أنه ترك ظاهر قوله تعالى: فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ في حق الأب، وأول بما مر لئلا يلزم تفضيلها عليه مع تساويهما في القرب في الرتبة، وأيد التأويل بقول أكثر الصحابة، وأما في حق الجد فأجرى على ظاهره لعدم التساوي في القرب وقوة الاختلاف فيما بين الصحابة ولا استحالة في تفضيل الأنثى على الذكر مع التفاوت في الدرجة كما إذا ترك امرأة وأختا لأم وأب وأخا للأب، فإن للمرأة الربع، وللأخت النصف وللأخ لأب الباقي، فقد فضلت هاهنا الأنثى لزيادة قربها على الذكر، وأيضا للأم حقيقة الولاد كما للأب فيعصبها والجد له حكم الولاد لا حقيقته فلا يعصبها إذ لا تعصيب مع الاختلاف في السبب بل مع الاتفاق فيه فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الجمهور على أن المراد بالإخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانوا من الإخوة أو الأخوات، وسواء كانوا من جهة الأبوين، أو من جهة أحدهما.
وخالف ابن عباس في ذلك فإنه جعل الثلاثة من الإخوة والأخوات حاجبة للأم دون الاثنين فلها معهما الثلث عنده بناء على أن الإخوة صيغة الجمع فلا يتناول المثنى، وبهذا حاج عثمان بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن جرير والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال: إن الأخوين لا يردان الأم عن
434
الثلث وتلا الآية. والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس، وقال الجمهور: إن حكم الاثنين في باب الميراث حكم الجماعة، ألا يرى أن البنتين كالبنات، والأختين كالأخوات في استحقاق الثلثين فكذا في الحجب وأيضا معنى الجمع المطلق مشترك بين الاثنين وما فوقهما، وهذا المقام يناسب الدلالة على الجمع المطلق فدل بلفظ الإخوة عليه بل قال: جمع إن صيغة الجمع حقيقة في الاثنين كما فيما فوقهما في كلام العرب، فقد أخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له: يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ وأنت تحجبها بأخوين فقال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة، وهذا يعارض الخبر السابق عن ابن عباس فإنه صريح في أن صيغة الجمع لا تقال على اثنين في لغة العرب، وعثمان رضي الله تعالى عنه سلم ذلك إلا أنه احتج بأن إطلاق الإخوة على الأعم كان إجماعا.
ومن هنا اختلف الناس في مدلول صيغة الجمع حقيقة، وصرح بعض الأصوليين أنها في الاثنين في المواريث والوصايا ملحقة بالحقيقة، والنحاة على خلاف ذلك وخالف ابن عباس أيضا في توريث الأم السدس مع الإناث الخلص لأن الإخوة جمع أخ فلا يشمل الأخت إلا بطريق التغليب، والخلص لا ذكور معهم فيغلبون، وهو كلام متين إلا أن العمل على اختلافه اعتبارا لوصف الإخوة في الآية للإجماع على ذلك قبل ظهور خلاف ابن عباس وخرق الإجماع إنما يحرم على من لم يكن موجودا عنده، وذهب الزيدية والإمامية إلى أن الإخوة لأم لا يحجبونها بخلاف غيرهم فإن الحجب هاهنا بمعنى معقول كما يشير إليه كلام قتادة، وهو أنه إن كان هناك إخوة لأب وأم أو لأب فقد كثر عيال الأب فيحتاج إلى زيادة مال للإنفاق، وهذا المعنى لا يوجد فيما إذا كان الإخوة لأم إذ ليس نفقتهم على الأب، والجمهور ذهبوا إلى عدم الفرق لأن الاسم حقيقة في الأصناف الثلاثة، وهذا حكم غير معقول المعنى ثبت بالنص، ألا يرى أنهم يحجبون الأم بعد موت الأب ولا نفقة عليه بعد موته ويحجبونها كبارا أيضا وليست عليه نفقتهم، ثم الشائع المعلوم من خارج أو من الآية في رأي أن الإخوة يحجبون الأم حجب نقصان، وإن كانوا محجوبين بالأب حجب حرمان، ويعود السدس الذي حجبوها عنه للأب- وهو مذهب جمهور الصحابة أيضا- ويروى عن ابن عباس أنه للإخوة لأنهم إنما حجبوها عنه ليأخذوه فإن غير الوارث لا يحجب كما إذا كانت الإخوة كفارا أو أرقاء، وقد يستدل عليه بما
رواه طاوس مرسلا أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الإخوة السدس مع الأبوين.
وللجمهور- كما قال الشريف- إن صدر الكلام يدل على أن لأمه الثلث والباقي للأب فكذا الحال في آخره كأنه قيل: فإن كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس ولأبيه الباقي، ثم إن شرط الحاجب أن يكون وارثا في حق من يحجبه، والأخ المسلم وارث في حق الأم بخلاف الرقيق والكافر، فالإخوة يحجبونها وهم يحجبون بالأب، ألا يرى أنهم لا يرثون مع الأب شيئا عند عدم الأم لأنهم كلالة فلا ميراث لهم مع الوالد، وليس حال الإخوة مع الأم بأقوى من حالهم مع عدمها،
وقد روي عن طاوس أنه قال: لقيت ابن رجل من الإخوة الذين أعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم السدس مع الأبوين وسألته عن ذلك فقال: كان ذلك وصية
وحينئذ صار الحديث دليلا للجمهور إذ لا وصية لوارث، والظاهر أنه لا صحة لهذه الرواية عن ابن عباس لأنه يوافق الصديق رضي الله تعالى عنه في حجب الجد للإخوة فكيف يقول بإرثهم مع الأب كذا في شرح الإمام السرخسي، وفي الدر المنثور أن ابن جرير، وعبد الرزاق والبيهقي عنه، وقرأ حمزة والكسائي «فلإمه» بكسر الهمزة اتباعا لكسرة اللام، وقيل: إنه اتباع لكسرة الميم، وضعف بأن فيه اتباع حركة أصلية لحركة عارضة وهي الإعرابية، وقيل: إنه لغة في الأم، وأنكرها الشهاب، وفي القاموس الأم- وقد تكسر- الوالدة، ويقال: أمة وأمهة وتجمع على أمات وأمهات، وهذه لمن يعقل، وأمات لما لا يعقل، وحكي ذلك في الصحاح عن
435
بعضهم مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ متعلق- بيوصيكم- والكلام على حذف مضاف بناء على أن المراد من الوصية المال الموصى به، والمعنى أن هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية.
وجوز أن يكون حالا من السدس، والتقدير مستحقا من بعد ذلك والعامل فيه الجار والمجرور الواقع خبرا لاعتماده، ويقدر لما قبله مثله كالتنازع، وقيل: إنه متعلق بكون عام محذوف أي استقر ذلك لهؤلاء مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها الميت.
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو بكر عن عاصم يُوصِي مبنيا للمفعول مخففا، وقرئ «يوصّي» مبنيا للفاعل مشددا، والجملة صفة وَصِيَّةٍ وفائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها، وقيل: التعميم لأن الوصية لا تكون إلا موصى بها أَوْ دَيْنٍ عطف على وصية إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف السابق فلا يتوقف إخراج الدين على الإيصاء به بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة والإقرار في الصحة، وإيثار أَوْ على الواو للإيذان بتساويهما في الوجوب وتقدمهما على القسمة مجموعين أو مفردين، وتقديم الوصية على الدين ذكرا مع أن الدين مقدم عليها حكما كما قضى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه علي كرم الله تعالى وجهه، وأخرجه عنه جماعة- لإظهار كمال العناية بتنفيذها لكونها مظنة للتفريط في أدائها حيث إنها تؤخذ كالميراث بلا عوض فكانت تشق عليهم ولأن الجميع مندوب إليها حيث لا عارض بخلاف الدين في المشهور مع ندرته أو ندرة تأخيره إلى الموت، وقال ابن المنير: إن الآية لم يخالف فيها الترتيب الواقع شرعا لأن أول ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية، ثم اقتسام ذوي الميراث، فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا تلو إخراج الوصية والوصية تلو الدين فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية، والدين صورة الواقع شرعا، ولو سقط ذكر بَعْدِ وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين لأمكن ورود السؤال المذكور وهو من الحسن بمكان آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً الخطاب للورثة، وآباؤُكُمْ مبتدأ، ووَ أَبْناؤُكُمْ معطوف عليه، ولا تَدْرُونَ مع ما في حيزه خبر له، وأي- إما استفهامية مبتدأ، وأَقْرَبُ خبره، والفعل معلق عنها فهي سادة مسدّ المفعولين، وإما موصولة، وأَقْرَبُ خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة الموصول وهو مفعول أول مبني على الضم لإضافته، وحذف صدر صلته، والمفعول الثاني محذوف، ونَفْعاً نصب على التمييز، وهو منقول من الفاعلية، والجملة اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية.
والآباء والأبناء عبارة عن الورثة الأصول والفروع، فيشمل البنات والأمهات والأجداد والجدات، أي أصولكم وفروعكم الذين يموتون قبلكم لا تعلمون من أنفع لكم منهم أمن أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، أم من لم يوص فوفر عليكم عرض الدنيا، وليس المراد- كما قال شيخ الإسلام- بنفي الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم، وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان لأحدهما على الآخر فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور، والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية، وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكيرا لمناط زعمهم وتعيينا لمنشأ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الصواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل: لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع أن الأمر بخلافه فإن ما يترتب على الأول الثواب الدائم في الآخرة، وما يترتب على الثاني العرض الفاني في الحياة الدنيا، والأول لبقائه هو الأقرب الأدنى، والثاني لفنائه هو الأبعد الأقصى، واختار كثير من المحققين
436
كون الجملة اعتراضا مؤكدا لأمر القسمة، وجعل الخطاب للمورثين، وتوجيه ذلك أنه تعالى بين أنصباء الأولاد والأبوين فيما قبل وكانت الأنصباء مختلفة، والعقول لا تهتدي إلى كمية ذلك. فربما يخطر للإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح كما تعارفه أهل الجاهلية حيث كانوا يورثون الرجال الأقوياء، ولا يورثون الصبيان والنسوان الضعفاء فأنكر الله تعالى عليهم ما عسى أن يخطر ببالهم من هذا القبيل، وأشار إلى قصور أذهانهم فكأنه قال: إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فلا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه، وكونوا مطيعين لأمر الله تعالى في هذه التقديرات التي قدرها سبحانه فإنه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها، ووجه الحكمة فيما قدره ودبره وهو العليم الحكيم، والنفع على هذا أعم من الدنيوي والأخروي وانتفاع بعضهم ببعض في الدنيا يكون بالإنفاق عليه والتربية له والذب عنه مثلا، وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة،
فقد أخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به،
وإلى هذا ذهب الحسن رحمه الله تعالى، وخص مجاهد النفع بالدنيوي وخصه بعضهم بالأخروي.
وذكر أن المعنى لا تدرون أي الآباء من الوالدين والوالدات وأي الأبناء من البنين والبنات أقرب لكم نفعا لترفعوا إليهم في الدرجة في الآخرة، وإذا لم تدروا فادفعوا ما فرض الله تعالى وقسم ولا تقولوا: لماذا أخر الأب عن الابن ولأي شيء حاز الجميع دون الأم والبنت، واعترض بأن ذلك غير معلل بالنفع حتى يتم ما ذكر وأنه يدل على أن من قدم في الورثة، أو ضوعف نصيبه أنفع ولا كذلك، والجواب بأنه أريد أن المنافع لما كانت محجوبة عن درايتكم فاعتقدوا فيه نفعا لاتصل إليه عقولكم بعيد لعدم فهمه من السياق، ويرد نحو هذا على ما اختار الكثير، وربما يقال:
المعنى أنكم لا تدرون أي الأصول والفروع أقرب لكم نفعا فضلا عن النفع فكيف تحكمون بالقسمة حسب المنفعة وهي محجوبة عن درايتكم بالمرة، والكلام مسوق لردّ ما كان في الجاهلية فإن أهل الجاهلية كانوا- كما قال السدي- لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، وعن ابن عباس أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر، وهذا مشعر بأن مدار الإرث عندهم الأنفعية مع العلاقة النسبية فرد الله تعالى عليهم بأن الأنفعية لا تدرونها فكيف تعتبرونها والغرض من ذلك الإلزام لا بيان أن الأنفعية معتبرة في نفس الأمر إلا أنهم لا يدرونها، ولعله على هذا لا يرد ما تقدم من الاعتراض فتدبر، وقيل: إن المراد من الآية إنكم لا تدرون أي الوارثين والمورثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه، ونسب إلى أبي مسلم، ولا يخفى مزيد بعده فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه على حدّ هذا ابني حقا لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا أي فرض ذلك فريضة من الله: وقيل: إنه ليس بمصدر بل هو اسم مفعول وقع حالا، والتقدير لهؤلاء الورثة هذه السهام حال كونها مفروضة من الله تعالى، وقيل: بل هو مصدر إلا أنه مؤكد لفعله وهو يوصيكم السابق على غير لفظه إذ المعنى يفرض عليكم وأورد عليه عصام الملة أن المصدر إذا أضيف لفاعله أو مفعوله أو تعلقا به يجب حذف فعله كما صرح به الرضي إلا أن يفرق بين صريح المصدر وما تضمنه لكن لا بدّ لهذا من دليل ولم نطلع عليه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بالمصالح والرتب حَكِيماً في كل ما قضى وقدر فتدخل فيه أحكام المواريث دخولا أوليا، وموقع هذه الجملة هنا موقع قوله تعالى للملائكة: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة:
٣٠] والخبر عن الله تعالى بمثل هذه الألفاظ- كما قال الخليل- كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن
437
الدخول تحت الزمان، وقال سيبويه: القوم لما شاهدوا علما وحكمة وفضلا وإحسانا تعجبوا فقيل لهم: إن الله تعالى كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات فلا حاجة إلى القول بزيادة كان كما ذهب إليه البعض.
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إن دخلتم بهن أولا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو متعددا منكم كان أو من غيركم، ولذا قال سبحانه: لَهُنَّ ولم يقل لكم، ولا فرق بين أن يكون الولد من بطن
438
الزوجة، وأن يكون من صلب بنيها أو بني بنيها إلى حيث شاء الله تعالى فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ على ما ذكر من التفصيل، وروي عن ابن عباس أن ولد الولد لا يحجب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذكر تقدير عدم الولد وبيان حكمه مستتبع لتقدير وجوده وبيان حكمه فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ من المال والباقي في الصورتين لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام، أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ متعلق بكلتا الصورتين لا بما يليه وحده، والكلام على فائدة الوصف وكذا على تقديم الوصية ذكرا قد مر آنفا فلا فائدة في ذكره وَلَهُنَّ أي الأزواج تعددن أو لا الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ عى التفصيل المتقدم.
فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ فرض للرجل بحق الزواج (١) ضعف ما فرض للمرأة كما في النسب لمزية عليها ولذا اختص بتشريف الخطاب، وتقديم ذكر حكم ميراثه وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى من ذلك إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة لاستواء الذكر والأنثى منهم وَإِنْ كانَ رَجُلٌ المراد بالرجل الميت وهو اسم كان يُورَثُ على البناء للمفعول من ورث الثلاثي خبر كان، والمراد يورث منه فإن ورث تتعدى بمن وكثيرا ما تحذف كَلالَةً هي في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو الاعياء قال الأعشى:
فآليت لا أرثي لها من (كلالة)... ولا من حفي حتى ألاقي محمدا
ثم استعيرت واستعملت استعمال الحقائق للقرابة من غير جهة الوالد والولد بضعفها بالنسبة إلى قرابتهما، وتطلق على من لم يخلف والدا ولا ولدا، وعلى من ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القرابة على ذوي القرابة وجعل ذلك بعضهم من باب التسمية بالمصدر وآخرون جوزوا كونها- صفة- كالهجاجة- للأحمق قال الشاعر:
«هجاجة» منتخب الفؤاد... كأنه نعامة في واد
وتستعمل في المال الموروث مما ليس بوالد ولا ولد إلا أنه استعمال غير شائع وهي في جميع ذلك لا تثنى ولا تجمع، واختار كثيرون كون أصلها من تكلله النسب إذ أحاط به، ومن ذلك الإكليل لإحاطته بالرأس، والكل لإحاطته بالعدد، وقال الحسين بن علي المغربي: أصل الكلالة عندي ما تركه الإنسان وراء ظهره آخذا من الكلّ وهو الظهر والقفا، ونصبها (٢) على أنها مفعول له أي يورث منه لأجل القرابة المذكورة، أو على أنها حال من ضمير يورث أي حال كونه ذا كلالة، واختاره الزجاج، أو على أنها خبر لكان ويُورَثُ صفة لرجل أي إِنْ كانَ رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد، وذكر أبو البقاء احتمال كون كانَ تامة، ورَجُلٌ فاعلها، ويُورَثُ صفة له، وكَلالَةً حال من الضمير في يورث، واحتمال نصبها على هذا الاحتمال على أنها مفعول له أيضا ظاهر، وجوز فيها الرفع على أنها صفة، أو بدل من الضمير إلا أنه لم يعرف أحد قرأ به فلا يجوز القراءة به أصلا، وجعل نصبها على الاستعمال الغير الشائع على أنها مفعول ثان ليورث.
وقرئ «يورث»، و «يورّث» بالتخفيف والتشديد على البناء للفاعل، فانتصاب كَلالَةً إما على أنها حال من
(١) كقتال اهـ منه.
(٢) وجوز نصبها على أنها خبر ثان إن أريد أحد الملابسين. وعلى التمييز إن أريد المصدر اهـ منه. [.....]
439
ضمير الفعل والمفعول محذوف أي يُورَثُ وارثه حال كونه ذا كَلالَةً، وإما على أنها مفعول به أي يُورَثُ ذا كلالة، وإما على أنها مفعول له أي يورث لأجل الكلالة كذا قالوا، ثم إن الذي عليه أهل الكوفة. وجماعة من الصحابة والتابعين هو أن الكلالة هنا بالمعنى الثالث، وروي عن آخرين، منهم ابن جبير وصح به خبر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- أنها بالمعنى الثاني، ولم نر نسبة القولين الآخرين لأحد من السلف، والأول منهما غير بعيد، والثاني سائغ إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى أَوِ امْرَأَةٌ عطف على رجل مقيد بما قيد به، وكثيرا ما يستغني بتقييد المعطوف عليه عن تقييد المعطوف، ولعل فصل ذكرها عن ذكره فللإيذان بشرفه وأصالته في الأحكام، وقيل:
لأن سبب النزول كان بيان حكمه بناء على ما
روي عن جابر أنه قال: أتاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا مريض فقلت: كيف الميراث وإنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض لذلك
وَلَهُ أي الرجل، وتوحيد الضمير لوجوبه فيما وقع بعد، أو حتى أن ما ورد على خلاف ذلك مؤول عند الجمهور كقوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: ١٣٥] وأتى به مذكرا للخيار بين أن يراعي المعطوف أو المعطوف عليه في مثل ذلك، وقد روعي هنا المذكر لتقدمه ذكرا وشرافة، ويجوز أن يكون الضمير لواحد منهما، والتذكير للتغليب، وجوز أن يكون راجعا للميت، أو الموروث ولتقدم ما يدل عليه، وأبعد من جوز أن يكون عائدا للرجل، وضمير المرأة محذوف. والمراد وله أولها أَخٌ أَوْ أُخْتٌ أي من الأم فقط- وعلى ذلك عامة المفسرين- حتى أن بعضهم حكى الإجماع عليه.
وأخرج غير واحد عن سعيد أبي وقاص أنه كان يقرأ وله أخ أو أخت من أم، وعن أبي من الأم، وهذه القراءة وإن كانت شاذة إلا أن كثيرا من العلماء استند إليها بناء على أن الشاذ من القراءات إذا صح سنده كان كخبر الواحد في وجوب العمل به خلافا لبعضهم، ويرشد إلى هذا القيد أيضا أن أحكام بني الأعيان والعلات هي التي تأتي في آخر السورة الكريمة، وأيضا ما قدر هنا لكل واحد من الأخ والأخت، وللأكثر وهو السدس، والثلث هو فرض الأم، فالمناسب أن يكون ذلك لأولاد الأم، ويقال لهم إخوة أخياف، وبنو الأخياف، والإضافة بيانية، والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير يورث. أو من رجل على تقدر كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألة، وذكر الكلالة لتحقيق جريان الحكم المذكور، وإن كان مع من ذكر ورثة أخرى بطريق الكلالة ولا يضر عند من لم يقل بالمفهوم جريانه في صورة الأم، أو الجدة مع أن قرابتهما ليس بطريق الكلالة، وكذا لا يضر عند القائل به أيضا للإجماع على ذلك فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا أي الأخت والأخ السُّدُسُ مما ترك من غير تفضيل للذكر على الأنثى، ولعله إنما عدل عن- فله السدس- إلى هذا دفعا لتوهم أن المذكور حكم الأخ، وترك حكم الأخت لأنه يعلم منه أن لها نصف الأخ بحكم الأنوثة والحكمة في تسوية الشارع بينهما تساويهما في الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة فَإِنْ كانُوا أي الإخوة والأخوات من الأم المدلول عليهم بما تقدم والتذكير للتغليب أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ أي المذكور بواحد، أو بما فوقه والتعبير باسم الإشارة دون الواحد لأنه لا يقال أكثر من الواحد حتى لو قيل أول بأن المعنى زائدا عليه، وبعض المحققين التزم التأويل هنا أيضا إذ لا مفاضلة بعد انكشاف حال المشار إليه، ولعل التعبير باسم الإشارة حينئذ تأكيد الإشارة إلى أن المسألة فرضية، والفاء لما مر من أن ذكر احتمال الانفراد مستتبع لذكر احتمال العدد.
فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ يقتسمونه فيما بينهم بالسوية، وهذا مما لا خلاف فيه لأحد من الأمة، والباقي لباقي الورثة من أصحاب الفروض والعصبات، وفيه خلاف الشيعة، هذا ومن الناس من جوز أن يكون يُورَثُ في القراءة المشهورة مبنيا للمفعول من أورث على أن المراد به الوارث، والمعنى وإن كان رجل يجعل وارثا لأجل الكلالة أو ذا كلالة أي غير والد ولا ولد، ولذلك الوارث أخ أو أخت فلكل من ذلك الوارث، أو أخيه أو أخته السدس، فإن
440
كانوا أكثر من ذلك أي من الاثنين بأن كانوا ثلاثة، أو أكثر فهم شركاء في الثلث الموزع للاثنين لا يزداد عليه شيء، ولا يخفى أن الكلام عليه قاصر عن بيان حكم صورة انفراد الوارث عن الأخ والأخت ومقتض أن يكون المعتبر في استحقاق الورثة للفرض المذكور إخوة بعضهم لبعض من جهة الأم فقط، وخارج على مخرج لا عهد به، وفيه أيضا ما فيه، وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام قدس سره بما لا مزيد عليه. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ أي من غير ضرار لورثته فلا يقر بحق ليس عليه، ولا يوصي بأكثر من الثلث. قاله ابن جبير فالدين هنا مقيد كالوصية وفي يُوصى قراءتان سبعيتان في البناء للمفعول، والبناء للفاعل، وغَيْرَ على القراءة الأولى حال من فاعل فعل مبني للفاعل مضمر يدل عليه المذكور، وما حذف من المعطوف اعتمادا عليه، ونظيره قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: ٣٦] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول، وقول الشاعر:
«ليبك» يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
وعلى القراءة الثانية حال من فاعل الفعل المذكور والمحذوف اكتفاء به، ولا يلزم على هذا الفصل بين الحال وذيها بأجنبي كما لا يخفى، أي يوصي بما ذكر من الوصية والدين حال كونه غَيْرَ مُضَارٍّ، ولا يجوز أن يكون حالا من الفاعل المحذوف في المجهول لأنه ترك بحيث لا يلتفت إليه فلا يصح مجئ الحال منه، وجوز فيه أن يكون صفة مصدر أي إيصاء غَيْرَ مُضَارٍّ، واختار بعضهم جعله حالا من وَصِيَّةٍ أو دَيْنٍ أي من بعد أداء وصية أو دين غَيْرَ مُضَارٍّ ذلك الواحد وجعل التذكير للتغليب وليس بشيء، وجوز هذا البعض أن يكون المعنى على ما تقدم غير مضر نفسه بأن يكون مرتكبا خلاف الشرع بالزيادة على الثلث وهو صحيح في نفسه إلا أن المتبادر الأول وعليه مجاهد وغيره ويحتمل- كما قال جمع- أن يكون المعنى غير قاصد الإضرار بل القربة، وذكر عصام الملة أن المفهوم من الآية أن الإيصاء والإقرار بالدين لقصد الإضرار لا يستحق التنفيذ وهو كذلك إلا أن إثبات القصد مشكل إلا أن يعلم ذلك بإقراره، والظاهر أن قصد الإضرار لا القربة بالوصية بالثلث فما دونه لا يمنع من التنفيذ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال: إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حياتكم، نعم ذاك محرم بلا شبهة وليس كل محرم غير منفذ فإن نحو العتق والوقف للرياء والسمعة محرم بالإجماع مع أنه نافذ، ومن ادعى تخصيص ذلك بالوصية فعليه البيان وإقامة البرهان.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الإضرار بالوصية من الكبائر،
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة»
وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية. والتنوين للتفخيم، و «من» متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة مؤكدا لفخامتها، ونظير ذلك فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء: ١١، التوبة: ٦٠] ولعل السر في تخصيص كل منهما بمحله ما قاله الإمام من أن لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفرضية، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل وإن كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو حال رعاية الأولاد أولى، وقيل إن الوصية أقوى من الفرض للدلالة على الرغبة وطلب سرعة الحصول، فختم شرح ميراث الكلالة بها لأنها لبعدها ربما لا يعتني بشأنها فحرض على الاعتناء بها بذكر الوصية ولا كذلك ما تقدم، أو منصوب بمضار على أنه مفعول به له إما بتقدير أي أهل وصية الله تعالى، أو على المبالغة لأن المضارة ليست للوصية بل لأهلها
441
فهو على حدّ يا سارق الليلة أهل الدار ومضارتها الإخلال بحقوقهم ونقصها مما ذكر من الوصية بما زاد على الثلث، أو به مثلا لقصد الإضرار ودون القربة والإقرار بالدين كاذبا.
والمراد من الأهل الورثة المذكورة هاهنا ووقع في بعض العبارات أن المراد وصية الله تعالى بالأولاد، ولعل المراد بهم الورثة مطلقا بطريق التعبير عن الكلي بأشهر أفراده كما عبر عن مطلق الانتفاع بالمال بأكله وإلا فهو غير ملائم وإنما نصب مضار المفعول به لأنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال، أو منفي معنى فيعمل في المفعول الصريح، ويشهد لهذا الاحتمال قراءة الحسن غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً بالإضافة، وذكر أبو البقاء في هذه القراءة وجهين:
الأول أن التقدير غَيْرَ مُضَارٍّ أهل وَصِيَّةٍ فحذف المضاف، والثاني أن التقدير غَيْرَ مُضَارٍّ وقت وَصِيَّةٍ فحذف وهو من إضافة الصفة إلى الزمان، والجمهور لا يثبتون الإضافة بمعنى في، ووقع في الدر المصون احتمال أنه منصوب على الخروج ولم يبين المراد من ذلك، ووقع في همع الهوامع في المفعول به: إن الكوفيين يجعلونه منصوبا على الخروج ولم يبينه أيضا، قال الشهاب: فكأن مرادهم أنه خارج عن طرفي الإسناد، فهو كقولهم: فضلة فلينظر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمضار وغيره، وقيل: بما دبره بخلقه من الفرائض حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة فلا يغترن المضار بالإمهال أو لا يغترن من خالفه فيما بينه من الفرائض بذلك، والإضمار في مقام الإظهار لإدخال الروعة وتربية المهابة، ثم اعلم أن الله سبحانه أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات، وذلك أن الوارث إما أن يتصل بالميت بنفسه من غير واسطة، أو يتصل به بواسطة فإن اتصل بغير واسطة فسبب الاتصال إما أن يكون النسب أو الزوجية، فحصل هنا ثلاثة أقسام أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب، وذلك هو قرابة الولادة، ويدخل فيها الأولاد. والوالدان، وثانيها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي والثاني عرضي والذاتي أشرف من العرضي، وثالثها الاتصال الحاصل بواسطة الغير، وهو المسمى بالكلالة، وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه: أحدها أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية، وأما الكلالة فقد يعرض لها السقوط بالكلية، وثانيها أن القسمين الأولين ينتسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة، والكلالة ينتسب إلى الميت بواسطة، والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة، وثالثها أن مخالطة الإنسان بالوالدين والأولاد والأزواج والزوجات أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة وكثرة المخالطة مظنة الألفة والشفقة وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم، فلهذه الأسباب وأشباهها أخر الله سبحانه ذكر ميراث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشدّ انطباقه على قوانين المعقولات- كما قاله الإمام تِلْكَ أي الأحكام المذكورة في شؤون اليتامى والمواريث وغيرها، واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على المواريث حُدُودُ اللَّهِ أي شرائعه أو طاعته أو تفصيلاته أو شروطه، وأطلقت عليها الحدود لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، والإظهار في مقام الإضمار لما مرت الإشارة إليه يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ نصب على الظرفية عند الجمهور، وعلى المفعولية عند الأخفش.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت أشجارها وأبنيتها، وقد مرّ الكلام في ذلك الْأَنْهارُ أي ماؤها خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من مفعول يُدْخِلْهُ لأن الخلود بعد الدخول فهو نظير قولك: مررت برجل معه صقر يصيد به غدا، وصيغة الجمع لمراعاة معنى مَنْ كما أن إفراد الضمير لمراعاة لفظها وَذلِكَ أي دخول الجنات على الوجه المذكور الْفَوْزُ أي الفلاح والظفر بالخير الْعَظِيمُ في نفسه أو بالإضافة إلى حيازة التركة على ما قيل
442
والجملة اعتراض وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، وقال ابن جريج: من لا يؤمن بما فصل سبحانه من المواريث، وحكي مثله عن ابن جبير. وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ التي جاء بها رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن جملتها ما قص لنا قبل، أو يتعد حدوده في القسمة المذكورة استحلالا كما حكي عن الكلبي يُدْخِلْهُ قرأ نافع وابن عامر بالنون في الموضعين ناراً أي عظيمة هائلة خالِداً فِيها حال كما سبق، وأفرد هنا وجمع هناك لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة. وإذا شفع أحدهم في غيره دخلها معه، وأهل المعاصي لا يشفعون فلا يدخل بهم غيرهم فيبقون فرادى، أو للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصيغة الاجتماع الذي هو أجلب للأنس، والخلود في دار العقاب بصيغة الانفراد الذي هو أشد في استجلاب الوحشة، وجوز الزجاج، والتبريزي كون خالِدِينَ هناك وخالِداً هنا صفتين لجنات أو نار، واعترض بأنه لو كان كذلك لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له، وتعقبه أبو حيان بأن هذا على مذهب البصريين. ومذهب الكوفيين جواز الوصفية في مثل ذلك ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذ لا لبس وَلَهُ عَذابٌ أي عظيم لا يكتنه مُهِينٌ أي مذل له والجملة حالية، والمراد جمع أمرين للعصاة المعتدين عذاب جسماني وعذاب روحاني، نسأل الله تعالى العافية، واستدل بالآية من زعم أن المؤمن العاصي مخلد في النار، والجواب أنها لا تصدق عليه إما لأنها في الكافر على ما سمعت عن الكلبي وابن جبير وابن جريج وإما لأن المراد من حدود الله تعالى جميع حدوده لصحة الاستثناء والمؤمن العاصي واقف عند حد التوحيد، وإما لأن ذلك مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط بعدم التوبة عند الزاعم، وفي ختم آيات المواريث بهذه الآية إشارة إلى عظم أمر الميراث ولزوم الاحتياط والتحري وعدم الظلم فيه،
وقد أخرج ابن ماجه عن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من قطع ميراثا فرضه الله ورسوله قطع الله ميراثه من الجنة».
وأخرج أبو منصور عن سليمان بن موسى، والبيهقي عن أبي هريرة نحو ذلك، وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة عدو، وكأن عدم القسمة إما للتهاون في الدين وعدم المبالاة وكثرة الظلم بين الناس، وإما لفشو الجهل وعدم من يعرف الفرائض،
فقد ورد عن أبي هريرة مرفوعا إن علم الفرائض أول ما ينزع من الأمة،
وأخرج البيهقي والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها»
ولعل الاحتمال الأول أظهر.
(هذا وقد سددنا باب الإشارة في الآيات) لما في فتحه من التكلف، وقد تركناه لأهله.
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ شروع في بيان بعض الأحكام المتعلقة بالرجال والنساء إثر بيان أحكام المواريث، وَاللَّاتِي جمع التي على غير قياس، وقيل: هي صيغة موضوعة للجمع، وموضعها رفع على الابتداء، والفاحشة ما اشتد قبحه، واستعملت كثيرا في الزنا لأنه من أقبح القبائح، وهو المراد هنا على الصحيح، والإتيان في الأصل المجيء، وفي الصحاح يقال: أتيته أتيا قال الشاعر:
فاختر لنفسك قبل «أتى» العسكر وأتوته أتوة لغة فيه، ومنه قول الهذلي:
كنت إذا «أتوته» من غيب
443
وفي القاموس أتوته أتوة (١) وأتيته أتيا وإتيانا وإتيانة بكسرهما، ومأتاة وإتيا كعتى، ويكسر جئته، وقد يعبر به كالمجيء والرهق والغشي عن الفعل، وشاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية، وهو المراد هنا فالمعنى يفعلن الزنا أي يزنين، والتعبير بذلك لمزيد التهجين، وقرأ ابن مسعود يَأْتِينَ بالفاحشة- فالإتيان على أصله المشهور، ومِنْ متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل يَأْتِينَ والمراد من النساء- كما قال السدي، وأخرجه عنه ابن جرير- النساء اللاتي قد أنكحن وأحصن، ومثله عن ابن جبير فَاسْتَشْهِدُوا أي فاطلبوا أن يشهد عَلَيْهِنَّ بإتيانهن الفاحشة أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم قال الزهري: مضت السنة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود، واشترط الأربعة في الزنا تغليظا على المدعي وسترا على العباد، وقيل: ليقوم نصاب الشهادة كاملا على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ولا يخفى ضعفه، والجملة خبر المبتدأ والفاء مزيدة فيه لتضمن معنى الشرط، وجاز الإخبار بذلك لأن الكلام صار في حكم الشرط حيث وصلت اللاتي بالفعل- قاله أبو البقاء- وذكر أنه إذا كان كذلك لم يحسن النصب على الاشتغال لأن تقدير الفعل قبل أداة الشرط لا يجوز، وتقديره بعد الصلة يحتاج إلى إضمار فعل غير فَاسْتَشْهِدُوا لأنه لا يصح أن يعمل النصب في اللاتي، وذلك لا يحتاج إليه مع صحة الابتداء (٢) وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره اقصدوا اللاتي أو تعمدوا، وقيل: الخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم حكم اللاتي، فالجار والمجرور هو الخبر وحكم هو المبتدأ فحذفا لدلالة فَاسْتَشْهِدُوا لأنه الحكم المتلو عليهم، والخطاب قيل: للحكام، وقيل: للأزواج فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بالإتيان فَأَمْسِكُوهُنَّ أي فاحبسوهن عقوبة لهن فِي الْبُيُوتِ واجعلوها سجنا عليهن حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ المراد بالتوفي في أصل معناه أي الاستيفاء وهو القبض تقول: توفيت مالي على فلان واستوفيته إذا قبضته. وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيه بشخص يفعل ذلك فهناك استعارة بالكناية والكلام على حذف مضاف، والمعنى حتى يقبض أرواحهن الموت ولا يجوز أن يراد من التوفي معناه المشهور إذ يصير الكلام بمنزلة حتى يميتهن الموت ولا معنى له إلا أن يقدر مضاف يسند إليه الفعل أي ملائكة الموت، أو يجعل الإسناد مجازا من إسناد ما للفاعل الحقيقي إلى أثر فعله أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أي مخرجا من الحبس بما يشرعه من الحدّ لهن- قاله ابن جبير-
وأخرج الإمامان الشافعي وأحمد وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك واربد وجهه، وفي لفظ لابن جرير يأخذه كهيئة الغشي لما يجد من ثقل ذلك فأنزل عليه ذات يوم فلما سري عنه قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة»
وروى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال: كانت المرأة أول الإسلام إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها.
وروى ابن جرير عن السدي كانت المرأة في بدء الإسلام إذا زنت حبست في البيت وأخذ زوجها مهرها حتى جاءت الحدود فنسختها، وحكاية النسخ قد وردت في غير ما طريق عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ورويت عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما، والناسخ عند بعض آية الجلد على ما في سورة النور وعند آخرين إن آية الحبس نسخت بالحديث، والحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد بدلائل الرجم.
(١) قوله: في القاموس. أتوته أتوة والذي في القاموس أتوته أتيته فليحرر اهـ مصححه.
(٢) ولم يمنعوا التقدير مقدما فيما تضمن معنى الشرط لأنه لا يعامل معاملته من كل وجه اهـ منه.
444
وقال الزمخشري: من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحدّ لكونه معلوما بالكتاب والسنة، ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال، ويكون السبيل على هذا النكاح المغني عن السفاح، وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله تعالى لهن سبيلا ثم إن ذلك السبيل كان مجملا فلما
قال صلّى الله عليه وسلم: «خذوا عني»،
إلى آخر ما في الحديث صار ذلك بيانا لما في تلك الآية لا ناسخا له، وصار مخصصا لعموم آية الجلد، وقد تقدم لك في سورة البقرة ما ينفعك في تحقيق هذا المقام فتذكره وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ هما الزاني والزانية بطريق التغليب. قاله السدي وابن زيد وابن جبير أراد بهما البكران اللذان لم يحصنا، ويؤيد ذلك كون عقوبتهما أخف من الحبس المخلد، وبذلك يندفع التكرار لكن يبقى حكم الزاني المحصن غير ظاهر.
وقرأ ابن كثير «واللذان» بتشديد النون وهي لغة وليس مخصوصا بالألف كما قيل بل يكون مع الياء أيضا وهو عوض عن ياء الذي المحذوف إذ قياسه اللذيان والتقاء الساكنين هنا على حده كما في دابة وشابة فَآذُوهُما أي بعد استشهاد أربعة شهود عليهما بالإتيان، وترك ذكر ذلك تعويلا على ما ذكر آنفا، واختلف في الإيذاء على قولين:
فعن ابن عباس أنه بالتعيير والضرب بالنعال، وعن السدي وقتادة ومجاهد أنه بالتعيير والتوبيخ فقط فَإِنْ تابا عما فعلا من الفاحشة بسبب الإيذاء كما ينبئ عنه الفاء وَأَصْلَحا أي العمل فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أي اصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً مبالغا في قبول التوبة رَحِيماً واسع الرحمة، والجملة في معرض التعليل للأمر بالإعراض، والخطاب هنا للحكام، وجوز أن يكون للشهود الواقفين على فعلتهما، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى القضاة والجر إلى الولاة وفتح باب الشر عليهما، وبالإعراض عنهما ترك التعرض لهما بذلك، والوجه الأول هو المشهور، والحكم عليه منسوخ بالحد المفروض في سورة النور أيضا عند الحسن وقتادة والسدي والضحاك وابن جبير وغيرهم. وإلى ذلك ذهب البلخي والجبائي والطبري، وقال الفراء إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها، وهذا مما لا يتمشى على القول بأن المراد بالموصول البكران كما لا يخفى، وذهب أبو مسلم إلى أنه لا نسخ لحكم الآيتين بل الآية الأولى في السحاقات وهن النساء اللاتي يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس، والآية الثانية في اللائطين وحدهما الإيذاء، وأما حكم الزناة فسيأتي في سورة النور، وزيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد، وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في حكم اللوطي ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست في ذلك، وأيضا جعل الحبس في البيت عقوبة السحاق مما لا معنى له لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا، فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهم ببعض لا الحبس والمنع من الخروج، فحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد- باللاتي يأتين الفاحشة- الزانيات، وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد- وهو من أكابر المفسرين المتقدمين- وقد قال غير واحد: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك على أنه تبين في الأصول أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز، وبأن مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك، وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات، ومطلق الإيذاء لا يصلح حدا ولا بيانا للكمية فلذا اختلفوا، وبأن المراد من إمساكهن في البيوت حبسهن فيها واتخاذها سجنا عليهن ومن حال المسجون منع من يريد الدخول عليه وعدم تمكينه من الاختلاط، فكان الكلام في قوة فامنعوهن عن اختلاط بعضهن ببعض على أن الحبس المذكور حد، وليس المقصود منه إلا الزجر والتنكيل،
445
وأيد مذهبه بتمحيض التأنيث في الآية الأولى والتذكير في الآية الثانية، والتغليب خلاف الأصل، ويبعده أيضا لفظ مِنْكُمْ فإن المتبادر منه من رجالكم كما في قوله تعالى: أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وأيضا لو كان كل واحد من الآيتين واردا في الزنا يلزم أن يذكر الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وأنه تكرير لا وجه له، وأيضا على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيتين بل يكون حكم كل واحدة منهما مقررا على حاله، وعلى ما قاله الغير يحتاج إلى التزام القول بالنسخ وهو خلاف الأصل، وأيضا على ما قالوه يكون الكتاب خاليا عن بيان حكم السحاق واللواطة، وعلى ما قلناه يكون متضمنا لذلك وهو الأنسب بحاله، فقد قال سبحانه: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:
٣٨]، تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩]، وأجيب بأنا لا نسلم أن هذا قول لمجاهد، ففي مجمع البيان أنه حمل الَّذانِ يَأْتِيانِها على الرجلين الزانيين، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنهما الفاعلان وهو ليس بنص على أنهما اللائطان على أن حمل اللَّاتِي في الآية الأولى على السحاقات لم نجد فيه عنه رواية صحيحة بل قد أخرجوا عنه ما هو ظاهر في خلافه، فقد أخرج آدم والبيهقي في سننه عنه في تلك الآية أنه كان أمر أن يحبس ثم نسختها الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: ٢] وما ذكر من العلاوة مسلم لكن يبعد هذا التأويل أنه لا معنى للتثنية في الآية الثانية لأن الوعد والوعيد إنما عهدا بلفظ الجمع ليعم الآحاد أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس ولا نكتة للعدول عن ذلك هنا على تقرير أبي مسلم بل كان المناسب عليه الجمع لتكون آية اللواطة كآية السحاق، ولا يرد هذا على ما قرره الجمهور لأن الآية الأولى عندهم للإناث الثيبات إذا زنين، والآية الثانية للذكر البكر والأنثى البكر إذا زنيا فغوير بين التعبيرين لقوة المغايرة بين الموردين، ويحتمل أيضا أن تكون المغايرة على رأيهم للإيذان بعزة وقوع زنا البكر بالنسبة إلى وقوع زنا الثيب لأن البكر من النساء تخشى الفضيحة أكثر من غيرها من جهة ظهور أثر الزنا، وهو زوال البكارة فيها ولا كذلك الثيب، ولا يمكن اعتبار مثل هذه النكتة في المغايرة على رأي أبي مسلم إذ لا نسلم أن وقوع اللواطة من الرجال أقل من وقوع السحاق من النساء بل لعل الأمر بالعكس، وكون مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك والإيذاء لا يصلح حدا ولا بيانا للكمية- ليس بشيء- كما يرشد إلى ذلك أن منهم من لم يوجب عليه شيئا، وقال: تؤخر عقوبته إلى الآخرة، وبه أخذ الأئمة رضي الله تعالى عنهم على أنه أي مانع من أن يعتبر الإيذاء حدا بعد أن ذكر في معرض الحدّ وتفوض كيفيته إلى رأي الإمام فيفعل مع اللوطي ما ينزجر به مما لم يصل إلى حد القتل وكون الكلام في قوة فامنعوهن عن اختلاط بعضهن ببعض في غاية الخفاء كما لا يخفى.
نعم ما في حيز العلاوة مما لا بأس به، وما ذكر من أن التغليب خلاف الأصل مسلم لكنه في القرآن العظيم أكثر من أن يحصى، واعتباره في مِنْكُمْ تبع لاعتباره في الَّذانِ وذكر مثله قبل بلا تغليب فيه ربما يؤيد اعتبار التغليب فيه ليغاير الأول فيكون لذكره بعده أتم فائدة ألا ترى كيف أسقط من الآية الثانية الاستشهاد مع اشتراطه إجماعا اكتفاء بما ذكر في الآية الأولى لاتحاد الاستشهادين في المسألتين، ودعوى لزوم التكرار في الموضع الواحد على رأي الجمهور ليست في محلها على ما أشرنا إليه في تفسير الآية، ودعوى الاحتياج إلى التزام القول بالنسخ لا تضر لأن النسخ أمر مألوف في كثير من الأحكام، وقد نص عليه هنا جماعة من الصحابة والتابعين على أن في كون فرضية الحد نسخا في الآية الأولى مقالا يعلم مما قدمناه في البقرة، وإذا جعل «أو يجعل» إلخ معتبرا في الآية الثانية إلا أنه حذف منها اكتفاء بما في الأولى كما يشير إلى ذلك خبر عبادة بن الصامت. جرى المقال في الآيتين ولزوم خلو الكتاب عن بيان حكم السحاق واللواطة على رأي الجمهور دون رأيه في حيز المنع أما على تقدير تسمية السحاق
446
واللواطة زنا فظاهر، وأما على تقدير عدم التسمية فلأن ذكر ما يمكن قياسهما عليه في حكم البيان لحكمهما، وكم حكم ترك التصريح به في الكتاب اعتمادا على القياس- كحكم النبيذ، وكحكم الجد وغيرهما- اعتمادا على بيان ما يمكن القياس عليه وذلك لا ينافي كونه تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩] وأنه ما فرط فيه من شيء، ومن ادعى أن جميع الأحكام الدينية مذكورة في القرآن صريحا من غير اعتبار قياس، فقد ارتكب شططا وقال غلطا، وبالجملة المعول عليه ما ذهب إليه الجمهور، ويد الله تعالى مع الجماعة، ومذهب أبي مسلم وإن لم يكن من الفساد بمحل إلا أنه لم يعوّل عليه ولم تحط رحال القبول لديه، وهذا ما عندي في تحقيق المقام وبالله سبحانه الاعتصام.
ولما وصف سبحانه نفسه بالتواب الرحيم عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة بقوله جل شأنه: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي إن قبول التوبة، وعَلَى وإن استعملت للوجوب حتى استدل بذلك الواجبة عليه، فالمراد أنه لازم متحقق الثبوت البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات كما يقال: واجب الوجود، وقيل: عَلَى بمعنى من، وقيل: هي بمعنى عند، وعليه الطبرسي أي إنما التوبة عند الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أي المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، والتوبة مبتدأ، ولِلَّذِينَ خبره، وعَلَى اللَّهِ متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المبتدأ المستكن في متعلق الجار الواقع خبرا على رأي من يجوز تقديم الحال على عاملها المعنوي عند كونها ظرفا، وجعله بعضهم على حد هذا بسرا أطيب من رطبا، وجوز أن يكون عَلَى اللَّهِ متعلقا بمحذوف وقع صفة للتوبة أي إِنَّمَا التَّوْبَةُ الكائنة عَلَى اللَّهِ ولِلَّذِينَ هو الخبر، وهو ظاهر على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته، وذكر أبو البقاء احتمال أن يكون عَلَى اللَّهِ الخبر، ولِلَّذِينَ متعلقا بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في متعلق الخبر، ويحتمل أن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر، ولا يخفى أن سوق الآية يؤيد جعل لِلَّذِينَ خبرا كما لا يخفى على من لم يتعسف بِجَهالَةٍ حال من فاعل يَعْمَلُونَ أي يَعْمَلُونَ السُّوءَ متلبسين بها، أو متعلق يَعْمَلُونَ والباء للسببية، والمراد من الجهالة الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل لا عدم العلم خلافا للجبائي فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة، والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب كقوله:
ألا (لا يجهلن) أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن هنا قال مجاهد فيما أخرجه عنه البيهقي في الشعب، وغيره: كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة عمدا كان أو غيره، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما،
وقال أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه: كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل فيه حين خاطر بنفسه في معصية ربه، فقد حكى الله تعالى قول يوسف عليه السلام لإخوته: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ [يوسف: ٨٩] فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله تعالى،
وقال الفراء: معنى قوله سبحانه: بِجَهالَةٍ أنهم لا يعلمون كنه ما في المعصية من العقوبة.
وقال الزجاج: معنى ذلك اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبئ عنه ما سيأتي من قوله تعالى: حَتَّى إِذا حَضَرَ إلخ
يروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها: «من تاب قبل موته بسنة تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب الله تعالى
447
عليه» ثم قال: «وإن اليوم لكثير من تاب قبل موته بساعة تاب الله تعالى عليه» ثم قال «وإن الساعة لكثيرة من تاب قبل موته وقد بلغت نفسه هذه- وأهوى بيده الشريفة إلى حلقه- تاب الله تعالى عليه».
وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة قال: كنا عند أنس بن مالك وثمّ أبو قلابة فحدث أبو قلابة قال: إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم الدين فقال وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح قال: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح،
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال- القريب- ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت، وروي مثله عن الضحاك، وعن عكرمة الدنيا كلها قريب وعن الإمام القشيري- القريب- على لسان أهل العلم قبل الموت، وعلى لسان أهل المعاملة قبل أن تعتاد النفس السوء ويصير لها كالطبيعة، ولعل مرادهم أنه إذا كان كذلك يبعد عن القبول، وإن لم يمتنع قبول توبته، ومِنْ تبعيضية كأنه جعل ما بين وجود المعصية وحضور الموت زمانا قريبا، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان تاب فهو تائب في بعض أجزاء زمان قريب، وجعلها بعضهم لابتداء الغاية، ورجح الأول بأن مِنْ إذا كانت لابتداء الغاية لا تدخل على الزمان على القول المشهور، والذي لابتدائيته مذ ومنذ، وفي الإتيان بثم إيذان بسعة عفوه تعالى فَأُولئِكَ أي المتصفون بما ذكر وما فيه من معنى البعد باعتبار كونهم بانقضاء ذكرهم في حكم البعيد، وجوز أن يكون ذلك إيذانا ببعد مرتبتهم ورفعة شأنهم من حيث إنهم تائبون، والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، والفاء للدلالة على السببية، واسم الإشارة مبتدأ خبره قوله تعالى: يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم، وهذا وعد بالوفاء بما وعد به سبحانه أولا فلا تكرار، وضمن يَتُوبُ معنى يعطف فلذا عدي بعلى.
وجوز أن يكون ذلك من المذهب الكلامي كأنه قيل: التوبة كالواجب على الله تعالى، وكل ما هو كالواجب عليه تعالى كائن لا محالة فالتوبة أمر كائن لا محالة فالآية الأولى واقعة موقع الصغرى والكبرى مطوية، والآية الثانية واقعة موقع النتيجة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً فيعلم بإخلاص من يتوب حَكِيماً فلا يعاقب التائب، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بعلة الحكم وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ على الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي المعاصي وجمعت باعتبار تكرر وقوعها في الزمان المديد لا لأن المراد بها جميع أنواعها وبما مر من السُّوءَ نوع منها حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ بأن شاهد الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال وعاين ملك الموت وانقطع حبل الرجاء قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أي هذا الوقت الحاضر، وذكر لمزيد تعيين الوقت، وإيثار قالَ على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبار والتحاشي عن تسميته توبة، ولو أكده ورغب فيه، ولعل ذلك كون تلك الحالة أشبه شيء بالآخرة بل هي أول منزل من منازلها، والدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل، وحَتَّى حرف ابتداء، والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها أي لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لقوم يعملون السيئات إلى حضور موتهم، وقولهم: كيت وكيت وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ عطف على الموصول قبله أي ليس قبول التوبة لهؤلاء ولا لهؤلاء، والمراد من ذكر هؤلاء مع أنه لا توبة لهم رأسا المبالغة في عدم قبول توبة المسوفين والإيذان بأن وجودها كالعدم بل في تكرير حرف النفي في المعطوف كما قيل: إشعار خفي يكون حال المسوّفين في عدم استتباع الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر. والكثير من أهل العلم على أن المراد ب الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ما يشمل الفسقة والكفرة، ومن الَّذِينَ يَمُوتُونَ إلخ الكفار فقط، وجوز أن يراد بالموصولين الكفار خاصة، وأن يراد بهما الفسقة وحدهم، وتسميتهم في الجملة الحالية كفارا للتغليظ، وأن يراد بهما ما يعم الفريقين
448
جميعا فالتسمية حينئذ للتغليب، وأخرج ابن جرير عن الربيع، وابن المنذر عن أبي العالية أن الآية الأولى نزلت في المؤمنين والثانية في المنافقين، والثالثة في المشركين، وفي جعل الوسطى في المنافقين مزيد ذم لهم حيث جعل عمل السيئات من غيرهم في جنب عملهم بمنزلة العدم، فكأنهم عملوها دون غيرهم، وعلى هذا لا يخفى لطف التعبير بالجمع في أعمالهم، وبالمفرد في المؤمنين لكن ضعف هذا القول بأن المراد بالمنافقين إن كان المصرين على النفاق فلا توبة لهم يحتاج إلى نفيها، وإلا فهم وغيرهم سواء، هذا واستدل بالآية على أن توبة اليائس كإيمانه غير مقبول، وفي المسألة خلاف فقد قيل: إن توبة اليائس مقبولة دون إيمانه لأن الرجاء باق ويصح معه الندم، والعزم على الترك، وأيضا التوبة تجديد عهد مع الرب سبحانه، والإيمان إنشاء عهد لم يكن وفرق بين الأمرين، وفي البزازية أن الصحيح أنها تقبل بخلاف إيمان اليائس، وإذا قبلت الشفاعة في القيامة وهي حالة يائس فهذا أولى، وصرح القاضي عبد الصمد الحنفي في تفسيره أن مذهب الصوفية أن الإيمان أيضا ينتفع به عند معاينة العذاب ويؤيده أن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره صرح في فتوحاته بصحة الإيمان عند الاضطرار، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لو غرغر المشرك بالإسلام لرجوت له خيرا كثيرا.
وأيد بعضهم القول بقبول توبة الكافر عند المعاينة بما
أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة عبده- أو يغفر لعبده- ما لم يقع الحجاب قيل: وما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس وهي مشركة»
ولا يخفى أن الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل القول الأول، وأجاب بعض المحققين عنها بأن مفادها أن قبول توبة المسوّف والمصر غير متحقق، ونفي التحقيق غير تحقق النفي فيبقى الأمر بالنسبة إليهما بين بين، وأنه تعالى إن شاء عفا عنهما وإن شاء لم يعف وآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨، ١١٦] تبين أنه سبحانه لا يشاء المغفرة للكافر المصر ويبقى التائب عند الموت من أي ذنب كان تحت المشيئة، وزعم بعضهم أنه ليس في الآية الوسطى توبة حقيقية لتقبل بل غاية ما فيها قول، إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وهو إشارة إلى عدم وجود توبة صادقة، ولذا لم يقل وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ تاب- وعلى تسليم أن التعبير بالقول لنكتة غير ذلك يلتزم القول بأن التقييد بالآن مشعر بعدم استيفاء التوبة للشروط لأن فيه رمزا إلى عدم العزم على عدم العود إلى ما كان عليه من الذنب فيما يأتي من الأزمنة إن أمكن البقاء، ومن شروط التوبة الصحيحة ذلك فتدبر.
أُولئِكَ أي المذكورون من الفريقين المترامي حالهم إلى الغاية القصوى في الفظاعة أَعْتَدْنا لَهُمْ أي هيأنا لهم، وقيل: أعددنا فأبدلت الدال تاء عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما موجعا، وتقديم الجار على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بكون العذاب مهيأ لهم، والتنكير للتفخيم، وتكرير الإسناد لما مر، واستدل المعتزلة بالآية على وجوب العقاب لمن مات من مرتكبي الكبائر من المؤمنين قبل التوبة، وأجيب بأن تهيئة العذاب هو خلق النار التي يعذب بها، وليس في الآية أن الله تعالى يدخلهم فيها البتة، وكونه تعالى يدخل من مات كافرا فيها معلوم من غير هذه الآية، ويحتمل أيضا أن يكون المراد أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً إن لم نعف كما تدل على ذلك النصوص، ويروى عن الربيع أن الآية منسوخة بقوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨، ١١٦].
واعترض بأن أَعْتَدْنا خبر ولا نسخ في الأخبار، وقيل: إن «أولئك» إشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فلا إشكال كما لو جعل إشارة إلى الفريقين وأريد بالأول المنافقون، وبالثاني المشركون.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً لما نهى الله سبحانه فيما تقدم عن عادات أهل
449
الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن الاستنان بنوع من سننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، وفي رواية البخاري وأبي داود كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك،
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ابنه فجاءت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت، وروي مثله عن أبي جعفر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك.
وروي عن الزهري أنها نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده لا حاجة له بها وينتظر موتها حتى يرثها- فالنساء- إما مفعول ثان- لترثوا- على أن يكنّ هنّ الموروثات، كَرْهاً مصدر منصوب على أنه حال من النِّساءَ وقيل:
من ضمير تَرِثُوا والمعنى لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإرث على زعمكم كما حل لكم أخذ الأموال وهنّ كارهات لذلك أو مكرهات عليه، أو أنتم مكروهون لهن، وإما مفعول أول له، والمعنى لا يَحِلُّ لَكُمْ أن تأخذوا من النساء المال بطريق الإرث كَرْهاً والمراد من ذلك أمر الزوج أن يطلق من كره صحبتها ولا يمسكها كرها حتى تموت فيرث منها مالها، وقرأ حمزة والكسائي كَرْهاً بالضم في مواضعه، ووافقهما عاصم وابن عامر ويعقوب في الأحقاف، وقرأ الباقون بالفتح في جميع ذلك وهما بمعنى كالضعف والضعف، وقيل: الكره بالضم الإكراه وبالفتح الكراهية، وقرئ- لا تحل- بالتاء الفوقانية لأن أَنْ تَرِثُوا بمعنى الوراثة كما قرئ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الأنعام: ٢٣] لأنه بمعنى المقالة، وهذا عكس تذكير المصدر المؤنث لتأويله بأن والفعل، فكل منهما جار في اللسان الفصيح وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ أصل العضل التضييق والحبس، ومنه عضلت المرأة بولدها عسر عليها كأعضلت فهي معضل ومعضل، ويقال: عضل المرأة يعضلها مثلثة عضلا وعضلا وعضلانا بكسرهما، وعضلها منعها الزوج ظلما، وعضلت الأرض بأهلها غضت قال أوس:
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة «معضلة» منا بجيش عرمرم
وَلا إما ناهية على ما قيل، والفعل مجزوم بها، والجملة مستأنفة- كما قال أبو البقاء- أو معطوفة على الجملة التي قبلها بناء على جواز عطف جملة النهي على جملة خبرية كما نسب إلى سيبويه، أو بناء على أن الجملة الأولى في معنى النهي إذ معناها لا ترثوا النساء كرها فإنه غير حلال لكم، وإما نافية مزيدة لتأكيد النفي، والفعل منصوب بالعطف على تَرِثُوا كأنه قيل: لا يحل ميراث النساء كَرْهاً ولا عضلهن، ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود، ولا أن تعضلوهن،- وأما جعل لا نافية غير مزيدة والفعل معطوف على المنصوب قبله- فقد ردّه بعضهم بأنه إذا عطف فعل منفي- بلا- على مثبت وكانا منصوبين فالقاعدة أن الناصب يقدر بعد حرف العطف لا بعد لا ولو قدرته هنا بعد العاطف على ذلك التقدير فسد المعنى كما لا يخفى، والخطاب في المتعاطفين إما للورثة غير الأزواج فقد كانوا يمنعون المرأة المتوفى عنها زوجها من التزوج لتفتدي بما ورثت من زوجها، أو تعطيهم صداقا أخذته كما كانوا يرثونهن كرها، والمراد- بما آتيتموهن- على هذا ما أتاه جنسكم وإلا لم يلتئم الكلام لأن الورثة ما آتوهن شيئا، وإلا للأزواج فإنهم كما كانوا يفعلون ما تقدم كانوا يمسكون النساء من غير حاجة لهم إليهم فيضاروهن ويضيقوا عليهن
450
ليذهبوا ببعض ما آتوهن بأن يختلعن بمهورهن، وإلى هذا ذهب الكثير من المفسرين- وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه- والالتئام عليه ظاهر، وجوز أن يكون الخطاب الأول للورثة، وهذا الخطاب للأزواج، والكلام قد تم بقوله سبحانه: كَرْهاً فلا يرد عليه بعد تسليم القاعدة أنه لا يخاطب في كلام واحد اثنان من غير نداء، فلا يقال: قم واقعد خطابا لزيد وعمرو، بل يقال: قم يا زيد، واقعد يا عمرو، وقيل: هذا خطاب للأزواج ولكن بعد مفارقتهم منكوحاتهم، فقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها.
والمراد من قوله سبحانه: لِتَذْهَبُوا إلخ أن يدفعن إليكم بعض ما آتيتموهن وتأخذوه منهن، وإنما لم يتعرض لفعلهن لكونه لصدوره عن اضطرار منهن بمنزلة العدم، وعبر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ، والاذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمنه لأمرين كل منهما محظور شنيع الأخذ والإذهاب لأنه عبارة عن الذهاب مصطحبا به، وذكر- البعض- ليعلم منه أن الذهاب بالكل أشنع شنيع إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ على صيغة الفاعل من بين اللازم بمعنى تبين أو المتعدي، والمفعول محذوف أي مبينة حال صاحبها.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «مبيّنة» على صيغة المفعول، وعن ابن عباس أنه قرأ «مبيّنة» على صيغة الفاعل من أبان اللازم بمعنى تبين أو المتعدي، والمراد بالفاحشة هنا النشوز وسوء الخلق- قاله قتادة والضحاك وابن عباس وآخرون- ويؤيده قراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم، وفي الدر المنثور نسبة هذه القراءة- لكن بدون عليكم- إلى أبيّ وابن مسعود، وأخرج ابن جرير عن الحسن أن المراد بها الزنا.
وحكي ذلك عن أبي قلابة وابن سيرين، والاستثناء قيل: منقطع، وقيل: متصل وهو من ظرف زمان عام أي لا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إيتائهن إلخ، أو من حال عامة أي في حال من الأحوال إلا في هذه الحال، أو من علة عامة أي لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإيتائهن ولا يأبى هذا ذكر العلة المخصوصة لجواز أن يكون المراد العموم أي للذهاب وغيره، وذكر فرد منه لنكتة أو لأن العلة المذكورة غائية والعامة المقدرة باعثة على الفعل متقدمة عليه في الوجود، وفي الآية إباحة الخلع عند النشوز لقيام العذر بوجود السبب من جهتهن.
وحكي عن الأصم أن إباحة أخذ المال منهن كان قبل الحدود عقوبة لهن.
وروي مثل ذلك عن عطاء، فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك الحدود، وذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم أن هذا متعلق بالعضل بمعنى الحبس والإمساك، ولا تعرض له بأخذ المال ففيه إباحة الحبس لهن إذا أتين بفاحشة- وهي الزنا عند الأول- والسحاق عند الثاني، فالآية على نحو ما تقدم من قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَعاشِرُوهُنَّ أي خالقوهن بِالْمَعْرُوفِ وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة، والمراد هاهنا النصفة في القسم والنفقة، والإجمال في القول والفعل.
وقيل: المعروف أن لا يضربها ولا يسيء الكلام معها ويكون منبسط الوجه لها، وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كنّ ممن لا يخدمن أنفسهن، والخطاب للذين يسيئون العشرة مع أزواجهم، وجعله بعضهم مرتبطا بما سبق أول السورة من قوله سبحانه: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وفيه بعد فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ أي كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً كالصحبة والإمساك.
451
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً كالولد أو الألفة التي تقع بعد الكراهة، وبذلك قال ابن عباس ومجاهد، وهذه الجملة علة للجزاء وقد أقيمت مقامه إيذانا بقوة استلزامها إياه فإن- عسى- لكونها لإنشاء الترجي لا تصلح للجوابية وهي تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن الخبر، والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن، ولا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها، فلعل لكم فيما تكرهونه خَيْراً كَثِيراً فإن النفس ربما تكره ما يحمد وتحب ما هو بخلافه فليكن مطمح النظر ما فيه خير وصلاح، دون ما تهوى الأنفس، ونكر شَيْئاً وخَيْراً ووصفه بما وصفه مبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميما للإرشاد، ولذا استدل بالآية على أن الطلاق مكروه، وقرئ «ويجعل» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة حال أي- وهو- أي ذلك الشيء يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وقيل: تقديره والله يجعل الله بوضع المظهر موضع المضمر فالواو حينئذ حالية. وفي دخولها على المضارع ثلاثة مذاهب: الأول منع دخولها عليه إلا بتقدير مبتدأ، والثاني جوازه مطلقا. والثالث التفصيل بأنه إن تضمن نكتة كدفع إيهام الوصفية حسن وإلا فلا، ولا يخفى أن تقدير المبتدأ هنا خلاف الظاهر وَإِنْ أَرَدْتُمُ أيها الأزواج اسْتِبْدالَ زَوْجٍ إقامة امرأة ترغبون فيها مَكانَ زَوْجٍ أي امرأة ترغبون عنها بأن تطلقوها وَآتَيْتُمْ أي أعطى أحدكم إِحْداهُنَّ أي إحدى الزوجات، فإن المراد من الزوج هو الجنس الصادق مع المتعدد المناسب لخطاب الجمع، والمراد من الإيتاء كما قال الكرخي:
الالتزام والضمان كما في قوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ [البقرة: ٢٣٣] أي ما التزمتم وضمنتم، ومفهوم الشرط غير مراد على ما نص عليه بعض المحققين، وإنما ذكر لأن تلك الحالة قد يتوهم فيها الأخذ فنبهوا على حكم ذلك، والجملة حالية بتقدير قد لا معطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها وتجعلوا مكانها غيرها قِنْطاراً أي مالا كثيرا، وقد تقدمت الأقوال فيه فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ أي من القنطار المؤتى شَيْئاً يسيرا أي فضلا عن الكثير أَتَأْخُذُونَهُ أي الشيء بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً استئناف مسوق لتقرير النهي والاستفهام للإنكار والتوبيخ، والمصدران منصوبان على الحالية بتأويل الوصف أي أتأخذونه باهتين وآثمين، ويحتمل أن يكون منصوبين على العلة ولا فرق في هذا الباب بين أن تكون علة غائية وأن تكون علة باعثة- وما نحن فيه من الثاني- نحو قعدت عن الحرب جبنا لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم فقد قيل: كان الرجل منهم إذا أراد جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة فنهوا عن ذلك، والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، وقال الزجاج: الباطل الذي يتحير من بطلانه، وفسر هنا بالظلم، وعن مجاهد أنه الإثم فعطف الإثم عليه للتفسير كما في قوله: وألفي قولها كذبا ومينا وقيل: المراد به هنا إنكار التمليك والمبين البين الظاهر وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ إنكار بعد إنكار، وقد بولغ فيه على ما تقدم في كَيْفَ تَكْفُرُونَ، وقيل: تعجيب منه سبحانه وتعالى أي إن أخذكم له لعجيب وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كناية عن الجماع على ما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي.
وقيل: المراد به الخلوة الصحيحة وإن لم يجامع واختاره الفراء- وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه- وهو أحد قولين للإمامية، وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- الإفضاء- الحصول معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها، ورجح القول الأول بأن الكلام كناية بلا شبهة، والعرب إنما تستعملها فيما يستحى من ذكره كالجماع، والخلوة لا يستحى من ذكرها فلا تحتاج إلى الكناية، وأيضا في تعدية الإفضاء بإلى ما يدل على معنى الوصول والاتصال، وذلك أنسب بالجماع، ومن ذهب إلى الثاني قال: إنما سميت الخلوة إفضاء لوصول الرجل بها إلى مكان الوطء ولا يسلم أن الخلوة لا يستحى من ذكرها، والجملة حال من فاعل تَأْخُذُونَهُ مفيدة لتأكيد النكير وتقرير الاستبعاد أي على أي حال أو في أي تأخذونه، والحال أنه قد وقع منكم ما وقع وقد أَخَذْنَ مِنْكُمْ
452
مِيثاقاً أي عهدا غَلِيظاً أي شديدا قال قتادة: هو ما أخذ الله تعالى للنساء على الرجال فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: ٢٢٩] ثم قال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال: الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان، وروي ذلك عن الضحاك ويحيى بن أبي كثير. وكثير، وعن مجاهد- الميثاق الغليظ- كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن، واستدل بالآية من منع الخلع مطلقا وقال: إنها ناسخة لآية البقرة، وقال آخر: إنها منسوخة بها، وروي ذلك عن أبي زيد. وقال جماعة: لا ناسخة ولا منسوخة، والحكم فيها هو الأخذ بغير طيب نفس، واستدل بها- كما قال ابن الفرس- قوم على جواز المغالاة في المهور.
وأخرج أبو يعلى عن مسروق أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نهى أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت ما أنزل الله تعالى وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فقال: اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر، فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، وطعن الشيعة بهذا الخبر على عمر رضي الله تعالى عنه لجهله بهذه المسألة وإلزام امرأة له وقالوا: إن الجهل مناف للإمامة، وأجيب بأن الآية ليست نصا في جواز إيتاء القنطار فإنها على حدّ قولك: إن جاءك زيد وقد قتل أخاك فاعف عنه، وهو لا يدل على جواز قتل الأخ. سلمنا أنها تدل على جواز إيتائه إلا أنا لا نسلم جواز إيتائه مهرا بل يحتمل أن يكون المراد بذلك إعطاء الحلي وغيره لا بطريق المهر بل بطريق الهبة، والزوج لا يصح له الرجوع عن هبته لزوجته خصوصا إذا أوحشها بالفراق، وقوله تعالى: وَقَدْ أَفْضى لا يعين كون المؤتى مهرا سلمنا كونه مهرا لكن لا نسلم كون عدم المغالاة أفضل منه.
فقد روى ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن من خير النساء أيسرهن صداقا»
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «يمن المرأة تسهيل أمرها في صداقها».
وأخرج أحمد والبيهقي مرفوعا أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا،
فنهي أمير المؤمنين عن التغالي يحتمل أنه كان للتيسير ميلا لما هو الأفضل ورغبة فيما أشار إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قولا وفعلا، وعدوله عن ذلك وعدم رده على القرشية كان من باب الترغيب في تتبع معاني القرآن واستنباط الدقائق منه، وفي إظهار الكبير العالم المغلوبية للصغير الجاهل تنشيط للصغير وإدخال للسرور عليه وحث له ولأمثاله على الاشتغال بالعلم وتحصيل ما يغلب به، فقوله رضي الله تعالى عنه: اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر كان من باب هضم النفس والتواضع وحسن الخلق وقد دعاه إليه ما دعاه، ومع هذا لم يأمرهم بالمغالاة بل قصارى أمره أنه رفع النهي عنهم وتركهم واختيارهم بين فاضل ومفضول ولا إثم عليهم في ارتكاب أي الأمرين شاؤوا، سلمنا أن هذه المسألة قد غابت عن أفق ذهنه الشريف لكن لا نسلم أن ذلك جهل يضر بمنصب الإمامة فقد وقع لأمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه مثل ذلك وهو إمام الفريقين،
فقد أخرج ابن جرير وابن عبد البر عن محمد بن كعب قال: سأل رجل عليّا كرم الله تعالى وجهه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس هكذا ولكن كذا وكذا، فقال الأمير: أصبت وأخطأنا وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: ٧٦]،
وقد وقع لداود عليه السلام ما قص الله تعالى لنا في كتابه من قوله سبحانه: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء: ٨٧] إلى أن قال عز من قائل: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ [الأنبياء: ٧٩] فحيث لم ينقص ذلك من منصب النبوة والخلافة المشار إليها بقوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: ٢٦] لا ينقص من منصب الإمامة كما لا يخفى، فمن أنصف جعل هذه الواقعة من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه لا من مطاعنه، ولكن لا علاج لداء البغض والعناد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد: ٣٣]. وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ
453
آباؤُكُمْ شروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرم بعد بيان كيفية معاشرة الأزواج، وهو عند بعض مرتبط بقوله سبحانه: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وإنما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كان ذلك ديدنا لهم في الجاهلية.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال: كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه، أو ينكحها من شاء. فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه حصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا فأتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ارجعي لعل الله تعالى ينزل فيك شيئا فنزلت وَلا تَنْكِحُوا الآية، ونزلت أيضا لا يَحِلُّ لَكُمْ إلخ»
وذكر الواحدي وغيره أنها نزلت في حصن المذكور، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب، وفي منظور بن ريان تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة، واسم الآباء ينتظم الأجداد كيف كانوا باعتبار معنى يعمهما لغة لا باعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز، وفي النهاية إن دلالة الأب على الجد بأحد طريقين: إما أن يكون المراد بالأب الأصل وإما بالإجماع، ولا يخفى أن كون الدلالة بالإجماع مما لا معنى له، نعم لثبوت حرمة من نكحها الجد بالإجماع معنى لا خفاء فيه فتثبت حرمة ما نكحوها نصا وإجماعا، ويستقل في إثبات هذه الحرمة نفس النكاح أعني العقد إن كان صحيحا ولا يشترط الدخول، وإلى ذلك ذهب ابن عباس، فقد أخرج عنه ابن جرير والبيهقي أنه قال: كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي عليك حرام، وروي ذلك عن الحسن وابن أبي رباح، وإن كان النكاح فاسدا فلا بدّ في إثبات الحرمة من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمس بشهوة مثلا بل هو المحرم في الحقيقة حتى لو وقع شيء من ذلك بملك اليمين، وبالوجه المحرم ثبتت به الحرمة عندنا، وإليه ذهبت الإمامية، وخالفت الشافعية في المحرم، وتحقيق ذلك أن الناس اختلفوا في مفهوم النكاح لغة فقيل: هو مشترك لفظي بين الوطء والعقد وهو ظاهر كلام كثير من اللغويين، وقيل: حقيقة في العقد مجاز في الوطء وعليه الشافعية، وقيل:
بالعكس وعليه أصحابنا، ولا ينافيه تصريحهم بأنه حقيقة في الضم (١) لأن الوطء من أفراده والموضوع للأعم حقيقة في كل من أفراده على ما أطلقه الأقدمون، وقد تحقق استعمال النكاح في كل من هذه المعاني، ففي الوطء
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ولدت من نكاح لا من سفاح»
أي من وطء حلال لا من وطء حرام،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح»،
وقول الشاعر:
ومن أيم قد (أنكحتها) رماحنا وأخرى على خال وعم تلهف
وقول الآخر:
«ومنكوحة» غير ممهورة وقول الفرزدق:
إذ سقى الله قوما صوب عادية فلا سقى الله أرض الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم (والناكحين) بشطي دجلة البقرا
وفي العقد قول الأعشى:
فلا تقربن جارة إن سرها عليك حرام (فانكحن) أو تأبدا
(١) قال في البحر: وهو مردود فإن الوطء مغاير للضم. وأيده بما في المغرب فارجع إليه اهـ منه.
454
وفي المعنى الأعم قول القائل:
ضممت إلى صدري معطر صدرها كما (نكحت) أم الغلام صبيها
وقول أبي الطيب:
«أنكحت» صم حصاها خف يعملة تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
فمدعي الاشتراك اللفظي يقول تحقق الاستعمال والأصل الحقيقة، والثاني يقول: كونه مجازا في أحدهما حقيقة في الآخر حيث أمكن أولى من الاشتراك، ثم يدعي تبادر العقد عند إطلاق لفظ النكاح دون الوطء ويحيل فهم الوطء منه حيث فهم على القرينة، ففي الحديث الأول هي عطف السفاح بل يصح حمل النكاح فيه على العقد وإن كانت الولادة بالذات من الوطء، وفي الثاني إضافة المرأة إلى ضمير الرجل فإن امرأته هي المعقود عليها فيلزم إرادة الوطء من النكاح المستثنى وإلا فسد المعنى إذ يصير بحل من المعقود عليها كل شيء إلا العقد، وفي الأبيات الإضافة إلى البقر ونفي المهور، والإسناد إلى الرماح إذ يستفاد أن المراد وطء البقر والمسبيات، والجواب منع تبادر العقد عند الإطلاق لغة بل ذلك في المفهوم الشرعي الفقهي، ولا نسلم أن فهم الوطء فيما ذكر مسند إلى القرينة وإن كانت موجودة إذ وجود قرينة تؤيد إرادة المعنى الحقيقي مما يثبت مع إرادة الحقيقي فلا يستلزم ذلك كون المعنى مجازيا بل المعتبر مجرد النظر إلى القرينة إن عرف أنه لولاها لم يدل اللفظ على ما عنيته فهو مجاز وإلا فلا، ونحن في هذه المواد المذكورة نفهم الوطء قبل طلب القرينة، والنظر في وجه دلالتها فيكون اللفظ حقيقة وإن كان مقرونا بما إذا نظر فيه استدعى إرادة ذلك المعنى، ألا يرى أن ما ادعوا فيه الشهادة على أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء من بيت الأعشى فيه قرينة تفيد العقد أيضا فإن قوله: فلا تقربن جارة نهي عن الزنا بدليل أن سرها عليك حرام فيلزم أن قوله: فانكحن أمر بالعقد أي فتزوج إن كان الزنا عليك حراما أو تأبد- أي توحش أي كن كالوحش بالنسبة إلى الآدميات فلا يكن منك قربان لهن كما لا يقربهن وحش، ولم يمنع ذلك أن يكون اللفظ حقيقة في العقد عندهم في البيت إذ هم لا يقولون بأنه مجاز فيه، وأما ادعاء أنه في الحديث للعقد فيستلزم التجوز في نسبة الولادة إليه لأن العقد إنما هو سبب السبب، ففيه دعوى حقيقة بالخروج عن حقيقة وهو ترجيح بلا مرجح لو كانا سواء، فكيف والأنسب كونه في الوطء ليتحقق التقابل بينه وبين السفاح إذ يصير المعنى عن وطء حلال لا وطء حرام فيكون على خاص من الوطء، والدال على الخصوصية لفظ السفاح أيضا فثبتت إلى هنا أنا لم نزده على ثبوت مجرد الاستعمال شيئا يجب اعتباره، وقد علم أيضا ثبوت الاستعمال في الضم فباعتباره حقيقة فيه يكون مشتركا معنويا من أفراده الوطء والعقد إن اعتبرنا الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول، أو الوطء فقط فيكون مجازا في العقد لأنه إذا دار بين المجاز والاشتراك اللفظي كان المجاز أولى ما لم يثبت صريحا خلافه. ولم يثبت نقل ذلك بل قالوا: نقل المبرد عن البصريين، وغلام ثعلب عن الكوفيين أنه الجمع والضم، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض بتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه فوجب كونه مجازا في العقد- كذا في فتح القدير-.
إذا علمت ذلك فنقول: حمل الشافعية النكاح في الآية التي نحن فيها على العقد دون الوطء، واستدلوا بها على حرمة المعقود عليها وإن لم توطأ، وذهبوا إلى عدم ثبوت الحرمة بالزنا وحمله بعض أصحابنا على العقد فيها، واستدلوا بها على حرمة نكاح نساء الآباء والأجداد، وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا وجعلوا حرمة العقد ثابتة بالإجماع، ثم قالوا:
ولو حمل على العقد تكون حرمة الوطء ثابتة بطريق الأولى.
455
واعترض بأنه لا ينبغي أن يقال: ثبت حرمة الموطوءة بالآية، والمعقود عليها بلا وطء بالإجماع لأنه إذا كان الحكم الحرمة بمجرد العقد- ولفظ الدليل الصالح له- كان مرادا منه بلا شبهة فإن الإجماع تابع للنص إذ القياس عن أحدهما يكون، ولو كان عن علم ضروري يخلق لهم ثبت بذلك أن ذلك الحكم مراد من كلام الشارع إذا احتمله، وحمله آخرون على الوطء والعقد معا فقد قال الزيلعي: الآية تتناول منكوحة الأب وطءا وعقدا صحيحا، ولا يضر الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الكلام نفي، وفي النفي يجوز الجمع بينهما كما يجوز فيه أن يعم المشترك جميع معانيه، وقد نقل أيضا سعدي أفندي عن وصايا الهداية جواز الجمع بين معاني المشترك في النفي وحينئذ لا إشكال في كون الآية دليلا على حرمة الموطوءة والمعقود عليها كما لا يخفى.
واعترض ما قاله الزيلعي بأنه ضعيف في الأصول، والصحيح أنه لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز لا في النفي ولا في الإثبات، ولا عموم للمشترك مطلقا، وفي الأكمل، والحق أن النفي كما اقتضاه الإثبات فإن اقتضى الإثبات الجمع بين المعنيين فالنفي كذلك وإلا فلا، ومسألة اليمين المذكورة في المبسوط حلف لا يكلم مواليه- وله أعلون وأسفلون فأيهم كلم حنث- ليست باعتبار عموم المشترك في النفي كما توهم البعض، وإنما هو لأن حقيقة الكلام متروكة بدلالة اليمين إلى مجاز يعمها، وفي البحر: أن الأولى أن النكاح في الآية للعقد كما هو المجمع عليه، ويستدل لثبوت حرمة المصاهرة بالوطء الحرام بدليل آخر فليفهم، وما موصول اسمي واقعة على من يعقل ولا كلام في ذلك على رأي من جوزه مطلقا، وكذا على رأي من جوزه إذا أريد معنى صفة مقصودة منه، وقيل: مصدرية على إرادة المفعول من المصدر أي منكوحات آبائكم وليس بالوجيه مِنَ النِّساءِ في موضع الحال من ما أو من العائد عليها، وعند الطبري متعلقة بنكح، وذكر غير واحد أنها بيان لما على الوجهين السابقين، وظاهره أنها بيانية، ويحتمل أن تكون تبعيضية والبيان معنوي، ونكتته مع عدم الاحتياج إليه إذا المنكوحات لا يكن إلا نساء التعميم كأنه قيل: أي امرأة كانت، واحتمال كونه رفع توهم التغليب في آبائكم وجعله أعم من الأمهات حتى يفيد أنه نهي للبنت عن نكاح منكوح أمها لا يخلو عن خفاء إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي مات كما روي ذلك عن أبي بن كعب وهو استثناء متصل على المختار مما نكح للمبالغة في التحريم والتعميم، والكلام حينئذ من باب تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه كما في قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم «بهن فلول من قراع الكتائب»
والمعنى لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا من مات منهن. والمقصود سدّ باب الإباحة بالكلية لما فيه من تعليق الشيء بالمحال كقوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: ٤٠] والمعلق على المحال محال، وقيل: إنه استثناء متصل مما يستلزمه النهي وتستلزمه مباشرة المنهي عنه من العقاب كأنه قيل: تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفو عنه، وبهذا التأويل يندفع الاستشكال بأن النهي للمستقبل، وما قَدْ سَلَفَ ماض فكيف يستثنى منه، وجعل بعض محققي النحاة الاستثناء مما دخل في حكم دلالة المفهوم منقطعا فحكم على ما هنا بالانقطاع أي لكن ما سلف لا مؤاخذة عليه فلا تلامون به لأن الإسلام يهدم ما قبله فتثبت به أحكام النسب وغيره، ولا يعد ذلك زنا، وقد ذكر البلخي أنه ليس كل نكاح حرمه الله تعالى يكون زنا لأن الزنا فعل مخصوص لا يجري على طريقة لازمة وسنة جارية، ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية أولاد زنا، ولا لأولاد أهل الذمة مثلا إذا كان ذلك عن عقد بينهم يتعارفونه، وزعم بعضهم على تقدير الانقطاع أن المعنى لكن ما سلف أنتم مقرون عليه، وحكي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرهم على منكوحات آبائهم مدة ثم أمر بمفارقتهن،
456
وفعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج، قال البلخي: وهذا خلاف الإجماع، وما علم من دين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالقول به خطأ والمعول عليه من بين الأقوال الأول لقوله سبحانه: إِنَّهُ أي نكاح ما نكح الآباء كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً فإنه تعليل للنهي وبيان لكون المنهي عنه في غاية القبح كما يدل عليه الاخبار بأنه فاحشة مبغوضا باستحقار جدا حتى كأنه نفس البغض كما يدل عليه الاخبار بأنه مقت، وإنه لم يزل في حكم الله تعالى وعلمه موصوفا بذلك ما رخص فيه لأمة من الأمم كما يقتضيه كانَ على ما ذكره علي بن عيسى وغيره، وهذا لا يلائم أن يوسط بينهما ما يهون أمره من ترك المؤاخذة على ما سلف منه كما أشار إليه الزمخشري، وارتضاه جمع من المحققين، ومن الناس من استظهر كون هذه الجملة خبرا على تقدير الانقطاع وليس بالظاهر، ومنهم من فسر الفاحشة هنا بالزنا، وليس بشيء، وقد كان هذا النكاح يسمى في الجاهلية نكاح المقت، ويسمى الولد منه مقتي، ويقال له أيضا: مقيت أي مبغوض مستحقر، وكان من هذا النكاح- على ما ذكره الطبرسي- الأشعث بن قيس ومعيط جد الوليد بن عقبة وَساءَ سَبِيلًا أي بئس طريقا طريق ذلك النكاح، ففي ساء ضمير مبهم يفسره ما بعده، والمخصوص بالذم محذوف، وذم الطريق مبالغة في ذم سالكها وكناية عنه، ويجوز- واختاره الليث- أن تكون ساءَ كسائر الأفعال ففيها ضمير يعود إلى ما عاد اليه ضمير به. وسَبِيلًا تمييز محول عن الفاعل، والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وإما معطوفة على خبر كانَ محكية بقول مضمر هو المعطوف في الحقيقة أي ومقولا في حقه ذلك في سائر الأعصار.
قال الإمام الرازي: مراتب القبح ثلاث: القبح العقلي، والقبح الشرعي، والقبح العادي، وقد وصف الله سبحانه هذا النكاح بكل ذلك، فقوله سبحانه: فاحِشَةً إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي، وقوله تعالى: وَمَقْتاً إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي، وقوله عز وجل: وَساءَ سَبِيلًا إشارة إلى مرتبة قبحه العادي، وما اجتمع فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح، وأنت تعلم أن كون قوله عز شأنه: وَمَقْتاً إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي ظاهر على تقدير أن يكون لمراد وَمَقْتاً عند الله تعالى، وأما على تقدير أن يكون المراد وَمَقْتاً عند ذوي المروءات فليس بقاهر، ومن هنا قيل: إن قوله جل شأنه: فاحِشَةً إشارة إلى القبح الشرعي وَمَقْتاً إشارة إلى العقلي بمعنى المنافرة وَساءَ سَبِيلًا إلى العرفي، وعندي أن لكل وجها، ولعل ترتيب الإمام أولى من بعض الحيثيات كما لا يخفي، ومما يدل على فظاعة أمره ما
أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم والبيهقي عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.
457
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ ليس المراد تحريم ذاتهن لأن الحرمة وأخواتها إنما تتعلق بأفعال المكلفين، فالكلام على حذف مضاف بدلالة العقل، والمراد تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد منهن ولأنه المتبادر إلى الفهم ولأن ما قبله وما بعده في النكاح، ولو لم يكن المراد هذا كأن تخلل أجنبي بينهما من غير نكتة فلا إجمال في الآية خلافا للكرخي، والجملة إنشائية وليس المقصود منها الإخبار عن التحريم في الزمان الماضي وقال بعض المحققين: لا مانع من كونها إخبارية والفعل الماضي فيها مثله في التعاريف نحو الاسم ما دل على معنى في نفسه ولم يقترن بأحد الأزمنة، والفعل ما دل واقترن، فإنهم صرحوا أن الجملة الماضوية هناك خبرية وإلا لما صح كونها صلة الموصول مع أنه لم يقصد من الفعل فيها الدلالة على الزمان الماضي فقط، وإلا للزم أن يكون حال المعرف في الزمان الحال والمستقبل ليس ذلك الحال، وبني الفعل لما لم يسم فاعله لأنه لا يشتبه أن المحرم هو الله تعالى، وأُمَّهاتُكُمْ تعم الجدات كيف كنّ إذ الأم هي الأصل في الأصل- كأم الكتاب، وأم القرى- فتثبت حرمة الجدات بموضوع اللفظ وحقيقته لأن الأم على هذا من قبيل المشكك، وذهب بعضهم إلى أن إطلاق الأم على الجدة مجاز، وأن إثبات حرمة الجدات بالإجماع، والتحقيق أن الأم مراد به الأصل على كل حال لأنه إن استعمل فيه حقيقة فظاهر، وإلا فيجب أن يحكم بإرادته مجازا فتدخل الجدات في عموم المجاز والمعرف لإرادة ذلك في النص الإجماع على حرمتهن.
والمراد بالبنات من ولدتها أو ولدت من ولدها وتسمية الثانية بنتا حقيقة باعتبار أن البنت يراد به الفرع- كما قيل به- فيتناولها النص حقيقة أو مجازا عند البعض، أو عند الكل، ومن منع إطلاق البنت على الفرع مطلقا قال: إن ثبوت حرمة بنات الأولاد بالإجماع، وقد يستدل على تحريم الجدات وبنات الأولاد بدلالة النص المحرم للعمات والخالات وبنات الأخ والأخت، ففي الأول لأن الأشقّاء منهن أولاد الجدات فتحريم الجدات وهن أقرب أولى، وفي الثاني لأن بنات الأولاد أقرب من بنات الإخوة، ثم ظاهر النص يدل على أنه يحرم للرجل بنته من الزنا لأنها بنته، والخطاب إنما هو باللغة العربية ما لم يثبت نقل- كلفظ الصلاة ونحوه- فيصير منقولا شرعيا، وفي ذلك خلاف الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فقد قال: إن المخلوقة من ماء الزنا تحل للزاني لأنها أجنبية عنه إذ لا يثبت لها توارث ولا غيره من أحكام النسب،
ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الولد للفراش»
وهو يقتضي حصر النسب في الفراش.
وقال بعض الشافعية: تحرم إن أخبره نبي- كعيسى عليه السلام- وقت نزوله بأنها من مائه، ورد عليه بأن الشارع قطع نسبها عنه كما تقرر فلا نظر لكونها من ماء سفاحه، واعترضوا على القائلين بالحرمة بأنهم إما أن يثبتوا كونها بنتا له بناء على الحقيقة لكونها مخلوقة من مائة، أو بناء على حكم الشرع، والأول باطل على مذهبهم طردا وعكسا، أما الأول فلأنه لو اشترى بكرا وافتضها وحبسها إلى أن تلد فهذا الولد مخلوق من مائه بلا شبهة مع أنه لا يثبت نسبه إلا عند الاستلحاق، وأما الثاني فلأن المشرقي لو تزوج مغربية وحصل هناك ولد منها مع عدم اجتماعها مع زوجها وحيلولة ما بين المشرق والمغرب بينهما فإنه يثبت النسب مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه، والثاني باطل بإجماع المسلمين على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني ولو انتسب إليه وجب على القاضي منعه، وأجيب باختيار الشق الأول إذ لا خلاف بين أهل اللسان في أن المخلوقة من ماء إنسان بنته سواء كان ذلك الماء ماء حلال أو سفاح والجزئية ثابتة في الصورتين، والظاهر أنها هي مبدأ حرمة النكاح، ألا ترى كيف حرم على المرأة ولدها من الزنا إجماعا، والتفرقة بين المسألتين بأن الولد في المسألة الثانية بعضها، وانفصل منها إنسانا، ولا كذلك البنت في المسألة الأولى لأنها انفصلت منه منيا لا تفيد سوى أن البعضية في المسألة الثانية أظهر، وأما أنها تنفي البعضية في المسألة الأولى فلا
458
لأنهم يطلقون البضعة- وهي تقتضي البعضية- على الولد المنفصل منيا من أبيه، فيقولون: فلان بضعة، وفلانة بضعة من فلان، وإنكار وجود الجزئية في المسألتين مكابرة، وعدم ثبوت التوارث مثلا بين المخلوقة من ماء الزنا وصاحب الماء ليس لعدم الجزئية وكونها ليست بنته حقيقة بل للإجماع على ذلك، ولولاه لورثت كما يرث ولد الزنا أمه.
وما ذكر في بيان إبطال الطرد من أنه لو اشترى بكرا فافتضها وحبسها فولدت فالولد مخلوق من مائه قطعا مع أنه لا يثبت نسبه إلا بالاستلحاق أخذه من قول الفقهاء في الأمة إذا ولدت عند المولى أنه لا يثبت نسب ولدها منه إلا أن يعترف به، ولا يكفي أنه وطئها فولدت، لكن في الهداية، وغيرها أن هذا حكم، فأما الديانة بينه وبين الله تعالى- فالمروي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه- أنه إن كان حين وطئها لم يعزل عنها وحصنها عن مظان ريبة الزنا يلزمه من قبل الله تعالى عنه- أنه إن كان حين وطئها لم يعزل عنها وحصنها عن مظان ريبة الزنا يلزمه من قبل الله تعالى أن يدعيه بالإجماع لأن الظاهر- والحال هذه- كونه منه، والعمل بالظاهر واجب، وإن كان عزل عنها حصنها أو لا أو لم يعزل ولكن لم يحصنها فتركها تدخل وتخرج بلا رقيب مأمون جاز له أن ينفيه لأن هذا الظاهر- وهو كونه منه بسبب أن الظاهر عدم زنا المسلمة- يعارضه ظاهر آخر وهو كونه من غيره لوجود أحد الدليلين على ذلك، وهما العزل، أو عدم التحصين، وفيه روايتان أخريان عن أبي يوسف ومحمد ذكرهما في المبسوط فقال: وعن أبي يوسف إذا وطئها ولم يستبرئها بعد ذلك حتى جاءت بولد فعليه أن يدعيه سواء عزل عنها أو لم يعزل حصنها أو لم يحصنها تحسينا للظن بها وحملا لأمرها على الصلاح ما لم يتبين خلافه، وهذا كمذهب الجمهور لأن ما ظهر بسببه يكون حالا به عليه حتى يتبين خلافه، وعن محمد لا ينبغي أن يدعي ولدها إذا لم يعلم أنه منه ولكن ينبغي أن يعتق الولد، وفي الإيضاح ذكرهما بلفظ الاستحباب، فقال: قال أبو يوسف: أحب أن يدعيه، وقال محمد: أحب أن يعتق الولد، وقال في الفتح بعد كلام. وعلى هذا ينبغي أن لو اعترف فقال: كنت أطأ لقصد الولد عند مجيئها بالولد أن يثبت نسب ما أتت به وإن لم يقل هو ولدي لأن ثبوته بقوله: هو ولدي بناء على أن وطأه حينئذ لقصد الولد، وعلى هذا قال بعض فضلاء الدرس: ينبغي أنه لو أقر أنه كان لا يعزل عنها وحصنها أن يثبت نسبه من غير توقف دعواه، وإن كنا نوجب عليه في هذه الحالة الاعتراف به فلا حاجة إلى أن نوجب عليه الاعتراف ليعترف فيثبت نسبه بل يثبت نسبه ابتداء، وأظن أن لا بعد في أن يحكم على المذهب بذلك انتهى، وفي المبسوط أنه إذا تطاول الزمان ألحق به لأن التطاول دليل إقراره لأنه يوجد منه حينئذ ما يدل على الإقرار من قبول التهنئة ونحوه فيكون كالتصريح بإقراره.
ومن مجموع ما ذكر يعلم ما في كلام المعترض، وأن للخصم عدم تسليمه لكن ذكر في البحر متعقبا: ظن بعد الفضلاء أنه لا يصح أن يحكم على المذهب به لتصريح أهله بخلافه، ونقل نص البدائع في ذلك. ثم قال فإن أراد الثبوت عند القاضي ظاهرا فقد صرحوا أنه لا بد من الدعوة مطلقا، وإن أراد فيما بينه وبين الله تعالى فقد صرح في الهداية وغيرها بأن ما ذكرناه من اشتراط الدعوة إنما هو في القضاء إلى آخر ما ذكرناه لكن في المجتبى لا يصح إعتاق المجنون وتدبيره ويصح استيلاده، فهذا إن صح يستثنى من الحكم وهو مشكل انتهى، وعلى هذا يقال في المسألة التي ذكرها المعترض: المولود ولد للمولى في نفس الأمر لأنه مخلوق من مائه وولد الزنا كذلك وزيادة حيث انضم إلى ذلك الإقرار، والله سبحانه جعل مناط الحرمة البنوة وهي متحققة في مسألتنا فكيف يحل النكاح في نفس الأمر، وعدم ثبوت التوارث ونحوه كما قلنا كان إجماعا، وعدم الاستلحاق قضاء إلا بالدعوى أمر آخر وراء تحقق البنوة في نفس الأمر فكم متحقق في نفس الأمر لا يقضى به وكم مقضي به غير متحقق في نفس الأمر- كما في خبر الفرس
459
التي اشتراها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الأعرابي وشهد له خزيمة لما أنكر الأعرابي البيع- وقد حقق الكلام في بحث الاستيلاء في فتح القدير وغيره من مبسوطات كتب القوم، وما ذكر في إبطال العكس من مسألة تزوج المشرقي بمغربية فلا نسلم القطع فيها بأن الولد ليس مخلوق من مائه لثبوت كرامات الأولياء والاستخدامات فيتصور أن يكون الزوج صاحب خطوة أو جنى، وأنه ذهب إلى المغرب فجامعها، ولولا قيام هذا الاحتمال مع قيام النكاح لم يلحق الولد به، ألا ترى كيف قال الأصحاب: لو جاءت امرأة الصبي بولد لم يثبت نسبه منه لعدم تصور ذلك هناك والتصور شرط، وقيام الفراش وحده غير كاف على الصحيح، ولعل اعتبار هذه البنوة قضاء وإلا فحيث لم يكن الولد مخلوقا من مائه لا يقال له ولد الزوج في نفس الأمر وإنما اعتبروا ذلك مع ضعف الاحتمال سترا للحرائر وصيانة للولد عن الضياع، وقريب من هذا ما ذهب إليه الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله تعالى في باب الاستيلاد أن الجارية إذا ولدت يثبت نسب الولد من المولى إذا أقر بوطئها مع العزل كما يثبت مع عدم العزل بل لو وطئها في دبرها يلزمه الولد عند مالك، ومثله عن أحمد، وهو وجه مضعف للشافعية، وقيل: إن بين هذه المسألة ومسألة تزويج المشرقي بمغربية بعدا كبعد ما بين المشرق والمغرب لأن الوطء هنا متحقق في الجملة من غير حاجة إلى قطع براري وقفار ولا كذلك هناك والله تعالى أعلم. والبنات جمع بنت في المشهور وصحح أن لامها واو كأخت وإنما رد المحذوف في أخوات ولم يرد في بنات حملا لكل واحد من الجمعين على مذكره، فمذكر بنات لم يرد إليه المحذوف بل قالوا فيه بنون، ومذكر أخوات رد فيه محذوفه فقالوا في جمع أخ: إخوة وأخوات، وقد نظم الدنوشري السؤال فقال:
أيها الفاضل اللبيب تفضل... بجواب به يكون رشادي
لفظ أخت ولفظ بنت إذا ما... جمعا جمع صحة لا فساد
فلأخت ترد لام وأما... لفظ بنت فلا فأوضح مرادي
مع تعويضهم من اللام تاء... فيهما لا برحت أهل اعتمادي
وقد أجاب هو رحمه الله تعالى عن ذلك بقوله:
لفظ أخت له انضمام بصدر... ناسب الواو فاكتسى بالمعاد
وقال أبو البقاء: التاء فيها ليست للتأنيث لأن تاء التأنيث لا يسكن ما قبلها، وتقلب هاء في الوقف فبنات ليس بجمع بنت بل إ، وكسرت الباء تنبيها على المحذوف قاله الفراء، وقال غيره: أصلها الفتح وعلى ذلك جاء جمعها، ومذكرها وهو بنون، وإلى ذلك ذهب البصريون، وأما أخت فالتاء فيها بدل من الواو لأنها من الأخوة، والأخوات ينتظمن الأخوات من الجهات الثلاث وكذا الباقيات لأن الاسم يشمل الكل ويدخل في العمات والخالات أولاد الأجداد والجدات وإن علوا، وكذا عمة جده وخالته وعمة جدته وخالاتها لأب وأم أو لأب أو لأم وذلك كله بالإجماع، وفي الخانية وعمة العمة لأب وأم أو لأب كذلك، وأما عمة العمة لأم فلا تحرم، وفي المحيط: وأما عمة العمة فإن كانت العمة القربى عمة لأب وأم أو لأب فعمة العمة حرام لأن القربى إذا كانت أخت أبيه لأب وأم أو لأب فإن عمتها تكون أخت جدة أب الأب وأخت أب الأب حرام لأنها عمته وإن كانت القربى عمة لأم فعمة العمة لا تحرم عليه لأن أب العمة يكون زوج أم أبيه فعمتها تكون أخت زوج الجدة أو الأب، وأخت زوج الأم لا تحرم، فأخت زوج الجدة أولى أن لا تحرم، وأما خالة الخالة فإن كانت الخالة القربى خالة لأب وأم أو لأم فخالتها تحرم عليه، وإن كانت القربى خالة لأب فخالتها لا تحرم عليه لأن أم الخالة القربى تكون امرأة الجد أب الأم لا أم أمه فأختها تكون أخت
460
امرأة الأب وأخت امرأة الجد لا تحرم عليه انتهى، ولا يخفى أنه كما يحرم على الرجل أن يتزوج بمن ذكر يحرم على المرأة التزوج بنظير من ذكر.
والظاهر أن هذا التحريم الذي دلت عليه الآية لم يثبت في جميع المذكورات في سائر الأديان، نعم ذكروا أن حرمة الأمهات، والبنات كانت ثابتة حتى في زمان آدم عليه السلام ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان، وقيل: إن زرادشت نبي المجوس بزعمهم قال بحله، وأكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا، وعدم إيذاء الصفر المذاب له لأدوية كان يلطخ بها جسده، وقد شاهدنا من يحمل النار بيده بعد لطخها بأدوية مخصوصة ولا تؤذيه- وحينئذ لا يصلح أن يكون معجزة.
وأما نكاح الأخوات فقد قيل: إنه كان مباحا في زمان آدم عليه السلام للضرورة وكانت حواء عليها السلام تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فيأخذ ذكر البطن الثانية أنثى البطن الأولى، وبعض المسلمين ينكر ذلك ويقول: إنه بعث الحور من الجنة حتى تزوج بهن أبناء آدم عليه السلام، ويرد عليه أن هذا النسل حينئذ لا يكون محض أولاد آدم وذلك باطل الإجماع وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ عطف على سابقه والرضاعة بفتح الراء مصدر رضع كسمع وضرب، ومثله الرضاعة بالكسر، والرضع بسكون الضاء وفتحها، والرضاع كالسحاب، والرضع كالكتف، وحكوا رضع ككرم ورضاعا كقتال، وقد تبدل ضاده تاء، ورضاعا كسؤال لكن المضموم كالمراضعة تقتضي الشركة، ويقال: أرضعت المرأة فهي مرضع إذا كان لها ولد ترضعه فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت: مرضعة، ومعناها لغة مص الثدي، وشرعا مص الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص، وأرادوا بذلك وصول اللبن من ثدي المرأة إلى جوف الصغير من فمه أو أنفه في المدة الآتية سواء وجد مص أو لم يوجد، وإنما ذكروا المص لأنه سبب للوصول فأطلقوا السبب وأرادوا المسبب، وقد صرح في الخانية أنه لا فرق بين المص والسعوط ونحوه، وقيدوا بالآدمية ليخرج الرجل والبهيمة، وتفرد الإمام البخاري- وهو سبب فتنته في قول- فذهب فيما إذا ارتضع صبي وصبية من ثدي شاة إلى وقوع الحرمة بينهما وأطلقت لتشمل البكر والثيب الحية والميتة، وقيدنا بالفم والأنف ليخرج ما إذا وصل بالإقطار في الأذن. والإحليل والجائفة والآمة وبالحقنة في ظاهر الرواية، وخرج بالوصول ما لو أدخلت المرأة حلمة ثديها في فم رضيع ولا تدري أدخل اللبن في حلقه أم لا لا يحرم النكاح لأن في المانع شكا، وقد نزل الله سبحانه الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما للرضيع، والمراضعة أختا، وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته، وأختها خالته، وكل ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه، ومن هنا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: «يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب».
وذهب كثير من المحققين كمولانا شيخ الإسلام، وغيره إلى أن الحديث جار على عمومه وأما أم أخيه لأب وأخت ابنه لأم وأم أم ابنه وأم عمه وأم خاله لأب فليست حرمتهن من جهة النسب حتى تخل بعمومه ضرورة حلهن في صورة الرضاع بل من جهة المصاهرة، ألا يرى أن الأولى موطوءة أبيه، والثانية بنت موطوءته والثالثة أم موطوءته.
والرابعة موطوءة جده الصحيح، والخامسة موطوءة جده الفاسد، ووقع في عبارة بعضهم استثناء صور بعد سوق الحديث، وأنهى في البحر المسائل المستثنيات إلى إحدى وثمانين مسألة، وأطال الكلام في هذا المقام، وأتى بالعجب العجاب، وظاهر الآية أنه لا فرق بين قليل الرضاع وهو ما يعلم وصوله إلى الجوف وكثيره في التحريم، وأما
461
خبر مسلم «لا تحرم المصة والمصتان»
وما دل على التقدير فمنسوخ (١) صرح بنسخه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين قيل له: إن الناس يقولون: إن الرضعة لا تحرم فقال: كان ذلك ثم نسخ.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيرة يحرم، وروي عن ابن عمر أن القليل يحرم، وعنه أنه قيل له: إن الزبير يقول: لا بأس الرضعة والرضعتين فقال: قضاء الله تعالى خير من قضاء ابن الزبير، وتلا الآية، وقال الشافعي عليه الرحمة على ما نقله أصحابنا (٢) عنه لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات مشبعات في خمسة أوقات متفاصلة عرفا، وعن أحمد روايتان كقولنا وكقوله، واستدل على ذلك بما
أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث الزبير أنه قال: قال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تحرم المصة والمصتان ولا الإملاجة والإملاجتان،
ووجه الاستدلال بذلك بأن المصة داخلة في المصتين، والإملاجة في الإملاجتين، فحاصله لا تحرم المصتان ولا الإملاجتان فنفى التحريم على أربع فلزم أن يثبت بخمس.
واعترضه ابن الهمام بأنه ليس بشيء، أما أولا فلأن مذهب الشافعي ليس التحريم بخمس مصات بل بخمس شبعات في أوقات، وأما ثانيا فلأن المصة فعل الرضيع والإملاجة الإرضاعية فعل المرضعة، فحاصل المعنى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نفى كون الفعلين محرمين منه ومنها ثم حقق أن ما في هذه الرواية لا ينبغي أن يكون حديثا واحدا بأن الاملاج ليس حقيقة المحرم بل لازمه من الارتضاع فنفي تحريم الاملاج نفي تحريم لازمه فليس الحاصل من لا تحرم الاملاجتان إلا لا يحرم لازمهما أعني المصتين فلو جمعا في حديث كان الحاصل لا تحرم المصتان ولا المصتان فلزم أن لا يصح أن يراد إلا المصتان لا الأربع، وعلى هذا يجب كون الراوي وهو الزبير رضي الله تعالى عنه- أراد أن يجمع بين ألفاظه صلى الله تعالى عليه وسلم التي سمعها منه في وقتين كأنه قال: «
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تحرم المصة والمصتان»
وقال أيضا: «لا تحرم الإملاجة والإملاجتان».
وقيل: في وجه الاستدلال طريق آخر، وهو أن الحديث ناف لما ذهب إليه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيثبت به مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لعدم القائل بالفصل، واعترض بأن القائل بالفصل أبو ثور وابن المنذر وداود وأبو عبيد، وهؤلاء أئمة الحديث قالوا: المحرم ثلاث رضعات، والقول بعدم اعتبار قولهم في حيز المنع لقوة وجهه بالنسبة إلى وجه قول الشافعي.
واستدل بعض أصحابه على هذا المطلب بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي النبي ﷺ وهي فيما يقرأ من القرآن، وفي رواية أنه كان في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تشاغلنا بموته فدخلت دواجن فأكلتها، وبما
روي عن عائشة أيضا قالت: جاءت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال صلّى الله عليه وسلم: «أرضعي سالما خمسا تحرمي بها عليه»
والجواب أن جميع ذلك منسوخ كما صرح بذلك ابن عباس فيما مر.
ويدل على نسخ ما في خبر عائشة الأول أنه لو لم يكن منسوخا لزم ضياع بعض القرآن الذي لم ينسخ والله تعالى قد تكفل بحفظه، وما في الرواية لا ينافي النسخ لجواز أن يقال: إنها رضي الله تعالى عنها أرادت أنه كان مكتوبا
(١)
كحديث «يا نبي الله هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال: لا»
اهـ منه.
(٢) وإنما قيدنا بذلك لأن قيد «مشبعات» خلاف ما يدل عليه كتب مذهبه اهـ منه.
462
ولم يغسل بعد للقرب حتى دخلت الدواجن فأكلته، والقول بأن ما ذكر إنما يلزم منه نسخ التلاوة فيجوز أن تكون التلاوة منسوخة مع بقاء الحكم- كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما- ليس بشيء لأن ادعاء بقاء حكم الدال بعد نسخه يحتاج إلى دليل وإلا فالأصل أن نسخ الدال يرفع حكمه، وما نظر به لولا ما علم بالسنة. والإجماع لم يثبت به، ثم الذي نجزم به في حديث سهلة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرد أن يشبع سالما خمس رضعات في خمسة أوقات متفاصلات جائعا لأن الرجل لا يشبعه من اللبن رطل ولا رطلان فأين تجد الآدمية في ثديها قدر ما يشبعه هذا محال عادة، فالظاهر أن معدود خمس فيه إن صح أنها من الخبر المصات، ثم كيف جاز أن يباشر عورتها بشفتيه فلعل المراد أن تحلب له شيئا مقدار خمس رضعات فيشربه- كما قال القاضي- وإلا فهو مشكل، وقد يقال: هو منسوخ من وجه آخر لأنه يدل على أن الرضاع في الكبر يوجب التحريم لأن سالما كان إذ ذاك رجلا وهذا مما لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة فإن مدة الرضاع التي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا عند الإمام الأعظم، وسنتان عند صاحبيه ومستندهما قوي جدا، وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة، وعن مالك: سنتان وشهر، وفي رواية أخرى شهران، وفي أخرى سنتان وأيام، وفي أخرى ما دام محتاجا إلى اللبن غير مستغن عنه، وقال زفر: ثلاث سنين، نعم قال بعضهم: خمس عشرة سنة، وقال آخرون: أربعون سنة، وقال داود: الإرضاع في الكبر محرم أيضا، ولا حدّ للمدة- وهو مروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها- وكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم أو بعض بنات أختها أن ترضعه، وروى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا، وعمدة من رأى رأيها في هذا الباب خبر سهلة مع أن الآثار الصحيحة على خلافه،
فقد صح مرفوعا وموقوفا «لارضاع إلا ما كان في حولين»
وفي الموطأ وسنن أبي داود عن يحيى بن سعيد «أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري فقال: إني مصصت من امرأتي ثديها لبنا فذهب في بطني فقال أبو موسى: لا أراها إلا قد حرمت عليك فقال ابن مسعود: انظر ما تفتي به الرجل فقال أبو موسى: فما تقول أنت؟ فقال ابن مسعود: لا رضاع إلا في حولين، فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم، وفيه عن ابن عمر جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال:
كانت لي وليدة فكنت أصيبها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها فقالت: دونك قد والله أرضعتها قال عمر:
أرجعها وأت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغر،
وروى الترمذي- وقال حديث صحيح- من حديث أم سلمة أنه قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يحرم من الرضاع إلا فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام»

وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم» (١)
حتى أن عائشة نفسها رضي الله تعالى عنها روت ما يخالف عملها،
ففي الصحيحين عنها أنها قالت: «دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: يا عائشة من هذا؟ فقلت: أخي من الرضاعة فقال: يا عائشة انظرن من إخوانكم إنما الرضاعة من المجاعة»
واعتبر مرويها دون رأيها لظهور غفلتها فيه وعدم وقوع اجتهادها على المحز، ولهذا قيل: يشبه أنها رجعت كما رجع أبو موسى لما تحقق عندها النسخ وحمل كثير من العلماء حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم، وجعلوا أيضا العفو عن مباشرة العورة من الخواص.
هذا ومن غرائب ما وقفت عليه مما يتعلق بهذه الآية عبارة من مقامة للعلامة السيوطي رحمه الله تعالى سماها- الدوران الفلكي على ابن الكركي- وفيها يخاطب الفاضل المذكور بما نصه: ماذا صنعت بالسؤال المهم الذي دار
(١) بالزاي والراء اهـ منه.
463
في البلد ولم يجب عنه أحد، وفي الفرق بين قوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وبين ما لو قيل: واللاتي أرضعنكم أمهاتكم حيث رتب على الأول خمس رضعات واردة، ولو قيل: الثاني لا كتفي برضعة واحدة، ولقد ورد عليّ وسيق إلي فلم أكتب عليه مع أن جوابه نصب عيني، وعتيد لدي لا يحول شيء بينه وبيني لأنظر هل من رجل رشيد أو أحد له في العلم قصر مشيد هلا أبدعت فيه جوابا مسددا، ونوعت فيه طرائق قددا، واتخذت بذلك على دعوى العلم ساعدا وعضدا، وها له نحو عامين ما حلاه أحد بحرف، ولا رمقه ناظر بطرف ولا أودعه ذو ظرف بظرف، ولو شئت أنا لكتبت عليه عدة مؤلفات ولسطرت فيه خمس مصنفات، بسيط حريز ووسيط غريز، ومختصر وجيز، ومنظومة ذات تطريز، ومقامة إنشاء كأنها ذهب إبريز انتهى كلامه.
(وأقول) لعل الفرق أنه سبحانه لما ذكر أُمَّهاتُكُمْ في هذه الآية معطوفا على ما تقدم في الآية السابقة وفيها تحريم الأمهات بقي الذهن مشرئبا إلى بيان الفارق بين هذه الأمهات وتلك الأمهات فأتى سبحانه بقوله: اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ بيانا لذلك دافعا لتوهم التكرار فكان قيد الإرضاع الواقع صلة معتنى به أتم اعتناء، ومما يترتب على هذا الاعتناء اعتباره أينما لوحظ، وقد لوحظ في الآية خمس مرات الأولى حين أتى به فعلا، والثانية حين أسند إلى الفاعل أعني ضمير النسوة، والثالثة حين تعلق بالمفعول أعني ضمير المخاطبين، والرابعة حين جعل جزء الجملة الواقعة صلة الموصول، والخامسة حين جعل اللَّاتِي صفة أُمَّهاتُكُمْ لأن وصفيته لها باعتبار الصلة بلا شبهة فهذه خمس ملاحظات للإرضاع في هذا التركيب تشير إلى أن ما به تحصل الأمومة خمس رضعات، وهذا أحد الأسرار لاختيار هذا التركيب مع إمكان تراكيب غيره لعل بعضها أخصر منه، وكثيرا ما وقع في القرآن تراكيب وتعبيرات يشار بها إلى أمور واقعية بينها وبين ما في تلك التعبيرات مناسبة مثل ما وقع في قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: ٢٢٨] من الاحتباك المشير إلى ما بين الزوجين من الائتلاف، وما وقع في قوله تعالى: أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ [البقرة: ٢٨٢] من الإدغام في يُمِلَّ المشير إلى حال الفاعل وهو الأخرس المعقود اللسان في كثير من الأقوال، وما وقع في قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: ٣٣] من عدم الاستحالة بالانعكاس المشير إلى كرية الأفلاك في رأي إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.
وليس هذا من باب الاستدلال بل من باب الإشارة المقوية له ألا ترى أنه لم يستدل أحد ممن ذهب إلى اشتراط الخمس بهذه الآية ولكن استدلوا عليه بورود الخمس في الأخبار، وإلى ذلك تشير عبارة الجلال السيوطي رحمه الله تعالى، وهذه الإشارة مفقودة في القول المفروض أعني واللاتي أرضعنكم أمهاتكم، لأن العطف فيه لا يوهم التكرار لعدم تقدم نظيره فلا يشرأب الذهن إلى ما يذكر بعد كما اشرأب فيما ذكر قبل، فلا داعي لاعتباره أينما لوحظ كما كان كذلك هناك بل يكفي اعتباره مرة واحدة وهي أدنى ما تتحقق به الماهية لا سيما وقد ذكر بعد أُمَّهاتُكُمْ على أنه بدل والبدل كما قالوا: هو المقصود بالنسبة على نية تكرار العامل المفيد لتقرير معنى الكلام وتوكيده، وهذا التوكيد أيضا مشعر بوحدة الإرضاع لأن التحريم بالرضعة الواحدة مما يكاد يستبعد فيحتاج إلى توكيده بخلاف الرضعات العديدة، وقد رأيت في بعض نسخ شرح صحيح مسلم للإمام النووي بعد ذكر استدلال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه على دعوى ثبوت الحرمة برضعة واحدة بقوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ حيث لم يذكر عددا ما نصه: واعترض أصحاب الشافعي على المالكية فقالوا: إنما كانت تحصل الدلالة لكم لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم أمهاتكم انتهى، ولم يصرح رحمه الله تعالى بأن الآية التي استدل بها المالكية مشعرة بالخمس بل اقتصر على أن الدلالة على الواحدة لا تحصل بها وأراد أن ما أشرنا إليه من الإشعار القوي إلى التعدد يأبى حمل الماهية على
464
أقل ما تتحقق فيه، وفي بعض نسخ ذلك الشرح- واعترض أصحاب الشافعي على المالكية- فقالوا: إنما كانت تحصل لكم الدلالة لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم وأمهاتكم بواو بين أَرْضَعْنَكُمْ وبين أُمَّهاتُكُمْ والظاهر أنها غلط من الناسخ، والتزام توجيهها تعسف رأينا تركه ربحا.
هذا ما ظهر لنظري القاصر وفكري الفاتر، ولقد سألت بالرفق عن هذا الفرق جمعا من علماء عصري، وراجعت لشرح ذلك المتن جميع الفضلاء الذين تضمنتهم حواشي مصري فلم أر من نطق ببنت شفة ولا من ادعى في حل ذلك الإشكال معرفة مع أن منهم من خضعت له الأعناق، وطبقت فضائله الآفاق، وما رأيت من المروءة أن أمهلهم حتى ينقر في الناقور أو أنتظر بنات أفكارهم إلى أن يلد البغل العاقور الباقور، فكتبت ما ترى ولست على يقين أنه الأولى والأحرى فتأمل، فلمسلك الذهن اتساع والحق أحق بالاتباع وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التي لها لحمة كلحمة النسب.
والمراد بالنساء المنكوحات على الإطلاق سواء كن مدخولا بهن أولا وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة لكن يشترط أن يكون النكاح صحيحا أما إذا كان فاسدا فلا تحرم الأم إلا إذا وطئ بنتها،
أخرج البيهقي في سننه، وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة»
وإلى ذلك ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وعن ابن عباس روايتان، فقد أخرج ابن المنذر عنه أنه قال: «النساء مبهمة إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها».
وأخرج هو أيضا عن مسلم بن عويمر أنه قال: نكحت امرأة فلم أدخل بها حتى توفي عمي عن أمها فسألت ابن عباس فقال: انكح أمها، وعن زيد بن ثابت أيضا روايتان، فقد أخرج مالك عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ففارقها قبل أن يمسها هل تحل له أمها؟ فقال: لا الأم مبهمة ليس فيها شرط إنما الشرط في الربائب.
وأخرج ابن جرير وجماعة عنه أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها، وحكي عن ابن مسعود كان يفتي بحل أم الامرأة إذا لم يكن دخل ببنتها ثم رجع عن ذلك، فقد أخرج مالك عنه أنه استفتي بالكوفة عن نكاح الأم بعد البنت إذا لم تكن البنت مست فأرخص في ذلك، ثم أنه قدم المدينة فسئل عن ذلك فأخبر أنه ليس كما قال، وإن الشرط في الربائب فرجع إلى الكوفة فلم يصل إلى بيته حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك فأمره أن يفارقها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها أو تموت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها؟ فقال: هي بمنزلة الربيبة،
وإلى ذلك ذهب ابن الزبير ومجاهد، ويدخل في لفظ الأمهات الجدات من قبل الأب والأم وإن علون وإن كانت امرأة الرجل أمة فلا تحرم أمها إلا بالوطء أو دواعيه لأن لفظ النساء إذا أضيف إلى الأزواج كان المراد منه الحرائر كما في الظهار والإيلاء، وقرئ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن» وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ الربائب جمع ربيبة ورب وربي بمعنى، والربيب فعيل بمعنى مفعول، ولما ألحق بالأسماء الجامدة جاز لحوق التاء له وإلا ففعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وهذا معنى قولهم: إن التاء للنقل إلى الاسمية، والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه غالبا كما يرب ولده، والحجور جمع حجر بالفتح والكسر، وهو في اللغة حضن الإنسان أعني ما دون إبطه إلى الكشح، وقالوا: فلان في حجر فلان أي في كنفه ومنعته، وهو المراد في الآية، ووصف الربائب بكونهن في الحجور مخرج مخرج الغالب والعادة إذ الغالب كون البنت مع الأم عند الزوج، وفائدته تقوية علة الحرمة كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء، وقيل: ذكر ذلك
465
للتشنيع عليهم نحو أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: ١٣٠] في قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ولولا ما ذكر لثبتت الإباحة عند انتفائه بدلالة اللفظ في غير محل النطق عند من يعتبر مفهوم المخالفة وبالرجوع إلى الأصل وهو الإباحة عند من لا يعتبر المفهوم لأن الخروج عنه إلى التحريم مقيد بقيد فإذا انتفى القيد رجع إلى الأصل لا بدلالة اللفظ،
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه يقول بحل الربيبة إذا لم تكن في الحجر
فقد أخرج عبد الرزاق.
وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس قال: «كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها فلقيني عليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه فقال: ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة فقال: لها بنت؟ قلت: نعم وهي بالطائف قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا قال: أنكحها قلت: فأين قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ؟ قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك»
وإلى هذا ذهب داود، والأول مذهب الجمهور، وإليه رجع ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ويدخل في الحرمة بنات الربيبة والربيب وإن سفلن لأن الاسم يشملهن بخلاف الأبناء والآباء لأنه اسم خاص بهن فلذا جاز التزوج بأم زوجة الابن وبنتها، وجاز للابن التزوج بأم زوجة الأب وبنتها.
وقال بعض المحققين: إن ثبوت حرمة المذكورات بالإجماع مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من رَبائِبُكُمُ أو من ضميرها المستكن في الظرف أي اللاتي استقررن في حجوركم كائنات من نسائكم إلخ، واللَّاتِي صفة للنساء المذكور قبله، وهي للتقييد إذ ربيبة الزوجة الغير المدخول بها ليست بحرام ولا يجوز كون الجار حالا من أمهات أيضا، أو مما أضيفت هي إليه ضرورة أن الحالية من ربائبكم أو من ضميره يقتضي كون مِنَ ابتدائية وحاليته من أمهات، أو مِنْ نِسائِكُمُ يستدعي كونها بيانية، وادعاء كونها اتصالية كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»
وقوله:
إذا حاولت في أسد فجورا فلست (١) منك ولست مني
وهو معنى ينتظم الابتداء والبيان فيتناول اتصال الأمهات بالنساء لأنهن والدات، وبالربائب لأنهن مولودات، أو جعل الموصول صفة للنساءين مع اختلاف عامليهما لأن النساء المضاف إليه أمهات مخفوض بالإضافة، والمجرور بمن بها بعيد جدا بل ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه، وأما القراءة فضعيفة الرواية، وعلى تقدير الصحة محمولة على النسخ كما قاله شيخ الإسلام، والباء من بهن للتعدية، وفيها معنى المصاحبة أو بمعنى مع أي دخلتم معهن الستر، وهو كناية عن الجماع- كبنى عليها، وضرب عليها الحجاب- وكثير من الناس يقول: بنى بها، ووهمهم الحريري- وهو وهم- واللمس ونظائره في حكم الجماع عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، قال بعض الفضلاء: واعترض بأن ما ذهب إليه لا مجال له لأن صريح الآية غير مراد قطعا بل ما اشتهر من معناها الكنائي فما قاله إن أثبت بالقياس فهو مخالف لصريح معنى الشرط، وإذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معقل، وإن أثبت بالحديث وهو غير مشهور لم يوافق أصوله، ويدفع بأنه من صريح النص لأن باء الإلصاق صريحة فيه لأنه يقال: دخل بها إذا أمسكها وأدخلها البيت (فإن قلت) هب أن الكناية لا يشترط فيها القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة لكن تلزم إرادته كما حقق في المعاني فلا دلالة للآية عليه (أجيب) بأنه وإن لم يلزم إرادته لكن لا مانع منه عند قيام قرينة على إرادته، وكفى بالآثار قرينة، ومنها ما
روي من طريق ابن وهب عن أبي أيوب عن ابن جريج «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال في الذي يتزوج المرأة فيغمز لا يزيد على ذلك: لا يتزوج ابنتها»
وهو مرسل ومنقطع إلا أن هذا لا يقدح عندنا إذا كانت الرجال ثقات فلذا
(١) قوله: «فلست» إلخ كذا بخط المؤلف وهو غير متزن، ولعله «فإني لست» أو نحو ذلك فليحرر.
466
أدرجوه في مدلول النظم،
وروي عن ابن عمر أنه قال: «إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وبنتها».
(فإن قلت) هب أنه يدخل اللمس في صريحه فكيف يدخل نظيره فيه؟ (أجيب) بأنه داخل بدلالة النص، وما ذكر من مخالفة صريح الشرط مبني على اعتبار مفهوم الشرط، ونحن لا نقول به مع أنه غير عام، وبتقدير عمومه لا يبعد القول بالتخصيص فتدبر، والزنا في الفرج محرم عندنا فمن زنى بامرأة حرمت عليه بنتها خلافا للشافعي حيث ذهب إلى أن الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأنها نعمة فلا تنال بمحظور،
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحرم الحرام الحلال»
ولنا أن الوطء سبب للولد يتعلق به التحريم قياسا على الوطء الحلال، ووصف الحل لا دخل له في المناط فإن وطء الأمة المشتركة وجارية الابن والمكاتبة والمظاهر منها وأمته المجوسية والحائض والنفساء ووطء المحرم والصائم كله حرام، وتثبت به الحرمة المذكورة، ويدل ذلك على أن المعتبر في الأصل هو ذات الوطء من غير نظر لكونه حلالا أو حراما.
وروي «أن رجلا قال: يا رسول الله إني زنيت بامرأة في الجاهلية أفأنكح ابنتها فقال صلّى الله عليه وسلم: لا أرى ذلك ولا يصلح أن تنكح امرأة تطلع من ابنتها على ما تطلع عليه منها»،
وهذا وإن كان فيه إرسال وانقطاع لكن جئنا به في مقابلة خبرهم وقد طعن فيه المحدثون، وذكره عبد الحق عن ابن عمر ثم قال: في إسناده إسحاق بن أبي فروة وهو متروك على أنه غير مجري على ظاهره، أرأيت لو بال أو صب خمرا في ماء قليل ألم يكن حراما مع أنه يحرم استعماله فيجب كون المراد منه أن الحرام لا يحرم باعتبار كونه حراما وحينئذ نقول بموجبه إذ لم نقل بإثبات الزنا حرمة المصاهرة باعتبار كونه زنا بل باعتبار كونه وطءا، وأجاب صاحب الهداية عن قولهم في تعليل كون الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة بأنها نعمة فلا تنال بمحظور بأن الوطء يحرم من حيث إنه سبب للولد لا من حيث ذاته ولا من حيث أنه زنا، وفي فتح القدير أن هذا القول مغلطة فإن النعمة ليست التحريم من حيث هو تحريم لأنه تضييق ولذا اتسع الحل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم نعمة من الله سبحانه وتعالى بل من حيث هو يترتب على المصاهرة فحقيقة النعمة هي المصاهرة لأنها التي تصير الأجنبي قريبا عضدا وساعدا يهمه ما أهمك ولا مصاهرة بالزنا، فالصهر زوج البنت مثلا لا من زنا ببنت الإنسان فانتفت الصهرية وفائدتها أيضا إذ الإنسان ينفر من الزاني ببنته فلا يتعرف به بل يعاديه فأنى ينتفع به، والمنقولات متكافئة فالمرجع القياس، وقد بينا فيه إلغاء وصف زائد على كونه وصفا، وتمام الكلام في المبسوطات من كتب أئمتنا فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أي فيما قبل دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أي بأولئك النساء أمهات الربائب فَلا جُناحَ أي فلا إثم عَلَيْكُمْ أصلا في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن، أو متن، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبله، وفيه دفع توهم أن قيد الدخول كقيد الكون في الحجور، والفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها على طرز ما مر، وفي الاقتصار في بيان نفي الحرمة على نفي الدخول إشارة إلى أن المعتبر في الحرمة إنما هو الدخول دون كون الربائب في الحجور، وإلا لقيل: فإن لم تكونوا دخلتم بهن ولسن في حجوركم أو فإن لم تكونوا دخلتم بهن أو لسن في حجوركم جريا على العادة في إضافة نفي الحكم إلى نفي تمام العلة المركبة أو أحد جزأيها الدائر، وإن صح إضافته إلى نفي جزئها المعين لكنه خلاف المستمر من الاستعمال وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ أي زوجاتهم جمع حليلة سميت الزوجة بذلك لأنها تحل مع زوجها في فراش واحد، أو لأنها تحل معه حيث كان فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وكذا يقال للزوج حليل، وقيل: اشتقاقهما من الحل لحل كل منهما إزار صاحبه، وقيل: من الحل إذ كل منهما حلال لصاحبه ففعيل بمعنى مفعول، والتاء في حليلة لإجرائها مجرى الجوامد ولو جعل فعيل في جانب الزوج بمعنى فاعل، وفي جانب الزوجة بمعنى مفعول كان
467
فيه نوع لطافة لا تخفى، والآية ظاهرة في تحريم الزوجة فقط، وأما حرمة من وطئها الابن ممن ليس بزوجة فبدليل آخر، وقال ابن الهمام: إن عتبروا الحليلة من حلول الفراش، أو حل الإزار تناول الموطوءة بملك اليمين أو شبهة أو زنا فيحرم الكل على الآباء وهو الحكم الثابت عندنا، ولا يتناول المعقود عليهما للابن أو بنيه، وإن سفلوا قبل الوطء والفرض أنها بمجرد العقد تحرم على الآباء وذلك باعتباره من الحل بالكسر، وقد قام الدليل على حرمة المزني بها للابن على الأب فيجب اعتباره في أعم من الحل والحل، ثم يراد بالأبناء الفروع فتحرم حليلة الابن السافل على الجد الأعلى وكذا ابن البنت وإن سفل، والظاهر من كلام اللغويين أن الحليلة الزوجة كما أشرنا إليه، واختار بعضهم إرادة المعنى الأعم الشامل لملك اليمين ليكون السر في التعبير بها هنا دون الأزواج أو النساء أن الرجل ربما يظن أن مملوكة ابنه مملوكة له بناء على أن الولد وماله لأبيه فلا يبالي بوطئها وإن وطئها الابن فنبهوا على تحريمها بعنوان صادق عليها وعلى الزوجة صدق العام على أفراده للإشارة إلى أنه لا فرق بينهما فتدبر، وحكم الممسوسات ونحوهن حكم اللاتي وطئهن الأبناء الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ صفة للأبناء، وذكر لاسقاط حليلة المتبنى، وعن عطاء أنها نزلت حين تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه فقال المشركون في ذلك، وليس المقصود من ذلك إسقاط حليلة الابن من الرضاع فإژنها حرام أيضا كحليلة الابن من
النسب.
وذكر بعضهم فيه خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه والمشهور عنه الوفاق في ذلك وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في حيز الرفع عطف على ما قبله من المحرمات، والمراد جمعهما في النكاح لا في ملك اليمين، ولا فرق بين كونهما أختين من النسب أو الرضاعة حتى قالوا: لو كان له زوجتان رضيعتان أرضعتهما أجنبية فسد نكاحهما.
وحكي عن الشافعي أنه يفسد نكاح الثانية فقط ولا يحرم الجمع بين الأختين في ملك اليمين، نعم جمعهما في الوطء بملك اليمين ملحق به بطريق الدلالة لاتحادهما في المدار فيحرم عند الجمهور، وعليه ابن مسعود وابن عمر وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم.
واختلفت الرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه، فأخرج البيهقي وابن أبي شيبة عنه أنه سئل عن رجل له أمتان أختان وطئ إحداهما ثم أراد أن يطأ الأخرى قال: لا حتى يخرجها من ملكه، وأخرجا من طريق أبي صالح عنه أنه قال: في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهى ولا أحلل ولا أحرم ولا أفعله أنا ولا أهل بيتي، وروى عبد بن حميد عن ابن عباس أن الجمع مما لا بأس به، وحكي مثله عن عثمان رضي الله تعالى عنه، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما أحب أن أجيز الجمع ونهى السائل عنه، وزعم بعضهم أن الظاهر أن القائل بالحل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم رجع إلى قول الجمهور، وإن قلنا بعدم الرجوع فالإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق، وإنما يتم إذا لم يعتد بخلاف أهل الظاهر وبتقدير عدمه فالمرجح التحريم عند المعارضة، وإذا تزوج أخت أمته الموطوءة صح النكاح وحرم وطء واحدة منهما حتى يحرم الموطوءة على نفسه بسبب من الأسباب فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمع- كالبيع كلّا أو بعضا- والتزوج الصحيح والهبة مع التسليم والإعتاق كلّا أو بعضا والكتابة- ولو تزوج الأخت نكاحا فاسدا لم تحرم عليه أمته الموطوءة إلا إذا دخل بالمنكوحة فحينئذ تحرم الموطوءة لوجود الجمع بينهما حقيقة، ولا يؤثر الإحرام والحيض والنفاس والصوم وكذا الرهن والإجارة والتدبير لأن فرجها لا يحرم بهذه الأسباب، وإذا عادت الموطوءة إلى ملكه بعد الإخراج سواء كان بفسخ أو شراء جديد لم يحل وطء واحدة منهما حتى يحرم الأمة على نفسه بسبب كما كان أولا، وظاهر قولهم: لا يحل الوطء حتى يحرم أن النكاح صحيح، وقد نصوا على ذلك وعللوه بصدوره عن أهله مضافا إلى محله، وأورد عليه أن المنكوحة موطوءة حكما باعترافهم
468
فيصير بالنكاح جامعا وطءا حكما وهو باطل، ومن هنا ذهب بعض المالكية إلى عدم الصحة، وأجيب بأن لزوم الجمع بينهما وطءا حكما ليس بلازم لأن بيده إزالته فلا يضر بالصحة ويمنع من الوطء بعدها لقيامه إذ ذاك وإسناد الحرمة إلى الجمع لا إلى الثانية بأن يقال: وأخوات نسائكم للاحتراز عن إفادة الحرمة المؤبدة كما في المحرمات السابقة، ولكونه بمعزل عن إفادة حرمة الجمع على سبيل المعية، ويشترك في هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ونظائر ذلك فإن مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه خلافا لما في المبسوط إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصله كما يدل عليه ما
أخرجه الطبراني من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»
وما
رواه أبو داود في مراسيله عن عيسى بن طلحة قال: «نهى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة»
وذلك متحقق في الجمع بين من ذكرنا بل أولى فإن العمة والخالة بمنزلة الأم
فقوله صلى الله تعالى عليه وسلم مبالغا في بيان التحريم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أختها ولا على ابنة أخيها»
من قبيل بيان التفسير لا بيان التعبير عند بعض المحققين.
وقال آخرون: إن الحديث مشهور فقد ثبت في صحيحي مسلم وابن حبان، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، وتلقاه الصدر الأول بالقبول من الصحابة، والتابعين، ورواه الجم الغفير منهم أبو هريرة وجابر وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو سعيد الخدري، فيجوز تخصيص عموم قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ بل لو كان من أخبار الآحاد جاز التخصيص به غير متوقف على كونه مشهورا، وقال ابن الهمام: الظاهر أنه لا بد من ادعاء الشهرة لأن الحديث موقعه النسخ لا التخصيص، وبينه في فتح القدير فارجع إليه إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء منقطع. وقصد المبالغة والتأكيد هنا غير مناسب للتذييل بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لأن الغفران والرحمة لا يناسب تأكيد التحريم. والمراد مما سلف ما مضى قبل النهي فإنهم كانوا يجمعون به الأختين.
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه عن فيرز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «طلق أيتهما شئت»،
وقال عطاء والسدي: معناه إلا ما كان من يعقوب عليه السلام إذ جمع بين الأختين، ليا أم يهودا وراحيل أم يوسف عليه السلام، ولا يساعده التذييل لما أن فعله يعقوب عليه السلام إن صح كان حلالا في شريعته.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله تعالى إلا امرأة الأب. والجمع بين الأختين، وروي مثله عن محمد بن الحسن وأنه قال: ألا يرى أنه قد عقب النهي عن كل منهما بقوله سبحانه: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وهذا- كما قال شيخ الإسلام- يشير إلى كون الاستثناء فيهما على سنن واحد ويأباه اختلاف ما بعدهما.
تم الجزء الرابع من تفسير روح المعاني ويتلوه الجزء الخامس أوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ
469

بسم الله الرّحمن الرّحيم

3
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عطف على ما قبله من المحرمات.
والمراد بهن على المشهور ذوات الأزواج، أحصنهن التزوج أو الأزواج الأولياء أي منعهن عن الوقوع في الإثم، وأجمع القراء كما قال أبو عبيدة: على فتح الصاد هنا ورواية الفتح عن الكسائي لا تصح، والمشهور رواية ذلك عن طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب، وعليه يكون اسم فاعل لأنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن، أو أحصن أزواجهن، وقيل: الصيغة للفاعل على القراءة الأولى أيضا، فقد قال ابن الأعرابي: كل أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف أحصن، وألفج إذا ذهب ماله، وأسهب إذا كثر كلامه.
وحكي عن الأزهري مثله، وقال ثعلب: كل امرأة عفيفة محصنة ومحصنة. وكل امرأة متزوجة محصنة بالفتح لا غير، ويقال: حصنت المرأة بالضم حصنا أي عفت فهي حاصن وحصنان بالفتح وحصناء أيضا بينة الحصانة، وفرس حصان بالكسر بيّن التحصين والتحصن، ويقال: إنه سمي حصانا، لأنه ضن بمائه فلم ينز إلا على كريمة، ثم كثر ذلك حتى سموا كل ذكر من الخيل حصانا، والإحصان في المرأة ورد في اللغة، واستعمل في القرآن بأربعة معان:
الإسلام. والحرية، والتزوج، والعفة، وزاد الرافعي العقل لمنعه من الفواحش. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات أي حرمت عليكم المحصنات كائنات من النساء، وفائدته تأكيد عمومها، وقيل: دفع توهم شمولها للرجال بناء على كونها صفة للأنفس وهي شاملة للذكور والإناث- وليس بشيء- كما لا يخفى، وفي المراد بالآية غموض حتى قال مجاهد: لو كنت أعلم من يفسرها لي لضربت إليه أكباد الإبل أخرجه عنه ابن جرير، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي السوداء قال: سألت عكرمة عن هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ إلخ فقال: لا أدري، وللعلماء المتقدمين فيها أقوال: أحدها أن المراد بها المزوجات كما قدمنا.
والمراد بالملك الملك بالسبي خاصة فإنه المقتضي لفسخ النكاح وحلها للسابي دون غيره، وهو قول عمر وعثمان وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة لكن وقع الخلاف هل مجرد السبي محل لذلك أو سبيها وحدها؟
فعند الشافعي رحمه الله تعالى مجرد السبي موجب للفرقة ومحل للنكاح، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه سبيها وحدها حتى لو سبيت معه لم تحل للسابي، واحتج أهل هذا القول بما
أخرجه مسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أنه قال: أصبنا سبيا يوم أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية فاستحللناهن،
وهذه الرواية عنه أصح من الرواية الأخرى أنها نزلت في المهاجرات، واعترض بأن هذا من قصر العام على سببه وهو
4
مخالف لما تقرر في الأصول من أنه لا يعتبر خصوص السبب، وأجيب بأنه ليس من ذاك القصر في شيء وإنما خص لمعارضة دليل آخر وهو الحديث المشهور عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها لما اشترت بريرة وكانت مزوجة (١) أعتقتها وخيرها صلّى الله عليه وسلّم فلو كان بيع الأمة طلاقا ما خيرها فاقتصر بالعام حينئذ على سببه الوارد عليه لما كان غير البيع من أنواع الانتقالات كالبيع في أنه ملك اختياري مترتب على ملك متقدم بخلاف السباء فإنه ملك جديد قهري فلا يلحق به غيره كذا قيل، واعترض أصحاب الشافعي بإطلاق الآية والخبر على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وجعلوا ذلك حجة عليه فيما ذهب إليه، وأجاب الشهاب بأن الإطلاق غير مسلم ففي الأحكام المروي أنه لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون: كيف نصنع ولهن أزواج؟ فأنزل الله تعالى الآية، وكذا في حنين كما ذكره أهل المغازي فثبت أنه لم يكن معهن أزواج فإن احتجوا بعموم اللفظ قيل لهم: قد اتفقنا على أنه ليس بعام وأنه لا تجب الفرقة بتجدد الملك فإذا لم يكن كذلك علمنا أن الفرقة لمعنى آخر وهو اختلاف الدارين فلزم تخصيصها بالمسبيات وحدهن، وليس السبي سبب الفرقة بدليل أنها لو خرجت مسلمة أو ذمية ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف.
وقد حكم الله تعالى به في المهاجرات في قوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: ١٠] فلا يرد ما أورد، وثانيها أن المراد بالمحصنات ما قدمنا، وبالملك مطلق ملك اليمين فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت مزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتقلت إليه- وهو قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة- وإليه ذهب جمهور الإمامية، وثالثها أن المحصنات أعم من العفائف والحرائر وذوات الأزواج، والملك أعم من ملك اليمين. وملك الاستمتاع بالنكاح فيرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا وحرمة كل أجنبية إلا بعقد أو ملك يمين، وإلى ذلك ذهب ابن جبير وعطاء والسدي، وحكي عن بعض الصحابة، واختاره مالك في الموطأ. ورابعها كون المراد من المحصنات الحرائر، ومن الملك المطلق والمقصود تحريم الحرائر بعد الأربع.
أخرج عبد الرزاق وغيره عن عبيدة أنه قال في هذه الآية: «أحل الله تعالى لك أربعا في أول السورة وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك» وروي مثله عن كثير.
وقال شيخ الإسلام: المراد من المحصنات ذوات الأزواج والموصول إما عام حسب عموم صلته، والاستثناء ليس لإخراج جميع الأفراد من حكم التحريم بطريق شمول النفي بل بطريق نفي الشمول المستلزم لإخراج البعض أي حرمت عليكم المحصنات على الإطلاق إلا المحصنات اللاتي ملكتموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرم نكاحهن في الجملة وهن المسبيات بغير أزواجهن أو مطلقا على اختلاف المذهبين، وإما خاص بالمسبيات فالمعنى حرمت عليكم المحصنات إلا اللاتي سبين فإن نكاحهن مشروع في الجملة أي لغير ملاكهن، وأما حلهن لهم بحكم ملك اليمين فمفهوم بدلالة النص لاتحاد المناط لا بعبارته لأن مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح، وإنما ثبوت حرمة التمتع بهن بحكم ملك اليمين بطريق دلالة النص وذلك مما لا يجري فيه الاستثناء قطعا، وأما عدهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفرقة بينهن وبين أزواجهن قطعا بتباين الدارين أو بالسباء فمبني على اعتقاد الناس حيث كانوا غافلين عن الفرقة كما ينبي عن ذلك خبر أبي سعيد، وليس في
(١) اختلفوا هل كان الزوج عبدا أو حرا؟ فذهب الحنفيون إلى أنه كان حرا، والأئمة الثلاثة إلى أنه كان عبدا، وأكثر الروايات على ذلك فتدبر اهـ منه.
5
ترتب ما فيه من الحكم على نزول الآية الكريمة ما يدل على كونها مسوقة له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالات لا على إفادتها بطريق العبارة أو نحوها.
واعترض بأن فيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير ما وجه ولا مانع على تقدير تسليم أن يكون مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح فقط من أن يكون الاستثناء باعتبار لازم تحريم النكاح وهو تحريم الوطء فكأنه قيل: يحرم عليكم نكاح المحصنات فلا يجوز لكم وطؤهن إلا ما ملكت أيمانكم فإنه يجوز لكم وطؤهن فتدبر كِتابَ اللَّهِ مصدر مؤكد أي كتب الله تعالى عَلَيْكُمْ تحريم هؤلاء كتابا، ولا ينافيه الإضافة كما توهم، والجملة مؤكدة لما قبلها وعَلَيْكُمْ متعلق بالفعل المقدر، وقيل كِتابَ منصوب على الإغراء أي الزموا كتاب الله وعَلَيْكُمْ متعلق إما بالمصدر أو بمحذوف وقع حالا منه. وقيل: هو إغراء آخر مؤكد لما قبله وقد حذف مفعوله لدلالة ما قبله عليه وقيل: منصوب بعليكم، واستدلوا به على جواز تقديم المفعول في باب الإغراء وليس بشيء.
وقرأ أبو السميفع- كتب الله- بالجمع، والرفع أي هذه فرائض الله تعالى عليكم، وكتب الله- بلفظ الفعل وَأُحِلَّ لَكُمْ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول، والباقون على البناء للمفاعل، وجعله الزمخشري على القراءة الأولى معطوفا على حرمت، وعلى الثانية معطوفا على «كتب» المقدر، وتعقبه أبو حيان بأن ما اختاره من التفرقة غير مختار لأن جملة «كتب» لتأكيد ما قبلها، وهذه غير مؤكدة فلا ينبغي عطفها على المؤكدة بل على الجملة المؤسسة خصوصا مع تناسبهما بالتحليل والتحريم، ونظر فيه الحلبي، ولعل وجه النظر أن تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى، وما ذكر أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهرة ما وَراءَ ذلِكُمْ إشارة إلى ما تقدم من المحرمات أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا، وفي إيثار اسم الإشارة على الضمير إشارة إلى مشاركة من في معنى المذكورات للمذكورات في حكم الحرمة فلا يرد حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وكذا الجمع بين كل امرأتين أيتهما فرضت ذكرا لم تحل لها الأخرى كما بين في الفروع لأن تحريم من ذكر داخل فيما تقدم بطريق الدلالة كما مرت إليه الإشارة عن بعض المحققين، وحديث تخصيص هذا العموم بالكتاب والسنة مشهور.
أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له لما دل عليه الكلام أي بين لكم تحريم المحرمات المذكورات وإحلال ما سواهن إرادة، وطلب أن تبتغوا والمفعول محذوف أي تبتغوا النساء، أو متروك أي تفعلوا الابتغاء بِأَمْوالِكُمْ بأن تصرفوها إلى مهورهن، أو بدل اشتمال من ما وَراءَ ذلِكُمْ بتقدير المفعول ضميرا.
وجوز بعضهم كون ما عبارة عن الفعل كالتزوج والنكاح، وجعل هذا بدل كل من كل، والمروي عن ابن عباس تعميم الكلام بحيث يشمل صرف الأموال إلى المهور والأثمان مُحْصِنِينَ حال من فاعل تبتغوا، والمراد بالإحصان هنا العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما لا يرضي الله تعالى غَيْرَ مُسافِحِينَ حال من الضمير البارز، أو من الضمير المستكن وهي في الحقيقة حال مؤكدة، والسفاح الزنا من السفح وهو صب الماء وسمي الزنا به لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط لا النسل، وعن الزجاج المسافحة والمسافح الزانيان اللذان لا يمتنعان من أحد، ويقال للمرأة إذا كانت تزني بواحد: ذات خدن، ومفعول الوصفين محذوف أي محصنين فروجكم أو نفوسكم غير مسافحين الزواني، وظاهر الآية حجة لمن ذهب إلى أن المهر لا بد وأن يكون مالا كالإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال بعض الشافعية: لا حجة في ذلك لأن تخصيص المال لكونه الأغلب المتعارف فيجوز النكاح على ما ليس بمال، ويؤيد ذلك ما
رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل رجلا خطب الواهبة
6
نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وكذا وعددهن قال: تقرأهن على ظهر قلبك؟ قال: نعم قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن،
ووجه التأييد أنه لو كان في الآية حجة لما خالفها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا والتعليل ليس له ذكر في الخبر فيجوز أن يكون مراده صلّى الله عليه وسلّم زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه- قاله بعض المحققين- ولعل في الخبر إشارة إليه فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ «ما» إما عبارة عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعليهما فهي إما شرطية أو موصولة وأيّا ما كان فهي مبتدأ وخبرها على تقدير الشرطية فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما وعلى تقدير الموصولية قوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ثم على تقدير كونها بمعنى النساء بتقديرية العائد إلى المبتدأ الضمير المنصوب في فَآتُوهُنَّ ومن بيانية أو تبعيضية في موضع النصب على الحال من ضمير بِهِ واستعمال ما للعقلاء لأنه أريد بها الوصف كما مر غير مرة، وقد روعي في الضمير أولا جانب اللفظ وأخيرا جانب المعنى، والسين للتأكيد لا للطلب، والمعنى فأي فرد أو فالفرد الذي تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن، وعلى تقدير كونها عبارة عما يتعلق بهن- فمن- ابتدائية متعلقة بالاستمتاع بمعنى التمتع أيضا وما لما لا يعقل، والعائد إلى المبتدأ محذوف أي فأي فعل تمتعتم به من قبلهن من الأفعال المذكورة فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لأجله أو بمقابلته، والمراد من الأجور المهور، وسمي المهر أجرا لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين فَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضا، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة فهي كالقطيعة بمعنى القطع وَلا جُناحَ أي لا إثم عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من الحط عن المهر أو الإبراء منه أو الزيادة على المسمى، ولا جناح في زيادة الزيادة لعدم مساعدة لا جُناحَ إذا جعل الخطاب للأزواج تغليبا فإن أخذ الزيادة مظنة ثبوت المنفي للزوجة مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي الشيء المقدر، وقيل: فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من نفقة ونحوها، وقيل:
من مقام أو فراق، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه لا يساعده ذكر الفريضة إذ لا تعلق لهما بها إلا أن يكون الفراق بطريق المخالعة، وقيل: الآية في المتعة وهي النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر، والمراد وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب في عقد المتعة بأن يزيد الرجل في الأجر وتزيده المرأة في المدة، وإلى ذلك ذهبت الإمامية، والآية أحد أدلتهم على جواز المتعة، وأيدوا استدلالهم بها بأنها في حرف أبيّ «فما استمتعتم به منهن» إلى أجل مسمى، وكذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم- والكلام في ذلك شهير- ولا نزاع عندنا في أنها أحلت ثم حرمت، وذكر القاضي عياض في ذلك كلاما طويلا، والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين، وكانت حلالا قبل يوم خيبر، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة، واستمر التحريم، ولا يجوز أن يقال: إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر، والتحريم يوم خيبر للتأبيد وإن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح إذ الأحاديث الصحيحة تأبى ذلك، وفي صحيح مسلم ما فيه مقنع.
وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول بحلها ثم رجع عن ذلك حين
قال له علي كرم الله تعالى وجهه: إنك رجل تائه إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة
كذا قيل، وفي صحيح مسلم ما يدل على أنه لم يرجع حين قال له عليّ ذلك، فقد أخرج عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه قام بمكة فقال: إنا ناسا أعمى الله تعالى قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل- يعني ابن عباس- كما قال النووي، فناداه فقال: إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين- يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فقال له ابن
7
الزبير: فجرب نفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك فإن هذا إنما كان في خلافة عبد الله بن الزبير، وذلك بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه، فقد ثبت أنه مستمر القول على جوازها لم يرجع إلى قول الأمير كرم الله تعالى وجهه، وبهذا قال العلامة ابن حجر في شرح المنهاج، فالأولى أن يحكم بأنه رجع بعد ذلك بناء على ما رواه الترمذي والبيهقي والطبراني عنه أنه قال: «إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه» حتى نزلت الآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: ٣٠] فكل فرج سواهما فهو حرام، ويحمل هذا على أنه اطلع على أن الأمر إنما كان على هذا الوجه فرجع إليه وحكاه، وحكي عنه أيضا أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار، فقد روي عن ابن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا:
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال: سبحان الله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير، ولا تحل إلا للمضطر، ومن هنا قال الحازمي: إنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حتى حرمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد، وأما ما روي أنهم كانوا يستمتعون على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأبي بكر وعمر حتى نهى عنها عمر فمحمول على أن الذي استمتع لم يكن بلغه النسخ، ونهى عمر كان لإظهار ذلك حيث شاعت المتعة ممن لم يبلغه النهي عنها ومعنى- أنا محرمها- في كلامه إن صح مظهر تحريمها لا منشئة كما يزعمه الشيعة، وهذه الآية لا تدل على الحل، والقول بأنها نزلت في المتعة غلط، وتفسير البعض لها بذلك غير مقبول لأن نظم القرآن الكريم يأباه حيث بين سبحانه أولا المحرمات ثم قال عز شأنه: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وفيه شرط بحسب المعنى فيبطل تحليل الفرج وإعارته، وقد قال بهما الشيعة، ثم قال جل وعلا:
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وفيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرد قضاء الشهوة وصب الماء واستفراغ أوعية المني فبطلت المتعة بهذا القيد لأن مقصود المتمتع ليس إلا ذاك دون التأهل والاستيلاد وحماية الذمار والعرض، ولذا تجد المتمتع بها في كل شهر تحت صاحب، وفي كل سنة بحجر ملاعب، فالإحصان غير حاصل في امرأة المتعة أصلا ولهذا قالت الشيعة: إن المتمتع الغير الناكح إذ زنى لا رجم عليه، ثم فرع سبحانه على حال النكاح قوله عز من قائل: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ وهو يدل على أن المراد بالاستمتاع هو الوطء والدخول لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة، والقراءة التي ينقلونها عمن تقدم من الصحابة شاذة.
وما دل على التحريم كآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: ٣٠] قطعي فلا تعارضه على أن الدليلين إذا تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما، وليس للشيعة أن يقولوا: إن المرأة المتمتع بها مملوكة لبداهة بطلانه أو زوجة لانتفاء جميع لوازم الزوجية- كالميراث والعدة والطلاق والنفقة- فيها، وقد صرح بذلك علماؤهم.
وروى أبو نصير منهم في صحيحه عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن امرأة المتعة أهي من الأربع؟
قال: لا ولا من السبعين،
وهو صريح في أنها ليست زوجة وإلا لكانت محسوبة في الأربع، وبالجملة الاستدلال بهذه الآية على حل المتعة ليس بشيء كما لا يخفى، ولا خلاف الآن بين الأئمة وعلماء الأمصار إلا الشيعة في عدم جوازها، ونقل الحل عن مالك رحمه الله تعالى غلط لا أصل له بل في حد المتمتع روايتان عنه، ومذهب الأكثرين أنه
8
لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف، ومأخذ الخلاف على ما قال النووي: اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف وتصير المسألة مجمعا عليها؟ فبعض قال: لا يرفعه بل يدوم الخلاف ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعا عليها أبدا، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني، وقال آخرون: بأن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق وتمامه في الأصول وحكى بعضهم عن زفر أنه قال: من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه ويكون ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح وهي ملغية فيها، والمشهور في كتب أصحابنا أنه قال ذلك في النكاح المؤقت- وفي كونه عين نكاح المتعة- بحث، فقد قال بعضهم باشتراط الشهود في المؤقت وعدمه في المتعة، ولفظ التزويج أو النكاح في الأول، وأستمتع أو أتمتع في الثاني، وقال آخرون: النكاح المؤقت من أفراد المتعة، وذكر ابن الهمام أن النكاح لا ينعقد بلفظ المتعة، وإن قصد به النكاح الصحيح المؤبد وحضر الشهود لأنه لا يصلح مجازا عن معنى النكاح كما بينه في المبسوط بقي ما لو نكح مطلقا ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فهل يكون ذلك نكاحا صحيحا حلاليا أم لا؟ الجمهور على الأول بل حكى القاضي الإجماع عليه، وشذ الأوزاعي فقال: هو نكاح متعة ولا خير فيه فينبغي عدم نية ذلك إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بما يصلح أمر الخلق حَكِيماً فيما شرع لهم، ومن ذلك عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ مَنْ إما شرطية، وما بعدها شرطها، وإما موصولة وما بعدها صلتها، ومِنْكُمْ حال من الضمير في يَسْتَطِعْ وقوله سبحانه: طَوْلًا مفعول به- ليستطع- وجعله مفعولا لأجله على حذف مضاف أي لعدم طول تطويل بلا طول.
والمراد به الغنى والسعة وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد، وأصله الفضل والزيادة، ومنه الطائل، وفسره بعضهم بالاعتلاء والنيل فهو من قولهم: طلته أي نلته، ومنه قول الفرزدق:
إن الفرزدق صخرة ملمومة طالت فليس تنالها الأوعالا
قوله عز وجل:- أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ أي الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وعبر عنهن بذلك لأن حريتهن أحصنتهن عن نقص الإماء- إما أن يكون متعلقا «بطولا» على معنى- ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات- وإما أن يكون بتقدير إلى أو اللام والجار في موضع الصفة «لطولا» أي- ومن لم يستطع غنى موصلا إلى نكاحهن- أو لنكاحهن- أو- على- على أن الطول بمعنى القدرة- كما قال الزجاج، ومحل أَنْ بعد الحذف جر، أو نصب على الخلاف المعروف، وهذا التقدير قول الخليل، وإليه ذهب الكسائي، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من طَوْلًا بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد بناء على أن الطول هو القدرة، أو الفضل، والنكاح قوة وفضل، وقيل: يجوز أن يكون مفعولا- ليستطع- وطَوْلًا مصدر مؤكد له إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز- أي ومن لم يستطع منكم استطاعة- أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج إذ لا تعلق لذلك بالمقام، وقوله تعالى وتقدس: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ جواب الشرط أو خبر الموصول وجاءت الفاء لما مر غير مرة، وما موصولة في محل جر بمن التبعيضية، والجار والمجرور متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله، وفي الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول أي فلينكح امرأة كائنة بعض النوع الذي ملكته أيمانكم، وأجاز أبو البقاء كون مَنْ زائدة أي فلينكح ما ملكته أيمانكم، وقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ أي إمائكم الْمُؤْمِناتِ في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد إلى ما، وقيل: مَنْ زائدة، وفَتَياتِكُمُ هو المفعول للفعل المقدر قبل، ومما ملكت- متعلق بنفس الفعل، ومَنْ لابتداء الغاية، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من هذا المفعول، ومَنْ للتبعيض، والْمُؤْمِناتِ على جميع الأوجه صفة فَتَياتِكُمُ، وقيل: هو مفعول ذلك الفعل المقدر، وفيه بعد.
9
وظاهر الآية يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع لمفهوم الشرط- كما ذهب إليه الشافعي- وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقا لمفهوم الصفة كما هو رأي أهل الحجاز- وجوزهما الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه لإطلاق المقتضي من قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣] وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ فلا يخرج منه شىء إلا بما يوجب التخصيص ولم ينتهض ما ذكر حجة مخرجة أما أولا فالمفهومان- أعني مفهوم الشرط ومفهوم الصفة- ليسا بحجة عنده رضي الله تعالى عنه كما تقرر في الأصول. وأما ثانيا فبتقدير الحجة مقتضى المفهومين عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة، ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه فيجوز ثبوت الكراهة عند وجود- طول- الحرة كما يجوز ثبوت الحرمة على السواء، والكراهة أقل فتعينت فقلنا بها، وبالكراهة صرح في البدائع، وعلل بعضهم عدم حل تزوج الأمة حيث لم يتحقق الشرط بتعريض الولد للرق لتثبت الحرمة بالقياس على أصول شتى، أو ليتعين أحد فردي الأعم الذي هو عدم الإباحة وهو التحريم مرادا بالأعم.
واعترض بأنهم إن عنوا أن فيه تعريضا موصوفا بالحرية للرق سلمنا استلزامه للحرمة لكن وجود الوصف ممنوع إذ ليس هنا متصف بحرية عرض للرق بل الوصفان من الحرية والرق يقارنان وجود الولد باعتبار أمه إن كانت حرة فحر، أو رقيقة فرقيق، وإن أرادوا به تعريض الولد الذي سيوجد لأن يقارنه الرق في الوجود لا إرقاقه سلمنا وجوده ومنعنا تأثيره في الحرمة بل في الكراهة، وهذا لأنه كان له أن لا يحصل الولد أصلا بنكاح الآيسة ونحوها فلأن يكون له أن يحصل رقيقا بعد كونه مسلما أولى إذ المقصود بالذات من التناسل تكثير المقرين لله تعالى بالوحدانية والألوهية وما يجب أن يعترف له به وهذا ثابت بالولد المسلم، والحرية مع ذلك كمال يرجع أكثره إلى أمر دنيوي وقد جاز للعبد أن يتزوج أمتين بالاتفاق مع أن فيه تعريض الولد للرق في موضع الاستغناء عن ذلك وعدم الضرورة، وكون العبد أبا لا أثر له في ثبوت رق الولد فإنه لو تزوج حرة كان ولده حرا والمانع إنما يعقل كونه ذات الرق لأنه الموجب للنقص الذي جعلوه محرما لا مع قيد حرية الأب فوجب استواء العبد والحر في هذا الحكم لو صح ذلك التعليل- قاله ابن الهمام- وفيه مناقشة ما فتأمل.
وفي هذه الآية ما يشير إلى وهن استدلال الشيعة بالآية السابقة على حل المتعة لأن الله تعالى أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإمام عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إلخ لأن المتعة في صورة عدم الطول المذكور ليست قاصرة في قضاء حاجة الجماع بل كانت بحكم- لكل جديد لذة- أطيب وأحسن على أن المتعة أخف مؤنة وأقل كلفة فإنها مادة يكفي فيها الدرهم والدرهمان فأية ضرورة كانت داعية إلى نكاح الإماء؟ ولعمري إن القول بذلك أبعد بعيد كما لا يخفى على من أطلق من ربقة قيد التقليد وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ جملة معترضة جيء بها تأنيسا لقلوبهم وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء ببيان أن مناط التفاخر الإيمان دون الأحساب والأنساب، ورب أمة يفوق إيمانها إيمان كثير من الحرائر.
والمعنى أنه تعالى أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذي هو المدار في الدارين فليكن هو مطمح نظركم، وقيل:
جيء بها للإشارة إلى أن الإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة ولا يشترط في ذلك العلم بالإيمان علما يقينيا إذ لا سبيل إلى الوقوف على الحقائق إلا لعلام الغيوب بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنتم وفتياتكم متناسبون إما من حيث الدين وإما من حيث النسب، وعلى الثاني يكون اعتراضا آخر مؤكدا للتأنيس من جهة أخرى وعلى الأول يكون بيانا لتناسبهم من تلك الحيثيّة إثر بيان تفاوتهم في ذلك، وأيّا ما كان- فبعضكم- مبتدأ والجار والمجرور متعلق
10
بمحذوف وقع خبرا له، وزعم بعضهم أن بَعْضُكُمْ فاعل للفعل المحذوف، قيل: وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير فلينكح بعضكم من بعض الفتيات، ولا ينبغي أن يخرج كتاب الله تعالى الجليل على ذلك.
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مترتب على ما قبله ولذا صدر بالفاء أي فإذا وقعتم على جلية الأمر فانكحوهن إلخ وأعيد الأمر مع فهمه مما قبله لزيادة الترغيب في نكاحهن، أو لأن المفهوم منه الإباحة وهذا للوجوب.
والمراد من الأهل الموالي، وحمل الفقهاء ذلك على من له ولاية التزويج ولو غير مالك فقد قالوا: للأب والجد والقاضي والوصي تزويج أمة اليتيم لكن في الظهيرية الوصي لو زوج أمة اليتيم من عبده لا يجوز، وفي جامع الفصولين القاضي لا يملك تزويج أمة الغائب، وفي فتح القدير: للشريك المفاوض تزويج الأمة، وليس لشريك العنان والمضارب والعبد المأذون تزويجها عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. ومحمد، وقال أبو يوسف: يملكون ذلك، وهذا الإذن شرط عندنا لجواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاحها بلا إذن، والمراد بعدم الجواز عدم النفاذ لا عدم الصحة بل هو موقوف كعقد الفضولي، وإلى هذا ذهب مالك- وهو رواية عند أحمد- ومثل ذلك نكاح العبد واستدلوا على عدم الجواز فيهما بما
أخرجه أبو داود والترمذي من حديث جابر، وقال: حديث حسن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر»
والعهر الزنا وهو محمول على ما إذا وطئ لا بمجرد العقد وهو زنا شرعي لا فقهي فلم يلزم منه وجوب الحد لأنه مرتب على الزنا الفقهي كما بين في الفروع، وبأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه إلا بإذن مولاهما، ونسب إلى الإمام مالك ولم يصح أنه يجوز نكاح العبد بلا إذن السيد لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح، وأجيب بالفرق فإن الطلاق إزالة عيب عن نفسه بخلاف النكاح، قال ابن الهمام: لا يقال: يصح إقرار العبد على نفسه بالحد والقصاص مع أن فيه هلاكه فضلا عن تعييبه لأنا نقول: هو لا يدخل تحت ملك السيد فيما يتعلق به خطاب الشرع أمرا ونهيا كالصلاة والغسل والصوم والزنا والشرب وغيره إلا فيما علم إسقاط الشارع إياه عنه كالجمعة والحج، ثم هذه الأحكام تجب جزاء على ارتكاب المحظور شرعا، فقد أخرجه عن ملكه في ذلك الذي أدخله فيه باعتبار غير ذلك- وهو الشارع- زجرا عن الفساد وأعاظم العيوب انتهى.
وادعى بعض الحنفية أن الآية تدل على أن للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم.
واعترض بأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل فلا يلزم جواز عقدهن كما لا يخفى، ولو كانت الأمة مشتركة بين اثنين مثلا لا يجوز نكاحها إلا بإذن الكل، وفي الظهيرية لو زوج أحد الموليين أمته ودخل بها الزوج فللآخر النقض فإن نقض فله نصف مهر المثل وللزوج الأقل من نصف مهر المثل، ومن نصف المسمى وحكم معتق البعض حكم كامل الرق عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وعندهما يجوز نكاحه بلا إذن لأنه حر مديون وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن وحذف هذا القيد لتقدم ذكره لا لأن العطف يوجب مشاركة المعطوف المعطوف عليه في القيد، ويحتمل أنه يكون في الكلام مضاف محذوف أي آتوا أهلهن، ولعل ما تقدم قرينة عليه، قيل: ونكتة اختيار آتوهن على أتوهم مع تقدم الأهل على ما ذكره بعض المحققين إن في ذلك تأكيدا لإيجاب المهر وإشعارا بأنه حقهن من هذه الجهة، وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين، والداعي لهذا كله أن المهر للسيد عند أكثر الأئمة لأنه عوض حقه.
وقال الإمام مالك: الآية على ظاهرها والمهر للأمة، وهذا يوجب كون الأمة مالكة مع أنه لا ملك للعبد فلا بد أن تكون مالكة له يدا كالعبد المأذون له بالتجارة لأن جعلها منكوحة إذن لها فيجب التسليم إليهن كما هو ظاهر الآية، وإن حملت الأجور على النفقات استغني عن اعتبار التقدير أولا وآخرا، وكذا إن فسر قوله تعالى.
11
بِالْمَعْرُوفِ بما عرف شرعا من إذن الموالي، والمعروف فيه أنه متعلق- بآتوهن- والمراد أدوا إليهن من غير مماطلة وإضرار، ويجوز أن يكون حالا أي متلبسات بالمعروف غير ممطولات أو متعلقا-. بأنكحوهن- أي فانكحوهن بالوجه المعروف يعني بإذن أهلهن ومهر مثلهن مُحْصَناتٍ حال إما من مفعول آتُوهُنَّ فهو بمعنى متزوجات، أو من مفعول فَانْكِحُوهُنَّ فهو بمعنى عفائف، وحمله على مسلمات وإن جاز خصوصا على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون نكاح الأمة الكتابية لكن هذا الشرط تقدم في قوله سبحانه: فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فليس في إعادته كثير جدوى، والمشهور هنا تفسير المحصنات بالعفائف فقوله تعالى: غَيْرَ مُسافِحاتٍ تأكيد له، والمراد غير مجاهرات بالزنا- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ عطف على مسافحات وَلا لتأكيد ما في غَيْرَ من معنى النفي- والأخدان- جمع خدن وهو الصاحب، والمراد به هنا من تتخذه المرأة صديقا يزني بها والجمع للمقابلة، والمعنى ولا مسرات الزنا.
وكان الزنا في الجاهلية منقسما إلى سر وعلانية، وروي عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر منه ويقولون: إنه لؤم، ويستحلون ما خفي ويقولون: لا بأس به، ولتحريم القسمين نزل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام: ١٥١] فَإِذا أُحْصِنَّ أي بالأزواج- كما قال ابن عباس وجماعة- وقرأ إبراهيم أُحْصِنَّ بالبناء للفاعل أي أحصن فروجهن وأزواجهن، وأخرج عبد بن حميد أنه قرىء كذلك، ثم قال:
إحصانها إسلامها، وذهب كثير من العلماء إلى أن المراد من الإحصان على القراءة الأولى الإسلام أيضا لا التزوج، وبعض من أراده من الآية قال: لا تحد الأمة إذا زنت ما لم تتزوج بحرّ، وروي ذلك مذهبا لابن عباس، وحكي عدم الحد قبل التزوج عن مجاهد وطاوس، وقال الزهري: هو فيها بمعنى التزوج.
والحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوج لما
في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: «اجلدوها»، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير»
فالمزوجة محدودة بالقرآن وغيرها بالسنة، ورجح هذا الحمل بأنه سبحانه شرط الإسلام بقوله جلّ وعلا: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فحمل ما هنا على غيره أتم فائدة وإن جاز أنه تأكيد لطول الكلام.
وذكر بعض المحققين أن تفسير الإحصان بالإسلام ظاهر على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من جهة أنه لا يشترط في التزوج بالأمة أن تكون مسلمة وإن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع، وهو مشكل على قول من يقول بمفهوم الشرط من الشافعية فإنه يقتضي أن الأمة الكافرة إذا زنت لا تجلد، وليس مذهبه كذلك فإنه يقيم الحد على الكفار فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ أي فإن فعلن فاحشة وهي الزنا وثبت ذلك. فَعَلَيْهِنَّ أي فثابت عليهن شرعا نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ أي الحرائر الأبكار مِنَ الْعَذابِ أي الحد الذي هو جلد مائة، فنصفه خمسون ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف وهذا دفع لتوهم أن الحد لهن يزيد بالإحصان، فيسقط الاستدلال به على أنهن قبل الإحصان لا حد عليهن كما روي ذلك عمن تقدم.
قال الشهاب: وعلم من بيان حالهن حال العبيد بدلالة النص (١) فلا وجه لما قيل: إنه خلاف المعهود لأن المعهود أن يدخل النساء تحت حكم الرجال بالتبعية وكأن وجهه أن دواعي الزنا فيهن أقوى وليس هذا تغليبا وذكرا
(١) وقال بعضهم: لاحد على العبد أصلا وإنما الحد على الأمة إذا زنت محصنة، وقال آخرون: يجلد كالحر لعموم الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلى آخرها لأن الآية المنصفة وردت في الإماء اهـ منه.
12
بطريق التبعية حتى يتجه ما ذكر، ويرد على وجه التخصيص أنه لو كان كذلك لم يدل على حكم العبيد بل الوجه فيه أن الكلام في تزوج الإماء فهو مقتضى الحال انتهى.
والظاهر أن المراد بالحال المعلوم بدلالة النص حال العبيد إذا أتوا بفاحشة لا مطلقا فإن حال العبيد ليس حال الإماء في مسألة النكاح من كل وجه كما بين في كتب الفروع، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قرىء فإن أتوا، وأتين بفاحشة، هذا والفاء في فَإِنْ أَتَيْنَ جواب إذا، والثانية جواب إن، والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول، ومِنَ الْعَذابِ في موضع الحال من الضمير في الجار والمجرور والعامل فيها هو العامل في صاحبها، قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالا من ما لأنها مجرورة بالإضافة فلا يكون لها عامل ذلِكَ أي نكاح الإماء لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ أي لمن خاف الزنا بسبب غلبة الشهوة عليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن العنت فقال: الإثم، فقال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الشاعر:
رأيتك تبتغي «عنتي» وتسعى مع الساعي عليّ بغير ذحل
وقيل: أصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان بعد صلاح حاله، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح، ويفهم من كلام كثير من اللغويين أنه حقيقة في الإثم وكذا في الجهد والمشقة، ومنه- أكمة عنوت- أي صعبة المرتقى، وفسره الزجاج هنا بالهلاك، والذي عليه الأكثرون ما تقدم وهو مأثول أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: المراد به الحد لأنه إذا هو يخشى أن يواقعها فيحد، ورجح القول الأول بكثرة الذاهبين إليه مع ما فيه من الإشارة إلى أن اللائق بحال المؤمن الخوف من الزنا المفضي إلى العذاب، وفي هذا إيهام بأن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه وأيّا ما كان فهو شرط آخر لجواز تزوج الإماء عند الشافعي عليه الرحمة، ومذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه ليس بشرط وإنما هو إرشاد للأصلح وَأَنْ تَصْبِرُوا أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين. خَيْرٌ لَكُمْ من نكاحهن وإن رخص لكم فيه لأن حق الموالي فيهن أقوى فلا يخلصن للأزواج خلوص الحرائر إذ هم يقدرون على استخدامهن سفرا وحضرا، وعلى بيعهن للحاضر والبادي، وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج لا سيما إذا ولد لهم منهن أولاد، ولأنهن ممتهنات مبتذلات خراجات ولاجات ذلك ذل ومهانة سارية للناكح، ولا يكاد يتحمل ذلك غيور، ولأن في نكاحهن تعريض الولد للرق.
وقد أخرج عبد الرزاق وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه وإذا نكح الحر الأمة فقد أرق نصفه» وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا» وعن أبي هريرة وابن جبير مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عامر قال: «نكاح الأمة كالميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا للمضطر»
وفي مسند الديلمي والفردوس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت»
وقال الشاعر:
ومن لم تكن في بيته قهرمانة فذلك بيت لا أبا لك ضائع
وقال الآخر:
إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره
وَاللَّهُ غَفُورٌ أي مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن، وإنما عبر بذلك تنفيرا عنه حتى كأنه ذنب رَحِيمٌ أي مبالغ في الرحمة فلذلك رخص لكم ما رخص.
13
هذا ومن باب الإشارة الإجمالية في بعض الآيات السابقة أنه سبحانه أشار بقوله عز من قائل: ووَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات التي قد تصرف فيها الآباء العلوية إلا ما قد سلف من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة الكمالات، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق سبحانه، وأشار سبحانه بتحريم المحصنات من النساء أي الأمور التي تميل إليها النفوس إلى تحريم سلب السالك مقاما ناله غيره، وليس له قابلية لنيله، ومن هنا قوبل الكليم بالصعق لما سأل الرؤية، وقال شاعر الحقيقة المحمدية:
ولست مريدا أرجعن بلن ترى ولست بطور كي يحركني الصدع
وقال سيدي ابن الفارض على لسانها:
وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى
ولقد أحسن بعض المحجوبين حيث يقول:
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
وقال النيسابوري: المحصنات من النساء الدنيا حرمها الله تعالى على خلّص عباده وأباح لهم بقوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ تناول الأمور الضرورية من المأكل والمشرب مُحْصِنِينَ أي حرائر من الدنيا وما فيها غَيْرَ مُسافِحِينَ في الطلب مياه الوجوه، ثم أمرهم إذا استمتعوا بشيء من ذلك بأن يؤدوا حقوقه من الشكر والطاعة والذكر مثلا، وعلى هذا النمط ما في سائر الآيات. ولم يظهر لي في البنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاع والربائب والجمع بين الأختين ما ينشرح له الخاطر وتبتهج به الضمائر ولا شبهة لي في أن لله تعالى عبادا يعرفونه على التحقيق ولكنهم في الزوايا، وكم في الزوايا من خبايا، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ استئناف مقرر لما سبق من الأحكام، ومثل هذا التركيب وقع في كلام العرب قديما وخرجه النحاة- كما قال الشهاب على مذاهب فقيل: مفعول يريد محذوف أي تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه، واللام للتعليل أو العاقبة أي ذلك لأجل التبيين، ونسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين، فتعلق الإرادة غير التبيين وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف.
وقيل: إنه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف، وقد قصد هنا تأكيد الاستقبال اللازم للإرادة ولكن باعتبار التعلق وإلا فإرادة الله تعالى قديمة، وسمى صاحب اللباب هذه اللام لام التكملة وجعلها مقابلة للام التعدية.
وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك كما قيل به في- تسمع بالمعيدي خير من أن تراه- على أنه مبتدأ والجار والمجرور خبره أي إرادتي كائنة للتبيين وفيه تكلف، وذهب الكوفيون إلى أن اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار إن وهي وما بعدها مفعول للفعل المقدم لأن اللام قد تقام مقام إن في فعل الإرادة والأمر، والبصريون يمنعون ذلك ويقولون: إن وظيفة اللام الجر والنصب بأن مضمرة بعدها، ومفعول- يبين- على بعض الأوجه محذوف أي لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم، أو ما تعبدكم به أو نحو ذلك، وجوز أن يكون قوله تعالى: لِيُبَيِّنَ وقوله تعالى: وَيَهْدِيَكُمْ تنازعا في قوله سبحانه: سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين لتقتفوا أثرهم وتتبعوا سيرهم، وليس المراد أن الحكم كان كذلك في الأمم السالفة كما قيل به، بل المراد كون ما ذكر من نوع طرائق المتقدمين الراشدين وجنسها في بيان المصالح وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ عطف على ما قبله وحيث كانت التوبة ترك الذنب مع الندم والعزم على عدم العود وهو مما يستحيل إسناده إلى الله تعالى ارتكبوا تأويل ذلك في هذا المقام بأحد أمور: فقيل إن التوبة هنا بمعنى المغفرة
14
مجازا لتسببها عنها، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي على سبيل الاستعارة التبعية لأن التوبة تمنع عنها كما أن إرشاده تعالى كذلك، أو مجاز عن حثه تعالى عليها لأنه سبب لها عكس الأول، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يكفرها على التشبيه أيضا، وإلى جميع ذلك أشار ناصر الدين البيضاوي.
وقرر العلامة الطيبي أن هذا من وضع المسبب موضع السبب وذلك لعطف وَيَتُوبَ على وَيَهْدِيَكُمْ إلخ على سبيل البيان كأنه قيل: ليبين لكم ويهديكم ويرشدكم إلى الطاعات، فوضع موضعه وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وما يرد على بعض الوجوه من لزوم تخلف المراد عن الإرادة وهي علة تامة يدفعه كون الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم ما شرع لكم من الأحكام وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرهم حَكِيمٌ مراع في جميع أفعاله الحكمة والمصلحة فيبين لمن يشاء ويهدي من يشاء ويتوب على من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ جعله بعضهم تكرارا لما تقدم للتأكيد والمبالغة وهو ظاهر إذا كان المراد من التوبة هناك وهنا شيئا واحدا، وأما إذا فسر يَتُوبَ أولا بقبول التوبة والإرشاد مثلا، وثانيا بأن يفعلوا ما يستوجبون به القبول فلا يكون تكرارا، وأيضا إنما يتمشى ذلك على كون لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مفعولا وإلا فلا تكرار أيضا لأن تعلق الإرادة بالتوبة في الأول على جهة العلية، وفي الثاني على جهة المفعولية وبذلك يحصل الاختلاف لا محالة وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يعني الفسقة لأنهم يدورون مع شهوات أنفسهم من غير تحاش عنها فكأنهم بانهماكهم فيها أمرتهم الشهوات باتباعها فامتثلوا أمرها واتبعوها فهو استعارة تمثيلية، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له لا لها.
وروي هذا عن ابن زيد، وأخرج مجاهد عن ابن عباس أنهم الزناة، وأخرج ابن جرير عن السدي أنهم اليهود والنصارى، وقيل: إنهم اليهود خاصة حيث زعموا أن الأخت من الأب حلال في التوراة، وقيل: إنهم المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات لأب لأنهم لم يجمعهم رحم، وبنات الأخ والأخت قياسا على بنات العمة والخالة بجامع أن أمهما لا تحل، فكانوا يريدون أن يضلوا المؤمنين بما ذكر، ويقولون: لم جوزتم تلك ولم تجوزوا هذه؟! فنزلت، وغوير بين الجملتين ليفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة الزائغين أَنْ تَمِيلُوا عن الحق بموافقتهم فتكونوا مثلهم، وعن مجاهد أن تزنوا كما يزنون.
وقرىء بالياء التحتانية فالضمير حينئذ- للذين يتبعون الشهوات مَيْلًا عَظِيماً بالنسبة إلى ميل من اقترف حطيئة على ندرة، واعترف بأنها خطيئة ولم يستحل يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ أي في التكليف في أمر النساء والنكاح بإباحة نكاح الإماء- قاله طاوس ومجاهد- وقيل: يخفف في التكليف على العموم فإنه تعالى خفف عن هذه الأمة ما لم يخفف عن غيرها من الأمم الماضية، وقيل: يخفف بقبول التوبة والتوفيق لها، والجملة مستأنفة، لا محل لها من الإعراب وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أي في أمر النساء لا يصبر عنهن- قاله طاوس-
وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم فأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا»
وقيل: يستميله هواه وشهوته ويستشيطه خوفه وحزنه، وقيل: عاجز عن مخالفة الهوى وتحمل مشاق الطاعة، وقيل: ضعيف الرأي لا يدرك الأسرار والحكم إلا بنور إلهي.
وعن الحسن رضي الله تعالى عنه أن المراد ضعيف الخلقة يؤلمه أدنى حادث نزل به،
ولا يخفى ضعف مساعدة المقام لهما فإن الجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة في نكاح الإماء، وليس
15
لضعف الرأي ولا لضعف البنية مدخل في ذلك، وكونه إشارة إلى تجهيل المجوس في قياسهم على أول القولين ليس بشيء، ونصب ضعيفا على الحال. وقيل: على التمييز، وقيل: على نزع الخافض أي من ضعيف وأريد به الطين أو النطفة، وكلاهما (١) كما ترى، وقرأ ابن عباس «وخلق الإنسان» على البناء للفاعل والضمير لله عزّ وجلّ.
وأخرج البيهقي في الشعب عنه أنه قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، الأولى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ والثانية وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ إلى آخرها، والثالثة يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إلى آخرها، والرابعة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً والخامسة إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: ٤] والسادسة وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء:
١١٠] والسابعة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ [النساء: ٤٨، ١١٦] إلى آخرها، والثامنة وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء: ١٥٢]. الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بيان لبعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة، وفيه إشارة إلى كمال العناية بالحكم المذكور، والمراد من الأكل سائر التصرفات، وعبر به لأنه معظم المنافع، والمعنى لا يأكل بعضكم أموال بعض،
والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم- قاله السدي- وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه،
وعن الحسن هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعواض وأخرج عنه وعن عكرمة بن جرير أنهما قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية فنسخ ذلك بالآية التي في سورة [النور: ٦١] وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ الآية، والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلا بالباطل، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية: إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وبَيْنَكُمْ نصب على الظرفية، أو الحالية من أموالكم إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ استثناء منقطع، ونقل أبو البقاء القول بالاتصال وضعفه، وعَنْ متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة، ومِنْكُمْ صفة تَراضٍ أي إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة عَنْ تَراضٍ كائن مِنْكُمْ أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة، والنصب قراءة أهل الكوفة، وقرأ الباقون بالرفع على أن- كان- تامة.
وحاصل المعنى لا تقصدوا أكل الأموال بالباطل لكن اقصدوا كون أي وقوع تجارة عَنْ تَراضٍ أو لا تأكلوا ذلك كذلك فإنه منهي عنه لكن وجود تجارة عن تراض غير منهي عنه، وتخصيصها بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا وأوفق لذوي المروءات.
وقد أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا»
وأخرج سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تسعة أعشار الرزق في التجارة والعشر في المواشي».
وجوز أن يراد بها انتقال المال من الغير بطريق شرعي سواء كان تجارة أو إرثا أو هبة أو غير ذلك من استعمال الخاص وإرادة العام، وقيل: المقصود بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى، وبالتجارة صرفه فيما
(١) أي القولين اهـ منه.
16
يرضاه وهذا أبعد مما قبله، والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الإمام مالك، وعند الشافعي حالة الافتراق عن مجلس العقد، وقيل: التراضي التخيير بعد البيع، أخرج عبد ابن حميد عن أبي زرعة أنه باع فرسا له فقال لصاحبه: اختر فخيره ثلاثا، ثم قال له: خيرني فخيره ثلاثا، ثم قال:
سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: هذا البيع عن تراض.
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا، وعبر عن البعض المنهي عن قتلهم بالأنفس للمبالغة في الزجر،
وقد ورد في الحديث «المؤمنون كالنفس الواحدة»
وإلى هذا ذهب الحسن وعطاء والسدي والجبائي وقيل:
المعنى لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الآثام كأكل الأموال بالباطل وغيره من المعاصي التي تستحقون بها العقاب، وقيل: المراد به النهي عن قتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر، وحكي ذلك عن البلخي.
وقيل:
المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه،
وقيل: المراد لا تتجروا في بلاد العدو فتفردوا بأنفسكم، وبه استدل مالك على كراهة التجارة إلى بلاد الحرب، وقيل: المعنى لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وأيد بما
أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص قال: «لما بعثني النبي صلّى الله عليه وسلّم عام ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقل شيئا»،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «ولا تقتلوا»
بالتشديد للتكثير، ولا يخفى ما في الجمع بين التوصية بحفظ المال والوصية بحفظ النفس من الملاءمة لما أن المال شقيق النفس من حيث إنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها، والملاءمة بين النهيين على قول مالك أتم، وقدم النهي الأول لكثرة التعرض لما نهي عنه فيه.
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تعليل للنهي، والمعنى أنه تعالى لم يزل مبالغا في الرحمة، ومن رحمته بكم نهيكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس، وقيل: معناه أنه كان بكم يا أمة محمد رحيما إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة كما كلف بني إسرائيل بذلك وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي قتل النفس فقط، أو هو وما قبله من أكل الأموال بالباطل، أو مجموع ما تقدم من المحرمات من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النساء:
١٩]، أو من أول السورة إلى هنا أقوال: روي الأول منها عن عطاء- ولعله الأظهر- وما في ذلك من البعد إيذان بفظاعة قتل النفس وبعد منزلته في الفساد، وإفراد اسم الإشارة على تقدير تعدد المشار إليه باعتبار تأويله بما سبق. عُدْواناً أي إفراطا في التجاوز عن الحد، وقرىء «عدوانا» بكسر العين وَظُلْماً أي إيتاء بما لا يستحقه، وقيل هما بمعنى فالعطف للتفسير، وقيل: أريد بالعدوان التعدي على الغير، وبالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب، وأيّا ما كان فهما منصوبان على الحالية، أو على العلية، وقيل: وخرج بهما السهو والغلط والخطأ وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً أي ندخله إياها ونحرقه بها، والجملة جواب الشرط. وقرىء «نصليه» بالتشديد، و «نصليه» بفتح النون من صلاه لغة كأصلاه، ويصليه بالياء التحتانية والضمير لله عزّ وجلّ، أو لذلك، والإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب.
وَكانَ ذلِكَ أي إصلاؤه النار يوم القيامة عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هينا لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي إِنْ
17
تَجْتَنِبُوا
أي تتركوا جانبا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ أي ينهاكم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم عَنْهُ أي عن ارتكابه مما ذكر ومما لم يذكر، وقرىء- كبير- على إرادة الجنس فيطابق القراءة المشهورة، وقيل: يحتمل أن يراد به الشرك نُكَفِّرْ أي نغفر ونمحو (١) واختيار ما يدل على العظمة بطريق الالتفات تفخيم لشأن ذلك الغفران، وقرىء (٢) يغفر- بالياء التحتانية عَنْكُمْ أيها المجتنبون سَيِّئاتِكُمْ أي صغائركم كما قال السدي، واختلفوا في حد الكبيرة على أقوال: الأول أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وإليه ذهب الشافعية، والثاني أنها كل معصية أوجبت الحد، وبه قال البغوي وغيره، والثالث أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد، والرابع أنها كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، وبه قال الإمام، والخامس أنها ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد، وبه قال الماوردي في فتاويه، والسادس أنها كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه، وحكي ذلك بتفصيل مذكور في محله عن الحليمي، والسابع أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه بلفظ التحريم، وقال الواحدي: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة انتهى.
وقال شيخ الإسلام البارزي: التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن بنص كتاب أو سنة، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته، أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل معصوما فظهر أنه مستحق لدمه، أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته، وقال بعضهم: كل ما ذكر من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه، وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبطها بحد، فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله تعالى من أول هذه السورة إلى هنا وقيل: هي سبع، ويستدل له
بخبر الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»،
وفي رواية لهما «الكبائر الإشراك بالله تعالى والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس» زاد البخاري «واليمين الغموس» ومسلم بدلها «وقول الزور»
والجواب أن ذلك محمول على أنه صلّى الله عليه وسلّم ذكره قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر لا لحصره الكبائر فيه- وممن صرح بأن الكبائر سبع- علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير، وقيل: تسع لما
أخرجه علي بن الجعد عن ابن عمر أنه قال حين سئل عن الكبائر:
«سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: هن تسع الإشراك بالله تعالى وقذف المحصنة وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا»
ونقل عن ابن مسعود أنها ثلاث وعنه أيضا أنها عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: أربع، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب، وروى ابن جبير أنه قال له: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وأنكر جماعة من الأئمة أن في الذنوب صغيرة، وقالوا: بل سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين
(١) قوله: «ونمحو» كذا بخطه بالواو مع أنه تفسير للمجزوم فكان حقه حذف الواو.
(٢) قوله: وقرىء «يغفر» كذا بخطه، ولفظ القرآن «يكفر» اهـ.
18
في الإرشاد وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة، واختاره في تفسيره فقال: معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر، وإنما يقال لبعضها: صغيرة وكبيرة بالإضافة، وأول الآية بما ينبو عنه ظاهرها، وقالت المعتزلة:
الذنوب على ضربين: صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح انتهى، وربما ادعي في بعض المواضع اتفاق الأصحاب على ما ذكره واعتمد ذلك التقي السبكي، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية: إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر عند اجتناب الكبائر، ويوافق هذا القول ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة،
وفي رواية كل ما عصي الله تعالى فيه فهو كبيرة
- قاله العلامة ابن حجر- وذكر أن جمهور العلماء على الانقسام، وأنه لا خلاف بين الفريقين في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله تعالى وشدة عقابه وإجلالا له عزّ وجلّ عن تسمية معصيته صغيرة لأنها إلى باهر عظمته تعالى كبيرة وأيّ كبيرة، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم بل قسموها إلى قسمين- كما يقتضيه صرائح الآيات والأخبار- لا سيما هذه الآية وكون المعنى- إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح الحرام وأكل الأموال وغير ذلك مما تقدم نُكَفِّرْ عَنْكُمْ ما كان من ارتكابها فيما سلف، ونظير ذلك من التنزيل قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: ٣٨] بعيد غاية البعد، ولذلك قال حجة الإسلام الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بين الصغائر والكبائر وقد عرفتا من مدارك الشرع، نعم قد يقال لذنب واحد: كبير، وصغير باعتبارين لأن الذنوب تتفاوت في ذلك باعتبار الأشخاص والأحوال، ومن هنا قال الشاعر:
لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة في السهو فيها للوضيع معاذر
فكبائر الرجل الصغير صغائر وصغائر الرجل الكبير كبائر
قال سيدي ابن الفارض قدس سره:
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
وأشار إلى التفاوت من قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، هذا وقد استشكلت هذه الآية مع ما
في حديث مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنبت الكبائر»
ووجهه أن الصلوات إذا كفرت لم يبق ما يكفره غيرها فلم يتحقق مضمون الآية، وأجيب عنه بأجوبة أصحها- على ما قاله الشهاب- إن الآية والحديث بمعنى واحد لأن
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيه: «ما اجتنبت» إلخ
دال على بيان الآية لأنه إذا لم يصل ارتكب كبيرة وأي كبيرة فتدبر وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا الجمهور على ضم الميم، وقرأ أبو جعفر ونافع بفتحها، وهو على الضم إما مصدر ومفعول نُدْخِلْكُمْ محذوف أي ندخلكم الجنة إدخالا، أو مكان منصوب على الظرف عنه سيبويه، وعلى أنه مفعول به عند الأخفش، وهكذا كل مكان مختص بعد دخل فيه الخلاف، وعلى الفتح قيل: منصوب بمقدر أي ندخلكم فتدخلون مدخلا ونصبه كما مر، وجوز كونه كقوله تعالى: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] ورجح حمله على المكان لوصفه بقوله سبحانه: كَرِيماً [الشعراء: ٥٨] أي حسنا، وقد جاء في القرآن العظيم وصف المكان به. فقد قال سبحانه، وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان: ٢٦].
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قال القفال: لما نهى الله تعالى المؤمنين عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبه بالنهي عما يؤدي إليه من الطمع في أموالهم، وقيل: نهاهم أولا عن التعرض لأموالهم بالجوارح، ثم عن التعرض لها بالقلب على سبيل الحسد لتطهر أعمالهم الظاهرة والباطنة، فالمعنى وَلا تَتَمَنَّوْا ما
19
أعطاه الله تعالى بَعْضَكُمْ وميزه بِهِ عليكم من المال والجاه وكل ما يجري فيه التنافس، فإن ذلك قسمة صادرة من حكيم خبير وعلى كل من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده لأن ذلك أشبه الأشياء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه ودبر العالم بحكمته البالغة ونظمه.
وأظلم خلق الله من بات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب
وإلى هذا الوجه ذهب ابن عباس وأبو عبد الله رضي الله تعالى عنهم، فقد روي عنهما في الآية لا يقل أحدكم ليت ما أعطى فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي فإن ذلك يكون حسدا ولكن ليقل: اللهم أعطني مثله، ويفهم من هذا أن التمني المذكور كناية عن الحسد، وجعل بعضهم المقتضي للمنع عنه كونه ذريعة للحسد ولكل وجهة، وزعم البلخي أن المعنى لا يجوز للرجل أن يتمنى أن لو كان امرأة ولا للمرأة أن لو كانت رجلا لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح فيكون قد تمنى ما ليس بأصلح، ونقل شيخ الإسلام أنه لما جعل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء: نحن أحوج لأن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت، ثم قال: وهذا هو الأنسب بتعليل النهي بقوله.
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ فإنه صريح في جريان التمني بين فريقي الرجال والنساء، ولعل صيغة المذكر في النهي لما عبر عنهن بالبعض، والمعنى لكل من الفريقين (١) في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده، وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاه حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجب الانتهاء عن التمني المذكور انتهى، وهذا المعنى الذي ذكره للآية مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لكن القيل الذي نقله تبعا للزمخشري في سبب النزول لم نقف له على سند، والذي ذكره الواحدي في ذلك ثلاثة أخبار: الأول ما
أخرجه عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى الآية،
والثاني ما
أخرجه عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن: وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت.
والثالث ما
أخرجه عن قتادة والسدي قالا: لما نزل قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: ١١] قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء، وقالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا فأنزل الله تعالى وَلا تَتَمَنَّوْا إلى آخرها،
وذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور نحو ذلك، ولا يخفى أن القيل الذي نقله ظاهر في حمل التمني المنهي عنه على الحسد، والخبر الأول والثاني مما أخرجه الواحدي ليسا كذلك إذ عليهما يجوز حمله على الحسد أو على ما هو ذريعة له. وربما يتراءى أن حمله على الثاني نظرا إليهما أظهر، وأما الخبر الثالث فيأباه معنى الآية سواء كان التمني كناية عن الحسد أو ذريعة إلا بتكلف بعيد جدا، ومعنى الآية على الأولين أن لكل من الرجال والنساء حظا من الثواب على حسب ما كلفه الله تعالى من الطاعات بحسن تدبيره فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير، وروي ذلك عن قتادة، وفيه استعمال الاكتساب في الخير. وقد استعمل في الشر، واستعمل الكسب في الخير في قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: ٢٨٦] وعن مقاتل وأبي جرير أنهما قالا المراد مما اكتسبوا من الإثم، وفيه استعمال
(١) و «من». كما قال غير واحد على هذا. بيانية لا تبعيضية فتدبر اهـ منه.
20
اللام مع الشر دون على، وهو خلاف ما في الآية، وقيل: المراد لكل، وعلى كل من الفريقين مقدار من الثواب والعقاب حسبما رتبه الحكيم على أفعاله إلا أنه استغني باللام عن على وبالاكتساب عن الكسب- وهو كما ترى- ويرد على هذه المعاني أنه لا يساعدها النظم الكريم المتعلق بالمواريث وفضائل الرجال. ولعل من يذهب إليها يجعل الآية معترضة في البين.
وذكر بعضهم أن معنى الآية على الوجه الأول المروي عن أبي عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مقدرا في أزل الآزال من نعيم الدنيا بالتجارات والزراعات وغير ذلك من المكاسب فلا يتمنّ خلاف ما قسم له وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ عطف على النهي بعد تقرير الانتهاء بالتعليل كأنه قيل: لا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم واسألوا الله تعالى من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر فإن خزائنه مملوءة لا تنفد أبدا، والمفعول محذوف إفادة للعموم أي واسألوا ما شئتم فطنه سبحانه يعطيكموه إن شاء، أو لكونه معلوما من السياق، أي واسألوا مثله، ويقال لذلك: غبطة. وقيل: مِنْ زائدة أي واسألوا الله تعالى فضله،
وقد ورد في الخبر «لا يتمنين أحدكم مال أخيه ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله»
وذهب بعض العلماء- كما في البحر- إلى المنع عن تمني مثل نعمة الغير ولو بدون تمني زوالها لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة له في دينه ومضرة عليه في دنياه، فلا يجوز عنده أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ولا زوجا مثل زوجه بل ينبغي أن يقول:
اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي، ولا يتعرض لمن فضل عليه، ونسب ذلك للمحققين وهم محجوجون بالخبر اللهم إلا إذا لم يسلموا صحته، وقيل: المعنى لا تتمنوا الدنيا بل اسألوا الله تعالى العبادة التي تقربكم إليه، وإلى هذا ذهب ابن جبير وابن سيرين، وأخرج ابن المنذر عن الثاني أنه إذا سمع الرجل يتمنى الدنيا يقول: قد نهاكم الله تعالى عن هذا ويتلو الآية، والظاهر العموم،
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سلوا الله تعالى من فضله فإن الله تعالى يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج»
وقال ابن عيينة: لم يأمر سبحانه بالمسألة إلا ليعطي إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ولذلك فضل بعض الناس على بعض حسب مراتب استعداداتهم وتفاوت قابلياتهم.
ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى لم يزل ولا يزال عليما بكل شيء فيعلم ما تضمرونه من الحسد ويجازيكم عليه وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ لا بد فيه من تقدير مضاف إليه أي لكل إنسان، أو لكل قوم، أو لكل مال أو تركة وفيه على هذا وجوه ذكرها الشهاب نور الله تعالى مرقده: الأول أنه على التقدير الأول معناه لكل إنسان موروث جعلنا موالي أي وراثا مما ترك وهنا تم الكلام، فيكون مِمَّا تَرَكَ متعلقا بموالي أو بفعل مقدر، ومَوالِيَ مفعولا أولا- لجعل- بمعنى صير، ولِكُلٍّ هو المفعول الثاني له قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجعل ببعض دون بعض، وفاعل تَرَكَ ضمير كل، ويكون الْوالِدانِ مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: هم الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، والثاني أن التقدير لكل إنسان موروث جعلنا وراثا مما تركه ذلك الإنسان، ثم بين ذلك الإنسان بقوله سبحانه: الْوالِدانِ كأنه قيل: ومن هذا الإنسان الموروث؟ فقيل:
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وإعرابه كما قبله غير أن الفرق بينهما أن الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ في الأول وارثون، وفي الثاني موروثون، وعليهما فالكلام جملتان، والثالث أن التقدير ولكل إنسان وارث- مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي- أي موروثين،- فالمولى- الموروث والْوالِدانِ مرفوع ب تَرَكَ وما بمعنى من، والجار والمجرور صفة ما أضيفت إليه كل، والكلام جملة واحدة، والرابع أنه على التقدير الثاني معناه، ولكل قوم جعلناهم مَوالِيَ
21
نصيب- مما تركه والداهم وأقربوهم، فلكل خبر نصيب المقدر مؤخرا وجعلناهم صفة قوم والعائد الضمير المحذوف الذي هو مفعول جعل، وموالي: إما مفعول ثان، أو حال ومِمَّا تَرَكَ صفة المبتدأ المحذوف الباقي صفته كصفة المضاف إليه وحذف العائد منها.
ونظيره قولك: لكل من خلقه الله تعالى إنسانا من رزق الله تعالى، أي لكل واحد خلقه الله تعالى إنسانا نصيب من رزق الله تعالى، والخامس أنه على التقدير الثالث معناه لكل مال أو تركة مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ جعلنا موالي أي وراثا يلونه ويحوزونه، ويكون لِكُلٍّ متعلقا- بجعل- ومِمَّا تَرَكَ صفة كل، واعترض على الأول والثاني بأن فيهما تفكيك النظم الكريم مع أن المولى يشبه أن يكون في الأصل اسم مكان لا صفة فكيف تكون من صلة له؟ وأجيب عن هذا بأن ذلك لتضمنه معنى الفعل كما أشير إليه على أن كون المولى ليس صفة مخالف لكلام الراغب فإنه قال: إنه بمعنى الفاعل والمفعول أي الموالي والموالي لكن وزن مفعل في الصفة أنكره قوم، وقال ابن الحاجب في شرح المفصل: إنه نادر، فإما أن يجعل من النادر أو مما عبر عن الصفة فيه باسم المكان مجازا لتمكنها وقرارها في موصوفها، ويمكن أن يجعل من باب المجلس السامي، واعترض على الثالث بالبعد وعلى الرابع بأن فيه حذف المبتدأ الموصوف بالجار والمجرور وإقامته مقامه وهو قليل، وبأن لكل قوم من الموالي جميع ما ترك الوالدان والأقربون لا نصيب وإنما النصيب لكل فرد، وأجيب عن الأول بأنه ثابت مع قلته كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤] وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الجن: ١١] وعن الثاني بأن ما يستحقه القوم بعض التركة لتقدم التجهيز والدين والوصية إن كانا، وأما حمل من على البيان للمحذوف فبعيد جدا، وتعقب الشهاب الجواب عن الأول بأن فيه خللا من وجهين: أما أولا فلأن ما ذكر لا شاهد له فيه لما قرره النحاة أن الصفة إذا كانت جملة أو ظرفا تقام مقام موصوفها بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن، أو في، وإلا لم تقم مقامه إلا في شعر، وما ذكر داخل فيه دون الآية، وأما ثانيا فلأنه ليس المراد بقيامها مقامه أن تكون مبتدأ حقيقة بل المبتدأ محذوف وهذا بيانه كما أشير إليه في التقرير فلا وجه لاستبعاده، نعم ما ذكروه وإن كان مشهورا غير مسلم، فإن ابن مالك صرح بخلافه في التوضيح، وجوز حذف الموصوف في السعة بدون ذلك الشرط. فالحق أنه أغلبي لا كلي، واعترض على الخامس بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف نحو- بكل رجل مررت تميمي- وفي جوازه نظر، ورد بأنه جائز كما في قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: ١٤] ففاطر صفة الاسم الجليل وقد فصل بينهما- بأتخذ- العامل في غير، فهذا أولى، والجواب بأن العامل لم يتخلل بل المعمول تقدم فجاء التخلل من ذلك فلم يضعف إذ حق المعمول التأخر عن عامله وحينئذ يكون الموصوف مقرونا بصفته تكلف مستغنى عنه، واختار جمع من المحققين هذا الخامس والذي قبله، وجعلوا الجملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها، واعترضوا على الوجه الأول بأن فيه خروج الأولاد لأنهم لا يدخلون في الأقربين عرفا كما لا يدخل الوالدان فيهم، وإذا أريد المعنى اللغوي شمل الوالدين، ورد بأن هذا مشترك الورود على أنه قد أجيب عنه بأن ترك الأولاد لظهور حالهم من آية المواريث كما ترك ذكر الأزواج لذلك، أو بأن ذكر الوالدين لشرفهم والاهتمام بشأنهم فلا محذور من هذه الحيثية تدبر وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ هم موالي الموالاة.
أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال بقوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: ٧٥].
22
وروي ذلك من غير ما طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذلك عن غيره، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وراث أصلا، وخبر النسخ المذكور لا يقوم حجة عليه إذ لا دلالة فيما ادعى ناسخا على عدم إرث الحليف لا سيما وهو إنما يرثه عند عدم العصبات وأولي الأرحام، والأيمان هنا جمع يمين بمعنى اليد اليمنى، وإضافة العقد إليها لوضعهم الأيدي في العقود، أو بمعنى القسم وكون العقد هنا عقد النكاح خلاف الظاهر إذ لم يعهد فيه إضافته إلى اليمين وقرأ الكوفيون عَقَدَتْ بغير ألف، والباقون «عاقدت» بالألف، وقرىء بالتشديد أيضا. والمفعول في جميع القراءات محذوف أي عهودهم، والحذف تدريجي ليكون العائد المحذوف منصوبا كما هو الكثير المطرد، وفي الموصول أوجه من الإعراب: الأول أن يكون مبتدأ وجملة قوله تعالى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ خبره وزيدت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، والثاني أنه منصوب على الاشتغال قيل: وينبغي أن يكون مختارا لئلا يقع الطلب خبرا لكنهم لم يختاروه لأن مثله قلما يقع في غير الاختصاص وهو غير مناسب هنا. ورد بأن زيدا ضربته إن قدر العامل فيه مؤخرا أفاد الاختصاص، وإن قدر مقدما فلا يفيده، ولا خفاء أن الظاهر تقديره مقدما فلا يلزم الاختصاص، والثالث أنه معطوف على الْوالِدانِ فإن أريد أنهم موروثون عاد الضمير من- فآتوهم- على- موالي- وإن أريد أنهم وارثون جاز عوده على مَوالِيَ وعلى الوالدين وما عطف عليهم، قيل: ويضعفه شهرة الوقف على الْأَقْرَبُونَ دون أَيْمانُكُمْ، والرابع أنه منصوب بالعطف على موالي وهو تكلف.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البخاري وأبو داود والنسائي وجماعة أنه قال في الآية:
كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمة للأخوة التي آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهم فلما نزلت وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ نسخت، ثم قال: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من النصر والرفادة والنصيحة- وقد ذهب الميراث ويوصى له- وروي عن مجاهد مثله، وظاهر ذلك عدم جواز العطف إذ من عطف أراد فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الإرث إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي لم يزل سبحانه عالما بجميع الأشياء مطلعا عليها جليها وخفيها فيطلع «على الإيتاء والمنع، ويجازي كلّا من المانع والمؤتى حسب فعله، ففي الجلة وعد ووعيد الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي شأنهم القيام عليهن قيام الولاة على الرعية بالأمر والنهي ونحو ذلك، واختيار الجملة الاسمية مع صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم ورسوخهم في الاتصاف بما أسند إليهم، وفي الكلام إشارة إلى سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث كما أن فيما تقدم رمزا إلى تفاوت مراتب الاستحقاق، وعلل سبحانه الحكم بأمرين: وهبي وكسبي فقال عز شأنه: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فالباء للسببية وهي متعلقة ب قَوَّامُونَ كعلى ولا محذور أصلا، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره والباء للسببية أو للملابسة، وما مصدرية وضمير الجمع لكلا الفريقين تغليبا أي قوّامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن، أو مستحقين ذلك بسبب التفضيل، أو متلبسين بالتفضيل، وعدل عن الضمير فلم يقل سبحانه بما فضلهم الله عليهن للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية، وقيل: للإبهام للإشارة إلى أن بعض النساء أفضل من كثير من الرجال وليس بشيء، وكذا لم يصرح سبحانه بما به التفضيل رمزا إلى أنه غني عن التفصيل، وقد ورد أنهن ناقصات عقل ودين، والرجال بعكسهن كما لا يخفى، ولذا خصوا بالرسالة والنبوة على الأشهر، وبالإمامة الكبرى والصغرى، وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة وتكبيرات التشريق عند إمامنا الأعظم- والاستبداد بالفراق وبالنكاح عند الشافعية- وبالشهادة في أمهات القضايا وزيادة السهم في الميراث والتعصيب إلى غير ذلك
23
وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ عطف على ما قبله فالباء متعلقة بما تعلقت به الباء الأولى، وما مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف، ومِنْ تبعيضية أو ابتدائية متعلقة- بأنفقوا- أو بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف وأريد بالمنفق- كما قال مجاهد- المهر، ويجوز أن يراد بما أنفقوه ما يعمه، والنفقة عليهن، والآية- كما
روي عن مقاتل- نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لتقتص من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجعوا هذا جبرائيل عليه السلام أتاني وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلّى الله عليه وسلّم ثم قال:
أردنا أمرا وأراد الله تعالى أمرا والذي أراده الله تعالى خير».
وقال الكلبي: نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة وذكر القصة، وقال بعضهم: نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبيّ وزوجها ثابت بن قيس بن شماس، وذكر قريبا منه، واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته إلا في معصية الله تعالى،
وفي الخبر «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها»
واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة، وهو مذهب مالك والشافعي لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح، وعندنا لا فسخ لقوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: ٢٨] واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأنه سبحانه جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة وهو الناظر على الشيء الحافظ له فَالصَّالِحاتُ أي منهن قانِتاتٌ شروع في تفصيل أحوالهن وكيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن، والمراد فَالصَّالِحاتُ منهن مطيعات لله تعالى ولأزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي يحفظن أنفسهن وفروجهن في حال غيبة أزواجهن، قال الثوري، وقتادة: أو يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، فاللام بمعنى في، والغيب بمعنى الغيبة، وأل عوض عن المضاف إليه على رأي، ويجوز أن يكون المراد حافظات لواجب الغيب أي لما يجب عليهن حفظه حال الغيبة، فاللام على ظاهرها، وقيل: المراد حافظات لأسرار أزواجهن أي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة، ومنه المنافسة والمنافرة واللطمة المذكورة في الخبر، وحينئذ لا حاجة إلى ما قيل في اللام، ولا إلى تفسير الغيب بالغيبة إلا أن ما
أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرِّجالُ قَوَّامُونَ إلى الغيب»
يبعد هذا القول ومن الناس من زعم أنه أنسب بسبب النزول بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بما حفظهن الله تعالى في مهورهن، وإلزام أزواجهن النفقة عليهن قاله الزجاج، وقيل: بحفظ الله تعالى لهن وعصمته إياهن ولولا أن الله تعالى حفظهن وعصمهن لما حفظن- فما- إما موصولة أو مصدرية وقرأ أبو جعفر بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب، ولا بد من تقدير مضاف على هذه القراءة- كدين الله، وحقه- لأن ذاته تعالى لا يحفظها أحد، وما موصولة أو موصوفة، ومنع غير واحد المصدرية لخلو حفظ حينئذ عن الفاعل لأنه كان يجب أن يقال بما حفظن الله، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون فاعله ضميرا مفردا عائدا على جمع الإناث لأنه في معنى الجنس كأنه قيل: فمن (١) حفظ الله، وجعله ابن جني كقوله:
فإن الحوادث أودى بها
(١) قوله: «فمن» إلخ كذا بخطه ولعله سبق قلم، والأصل «بمن» تأمل. [.....]
24
ولا يخفى ما فيه من التكلف، وشذوذ ترك التأنيث ومثله لا يليق بالنظم الكريم كما لا يخفى، ثم إن صيغة جمع السلامة هنا للكثرة أما المعرف فظاهر، وأما المنكر فلأنه حمل عليه فلا بد من مطابقته له في الكثرة وإلا لم يصدق على جميع أفراده، وقد نص على ذلك في الدر المصون.
وقرأ ابن مسعود- فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن، وأخرج ابن جرير عنه زيادة- فأصلحوا إليهن- فقط وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أي ترفعهن عن مطاوعتكم وعصيانهن لكم، من النشز- بسكون الشين وفتحها- وهو المكان المرتفع ويكون بمعنى الارتفاع فَعِظُوهُنَّ أي فانصحوهن وقولوا لهن اتقين الله وارجعن عما أنتن عليه، وظاهر الآية ترتب هذا على خوف النشوز وإن لم يقع وإلا لقيل نشزن، ولعله غير مراد ولذا فسر في التيسير تَخافُونَ بتعلمون، وبه قال الفراء- كما نقله عنه الطبرسي- وجاء الخوف بهذا كما في القاموس، وقيل: المراد تَخافُونَ دوام نشوزهن أو أقصى مراتبه كالفرار منهم في المراقد.
واختار في البحر أن في الكلام مقدرا وأصله واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن فعظوهن، وهو خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي مواضع الاضطجاع، والمراد اتركوهن منفردات في مضاجعهن فلا تدخلونهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون الكلام كناية عن ترك جماعهن، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقيل:
المراد اهجروهن في الفراش بأن تولوهن ظهوركم فيه ولا تلتفوا إليهن، وروي ذلك عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه
ولعله كناية أيضا عن ترك الجماع، وقيل: المضاجع المبايت أي اهجروا حجرهن ومحل مبيتهن، وقيل: فِي للسببية أي اهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب تخلفهن عن المضاجعة، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى، فالهجران على هذا بالمنطق، قال عكرمة:
بأن يغلظ لها القول، وزعم بعضهم أن المعنى أكرهوهن على الجماع واربطوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار، وتعقبه الزمخشري بأنه من تفسير الثقلاء، وقال ابن المنير: لعل هذا المفسر يتأيد بقوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فإنه يدل على تقدم إكراه في أمر ما، وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع، فإطلاق الزمخشري لها أطلقه في حق هذا المفسر من الإفراط انتهى، وأظن أن هذا لو عرض على الزمخشري لنظم قائله في سلك ذلك المفسر، ولعد تركه من التفريط وقرىء في المضطجع والمضجع وَاضْرِبُوهُنَّ يعني
ضربا غير مبرح- كما أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم-
وفسر غير المبرح بأن لا يقطع لحما ولا يكسر عظما.
وعن ابن عباس أنه الضرب بالسواك ونحوه، والذي يدل عليه السياق والقرينة العقلية أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة فإذا خيف نشوز المرأة تنصح، ثم تهجر، ثم تضرب إذ لو عكس استغني بالأشد عن الأضعف، وإلا فالواو لا تدل على الترتيب وكذا الفاء في فَعِظُوهُنَّ لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع، فالقول بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر، وفي الكشف الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزئة مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر مدرج، فإنما النص هو الدال على الترتيب.
هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة، والزوج يريدها، وترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه، وترك الصلاة في رواية والغسل، والخروج من البيت إلا لعذر شرعي، وقيل: له أن يضربها متى أغضبته، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها، ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداع قوي،
فقد أخرج ابن سعد، والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق
25
رضي الله تعالى عنه قالت: «كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخلى بينهم وبين ضربهن، ثم قال: ولن يضرب خياركم»
وذكر الشعراني قدس سره «أن الرجل إذا ضرب زوجته ينبغي أن لا يسرع في جماعها بعد الضرب، وكأنه أخذ ذلك مما أخرجه الشيخان.
وجماعة عن عبد الله بن زمعة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم، وأخرج عبد الرزاق عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره»

وللخبر محمل آخر لا يخفى فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي وافقنكم وانقدن لما أوجب الله تعالى عليهن من طاعتكم بذلك كما هو الظاهر فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن، أو لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن، فالبغي إما بمعنى الطلب، وسَبِيلًا مفعوله والجار متعلق به، أو صفة النكرة قدم عليها، وإما بمعنى الظلم، وسَبِيلًا منصوب بنزع الخافض، وعن سفيان بن عيينة أن المراد فلا تكلفوهن المحبة، وحاصل المعنى إذا استقام لكم ظاهرهن فلا تعتلوا عليهن بما في باطنهن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه فإن قدرته سبحانه عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم منهن، أو أنه تعالى على علو شأنه وكمال ذاته يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم إذا تبتم فتجاوزوا أنتم عن سيئات أزواجكم واعفوا عنهن إذا تبن، أو أنه تعالى قادر على الانتقام منكم غير راض بظلم أحد، أو أنه سبحانه مع علوه المطلق وكبريائه لم يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن إلا ما يطقن وَإِنْ خِفْتُمْ الخطاب- كما قال ابن جبير والضحاك وغيرهما- للحكام، وهو وارد على بناء الأمر على التقدير المسكوت عنه للإيذان أن ذلك مما ليس ينبغي أن يفرض تحققه أعني عدم الإطاعة، وقيل: لأهل الزوجين أو للزوجين أنفسهما، وروي ذلك عن السدي، والمراد فإن علمتم- كما قال ابن عباس- أو فإن ظننتم- كما قيل- شِقاقَ بَيْنِهِما أي الزوجين، وهما وإن لم يجر ذكرهما صريحا فقد جرى ضمنا لدلالة النشوز الذي هو عصيان المرأة زوجها، والرجال والنساء عليهما، والشقاق الخلاف والعداوة واشتقاقه من الشق وهو الجانب لأن كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر، وبين- من الظروف المكانية التي يقل تصرفها، وإضافة الشقاق إليها إما لإجراء الظرف مجرى المفعول كما في قوله: يا سارق الليلة أهل الدار. أو الفاعل كقولهم صام نهاره، والأصل- شقاقا بينهما- أي أن يخالف أحدهما الآخر، فللملابسة بين الظرف والمظروف نزل منزلة الفاعل أو المفعول وشبه بأحدهما ثم عومل معاملته في الإضافة إليه، وقيل: الإضافة بمعنى في وقيل: إن- بين- هنا بمعنى الوصل الكائن بين الزوجين أعني المعاشرة وهو ليس بظرف، وإلى ذلك يشير كلام أبي البقاء، ولم يرتض ذلك المحققون.
فَابْعَثُوا أي وجهوا وأرسلوا إلى الزوجين لإصلاح ذات البين حَكَماً أي رجلا عدلا عارفا فأحسن السياسة والنظر في حصول المصلحة مِنْ أَهْلِهِ أي الزوج، و «من» إما متعلق- بابعثوا- فهو لابتداء الغاية، وإما بمحذوف وقع صفة للنكرة فهي للتبعيض وَحَكَماً آخر على صفة الأول مِنْ أَهْلِها أي الزوجة، وخص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كل من حب وبغض، وإرادة صحبة، أو فرقة وهذا على وجه الاستحباب، وإن نصبا من الأجانب جاز، واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك؟ فقيل: لهما- وهو المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإحدى الروايتين عن ابن جبير، وبه قال الشعبي-
فقد أخرج الشافعي في الإمام والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني قال: «جاء رجل وامرأة إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم عليّ كرم
26
الله تعالى وجهه أن يبعثوا رجلا وحكما من أهله ورجلا حكما من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله تعالى بما عليّ فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال عليّ كرم الله تعالى وجهه: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به،
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هذه الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ إلخ هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي، وقيل: ليس لهما ذلك، وروي ذلك عن الحسن.
فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه أنه قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه، وأما الفرقة فليست بأيديهما، وإلى ذلك ذهب الزجاج، ونسب إلى الإمام الأعظم، وأجيب عن فعل علي كرم الله تعالى وجهه بأنه إمام وللإمام أن يفعل ما رأى فيه المصلحة فلعله رأى المصلحة فيما ذكر فوكل الحكمين على ما رأى على أن في كلامه ما يدل على أن تنفيذ الأمر موقوف على الرضا حيث قال: للرجل كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يصلح جوابا عما روي عن ابن عباس، ولعل المسألة اجتهادية وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر وذهب الإمامية إلى ما ذهب إليه الحسن وكأن الخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عندهم، وعن الشافعي روايتان في المسألة، وعن مالك أن لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه، ونقل عن بعض علمائنا أن الإساءة إن كانت من الزوج فرقا بينهما وإن كانت منها فرقا على بعض ما أصدقها، والظاهر أن من ذهب إلى القول بنفاذ حكمهما جعلهما وكيلين حكما على ذلك.
وقال ابن العربي في الأحكام: إنهما قاضيان لا وكيلان فإن الحكم اسم في الشرع له إِنْ يُرِيدا أي الحكمان إِصْلاحاً أي بين الزوجين وتأليفا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما فالضمير أيضا للحكمين، وإلى ذلك ذهب ابن عباس ومجاهد والضاحك وابن جبير والسدي.
وجوز أن يكون الضميران للزوجين أي إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الألفة والوفاق، وأن يكون الأول للحكمين، والثاني للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى أوقع الله سبحانه بين الزوجين الألفة والمحبة وألقى في نفوسهما الموافقة والصحبة، وأن يكون الأول للزوجين، والثاني للحكمين أي إن يرد الزوجان إصلاحا واتفاقا يوفق الله تعالى شأنه بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ويتحرياه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً بالظواهر والبواطن فيعلم إرادة العباد ومصالحهم وسائر أحوالهم، وقد استدل الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه الآية على الخوارج في إنكارهم التحكيم في قصة علي كرم الله تعالى وجهه، وهو أحد أمور ثلاثة علقت في أذهانهم فأبطلها كلها رضي الله تعالى عنه فرجع إلى موالاة الأمير كرم الله تعالى وجهه منهم عشرون ألفا، وفيها- كما قال ابن الفرس- رد على من أنكر من المالكية بعث الحكمين في الزوجين، وقال: تخرج المرأة إلى دار أمين أو يسكن معها أمين وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً كلام مبتدأ مسوق للإرشاد إلى خلال مشتملة على معالي الأمور إثر إرشاد كل من الزوجين إلى المعاملة الحسنة، وإزالة الخصومة والخشونة إذا وقعت في البين وفيه تأكيد لرعاية حق الزوجية وتعليم المعاملة مع أصناف من الناس، وقدم الأمر بما
27
يتعلق بحقوق الله تعالى لأنها المدار الأعظم، وفي ذلك إيماء أيضا إلى ارتفاع شأن ما نظم في ذلك السلك، والعبادة أقصى غاية الخضوع، وشَيْئاً إما مفعول به أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء صنما كان أو غيره، فالتنوين للتعميم.
واختار عصام الدين كونه للتحقير ليكون فيه توبيخ عظيم- أي لا تشركوا به شيئا حقيرا مع عدم تناهي كبريائه إذ كل شيء في جنب عظمته سبحانه أحقر حقير- ونسبة الممكن إلى الواجب أبعد من نسبة المعدوم إلى الموجود إذ المعدوم إمكان الموجود، وأين الإمكان من الوجوب؟ ضدان مفترقان أي تفرق، وإما مصدر أي لا تشركوا به عز شأنه شيئا من الإشراك جليا أو خفيا، وعطف النهي عن الإشراك على الأمر بالعبادة مع أن الكف عن الإشراك لازم للعبادة بذلك التفسير إذ لا يتصور غاية الخضوع لمن له شريك ضرورة أن الخضوع لمن لا شريك له فوق الخضوع لمن له شريك للنهي عن الإشراك فيما جعله الشرع علامة نهاية الخضوع، أو للتوبيخ بغاية الجهل حيث لا يدركون هذا اللزوم كذا قيل: ولعل الأوضح أن يقال: إن هذا النهي إشارة إلى الأمر بالإخلاص فكأنه قيل: «واعبدوا الله مخلصين له».
ويؤول ذلك كما أومأ إليه الإمام إلى أنه سبحانه أمر أولا بما يشمل التوحيد وغيره من أعمال القلب والجوارح ثم أردفه بما يفهم منه التوحيد الذي لا يقبل الله تعالى عملا بدونه فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأحسنوا بهما إحسانا فالجار متعلق بالفعل المقدر، وجوز تعلقه بالمصدر وقدم للاهتمام- وأحسن- يتعدى بالباء وإلى واللام، وقيل: إنما يتعدى بالباء إذا تضمن معنى العطف.
والإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهما. وَبِذِي الْقُرْبى أي بصاحب القرابة من أخ وعم وخال وأولاد كل ونحو ذلك، وأعيد الباء هنا ولم يعد في البقرة قال في البحر: لأن هذا توصية لهذه الأمة فاعتنى به وأكد، وذلك في بني إسرائيل.
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ من الأجانب وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى أي الذي قرب جواره وَالْجارِ الْجُنُبِ أي البعيد من الجنابة ضد القرابة، وهي على هذا مكانية، ويحتمل أن يراد- بالجار ذي القربى- من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين- وبالجار الجنب- الذي لا قرابة له ولو مشركا،
أخرج أبو نعيم والبزار من حديث جابر بن عبد الله- وفيه ضعف- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان: حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق واحد: حق الجوار، وهو المشرك من أهل الكتاب»،
وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمر أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
والظاهر أن مبنى الجوار على العرف، وعن الحسن كما في الأدب أنه سئل عن الجار فقال: أربعين دارا أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره، وروي مثله عن الزهري، وقيل: أربعين ذراعا، ويبدأ بالأقرب فالأقرب،
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا،
وقرىء- والجار ذا القربى- بالنصب أي وأخص الجار، وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار.
وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره»
وفيما سمعه عبد الله كفاية، وأخرجه الشيخان وأحمد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ هو الرفيق في السفر، أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، وكلا القولين عن ابن عباس، وقيل: الرفيق في أمر حسن- كتعلم وتصرف وصناعة وسفر- وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس وغير ذلك من أدنى
28
صحبة التأمت بينك وبينه، واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم.
وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه- الصاحب- بالجنب- المرأة، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الصاحب، والعامل فيه الفعل المقدر وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر أو الضيف.
وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال مقاتل: من عبيدكم وإمائكم، وكان كثيرا ما يوصي بهم صلّى الله عليه وسلّم
فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: «كان عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه»
ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب حسبما يليق بكل وينبغي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا أي ذا خيلاء وكبر يأنف من أقاربه وجيرانه مثلا ولا يلتفت إليهم فَخُوراً يعد مناقبه عليهم تطاولا وتعاظما، والجملة تعليل للأمر السابق.
أخرج الطبراني وابن مردويه عن ثابت بن قيس بن شماس قال: «كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ هذه الآية إِنَّ اللَّهَ إلخ فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما يبكيك؟ فقال: يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال: فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس»
والأخبار في هذا الباب كثيرة.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فيه أوجه من الإعراب: الأول أن يكون بدلا من من بدل كل من كل، الثاني أن يكون صفة لها بناء على رأي من يجوز وقوع الموصول موصوفا، والزجاج يقول به، الثالث أن يكون نصبا على الذم، الرابع أن يكون رفعا عليه، الخامس أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، السادس أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي مبغوضون، أو أحقاء بكل ملامة ونحو ذلك- مما يؤخذ من السياق- وإنما حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب، وتقديره بعد تمام الصلة أولى، السابع أن يكون كما قال أبو البقاء: مبتدأ وَالَّذِينَ الآتي معطوفا عليه، والخبر إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ على معنى لا يظلمهم، وهو بعيد جدا.
29
وفرق الطيبي بين كونه خبرا ومبتدأ بأنه على الأول متصل بما قبله لأن هذا من جنس أوصافهم التي عرفوا بها، وعلى الثاني منقطع جيء به لبيان أحوالهم، وذكر أن الوجه الاتصال وأطال الكلام عليه، وفي البخل أربع لغات: فتح الخاء والباء- وبها قرأ حمزة والكسائي- وضمهما- وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر وفتح الباء وسكون الخاء- وبها قرأ قتادة- وضم الباء وسكون الخاء- وبها قرأ الجمهور- وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي من المال والغنى، أو من نعوته صلّى الله تعالى عليه وسلّم.
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أي أعددنا لهم ذلك ووضع المظهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعم الله تعالى، ومن كان كافرا لنعمه فله عذاب يهينه كما أهان النعم بالبخل والإخفاء، ويجوز حمل الكفر على ظاهره، وذكر ضمير التعظيم للتهويل لأن عذاب العظيم عظيم، وغضب الحليم وخيم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها، وسبب نزول الآية ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلى قوله سبحانه:
وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً، وقيل: نزلت في الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وغيره، أخرج عبد بن حميد وآخرون عن قتادة أنه قال في الآية: هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب بخلوا بحق الله تعالى عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، والبخل على هذه الرواية ظاهر في البخل بالمال، وبه صرح ابن جبير في إحدى الروايتين عنه، وفي الرواية الأخرى أنه البخل بالعلم، وأمرهم الناس أي اتباعهم به يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أن يكون مجازا تنزيلا لهم منزلة الآمرين بذلك لعلمهم باتباعهم لهم وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ أي للفخار، ولما يقال لا لوجه الله العظيم المتعال، والموصول عطف على نظيره، أو على الكافرين، وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في الشناعة واستجلاب الذم، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي قرينهم الشيطان كما يدل عليه الكلام الآتي.
ورِئاءَ مصدر منصوب على الحال من ضمير يُنْفِقُونَ وإضافته إلى النَّاسِ من إضافة المصدر لمفعوله أي مرائين الناس وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ القادر على الثواب والعقاب وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الذي يثاب فيه المطيع ويعاقب العاصي ليقصدوا بالإنفاق ما تورق به أغصانه ويجتنى منه ثمره وهم اليهود، وروي ذلك عن مجاهد، أو مشركو مكة، أو المنافقون- كما قيل- وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ والمراد به إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة من قبيلته، والناس التابعين له أو من القوى النفسانية والهوى وصحبة الأشرار، أو من النفس والقوى الحيوانية وشياطين الإنس والجن لَهُ قَرِيناً أي صاحبا وخليلا في الدنيا فَساءَ فبئس الشيطان أو القرين.
قَرِيناً لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار- وساء- منقولة إلى باب- نعم، وبئس- فهي ملحقة بالجامدة فلذا قرنت بالفاء، ويحتمل أن تكون على بابها بتقدير «قد» كقوله سبحانه: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: ٩٠] والغرض من هذه الجملة التنبيه على أن الشيطان قرينهم، فحملهم على ذلك وزينه لهم، وجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان يوم القيامة في النار فيتلاعنان ويتباغضان وتقوم لهم الحسرة على ساق وَماذا عَلَيْهِمْ أي ما الذي عليهم، أو أي وبال وضرر يحيق بهم.
30
لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا على من ذكر من الطوائف ابتغاء وجه الله تعالى- كما يشعر به السياق- ويفهمه الكلام مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ من الأموال، وليس المراد السؤال عن الضرر المترتب على الإيمان والإنفاق في سبيل الله تعالى كما هو الظاهر إذ لا ضرر في ذلك ليسأل عنه بل المراد توبيخهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه، وتحريضهم على صرف الفكر لتحصيل الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما في ذلك مما هو أجدى من تفاريق العصا، وتنبيههم على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطا، فكيف إذا تدفقت منه المنافع؟! وهذا أسلوب بديع كثيرا ما استعملته العرب في كلامها، ومن ذلك قول من قال:
ما كان ضرك لو مننت وربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
وفي الكلام رد على الجبرية إذ لا يقال مثل ذلك لمن لا اختيار له ولا تأثير أصلا في الفعل، ألا ترى أن من قال للأعمى: ماذا عليك لو كنت بصيرا، وللقصير ماذا عليك لو كنت طويلا؟ نسب إلى ما يكره.
واستدل به القائلون بجواز إيمان المقلد أيضا لأنه مشعر بأن الإيمان في غاية السهولة. ولو كان الاستدلال واجبا لكان في غاية الصعوبة، وأجيب بعد تسليم الاشعار بأن الصعوبة في التفاصيل- وليست واجبة- وأما الدلائل على سبيل الإجمال فسهلة وهي الواجبة، و «لو» إما على بابها والكلام محمول على المعنى أي- لو آمنوا لم يضرهم- وإما بمعنى أن المصدرية- كما قال أبو البقاء- وعلى الوجهين لا استئناف.
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وجوابها مقدر أي حصلت لهم السعادة ونحوه، وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخر في الآية المتقدمة لأنه ثمة ذكر لتعليل ما قبله من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلها، وهنا للتحريض فينبغي أن يبدأ فيه بالأهم فالأهم، ولو قيل: أخر الإيمان هناك وقدم الإنفاق لأن ذلك الإنفاق كان بمعنى الإسراف الذي هو عديل البخل فأخر الإيمان لئلا يكون فاصلا بين العديلين لكان له وجه لا سيما إذا قلنا بالعطف. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم فيجازيهم به، وقيل: فيه إشارة إلى إثابته تعالى إياهم لو كانوا آمنوا وأنفقوا، ولا بأس بأن يراد- كان عليما بهم- وبأحوالهم المحققة والمفروضة فيعاقب على الأولى ويثيب على الثانية- كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ المثقال مفعال من الثقل، ويطلق على المقدار المعلوم الذي لم يختلف كما قيل: جاهلية وإسلاما وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أربعة وعشرون قيراطا، وعلى مطلق المقدار- وهو المراد هنا- ولذا قال السدي: أي وزن ذرة- وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى.
وروي ذلك عن ابن عباس وابن زيد، وعن الأول أنها رأس النملة، وعنه أيضا أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة، وقريب منه ما قيل: إنها جزء من أجزاء الهباء في الكوة، وقيل: هي الخردلة، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق عطاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ- مثقال نملة- ولم يذكر سبحانه الذرة لقصر الحكم عليها بل لأنها أقل شيء مما يدخل في وهم البشر، أو أكثر ما يستعمل عند الوصف بالقلة، ولم يعبر سبحانه بالمقدار ونحوه بل عبر بالمثقال للإشارة بما يفهم منه من الثقل الذي يعبر به عن الكثرة، والعظم كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ [القارعة: ٦] إلى أنه وإن كان حقيرا فهو باعتبار جزئه عظيم، وانتصابه على أنه صفة مصدر محذوف كالمفعول، أي ظلما قدر مثقال ذرة فحذف المصدر وصفته، وأقيم المضاف إليه مقامهما، أو مفعول ثان ليظلم أي لا يظلم أحدا أو لا يظلمهم مثقال ذرة.
31
قال السمين: وكأنهم ضمنوا يظلم معنى يغصب، أو ينقص فعدوه لاثنين.
وذكر الراغب أن الظلم عند أهل اللغة وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة أو بعدول عن وقته أو مكانه، وعليه ففي الكلام إشارة إلى أن نقص الثواب وزيادة العقاب لا يقعان منه تعالى أصلا، وفي ذلك حث على الإيمان والإنفاق بل إرشاد إلى أن كل ما أمر به مما ينبغي أن يفعل وكل ما نهي عنه مما ينبغي أن يجتنب.
واستدل المعتزلة بالآية على أن الظلم ممكن في حدّ ذاته إلا أنه تعالى لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة لأنه سبحانه مدح نفسه بتركه ولا مدح بترك القبيح ما لم يكن عن قدرة، ألا ترى أن العنين لا يمدح بترك الزنا، واعترض على ذلك بقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] فإنه ذكر في معرض المدح مع أن النوم غير ممكن عليه سبحانه، قال في الكشف: وهو غير وارد لأنه مدح بانتفاء النقص عن ذاته المقدسة وهو كما تقول: الباري عز وعلا ليس بجسم ولا عرض، وأمّا ما نحن فيه فمدح بترك الفعل والترك الممدوح إنما يكون إذا كان بالاختيار، نعم للمانع أن لا يسلم أنه تعالى مدح بالترك بل من حيث الدلالة على النقص لأن وجوب الوجود ينافي جواز الاتصاف بالظلم، وتحقيقه على مذهبهم أن وضع الشيء في غير موضعه الحقيق به ممكن في نفسه وقدرة الحق جل شأنه تسع جميع الممكنات، لكن الحكمة- وهي الإتيان بالممكن على وجه الإحكام وعلى ما ينبغي- مانعة، وعن هذا قالوا: الحكيم لا يفعل إلا الحسن من بين الممكنات إلا إذا دعته حاجة والمنزه عن الحاجات جمع يتعالى عن فعل القبيح، ونحن نقول: إنه عز اسمه لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أيضا بناء على وعده المحتوم، فإن الحلف فيه ممتنع لكونه نقصا منافيا للألوهية وكمال الغنى، وبهذا الاعتبار يصح أن يسمى ظلما، وإن كان لا يتصور حقيقة الظلم منه تعالى لكونه المالك على الإطلاق، فالزيادة والنقص ممكنان لذاتهما، والخلف ممتنع لذاته، ولا يلزم من كون الخلف ممتنعا لذاته بالنسبة إلى الواجب تعالى وتقدس أن يكون متعلقه كذلك، وهذا على نحو ما تقرر في مسألة التكليف بالممتنع أن أخبار الله تعالى عن عدم إيمان المصر ووجوب الصدق اللازم له لا يخرج الفعل عن كونه مقدور المكلف بل يحقق قدرته عليه فليحفظ فإنه مهم.
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً الضمير المستتر في الفعل الناقص عائد إلى المثقال، وإنما أنث حملا على المعنى لأنه بمعنى وإن تكن زنة ذرة حسنة، وقيل: لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه نحو كما شرقت صدر القناة من الدم. أو صفة له نحو لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها [الأنعام: ١٥٨] في قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية ومقدار الشيء صفة له كما أن الإيمان صفة للنفس، وقيل: أنث الضمير لتأنيث الخبر، واعترض بأن تأنيث الخبر إنما يكون لمطابقة تأنيث المبتدأ، فلو كان تأنيث المبتدأ له لزم الدور، وأجيب بأن ذلك إذا كان مقصودا وصفيته، والحسنة غلبت عليها الاسمية فألحقت بالجوامد التي لا تراعى فيها المطابقة نحو- الكلام هو الجملة- وقيل:
الضمير عائد إلى المضاف إليه وهو مؤنث بلا خفاء، وحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيها لها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون وكونها من حروف الزوائد، وكان القياس عود الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين بعد حذف النون إلا أنهم خالفوا القياس في ذلك أيضا حرصا على التخفيف فيما كثر دوره، وقد أجاز يونس حذف النون من هذا الفعل أيضا في مثل قوله.
فإن لم تك المرآة أبدت وسامة فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم
وسيبويه يدعي أن ذلك ضرورة، وقرأ ابن كثير «حسنة» بالرفع على أن تَكُ تامة أي وإن توجد أو تقع حَسَنَةً يُضاعِفْها أضعافا كثيرة حتى يوصلها- كما مر عن أبي هريرة- إلى ألفي ألف حسنة، وعنى التكثير لا
32
التحديد، والمراد يضاعف ثوابها لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مثلا مما لا يعقل، وإن ذهب إليه بعض المحققين، وما
في الحديث- من أن تمرة الصدقة يربيها الرحمن حتى تصير مثل الجبل-
محمول على هذا للقطع بأنها أكلت، واحتمال إعادة المعدوم بعيد، وكذا كتابة ثوابها مضاعفا، وهذه المضاعفة ليست هي المضاعفة في المدة عند الإمام لأنها غير متناهية، وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى ضعفه بحسب المقدار، مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءا أو ثلاثين أو أزيد، وقيل: هي المضاعفة بحسب المدة على معنى أنه سبحانه لا يقطع ثواب الحسنة في المدد الغير المتناهية لا أنه يضاعف جل شأنه مدتها ليجيء حديث محالية تضعيف ما لا نهاية، وجعل قوله تعالى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً على هذا عطفا لبيان الأجر المتفضل به، وهو الزيادة في المقدار إثر بيان الأجر المستحق وهو إعطاء مثله واحدا بعد واحد إلى أبد الدهر، وتسمية ذلك أجرا من مجاز المجاورة لأنه تابع للأجر مزيد عليه، وعلى الأول جعله البعض واردا على طريقة عطف التفسير على معنى يضاعف ثواب تلك الحسنة بإعطاء الزائد عليه من فضله، وزعموا أن القول بالأجر المستحق مذهب المعتزلة ولا يتأتى على مذهب الجماعة- وليس بشيء- لأن الجماعة يقولون بالاستحقاق أيضا لكن بمقتضى الوعد الذي لا يخلف، وبه يكون الأجر الموعود به كأنه حق للعبد كما أنه يكون كذلك أيضا بمقتضى الكرم كما قيل: وعد الكريم دين، نعم حمل الأجر على ما ذكر لا يخلو عن بعد، والداعي إليه عدم التكرار، وقال الإمام أيضا: إن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها في الجنة، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية والاستغراق في المحبة والمعرفة.
وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية، وهذا الأجر إشارة إلى السعادات الروحانية، ولا يخلو عن حسن، ولدن- بمعنى عند، وفرق بينهما بعضهم بأن لدن أقوى في الدلالة على القرب ولذا لا يقال: لدي مال إلا وهو حاضر بخلاف عند، وتقول: هذا القول عندي صواب، ولا تقول: لدي. ولدني- كما قاله الزجاج- ونظر فيه بأنه شاع استعمال لدن في غير المكان كقوله تعالى: مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: ٦٥]. اللهم إلا أن يخرج ما قاله الزجاج مخرج الغالب، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير- يضعفها- بتضعيف العين وتشديدها، والمختار عند أهل اللغة والفارسي أنهما بمعنى، وقال أبو عبيدة: ضاعف يقتضي مرارا كثيرا، وضعف يقتضي مرتين، ورد بأنه عكس اللغة لأن المضاعفة تقتضي زيادة الثواب فإذا شددت دلت البنية على التكثير فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة، وقد تقدم من الكلام ما ينفعك فتذكر.
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ الفاء فصيحة، وكيف محلها إما الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وإما النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال- كما هو رأي سيبويه- أو على التشبيه بالظرف كما هو رأي الأخفش- والعامل بالظرف مضمون الجملة من التهويل والتفخيم المستفاد من الاستفهام، أو الفعل المصدر كما قرره صاحب الدر المصون، والجار متعلق بما عنده أي إذا كان كل قليل وكثير يجازى عليه، فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم، أو كيف يصنعون، أو كيف يكون حالهم إذا جئنا يوم القيامة من كل أمة من الأمم وطائفة من الطوائف بشهيد يشهد عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأعمال- وهو نبيهم؟؟؟
وَجِئْنا بِكَ يا خاتم الأنبياء عَلى هؤُلاءِ إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر شَهِيداً تشهد على صدقهم لعلمك بما أرسلوا واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأوصلوا، وقيل: إلى المكذبين المستفهم عن حالهم يشهد عليهم بالكفر والعصيان تقوية لشهادة أنبيائهم عليهم السلام، أو كما يشهدون على أممهم، وقيل: إلى المؤمنين
33
لقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: ١٤٣] ومتى أقحم المشهود عليه في الكلام وأدخلت «على» عليه لا يحتاج لتضمين الشهادة معنى التسجيل،
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من طرق عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ عليّ قلت: يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ إلخ فقال: حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان»
فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم تلك الحالة، فماذا لعمري يصنع المشهود عليه؟! وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه.
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ استئناف لبيان حالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها، وتنوين إذ عوض- على الصحيح- عن الجملتين السابقتين، وقيل: عن الأولى، وقيل: عن الأخيرة، والظرف متعلق- بيود- وجعله متعلقا بشهيد، وجملة (يود) صفة، والعائد محذوف أي فيه بعيد، والمراد بالموصول إما المكذبون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنهم بذلك لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعة والأمر الهائل، وإيراده صلّى الله عليه وسلّم بعنوان الرسالة لتشريفه وزيادة تقبيح حال مكذبيه، وإما جنس الكفرة ويدخل أولئك في زمرتهم دخولا أوليا.
والمراد من الرَّسُولَ الجنس أيضا ويزيد شرفه انتظامه للنبي صلّى الله عليه وسلّم انتظاما أوليا، وعَصَوُا معطوف على كَفَرُوا داخل معه في حيز الصلة والمراد عصيانهم بما سوى الكفر، فيدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة، وقال أبو البقاء: إنه في موضع الحال من ضمير كَفَرُوا وقد مرادة، وقيل: صلة لموصول آخر أي والذين عصوا، فالإخبار عن نوعين: الكفرة والعصاة، وهو ظاهر على رأي من يجوز إضمار الموصول كالفراء، وفي المسألة خلاف أي يود في ذلك اليوم لمزيد شدّته ومضاعف هوله الموصوفون بما ذكر في الدنيا.
لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ إما مفعول يَوَدُّ على أن لَوْ مصدرية أي يودون أن يدفنوا وتسوى الأرض ملتبسة بهم، أو تسوى عليهم كالموتى، وقيل: يودون أنهم بقوا ترابا على أصلهم من غير خلق، وتمنوا أنهم كانوا هم والأرض سواء، وقيل: تصير البهائم ترابا فيودون حالها.
وعن ابن عباس أن المعنى يودون أن يمشي عليهم أهل الجمع يطؤونهم بأقدامهم كما يطؤون الأرض، وقيل:
يودون لو يعدل بهم الأرض أي يؤخذ منهم ما عليها فدية، وإما مستأنفة على أن لَوْ على بابها ومفعول يَوَدُّ محذوف لدلالة الجملة، وكذا جواب لَوْ إيذانا بغاية ظهوره أي يودون تسوية الأرض بهم لَوْ تُسَوَّى لسروا.
وقرأ نافع وابن عامر ويزيد تُسَوَّى على أن أصله تتسوى، فأدغم التاء في السين لقربها منها، وحمزة والكسائي تُسَوَّى بحذف التاء الثانية مع الإمالة يقال: سويته فتسوى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً عطف على يَوَدُّ أي أنهم يومئذ لا يكتمون من الله تعالى حديثا لعدم قدرتهم على الكتمان حيث إن جوارحهم تشهد عليهم بما صنعوا، أو أنهم لا يكتمون شيئا من أعمالهم بل يعترفون بها فيدخلون النار باعترافهم، وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنهم لا ينفعهم الكتمان، وإنما يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] في بعض المواطن قاله الحسن، وقيل: الواو للحال أي يودون أن يدفنوا في الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ إذ روى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وجعلها للعطف وما بعدها معطوف على تُسَوَّى على معنى- يودون لو تسوى بهم الأرض وأنهم لا يكونون كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وبعثه في الدنيا- كما روي عن عطاء بعيد جدا.
وأقرب منه العطف على مفعول يَوَدُّ على معنى يودون تسوية الأرض بهم وانتفاء كتمانهم إذ قالوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.
34
هذا «ومن باب الإشارة» يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ بأن يكاشفكم بأسراره المودعة فيكم أثناء السير إليه وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي مقاماتهم وحالاتهم ورياضاتهم، وأشار بهم إلى الواصلين إليه قبل المخاطبين، ويجوز أن تكون الإشارة بالسنن إلى التفويض والتسليم والرضا بالمقدور فإن ذلك شنشنة الصديقين ونشنشة الواصلين وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ من ذنب وجودكم حين يفنيكم فيه، ويحتمل أن يكون التبيين إشارة إلى الإيصال إلى توحيد الأفعال. والهداية إلى توحيد الصفات. والتوبة إلى توحيد الذات وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمراتب استعدادكم حَكِيمٌ ومن حكمته أن يفيض عليكم حسب قابلياتكم والله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ تكرار لما تقدم إيذانا بمزيد الاعتناء به لأنه غاية المراتب وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أي اللذائذ الفانية الحاجبة عن الوصول إلى الحضرة أَنْ تَمِيلُوا إلى السوي مَيْلًا عَظِيماً لتكونوا مثلهم يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ أثقال العبودية في مقام المشاهدة، أو أثقال النفس بفتح باب الاستلذاذ بالعبادة بعد الصبر عليها وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة فلا يستطيع حمل ذلك إلا بتأييد إلهي، أو ضعيفا لا يطيق الحجاب عن محبوبه لحظة، ولا يصبر عن مطلوبه ساعة لكمال شوقه ومزيد غرامه.
والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم
وكان الشبلي قدس سره يقول: إلهي لا معك قرار ولا منك فرار المستغاث بك إليك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي لا تَأْكُلُوا أي تذهبوا أَمْوالَكُمْ وهو ما حصل لكم من عالم الغيب بالكسب الاستعدادي بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بأن تنفقوا على غير وجهه وتودعوه غير أهله إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً أي إلا أن يكون التصرف تصرفا صادرا عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ واستحسان ألقي من عالم الإلهام إليكم فإن ذلك مباح لكم وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بالغفلة عنها فإن من غفل عنها فقد غفل عن ربه ومن غفل عن ربه فقد هلك، أو لا تقتلوا أنفسكم أي أرواحكم القدسية بمباشرتكم ما لا يليق فإن مباشرة ما لا يليق يمنع الروح من طيرانها في عالم المشاهدات ويحجب عنها أنوار المكاشفات إِنَّ اللَّهَ كانَ في أزل الآزال بِكُمْ رَحِيماً فلذا أرشدكم إلى ما أرشدكم إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ وهي عند العارفين رؤية العبودية في مشهد الربوبية وطلب الأعواض في الخدمة وميل النفس إلى السوي من العرش إلى الثرى، والسكون في مقام الكرامات، ودعوى المقامات السامية قبل الوصول إليها.
وأكبر الكبائر إثبات وجود غير وجود الله تعالى نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي نمح عنكم تلوناتكم بظهور نور التوحيد وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وهي حضرة عين الجمع وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من الكمالات التابعة للاستعدادات فإن حصول كمال شخص لآخر محال إذا لم يكن مستعدا له، ولهذا عبر بالتمني للرجال وهم الأفراد الواصلون نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا بنور استعدادهم وَلِلنِّساءِ وهم الناقصون القاصرون نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ حسب استعدادهم وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ بأن يفيض عليكم ما تقتضيه قابلياتكم إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاستعداد فيعطيكم ما يليق بكم وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب من الاستعداد يرثون به مما تركه والداهم- وهما الروح والقلب- والأقربون- وهم القوى الروحانية- وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وهم المريدون فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الفيض على قدر نصيبهم من الاستعداد إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً إذ كل شيء مظهر لاسم من أسمائه الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي الكاملون شأنهم القيام بتدبير الناقصين والإنفاق عليهم من فيوضاتهم بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بالاستعداد وَبِما أَنْفَقُوا في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه مِنْ أَمْوالِهِمْ أي قواهم
35
أو معارفهم فَالصَّالِحاتُ للسلوك من النساء بالمعنى السابق قانِتاتٌ مطيعات لله تعالى بالعبادات القالبية حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي القلب عن دنس الأخلاق الذميمة، ولعله إشارة إلى العبادات القلبية بِما حَفِظَ اللَّهُ لهم من الاستعداد وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ترفعهن عن الانقياد إلى ما ينفعهن فَعِظُوهُنَّ بذكر أحوال الصالحين ومقاماتهم فإن النفس تميل إلى ما يمدح لها غالبا وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي امنعوا دخول أنوار فيوضاتكم إلى حجرات قلوبهن ليستوحشن فربما يرجعن عن ذلك الترفع وَاضْرِبُوهُنَّ بعصا القهر إن لم ينجع ما تقدم فيهن فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بعد ذلك ورجعن عن الترفع والأنانية فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بتكليفهن فوق طاقتهن وخلاف مقتضى استعدادهن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ومع هذا لم يكلف أحدا فوق طاقته وخلاف مقتضى استعداده وَإِنْ خِفْتُمْ أيها المرشدون الكمل شِقاقَ بَيْنِهِما أي بين الشيخ والمريد فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها فابعثوا متوسطين من المشايخ والسالكين إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً ويقصداه يُوَفِّقِ اللَّهُ تعالى بَيْنِهِما وهمة الرجال تقلع الجبال.
ويمكن أن يكون الرجال إشارة إلى العقول الكاملة والنساء إشارة إلى النفوس الناقصة، ولا شك أن العقل هو القائم بتدبير النفس وإرشادها إلى ما يصلحها، ويراد من الحكمين حينئذ ما يتوسط بين العقل والنفس من القوى الروحانية وَاعْبُدُوا اللَّهَ بالتوجه إليه والفناء فيه وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً مما تحسبونه شيئا وليس بشيء إذ لا وجود حقيقة لغيره سبحانه وَبِالْوالِدَيْنِ الروح والنفس اللذين تولد بينهما القلب أحسنوا إِحْساناً فاستفيضوا من الأول وتوجهوا بالتسليم إليه وزكوا الثاني وطهروا برديه وَبِذِي الْقُرْبى وهم من يناسبكم بالاستعداد الأصلي والمشاكلة الروحانية وَالْيَتامى المستعدين المنقطعين عن نور الأب وهو الروح بالاحتجاب وَالْمَساكِينِ العاملين الذين لا حظ لهم من المعارف ولذا سكنوا عن السير وهم الناسكون وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى القريب من مقامك في السلوك وَالْجارِ الْجُنُبِ البعيد مقامه عن مقامك وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ الذي هو في عين مقامك وَابْنِ السَّبِيلِ أي السالك المتغرب عن مأوى النفس الذي لم يصل إلى مقام بعد وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من المنتمين إليكم بالمحبة والإرادة، وقيل: الوالدين إشارة إلى المشايخ وإحسان المريد إليهم إطاعتهم والانقياد إليهم وامتثال أوامرهم فإنهم أطباء القلوب وهم أعرف بالداء والدواء ولا يداوون إلا بما يرضي الله تعالى وإن خفي على المريد وجهه.
ومن هنا قال الجنيد قدس سره: أمرني ربي أمرا وأمرني السري أمرا فقدمت أمر السري على أمر ربي وكل ما وجدت فهو من بركاته، وأول الْجارِ ذِي الْقُرْبى بالروح الناطقة العارفة العاشقة الملكوتية التي خرجت من العدم بتجلي القدم وانقدحت من نور الأزل وهي أقرب كل شيء وهي جار الله تعالى المصبوغة بنوره والإحسان إليها أن تطلقها من فتنة الطبيعة وتقدس مسكنها من حظوظ البشرية لتطير بجناح المعرفة والشوق إلى عالم المشاهدة وَالْجارِ الْجُنُبِ بالصورة الحاملة للروح والإحسان إليها أن تفطم جوارحها من رضع ضرع الشهوات وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وهو القلب الذي يصحبك في سفر الغيب والإحسان إليه أن تفرده من الحدثان وتشوقه إلى جمال الرحمن، وقيل: هو النفس الأمارة،
وفي الخبر «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»
والإحسان إليها أن تحبسها في سجن العبودية وتحرقها بنيران المحبة، وأول ابْنِ السَّبِيلِ بالولي الكامل فإنه لم يزل ينتقل من نور الأفعال إلى نور الصفات ومن نور الصفات إلى نور الذات والإحسان إليه كتم سره وعدم الخروج عن دائرة أمره، وقال بعض العارفين:
وإن شئت أولت ذا القربى بما يتصل بالشخص من المجردات وَالْيَتامى بالقوى الروحانية، وَالْمَساكِينِ بالقوى النفسانية من الحواس الظاهرة وغيرها وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى بالعقل وَالْجارِ الْجُنُبِ بالوهم
36
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ بالشوق والإرادة وَابْنِ السَّبِيلِ بالفكر والمماليك بالملكات المكتسبة التي هي مصادر الأفعال الجميلة، وباب التأويل واسع جدا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا يسعى بالسلوك في نفسه فَخُوراً بأحواله ومقاماته محتجبا برؤيتها الَّذِينَ يَبْخَلُونَ على أنفسهم وعلى المستحقين فلا يعملون بعلومهم ولا يعلمونها وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ قالا أو حالا وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فلا يشكرون نعمة الله، أو يكتمون ما أوتوا من المعارف في كتم الاستعداد وظلمة القوة حتى كأنها معدومة وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ للحق الساترين أنوار الوحدة بظلمة الكثرة عَذاباً مُهِيناً يهينهم في ذل وجودهم وشين صفاتهم وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ أي يبرزون كمالاتهم رِئاءَ النَّاسِ مرائين الناس بأنها لهم وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الإيمان الحقيقي ليعلموا أن لا كمال إلا له وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي الفناء فيه سبحانه ليبرزوا لله الواحد القهار وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ النفس وقواها لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً لأنه يضله عن الحق كهؤلاء وَماذا عَلَيْهِمْ ما كان يضرهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فصدقوا بالتوحيد والفناء فيه وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ولم يروا كمالا لأنفسهم وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً فيجازيهم بالبقاء بعد الفناء إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مقدار ما يظهر من الهباء وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً ولا تكون كذلك إلا إذا كانت له فإن كانت له يُضاعِفْها بالتأييد الحقاني وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وهو الشهود الذاتي، أو العلم اللدني فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وهو ما يحضر كل أحد ويظهر له بصورة معتقدة فيكشف عن حاله وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ وهم المحمديون شَهِيداً ومن لوازم الإتيان بالحقيقة المحمدية شهيدا للمحمديين معرفتهم لله تعالى عند التحول في جميع الصور فليس شهيدهم في الحقيقة إلا الحق سبحانه يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالاحتجاب وَعَصَوُا الرَّسُولَ بعدم المتابعة لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ لتنطمس نفوسهم أو تصير ساذجة لا نقش فيها من العقائد الفاسدة والرذائل الموبقة وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً أي لا يقدرون على كتم حديث من تلك النقوش وهيهات أنى يخفون شيئا منها، وقد صارت الجبال كالعهن المنفوش.
سهم أصاب وراميه بذي سلم من بالعراق لقد أبعدت مرماك
والله تعالى يتولى الحق وهو يهدي السبيل.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إرشاد لإخلاص الصلاة التي هي رأس العبادة من شوائب الكدر ليجمعوا بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم وبين الخلق المبينة فيما تقدم وبهذا يحصل الربط، ويجوز أن يقال: لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا هاهنا عما يؤدي إليه من حيث لا يحتسبون،
فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن عليّ كرم الله تعالى وجهه قال: «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت».
وفي رواية ابن جرير وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه «أن إمام القوم يومئذ هو عبد الرحمن وكانت الصلاة صلاة المغرب وكان ذلك لما كانت الخمر مباحة،
والخطاب للصحابة وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه اعتناء بشأن الحكم، والمراد بالصلاة عند الكثير الهيئة المخصوصة، وبقربها القيام إليها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة، وبالسكر الحالة المقررة التي تحصل لشارب الخمر، ومادته تدل على الانسداد ومنه سكرت أعينهم أي انسدت، والمعنى لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه قبلها إذ بذلك يظهر أنكم ستعلمون ما ستقرؤونه فيها، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى- لا تقربوا الصلاة وأنتم نشاوى من الشراب حتى تعلموا
37
ما تقرءونه في صلاتكم- ولعل مراده حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقرءونه وإلا فهو يستدعي تقدم الشروع في الصلاة على غاية النهي، وإذا أريد ذلك رجع إلى ما تقدم ولكن فيه تطويل بلا طائل على أن إيثار ما تَقُولُونَ على ما تقرءون حينئذ يكون عاريا عن الداعي، وروي عن ابن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد من الصلاة مواضعها فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينة قوله تعالى فيما يأتي: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ فإنه يدل عليه بحسب الظاهر، فالآية مسوقة عن نهي قربان السكران المسجد تعظيما له،
وفي الخبر «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم»
ويأباه ظاهر قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه حمل الصلاة على الهيئة المخصوصة وعلى مواضعها مراعاة للقولين، وفي الكلام حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز ونحن لا نقول به، وروي عن جعفر رضي الله تعالى عنه والضحاك- وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن المراد من السكر سكر النعاس وغلبة النوم، وأيد بما
أخرجه البخاري عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول» وروي مثله عن عائشة رضي الله تعالى عنها
- وفيه بعد- وأبعد منه حمله على سكر الخمر وسكر النوم لما فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو عموم المجاز مع عدم القرينة الواضحة على ذلك، وأيّا ما كان فليس مرجع النهي هو المقيد مع بقاء القيد مرخصا بحاله بل إنما هو القيد مع بقاء المقيد على حاله لأن القيد مصب النفي والنهي في كلامهم ولأنه مكلف بالصلاة مأمور بها والنهي ينافيه، نعم لا مانع عن النهي عنها للسكران مع الأمر المطلق إلا أن مرجعه إلى هذا.
والحاصل كما قال الشهاب: إنه مكلف بها في كل حال، وزوال عقله بفعله لا يمنع تكليفه ولذا وقع طلاقه ونحوه، ولو لم يكن مأمورا بها لم تلزمه الإعادة إذا استغرق السكر وقتها- وقد نص عليه الجصاص في الأحكام- وفصله انتهى، وزعم بعضهم أن النهي عن الصلاة نفسها لكن المراد بها الصلاة جماعة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له عليه الصلاة والسلام وتوقيرا، ولا يخفى أنه مما لا يدل عليه نقل ولا عقل ويأباه الظاهر وسبب النزول، وقد روي أنهم كانوا بعد ما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون، وقرىء «سكارى» بفتح السين جمع سكران كندمان وندامى.
وقرأ الأعمش «سكرى» بضم السين على أنه صفة- كحبلى- وقع صفة لجماعة أي وأنتم جماعة سكرى، والنخعي «سكرى» بالفتح، وهو إما صفة مفردة جماعة كما في الضم، وإما جمع تكسير كجرحى، وإنما جمع سكران عليه لما فيه من الآفة اللاحقة للعقل، والصيغة على قراءة الجمهور جمع تكسير عند سيبويه، واسم جمع عند غيره لأنه ليس من أبنية الجمع، ورجح الأول وَلا جُنُباً عطف على قوله تعالى: وَأَنْتُمْ سُكارى فإنه في حيز النصب كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا- قاله غير واحد- وقال الشهاب نقلا عن البحر: إن هذا حكم الاعراب، وأما المعنى ففرق بين قولنا جاء القوم سكارى وجاؤوا وهم سكارى إذ معنى الأول جاؤوا كذلك، والثاني جاؤوا وهم كذلك باستئناف الإثبات- ذكره عبد القاهر- ويعني بالاستئناف أنه مقرر في نفسه مع قطع النظر عن ذي الحال وهو مع مقارنته له يشعر بتقرره في نفسه، ويجوز تقدمه واستمراره. ولذا قال السبكي في الأشباه: لو قال: لله تعالى عليّ أن أعتكف صائما لا بد له من صوم يكون لأجل ذلك النذر من غير سبب آخر فلا يجزئه الاعتكاف بصوم رمضان، ولو قال: وأنا صائم أجزأه، ولعل وجه الفرق أن الحال إذا كانت جملة دلت على المقارنة، وأما اتصافه بمضمونها فقد يكون وقد لا يكون نحو- جاء زيد وقد طلعت الشمس- والحال المفردة صفة معنى فإذا قال: لله تعالى عليّ أن أعتكف وأنا صائم نذر مقارنته للصوم ولم ينذر صوما فيصح في رمضان، ولو قال: صائما نذر صومه فلا يصح فيه
38
وهذه المسألة نقلها الأسنوي في التمهيد ولم يبين وجهها، ولم نر لأئمتنا فيها كلاما انتهى كلامه.
ولم يبين رحمه الله تعالى السر في مخالفة هذين الحالين على وجه يتضح به ما ذكره في المسألة، وبين العلامة الطيبي فائدتها غير أنه لم يتعرض لهذا الفرق فقال: فائدتها- والعلم عند الله تعالى- الإشعار بأن قربان الصلاة مع السكر مناف لحال المسلمين، ومن يناجي الحضرة الصمدانية دل عليه الخطاب بأنتم ولهذا قرنه بقوله سبحانه:
حَتَّى تَعْلَمُوا إلخ، والمجنبون لا يعدمون إحضار القلب، ومن ثمّ رخص لهم بالأعذار فتأمل جدا،- والجنب- من أصابته الجنابة يستوي فيه على اللغة الفصيحة المذكر والمؤنث. والواحد والتثنية والجمع لجريانه مجرى المصدر وإن لم يكنه- كما قاله بعض المحققين- ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول جنبان وأجناب وجنوب، واشتقاقه كما قال أبو البقاء: من المجانبة وهي المباعدة إِلَّا عابِرِي أي مجتازي سَبِيلٍ أي طريق، والمراد إلا مسافرين وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير لا تَقْرَبُوا باعتبار تقييده بالحال الثانية دون الأولى، والعامل فيه معنى النهي أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أنه في حالة السفر ينتهي حكم النهي لكن لا بطريق شمول النفي لجميع صورها بل بطريق نفي الشمول في الجملة من غير دلالة على انتفاء خصوصية البعض المنتفي ولا على بقاء خصوصية البعض الباقي ولا ثبوت نقيضه لا كليا ولا جزئيا فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة، نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها في المقامات الخطابية لا في إثبات الأحكام الشرعية، فإن ملاك الأمر في ذلك إنما هو الدليل، وقد ورد عقيبه على طريق البيان، قاله المولى شيخ الإسلام، وقيل: هو صفة لجنبا على أن إِلَّا بمعنى غير، واعترض بأن مثل هذا إنما يصح عند تعذر الاستثناء ولا تعذر هنا لعموم النكرة بالنفي، وأجيب بأن هذا الشرط في التوصيف ذكره ابن الحاجب، وقد خالفه فيه النحاة، ورجح بعضهم الوصفية بناء على أن الكلام على تقدير الاستثناء يفيد الحصر ولا حصر لورود المريض إشكالا عليه بخلافه على تقدير الوصفية، وادعى البعض إفادة الكلام له مطلقا وأن المريض يرد إشكالا إلا أن يؤول- كما ستعرفه- ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالاجتياز بها وجوز للجنب عبور المسجد،- وبه قال الشافعي رحمه الله تعالى- والمشهور عندنا منع الجنب المسجد مطلقا، ورخص علي كرم الله تعالى وجهه كما في خبر الترمذي عن أبي سعيد بناء على ما فسره ضرار بن صرد حين سأله عن معناه علي بن المنذر، وكونه كرم الله تعالى وجهه رخص ثم منع لم يثبت عندي، وإن نقله البعض، ونقل الجصاص في الأحكام أنه لا يجوز الدخول إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه، وعن الليث أن الجنب لا يمرّ فيه إلا أن يكون بابه في المسجد، فقد روي أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا فيه فرخص لهم في ذلك حَتَّى تَغْتَسِلُوا غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة، ولعل تقديم الاستثناء عليه- كما قال شيخ الإسلام- للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهي في هذه السورة ليس على الإطلاق كما في صورة السكر تشويقا إلى البيان وروما لزيادة تقربه في الأذهان، وقيل: لما لم يكن لقوله سبحانه: حَتَّى تَغْتَسِلُوا مدخل في المقصود إذ المقصود إنما هو صحة الصلاة جنبا أخره وقدم الاستثناء عليه، وكان الظاهر عدم ذكره لذلك إلا أنه ذكره تنبيها على أن الجنابة إنما ترتفع بالاغتسال، وفي الآية الكريمة رمز إلى أنه ينبغي للمصلي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه، وأن يزكي نفسه عما يدنسها لأنه إذا وجب تطهير البدن فتطهير القلب أولى أو لأنه إذا صين موضع الصلاة عمن به حدث فلأن يصان القلب الذي هو عرض الرحمن عن خاطر غير طاهر ظاهر الأولوية وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تفصيل لما أجمل في الاستثناء وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار، والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص
39
للإشعار بأنه العذر الغالب المبني على الضرورة الذي (١) يدور عليها أمر الرخصة، ولهذا قيل: المراد بغير عابِرِي سَبِيلٍ غير معذورين بعذر شرعي إما بطريق الكناية أو بإيماء النص ودلالته.
وبهذا يندفع الإيراد السابق على الحصر- وإنما لم يقل: إلا عابري سبيل أو مرضى فاقدي الماء حسا أو حكما- لما أن ما في النظم الكريم أبلغ وأوكد منه لما فيه من الإجمال والتفصيل، ومعرفة تفاضل العقول والأفهام، والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا سواء كان بتعذر الوصول إليه أو بتعذر استعماله، وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال: المريض الذي قد أرخص له في التيمم الكسير والجريح فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها، وأخرج البيهقي في المعرفة عن ابن عباس يرفعه «إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله تعالى أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فليتيمم» والذي تقرر في الفروع: أن المريض الذي يخاف إذا استعمل الماء أن يشتد مرضه يتيمم، ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك- كالمبطون- أو بالاستعمال- كمن به حصبة أو جدري- ولم يشترط أصحابنا خوف التلف لظاهر النص وهو بإطلاقه يبيح التيمم لكل مريض إلا أن في بعض الآيات ما أخرج من لا يشتد مرضه، وتفصيل ذلك في كتب الفقه. أَوْ عَلى سَفَرٍ عطف على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر، ولعل اختيار هذا على نحو مسافرين لأنه أوضح في المقصود منه، وفي الهداية: ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر ميل أو أكثر يتيمم، والظاهر أن حكم من هو خارج المصر غير مسافر كما يقتضيه العطف معلوم بالقياس لا بالنص وإيراد المسافر صريحا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته. فإن الاستثناء- كما أشار إليه شيخ الإسلام- بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلا عن الدلالة على كيفيته، وقيل: ذكر السفر هنا لإلحاق المرض به والتسوية بينه وبينه بإلحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال، وهذه الشرطية ظاهرة على رأي من حمل الصلاة على مواضعها، وفسر العبور بالاجتياز بها إذ ليس فيها حينئذ ما يتوهم منه شائبة التكرار بل هي عنده بيان حكم آخر لم يذكر قبل، وأيد بأن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله سبحانه: حَتَّى تَغْتَسِلُوا ويبتدئون بقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ إلخ بل التعبير بالقرب يومىء إلى حمل الصلاة على ذلك لأن حقيقة القرب والبعد في المكان وكذا التعبير ب عابِرِي سَبِيلٍ هناك، وب عَلى سَفَرٍ هنا فيه إيماء إلى الفرق بين ما هنا وما هناك إلا أن الكثير على خلافه. وإنما قدم المرض على السفر للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره، وقيل: لأنه سبب النزول،
فقد أخرج ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال: «نال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الآية كلها»
وهذا خلاف ما عليه الجمهور حيث
رووا أن نزولها في غزوة المريسيع «حين عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فسقطت عن عائشة رضي الله تعالى عنها قلادة لأسماء فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبعث رجلين في طلبها فنزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر على عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين على غير ماء فنزلت فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول: ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر- وفي رواية- يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا»
وهذا يدل على أن سبب النزول كان فقد الماء في السفر وهو ظاهر أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ هو المكان المنخفض، وجاء الغيط بفتح الغين وسكون الياء، وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى
(١) قوله «الذي» كذا بخطه، ولعله «التي» اهـ.
40
عنه- وهو في رأي- مصدر يغوط، وكان القياس غوطا فقلبت الواو ياء وسكنت وانفتح ما قبلها لخفتها، ولعل الأولى ما قيل: إنه تخفيف غيط كهين وهين، والغيط الغائط، والمجيء منه كناية عن الحدث لأن العادة أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.
وفي ذكر أَحَدٌ فيه دون غيره إيماء إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه، وقيل: إنما ذكر وأسند المجيء إليه دون المخاطبين تفاديا عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحى منه أو يستهجن التصريح به والفعل عطف على كُنْتُمْ، والجار الأول متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله، والثاني متعلق بالفعل أي وإن جاء أَحَدٌ كائن مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يريد سبحانه أو جامعتم النساء إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحى منه، وإلى ذلك ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فيكون إشارة إلى الحدث الأكبر كما أن الأول إشارة إلى الحدث الأصغر.
وعن ابن مسعود والنخعي والشعبي أن المراد بالملامسة ما دون الجماع أي ماسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن اللمس ينقض الوضوء، وبه قال الزهري والأوزاعي، وقال مالك والليث بن سعد وأحمد في إحدى الروايات عنه: إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا، وذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة، قيل: ما لم يحدث الانتشار، واختلف قول الشافعي رضي الله تعالى عنه في لمس المحارم كالأم والبنت والأخت، وفي لمس الأجنبية الصغيرة وأصح القولين: إنه لا ينقض كلمس نحو السن والظفر والشعر وينتقض عنده وضوء الملموسة كاللامس في الأظهر لاشتراكهما في مظنة اللذة كالمشتركين في الجماع، وإنما لم ينتقض وضوء الملموس فرجه على مذهبه لأنه لم يوجد منه مس لمظنة لذة أصلا بخلافه هنا، ودليل القول بعدم نقض وضوء الملموس حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها وضعت يدها على قدميه صلّى الله عليه وسلّم وهو ساجد، ووجه استدلاله بما في الآية على ما استدل عليه أن الحمل على الحقيقة هو الراجح لا سيما في قراءة حمزة والكسائي- أو لمستم- إذ لم يشتهر اللمس في الجماع كالملامسة، ورجح بعضهم الحمل على الجماع في القراءتين ترجيحا للمجاز المشهور وعملا بهما إذ لا منافاة وهو الأوفق بمذهبنا، وقال بعض المحققين: إن المتجه أن الملامسة حقيقة في تماس البدنين بشيء من أجزائهما من غير تقييد باليد، وعلى هذا فالجماع من أفراد مسمى الحقيقة فيتناوله اللفظ حقيقة، وإنما يكون مجازا لو اقتصر على إرادته باللفظ، وادعى الجلال المحلي أن الملامسة حقيقة في الجس باليد مجاز في الوطء، وأن الشافعي رحمه الله تعالى حملها على المعنيين جمعا بين الحقيقة والمجاز وظاهر عبارة الأم أن الشافعي لم يحمل الملامسة على الوطء بل على ما عداه من أنواع التقاء البشرتين، وأنه إنما ذكر الجس باليد تمثيلا للملامسة بنوع من أنواعها لا تفسيرا لها بذكر كمال معناها الحقيقي كما بينه الكمال ابن أبي شريف فليفهم، ثم إن نظم هذين الأمرين في سلك سببي سقوط الطهارة والمصير إلى التيمم مع كونهما سببي وجوبهما ليس باعتبار أنفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله سبحانه: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً بل هو السبب في الحقيقة وإنما ذكرا تمهيدا له وتنبيها على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة بقسميها كأنه قيل:
أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعماله من الحدث الأصغر أو الأكبر.
قيل: وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر أيضا في صورة المرض والسفر لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره لأن الجنابة معتبرة فيهما قطعا فيعلم من حكمها حكم الحدث الأصغر بدلالة النص لأن تقدير النظم- لا
41
تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا حال كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك، أو كنتم مرضى- إلخ، وقيل: إن هذا القيد راجع للكل، وقيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجيء من الغائط والملامسة معتبر فيه أيضا، واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده، وفي الكشف عن بعضهم أن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا جنبا ولا جائيا أحد منكم من الغائط، أو لامسا يعني ولا محدثين، ثم قيل: وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا، وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف عليه من غير نكتة، ثم قال بعد أن نقل ما اعترضه: ولعل الأوجه في تقرير الآية- والله تعالى أعلم- أن يجعل عدم الوجدان عبارة عن عدم القدرة على استعمال الماء لفقد الماء، أو المانع ليصح أن يكون قيدا للكل، أو يحمل على ظاهره ويجعل قيدا للأخيرين لأن عموم الإعواز في حق المسافر غالبا، والمنع من القدرة على استعمال الماء القائم مقامه في حق المريض مغن عن التقييد لفظا، وأن يبقى قوله سبحانه: مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ على إطلاقه من غير تقييد بكونهم محدثين أو مجنبين لأن المقصود بيان سبب العدول عن الطهارة بالماء إلى التيمم، أما المشترك بين الطهارتين فلا يحتاج إلى ذكره قصدا وأن يجعل ذكر المحدثين من غير القبيلين بيانا لسبب العدول وهو فقد القدرة من غير سفر ولا مرض لا لأن الحدث سبب وإن أفاد ذلك ضمنا ولم يقل أو لم تجدوا دون ذكر السببين تنبيها على أن عدم الوجدان مرخص بعد انعقاد سبب الطهارة، وأفيد ضمنا أنهما معتبران أيضا في المريض والمسافر إذ لا فرق بين المرض والسفر وبين سائر الأعذار في ذلك انتهى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر أظهر وما ذكره على تقدير الحمل عليه ليس بالبعيد عما قدمناه، نعم الآية من معضلات القرآن، ولعلها تحتاج بعد إلى نظر دقيق، والفاء في فَلَمْ عاطفة، وأما الفاء في قوله سبحانه: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فواقعة في جواب الشرط، والظاهر أن الضمير راجع إلى جميع ما اشتمل عليه، وفيه تغليب الخطاب على الغيبة، ومثله في ذلك تَجِدُوا فلا حاجة إلى تقدير فليتيمم جزاء لقوله سبحانه: جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ والتيمم لغة القصد قال الأعشى:
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن
والصعيد وجه الأرض كما روي عن الخليل وثعلب وقال الزجاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض وسمي بذلك لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض، أو لصعوده وارتفاعه فوق الأرض، والطيب الطاهر، وعن سفيان الحلال، وقيل: المنبت دون السبخة كما في قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: ٥٨] والحمل على الأول هو الأنسب بمقام الطهارة، والمعنى فتعمدوا واقصدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا، وهذا دليل واضح لجواز التيمم بالكحل والآجر والمرداسنج والياقوت والفيروزج والمرجان والزمرد ونحو ذلك. وإن لم يكن عليه غبار وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه. ومحمد في إحدى الروايتين عنه، وفي رواية أخرى عنه- وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهم- أنه لا يجوز التيمم إلا أن يعلق باليد شيء من التراب لتقييد المسح- بمنه- في المائدة، وكلمة «من» للتبعيض وهو يقتضي التراب، والحنفية يحملونها على الابتداء أو الخروج مخرج الأغلب، وقيل: الضمير للحدث المفهوم من السياق، و «من» للتعليل، وأغرب الإمام مالك فأجاز التيمم بالثلج، وقد شنع الشيعة عليه بذلك، وقد اعتذرنا عنه في كتابنا- الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- ونصب صَعِيداً على أنه مفعول به، وقيل: إنه منصوب بنزع الخافض أي فتيمموا بصعيد فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أي وجوهكم وأيديكم على أن الباء صلة، والمراد استيعاب هذين العضوين بالمسح حتى إذا ترك شيئا منهما لم يجز كما في الوضوء وهو ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن عن الإمام رضي الله تعالى عنه أن الأكثر يقوم مقام الكل لأن الاستيعاب في الممسوحات ليس بشرط كما في مسح الخف والرأس، ووجه
42
الظاهر أن التيمم قائم مقام الوضوء، ولهذا قالوا: يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتم المسح، والاستيعاب في الوضوء شرط فكذا فيما قام مقامه، والأيدي جمع يد، وهي مشتركة بين معان من أطراف الأصابع إلى الرسغ وإلى المرفق وإلى الإبط، وهل هي حقيقة في واحد منها مجاز في غيره، أو حقيقة فيها جميعا؟ رجح بعضهم الثاني، ولذا ذهب إلى كل منها بعض السلف، فأخرج ابن جرير عن الزهري أن التيمم إلى الآباط، وأخرج عن مكحول أنه قال: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع، وأخرج الحاكم عن ابن عمر في كيفية تيممهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم مسحوا من المرافق إلى الأكف على منابت الشعر من ظاهر وباطن،
ومن حديث أبي داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه
- وهذا مذهبنا- ومذهب الشافعي والجمهور- ويشهد لهم القياس- على الوضوء الذي هو أصله وإن كان الحدث والجنابة فيه كيفية سواء، وكذا جوازا على الصحيح المروي عن المعظم.
ومن الناس من قال: لا يتيمم الجنب والحائض والنفساء- وهو المروي عن عمر وابنه وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم- قيل: ومنشأ الخلاف فيما بينهم حمل الملامسة فيما سبق على الوقاع أو المس باليد، فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الأخير، وقالوا: القياس أن لا يكون التيمم طهورا وإنما أباحه الله تعالى للمحدث فلا يباح للجنب لأنه ليس معقول المعنى حتى يصح القياس، وليست الجنابة في معنى الحدث لتلحق به بل هي فوقه.
وأنت تعلم أن الآية كالصريح في جواز تيمم الجنب وإن لم تحمل الملامسة على الوقاع- كما يشير إليه تفسيرها السابق- على أن الأحاديث ناطقة بذلك،
فقد أخرج البخاري عن عمران بن حصين «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء قال:
عليك بالصعيد فإنه يكفيك»

وروي «أن قوما جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إنا قوم نسكن هذه الرمال ولم نجد الماء شهرا أو شهرين وفينا الجنب والحائض والنفساء فقال صلّى الله عليه وسلّم: عليكم بأرضكم»
إلى غير ذلك، وهل يرفع التيمم الحدث أم لا؟ خلاف، ولا دلالة في الآية على أحد الأمرين عند من أمعن النظر إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تعليل لما يفهمه الكلام من الترخيص والتيسير وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا، وجوز أن يكون كناية عن ذلك فإنه من روادف العفو وتوابع الغفران، وأدمج فيه أن الأصل الطهارة الكاملة وأن غيرها من الرخص من العفو والغفران، وقيل: العفو هنا بمعنى التيسير- كما في التيسير- واستدل على وروده بهذا المعنى
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عفوت لكم صدقة الخيل والرقيق»
وذكر المغفرة للدلالة على أنه غفر ذنب المصلين سكارى، وما صدر عنهم في القراءة، وأنت تعلم أن حمل العفو على التيسير في الحديث غير متعين وكون ذكر المغفرة لما ذكر بعيد.
43
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ استئناف لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم إثر ذكر أنواع التكاليف والأحكام الشرعية، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين وفيه إيذان بكمال شهرة شناعة حالهم، وقيل: لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم، وخطاب سيد القوم في مقام خطابهم والرؤية بصرية، وتعديها بإلى حملا لها على النظر- أي ألم تنظر إليهم- وجعلها علمية وتعديها بإلى لتضمينها معنى الانتهاء- أي ألم ينته علمك إليهم- منحط في مقام التعجيب وتشهير شنائعهم، ونظمها في سلك الأمور المشاهدة، والمراد من الموصول يهود المدينة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لويا لسانهما وعاباه، وعنه أنها نزلت في حبرين كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ ورهطه يثبطانهم عن الإسلام.
والمراد من الكتاب التوراة، وقيل: الجنس وتدخل فيه دخولا أوليا وفيه تطويل للمسافة، وقيل: القرآن لأن اليهود علموا أنه كتاب حق أتى به نبي صادق لا شبهة في نبوته، وفيه أنه خلاف الظاهر، و «بالذي أوتوه» ما بين لهم فيه من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنه بالنصيب المشعر بأنه حق من حقوقهم التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بركاكة آرائهم في الإهمال، والتنوين للتفخيم، وهو مؤيد للتشنيع، ومثله ما لو حمل على التكثير، ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع صفة لنصيبا مبينة لفخامته الإضافية إثر فخامته الذاتية، وقيل: متعلقة- بأوتوا- وقوله تعالى: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام مبني على سؤال نشأ منه كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل: يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه المنزل منزلة الحصول، أو حصوله لهم بالفعل بإنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقال الزجاج: المعنى يأخذون الرشا ويحرفون التوراة، فالضلالة هو هذا التحريف أي اشتروها بمال الرشا، وذهب أبو البقاء إلى أن جملة يَشْتَرُونَ حال مقدرة من ضمير أُوتُوا أو حال من الَّذِينَ، وتعقب الوجه الأول بأنه لا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم المذكور في الإيتاء مما لا يليق بالمقام، والثاني بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور، وما عطف عليه من قوله تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ فالأوجه
44
الاستئناف والمعطوف شريك للمعطوف عليه فيما سبق له، والمعنى أنهم لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وكتم نعوته الناطقة بها التوراة أن تكونوا أنتم أيضا ضالين الطريق المستقيم الموصل إلى الحق، والتعبير بصيغة المضارع في الموضعين للإيذان بالاستمرار التجددي فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور وتكرر العمل بموجبه في قوة تجدد نفسه وتكرره، وفي ذلك أيضا من التشنيع ما لا يخفى، وقرىء أن يضلوا بالياء بفتح الضاد وكسرها وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم أيها المؤمنون بِأَعْدائِكُمْ الذين من جملتهم هؤلاء، وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون فاحذروهم، فالجملة معترضة للتأكيد وبيان التحذير وإلا فأعلمية الله تعالى معلومة، وقيل: المعنى أنه تعالى أعلم بحالهم ومآل أمرهم فلا تلتفتوا إليهم ولا تكونوا في فكر منهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يلي أمركم وينفعكم بما شاء وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً
يدفع عنكم مكرهم وشرهم فاكتفوا بولايته ونصرته ولا تبالوا بهم ولا تكونوا في ضيق مما يمكرون، وفي ذلك وعد للمؤمنين ووعيد لأعدائهم، والجملة معترضة أيضا، والباء مزيدة في فاعل كَفى تأكيدا للنسبة بما يفيد الاتصال وهو الباء الإلصاقية، وقال الزجاج: إنما دخلت هذه الباء لأن الكلام على معنى اكتفوا بالله، ووَلِيًّا ونَصِيراً منصوبان على التمييز، وقيل: على الحال، وتكرير الفعل في الجملتين مع إظهار الاسم الجليل لتأكيد كفايته عز وجل مع الإشعار بالعلية.
مِنَ الَّذِينَ هادُوا قيل: هو بيان- للذين أوتوا- المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين عنهم والاهتمام بحثهم على الثقة بالله تعالى والاكتفاء بولايته ونصرته، واعترضه أبو حيان بأن الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بالثلاث؟! وأجاب الحلبي بأن الخلاف إذا لم يكن عطف- والجمل هنا متعاطفة- وبه يصير الشيئان شيئا واحدا، وقيل: إنه بيان لأعدائكم، وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الاعتراض، وقيل: إنه صلة- لنصير- أي ينصركم مِنَ الَّذِينَ هادُوا وفيه تحجير لواسع نصرة الله تعالى مع أنه لا داعي لوضع الموصول موضع ضمير الأعداء وكون ما في حيز الصلة وصفا ملائما للنصر غير ظاهر، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله تعالى:
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ صفة له أي مِنَ الَّذِينَ هادُوا قوم يُحَرِّفُونَ ويتعين هذا في قراءة عبد الله ومِنَ الَّذِينَ وقد تقرر أن المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف، وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه، ومنه قوله:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسما موصولا، ويُحَرِّفُونَ صلته أي مِنَ الَّذِينَ هادُوا من يُحَرِّفُونَ والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ما في مصحف حفصة رضي الله تعالى عنها- من يحرفون- واعترض هذا أيضا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة، والْكَلِمَ اسم جنس واحده كلمة- كلبنة ولبن، ونبقة ونبق- وقيل: جمع- وليس بشيء على المختار- ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الاثنين مطلقا، وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا، وجمعيته باعتبار تعدده معنى، وقرىء بكسر الكاف وسكون اللام جمع- كلمة- تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف، وقرىء يُحَرِّفُونَ الكلام، والمراد به هاهنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكى عنهم من الكلمات الواقعة منهم في أثناء محاورتهم مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والأول هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما، وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم- ربعة
45
- في نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ووضعهم مكانه طوال، وكتحريفهم- الرجم- ووضع الحد موضعه، وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم، ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقا وغربا؟!.
وأجيب بأن ذلك كان قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد، وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود، وقيل: إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأويل، والمراد من مَواضِعِهِ على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره، وأصل التحريف إمالة الشيء إلى حرف أي طرف فإذا كان يُحَرِّفُونَ بمعنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا الْكَلِمَ ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه، والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة من قوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة: ٤١] أن الثاني أدل على ثبوت مقار الْكَلِمَ واشتهارها مما هنا، وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع وتقرر حرفوه عنه، واختار ذلك هنا لك لأن فيه ما يقتضي الإتيان بالأدل الأبلغ وَيَقُولُونَ عطف على يُحَرِّفُونَ وأكثر العلماء على أن المراد به القول اللساني بمحضر النبي صلّى الله عليه وسلّم، واختار البعض حمله على ما يعم ذلك وما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة ولا يقيد حينئذ بزمان أو مكان ولا يخصص بمادة دون مادة ويحتاج إلى ارتكاب عموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والمعنى عليه أنهم مع ذلك التحريف يقولون ويفهمون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صلّى الله عليه وسلّم أو بلسان الحال أو المقال عنادا وتحقيقا للمخالفة سَمِعْنا أي فهمنا وَعَصَيْنا أي لم نأتمر وبذلك فسره الراغب وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ عطف على سَمِعْنا داخل معه تحت القول لكن باعتبار أنه لساني، وفي أثناء مخاطبته صلّى الله عليه وسلّم- وهو كلام ذو وجهين- محتمل للشر والخير، ويسمى في البديع بالتوجيه كما قاله غير واحد، ومثلوا له بقوله:
خاط لي عمرو قباء... ليت عينيه سواء
واحتماله للشر بأن يحمل على معنى اسمع مدعوا عليك بلا سمعت، أو اسْمَعْ غَيْرَ مجاب إلى ما تدعو إليه، أو اسْمَعْ نابي السمع عما تسمعه لكراهيته عليك، أو اسْمَعْ كلاما غَيْرَ مُسْمَعٍ إياك لأن أذنيك تنبو عنه- فغير- إما حال لا غير، وإما مفعول به وصحت الحالية على الاحتمال الأول باعتبار أن الدعاء هو المقصود لهم وأنهم لما قدروا- لعنهم الله تعالى- إجابته صار كأنه واقع مقرر، واحتماله للخير بأن يحمل على معنى اسْمَعْ منا غَيْرَ مُسْمَعٍ مكروها من قولهم: أسمعه فلان إذا سبه، وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسيا منسيا وتعورف في ذلك، وقد كانوا لعنهم الله تعالى يخاطبون بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء مظهرين له صلّى الله عليه وسلّم المعنى الأخير وهم يضمرون سواه وَراعِنا عطف على ما قبله أي ويقولون أيضا في أثناء خطابهم له صلّى الله عليه وسلّم هذا وهو ذو وجهين كسابقه، فاحتماله للخير على معنى أمهلنا وانظر إلينا، أو انتظرنا نكلمك، واحتماله للشر يحمله على السب، ففي التيسير: إن راعنا بعينه مما يتسابون به وهو للوصف بالرعونة، وقيل: إنه يشبه كلمة سب عندهم عبرانية أو سريانية وهي راعينا، وقيل: بل كانوا يشبعون كسر العين ويعنون- لعنهم الله تعالى- أنه- وحاشاه صلّى الله عليه وسلّم- بمنزلة خدمهم ورعاة غنمهم، وقد كانوا يقولون ذلك مظهرين الاحترام والتوقير مضمرين ما يستحقون به جهنم وبئس المصير.
46
وهذا نوع من النفاق ولا ينافيه تصريحهم بالعصيان لما قيل: إن جميع الكفار يخاطبون النبي صلّى الله عليه وسلّم بالكفر ولا يخاطبونه بالسب والذم والدعاء عليه عليه الصلاة والسلام، واعترض بأنه حينئذ لا وجه لإيراد السماع والعصيان مع التحريف وإلقاء الكلام المحتمل احتيالا، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: المقصود على هذا عد صفاتهم الذميمة لا مجرد التحريف والاحتيال فكأنه قيل: يحرفون كتابهم ويجاهرون بإنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قالا وحالا، وعصيانهم بعد سماع ما بلغهم وتحققه لديهم ويحتالون في سبه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: إن قولهم سَمِعْنا وَعَصَيْنا [البقرة: ٩٣، النساء: ٤٦] لم يكن بمحضره عليه الصلاة والسلام بل كان فيما بينهم فلا ينافي نفاقهم في الجملتين بين يديه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: القول نظرا إلى الجملة الأولى حالي وإلى الجملتين الأخيرتين لساني، وقيل: إن الأولى أيضا ذات وجهين كالأخيرتين إذ يحتمل أن يكون مرادهم أطعنا أمرك وعصينا أمر قومنا، ويحتمل أن يكون مرادهم ما تقدم.
ومن الناس من جوز أن يراد بتحريف الكلم إمالتها عن مواضعها سواء كانت مواضع وضعها الله تعالى فيها أو جعلها المقام والعرف مواضع لذلك فيكون المعنى هم قوم عادتهم التحريف، ويكون قوله سبحانه: وَيَقُولُونَ إلخ تعدادا لبعض تحريفاتهم، والمراد أنهم يقولون لك: سَمِعْنا وعند قومهم عَصَيْنا ويقولون كذا وكذا فيظهرون لك شيئا ويبطنون خلافه لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ اللي يكون بمعنى الانحراف والالتفات والانعطاف عن جهة إلى أخرى، ويكون بمعنى ضم إحدى نحو طاقات الحبل على الأخرى.
والمراد به هنا إما صرف الكلام من جانب الخير إلى جانب الشر، وإما ضم أحد الأمرين إلى الآخر، وأصله لوى فقلبت الواو ياء وأدغمت، ونصبه على أنه مفعول له- ليقولون- باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين، وقيل: بالأقوال جميعها، أو على أنه حال أي- لاوين- ومثله في ذلك قوله تعالى: وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية، وكل من الظرفين متعلق بما عنده وَلَوْ أَنَّهُمْ عند ما سمعوا شيئا من أوامر الله تعالى ونواهيه قالُوا بلسان المقال كما هو الظاهر أو به وبلسان الحال كما قيل: سَمِعْنا سماع قبول مكان قولهم: سَمِعْنا المراد به سماع الرد وَأَطَعْنا مكان قولهم: عَصَيْنا وَاسْمَعْ بدل قولهم: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ. وَانْظُرْنا بدل قولهم: راعِنا لَكانَ قولهم هذا خَيْراً لَهُمْ وأنفع من قولهم ذلك وَأَقْوَمَ أي أعدل في نفسه، وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفعل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم أو بطريق التهكم، وإما بمعنى اسم الفاعل فلا حاجة إلى تقدير من، وفي تقديم حال القول بالنسبة إليهم على حاله في نفسه إيماء إلى أن همم اليهود لعنهم الله تعالى طماحة إلى ما ينفعهم، والمنسبك من أن وما بعدها فاعل ثبت المقدر لدلالة أن عليه أي لو ثبت قولهم: سَمِعْنا إلخ وهو مذهب المبرد، وقيل: مبتدأ لا خبر له، وقيل: خبره مقدر وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي ولكن لم يقولوا الأنفع والأقوم، واستمروا على ذلك فخذلهم الله تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ بعد إِلَّا قَلِيلًا اختار العلامة الثاني كونه استثناء من ضمير المفعول في لَعَنَهُمُ أي ولكن لعنهم الله تعالى إلا فريقا قليلا منهم فإنه سبحانه لم يلعنهم فلهذا آمن من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، وقيل: هو مستثنى من فاعل يُؤْمِنُونَ ويتجه عليه أن الوجه حينئذ الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب مع أن القراء قد اتفقوا على النصب، ويبعد منهم الاتفاق على غير المختار مع أنه يقتضي وقوع إيمان من لعنه الله تعالى وخذله إلا أن يحمل لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ على لعن أكثرهم وهو كما ترى، وقيل: إنه صفة مصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا لأنهم وحدوا وكفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وشريعته، والإيمان بمعنى التصديق لا الإيمان الشرعي، وجوز على هذا الوجه أن يراد بالقلة العدم كما في قوله:
47
قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك
والمراد أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا معدوما إما على حد لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان:
٥٦] أي إن كان المعدوم إيمانا فهم يحدثون شيئا من الإيمان فهو من التعليق بالمحال، أو أن ما أحدثوه منه لما لم يشتمل على ما لا بد منه كان معدوما انعدام الكل بجزئه، والوجه هو الأول يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ نزلت كما قال السدي: في زيد بن التابوت ومالك بن الصيف.
وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله تعالى فيهم الآية،
ولا يخفى أن العبرة لعموم اللفظ وهو شامل لمن حكيت أحوالهم وأقوالهم ولغيرهم، وجعل الخطاب للأولين خاصة- بطريق الالتفات، وأن وصفهم بإيتاء الكتاب تارة وبإيتاء نصيب منه أخرى لتوفية كل من المقامين حظه- بعيد جدا، ولما كان تفصيل هاتيك الأحوال والأقوال من مظان إقلاع من توجه الخطاب إليهم عما هم عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهدى مشفوعا بالتحذير والتخويف والوعيد الشديد على المخالفة فقال سبحانه: آمِنُوا إيمانا شرعيا بِما نَزَّلْنا أي بالذي أنزلناه من عندنا على رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة الغير المبدلة، وقد تقدم كيفية تصديق القرآن لذلك وعبر عن التوراة بما ذكر للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الامتثال لما فيه من الوعيد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غني عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين، وفي تنكير وجوه تهويل للخطب مع لطف، وحسن استدعاء، وأصل الطمس استئصال أثر الشيء، والمراد آمنوا من قبل أن نمحو ما خطه الباري بقلم قدرته في صحائف الوجوه من نون الحاجب، وصاد العين، وألف الأنف، وميم الفم فنجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقال الفراء والبلخي وحسين المغربي: إن المعنى آمنوا من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي فنجعلها على هيئة أدبارها وأقفائها مطموسة مثلها فإن ما خلف الوجه لا تصوير فيه وهو منبت الشعر أيضا والعطف بالفاء إما على إرادة نريد الطمس، أو على جعل العطف من عطف المفصل على المجمل، وعن عطية العوفي: أن المراد ننكسها بعد الطمس بجعل العيون التي فيها وما معها في القفا، فالعطف بالفاء ظاهر، وقيل: المراد بالوجوه الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب وجاهتهم وإقبالهم ونكسوهم صغارا وإدبارا، أو نردهم من حيث جاؤوا منه، وهي أذرعات الشام، فالمراد بذلك إجلاء بني النضير، وإلى هذا المراد ذهب ابن زيد، وضعف بأنه لا يساعده مقام تشديد الوعيد، وتعميم التهديد للجميع.
وقد اختلف في أن الوعيد هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة، فقال جماعة: كان بوقوعه في الدنيا وأيد بما أخرجه ابن جرير عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب فقال: أسلم كعب في زمان عمر رضي الله تعالى عنه أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال: يا كعب أسلم قال: ألستم تقرءون في كتابكم مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: ٥] ؟ وأنا قد حملت التوراة فتركه، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلا من أهلها يقرأ هذه الآية فقال: رب آمنت رب
48
أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها، ثم رجع فأتى أهله باليمن ثم جاء بهم مسلمين، وروي أن عبد الله بن سلام لما قدم من الشام وقد سمع هذه الآية أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي، ثم اختلفوا فقال المبرد: إنه منتظر بعد ولا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل قيام الساعة، وأيد بتنكير وجوه، والتعبير بضمير الغيبة فيما يأتي، واعترضه شيخ الإسلام بأن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة، وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجه بعد ما فات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العاملين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة العزيز الحكيم، والجواب بأن عادة الله سبحانه قد جرت مع اليهود بأن ينتقم من أخلافهم بما صنعت أسلافهم وإن لم يعلم وجه الحكمة فيه على تقدير تسليمه لا يزيل البعد في هذه الصورة، وقال البرسي: إن هذا الوعيد كان متوجها إليهم لو لم يؤمن أحد منهم، وقد آمن جماعة من أحبارهم فلم يقع ورفع عن الباقين، واعترض أيضا بأن إسلام البعض إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم، وقيل: في الجواب أنه إذا جاز أن ينزل سبحانه البلاء على قوم بسبب عصيان بعض منهم كما يشير إليه قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥] فلأن يجوز أن يرفع ذلك عن الكل بسبب طاعة البعض من باب أولى لأنه سبحانه الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه.
وقد ورد في الأخبار ما يدل على وقوع ذلك، ودعوى الفرق مما لا تكاد تسلم، وقيل: كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الأمر الثاني فإن اليهود ملعونون بكل لسان وفي كل زمان، فاللعن بمعناه الظاهر والمراد من التشبيه بلعن أصحاب السبت الإغراق في وصفه، واعترض بأن اللعن الواقع عليهم ما تداولته الألسنة وهو بمعزل من صلاحيته أن يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة عن مخالفة للعنيد، فاللعن هنا الخزي بالمسخ وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وابن جرير عن الحسن، ويؤيده ظاهر التشبيه، وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على إرادة ذلك ضرورة أنه تعبير مغاير لما عطف عليه، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة: ٦٠] لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية، وذهب البلخي والجبائي إلى أن الوعيد إنما كان بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع.
وأجيب عما روي عن الحبرين الظاهر في أن ذلك في الدنيا بأنه مبني على الاحتياط وغلبة الخوف اللائق بشأنها،
وقد ورد «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر الدخول والخروج في الحجرات ولا يكاد يقر له قرار إذا اشتد الهواء، ويقول: أخشى أن تقوم الساعة»
مع علمه صلّى الله عليه وسلّم بأن قبل قيامها القائم وعيسى عليه السلام. والدجال عليه اللعنة والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما قصه صلّى الله عليه وسلّم علينا، وجوز بعضهم على تقدير كون الوعيد بالوقوع في الآخرة أن يراد بالطمس والرد على الأدبار الختم على العين والفم والطبع عليهما، فقد قال الله تعالى: لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: ٦٦] والْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس: ٦٥] وجوز نحو هذا بعض من ادعى أن ذلك في الدنيا فقال: إن المعنى آمنوا من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار، ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق
49
بالطبع، ونردها عن الهداية إلى الضلالة.
وروي ذلك عن الضحاك، وأخرجه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، والحق أن الآية ليست بنص في كون ذلك في الدنيا أو في الآخرة بل المتبادر منها بحسب المقام كونه في الدنيا لأنه أدخل في الزجر، وعليه مبنى ما روي عن الحبرين لكن لما كان في وقوع ذلك خفاء واحتمال أنه وقع ولم يبلغنا- على ما في التيسير- مما لا يلتفت إليه، ورجح احتمال كونه في الآخرة، وأيّا ما كان فلعل السر في تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات- كما قال شيخ الإسلام- مراعاة المشاكلة بينها وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريف والتغيير والفاعل والراضي سواء، والضمير المنصوب في- نلعنهم- لأصحاب الوجوه، أو- للذين- على طريق الالتفات لأنه بعد تمام النداء يقتضي الظاهر الخطاب، وأما قبله فالظاهر الغيبة، ويجوز الخطاب لكنه غير فصيح كقوله:
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
أو للوجوه إن أريد به الوجهاء وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ بإيقاع شيء ما من الأشياء، فالمراد بالأمر معناه المعروف، ويحتمل أن يراد به واحد الأمور ولعله الأظهر أي كان وعيده أو ما حكم به وقضاه مَفْعُولًا نافذا واقعا في الحال أو كائنا في المستقبل لا محالة، ويدخل في ذلك ما أوعدتم به دخولا أوليا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير بطريق الالتفات لما مر غير مرة.
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ كلام مستأنف مقرر لما قبله من الوعيد ومؤكد وجوب امتثال الأمر بالإيمان حيث إنه لا مغفرة بدونه كما زعم اليهود، وأشار إليه قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا [الأعراف: ١٦٩] وفيه أيضا إزالة خوفهم من سوء الكبائر السابقة إذا آمنوا.
والشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله تعالى شأنه شريكا إما في الألوهية أو في الربوبية، وبمعنى الكفر مطلقا- وهو المراد هنا- كما أشار إليه ابن عباس فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة وقضى بخلود أصناف الكفرة كيف كانوا، ونزول الآية في حق اليهود على ما روي عن مقاتل لا يقتضي الاختصاص بكفرهم بل يكفي الاندراج فيما يقتضيه عموم اللفظ، والمشهور أنها نزلت مطلقة،
فقد أخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال: «لما نزل قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣] الآية قام النبي صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال: والشرك بالله؟ فسكت، ثم قام إليه فقال: يا رسول الله والشرك بالله تعالى؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» إلخ
والمعنى أن الله تعالى لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان لأنه سبحانه بت الحكم على خلود عذابه، وحكمه لا يتغير، ولأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر ولذا لم يبعث نبي إلا لسده وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه، وقيل: لأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره، ولا يخفى أن هذا مبني على أن فعل الله تعالى تابع لاستعداد المحل، وإليه ذهب أكثر الصوفية وجميع الفلاسفة، فإن يُشْرَكَ في موضع النصب على المفعولية وقيل: المفعول محذوف والمعنى لا يغفر من أجل أن يشرك به شيئا من الذنوب فيفيد عدم غفران الشرك من باب أولى، والذي عليه المحققون هو الأول.
وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ عطف على خبر إن لا مستأنف، وذلك إشارة إلى الشرك، وفيه إيذان ببعد درجته في القبح أي يغفر ما دونه من المعاصي وإن عظمت وكانت كرمل عالج، ولم يتب عنها تفضلا من لدنه وإحسانا لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له ممن اتصف بما ذكر فقط، فالجار متعلق- بيغفر- المثبت، والآية ظاهرة في التفرقة بين الشرك وما
50
دونه بأن الله تعالى لا يغفر الأول البتة ويغفر الثاني لمن يشاء، والجماعة يقولون بذلك عند عدم التوبة فحملوا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعا، ومغفرتهما عندها بلا خلاف من أحد، وذهب المعتزلة إلى أنه لا فرق بين الشرك وما دونه من الكبائر في أنهما يغفران بالتوبة ولا يغفران بدونها فحملوا الآية كما قيل: على معنى- إن الله لا يغفر الإشراك لمن يشاء أن لا يغفر له وهو غير التائب ويغفر ما دونه لمن يشاء أن يغفر له وهو التائب- وجعلوا لِمَنْ يَشاءُ متعلقا بالفعلين وقيدوا المنفي بما قيد به المثبت على قاعدة التنازع لكن من يشاء في الأول المصرون بالاتفاق وفي الثاني التائبون قضاء لحق التقابل وليس هذا من استعمال اللفظ الواحد في معنيين متضادين لأن المذكور إنما تعلق بالثاني وقدر في الأول مثله والمعنى واحد لكن يقدر مفعول المشيئة في الأول عدم الغفران وفي الثاني الغفران بقرينة سبق الذكر، ولا يخفى أن كون هذا من التنازع مع اختلاف متعلق المشيئة مما لا يكاد يتفوه به فاضل ولا يرتضيه كامل على أنه لا جهة لتخصيص كل من القيدين بما خصص لأن الشرك أيضا يغفر للتائب وما دونه لا يغفر للمصر عندهم من غير فرق بينهما، وسوق الآية ينادي بالتفرقة وتقييد مغفرة ما دُونَ ذلِكَ بالتوبة مما لا دليل عليه إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من آيات الوعد.
وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار أنها راجحة على آيات الوعيد بالاعتبار من ثمانية أوجه سردها هناك وزعم أنها لو لم تقيد، وقيل: بجواز المغفرة لمن لم يتب لزم إغراء الله تعالى للعبد بالمعصية لسهولتها عليه حينئذ والإغراء بذلك قبيح يستحيل على الله سبحانه ليس بشيء، أما أولا فلأنه مبني على القول بالحسن والقبح العقليين وقد أبطل في محله. وأما ثانيا فلأن لو سلم يلزم منه تقبيح العفو شاهدا وهو خلاف إجماع العقلاء، وأما ثالثا فلأنه منقوض بالتوبة فإنهم قالوا: بوجوب قبولها ولا يخفى أن ذلك مما يسهل على العاصي الإقدام على المعصية أيضا ثقة منه بالتوبة حسب وثوقه بالمغفرة بل أبلغ من حيث إن التوبة مقدورة له بخلاف المغفرة فكان يجب أن لا تقبل توبته لما فيه من الإغراء وهو خلاف الإجماع فلئن قالوا: هو غير واثق بالإمهال إلى التوبة قلنا: هو غير واثق بالمغفرة لإبهام الموصول، والقول: بأنه لو لم تشترط التوبة لزم المحاباة من الله تعالى في الغفران للبعض دون البعض والمحاباة غير جائزة عليه تعالى ساقط من القول لأن الله تعالى متفضل بالغفران وللمتفضل أن يتفضل على قوم دون قوم وإنسان دون إنسان وهو عادل في تعذيب من يعذبه، وليس يمنع العقل والشرع من الفضل والعدل كما لا يخفى، ومن المعتزلة من قال: إن المغفرة قد جاءت بمعنى تأخير العقوبة دون إسقاطها كما في قوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: ٦] فإنه لا يصح هنا حملها على إسقاط العقوبة لأن الآية في الكفار والعقوبة غير ساقطة عنهم إجماعا، وقوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ [الكهف: ٥٨] فإنه صريح في أن المغفرة بمعنى تأخير العقوبة فلتحمل فيما نحن فيه على ذلك بقرينة إن الله تعالى خاطب الكفار وحذرهم تعجيل العقوبة عن ترك الإيمان، ثم قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلخ فيكون المعنى إن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك بل يعجلها ويؤخر عقوبة ما دونه لمن يشاء فلا تنهض الآية دليلا على ما هو محل النزاع على أنه لو سلم أن المغفرة فيها بمعنى إسقاط العقوبة لا يحصل الغرض أيضا لأنه إما أن يراد إسقاط كل واحد واحد من أنواع العقوبة، أو يراد إسقاط جملة العقوبات، أو يراد إسقاط بعض أنواعها لا سبيل إلى الأول لعدم دلالة اللفظ عليه بقي الاحتمالان الآخران، وعلى الأول منهما لا يلزم من كونه لا يعاقب بكل أنواع العقوبات أن لا يعاقب ببعضها، وعلى الثاني لا يلزم من إسقاط بعض الأنواع إسقاط البعض الآخر.
وأجيب بأن حمل المغفرة على إسقاط العقوبة أولى من حملها على التأخير لثلاثة أوجه: الأول أنه المعنى
51
المتبادر من إطلاق اللفظ، الثاني أنه لو حمل لفظ المغفرة في الآية على التأخير لزم منه التخصيص في أن الله لا يغفر أن يشرك به لأن عقوبة الشرك مؤخرة في حق كثير من المشركين بل ربما كانوا في أرغد عيش وأطيبه بالنسبة إلى عيش بعض المؤمنين وأن لا يفرق في مثل هذه الصورة بين الشرك وما دونه بخلاف حملها على الإسقاط، الثالث أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين لم يزالوا مجمعين على حمل لفظ المغفرة في الآية على سقوط العقوبة وما وقع عليه الإجماع هو الصواب وضده لا يكون صوابا. وقولهم: لا يحصل الغرض أيضا لو حملت على ذلك لأنه إما أن يراد إلخ قلنا: بل المراد إسقاط كل واحد واحد وبيانه أن قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ سلب للغفران فإذا كان المفهوم من الغفران إسقاط العقوبة فسلب الغفران سلب السلب فيكون إثباتا، ومعناه إقامة العقوبة، وعند ذلك فإما أن يكون المفهوم إقامة كل أنواع العقوبات، أو بعضها لا سبيل إلى الأول لاستحالة الجمع بين العقوبات المتضادة ولأن ذلك غير مشترط في حق الكفار إجماعا فلم يبق إلا الثاني، ويلزم من ذلك أن يكون الغفران فيما دون الشرك بإسقاط كل عقوبة وإلا لما تحقق الفرق بين الشرك وما دونه، ومنهم من وقع في حيص بيص في هذه الآية حتى زعم أن وَيَغْفِرُ عطف على المنفي والنفي منسحب عليهما، والآية للتسوية بين الشرك وما دونه لا للتفرقة، ولا يخفى أنه من تحريف كلام الله تعالى ووضعه في غير مواضعه.
ومن الجماعة من قال في الرد على المعتزلة: إن التقييد بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ووجوب الصفح بعدها، وتعقبه صاحب الكشف بأنه لم يصدر عن ثبت لأن الوجوب بالحكمة يؤكد المشيئة عندهم، وأيضا قد أشار الزمخشري في هذا المقام إلى أن المشيئة بمعنى الاستحقاق وهي تقتضي الوجوب وتؤكده فلا يرد ما ذكر رأسا.
ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة يرد بها على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار، وذكر الجلال السيوطي أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين: إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون.
وأخرج ابن الضريس وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال: «كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» الآية، وقال: إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا ورجونا،
وقد استبشر الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الآية جدا حتى
قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عنه الترمذي وحسنه: أحب آية إليّ في القرآن إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لإدخال الروعة، وزيادة تقبيح الإشراك، وتفظيع حال من يتصف به أي ومن يشرك بالله تعالى الجامع لجميع صفات الكمال من الجمال، والجلال أي شرك كان فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً أي ارتكب ما يستحقر دونه الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا، وأصل الافتراء من الفري، وهو القطع ولكون قطع الشيء مفسدة له غالبا غلب على الإفساد، واستعمل في القرآن بمعنى الكذب، والشرك والظلم كما قاله الراغب، فهو ارتكاب ما لا يصلح أن يكون قولا أو فعلا، فيقع على اختلاق الكذب وارتكاب الإثم، وهو المراد هنا، وهل هو مشترك بين اختلاق الكذب وافتعال ما لا يصلح أم حقيقة في الأول مجاز مرسل، أو استعارة في الثاني؟ قولان: أظهرهما عند البعض الثاني، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الشرك أعم من القولي والفعلي لأن المراد معنى عام وهو ارتكاب ما لا يصلح، وفي مجمع البيان التفرقة بين فريت وأفريت في أصل المعنى بأنه يقال: فريت الأديم إذا قطعته على وجه الإصلاح، وأفريته إذا قطعته على وجه
52
الإفساد أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ
قال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأطفالهم فقالوا: يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا فقالوا: والذي يحلف به ما نحن فيه إلا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار فهذا الذي زكوا به أنفسهم
وأخرج ابن جرير عن الحسن «أنها نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] وقالوا:
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١١١] والمعنى انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم، أو من ادعائهم أن الله تعالى يكفر ذنوبهم الليلية والنهارية مع استحالة أن يغفر لكافر شيء من كفره أو معاصيه، وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها لغير غرض. صحيح كالتحدث بالنعمة ونحوه بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إبطال لتزكية أنفسهم وإثبات لتزكية الله تعالى وكون ذلك للإضراب عن ذمهم بتلك التزكية إلى ذمهم بالبخل والحسد بعيد لفظا ومعنى، والجملة عطف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل: هم لا يزكونها في الحقيقة بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستأهل من عباده المؤمنين «إذ هو العليم الخبير»
وأصل التزكية التطهير والتنزيه من القبيح قولا- كما هو ظاهر- أو فعلا كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: ٩]، وخُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: ١٠٣] وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على جملة حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها، وإيذانا بأنها غنية عن الذكر أي يعاقبون بتلك الفعلة الشنيعة ولا يظلمون في ذلك العقاب أدنى ظلم، وأصغره، وهو المراد بالفتيل، وهو الخيط الذي شق النواة وكثيرا ما يضرب به المثل في القلة والحقارة- كالنقير للنقرة التي في ظهرها- والقطمير- وهو قشرتها الرقيقة، وقيل: الفتيل ما خرج بين إصبعيك وكفيك من الوسخ، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي مالك والسدي رضي الله تعالى عنهم، وجوز أن تكون جملة وَلا يُظْلَمُونَ في موضع الحال والضمير راجع إلى من حملا له على المعنى أي والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم أصلا بل يعطونه يوم القيامة عملا مع ما زكاهم الله تعالى ومدحهم في الدنيا.
وقيل: هو استئناف، والضمير عائد على الموصولين من زكى نفسه، ومن زكاه الله تعالى أي لا ينقص هذا من ثوابه ولا ذاك من عقابه، والأول أمس بمقام الوعيد، وانتصاب فَتِيلًا على أنه مفعول ثان كقولك: ظلمته حقه، قال علي بن عيسى: ويحتمل أن يكون تمييزا كقولك: تصببت عرقا.
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنهم أزكياء عند الله تعالى المتضمن لزعمهم قبول الله تعالى وارتضاءه إياهم ولشناعة هذا لما فيه من نسبته تعالى إلى ما يستحل عليه بالكلية وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب الدال عليه الكلام وإلا فهم أيضا مفترون على أنفسهم بادعائهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه، وكَيْفَ في موضع نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهور بين سيبويه، والأخفش، والعامل يَفْتَرُونَ وبِهِ متعلق به.
وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الكذب، وقيل: هو متعلق به، والجملة في موضع النصب بعد نزع الخافض وفعل النظر معلق بذلك والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا للمبالغة في تقبيح حالهم وَكَفى بِهِ أي بافترائهم، وقيل: بهذا الكذب الخاص إِثْماً مُبِيناً لا يخفى كونه مأثما من بين آثامهم وهذا عبارة عن كونه عظيما منكرا، والجملة كما قال عصام الملة: في موضع الحال بتقدير قد أي- كيف يفترون الكذب والحال أن ذلك ينافي مضمونه لأنه إثم مبين- والآثم بالإثم المبين غير المتحاشى عنه مع ظهوره لا يكون ابن الله سبحانه وتعالى وحبيبه ولا يكون زكيا عند الله تعالى، وانتصاب إِثْماً على التمييز.
53
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ تعجيب من حال أخرى لهم ووصفهم بما في حيز الصلة تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب، وقد تقدم نظيره، والآية نزلت- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف- في جمع من يهود، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صلّى الله عليه وسلّم صاحب كتاب فلا يؤمن هذا أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل، ثم قال كعب: يا أهل مكة ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلّى الله عليه وسلّم ففعلوا ذلك فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم اللبن ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد صلّى الله عليه وسلّم فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى في ذلك الآية، والجبت- في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل معبود غير الله تعالى، وقيل: أصله الجبس، وهو كما قال الراغب: الرذيل الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء كما في قول عمرو بن يربوع: شرار- النات- أي الناس، وإلى ذلك ذهب قطرب- والطاغوت- يطلق على كل باطل من معبود أو غيره.
وأخرج الفريابي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «الجبت الساحر والطاغوت الشيطان».
وأخرج ابن جرير من طرق عن مجاهد مثله، ومن طريق أبي الليث عنه قال: الجبت كعب بن الأشرف، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان، وعن سعيد بن جبير الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن وأخرج ابن حميد عن عكرمة أن الجبت الشيطان بلغة الحبشة، والطاغوت الكاهن- وهي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وفي رواية أخرى الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف، وفي أخرى الجبت الأصنام، والطاغوت الذين يكونون بين يديها يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، ومعنى الإيمان بهما إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل، وإما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلا، والمتبادر المعنى الأول أي أنهم يصدقون بألوهية هذين الباطلين ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق ويسجدون لهما وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لأجلهم وفي حقهم فاللام ليست صلة القول وإلا لقيل أنتم بدل قوله سبحانه هؤُلاءِ أي الكفار من أهل مكة. أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أي أقوم دينا وأرشد طريقة، قيل: والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم، وإيراد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأشنع القبائح أُولئِكَ القائلون المبعدون في الضلالة الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن رحمته وطردهم، واسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره، والجملة مستأنفة لبيان حالهم وإظهار مآلهم وَمَنْ يَلْعَنِ أي يبعده اللَّهُ من رحمته فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أي ناصرا يمنع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا بشفاعة أو بغيرها، وفيه بيان لحرمانهم ثمرة استنصارهم بمشركي قريش وإيماء إلى وعد المؤمنين بأنهم المنصورون حيث كانوا بضد هؤلاء فهم الذين قربهم الله تعالى ومن يقربه الله تعالى فلن تجد له خاذلا.
54
وفي الإتيان بكلمة- لن- وتوجيه الخطاب إلى كل واحد يصلح له وتوحيد النصير منكرا والتعبير عن عدمه بعدم الوجدان المؤذن بسبق الطلب مسندا إلى المخاطب العام من الدلالة على حرمانهم الأبدي عن الظفر بما أملوا بالكلية ما لا يخفى، وإن اعتبرت المبالغة في- نصير- متوجهة للنفي كما قيل ذلك في قوله سبحانه: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ [فصلت: ٤٦] قوى أمر هذه الدلالة أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ شروع في تفصيل بعض آخر من قبائحهم، وأَمْ منقطعة فتقدر ببل، والهمزة أي بل آلهم، والمراد إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، وجحد لما تدعيه اليهود من أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان.
وعن الجبائي أن المراد بالملك هاهنا النبوة أي ليس لهم نصيب من النبوة حتى يلزم الناس اتباعهم وإطاعتهم والأول أظهر لقوله تعالى شأنه فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ أي أحدا أو الفقراء أو محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نَقِيراً أي شيئا قليلا، وأصله ما أشرنا إليه آنفا.
وأخرج ابن جرير من طريق أبي العالية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هذا النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم نقرها، وحاصل المعنى على ما قيل: إنهم لا نصيب لهم من الملك لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم حرمانه بسبب أنهم لو أوتوا نصيبا منه لما أعطوا الناس أقل قليل منه، ومن حق من أوتي الملك الإيتاء وهم ليسوا كذلك، فالفاء في فَإِذاً للسببية والجزائية لشرط محذوف هو أن حصل لهم نصيب لا لو كان لهم نصيب كما قدره الزمخشري لأن الفاء لا تقع في جواب لو سيما مع إذا والمضارع، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة والهمزة لإنكار المجموع من المعطوف والمعطوف عليه بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون هذا الذي وقع وهو أنهم قد أوتوا نصيبا من الملك حيث كانت لهم أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك ويعقبه منهم البخل بأقل قليل، وفائدة «إذا» زيادة الإنكار والتوبيخ حيث يجعلون ثبوت النصيب الذي هو سبب الإعطاء سببا للمنع، والفرق بين الوجهين أن الإنكار في الأول متوجه إلى الجملة الأولى وهو بمعنى إنكار الوقوع، وفي الثاني متوجه لمجموع الأمرين وهو بمعنى إنكار الواقع، «وإذا» في الوجهين ملغاة، ويجوز إعمالها لأنه قد شرط في إعمالها الصدارة فإذا نظر إلى كونها في صدر جملتها أعملت، وإن نظر إلى العطف وكونها تابعة لغيرها أهملت، ولذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم- فإذا لا يؤتوا الناس- بالنصب على الإعمال.
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ انتقال عن توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد الذي هو من أقبح الرذائل المهلكة من اتصف بها دنيا وأخرى، وذكره بعده من باب الترقي، وأَمْ منقطعة والهمزة المقدرة بعدها لإنكار الواقع، والمراد من الناس سيدهم بل سيد الخليقة على الإطلاق محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والضحاك وأبو مالك وعطية، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال أهل الكتاب:
زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس همه إلا النكاح فأي ملك أفضل من هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية»
.
وذهب قتادة والحسن وابن جريج إلى أن المراد بهم العرب، وعن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهم النبي وآله عليه وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام، وقيل: المراد بهم جميع الناس الذين بعث إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأسود والأحمر أي بل أيحسدونهم عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني النبوة وإباحة تسع نسوة أو بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم ونزول القرآن بلسانهم أو جمعهم كمالات تقصر عنها الأماني، أو تهيئة سبب رشادهم ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم، والحسد على هذا مجاز لأن اليهود لما نازعوه في نبوته صلّى الله عليه وسلّم التي هي إرشاد لجميع الناس فكأنما حسدوهم جمع فَقَدْ آتَيْنا تعليل
55
للإنكار والاستقباح وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر، والفاء كما قيل:
فصيحة أي أن يحسدوا الناس على ما أوتوا فقد أخطؤوا إذ ليس الإيتاء ببدع منا لأنا قد آتينا من قبل هذا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ أي جنسه والمراد به التوراة والإنجيل أو هما والزبور وَالْحِكْمَةَ أي النبوة، أو إتقان العلم والعمل، أو الأسرار المودعة في الكتاب أقوال وَآتَيْناهُمْ مع ذلك مُلْكاً عَظِيماً لا يقادر قدره، وجوز أن يكون المعنى أنهم لا ينتفعون بهذا الحسد فإنا قد آتينا هؤلاء ما آتينا مع كثرة الحساد الجبابرة من نمروذ وفرعون وغيرهما فلم ينتفع الحاسد ولم يتضرر المحسود، وأن يراد أن حسدهم هذا في غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل أسلاف هذا النبي المحسود صلّى الله عليه وسلّم وأبناء عمه ما آتيناهم فكيف يستبعدون نبوته عليه الصلاة والسلام ويحسدونه على إيتائها وتكرير الإيتاء لما يقتضيه مقام التفصيل مع الإشعار بما بين الملك وما قبله من المغايرة، والمراد من الإيتاء إما الإيتاء بالذات وإما ما هو أعم منه ومن الإيتاء بالواسطة، وعلى الأول فالمراد من آل إبراهيم أنبياء ذريته، ومن الضمير الراجع إليهم من آتَيْناهُمْ بعضهم، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، وخصه السدي بما أحل لداود وسليمان من النساء فقد كان للأول تسع وتسعون امرأة ولولده ثلاثمائة امرأة ومثلها سرية»
وعن محمد بن كعب قال: «بلغني أنه كان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية»،
وعلى الثاني فالمراد بهم ذريته كلها فإن تشريف البعض بما ذكر تشريف للكل لاغتنامهم بآثار ذلك واقتباسهم من أنوار.
ومن الناس من فسر الحكمة بالعلم، والملك العظيم بالنبوة، ونسب ذلك إلى الحسن ومجاهد، ولا يخفى أن إطلاق الملك العظيم على النبوة في غاية البعد والحمل على المتبادر أولى فَمِنْهُمْ أي من جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم مَنْ آمَنَ بِهِ أي بما أوتي آل إبراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ أي أعرض عَنْهُ ولم يؤمن به وهذا في رأي حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقوع المحكي من غير أن يكون له دخل في الإلزام، وقيل: له دخل في ذلك ببيان أن الحسد لو لم يكن قبيحا لأجمع عليه أسلافهم فلم يؤمن منهم أحد كما أجمعوهم عليه فلم يؤمن أحد منهم، وليس بشيء، وقيل: معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر، ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك فضمير بِهِ وعَنْهُ على هذا لإبراهيم، وفيه تسلية له عليه الصلاة والسلام ورجوع الضميرين لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وجعل الكلام متفرعا على قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [النساء: ٤٧] أو على قوله سبحانه:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ إلخ في غاية البعد، وكذا جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي نارا مسعرة موقدة إيقادا شديدا أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً استئناف وقع كالبيان والتقرير لما قبله، والمراد بالموصول إما الذين كفروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإما ما يعمهم وغيرهم ممن كفر بسائر الأنبياء عليهم السلام، ويدخل أولئك دخولا أوليا، وعلى الأول فالمراد بالآيات إما القرآن أو ما يعم كله وبعضه، أو ما يعم سائر معجزاته عليه الصلاة والسلام، وعلى
56
الثاني فالمراد بها ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدعاهم، وسَوْفَ كما قال سيبويه: كلمة تذكر للتهديد والوعيد، وتنوب عنها السين كما في قوله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: ٢٦] وقد تذكر للوعد كما في قوله سبحانه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: ٥] وسَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف: ٩٨] وكثيرا ما تفيد هي والسين توكيد الوعيد، وتنكير ناراً للتفخيم أي يدخلون ولا بد ناراً هائلة كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي احترقت وتهرت وتلاشت، من نضج الثمر واللحم نضجا ونضجا إذا أدرك، وكُلَّما ظرف زمان والعامل فيه بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كانت مادته الأصلية موجودة بأن يزال عنه الإحراق فلا يرد أن الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب، وذلك لأنه هو العاصي باعتبار أصله فإنه لم يبدل إلا صفته، وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل، وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة له كالسيف الذي قتل به ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح، والسيف ليس كذلك، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه لأن ذلك الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جلد كانت وكذا يقال في النعيم، ويؤيد هذا أن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم وأن سن الجهنمي كجبل أحد، وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه السلام ستين ذراعا في عرض سبعة أذرع، ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام بل من أنصف رأى أن أجزاء الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة وكون الماهية واحدة لا يفيد لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني يغاير الأول كمغايرة العرض للجوهر أو الإنسان للحجر بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلا على أنه لو قيل: إن الكافر يعذب أولا ببدن من حديد تحله الروح، وثانيا ببدن من غيره كذلك لم يسغ لأحد أن يقول: إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط.
ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام أصلا ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى، ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت، والنصوص في هذا الباب متعارضة، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى، ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين مثل قوله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: ٢٤] وما في شرح البخاري للسفيري- من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت وأني كنت ريحا ولولاك لم أستطع أن أعمل شيئا، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت وأنت سولت ولولاك لكنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يدا ولا رجلا، فيبعث الله تعالى ملكا يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثمارا لكن لا أصل إليها فقال له الضرير:
اركبني فتناولها فأيهما المتعدي؟ فيقولان: كلاهما فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما- لا أراه صحيحا لظهور الفرق بين المثال والممثل له فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به، ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لتحقيق هذا المقام، ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة.
57
فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر قال: «قرىء عند عمر هذه الآية فقال كعب: عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدقناك قال:
إني قرأتها قبل «كلمات نضجت جلودهم بدلناها جلودا غيرها»
في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة فقال عمر: هكذا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن قال: «بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا».
لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام، وقيل: السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن، وأنكر بعضهم نضج الجلود بالمعنى المتبادر وتبديلها زاعما أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله سبحانه بقوله: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: ٥٠] وسميت السرابيل جلودا للمجاورة، وفيه أنه ترك للظاهر، ويوشك أن يكون خلاف المعلوم ضرورة، وأن السرابيل لا توصف بالنضج وكأنه ما دعاه إلى هذا الزعم سوى استبعاد القول بالظاهر، وليس هو بالبعيد عن قدرة الله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً أي لم يزل منيعا لا يدافع ولا يمانع، وقيل: إنه قادر لا يمتنع عليه ما يريده مما تواعد أو وعد به حَكِيماً في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل، وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم مع ما مر مرارا.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عقب بيان سوء حال الكفرة ببيان حسن حال المؤمنين تكميلا للمساءة والمسرة، وقدم بيان حال الأولين لأن الكلام فيهم، والمراد بالموصول إما المؤمنون بنبينا صلّى الله عليه وسلّم، وإما ما يعمهم وسائر من آمن من أمم الأنبياء عليهم السلام أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وعملوا الأعمال الحسنة سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قرأ عبد الله- سيدخلهم- بالياء والضمير للاسم الجليل، وفي السين تأكيد للوعد، وفي اختبارها هنا واختيار سَوْفَ في آية الكفر ما لا يخفى.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إعظاما للمنة وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب في سَنُدْخِلُهُمْ وقوله تعالى:
لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي من الحيض والنفاس وسائر المعايب والأدناس والأخلاق الدنيئة والطباع الرديئة لا يفعلن ما يوحش أزواجهن ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن في محل النصب على أنه حال من جنات، أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو أنه صفة لجنات بعد صفة، أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر.
والمراد أزواج كثيرة كما تدل عليه الأخبار وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أي فينانا لا وجوب فيه، ودائما لا تنسخه الشمس وسجسجا لا حر فيه ولا قرّ، رزقنا الله تعالى التفيؤ فيه برحمته إنه أرحم الراحمين، والمراد بذلك إما حقيقته ولا يمنع منه عدم الشمس وإما أنه إشارة إلى النعمة التامة الدائمة، والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما هو عادتهم في نحو- يوم أيوم، وليل أليل- وقال الإمام المرزوقي: إنه مجرد لفظ تابع لما اشتق منه وليس له معنى وضعي بل هو- كبسن- في قولك: حسن بسن، وقرىء «يدخلهم» بالياء عطف على سيدخلهم لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْن