ﰡ
مدنية، مائة وست وسبعون آية، ثلاثة آلاف وسبعمائة واثنتان وستون كلمة، ستة عشر ألف وثلاثمائة وثمانية وعشرون حرفا
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ بالتناسل مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أبيكم آدم وَخَلَقَ مِنْها أي من نفس آدم زَوْجَها أمكم حواء.
روي أنه تعالى لما خلق آدم وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم، فبينما هو بين النائم واليقظان خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده.
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها»
«١». وَبَثَّ مِنْهُما أي نشر من تلك النفس وزوجها بطريق التوالد رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً كثيرة. روى ابن جرير عن ابن إسحاق إن بني آدم لصلبه أربعون في عشرين بطنا فمما حفظ من ذكورهم قابيل وهابيل، وأباذ وشبوبه، وهند ومرانيس وفحور وسند، وبارق وشيث. ومن نسائهم أقليمة وأشوف وجزروه وعزورا.
قال ابن عساكر: وقد روي أن من بني آدم لصلبه عبد المغيث وتوأمته أمة المغيث وودا، وسواعا ويغوث ويعقوب، ونسرا وجميع أنساب بني آدم ترجع إلى شيث وسائر أولاده انقرضت أنسابهم من الطوفان وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي «تساءلون» بالتخفيف. والباقون بالتشديد. وقرأ حمزة وحده «والأرحام» بجر الميم. والتقدير واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام. لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول: أسألك بالله والرحم. وربما أفرد ذلك فقال
روى مجاهد عن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سألكم بالله فأعطوه»
«١». إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) أي حافظا مطلعا على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوال وعلى ما في ضمائركم من النيات مريدا لمجازاتكم على ذلك وَآتُوا الْيَتامى الذين بلغوا أَمْوالَهُمْ التي عندكم.
وقال أبو السعود: أي لا تتعرضوا لأموال اليتامى بسوء حتى تأتيهم وتصل إليهم سالمة سواء أريد باليتامى الصغار أو ما يعم الصغار والكبار. وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي لا تستبدلوا الحرام الذي هو مال اليتامى بالحلال الذي هو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب بأن لا تتركوا أموالكم وتأكلوا أموالهم وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم حتى لا تفرقوا بين أموالهم وأموالكم في حل الانتفاع بها فلا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم. إِنَّهُ أي أكل مال اليتيم كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) أي ذنبا عظيما عند الله. نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فنزلت هذه الآية. فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير ودفع ماله إليه. وَإِنْ خِفْتُمْ يا أولياء اليتامى أَلَّا تُقْسِطُوا أي أن لا تعدلوا فِي الْيَتامى إذا نكحتموهن فَانْكِحُوا غيرهن من الغرائب.
روي عن عروة أنه قال: قلت لعائشة: ما معنى قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى. قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها. فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق وأمروا أن ينكحوا ما سواهن.
وقال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها، وهي لا تعجبه وإنما تزوجها كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالها، ثم يسيء صحبتها ويتربص بها إلى أن تموت فيرثها فعاب الله عليهم ذلك وأنزل هذه الآية.
وروي عن عكرمة أنه قال: كان الرجل عنده نسوة وأيتام فإذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقيل لهم: لا تزيدوا على أربع
وقرئ «فواحدة» بالرفع أي فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من السراري فإنه لا قسمة لهن عليكم ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (٣) أي اختيار الحرة الواحدة أو التسري أقرب إلى أن لا تميلوا ميلا محظورا بالنسبة إلى ما عداهما والأمر يدور مع عدم الجور لا مع تحقق العدل. وَآتُوا النِّساءَ اللاتي أمرتم بنكاحهن صَدُقاتِهِنَّ أي مهورهن نِحْلَةً أي فريضة من الله تعالى كما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد، وإنما فسروا النحلة بالفريضة لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب فقوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أي أعطوهن مهورهن لأنها شريعة ودين ومذهب وما هو كذلك فهو فريضة وانتصاب نحلة على أنها مفعول له أو حال من الصدقات. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً أي فإن وهبن لكم شيئا من الصداق بطيبة نفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن أو سوء معاشرتكم معهن فَكُلُوهُ أي فخذوا ذلك الشيء وتصرفوا فيه هَنِيئاً أي حلالا بلا إثم مَرِيئاً (٤) أي بلا ملامة وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى قضاته أن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أي ويا أيها الأولياء لا تؤتوا المبذرين من اليتامى الذين يكونون تحت ولايتكم أموالهم التي في أيديكم التي جعل الله الأموال معاشكم أي لا يحصل معاشكم إلا بهذا المال مخافة أن يضيعوها وأضاف الله المال إلى الأولياء من حيث إنهم ملكوا التصرف فيه لا لأنهم ملكوا المال، ويكفي حسن الإضافة أدنى سبب وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي أنفقوا عليهم وَاكْسُوهُمْ وإنما قال الله فيها ولم يقل منها لئلا يكون ذلك أمرا بجعل بعض أموالهم رزقا لهم بل أمرهم بأن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول المال وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (٥) أي جميلا وهو كل ما سكنت إليه النفس من قول لحسنه شرعا أو عقلا كأن يقول الولي للصبي: مالك عندي وأنا خازن له فإذا رشدت سلمت إليك أموالك وَابْتَلُوا الْيَتامى أي واختبروا من لا يتبين منهم السفه قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أموالهم بما يليق بحالهم بأن تجربوا ولد التاجر بالبيع والشراء، والمماسكة فيهما، وولد الزراع بالزراعة والنفقة على القوام بها، والأنثى فيما يتعلق بالغزل والقطن وصون الأطعمة عن الهرة ونحوها. وحفظ متاع البيت وولد الأمير ونحوه بالإنفاق مدة في خبز وماء ولحم ونحوها.
وقرئ «رشدا» بفتحتين و «رشدا» بضمتين. وعند الشافعي الصلاح يعتبر مع مصلح للمال في الدين بأن لا يرتكب كبيرة ولا يصر على صغيرة وعند أبي حنيفة هو غير
معتبر وفائدة هذا الخلاف أن الشافعي يرى الحجر على الفاسق وأبا حنيفة لا يراه وَلا تَأْكُلُوها أي أموال اليتامى أيها الأولياء إِسْرافاً وَبِداراً أي مسرفين بغير حق ومبادرين إلى إنفاقها أَنْ يَكْبَرُوا أي مخافة كبرهم فيمنعوكم عن ذلك وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا.
وَمَنْ كانَ من الأولياء والأوصياء غَنِيًّا عن مال اليتيم فَلْيَسْتَعْفِفْ أي فليتنزه عن أكلها وليقنع بما آتاه الله تعالى من الرزق إشفاقا على اليتيم وإبقاء على ماله وَمَنْ كانَ من الأولياء والأوصياء فَقِيراً محتاجا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أي بقدر أجرة خدمته لليتيم وعمله في مال اليتيم. ويقال: فليأكل بالمعروف أي بالقرض ثم إذا أيسر قضاه وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه. وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية وهذا القرض في أصول الأموال أما نحو ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح لنحو الوصي إذا كان غير مضر بالمال وهذا قول أبي العالية وغيره. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أي اليتامى أَمْوالَهُمْ بعد البلوغ والرشد فَأَشْهِدُوا ندبا عَلَيْهِمْ عند الدفع فإن الإشهاد أبعد من الخصومة ولو ادّعى الوصي بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه. أو قال: أنفقت عليه في صغره فقال مالك والشافعي: لا يصدق.
وقال أبو حنيفة: يصدق مع اليمين. وقال الشافعي: القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم وإنما هو مؤمن من جهة الشرع وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦) أي شهيدا.
روي أن رفاعة مات وترك ابنه ثابتا وهو صغير فجاء عمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وقال ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى إلى هنا. لِلرِّجالِ نَصِيبٌ أي للأولاد والأقرباء الذكور صغارا أو كبارا حظ. مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ المتوارثون منهم وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي المتوفون مِمَّا قَلَّ
أي مما تركوه أَوْ كَثُرَ وأتى بهذه الجملة لتحقيق أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق ولدفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة، كالخيل وآلات الحرب للرجال.
نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) أي أعني نصيبا مقدرا مقطوعا بتسليمه إليهم فالوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه بالإعراض. وهذا إبطال لحكم الجاهلية فإنهم لا يورثون النساء والأطفال، ويقولون: إنما يرث من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة وذكر الله في هذه الآية أن الإرث أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء ثم ذكر التفصيل في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ. وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى أي قرابة الميت الذي ليس بوارث وَالْيَتامى أي يتامى المؤمنين وَالْمَساكِينُ أي مساكين المؤمنين من الأجانب فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم من المال المقسوم شيئا قبل القسمة وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (٨) وهذا الإعطاء مندوب إذا كانت الورثة كبارا، أما إذا كانوا صغارا فليس على الولي إلا القول المعروف كأن يقول: إني لا أملك هذا المال إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون وإن يكبروا فسيعرفون حقكم أو يقول: سأوصيهم ليعطوك شيئا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ أي وليخف الذين يحضرون المريض على أولاد المريض إن تركوا بعد موتهم أولادا صغارا خافوا عليهم الضياع. وهذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون: إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا فأوص بمالك لفلان وفلان ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا. وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضى لأخيك المسلم
عن أنس قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»
«١» فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في أمر اليتامى وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (٩) أي عدلا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل بأن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة والتأديب ويخاطبون لهم بقولهم: يا ولدي يا بني. وبأن يقولوا للمريض: إذا أردت الوصية فلا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك، ويذكروه التوبة وكلمة الشهادة وبأن يلطف الورثة القول للحاضرين الذين لا يرثون حال قسمة الميراث إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً أي وجه الغضب إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً أي حراما يؤدي إلى النار. أو يقال: يجعل الله في بطونهم
قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وسيصلون بضم الياء. والباقون بالفتح. وقرئ شاذة بضم الياء وتشديد اللام. نزلت هذه الآية في شأن حنظلة بن شمردل. وقيل في شأن رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد: ولي مال يتيم- وكان اليتيم ابن أخيه- فأكله.
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أي يبين الله لكم في ميراث أولادكم بعد موتكم.
روى عطاء قال: استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين، وامرأة وأخا. فأخذ الأخ المال كله فأتت المرأة وقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد وإن سعدا قتل وإن عمهما أخذ مالهما فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعي فلعل الله سيقضي فيه» ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمهما وقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك»
«١» فهذا أول ميراث قسم في الإسلام لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي فإذا خلف الميت ذكرا واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم، وإذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الإناث كان لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم، وإذا كان مع الأولاد أبوان وأحد الزوجين فالباقي بعد سهام الأبوين وأحد الزوجين بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ أي فإن كانت بنات الصلب نساء خلصا بنتين أو أكثر فلتلك النساء ثلثا ما ترك المتوفى وَإِنْ كانَتْ أي الوارثة بنتا واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. وقرأ نافع واحدة بالرفع فكان تامة وَلِأَبَوَيْهِ أي الميت لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ أي الميت إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكر أو أنثى، أي فإن كان مع الأبوين ولد ذكر فأكثر أو بنتان فأكثر فلكل واحد من الأب والأم السدس وإن كان معها بنت فلها النصف وللأم السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية. والسدس الباقي للأب أيضا بحكم التعصيب فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أي الميت وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. وذلك فرض لها والباقي للأب فيأخذ السدس بالفريضة والنصف بالتعصيب، وإذا انفرد أخذ كل المال كما هو شأن العصبة. وإذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فللأم ثلث ما يبقى بعد فرضه، والباقي للأب خلافا لابن عباس فإن للأم ثلث الكل عنده، ووافقه ابن سيرين في الزوجة وخالفه في الزوج لأن الثلث فيه يفضي إلى كون نصيب الأنثى مثل نصيب الذكرين فَإِنْ كانَ لَهُ أي الميت إِخْوَةٌ اثنان فصاعدا من جهة الأبوين أو من جهة أحدهما ذكور أو إناث وارثون أو محجوبون بالأب فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ. والباقي للأب ولا شيء للأخوة، وأما السدس الذي حجبوها عنه فهو للأب عند
قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «يوصى» بفتح الصاد. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد. آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل إليها طباعكم فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض ذلك فريضة وهذا إشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة
التي قدرها الشرع وقضى بها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بالمصالح والرتب حَكِيماً (١١) في كل ما قضى وقدر.
قال ابن عباس: إن الله ليشفع المؤمنين بعضهم في بعض فأطوعكم لله تعالى من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده بمسألته ليقرّ بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه ولذا قال تعالى:
لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأن أحد المتوالدين لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ من المال إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم والباقي لورثتهن فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ وارث واحد أو متعدد فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ من المال والباقي لباقي الورثة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن وصية يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ أي أو من بعد قضاء دين عليهن وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من المال إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ذكر أو أنثى منهن أو من غيرهن، والباقي لبقية ورثتكم من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام، أو لبيت المال إن لم يكن لكم وارث آخر أصلا. فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من المال والباقي للباقين مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ أي أو من بعد قضاء دين عليكم من المال وَإِنْ كانَ رَجُلٌ أي ميت يُورَثُ كَلالَةً أي لا ولد له ولا والد أَوِ امْرَأَةٌ أي أو كانت امرأة تورث كلالة وَلَهُ أي الميت أَخٌ أَوْ أُخْتٌ من أمه فقط فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا أي الأخ والأخت السُّدُسُ من غير تفضيل للذكر على الأنثى لأن الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة فَإِنْ كانُوا أي من يرث من الأخوة من الأم أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ أي من الواحد فَهُمْ أي الزائد على الواحد كيفما كانوا شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ فالذكر والأنثى فيه سواء، والباقي لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ للورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث أو يقرّ بكل ماله أو ببعضه لأجنبي، أو يقر على نفسه
وقال الكلبي: أي ومن يكفر بقسمة الله المواريث ويتعد حدوده استحلالا. وقال عكرمة عن ابن عباس: من لم يرض بقسم الله تعالى ويتعد ما قال الله تعالى يُدْخِلْهُ ناراً أي عظيمة هائلة خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) أي وله مع عذاب الحريق الجسماني عذاب شديد روحاني.
وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» بنون العظمة في الموضعين. والباقون بالياء. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي اللاتي يفعلن الزنا كائنات من أزواجكم المحصنات فاطلبوا أن يشهد عليهن بفعله أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم.
وقرئ بالفاحشة فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بذلك كما ينبغي فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أي فخلدوهن محبوسات في بيوتكم حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي أن يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥) أي أو إلى أن يشرع لهن حكما خاصا بهن ثم
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب ترجم والبكر تجلد وتنفى»
«١».
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ أي البكران اللذان يأتيان الفاحشة من أحراركم فَآذُوهُما بالتهديد والتعيير كأن يقال: بئس ما فعلتما وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه، وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة. ويخوفا بالرفع إلى الإمام وبالحد.
روى أبو أيوب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر
» «١» أي ما لم تتردد الروح في حلقه. وقال عطاء: ولو قبل موته بفواق الناقة. وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزّتك لا أفارق ابن آدم ما دامت روحه في جسده
فقال الله: «وعزّتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر»
وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أي وليس قبول التوبة للذين يموتون على الكفر إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب أُولئِكَ أي الكفار أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) بيان لكونهم مختصين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة والإذلال نزلت هذه الآية في حق طعمة وأصحابه الذين ارتدوا. قاله ابن عباس. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ أي عين النساء كَرْهاً أي لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث وهن كارهات لذلك أو مكروهات عليه. نزلت هذه الآية في حق أهل المدينة كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة وقال:
قرأ حمزة والكسائي «كرها» بضم الكاف هنا. وكذا في التوبة وفي الأحقاف. وقرأ عاصم وابن ذكوان عن ابن عامر في الأحقاف بالضم. والباقون بالفتح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك. قال الفراء: الكره بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة فما أكره عليه فهو كره بالفتح، وما كان من قبل نفسه فهو كره بالضم وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي وكذلك لا يحل لكم بعد التزويج بهن الحبس والتضييق لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من المهر إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بفتح الباء. والباقون بالكسر أي بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب إلا أن يفحشن عليكم. والمعنى لا يحل لكم أن تضيقوا الأمر عليهن لعلة من العلل إلا لإتيانهن بالنشوز فإن السبب حينئذ يكون من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) أي فإن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف ولا تفارقوهن بمجرد كراهة النفس من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك فقد قربت كراهتكم شيئا أي معهن مع كون الله جعل في صحبتهن خيرا كثيرا، كحصول ولد فتنقلب الكراهة محبة. وكاستحقاق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل في الدنيا للإنفاق عليهن والإحسان إليهن على خلاف الطبع وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ أي وإن أردتم تزوج امرأة ترغبون فيها بدل امرأة تنفرون عنها بأن أردتم أن تطلقوها وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً أي وقد أعطيتم إحدى الزوجات التي تريدون أن تطلقوها مالا كثيرا من الصداق فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ أي من ذلك القنطار شَيْئاً أي يسيرا. أي إن كان سوء العشرة من قبل الزوج كره له أن يأخذ شيئا من مهرها، ثم إن وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع، وإن كان من قبل المرأة فيحل أخذ بدل الخلع أَتَأْخُذُونَهُ أي المهر بُهْتاناً أي ظلما وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) أي حراما بينا أي إن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر.
روي أن الرجل إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ أي ولأي وجه تأخذون المهر وقد اجتمعتم في لحاف واحد فإنها قد بذلت نفسها لك، وجعلت ذاتها لذّتك وتمتعك. وحصلت الألفة التامة بينكما فكيف يليق بالعاقل أن
قال ابن عباس ومجاهد: وهو كلمة النكاح المعقودة على الصداق وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء قال صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله»
«١». وهذا الإسناد مجاز عقلي من الإسناد للسبب لأن الآخذ للعهد حقيقة هو الله لكن بولغ فيه حتى جعل كأنهن الآخذات له أي وقد أخذ الله عليكم العهد بسببهن وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم من النساء فإنه موجب للعقاب إلا ما قد مضى قبل نزول آية التحريم فإنه معفو عنه ويقال: ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي شهود وكانت موقتة، وعلى سبيل القهر. وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية. وقيل: المعنى لا تزوجوا امرأة وطئها آباؤكم بالزنا إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بامرأة فإنه يجوز للابن تزوجها كما نقل هذا المعنى عن ابن زيد، وكما قال أبو حنيفة: يحرّم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه لهذه الآية.
وقال الشافعي: لا يحرم إِنَّهُ أي نكاح نساء الآباء كانَ فاحِشَةً أي قبيحا لأن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش وَمَقْتاً أي ممقوتا عند ذوي المروءات من الجاهلية وغيرهم وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقتى. وَساءَ سَبِيلًا (٢٢) أي بئس مسلكا. نزلت هذه الآية في حق محصن بن قيس الأنصاري. واعلم أن مراتب القبح ثلاثة: القبح في العقول، وفي الشرائع، وفي العادات. فقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً إشارة إلى القبح العقلي. وقوله تعالى: وَمَقْتاً إشارة إلى القبح الشرعي. وقوله:
وَساءَ سَبِيلًا إشارة إلى القبح العادي. ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ من النسب وَبَناتُكُمْ من النسب وَأَخَواتُكُمْ من النسب من أي وجه يكن وَعَمَّاتُكُمْ أي أخوات آبائكم وَخالاتُكُمْ أي أخوات أمهاتكم وَبَناتُ الْأَخِ من النسب من أي وجه يكن وَبَناتُ الْأُخْتِ من النسب من أي وجه يكن وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ في الحولين خمس رضعات متفرقات عند الشافعي وابن حنبل. وقال أبو حنيفة ومالك: يحصل التحريم بمصة واحدة وفاقا للأوزاعي ولسفيان الثوري،
قال الشافعي: لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه لأنها حليلته.
وقال أبو حنيفة: يجوز واتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد، كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بذلك وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بالنكاح وبالوطء في ملك اليمين لا في نفس ملك اليمين. قال الشافعي: نكاح الأخت في عدة البائن جائز لأنه لم يوجد الجمع. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي قد مضى في الجاهلية فإنه مغفور لكم إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً فيما كان منكم في الجاهلية رَحِيماً (٢٣) أي فيما يكون منكم في الإسلام إذا تبتم. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي وحرّم عليكم نكاح ذوات الأزواج كائنات من جميع النساء إلا ما ملكت أيمانكم من السبايا فإنهن حلال لكم بعد ما استبرأتم أرحامهن بحيضة، وإن كان أزواجهن في دار الحرب واختلف القراء في كلمة المحصنات سواء كانت معرّفة بال أم نكرة. فقرأ الجمهور بفتح الصاد، والكسائي بكسرها في جميع القرآن إلّا التي في هذه الآية فإنهم أجمعوا فيها على الفتح. والمعنى أحصنهن الأزواج بالتزوج، أي أعفوهن عن الوقوع في الحرام والأولياء أعفوهن عن الفساد بالتزويج وهن يحصن أزواجهن عن الزنا ويحصن فروجهن عن غير أزواجهن بعفافهن كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله. أو المعنى الزموا كتاب الله وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ.
قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «وأحل لكم» بالبناء للمفعول عطفا على قوله:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ والباقون «وأحل» بالبناء للفاعل عطفا على «كتاب الله» أي كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها. ومحل أن تبتغوا رفع على البدل من ما على القراءة الأولى، ونصب على القراءة الثانية. وقوله: مُحْصِنِينَ حال. وقيل: خبر كان الناقصة.
والمعنى وأحل لكم ما سوى المحرمات المعدودة أن تطلبوا النساء بصرف أموالكم المهور أو الأثمان على طريق النكاح إلى الأربع أو التسري للإماء حال كونكم
متعففين عن الزنا وغير زانين وهذا تكرير للتأكيد.
فَرِيضَةً أي حال كون أجورهن مفروضة من الله عليكم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ أي لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة المطلقة قبل الدخول تمام المهر أو فيما تراضيا به من نفقة ونحوها مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي من بعد ذكر المقدار المعين إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح العباد حَكِيماً (٢٤) فلا يشرع الأحكام إلّا على وفق الحكمة وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ أيها الأحرار طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ أي الحرائر فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ أي من إمائكم المؤمنات فقوله تعالى: أَنْ يَنْكِحَ إما مفعول لطولا، وإما بدل منه، وإما مفعول ليستطع وطولا مصدر مؤكد له، لأنه بمعناه إذ الاستطاعة هي الطول- أي الفضل- والزيادة في المال أو تمييز. أي ومن لم يستطع منكم زيادة في المال يبلغ بها نكاح الحرائر فلينكح الإماء. أو المعنى ومن لم يستطع منكم استطاعة نكاحهن. أو المعنى من لم يستطع منكم من جهة سعة المال لا من جهة الطبيعة نكاح الحرة فلينكح الأمة لأنها في العادة تخف مهورها ونفقتها لاشتغالها بخدمة السيد، بخلاف الحرة الفقيرة. ويقال للمرأة الحديثة السن: فتاة. وللغلام: فتى.
والأمة: تسمى فتاة، سواء كانت عجوزا أم شابة لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير.
وقال مجاهد وسعيد والحسن ومالك والشافعي: لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية سواء كان الزوج حرا أو عبدا. وقال أبو حنيفة: يجوز. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ أي إنه تعالى أعلم منكم بمراتبكم في الإيمان فربّ أمة يفوق إيمانها إيمان الحرائر. فاعلموا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر والحقائق بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي كلكم مشتركون في الإيمان وهو أعظم الفضائل فإذا حصل الاشتراك في ذلك كان التفاوت فيما وراءه غير معتبر.
روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ثلاث من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب. والفخر بالأحساب. والاستسقاء بالأنواء»
«١». فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي سيدهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي أعطوهن مهورهن على العادة الجميلة عند المطالبة من غير مطل مُحْصَناتٍ أي عفائف عن الزنا وهي حال مفعول فأنكحوهن غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي غير مؤجرة
وقرأ ابن عباس «وخلق الإنسان» على البناء للفاعل والضمير لله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي بما يخالف الشرع كالغصب والسرقة والخيانة والقمار وعقود الربا، وشهادة الزور، والحلف الكاذب، وجحد الحق إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي «تجارة» بالنصب أي لا يأكل بعضكم أموالا بغير طريق شرعي بل كلوا بأن تكون الأموال تجارة صادرة عن تراض منكم. والباقون بالرفع أي لكن بأن توجد
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ في هذه السورة نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي صغائركم من جماعة إلى جماعة ومن جمعة إلى جمعة ومن شهر رمضان إلى شهر رمضان وَنُدْخِلْكُمْ في الآخرة مُدْخَلًا كَرِيماً (٣١). قرأ نافع بفتح الميم والباقون بالضم أي موضعا حسنا وهو الجنة وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ.
قال ابن عباس: لا يتمنى الرجل مال غيره ودابته وامرأته ولا شيئا من الذي ثبت له كالجاه وغير ذلك مما يجري فيه التنافس، وذلك هو الحسد المذموم لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير لائق بأحوال العباد متفرع على العلم بجلائل شؤونهم ودقائقها، واسألوا الله من فضله وقولوا: اللهم ارزقنا مثله أو خيرا منه مع التفويض. ويقال: نزلت هذه الآية في حق أم سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لقولها للنبيّ: ليت الله كتب علينا ما كتب على الرجال لكي نؤجر كما يؤجر الرجال فنهى الله عن ذلك وقال: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم- أي الرجال- على بعض- أي النساء- من الجماعة والجمعة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم بيّن الله تعالى ثواب الرجال والنساء باكتسابهم فقال لِلرِّجالِ نَصِيبٌ أي ثواب مِمَّا اكْتَسَبُوا أي الخير كالجهاد والنفقة على النساء وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ أي ثواب مِمَّا اكْتَسَبْنَ من الخير في بيوتهن كحفظ فروجهن وطاعة الله وأزواجهن وقيامهن بمصالح البيت من الطبخ والخبز وحفظ الثياب ومصالح المعاش وكالطلق والإرضاع وَسْئَلُوا اللَّهَ. قرأ ابن كثير والكسائي وسلوا الله بغير همز مِنْ فَضْلِهِ أي واسألوا الله ما احتجتم إليه يعطكم من خزائنه التي لا تنفد.
قال الفخر الرازي: قوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ تنبيه على أن الإنسان لا يجوز له أن يعين شيئا في الطلب والدعاء ولكن يطلب من فضل الله ما يكون سببا لصلاحه في دينه ودنياه على سبيل الإطلاق اه. وقد جاء
في الحديث: «لا يتمنين أحدكم مال أخيه، ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج»
«١» إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) ولذلك
وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويصح أن تكون جملة «جعلنا موالي» صفة «لكل»، والضمير الراجع إليه محذوف، والكلام مبتدأ أو خبر. والمعنى حينئذ ولكل قوم جعلناهم وراثا نصيب معين مغاير لنصيب قوم آخرين مما ترك المورثون فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الميراث. قيل: إن هذه الآية نزلت في شأن أبي بكر الصديق لأنه حلف أن لا ينفق على ابنه عبد الرحمن ولا يورثه شيئا من ماله فلما أسلم عبد الرحمن أمر الله أبا بكر أن يؤتيه نصيبه. وقيل: المراد من قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ الحلفاء. وبقوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة، وحينئذ فقوله: وَالَّذِينَ مبتدأ متضمن لمعنى الشرط ولذلك صدر الخبر بالفاء أو منصوب بمضمر يفسره قوله: فَآتُوهُمْ وعلى هذه الوجوه فهذه الآية غير منسوخة بخلاف ما لو حمل قوله: الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ على الحلفاء في الجاهلية.
وقوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ على الميراث- وهو السدس- فهذه الآية حينئذ منسوخة بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: ٧٥] وبقوله تعالى:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ. وكذا لو حمل قوله: الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ على الأبناء الأدعياء أو على من واخاه النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل آخر فإنه وأخي بين كل رجلين من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالكم شَهِيداً (٣٣) أي مطلعا الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أي الرجال مسلطون على أدب النساء بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن بكمال العقل وحسن التدبير ورزانة الرأي، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات. ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية، وإقامة الشعائر والشهادة في جميع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة وغير ذلك وبسبب إنفاقهم من أموالهم للمهر والنفقة فَالصَّالِحاتُ أي المحسنات إلى أزواجهن قانِتاتٌ أي مطيعات لأزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي لما يجب عليهن حفظه في حال غيبة أزواجهن من الفروج والأموال بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بالذي حفظه الله لهن أي فإن حفظ حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن.
أو المعنى بحفظ الله إياهن بالأمر بحفظ الغيب والتوفيق له.
وقرئ بما حفظ الله بالنصب على حذف المضاف أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) أي إن الله تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم ما لا تطيقون فكذلك لا تكلفوهن ما لا طاقة لهن من المحبة. وإنه تعالى مع ذلك يتجاوز عن سيئاتكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتهن لكم وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها أي وإن علمتم أيها المؤمنون مخالفة بين الرجل والمرأة ولم تدروا من أيهما فابعثوا إلى الزوجين لإصلاح الحال بينهما حكما، أي رجلا وسطا صالحا للإصلاح من أهله- أي الزوج- وحكما آخر على صفة الأول من أهلها لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب وأشد طلبا للإصلاح. فإن كانا أجنبيين جاز فيستكشف كل واحد منهما حقيقة حال الزوجين، ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من جمعهما أو إيقاع طلاق أو خلع. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما.
فالضمير الأول: إما عائد على الحكمين أو الزوجين. والضمير الثاني: كذلك فالوجوه أربعة. والمعنى إن كانت نية الحكمين قطعا للخصومة أوقع الله الموافقة بين الزوجين إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بموافقة الحكمين ومخالفتهما خَبِيراً (٣٥) بفعل المرأة والرجل. قال ابن عباس:
نزلت الآية من قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء: ٣٤] إلى هاهنا في شأن بنت محمد بن سلمة بلطمة لطمها زوجها سعد بن الربيع لعصيانها في المضاجع فطلبت من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قصاصها من زوجها فنهاها الله عن ذلك. وَاعْبُدُوا اللَّهَ أي بقلوبكم وجوارحكم وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي شركا جليا أو خفيا وهذا أمر بالإخلاص في العبادة وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي أحسنوا بهما إحسانا بالقيام بخدمتهما وبالسعي في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما وبعدم رفع الصوت عليهما وعدم تخشين الكلام معهما، وعدم شهر السلاح عليهما، وعدم قتلهما ولو كانا كافرين لأنه صلّى الله عليه وسلّم نهى حنظلة عن قتل أبيه- أبي عامر الراهب- وكان مشركا.
وعن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليمن استأذنه في الجهاد فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هل لك أحد باليمن» ؟ فقال: أبواي. فقال: «أبواك أذنا لك» ؟ فقال: لا. فقال: «فارجع فاستأذنهما فإن أذنا
«١». وَبِذِي الْقُرْبى أي صلوا بصاحب القرابة من أخ، أو عم، أو خال أو نحو ذلك. وَالْيَتامى أي أحسنوا إليهم بالرفق بهم وبمسح رأسهم وبتربيتهم وحفظ أموالهم وَالْمَساكِينِ أي أحسنوا إليهم بالصدقة أو بالرد الجميل وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى أي الذي قرب جواره أو الذي له مع الجوار اتصال بالنسب.
وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحقه، لأن له ثلاثة حقوق: حق القرابة، وحق الجوار، وحق الإسلام. كما قرئ والصلاة الوسطى نصبا على الاختصاص وَالْجارِ الْجُنُبِ أي الذي بعد جواره أو الذي لا قرابة له فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار. وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وهو إما رفيق في سفر أو جار ملاصق أو شريك في تعلم أو حرفة، أو قاعد بجنبك في مسجد أو مجلس. وقيل: هي المرأة فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك وَابْنِ السَّبِيلِ أي المسافر المنقطع عن بلده بالسفر أو الضيف أي أحسنوا له بالإكرام وله ثلاثة أيام حق وما فوق ذلك صدقة وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي أحسنوا إلى الخدم من العبيد والإماء إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا أي متكبرا عن أقاربه بالفقراء وجيرانه الضعفاء وأصحابه ولا يحسن عشرتهم فَخُوراً (٣٦) على الناس بما أعطاه الله تعالى من العلم وغيره الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من العلم بما في كتابهم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم والأظهر أن الموصول منصوب على الذم، أو مرفوع على الذم أي هم الذين. ويجوز أن
يكون بدلا من قوله: مَنْ كانَ مُخْتالًا وأن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره أحقاء بكل ملامة أو كافرون، نزلت هذه الآية في حق كدوم بن زيد وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع، ومحرى بن عمرو وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد ابن التابوت حين أمروا رجالا من الأنصار بترك النفقة على من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خوف الفقر عليهم. أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ أي لليهود عَذاباً مُهِيناً (٣٧) أي فمن كان شأنه كذلك فهو كافر بنعمة الله، ومن كان كافرا بنعمته فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.
وفي الحديث الذي رواه أحمد أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يظهر أثرها عليه»
«٢». وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. والموصول إما معطوف على الموصول الأول، وإما معطوف على قوله تعالى: لِلْكافِرِينَ.
(٢) رواه أحمد في (م ٣/ ص ٤٧٤).
قرأ نافع وابن كثير حسنة بالرفع والمعنى وإن حدثت حسنة. والباقون بالنصب. والمعنى وإن تكن زنة الذرة حسنة. وقرأ ابن كثير وابن عامر يضعفها بالتشديد من غير ألف فيكون التضعيف للثواب إلى مقدار لا يعلمه إلّا الله تعالى.
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه، ثم يقال له: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعّفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته.
وقال أبو عثمان النهدي: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، فقدّر الله أن ذهبت إلى مكة حاجا أو معتمرا فلقيته فقلت: بلغني عنك أنك تقول: إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة. قال أبو هريرة: لم أقل ذلك ولكن قلت: إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف وتلا قوله تعالى: وَيُؤْتِ أي يعط الله صاحب الحسنة مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده تعالى أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فلا يقدر أحد قدره.
روي أن عمر كان جالسا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت ثناياه، فقال عمر: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما الذي أضحكك؟ قال: «رجلان من أمتي جثيا بين يدي الله عز وجل فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من هذا. فقال الله تعالى: رد على أخيك مظلمته.
فقال: يا رب لم يبق لي من حسناتي شيء. فقال الله تعالى للطالب: كيف تصنع بأخيك ولم يبق له من حسناته شيء فقال: يا رب فليحمل عني من أوزاري ثم فاضت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبكاء فقال: إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم. قال: فيقول الله تبارك
«١».
فَكَيْفَ يصنع الكفار يوم القيامة إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أي قوم بِشَهِيدٍ أي بنبي يشهد على قبح أعمالهم وَجِئْنا بِكَ يا أشرف الخلق عَلى هؤُلاءِ الشهداء وهم الرسل شَهِيداً (٤١) فتشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم. ويقال: وجئنا بك لأمتك مزكيا معدلا لأن أمته صلّى الله عليه وسلّم يشهدون للأنبياء على قومهم إذا جحدوا بالبلاغ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢) أي يوم مجيء ذلك يتمنى الذين كفروا بالله وعصوا أمر الرسول أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. ويقال: يتمنون أن يصيروا ترابا مع البهائم لعظم هول ذلك اليوم ولا يقدرون أن يكتموا من الله حديثا بأن يقولوا: والله ربنا ما كنا مشركين أي إنهم يريدون الكتمان أولا لما علموا أن الله لم يغفر شركا فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين رجاء غفران الله لهم. لكنهم تشهد عليهم الأعضاء والزمان والمكان فلم يستطيعوا الكتمان فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي لا تقيموا الصلاة حال كونكم سكارى من الشراب إلى أن تعلموا قبل الشروع فيها ما تقولونه ولا تقيموها حال كونكم جنبا إلا حال كونكم مسافرين. وقيل: إن «إلا» بمعنى غير، وهو صفة ل «جنبا». والمعنى لا تقيموها حال كونكم جنبا غير مسافرين وسيأتي حكم المسافرين حَتَّى تَغْتَسِلُوا من الجنابة وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.
والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا يمنع من استعمال الماء أو مسافرين طال السفر أو قصر، أو أحدثتم بخروج الخارج من أحد السبيلين أو تلاقت بشرتكم مع بشرة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به للصلاة بعد الطلب فاقصدوا أرضا لا سبخة فيها فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إلى المرفقين بضربتين إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣) وهذا كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته أنه يعفو عن المذنبين فبأن يرخص للعاجزين كان أولى. أَلَمْ تَرَ أي تنظر إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً
وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في شأن اليسع ورافع بن حرملة- حبرين من اليهود- دعوا رئيس المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه إلى دينهما. ثم نزل في مالك بن الصيف وأصحابه قوله تعالى مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي من اليهود قوم يغيرون الكلم التي أنزل الله في التوراة عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها كتحريفهم في نعت النبي (أسمر ربعة) فوضعوا مكانه (آدم طوال). وتحريفهم في (الرجم) فوضعوا بدله (الجلد). ويقولون في الظاهر إذا أمرهم النبيّ عليه السلام: سمعنا قولك، وفي أنفسهم وعصينا أمرك. ويقولون في أثناء مخاطبة النبيّ عليه
السلام كلاما ذا وجهين وهو محتمل للخير والشر، مظهرين المدح ويضمرون الشتم وهو: واسمع منا غير مسمع مكروها. والمراد واسمع منا حال كونك غير مسمع كلاما أصلا لصمم أو موت وهو دعاء منهم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذهاب السمع أو غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك ما أسمعت شيئا.
يقولون للنبي: اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، فقوله غير مسمع، معناه غير سامع.
ويقولون في أثناء خطابهم له صلّى الله عليه وسلّم: راعنا وهي كلمة ذات وجهين محتملة للخير إذا حملت على معنى اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم وللشر إذا حملت على السب بالرعونة أو على أنهم يريدون إنك يا محمد كنت ترعى أغناما لنا فإنهم يفتلون الحق فيجعلونه باطلا لأن راعنا من المراعاة فيجعلونه من الرعونة. وكانوا يقولون لأصحابهم: إنما نشتمه ولا يعرف ولو كان نبيا لعرف ذلك فأطلعه الله تعالى على خبيث ضمائرهم وعلى ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء أي يقولون ذلك لصرف الكلام عن نهجه وللقدح في دين الإسلام بالاستهزاء والسخرية وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا باللسان أو بالحال عند سماع شيء من أوامر الله تعالى ونواهيه سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا بدل ذلك لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ عند الله وَأَقْوَمَ أي أصوب وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي أبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم بذلك فَلا يُؤْمِنُونَ بعد ذلك إِلَّا قَلِيلًا (٤٦) أي إلا إيمانا قليلا غير نافع وهو الإيمان بالله والتوراة وموسى، وكفروا بسائر الأنبياء أو إلا زمانا قليلا وهو زمان الاحتضار فلا ينفعهم الإيمان وبعضهم جعل قليلا مستثنى من الهاء في لعنهم أي إلا نفرا قليلا فلا يلعنهم الله لأنهم لم يفعلوا ذلك بل كانوا مؤمنين كعبد الله بن سلام وأصحابه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا أي بالقرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي موافقا للتوراة في القصص
روي عن ابن عباس أنه قال: لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه بالإعتاق إن هو فعل ذلك، ثم إنهم ما وفوا له بذلك فعند ذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذنبهم وأنه لا يمنعهم عن الدخول إلى الإسلام إلا قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الفرقان: ٦٨]. فقالوا: قد ارتكبنا كل ما في هذه الآية. فنزل قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: ٧٠] فقالوا: هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فقالوا: نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته تعالى.
فنزل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: ٥٣] فدخلوا عند ذلك في الإسلام وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أي فقد فعل ذنبا غير مغفور أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ أي يمدحونها.
قال قتادة والضحاك والسدي: هم اليهود. أخرجه ابن جرير، وذلك لما هدد الله تعالى اليهود بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فعند هذا قالوا: لسنا من المشركين بل نحن من خواص الله تعالى. وهذا استفهام تعجيب وهو أمر المخاطب على التعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم. وفي هذه الآية تحذير من إعجاب المرء بنفسه وعمله بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ عطف على مقدر. أي هم لا يزكون أنفسهم في الحقيقة لكذبهم وبطلان اعتقادهم بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستحقها من المؤمنين وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩) أي إن الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية حق جزائهم من غير ظلم. أي فلا يظلمون في ذلك العقاب قدر فتيل وهو الخيط الذي في شق النواة طولا. والنقير النقطة التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة والقمطير والقشرة الرقيقة على النواة. انْظُرْ يا أشرف الخلق متعجبا كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لقولهم ما نعمل بالنهار من الذنوب يغفره الله لنا بالليل، وما نعمل بالليل يغفره بالنهار ف «الكذب» مفعول به أو مفعول مطلق لأنه يلاقي العامل
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فكل معبود دون الله فهو جبت وطاغوت، وكل من دعا إلى المعاصي الكبار فهو طاغوت.
روي أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود بعد قتال أحد ليحالفوا قريشا على محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منهم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا ففعلوا ذلك. فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس. فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟. فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ قالوا: يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن عبادة الأصنام. قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني.
فقال: أنتم أهدى سبيلا وذلك قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي في حق كفار مكة هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أي كفار مكة أبو سفيان وأصحابه أصوب دينا من محمد وأصحابه وذكرهم بلفظ الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح أُولئِكَ الَّذِينَ أي القائلون: إن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن رحمته وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أي ومن يطرده الله عن رحمته فلن تجد أيها المخاطب من يدفع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) وأم منقطعة عما قبلها. وهذا الاستفهام استفهام إنكاري إبطال على اليهود في قولهم نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ وتكذيب لهم في زعمهم إن الملك يعود إليهم في آخر الزمان فيخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم، ويدعو إلى دينهم. و «إذن» حرف جواب وجزاء لشرط مقدر ورفع الفعل بعدها وإن كان مرجوحا في النحو لأن القراءة سنة متبعة.
وقرئ شاذا على الأرجح بحذف النون. والمعنى ليس لهم من الملك شيء ألبتة ولو كان لليهود نصيب منه فيتسبب عن ذلك أنهم لا يعطون واحدا من الناس قدر ما يملأ النقير. وهو النقرة التي على ظهر النواة التي تنبت منها النخلة وهذا بيان لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم الحرمان منه بسبب أنهم من البخل والدناءة بحيث لو أوتوا شيئا من ذلك لما أعطوا الناس من أقل قليل ومن حق من أوتي الملك أن يؤثر الغير بشيء منه أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي بل يحسدون محمدا ومن معه على ما أعطاهم الله من النبوة والكتاب وازدياد العز والنصر يوما فيوما، وكثرة النساء له صلّى الله عليه وسلّم وكانت له يومئذ تسع نسوة. فقالت اليهود: لو كان محمد نبيا لشغله أمر النبوة
ومنهم من أعرض عن الإيمان به فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم؟ فإن أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت وذلك تسلية من الله لرسوله ليكون أشد صبرا على ما يناله من قبلهم وَكَفى بِجَهَنَّمَ في عذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين سَعِيراً (٥٥) أي نارا وقودا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي الدالة على ذات الله وأفعاله وصفاته وأسمائه والملائكة والكتب والرسل سَوْفَ نُصْلِيهِمْ أي ندخلهم ناراً أي عظيمة هائلة كُلَّما نَضِجَتْ أي احترقت جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بأن يجعل النضيج غير النضيج فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي لكي يجدوا ألم العذاب على الدوام من غير انقطاع بهذه الحالة الجديدة.
وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر رضي الله تعالى عنه فقال للقارئ: أعدها فأعادها- وكان عنده معاذ بن جبل- فقال معاذ: عندي تفسيرها، تبدل الجلود في ساعة مائة مرة. فقال عمر رضي الله عنه هكذا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً أي قادرا غالبا لا يمتنع عليه ما يريده. حَكِيماً (٥٦) أي لا يفعل إلا الصواب فيعاقب من يعاقبه على وفق حكمته وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً فإن نعيم الجنة لا ينقطع كعذاب النار لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (٥٧) أي عظيما في الراحة واللذاذة بخلاف المواضع في الدنيا فإنها إذا لم يصل نور الشمس فيها إليها في الدوام يكون هواؤها عفنا فاسدا مؤذيا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها لما حكى الله عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات، وإن ورد الأمر على سبب خاص في شأن عثمان بن طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة. وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية
أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله فهبط جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن السدانة في أولاد عثمان أبدا ثم إن عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده إلى اليوم وَإن الله يأمركم إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
وعن أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت: صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت»
«١». إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي إن الله نعم شيء يعظكم به ذاك وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً لكل المسموعات يسمع ذلك الحكم إذا حكمتم بالعدل بَصِيراً (٥٨) لكل المبصرات يبصركم إذا أديتم الأمانة فيجازيكم على ما يصدر منكم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وهذه الآية مشتملة على أصول الشريعة الأربع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. فالكتاب: يدل على أمر الله، ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة.
والسنة: تدل على أمر الرسول، ثم نعلم منه أمر الله لا محالة. فثبت أن قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يدل على وجوب متابعة الكتاب والسنة. والمراد بأولي الأمر جميع العلماء من أهل العقد والحل، وأمراء الحق وولاة العدل. وأما أمراء الجور فبمعزل من استحقاق وجوب الطاعة لهم.
قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن حذافة السهمي إذ بعثه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أميرا على سرية. وعن ابن عباس أنها نزلت في شأن خالد بن الوليد بعثه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أميرا على سرية وفيها عمار بن ياسر، فجرى بينهما اختلاف في شيء، فنزلت هذه الآية، وأمر بطاعة أولي الأمر فحينئذ فالمراد بهم أمراء السرايا قال بعضهم: طاعة الله ورسوله واجبة قطعا، وطاعة أهل الإجماع واجبة قطعا، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فالأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلّا بالظلم، وقد تكون واجبة بحسب الظن الضعيف فحينئذ يحمل أولوا الأمر على الإجماع وأيضا إن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوى العلماء والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء فهؤلاء أولوا الأمر فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أي فإن اختلفتم أيها المجتهدون في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والإجماع فردوه إلى واقعة تشبهه في الصورة والصفة. وهذا المعنى يؤكد بالخبر والأثر. أما الخبر فهو
أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قبلة الصائم فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«أرأيت لو تمضمضت»
«٢». والمعنى أخبرني هل تبطل المضمضة الصوم أم لا؟ أي فكما أن
(٢) رواه أبو داود في كتاب الصيام، باب: القبلة للصائم، والدارمي في كتاب الصوم، باب: [.....]
ولما سألته صلّى الله عليه وسلّم الخثعمية عن الحج عن أبيها فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته هل يجزئ» فقالت: نعم، قال صلّى الله عليه وسلّم: «فدين الله أحق بالقضاء»
«١». وأما الأثر فما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك. فدل مجموع ما ذكر على أن قوله تعالى: فَرُدُّوهُ أمر برد الشيء إلى شبيهه وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه الله تعالى: قياس الأشباه، ويسميه أكثر الفقهاء: قياس الطرد إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهذا محمول على التهديد فإن الإيمان بهما يوجب ذلك ذلِكَ أي الذي أمرتكم به في هذه الآيات خَيْرٌ لكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩) أي عاقبة لكم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أي يدعون أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وهو القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وهو التوراة يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ أي كثير الطغيان وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أي والحال أنهم قد أمروا في القرآن أن يتبرءوا من الطاغوت وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ بالتحاكم إليه أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً (٦٠) عن الحق والهدى.
قال كثير من المفسرين: خاصم رجل من المنافقين- يقال له: بشر- رجلا من اليهود.
فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم. وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وسبب ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضي بالحق ولا يلتفت إلى الرشوة، واليهودي كان محقا وأن كعبا شديد الرغبة في الرشوة، والمنافق كان مبطلا. وأصرّ اليهودي على قوله بذلك. فذهبا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم لليهودي على المنافق فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر فأتياه فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال: بيني وبينك عمر. فذهبا إليه فأخبره اليهودي بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر حكما على المنافق فلم يرض بحكمهما، فقال للمنافق:
أهكذا؟ فقال: نعم، قال: اصبر إن لي حاجة أدخل بيتي فأقضيها وأخرج إليكما فدخل وأخذ سيفه ثم خرج إليهما فضرب به عنق المنافق حتى برد أي مات وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله. وهرب اليهودي فجاء أهل المنافق فشكوا عمر إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسأل صلّى الله عليه وسلّم عمر عن قصته فقال: إنه رد حكمك يا رسول الله. فجاء جبريل عليه السلام في الحال ونزلت هذه الآية، وقال جبريل: إن عمر هو الفاروق فرق بين الحق والباطل. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «أنت
(١) رواه البخاري في كتاب الأيمان، باب: من مات وعليه نذر، «بما معناه»، والنّسائي في كتاب الحج، باب: تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين، والدارمي في كتاب المناسك، باب:
الحج عن الميت، وأحمد في (م ١/ ص ٢١٢).
«١»، وعلى هذا القول الطاغوت هو كعب بن الأشرف سمي بذلك لشبهه بالشيطان في فرط طغيانه
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي أقبلوا إلى القرآن الذي فيه الحكم وَإِلَى الرَّسُولِ الذي تجب طاعته ليحكم بينكم رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) أي أبصرت المنافقين يعرضون عنك إلى غيرك إعراضا بالكلية فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أي كيف يكون حالهم وقت إصابة المصيبة إياهم بقتل عمر صاحبهم بظهور نفاقهم بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوا من التحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أي ثم جاءك أهل المنافق مطالبين عمر بدمه وقد أهدره الله ويحلفون بالله كذبا للاعتذار، فقالوا: ما أراد صاحبنا المقتول التحاكم إلى عمر إلّا أن يصلح ويجعل الاتفاق بينه وبين خصمه ويأمر كل واحد من الخصمين بتقريب مراده من مراد صاحبه حتى يحصل بينهما الموافقة، وأنت يا رسول الله لا تحكم إلا بالحق المر ولا يقدر أحد على رفع الصوت عندك أُولئِكَ أي المنافقون الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق والغيظ والعداوة فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تقبل منهم ذلك العذر ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم، فإن من هتك ستر عدوه فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي بإظهار العداوة فيزداد الشر، وإذا تركه على حاله بقي في وجل فيقل الشر. وَعِظْهُمْ أي ازجرهم عن النفاق والكيد والحسد والكذب وخوفهم بعذاب الآخرة وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي خاليا بهم ليس معهم غيرهم لأن النصيحة على الملأ تقريع في السر محض المنفعة قَوْلًا بَلِيغاً (٦٣) أي مؤثرا وهو التخويف بعقاب الدنيا بأن يقول لهم: إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله ولا فرق بينكم وبين سائر الكفار، وإنما رفع الله السيف عنكم لأنكم أظهرتم الإيمان فإن واظبتم على هذه الأفعال القبيحة ظهر لكل الناس بقاؤكم على الكفر وحينئذ يلزمكم السيف. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ أي وما أرسلنا من رسول إلا ليؤمر الناس بطاعته بتوفيقنا وإعانتنا فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله تعالى وهذه الآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعا في تلك الشريعة ومتبوعا فيها ودالة على أن الأنبياء معصومون عن المعاصي والذنوب، ودالة على أنه لا يوجد شيء من الخير والشر والكفر والإيمان، والطاعة والعصيان إلا بإرادة الله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بترك طاعتك جاؤُكَ وبالغوا في التضرع إليك لينصبوك شفيعا لهم فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ أي أظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بأن يسأل الله أن يغفر الذنوب لهم عند توبتهم لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً أي
قال عطاء ومجاهد والشعبي: إن هذه الآية في قصة اليهودي والمنافق فهذه الآية متصلة بما قبلها، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: نزلت في الزبير ابن العوام وحاطب بن أبي بلتعة اختصما في ماء فقضى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للزبير وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ أي ولو أوجبنا عليهم قتل أنفسهم أو الخروج عن أوطانهم في توبتهم كتوبة بني إسرائيل ما فعلوا أحد الأمرين بطيبة النفس إلّا قليل منهم وهم المخلصون من المؤمنين. والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس لما فعله إلا الأقلون وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم بل اكتفينا منهم في توبتهم بالتسليم لحكمك فليقبلوه بالإخلاص حتى ينالوا خير الدارين.
روي أن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ناظر يهوديا، فقال اليهودي: إن موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه فقال: يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك.
وروي أن ابن مسعود وعمار بن ياسر فالأمثل ذلك فنزلت هذه الآية
وعن عمر بن الخطاب أنه قال: والله لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يأمرنا بذلك قال صلّى الله عليه وسلّم وأشار إلى عبد الله بن رواحة: «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا في أولئك القليل»
«١». أخرجه ابن أبي حاتم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أي المنافقين فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي ما يكلفون به لَكانَ أي فعلهم ذلك خَيْراً لَهُمْ أي لحصل لهم خير الدنيا والآخرة وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) لهم على الإيمان وسميت أوامر الله مواعظ لاقترانها بالوعد والترغيب وَإِذاً لو فعلوا ما أمروا به لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أي
قال صلّى الله عليه وسلّم: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
«١». وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) أي طريقا من عرصة القيامة إلى الجنة وحمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى، لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الأجر والدين الحق مقدم على الأجر، والطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إنما يحتاج إليه بعد استحقاق الأجر وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ بأن يعرف أنه إله ويقر بجلاله وعزته واستغنائه عمن سواه وَالرَّسُولَ أي بأن ينقاد انقيادا تاما لجميع الأوامر والنواهي فَأُولئِكَ أي المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي فإنهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا وإذا أرادوا الزيادة والتلاقي قدروا على الوصول إليهم بسهولة مِنَ النَّبِيِّينَ محمد صلّى الله عليه وسلّم وغيره وَالصِّدِّيقِينَ أي السابقين إلى تصديق الرسل فصاروا في ذلك قدوة لسائر الناس وهم أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وَالشُّهَداءِ أي الذين يشهدون بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان فالشهداء هم القائمون بالقسط، وأما كون الإنسان مقتول الكافر فليس فيه زيادة شرف لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق، ومن لا منزلة له عند الله والمؤمنون قد يقولون: اللهم ارزقنا الشهادة فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا من الله ذلك القتل فإنه غير جائز لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر وَالصَّالِحِينَ في الاعتقاد والعمل فإن الجهل فساد في الاعتقاد والمعصية فساد في العمل وهم الصارفون أعمارهم في طاعة الله وأموالهم في مرضاته وكل من كان اعتقاده صوابا وعمله غير معصية فهو صالح، ثم إن الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل وهذه الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل، وأخرى بالسيف، وقد يكون الصالح غير موصوف بكونه قائما بهذه الشهادة فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا، ولا عكس فالشهيد أشرف أنواع الصالح، ثم الشهيد قد يكون صديقا وقد لا. ومعنى الصديق هو الذي كان أسبق إيمانا من غيره وكان إيمانه قدوة لغيره فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا ولا عكس فثبت أن أفضل الخلق الأنبياء وبعدهم
الصديقون وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) أي ما أحسن أولئك المذكورين صاحبا في الجنة وحسن لها حكم نعم والمخصوص بالمدح محذوف
روى جمع من المفسرين أن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان شديد الحب لرسول الله قليل الصبر عنه فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن حاله. فقال: يا رسول الله ما بي وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين وأنا في درجات العبيد فلا أراك، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية.
وقال الشعبي جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبكي فقال: «ما يبكيك يا فلان؟» فقال: يا رسول الله بالله الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إليّ من نفسي وأهلي ومالي وولدي، وإني لأذكرك وأنا في أهلي فيأخذني مثل الجنون حتى أراك وذكرت موتي وأنك ترفع مع النبيين وإني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك فلم يرد النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ أي خذوا سلاحكم واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي انهضوا إلى قتال عدوكم واخرجوا للحرب جماعات متفرقة سرية بعد سرية أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) أي مجتمعين كوكبة واحدة وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي وإن من عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن يتثاقلن وليتخلفن عن القتال وهم ضعفة المؤمنين والمنافقون فَإِنْ أَصابَتْكُمْ يا معشر المجاهدين مُصِيبَةٌ كقتل وهزيمة وجهد من العيش. قالَ أي من يبطئ فرحا شديدا بتخلفه وحامدا لرأيه قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بالقعود إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) أي حاضرا في المعركة فيصيبني ما أصابهم وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ كفتح وغنيمة مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ أي من يبطئ ندامة على قعوده كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ وهذه الجملة اعتراض بين الفعل ومفعوله. والمراد التعجب كأنه تعالى يقول: انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أيها المؤمنون وبين المنافق صلة في الدين ومعرفة في الصحبة ولا مخالطة أصلا يا لَيْتَنِي كُنْتُ غازيا مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) أي فأصيب غنائم كثيرة وآخذ حظا وافرا. وقيل: الجملة التشبيهية حال من ضمير ليقولن أي ليقولن مشبها بمن لا معرفة بينكم وبينه.
وقيل: هي داخلة في المقول أي ليقولن المثبط للمثبطين من المنافقين، وضعفه المؤمنين: كأن لم تكن بينكم وبين محمد معرفة في الصحة حيث لم يستصحبكم في الغزو حتى تفوزوا بما فاز محمد يا ليتني كنت معهم وغرض المثبط إلقاء العداوة بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان الَّذِينَ يَقُولُونَ في مكة رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وهي مكة وكون أهلها موصوفين بالظلم لأنهم كانوا مشركين وكانوا يؤذون المسلمين ويوصلون إليهم أنواع المكاره وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) أي ولّ علينا واليا من المؤمنين يقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا، وانصرنا على أعدائنا برجل يمنعنا من الظالمين. فأجاب الله دعاءهم واستنقذهم من أيدي الكفار لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميرا لهم. وكان الولي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والنصير عتاب بن أسيد، وكان ابن ثماني عشرة سنة فكان ينصر المظلومين على الظالمين، وينصف الضعيف من القوي والذليل من العزيز. الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لغرض نصرة دين الله وإعلاء كلمته وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أي في سبيل غير رضا الله فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أي جند الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ أي إن صنع الشيطان في فساد الحال على جهة الحيلة كانَ ضَعِيفاً (٧٦) لأن الله ينصر أولياءه والشيطان ينصر أولياءه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه. أضعف من نصرة الله لأوليائه ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر، وإن كانوا حال حياتهم في غاية الفقر! وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم؟! أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
نزلت هذه الآية في جماعة من الصحابة: عبد الرحمن بن عوف الزهري، وسعد بن أبي وقاص
«١».
فلما هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وأمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم لا شكا في الدين بل نفورا عن الأخطار بالأرواح، وخوفا من الموت بموجب الجبلة البشرية وذلك قوله تعالى:
فَلَمَّا كُتِبَ أي فرض عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي الجهاد في سبيل الله إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ كطلحة بن عبيد الله التيمي يَخْشَوْنَ النَّاسَ أي أهل مكة كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كخوفهم من الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أي بل أكثر خوفا لما كان من طبع البشر من الجبن لا للاعتقاد. ثم باتوا وأهل الإيمان يتفاضلون فيه وَقالُوا خوفا من الموت لا لكراهتهم أمر الله بالقتال وهذا عطف على جواب «لما» وهو «إذا» فإنها فجائية مكانية رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ في هذا الوقت لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي هلا عافيتنا من بلاء القتال إلى موتنا بآجالنا. وهذا القول استزادة في مدة الكف ويجوز أن يكون هذا مما نطقت به ألسنة حالهم من غير أن يتفوهوا به صريحا قُلْ جوابا لهذا السؤال عن حكمة فرض القتال عليهم من غير توبيخ لأنه لا للاعتراض لحكمه تعالى وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي مَتاعُ الدُّنْيا أي منفعة الدنيا قَلِيلٌ لأنه سريع التقضي وشيك الانصرام
وإن أخرتم إلى ذلك لأجل وَالْآخِرَةُ أي ثواب الآخرة لا سيما المنوط بالقتال خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى الكفر والفواحش. لأن نعم الآخرة كثيرة ومؤبدة وصافية عن كدورات القلوب ويقينية بخلاف نعم الدنيا فإنها مشكوكة عاقبتها في اليوم الثاني ومشوبة بالمكاره وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧).
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالغيبة. والباقون بالخطاب أي لا تنقصون من أجور أعمالكم قدر خيط في شق النواة. أو المعنى لا ينقصون من ثواب حسناتهم أدنى شيء أَيْنَما تَكُونُوا في الحضر أو السفر في البر أو البحر يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ الذي تكرهون القتال لأجله زعما منكم أنه من محاله وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي حصون مرتفعة قوية بالجص وَإِنْ تُصِبْهُمْ أي اليهود والمنافقين حَسَنَةٌ أي خصب ورخص السعر وتتابع الأمطار يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما ظهر عناد اليهود والمنافقين على دعائه إياهم إلى الإيمان أمسك الله عنهم بعض الإمساك، كما جرت عادته تعالى في جميع الأمم. فعند هذا قالوا: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا ومزارعنا
فالنعمة منه تعالى بطريق التفضل، والبلية منه تعالى بطريق العقوبة على ذنوب العباد عدلا منه تعالى. ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي منه تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ أي أيّ شيء أصابك من بلية من البلايا فهي منها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها. وعن عائشة رضي الله عنها ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أي ليس لك إلا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩) على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ. وهذه الآية تدل على أنه لا طاعة إلّا لله ألبتة لأن طاعة الرسول لا تكون إلا طاعة لله. وقال الشافعي رضي الله عنه: وهذه الآية تدل على أن كل تكليف كلف الله به عباده في باب الوضوء والصلاة والزكاة، والصوم والحج وسائر الأبواب في القرآن ولم يكن ذلك التكليف مبينا في القرآن فحينئذ لا سبيل لنا إلى القيام بتلك التكاليف إلا ببيان الرسول وإذا كان الأمر كذلك لزم القول بأن طاعة الرسول عين طاعة الله.
قال مقاتل: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله»
«١». فقال المنافقون: لقد قارب هذا الرجل الشرك وهو ينهى أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ أي يقول المنافقون- عبد الله ابن أبي وأصحابه- إذا أمرتهم بشيء: شأننا طاعة أو منا طاعة أو أمرك يا محمد طاعة مر بما شئت نفعله. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي خرجوا من مجلسك بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي تفكر ليلا فريق من المنافقين وهم رؤساؤهم غير الذي تأمر وتكلموا فيما بينهم بعصيانك وتوافقوا عليه وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي ينزل إليك ما يتدبرونه ليلا في جملة ما يوحي إليك فيطلعك على أسرارهم أو يثبت ذلك في صحائف أعمالهم ليجازوا به فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تهتك سترهم ولا تفضحهم إلى أن يستقيم أمر الإسلام وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٨١) أي مفوضا إليه لمن توكل عليه أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أي أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الناطق بنفاقهم وَلَوْ كانَ أي القرآن مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ كما يزعمون لَوَجَدُوا فِيهِ أي القرآن اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع إذ لا علم بالأمور الغيبية ماضية كانت أو مستقبلة لغيره تعالى، وحيث كانت كلها مطابقة للواقع تعين كونه من عنده تعالى. وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ أي وإذا جاء المنافقين خبر بأمر من الأمور سواء كان من باب الأمن أو من باب الخوف أفشوه وكان ذلك سبب الضرر، لأن هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير، ولأن العداوة الشديدة صارت قائمة بين المسلمين والكفار وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث السرايا، فإذا غلبوا أو بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم ثم يتحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيضعفون به قلوب المؤمنين فأنزل الله هذه الآية.
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي ولو ردوا الخبر الذي تحدثوا به إلى الرسول وإلى ذوي العقل والرأي من المؤمنين وهم كبار الصحابة- كأبي بكر، وعمر وعثمان، وعلي- بأن لم يحدّثوا به حتى يكون هؤلاء هم الذين يظهرونه لعلم ذلك الخبر من يستخرجونه من جهة هؤلاء. أي ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلمه هؤلاء المنافقون المذيعون من جانب الرسول ومن جانب أولي الأمر وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ببعثه محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنزال القرآن لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ وكفرتم بالله إِلَّا قَلِيلًا (٨٣) منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان وما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهم فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله.
هذا معطوف على قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ [النساء: ٧٦]. لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي إلا فعل نفسك فلا يضرك مخالفتهم فتقدم أنت إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك.
واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول من فروض الكفايات فما لم يغلب على الظن أنه يفيد لم يجب بخلاف الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنه على ثقة من النصر والظفر. وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي على الخروج معك بذلا للنصيحة فإنهم آثمون بالتخلف لأن القتال كان مفروضا عليهم إذ ذاك، فإن فرضه في السنة الثانية وهذه القضية في الرابعة،
كما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم. فنزلت هذه الآية عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أن يمنع صولة كفار مكة، وعسى وعد من الله تعالى واجب الإنجاز وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أي قوة من قريش وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (٨٤) أي تعذيبا مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها أي من ثوابها ويندرج فيها الدعاء للمسلم فإنه شفاعة إلى الله تعالى وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي نصيب من وزرها مساو لها في المقدار. والغرض من هذه الآية بيان أنه صلّى الله عليه وسلّم لما حرضهم على الجهاد فقد استحق بذلك التحريض أجرا عظيما. ولو لم يقبلوا أمره صلّى الله عليه وسلّم لم يرجع إليه من عصيانهم شيء من الوزر، وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة ولم يرغبهم في المعصية ألبتة فحقا يرجع إليه من طاعتهم أجر ولا يرجع إليه من معصيتهم وزر وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) أي قادرا على إيصال الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه وحافظا للأشياء شاهدا عليها فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل فيجازي كلا بما علم منه وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها أي إذا سلم عليكم فردوا على المسلم ردا أحسن من ابتدائه أو أجيبوا التحية بمثلها ومنتهى الأمر في السلام أن يقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بدليل أن هذا القدر هو الوارد في التشهد فالأحسن هو أن المسلم إذا قال: السلام عليك زيد في جوابه الرحمة، وإن ذكر السلام والرحمة في الابتداء زيد في جوابه البركة، وإن ذكر الثلاثة في الابتداء أعيدت في الجواب، ورد الجواب واجب على الفور وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين والأولى للكل أن يذكروا الجواب إظهارا للإكرام ومبالغة فيه وترك الجواب إهانة، والإهانة ضرر، والضرر حرام. وإذا استقبلك واحد فقل: سلام عليكم واقصد الرجل والملكين فإنك إذا سلمت عليهما ردا السلام عليك ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب الله.
وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم»
«١».
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تبدأ
«١». وعن أبي حنيفة أنه قال: لا يبدأ اليهود بالسلام في كتاب ولا في غيره. وعن أبي يوسف قال: لا تسلم عليهم ولا تصافحهم، وإذا دخلت عليهم فقل: السلام على من اتّبع الهدى. ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة وأما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء: ينبغي أن يقال: وعليك. ثم هاهنا تفريع وهو أنا إذا قلنا لهم: وعليكم السلام فهل يجوز ذكر الرحمة؟ فقال الحسن: يجوز أن يقال للكافر:
وعليكم السلام، لكن لا يقال: ورحمة الله لأنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني وعليكم السلام ورحمة الله، فقيل له في ذلك، فقال: أليس في رحمة الله يعيش. وقيل: التحية بالأحسن عند كون المسلم مسلما ورد مثلها عند كونه كافرا. والمقصود من هذه الآية: الوعيد، فإن الواحد من جنس الكفار قد يسلم على الرجل المسلم، ثم إن ذلك المسلم يتفحص عن حاله بل ربما قتله طمعا منه في سلبه فالله تعالى زجر عن ذلك فإياكم أن تتعرضوا له بالقتل إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) أي محاسبا على كل أعمالكم وكافيا في إيصال جزاء أعمالكم إليكم فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف. وهذا يدل على شدة الاعتناء بحفظ الدماء اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ وخبر. قال بعضهم: كأنه تعالى يقول من سلم عليكم فاقبلوا سلامه وأكرموه بناء على الظاهر فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلّا هو وإنما ينكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي والله ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي يوم القيامة وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧) وهذا استفهام على سبيل الإنكار.
والمقصود منه بيان أنه يجب كونه تعالى صادقا، وأن الكذب والخلف في قوله تعالى محال فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ أي ما لكم يا معشر المؤمنين صرتم في أمر المنافقين فرقتين وهو استفهام على سبيل الإنكار. أي لم تختلفون في كفرهم مع أن دلائل كفرهم ونفاقهم ظاهرة جلية. فليس لكم أن تختلفوا في كفرهم بل يجب أن تقطعوا به. نزلت هذه الآية في عشرة نفر قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مسلمين فأقاموا بالمدينة ما شاء الله ثم قالوا: يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فائذن لنا فيه، فأذن لهم. فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فتكلم المؤمنون فيهم. فقال بعضهم: لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما
(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب: في السلام على أهل الذمة، ومسلم في كتاب السلام، باب: ١٤، والترمذي في كتاب الاستئذان، باب: ١٢، وابن ماجة في كتاب الأدب، باب: السلام على أهل الذمة، وأحمد في (م ٢/ ص ٢٦٣).
اعلم أن الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
وقال المحققون: الهجرة في سبيل الله عبارة عن ترك منهيات الله وفعل مأموراته وذلك يشمل مهاجرة دار الكفر، ومهاجرة شعار الكفر وإنما قيد الله تعالى الهجرة بكونها في سبيل الله لإخراج الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام لغرض من أغراض الدنيا. فإنما المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان والهجرة ولزموا مواضعهم خارجا عن المدينة فَخُذُوهُمْ أي فأسروهم إذا قدرتم عليهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي في الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ في هذه الحالة وَلِيًّا يتولى شيئا من مهماتكم وَلا نَصِيراً (٨٩) ينصركم على أعدائكم إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ أي ينتهون إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي إلا من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في حق هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك المدلجي وبني خزيمة بن عامر بن عبد مناف. وفي هذه الآية بشارة عظيمة لأهل الإيمان لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين فبأن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى. أَوْ إلا الذين جاؤُكُمْ حَصِرَتْ أي ضاقت صُدُورُهُمْ عن المقاتلة فلا يريدون أَنْ يُقاتِلُوكُمْ لأنكم مسلمون وللعهد أَوْ لا يريدون أن يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ لأنهم أقاربهم فهم لا عليكم ولا لكم. أي لما أمر الله بأخذ الكفار وقتلهم استثنى من المأمور فريقين أحدهما من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين والآخر من أتى المؤمنين وكف عن قتال
الفريقين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ببسط صدورهم
سَتَجِدُونَ عن قريب آخَرِينَ أي قوما من المنافقين غير من سبق وهم قوم من أسد وغطفان كانوا مقيمين حول المدينة فإذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا. وقالوا لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا على دينكم- ليأمنوا من قتال المسلمين- وإذا رجعوا إلى قومهم كفروا أو نكثوا عهودهم- ليأمنوا من قومهم- حتى كان الرجل منهم يقول له قومه: بماذا أسلمت؟ فيقول:
آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء، كما قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ أي يأمنوا من قتالكم بإظهار الإسلام عندكم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ أي من بأسهم بإظهار الكفر إذا رجعوا إليهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أي كلما دعوا إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها أي قلبوا في الفتنة أقبح قلب وكانوا فيها شرا من كل عدو شرير. أي كلما دعاهم قومهم إلى الكفر وقتال المسلمين رجعوا إليه وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين لأن من وقع في شيء منكوسا يتعذر خروجه منه فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي فإن لم يتركوا قتالكم ولم يطلبوا الصلح منكم ولم يكفروا أيديهم عن قتالكم فخذوهم أي وأسروهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم أي وجدتموهم في الحل والحرم وَأُولئِكُمْ أي أهل هذه الصفة جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١) أي جعلنا لكم على جواز قتل هؤلاء حجة واضحة وهي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بأهل الإسلام أو جعلنا لكم عليهم تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً أي ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألبتة إلا عند الخطأ وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفار أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا فههنا يجوز قتله ولا شك أن هذا خطأ فإنه ظن أنه كافر مع أنه غير كافر.
روي أن عياش بن أبي ربيعة أسلم في مكة وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليها، وتحصن في أطم من آطامها خوفا من قومه، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل بن هشام، والحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه، فقال أبو جهل: أليس إن محمدا يأمرك ببر الأم؟ فانصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك. فرجع إلى مكة فلما دنوا من مكة قيدا يديه ورجليه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة، فلما دخل على أمه حلفت لا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول فتركوه موثوقا مطروحا في الشمس ما شاء
فالأول: خطأ في الفعل.
والثاني: خطأ في القصد.
والثالث: خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب ولذلك سمي شبه العمد فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي فعليه إعتاق نسمة محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة ودية مؤداة إلى ورثة المقتول يقتسمونها كسائر المواريث إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي إلا أن يعفو أهل المقتول عن الدية ويتركوها وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله. وفي الحديث «كل معروف صدقة» «١». فَإِنْ كانَ أي المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي من سكان دار الحرب وَهُوَ مُؤْمِنٌ ولم يعلم القاتل بكونه مؤمنا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فالواجب على القاتل بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير الرقبة، وأما الدية فلا تجب إذ لا وراثة بين المقتول وبين أهله لأنهم محاربون كالحرث بن زيد فإنه من قوم محاربين لرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى ليقوم المعتوق به مقام المقتول في المواظبة على العبادات وَإِنْ كانَ أي المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ كفرة بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد مؤقت أو مؤبد فَدِيَةٌ أي فعلى قاتله دية مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي المقتول. وهي ثلث دية المؤمن إن كان نصرانيا أو يهوديا تحل مناكحته، وثلثا عشرها إن كان مجوسيا أو كتابيا لا تحل مناكحته وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ على القاتل فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أي فمن كان فقيرا فعليه ذلك الصيام بدلا عن الرقبة. وقال مسروق: بدلا عن مجموع الكفارة والدية والتتابع واجب حتى لو أفطر يوما وجب الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
روي أن مقيس بن ضبابة الكناني كان قد أسلم هو وأخوه هشام، فوجد مقيس أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر له القصة فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه زبير ابن عياض- الفهري وكان من أصحاب بدر- إلى بني النجار يأمرهم بتسليم القاتل إلى مقيس ليقتص منه إن علموه وبأداء الدية إن لم يعلموه. فقالوا: سمعا وطاعة، فأتوه بمائة من الإبل فانصرفا راجعين إلى المدينة حتى إذا كانا ببعض الطريق تغفل مقيس الكناني رسول سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم الفهري فرماه بصخرة فشدخه، ثم ركب بعيرا من الإبل واستاق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا، فنزلت هذه الآية وهو الذي استثناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح ممن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة خالِداً فِيها حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام. كأنه قيل: فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا فيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أي انتقم منه عطف على مقدر كأنه قيل بطريق الاستئناف: حكم الله بأن جزاءه ذلك وغضب عليه وَلَعَنَهُ أي أبعده عن الرحمة بجعل جزائه ما ذكر وَأَعَدَّ لَهُ في جهنم عَذاباً عَظِيماً (٩٣) لا يقدر قدره.
وقال ابن عباس: ومن يقتل مؤمنا رسول سيدنا رسول الله متعمدا بقتله- أي بأن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان ذلك جارحا أو لم يكن- فجزاؤه جهنم بقتله عامدا عالما بكونه مؤمنا خالدا فيها بشركه وارتداده وغضب الله عليه بأخذه الدية، ولعنه بقتله غير قاتل أخيه، وأعدّ له عذابا عظيما أي شديدا بجراءته على الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي سافرتم في الغزو فَتَبَيَّنُوا أي تحققوا حتى يتبين لكم المؤمن من الكافر. قرأ حمزة والكسائي هنا في الموضعين. وفي الحجرات: فَتَبَيَّنُوا أي اطلبوا التثبت. والمراد في الآية فتأنوا واتركوا العجلة واحتاطوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ أي لا تقولوا بغير تأمل لمن
حياكم بتحية الإسلام أو لمن ألقى إليكم الانقياد بقول: لا إله إلّا الله محمد رسول الله لَسْتَ مُؤْمِناً فتقتلونه تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي حال كونكم طالبين لماله الذي هو سريع النفاد فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي ثواب كثير كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام كنتم أنتم أيضا في أول إسلامكم لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن قيل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم فَتَبَيَّنُوا أي إذا كان الأمر كذلك أي فقيسوا حاله بحالكم وافعلوا به ما فعل بكم في أوائل أموركم من قبول ظاهر الحال من غير
نزلت هذه الآية في شأن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك وكان قد أسلم هو ولم يسلم غيره من قومه فذهبت سرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قومه مع أميرهم غالب بن فضالة فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، فلما تلاحقوا وكبروا، كبر ونزل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم. فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه.
فأخبروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد وجدا شديدا وقال: «قتلتموه إرادة ما معه» فقال: أسامة إنه قال بلسانه دون قلبه. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هلا شققت عن قلبه» ثم قرأ هذه الآية على أسامة فقال: يا رسول الله استغفر لي. فقال: «فكيف وقد تلا لا إله إلا الله؟» قال أسامة: فما زال صلّى الله عليه وسلّم يعيدها حتى وددت إن لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر لي ثلاث مرات وقال: «أعتق رقبة»
«١». لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم الذين هم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ من مرض أو عاهة، من عمي أو عرج أو زمانة أو نحوها. وفي معناه العجز عن الأهبة.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم بالرفع بدل من «القاعدون»، ونافع وابن عامر والكسائي. والباقون بالنصب على الحال من «القاعدون». والأعمش بالجر على الصفة للمؤمنين وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.
قال ابن عباس: أي لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ أولي الضرر دَرَجَةً أي فضيلة في الآخرة لأن المجاهد باشر الجهاد بنفسه وماله مع النية وأولو الضرر كانت لهم نية ولم يباشروا الجهاد، فنزلوا عن المجاهدين درجة وَكُلًّا من المجاهدين والقاعدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي الجنة بإيمانهم وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ في سبيل الله عَلَى الْقاعِدِينَ الذين لا عذر لهم ولا ضرر أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ أي من الله تعالى وَمَغْفِرَةً للذنوب وَرَحْمَةً من العذاب وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن خرج إلى الجهاد رَحِيماً (٩٦) لمن مات على التوبة. وقيل: هذا التفضيل بين المجاهدين والقاعدين غير أولي الضرر فقط. وذلك إما لتنزيل الاختلاف بين التفضيلين منزلة الاختلاف الذاتي، كأنه قيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها وإما
أما النقل: فقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين: ٥، ٦] وذكر بعض المفسرين في تفسير ذلك أن من صار هرما كتب الله له أجر ما كان يعمله قبل هرمه، غير منقوص من ذلك شيئا. وأما العقل: فالمقصود من جميع الطاعات استنارة القلب بنور معرفة الله تعالى فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب، وإن كان القاعد أكثر خطأ من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثوابا.
وقال بعضهم: والمراد بقوله: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ لدفع التكرار هو من كان مجاهدا في كل الأمور بالظاهر والقلب. وهو أشرف أنواع المجاهدة، وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله ولما كان هذا المقام أعلى جعل فضيلته درجات. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي ملك الموت وأعوانه وهم ستة: ثلاثة منهم يلون قبض أرواح المؤمنين. وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار. ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفرة الموجبة للإخلال بأمور الدين فإن هذه الآية نزلت في ناس من مكة قد أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة، فقتلوا يوم بدر مع الكفار منهم: علي بن أمية بن خلف، والحرث بن زمعة، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاص بن منبه بن الحجاج، وأبو قيس بن الفاكه قالُوا أي الملائكة لهم حين القبض: فِيمَ كُنْتُمْ أي في أيّ شيء كنتم من أمر دينكم أي أكننتم في أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أم كنتم مشركين أو فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه. قالُوا معتذرين اعتذارا غير صحيح: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ أي كنا مقهورين في أرض مكة في أيدي الكفار قالُوا أي الملائكة لهم توبيخا مع ضرب وجوههم وأدبارهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أي إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم فبقيتم بين الكفار.
وقال ابن عباس: أي ألم تكن المدينة آمنة فتهاجروا إليها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ في الآخرة جَهَنَّمُ كما أن مأواهم في الدنيا دار الكفر لتركهم الفريضة ف «مأواهم» مبتدأ، و «جهنم» خبره، والجملة خبر ل «أولئك». وهذه الجملة خبران وقوله تعالى: «قالوا فيم كنتم» حال من «الملائكة» أو هو الخبر والعائد منه محذوف أي قالوا لهم: وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) أي بئس مصيرهم جهنم إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ أي الصبيان أو المماليك لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي لا
[الجزء الاول]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقدمةالحمد لله رب العالمين، الذي أنزل كتابه المبين على رسوله محمد الأمين صلّى الله عليه وسلّم، فشرح به الصدور وأمّن به القلوب من الخوف إلا من غضبه عزّ وجلّ، ونوّر به بصائر الصالحين والعارفين وجعله هداية للعالمين.
أما بعد، فالعلم نور والجهل ضلالة، وخير العلوم علم الدين والتفسير، فهو يبيّن ما اشتملت عليه الأحكام الإلهية من الأسرار والبدائع، لذا علينا إخواني أن نأتمر بما أمرنا الله به من تعلّم قراءة وتفسير وفهم كتاب الله المنزّل إلينا وتعليمه وتفهيمه، وهو القائل سبحانه وتعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) [الحديد: ١٦، ١٧]، ففي هذه الآيات الكريمة تنبيه من الله عزّ وجلّ على أنه كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك يليّن القلوب ويذهب قسوتها ويبعدها عن المعاصي والذنوب بالإيمان الحقّ، والله خير المرتجى أن يفعل بنا ما يريد إنه عزيز كريم.
فقد عملت على ضبط نص هذا الكتاب «مراح لبيد»، المؤلّف من جزءين، الذي أتمنّى أن أكون بعملي هذا قد وفّقت إلى ما أصبو إليه من إيضاح وضبط وتعميم للفائدة المرتجاة. راجيا من المولى عزّ وجلّ العفو والمغفرة عمّا به قد أكون قصّرت، ومنك عزيزي القارئ التّفهّم الكامل وجبر العثرات، إذ إن الكمال لله وحده، والعصمة للأنبياء.
محمد أمين الضنّاوي
هو محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا، مفسّر، متصوّف، من فقهاء الشافعية. هاجر إلى مكّة المكرّمة وتوفي بها سنة ١٣١٦ هـ، عرّفه «تيمور» ب «عالم الحجاز»، له مصنّفات كثيرة منها:
- «مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد» مجلدان، وهو تفسيره.
- «مراقي العبودية»، شرح لبداية الهداية للغزالي، فرغ من تأليفه سنة ١٢٨٩ هـ.
- «وقائع الطغيان على منظومة شعب الإيمان».
- «قطر الغيث في شرح مسائل أبي الليث».
- «عقود اللّجين في بيان حقوق الزوجين».
- «نهاية الزين بشرح قرّة العين»، فقه.
- «شرح فتح الرحمن»، تجويد.
- «نور الظلام» في شرح قصيدة «عقيدة العوام» لأحمد المرزوقي.
- «مرقاة صعود التصديق»، تصوّف، في شرح «سلّم التوفيق» لابن طاهر المتوفى سنة ١٢٧٢ هـ.
- «كاشفة السجا، في شرح سفينة النجا»، في أصول الدين والفقه.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته، وذلّ كل شيء لعزّته، واستسلم كل شيء لقدرته، وخضع كل شيء لملكه، فسبحان الله شارع الأحكام، المميز بين الحلال والحرام، أحمده على ما فتح من غوامض العلوم بإخراج الأفهام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أزال بيانه كل إبهام، وعلى آله وأصحابه أولي المناقب والأحلام صلاة وسلاما دائمين ما دامت الأيام.
أما بعد، فيقول أحقر الورى محمد نووي: قد أمرني بعض الأعزة عندي أن أكتب تفسيرا للقرآن المجيد فترددت في ذلك زمانا طويلا خوفا من الدخول في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»
. «١» وفي
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»
«٢».
فأجبتهم إلى ذلك للاقتداء بالسلف في تدوين العلم إبقاء على الخلق وليس على فعلي مزيد ولكن لكل زمان تجديد، وليكون ذلك عونا لي وللقاصرين مثلي وأخذته من الفتوحات الإلهية ومن مفاتيح الغيب ومن السراج المنير، ومن تنوير المقباس، ومن تفسير أبي السعود.
وسميته مع الموافقة لتاريخه «مراح لبيد لكشف معنى قرآن مجيد»، وعلى الكريم الفتّاح اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي. والآن أشرع بحسن توفيقه وهو المعين لكل من لجأ به.
(٢) رواه الترمذي في كتاب التفسير، ترجمة، وأحمد في (م ١/ ص ٢٣٣).
كعياش بن أبي ربيعة بن هشام، وسيدنا عبد الله بن عباس وأمه- اسمها لبابة- كما قال: كنت أنا وأمي ممن عفا الله عنه بهذه الآية فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وذكر العفو بكلمة «عسى» لا بالكلمة الدالة على القطع، لأن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزا عنها، مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة فكانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا لما كان منهم غَفُوراً (٩٩) لمن تاب منهم وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً في المعيشة أي ومن يهاجر في طاعة الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية، وذلك لأن من ذهب إلى بلدة أجنبية فإذا استقام أمره في تلك البلدة ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه ورغمت أنوفهم بسبب ذلك وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي إلى موضع أمر الله ورسوله ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ قبل أن يصل لي المقصد وإن كان خارج بابه فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي فقد وجب أجر هجرته عند الله بإيجابه على نفسه بحكم الوعد والتفضل والكرم، لا بحكم الاستحقاق الذي لو لم يفعل لخرج عن الإلهية وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما كان منه من القعود إلى وقت الخروج رَحِيماً (١٠٠) بإكمال أجر الهجرة، فكذلك كل من قصد فعل طاعة ولم يقدر على إتمامها كتب الله له ثوابها كاملا.
رسولك فمات، فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: توفى بالمدينة لكان أتم أجرا، وضحك المشركون وقالوا: ما أدرك ما طلب فأنزل الله تعالى قوله: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ الآية. قالوا: كل هجرة في غرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد أو نحو ذلك فهي هجرة إلى الله تعالى وإلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أي إذا سافرتم- أيّ مسافرة كانت- فليس عليكم مأثم في أن تردوا الصلاة من أربع ركعات إلى ركعتين إذا كان السفر طويلا لغير معصية. وهو عند الشافعي ومالك أربعة برد وهي مرحلتان، وعند أبي حنيفة ثلاثة أيام بلياليهن.
وروي عن عمر أنه قال: يقصر في يوم تام وبه قال الزهريّ والأوزاعي وقال أنس بن مالك:
قال يعلى بن أمية: قلت لعمر: إنما قال الله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ وقد أمن الناس. قال عمر: قد عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» «١» رواه مسلم
. إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) أي إن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين، وازدادت عداوتهم بسبب شدة العداوة وقصدوا إتلافكم إن قدروا، فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم فعلى هذا رخصت لكم في قصر الصلاة.
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ أي إذا كنت يا أشرف الخلق مع المؤمنين في خوفهم فأردت أن تقيم بهم الصلاة فاجعلهم طائفتين، فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم وَلْيَأْخُذُوا أي الطائفة الذين يصلون معك أَسْلِحَتَهُمْ من التي لا تشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر فإن ذلك أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم فَإِذا سَجَدُوا أي القائمون معك وأتموا صلاتهم بعد نية المفارقة فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أي فلينصرفوا من ورائكم إلى مصاف أصحابهم بإزاء العدو للحراسة، ثم يبقى الإمام قائما في الركعة الثانية وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ في الركعة الثانية ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن يصلوا ركعة ثانية، ثم يسلم الإمام بهم وهذا قول سهل بن أبي حثمة ومذهب الشافعي. وَلْيَأْخُذُوا أي هذه الطائفة حِذْرَهُمْ من العدو وَأَسْلِحَتَهُمْ معهم وإنما ذكر الحذر هنا لأن العدو لم يتنبه للمسلمين في أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة فإذ قاموا في الركعة الثانية ظهر للكفار كونهم في الصلاة فحينئذ ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم. فخص الله تعالى هذا الوضع بزيادة الحذر من الكفار وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً أي تمنوا نسيانكم عن الأسلحة وما تستمتع بها في الحرب إذا قمتم إلى الصلاة فينالوا منكم غرة وينتهزوا فرصة فيشدوا عليكم واحدة في الصلاة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ أي لا وزر عليكم في وضع الأسلحة إن تعذر حملها إما لثقلها بسبب مطر أو مرض أو لإيذاء من في الجنب. وَخُذُوا حِذْرَكُمْ أي احترزوا من العدو ما استطعتم لئلا يهجموا
وقيل: معنى الآية فإذا أردتم الصلاة فصلوا قياما حال اشتغالكم بالمسايفة والمقارعة، وقعودا جاثين على الركب حال اشتغالكم بالمراماة، وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض، فإذا زال الخوف عنكم بانقضاء الحرب فأفضوا ما صليتم في تلك الأحوال. وهذا ظاهر على مذهب الشافعي من إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسايفة إذا حضر وقتها وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء.
وقال ابن عباس: أي فإذا فرغتم من صلاة الخوف فصلوا لله قياما للصحيح وقعودا للمريض وعلى الجنوب للجريح والمريض فإذا ذهب منكم الخوف ورجعتم إلى منازلكم فأتموا الصلاة أربعا إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) أي فرضا موقتا وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي لا تعجزوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال. نزلت هذه الآية في شأن بدر الصغرى وذلك لما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طائفة في طلب أبي سفيان وأصحابه فشكوا الجراحات حين رجعوا من أحد إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ أي إن كنتم تتوجعون بالجراح فإنهم يتوجعون بالجراح. فحصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم، فلم يصر خوف الألم مانعا عن قتالكم فكيف صار مانعا لكم عن قتالهم وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ أي وأنتم ترجون من الله ثوابه وتخافون عذبه لأنكم تعبدون الله تعالى، والمشركون يعبدون الأصنام فلا يصح منهم أن يرجوا منها ثوابا أو يخافوا منها عقابا فيجب أن تكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها.
وقرأ الأعرج «أن تكونوا» بفتح الهمزة أي لأن تكونوا. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) أي لا يكلفكم شيئا إلا بما هو عالم بأنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ أي بين طعمة وزيد بن سمين بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما علمك الله في القرآن. وسمي العلم الذي بمعنى الاعتقاد بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن الريب يكون جاريا
فقال: دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نشهد إن اليهودي هو السارق لئلا نفتضح بل عزموا على الحلف فذهبوا وشهدوا زورا، ولم يظهر له صلّى الله عليه وسلّم قادح فيهم فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضرب اليهودي أو بقطع يده لثبوت المال عنده. فأعلمه الله الحال بالوحي فهمّ أن يقضي على طعمة فهرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا ليسرق متاع أهله فوقع عليه فقتله ومات مرتدا في مكة. وَلا تَكُنْ يا أشرف الخلق لِلْخائِنِينَ أي لأجل المنافقين وللذب عنهم وهم طعمة وقومه بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر. كما أخرجه الترمذي من حديث قتادة بن النعمان خَصِيماً (١٠٥) أي مخاصما لمن كان بريئا عن الذنب وهو اليهودي وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ من همك بضرب اليهودي زيد بن سمين تعويلا على شهادتهم لأنهم كانوا في الظاهر مسلمين. فاستغفاره صلّى الله عليه وسلّم بسبب ذلك الهمّ بالحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه وإن كان معذورا عند الله فيه فأمر صلّى الله عليه وسلّم بالاستغفار لهذا القدر فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) أي مبالغا في المغفرة والرحمة لمن يستغفره. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
طعمة ومن عاونه من قومه من
علم كونه سارقا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
(١٠٧) فإن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة، وطلب من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي. وهذا يبطل رسالة الرسول ومن حاول إبطاله ذلك وإظهار كذبه فهو كافر. وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات.
وروي عن عمر أنه أمر بقطع يد السارق فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه. فقال عمر: كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول الأمر. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
أي يستترون منهم حياء وخوفا من ضرر وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
أي ولا يستحيون منه تعالى ولا يخافون من عذابه تعالى وَهُوَ مَعَهُمْ
بعلمه ورؤيته وقدرته إِذْ يُبَيِّتُونَ
أي يقدرون في أذهانهم ما لا يَرْضى
أي الله مِنَ الْقَوْلِ
وهو أن طعمة قال: أرمي اليهودي بأنه هو الذي سرق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها فيقبل الرسول يميني لأني على دينه ولا يقبل يمين اليهودي.
وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
(١٠٨) لا يعزب عنه تعالى شيء ولا يفوت ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
أي أنتم يا قوم طعمة جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
أي هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وأمثاله في الدنيا.
عند تعذيبهم أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
(١٠٩) أي أم من الذي يكون حافظا لهم من عذاب الله وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أي قبيحا ويحزن به غيره كما فعل طعمة من سرقة الدرع لقتادة ومن رمي اليهودي بالسرقة. أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
كالحلف الكاذب ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
بالتوبة الصادقة يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
لذنوبه رَحِيماً
(١١٠) حيث قبل توبته
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
أي ذنبا فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
فلا يتعدى ضرره إلى غيره فليحترز عن إقبال نفسه للعقاب عاجلا وآجلا والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة، ولذلك لم يجز وصف الله تعالى بذلك وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً
بما في قلب عبده عند إقدامه على التوبة حَكِيماً
(١١١) تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب وأن لا يحمل نفسا وازرة وزر نفس أخرى وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
أي صغيرة أو قاصرة على الفاعل، أو ما لا ينبغي فعله بالعمد أو بالخطإ أَوْ إِثْماً
أي كبيرة أو ما يتعدى إلى الغير كالظلم والقتل أو ما يحصل بالعمد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
أي يقذف بذلك الذنب بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
(١١٢) أي فقد أوجب على نفسه عقوبة بهتان عظيم وعقوبة ذنب بيّن.
فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكم وهو بريء منه فصاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم ومعاقب في الآخرة أشد العقاب، فقوله تعالى: بُهْتاناً
إشارة إلى الذم العظيم في الدنيا.
وقوله تعالى: إِثْماً مُبِيناً
إشارة إلى العقاب العظيم في الآخرة وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
بإعلامك ما همّ عليه بالوحي وَرَحْمَتُهُ
بتنبيهك على الحق أو المعنى لولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوة، وبالرحمة وهي العصمة لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
أي لأرادت طائفة من قوم طعمة أن يلقوك في الحكم الباطل وذلك لأن قوم طعمة قد عرفوا أنه سارق، ثم سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يجادل عنه ويبرئه عن السرقة وينسب تلك السرقة إلى اليهودي وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
أي إنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت فيه لأنه تعالى عاصمك ولأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
أي القرآن وَالْحِكْمَةَ
أي علم الشرائع وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من أمور الدين وأسرار الكتاب والحكمة وأخبار الأولين وحيل المنافقين وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
(١١٣) وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف المناقب والفضائل مع أن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا في نجوى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ واجبة أو مندوبة أَوْ مَعْرُوفٍ وهو أصناف أعمال البر كالقرض وإغاثة الملهوف أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ عند وقوع المعاداة بينهم من غير مجاوزة حدود الشرع في ذلك وذلك كما
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف
«١». وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي هذا المذكور من الصدقة وفنون الجميل والإصلاح، أو ذلك الأمر بهذه الأقسام الثلاثة كأنه قيل: ومن يأمر بذلك ويجوز أن يراد بالفعل الأمر، فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر فعل من الأفعال أي ومن يأمر بذلك ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضوان الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) أما إذا أتى بذلك للرياء والسمعة صار من أعظم المفاسد. وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية وتصفية القلب عن داعية الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله.
وقرأ أبو عمرو وحمزة «يؤتيه» بالياء مناسبة للغيب في قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ. والباقون بنون العظمة مناسبة لقوله تعالى الآتي نوله ونصله وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥).
روي أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة ارتد وذهب إلى مكة، ونقب جدار إنسان لأجل السرقة، فتهدم الجدار عليه ومات، فنزلت هذه الآية، ومعناها: ومن يخالف الرسول في الحكم من بعد ما ظهر له بالدليل صحة دين الإسلام ويتبع دينا غير دين الموحدين نتركه إلى ما اختار لنفسه، ونخله إلى ما اعتمد عليه في الدنيا وندخله جهنم في الآخرة وبئس مصيره جهنم. وذلك أن طعمة قد تبين له بما أوحى الله تعالى من أمره- من أنه سارق- ما دله ذلك على صحة نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم فعادى الرسول وأظهر الشقاق وترك دين الإسلام واتبع دين عبادة الأصنام إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إذا مات على الشرك وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي الشرك لِمَنْ يَشاءُ سواء حصلت التوبة أو لم تحصل.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جراءة على الله تعالى، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا وأني لنادم تائب مستغفر فما ترى حالي عند الله تعالى؟ فنزلت هذه الآية. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (١١٦) عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة أما من لم يشرك بالله لم يكن ضلاله بعيدا فلا يصير محروما عن الرحمة، ثم بيّن الله تعالى كون الشرك ضلالا بعيدا فقال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أي ما يعبد المشركون من أهل مكة إلا أوثانا يسمونها باسم الإناث كقولهم: اللات، والعزى، ومناة. واللات: تأنيث العزيز. ومناة: تأنيث المنان. أو لأنهم كانوا يزينونها على هيآت النسوان.
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس».
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الهدى وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أي ألقين في قلوبهم الأماني وهي تورث شيئين:
الحرص، والأمل. وهما يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة، ويلازمان للإنسان.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان: الحرص والأمل»
«١». اه. فالحرص يستلزم ركوب الأهوال فإذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلّا بمعصية الله وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ، فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة وَلَآمُرَنَّهُمْ بالتبتيك أي شق آذان الناقة فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ فإن العرب كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها وَلَآمُرَنَّهُمْ بالتغيير فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ صورة أو صفة كإخصاء العبيد وفقء العيون وقطع الآذان والوشم والوشر، ووصل الشعر. فإن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوروا عين فحلها. ويدخل في هذه الآية التخنث والسحاقات لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا، لكن الفقهاء رخصوا في البهائم للحاجة فيجوز في المأكول الصغير وبحرم في غيره. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) أي بتضييع أصل ماله وهو الدين الفطري كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة- أي دين الإسلام- ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»
«٢». وذلك لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة وطاعة الشيطان تفيد
(٢) رواه البخاري في كتاب القدر، باب: الله أعلم بما كانوا عاملين، ومسلم في كتاب القدر، باب: ٢٢، وأبو داود في كتاب السنّة، باب: في ذراري المشركين، والترمذي في كتاب القدر، باب: ٥، والموطأ في كتاب الجنائز، باب: جامع الجنائز، وأحمد في (م ٢/ ص ٢٣٣).
ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار وجميع الدنيا كذلك أُولئِكَ أي أولياء الشيطان وهم الكفار مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها أي جهنم مَحِيصاً (١٢١) أي معدلا ومهربا وَالَّذِينَ آمَنُوا أي أقروا بالإيمان وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات تصديقا لإقرارهم سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أي ماكثين في الجنة مكثا طويلا لا يخرجون منها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعدهم بذلك الإدخال وعدا لا خلف فيه وحق ذلك حقا.
فالأول: مؤكد لنفسه.
والثاني: مؤكد لغيره. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (١٢٢) أي لا أحد أصدق من الله وعدا وهذا توكيد ثالث، وفائدة هذه التوكيدات لمواعيد الشيطان الكاذبة وترغيب للعباد في تحصيل ما وعده الله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ أي ليس الثواب الذي تقدم الوعد به في قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ بِأَمانِيِّكُمْ يا معشر المؤمنين أن يغفر لكم وإن ارتكبتم الكبائر أي فإنكم تمنيتم أن لا تؤاخذوا بسوء بعد الإيمان ولا أماني اليهود والنصارى فإنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا أو نصارى، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا، وقالوا: لن تمسنا النار إلّا أياما معدودة وليس الأمر كذلك فإنه تعالى يخص بالعفو أو الرحمة من يشاء أي ليس يستحق ذلك الثواب بالأماني، وأنّى يستحق بالإيمان والعمل الصالح. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فالمؤمن يجزى عند عدم التوبة إما في الدنيا بالمصيبة، أو بعد الموت قبل دخول الجنة أو بإحباط ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية، والكافر يجزى في الدنيا بالمحن والبلاء وفي الآخرة دائما.
روي أنه لما نزلت هذه الآية؟ قال أبو بكر الصديق: كيف الصلاح بعد هذه الآية فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض! أليس يصيبك الأذى- أي البلاء- والحزن؟!» قال: بلى، يا رسول الله. قال: «فهو ما تجزون»
«١».
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قرأ هذه الآية فقال:
أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا فبلغ كلامه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبة في
«١».
وعن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أبشروا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلّا جعلها الله له كفارة، حتى الشوكة التي تقع في قدمه»
«٢». وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مجاوزا عن حفظ الله ونصرته وَلِيًّا أي حافظا يحفظه وَلا نَصِيراً (١٢٣) ينصره فشفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى وإذا كان الأمر كذلك فلا ولي لأحد ولا نصير لأحد إلّا الله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي من يعمل بعض الصالحات كائنا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) أي ولا ينقصون قدر منبت النواة من ثواب أعمالهم فإذا لم ينقص الله الثواب فجدير أن لا يزيد في العقاب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن عاصم يدخلون الجنة بالبناء للمفعول وكذلك في سورة «مريم» وفي «حم المؤمن».
قال مسروق: لما نزل قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ. وقال أهل الكتاب للمسلمين: نحن وأنتم سواء. فنزلت هذه الآية وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي لا أحد أحسن دينا ممن عرف ربه بقلبه، وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه وَهُوَ مُحْسِنٌ أي والحال أنه آت بالحسنات تارك للسيئات وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً حال للمتبوع أو للتابع وإنما دعا سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم الخلق إلى دين إبراهيم لأنه اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم ما كان يدعو إلّا إلى الله تعالى وشرعه مقبول عند الكل، لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم. وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (١٢٥).
روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يسمى أبا الضيفان، وكان منزله على ظهر الطريق، يضيف من مر به من الناس. فأصحاب الناس أزمة فاجتمعوا في بابه فحشروا إلى بابه يطلبون الطعام، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر، فقال خليله لغلمانه: لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت ولكن يريدها للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس من الشدة، فرجع غلمانه فمروا ببطحاء أي بأرض ذات حصى فملأوا منها الغرائر حياء من الناس حيث كانت إبلهم فارغة وجاءوا بها إلى منزل إبراهيم وألقوها فيه وتفرقوا وأخبره أحدهم بالقصة، فاغتم لذلك غما شديدا، فغلبته عيناه، وعمدت سارة إلى الغرائر ففتحتها فإذا فيها أجود حوّارى بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء،
(٢) رواه الحميدي في المسند (١١٤٨).
روى مسلم عن عائشة قالت: هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينكحها وينقص صداقها عن عادة نسائها فنهوا عن نكاحهن إلّا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن. قالت عائشة: فاستفتى الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فبين الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بعادتها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها، قال الله تعالى: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يعطوها حقها إلّا وفي من الصداق ويقسطوا لها وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ معطوف على يتامى النساء وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون الأطفال ولا النساء الذين تلي في حقهم قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم.
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: ٢] وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) أي يجازيكم عليه ولا يضيع عند الله منه شيء وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أي إظهار الخشونة في القول أو الفعل أو فيهما أَوْ إِعْراضاً أي سكوتا عن الخير والشر فَلا جُناحَ عَلَيْهِما حينئذ في أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً بأن بذلت المرأة كل الصداق أو بعضه للزوج أو أسقطت عنه مؤنة النفقة أو القسم وكان غرضها من ذلك أن لا يطلقها زوجها. وهذا من جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء مما لم يتقدم ذكره في هذه السورة.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الآية نزلت في ابن أبي السائب كانت له زوجة وله منها أولاد وكانت شيخة فهمّ بطلاقها فقالت: لا تطلقني ودعني أشتغل بمصالح أولادي وأقسم في كل شهر ليالي قليلة. فقال الزوج: إن كان الأمر كذلك فهو أصلح لي فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي «يصلحا» بضم الياء وسكون الصاد، والباقون «يصالحا» بفتح الياء والصاد المشددة الممدودة قالوا: معناه يتوافقا وهو أليق بهذا الموضع وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أي والصلح بين الزوجين خير من سوء العشرة أو من الفرقة أو من الخصومة أو هو خير من الخيور وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ أي جعل الشح حاضرا للأنفس لا يغيب عنها ولا ينفك عنها أبدا فالمرأة تبخل ببذل حقها لزوجها وطمعها يجرها إلى أن ترضى، والرجل يبخل بأن يقضي عمره معها مع دمامة وجهها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمعاشرتها وَإِنْ تُحْسِنُوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن بأن تسووا بين الشابة والعجوز في القسمة والنفقة وَتَتَّقُوا ما يؤدي إلى الأذى والخصومة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى خَبِيراً (١٢٨) وهو يثيبكم عليه.
وروي أن هذه الآية نزلت في عمرة بنت محمد بن مسلمة وزوجها سعد بن الربيع تزوجها وهي شابة فلما علاها الكبر تزوج شابة وآثرها عليها وجفاها فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكت إليه ذلك وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أي لن تقدروا على التسوية بينهن في ميل الطباع وإذا لم تقدروا عليه لم تكونوا مكلفين به وَلَوْ حَرَصْتُمْ أي جهدتم على إقامة العدل في الحب فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إلى التي تحبونها في القسم والنفقة أي إنكم لستم منهيين عن حصول
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الموجودات من الخلائق والخزائن فيهما وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي ولقد أمرنا اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم وأمرناكم يا أمة محمد في كتابكم بطاعة الله وهي وصية الله في الأولين والآخرين فهي شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) أي وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فاعملوا أن لله ما في سماواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده وكان مع ذلك غنيا عن خلقهم وعن عباداتهم ومستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منهم فهو تعالى في ذاته محمود سواء حمدوه أو لم يحمدوه فلا يتضرر بكفرهم ومعاصيهم، كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم، وإنما وصاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته، فهو منزه عن طاعات المطيعين، وعن ذنوب المذنبين فلا يزداد جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي والسيئات وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلائق قاطبة مفتقرون إليه في الوجود وسائر النعم المتفرعة عليه لا يستغنون عن فيضه طرفة عين. فحقه أن يطاع ولا يعصى، ويتقى عقابه ويرجى ثوابه وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٣٢) في تدبير أمور الكل وكل الأمور فلا بد من أن يتوكل عليه لا على أحد سواه إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي إن يشأ إفناءكم بالكلية وإيجاد قوم آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه، يفنكم
بالمرة ويوجد مكانكم قوما خيرا منكم وأطوع لله. وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ أي إهلاككم وتخليف غيركم قَدِيراً (١٣٣) أي إن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلق إرادته باستئصالكم لا لعجزه تعالى عن ذلك مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي من كان يريد بعمله منفعة الدنيا فلا يقتصر عليه وليطلب الثوابين فعند الله ثواب الدارين.
وقال الفخر الرازي: تقرير الكلام، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده الله تعالى وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط. وقال ابن عباس: من كان يريد منفعة الدنيا بعمله الذي
وقرأ عبد الله «إن يكن غني أو فقير» على كان التامة فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا أي لأجل أن تعدلوا. والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل وَإِنْ تَلْوُوا بواوين على قراءة الجمهور أي وإن تحرفوا ألسنتكم عن شهادة الحق.
وقرأ ابن عامر وحمزة «وإن تلوا» بضم اللام وحذف الواو الأولى أي إن تتموا الشهادة وتقبلوا عليها أَوْ تُعْرِضُوا عن أداء الشهادة أصلا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) فيجازي المحسن المقبل والمسيء المعرض. نزلت هذه الآية في مقيس بن حبابة كانت عنده شهادة على أبيه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الماضي والحاضر آمَنُوا في المستقبل بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وهو القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ أي قبل القرآن. أو المعنى يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال، أو يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجملية آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية وهذا خطاب لكافة المسلمين.
وقيل: هو خطاب لمؤمني أهل الكتاب لما أن عبد الله بن سلام وابن أخته سلامة، وابن أخيه سلمة وأسدا وأسيدا بني كعب وثعلبة بن قيس، ويامين بن يامين، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله إنّا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بل آمنوا بالله ورسوله محمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله» «١» فقالوا: لا نفعل فنزلت هذه الآية فآمنوا كلهم
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي ومن يكفر بواحد من ذلك المذكور فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (١٣٦) بحيث يعسر العود من الضلال إلى سواء الطريق إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي إن
لبعض لا يتم أمر محمد فتولوا اليهود فيقولون: إن العزة لهم أَيَبْتَغُونَ أي أيطلب المنافقون عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي عند اليهود القوة فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) أي إن القدرة الكاملة لله وكل من سواه فبإقداره صار قادرا وبإعزازه صار عزيزا. فالعزة الحاصلة للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين لم تحصل إلا من عند الله تعالى فكان الأمر عند التحقيق أن العزة جميعا لله وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المنافقين فِي الْكِتابِ أي القرآن في سورة الأنعام قبل هذا بمكة أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها أي أنه إذا سمعتم آيات الله مكفورا بها ومستهزأ بها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي الكفر والاستهزاء. وذلك قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام: ٦٨] الآية وهذا نزل بمكة لأن المشركين كانوا يخوضون في القرآن ويستهزئون في مجالسهم، ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين والقاعدون معهم والموافقون لهم على ذلك الكلام المنافقون فقال تعالى مخاطبا للمنافقين:
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها أي إذا سمعتم آيات الله حال ما يكفر بها ويستهزأ بها إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أي إنكم أيها المنافقون مثل أولئك الأحبار في الكفر، قال أهل العلم: هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله، وإن لم يباشر كان في الإثم بمنزلة المباشرة أما إذا كان ساخطا لقولهم وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر ليس كذلك. فالمنافقون الذين كانوا يجالسون اليهود وكانوا يطعنون في الرسول والقرآن هم كافرون مثل أولئك اليهود. أما المسلمون الذين كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن فإنهم كانوا باقين على الإيمان فهم كانوا يجالسون الكفار عند الضرورة بخلاف المنافقين فإنهم كانوا يجالسون اليهود مع الاختيار إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ أي منافقي أهل المدينة عبد الله بن أبي وأصحابه وَالْكافِرِينَ أي كفار أهل مكة أبي جهل وأصحابه وكفار أهل المدينة كعب وأصحابه فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) أي كما أنهم اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ
ومنها: أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما. ومنها: أن المسلم لا يقتل بالذمي بدلالة هذه الآية. وقيل: المعنى ليس لأحد من الكافرين أن يغلب المسلمين بالحجة وأن يمحو دولة المؤمنين بالكلية.
وقال ابن عباس: ولن يجعل الله لليهود على المؤمنين دولة دائما إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطال الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه تعالى الدنيوية. والله فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا، وأعدّ لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار. قال جرير: نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن أبي، وأبي عامر بن النعمان.
وقال الزجاج: أي يخادعون رسول الله فيبطنون له الكفر ويظهرون له الإيمان والله مجازيهم بالعقاب على خداعهم. وقال ابن عباس: إنه تعالى خادعهم في الآخرة عند الصراط وذلك أنه تعالى يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم، وبقوا في الظلمة ويبقى نور المؤمنين، فينادون المؤمنين: أنظرونا نقتبس من نوركم. ويقول المؤمنون:
ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ودليل ذلك قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة: ١٧] وَإِذا قامُوا إِلَى
أي أتوا إلى الصلاة مع المؤمنين قامُوا كُسالى
أي متثاقلين متباطئين لأنهم لا يرجعون بها ثوابا ولا يخافون من تركها عقابا يُراؤُنَ النَّاسَ
ليحسبوهم مؤمنين فإنهم لا يقومون إليها إلّا لأجل الرياء والسمعة لا لأجل الدين وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
(١٤٢) أي لا يصلون إلا بمرأى من الناس، وإذا لم يكن معهم أحد لم يصلوا ولا يذكرون الله إلا باللسان فقط مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مترددين بين كفر السر وإيمان العلانية لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي ليسوا مع المؤمنين في السر فيجب لهم ما يجب للمؤمنين، وليسوا مع اليهود في العلانية فيجب عليهم ما يجب على اليهود وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (١٤٣) موصلا إلى الصواب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالسر والعلانية لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أي المجاهرين بالكفر أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين أَتُرِيدُونَ يا معشر المؤمنين الخلص أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) أي أتريدون بذلك أن تجعلوا لأهل دين الله- وهم الرسول وأمته- حجة بينة على كونكم منافقين؟ فإن موالاتهم أوضح أدلة النفاق. وقيل: المعنى يا أيها الذين آمنوا بالعلانية- عبد الله بن أبي وأصحابه- لا تتخذوا اليهود أولياء في التعذر من دون المخلصين أتريدون يا معشر المنافقين أن تجعلوا لرسول الله عليكم عذرا بينا بالقتل؟ أو المعنى أتريدون أن تجعلوا الله عليكم في عقابكم حجة بسبب موالاتكم لليهود إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وهو الطبقة التي في قعر جهنم لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله وخداعهم، ولأنهم لما أظهروا الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين، ثم يخبرون الكفار بذلك، فكانت المحنة تتضاعف من هؤلاء المنافقين لهذه الأسباب جعل الله عذابهم أزيد من عذاب الكفار الخلص وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أي المنافقين نَصِيراً (١٤٥) يخلصهم من عذاب الله، ثم استثنى الله من الضمير المجرور أو من الضمير المستكن في خبر إن بقوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق والقبيح وَأَصْلَحُوا أي أقدموا على الحسن وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ بأن يكون غرضهم من التوبة وإصلاح الأعمال طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ بأن يكون ذلك الغرض خالصا لا يمتزج به غرض آخر فَأُولئِكَ المتصفون بهذه الشروط الأربعة من المنافقين مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي المخلصين الذين لم يصدر عنهم نفاق أصلا منذ آمنوا أي معهم في الدرجات العالية من الجنة وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أي يعطي الله الخلص أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) أي ثوابا وافرا في الجنة ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ف «ما» استفهامية مفيدة للنفي. أي أيعذبكم الله لأجل التشفي من الغيظ أم لطلب النفع أم لدفع الضرر كما هو شأن الملوك؟ وكل ذلك محال في حقه تعالى: وإنما التعذيب أمر يقتضيه كفركم فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب وتقديم الشكر على الإيمان لأن الإنسان إذا نظر في نفسه رأى النعمة العظيمة حاصلة في تخليقها وترتيبها فيشكر شكرا مجملا، ثم إذا تمم النظر في معرفة
في حق من عظم ضرره وكثر مكره فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه ولهذا
قال صلّى الله عليه وسلّم: «اذكروا الفاسد بما فيه كي تحذره الناس»
. وقرأ الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير إلّا من ظلم بالبناء للفاعل. والمعنى لكن من ظلم فاتركوه. وقال الفراء والزجاج: لكن من ظلم نفسه فإنه يجهر بالسوء من القول ويفعل ما لا يحبه الله تعالى هذا إن جعل الاستثناء كلاما منقطعا عما قبله أما إن جعل متصلا فيكون التقدير إلّا من ظلم فإنه يجوز الجهر بالسوء من القول معه وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لقول الظالم أو المظلوم ولفعلهما عَلِيماً (١٤٨) لفعل الظالم والمظلوم ولقولهما فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف بسوء لمستور فإنه يصير عاصيا لله بذلك وهو تعالى سميع لما يقوله عليم بما يضمره إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ في إيصال النفع إلى الخلق أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ كأن تدفعوا الضرر عنهم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا عن المذنبين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى كما قاله الحسن قَدِيراً (١٤٩) أي فهو أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو ذنوب من ظلمك كما قاله الكلبي. وقيل: المعنى إن الله كان عفوا لمن عفا وهو المظلوم قديرا على إيصال الثواب إليه وعقوبة الظالم. وقوله تعالى:
فَإِنَّ اللَّهَ الآية تعليل لجواب الشرط المقدر والتقدير فذلك أولى لكم من تركه لأن الله إلخ.
اعلم أن مواضع الخيرات على كثرتها محصورة في أمرين صدق مع الحق وخلق مع الخلق، فالذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم وهو المشار إليه بقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ. ودفع ضرر عنهم وهو المشار إليه بقوله تعالى: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فدخل في هذين القسمين جميع أنواع الخير وأعمال البر إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ كاليهود فإنهم آمنوا بموسى والتوراة وعزير، وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن. وكالنصارى فإنهم آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن وَيُرِيدُونَ أَنْ
أُولئِكَ الموصوفون بالصفات القبيحة هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي كفرا كاملا ثابتا يقينا لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبي من الأنبياء إلا وقد أخبر قومه بحقيقة دين نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ اليهود وغيرهم عَذاباً مُهِيناً (١٥١) أي شديدا يهانون به وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان به أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ.
وقرأ عاصم في رواية حفص بالياء، والضمير راجع إلى اسم الله. والباقون بالنون وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما فرط منهم رَحِيماً (١٥٢) أي مبالغا في الرحمة عليهم بتضعيف حسناتهم يَسْئَلُكَ يا أشرف الخلق أَهْلُ الْكِتابِ أي أحبار اليهود أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ.
روي أن كعبا وأصحابه وفنحاص قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت رسولا من عند الله فإننا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح أي فلا تبال يا أشرف الخلق بسؤالهم فإنه عادتهم فَقَدْ سَأَلُوا أي اليهود مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ أي أعظم مما سألوك فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي أرناه نره معاينة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي فأحرقتهم النار التي جاءت من السماء بِظُلْمِهِمْ وهو سؤالهم لما يستحيل وقوعه في ذلك الوقت ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عبدوه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الصاعقة وإحياؤهم بعد موتهم ومعجزات موسى التي أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها. فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أي تركنا عبدة العجل ولم نستأصلهم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) أي قهرا ظاهرا عليهم فإنه أمرهم بقتل أنفسهم توبة من عبادة العجل فبادروا إلى الامتثال فقتل منهم سبعون ألفا في يوم واحد وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ أي بسبب ميثاقهم على أن لا يرجعوا عن الدين ليخالفوا فلا ينقضوه فإنهم هموا بنقضه وَقُلْنا على لسان موسى أو على لسان يوشع لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب بيت المقدس أو أريحا سُجَّداً أي مطأطئين الرؤوس وَقُلْنا لَهُمُ على لسان داود لا تَعْدُوا أي لا تظلموا باصطياد الحيتان فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ على الامتثال بما كلفوه مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) أي مؤكدا.
وقال ابن عباس: وهو ميثاق وثيق في محمد صلّى الله عليه وسلّم فَبِما نَقْضِهِمْ ف «ما» مقحمة والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي فعلناهم بسبب نقضهم مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ أي بالمعجزات فمن أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي بلا
نبيا فكذبت به فيقول: آمنت بأنه عبد الله ورسوله. ويقال للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه هو الله وابن الله فيقول: آمنت أنه عبد الله وابنه فأهل الكتاب يؤمنون به ولكن لا ينفعهم ذلك الإيمان وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ أي عيسى عليه السلام عَلَيْهِمْ أي أهل الكتاب شَهِيداً (١٥٩) فيشهد على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم أشركوا به وكل نبي شاهد على أمته فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي فبسبب ظلم عظيم من الذين تابوا من عبادة العجل حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فإن اليهود كانوا كلما فعلوا معصية من المعاصي يحرم الله عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن قبلهم عقوبة لهم. وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) أي وبمنعهم عن دين الله ناسا كثيرا
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ فإن الربا كان محرما عليهم كما هو محرّم علينا وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي بطريق الرشوة وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ أي هيأنا للمصرّين على الكفر من اليهود عَذاباً أَلِيماً (١٦١) سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أي لكن المتمكنون في علم التوراة من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وَالْمُؤْمِنُونَ منهم ومن المهاجرين والأنصار يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وهو القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على سائر الأنبياء من الكتب وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي وأعني المقيمين الصلاة، وهم المؤتون الزكاة. ف «المقيمين» نصب على المدح لبيان فضل الصلاة. وجاء في مصحف عبد الله بن مسعود و «المقيمون الصلاة» بالواو وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري، وعيسى الثقفي، وابن جبير، وعاصم عن الأعمش وعمرو بن عبيد وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
قال أبو السعود: والمراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب أُولئِكَ أي المتصفون بتلك الصفات الجميلة من أهل الكتاب سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) وجملة هذه خبر اسم الإشارة والجملة من المبتدأ والخبر خبر قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ وما عطف عليه والسين لتأكيد الوعد إِنَّا
أي بعد نوح وَكما أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ابني إبراهيم وَيَعْقُوبَ ابن إسحاق وَالْأَسْباطِ أي أولاد يعقوب الاثني عشر فمنهم يوسف نبي رسول باتفاق وفي البقية خلاف وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا أي وكما أعطيناه أباه داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وكان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هي حكم ومواعظ وتسبيح وتقديس، وتحميد وتمجيد وثناء على الله تعالى. وكان داود عليه السلام يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه ويقوم الناس خلف العلماء وتقوم الجن خلف الناس والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه وترفرف الطيور على رؤوس الناس وهم يستمعون لقراءة داود ويتعجبون منها، فلما قارف الخطيئة زال عنه ذلك وَكما أرسلنا رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ أي سميناهم لك في القرآن وعرفناك أخبارهم وما حصل لهم من قومهم مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه السورة أو هذه الآية أو قبل هذا اليوم وَرُسُلًا لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
أي لم نسمهم لك ولم نعرفك أخبارهم. والمعنى إنا أوحينا إليك إيحاء مثل ما أوحينا إلى نوح ومثل ما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده. وآتيناك الفرقان إيتاء مثل ما آتينا داود زبورا وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا آخرين لم نقصصهم عليك من غير تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء وأصل الإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم السلام وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) أي كلمه على التدريج شيئا فشيئا بحسب المصالح بغير واسطة ملك أي أزال الله تعالى عنه الحجاب حتى سمع المعنى القائم بذاته تعالى، لا أنه تعالى أحدث ذلك لأنه تعالى يتكلم أبدا. والمعنى أنه تعالى بعث هؤلاء الأنبياء والرسل، وخصّ موسى عليه السلام بالتكلم معه ولم يلزم من تخصيص موسى بهذا التشريف الطعن في نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام فكذلك لم يلزم من تخصيص موسى بإنزال التوراة عليه دفعة واحدة طعن فيمن أنزل الله عليه الكتاب متفرقا وقد فضل الله تعالى نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بإعطائه مثل ما أعطي كل واحد منهم.
وقرأ إبراهيم ويحيى بن وثاب وكلم الله بالنصب رُسُلًا منصوب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال الموطئة لما بعدها أو على البدلية من رسلا الأول مُبَشِّرِينَ لأهل الطاعة بالجنة وَمُنْذِرِينَ للعصاة بالنار لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ أي معذرة يعتذرون بها بَعْدَ الرُّسُلِ أي بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب. والمعنى لئلا يحتج الناس يوم القيامة على الله في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل فيقولوا: لم لم ترسل إلينا رسولا ولم لم تنزل علينا كتابا؟ فإن الله لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل وإن قبول المعذرة عنده تعالى بمقتضى كرمه ورحمته لعباده وهي بمنزلة الحجة التي لا مرد لها، وله تعالى أن يفعل ما يشاء كيف يشاء وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغالب في أمر من أموره حَكِيماً (١٦٥) في أفعاله فاختلاف الكتب في كيفية النزول وتغايرها في
روي أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال اليهود: نحن لا نشهد لك بذلك، فنزل لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. والمعنى أن اليهود وإن شهدوا بأن القرآن لم ينزل عليك يا محمد من السماء لكن الله يشهد بأنه أنزل عليك، وشهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل عليه صلّى الله عليه وسلّم هذا القرآن البالغ في الفصاحة في اللفظ والشرف في المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته، فكان ذلك معجزا وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي بالرسالة صادقا، ولما كانت شهادته تعالى عرفت بواسطة إنزال القرآن فقال: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أي يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ بأنه في غاية الحسن ونهاية الكمال وهذا مثل ما يقال في الرجل المشهور بكمال الفضل والعلم إذا صنف كتابا واستقصى في تحريره أنه إنما صنف هذا بكمال علمه وفضله. أي إنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب، فيدل ذلك القول على وصف ذلك التصنيف بغاية الجودة ونهاية الحسن فكذا هاهنا وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ بصدقة وإنما تعرف شهادة الملائكة له صلّى الله عليه وسلّم بذلك لأن ظهور المعجز على يده صلّى الله عليه وسلّم يدل على أنه تعالى شهد له بالنبوة وإذا شهد الله له بذلك فقد شهدت الملائكة بذلك بلا شك، لأنه ثبت في القرآن إنهم لا يسبقونه تعالى بالقول. والمعنى يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في ذلك وملائكة السموات السبع والعرش والكرسي يصدقونك في ذلك ومن صدقه الله والملائكة أجمعون لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦) على صحة نبوتك وإن لم يشهد غيره إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزل الله وشهد به وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دين الإسلام من أراد سلوكه وهم اليهود حيث قالوا: ما نعرف صفة محمد في كتابنا وقالوا: لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء. وقالوا:
إن الله ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تنسخ إلى يوم القيامة، وقالوا: إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً (١٦٧) عن الحق والصواب لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالا ويعتقد في نفسه أنه محق، ثم يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه، ثم يبذل غاية ما في طاقته في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا محمدا بكتمان ذكر بعثته وعوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم وماتوا على الشرك لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إلى الجنة يوم القيامة إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ أي جعلهم خالدين في جهنم عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩) أي لا يتعذر عليه شيء فكان إيصال الألم إليهم شيئا بعد شيء إلى غير النهاية يسيرا عليه وإن كان متعذرا على غيره يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ
أي يا أهل مكة قد جاءكم الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن أو متكلما بالدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره من عند ربكم فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أي فآمنوا بالرسول يكن ذلك الإيمان خيرا لكم بما أنتم فيه أي يكن أحمد عاقبة من الكفر وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وإن تكفروا بالرسول فإن الله غني عن إيمانكم، لا يتضرر بكفركم، ولا ينتفع بإيمانكم لأنه مالك السموات والأرض وخالقهما، ومن كان كذلك كان قادرا على إنزال العذاب الشديد عليكم لو كفرتم أو فمن كان كذلك فله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره وحكمه، أو فمن كان كذلك لم يكن محتاجا إلى شيء وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً لا يخفى عليه من أعمال عباده المؤمنين والكافرين شيء حَكِيماً (١٧٠) لا يضيع عمل عامل منهم ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمحسن والمسيء
يا أَهْلَ الْكِتابِ أي الإنجيل من النصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تبالغوا في تعظيم عيسى فإنه ليس بحق كما أن اليهود بالغوا في طعنه حيث قالوا: إنه ابن زانية وكلا طرفي قصدهم ذميم وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي لا تصفوه بما يستحيل اتصافه تعالى به من الاتحاد والحلول في بدن الإنسان أو روحه، واتخاذ الزوجة والولد بل نزهوه عن هذه الأحوال فإن نصارى أهل نجران أربعة أنواع:
ملكانية: وهم الذين قالوا: عيسى والرب شريكان.
ومرقوسية: وهم الذين قالوا: ثالث ثلاثة.
وماريعقوبية: وهم الذين قالوا: عيسى هو الله.
ونسطورية: وهم الذين قالوا: عيسى ابن الله، فأنزل الله فيهم هذه الآيات إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ف «المسيح» مبتدأ و «عيسى» بدل منه أو عطف بيان له و «ابن مريم» صفة له ورسول الله خبر المبتدأ وَكَلِمَتُهُ أي مكون بأمره من غير واسطة أب ولا نطفة أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي أوصل الكلمة إليها بنفخ جبريل وَرُوحٌ مِنْهُ أي وروح صادر من أمر الله فصار ولدا بلا أب وقد جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل وصف بأنه روح وقوله تعالى: مِنْهُ متعلق بمحذوف وقع صفة ل «روح». أي كائنة من عند الله وجعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ جبريل لكون النفخ بأمره تعالى، و «من» ابتدائية لا كما زعمت النصارى من أنها تبعيضية.
حكي أن طبيبا حاذقا نصرانيا جاء للرشيد فناظر علي بن الحسين المروزي ذات يوم فقال له: إن في كتابهم ما يدل على أن عيسى جزء من الله وتلا هذه الآية. فقرأ المروزي وَسَخَّرَ لَكُمْ
[الجاثية: ١٣] فقال إذا يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزاء منه تعالى فانقطع النصراني فأسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا، وأعطى للمروزي عطاء عظيما فَآمِنُوا بِاللَّهِ واعتقدوا ألوهيته وحده وَرُسُلِهِ أجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تصفوا واحدا منهم بالألوهية وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم. ولا تقولوا: إن الله واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ أي انتهوا عن مقالتكم بالتثليث يكن ذلك الانتهاء خيرا لكم إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ
أي منفرد في ألوهيته سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي أسبحه تسبيحا من أن يكون له ولد أو سبحوه تسبيحا من ذلك.
وقرأ الحسن «إن يكون» بكسر الهمزة ورفع الفعل أي سبحانه ما يكون له ولد لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فمن كان مالكا لهما وما فيهما كان مالكا لعيسى ومريم وإذا كانا مملوكين له فكيف يتوهم كونهما له ولدا وزوجة وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٧١) أي ربا للخلق فإنه كاف في تدبير المخلوقات وفي حفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى إثبات إله آخرنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
أي لن يترفع عن أن يكون عبدا له تعالى. أي مقرا بالعبودية لله مستمرا على عبادته وطاعته.
روي أن وفد نجران قالوا: يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول: إنه عبدا لله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«إنه ليس بعار على عيسى أن يكون عبدا لله» قالوا: بلى، فنزلت:
ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ.
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبيدا لله بصيغة التصغير لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
أي ولا يستنكف الملائكة المقربون كحملة العرش أن يقروا بالعبودية لله. أي لن يستنكف المسيح عن عبادة الله تعالى بسبب أنه قادر على الإتيان بخوارق العادات من الإحياء والإبراء وعالم بالمغيبات مخبر عنها وممتاز عن سائر أفراد البشر بالولادة من غير أب وبالرفع إلى السماء فإن الملائكة المقربين أعلى حالا منه في العلم بالمغيبات لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ وأعلى حالا منه في القدرة، لأن أربعة منهم حملوا العرش على عظمته، وأنهم مخلوقون من غير أب وأم ومقارهم السموات العلى، ولا خلاف لأحد في علو درجتهم من هذه الحالات وإنما الخلاف في علوها من حيث كثرة الثواب على الطاعات، ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لن يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يستنكف المسيح عن عبوديته بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
(١٧٢) أي ومن يترفع عن طاعته تعالى ويعد نفسه كبيرا، أي يعتقدها كذلك فإن الله يجمع المترفعين والمعتقدين أنفسهم كبيرة ومقابليهم- وهم غيرهم- إليه تعالى يوم القيامة حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا
روى الشيخان عن جابر بن عبد الله قال: مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر يعوداني ماشيين فأغمي عليّ، فتوضأ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم صبّ علي من وضوئه فأفقت، فإذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي، كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد عليّ شيئا حتى نزلت آية الميراث يَسْتَفْتُونَكَ الآيات.
وروى الطبري عن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآيات قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وهو اسم يقع على الوارث وعلى الموروث، فإن وقع على الوارث فهو من سوى الوالد والولد، وإن وقع على الموروث فهو الذي مات ولا يرثه أحد من الوالدين ولا أحد من الأولاد إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ أي إن مات امرؤ غير ذي ولد ووالد وله أخت شقيقة أو من الأب فللأخت نصف ما ترك بالفرض والباقي للعصبة أولها بالرد إن لم يكن له عصبة وَهُوَ أي المرء الكلالة يَرِثُها أي يرث أخته جميع ما تركت إن فرض موتها مع بقائه إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ذكر أو أنثى فإن كان لها أو له ولد ذكر فلا شيء له أو لها أو ولد أنثى فله أو لها الباقي من نصيبها فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أي فإن كان من يرث بالأخوة أختين شقيقتين، أو من أب فصاعدا فلهما لأكثر الثلثان مما