تفسير سورة البروج

نظم الدرر
تفسير سورة سورة البروج من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة البروج١
مقصودها الدلالة على القدرة على مقصود الانشقاق الذي هو صريح آخرها من تنعيم الولي وتعذيب الشقي٢ في الدنيا ممن لا يمكن في العادة أن يكون عذابه ذلك إلا من الله وحده تسلية لقلوب المؤمنين وتثبيتا٣ لهم على أذى الكافرين٤، وعلى ذلك دل اسمها البروج بتأمل القسم والمقسم عليه وما هدى ذلك السياق إليه٥ ﴿ بسم الله ﴾ الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم الخلائق عدلا وحلما ﴿ الرحيم* ﴾ الذي خص أولياءه بإتمام النعمة عليهم عينا كما أظهره رسما.
١ الخامسة والثمانون من سور القرآن الكريم، مكية، وعدد آيها ٢٢..
٢ من ظ و م، وفي الأصل: عذابه..
٣ من ظ و م، وفي الأصل: تنبيها..
٤ في ظ و م: الكفار..
٥ من ظ و م، وفي الأصل: عليه..

لما ختم تلك بثواب المؤمن وعقاب الكافر والاستهزاء به بعد أن ذكر أنه سبحانه أعلم بما يضمر الأعداء من المكر وما يرومون من الأنكاد للأولياء وتوعدهم بما لا يطيقون، وكانوا قد عذبوا المؤمنين بأنواع العذاب واجتهدوا في فتنة من قدروا عليه منهم، وبالغوا في التضييق عليهم حتى ألجؤوهم إلى شعب أبي طالب وغيره من البروج في البلاد، ومفارقة الأهل والأولاد، ابتدأ هذه بما أوقع بأهل الجبروت
352
ممن تقدمهم على وجه معلم أن ذلك الإيقاع منه سبحانه قطعاً، ومعلم أن الماضين تجاوزوا ما فعل هؤلاء إلى القذف في النار، وأن أهل الإيمان ثبتوا، وذلك لتسلية المؤمنين وتثبيتهم، وتوعيد الكافرين وتوهيتهم وتفتيتهم، فقال مقسماً لأجل إنكارهم وفعلهم في التمادي في عداوة حزب الله فعل المنكر أن الله ينتقم لهم بما يدل على تمام القدرة على القيامة: ﴿والسماء﴾ أي العالية غاية العلو المحكمة غاية الإحكام ﴿ذات البروج *﴾ أي المنازل للكواكب السيارة التي ركبها الله تعالى على أوضاع جعل في بعضها قوة التسبب للإبداء والإعادة بالإنبات وفي بعضها قوة التربية كذلك، وفي الأخرى قوة الاستحصاد بأسباب خفية أقامها سبحانه لا ترونها، غير أنكم لكثرة إلفكم لذلك صرتم تدركون منه بالتجارب أموراً تدلكم على تمام القدرة، فنسبها بعضكم إلى الطبيعة لقصور النظر في أسباب الأسباب وكلال الفكر عن النفوذ إلى نهاية ما تصل إليه الألباب، فاستبدل بالشكر الكفر، واستدل بالآيات على ضد ما تدل عليه لجمود الذهن وانعكاس الفكر، والمراد بها المنازل الاثنا عشر:
353
الحمل - والثور - والجوزاء - والسرطان - والأسد - والسنبلة - والميزان - والعقرب - والقوس - والجدي - والدلو - والحوت - وهي تقطعها الشمس في السنة، أو هي الثمانية والعشرون التي يقطعها القمر في الشهر، وهي منازل الشمس هذه الاثنا عشر بسير القمر في كل واحد منها يومين وثلثاً، فذلك ثمانية وعشرون يوماً ويستسر ليلتين، فذلك شهر، وهو إشارة إلى أن الذي فصل السماء هذا التفصيل وسخر فيها هذه الكواكب لمصالح الإنسان لا يتركه سدىً، بل لا بد من دينونته على ما يفعله من خير وشر شبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارة وتكون فيها الثوابت وعظام الكواكب، سميت بروجاً لظهورها، أو أبواب السماء فإن النوازل تخرج منها، وأصل التركيب للظهور.
ولما كانت هذه الجملة من القسم دالة على البعث قال تصريحاً: ﴿واليوم الموعود *﴾ أي يوم القيامة الذي تحقق الوعد به وثبت ثبوتاً لا بد منه بما دل عليه من قدرتنا في مخلوقاتنا وأنا سببنا له أسباباً هي عتيدة لديكم وأنتم لا ترونها ولا تحسون شيئاً منها ولم تبينها لكم الرسل لقصور عقولكم عنها بأكثر من الدلالة بالأسباب التي ألفتموها
354
على مثلها من غير فرق غير أنه وإن كان العقل لا يستقل به ولا يفقه منه غير السماء للوعد به من الرسل فهو لا يحيله بعد سماعه.
ولما كان الجمع لأجل العرض، وكان العرض لا بد فيه من شهود ومشهود عليهم وجدال على عهود، قال منكّراً للإبهام للتعظيم والتعميم مثل ﴿علمت نفس ما أحضرت﴾ [التكوير: ١٤] :﴿وشاهد﴾ أي كريم من الأولياء ﴿ومشهود *﴾ أي في نفسه من الأعيان والآثار الهائلة، أو عليه فإنه يوم تشهده جميع الخلائق، ويحضر فيه من العجائب أمور يكل عنها الوصف، ويحضره الأنبياء الشاهدون وأممهم المشهود عليهم، ولا تبقى صغيرة من الأعمال ولا كبيرة إلاّ أحصيت، وفي ذلك أشد وعيد لجميع العبيد.
ولما كان جواب القسم على ما دل عليه مقصود السورة وسوابقها ولواحقها: لنثوبن الفريقين الأولياء والأعداء، ولندينن كلاًّ بما عمل، دل عليه بأفعاله في الدنيا ببعض الجبابرة فيما مضى، وفيما يفعل بجبابرة من كذب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بادئاً بمن عذب بعذاب الله في القيامة للبداءة في آخر الانشقاق بقسم المكذبين وهم المحدث عنهم، معبراً بما يصلح للدعاء والحقيقة تسلية للمؤمنين وتثبيتاً لهم بما وقع لأمثالهم، وتحذيراً مما كان لأشكالهم: ﴿قتل﴾ أي لعن بأيسر أمر
355
وأسهله من كل لاعن لعناً لا فلاح معه، ووقع في الدنيا أنه قتل حقيقة ﴿أصحاب الأخدود *﴾ أي الخد العظيم، وهو الشق المستطيل في الأرض كالنهر، روي أن ملكاً من الكفار - وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان من حمير - من ملوك اليمن، وكان قبل مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبعين سنة، آمن في زمانه ناس كثير، فخدّ لهم أخدوداً في الأرض وسجره ناراً وعرض من آمن عليه، فمن رجع عن دينه تركه، ومن ثبت - وهم الأغلب - قذفه في ذلك الأخدود فأحرقه.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: وردت هذه السورة في معرض الالتفات والعدول إلى إخبار نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما تضمنته هذه السورة من قصة أصحاب الأخدود، وقد تقدم هذا الضرب في سورة المجادلة وسورة النبأ، وبينا وقوعه في أنفس السور ومتونها وهو أقرب فيما بين السورتين وأوضح - أنتهى.
ولما ذمهم سبحانه وتعالى، بين وجه ذمهم ببدل اشتمال من أخدودهم فقال: ﴿النار﴾ أي العظيمة التي صنعوها لعذاب أوليائنا، وزاد في تعظيمها بقوله: ﴿ذات الوقود *﴾ أي الشيء الذي نوقد به من كل ما يصلح لذلك من الحطب وغيره، وعلق ب «قتل» قوله: ﴿إذ هم﴾ أي بظواهرهم وضمائرهم ﴿عليها﴾ أي على جوانب أخدودها
356
﴿قعود *﴾ أي يحفظونها ويفعلون مما يأمرهم ملكهم في أمرها من إلقاء الناس وغيره فعل القاعد المطمئن الذي ليس له شغل غيرها ﴿وهم على ما يفعلون﴾ أي خاصة بقوة دواعيهم إلى فعله ورغبتهم فيه من الفتنة بالعرض على النار وغيره مكررين ذلك الفعل ﴿بالمؤمنين﴾ أي الراسخين في الإيمان الذي لم يثنهم العذاب عنه ﴿شهود *﴾ أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنه لم يقصر فيما أمره به ويشهدون يوم القيامة بما تشهد به عليهم أيديهم وأرجلهم على أنفسهم بهذا الظلم، ويشهد بعضهم على بعض ويعادي بعضهم بعضاً، ويحيل كل على الآخر طمعاً في النجاة.
357
ولما كان هذا الفعل العظيم لا يكون من عاقل إلا لسبب يليق به، بين أنه إنما هو لسبب يبعد منه، فقال على طريقة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
﴿وما نقموا﴾ أي أنكروا وكرهوا ﴿منهم﴾ من الحالات وكان ديناً لهم ونقصاً فيهم ﴿إلا أن يؤمنوا﴾ أي يجددوا الإيمان مستمرين عليه ﴿بالله﴾ أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال.
357
ولما كان ربما أوهم ترك معالجته سبحانه لهم لكونهم يعذبون من آمن به لأجل الإيمان به ما لا يليق، نفى ذلك بقوله واصفاً له بما يحقق وجوب العبادة له وتفرده بها: ﴿العزيز﴾ أي الذي يغلب من أراد ولا يغلبه شيء، فلا يظن إمكانه من أهل ولايته لعجز، بل هو يبتليهم ليعظم أجورهم ويعظم عقاب أعدائهم ويعظم الانتقام منهم ﴿الحميد *﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال، فهو يثيب من أصيب فيه أعظم ثواب، وينتقم ممن آذاه بأشد العذاب، وقرر ذلك بقوله: ﴿الذي له﴾ أي خاصة ﴿ملك السماوات والأرض﴾ أي على جهة العموم مطلقاً، فكل ما فيهما جدير بأن يعبده وحده ولا يشرك به شيئاً.
ولما قدم سبحانه التحذير بالشاهد والمشهود، وأن الكافرين شهود على أنفسهم، زاد في التحذير بأنه سبحانه أعظم شهيد في ذلك اليوم وغيره فهو لا يحتاج إلى غيره، ولكنه أجرى ذلك على ما نتعارفه فقال: ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة ﴿على كل شيء﴾ أي هذا الفعل وغيره ﴿شهيد *﴾ أي أتم شهادة لا يغيب عنه شيء أصلاً، ولا يكون شيء ولا يبقى إلا بتدبيره، ومن هو بهذه الصفات العظيمة لا يهمل أولياءه أصلاً، بل لا بد أن
358
ينتقم لهم من أعدائه ويعليهم بعلائه، ولذلك قال مستأنفاً جواباً لمن يقول: فما فعل بهم؟ مؤكداً لإنكار الكفار ذلك: ﴿إن الذين فتنوا﴾ أي خالطوا من الأذى بما لا تحتمله القوى فلا بد أن يميل أو يحيل في أي زمان كان ومن أي قوم كانوا ﴿المؤمنين والمؤمنات﴾ أي ذوي الرسوخ في وصف الإيمان.
ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة ولو طال الزمان، عبر بأداة التراخي فقال: ﴿ثم لم يتوبوا﴾ أي عن ذنوبهم وكفرهم. ولما كان سبحانه لا يعذب أحداً إلا بسبب، سبب عن ذنبهم وعدم توبتهم قوله: ﴿فلهم﴾ أي خاصة لأجل كفرهم ﴿عذاب جهنم﴾ أي الطبقة التي تلقى داخلها بغاية الكراهة والتجهم، هذا في الآخرة ﴿ولهم﴾ أي مع ذلك في الدارين لأجل فتنتهم لأولياء الله ﴿عذاب الحريق *﴾ أي العذاب الذي من شأنه المبالغة في الإحراق بما أحرقوا من قلوب الأولياء، وقد صدق سبحانه قوله هذا فيمن كذب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإهلاكهم شر إهلاك مغلوبين مقهورين مع أنهم كانوا قاطعين بأنهم غالبون كما فعل بمن كان قبلهم، فدل ذلك على أنه على كل شيء قدير، فدل على أنه يبدىء ويعيد.
359
ولما ذكر عقاب المعاندين بادئاً به لأن المقام له، أتبعه ثواب العابدين، فقال مؤكداً لما لأعدائهم من إنكار ذلك: ﴿إن الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان ولو على أدنى الوجوه من المقذوفين في النار وغيرهم من كل طائفة في كل زمان ﴿وعملوا الصالحات﴾ تصديقاً لإيمانهم وتحقيقاً له. ولما كان الله سبحانه من رحمته قد تغمد أولياءه بعنايته ولم يكلهم إلى أعمالهم لم يجعلها سبب سعادتهم فلم يقرن بالفاء قوله: ﴿لهم﴾ أي جزاء مقاساتهم لنيران الدنيا من نار الأخدود الحسية التي ذكرت، ومن نيران الغموم والأحزان المعنوية التي يكون المباشر لأسبابها غيره سبحانه فيكون المقاسي لها مع حفظه للدين كالقابض على الجمر ﴿جنّات﴾ أي فضلاً منه ﴿تجري﴾ وقرب منالها بالجار فقال: ﴿من تحتها﴾ أي تحت غرفها وأسرتها وجميع أماكنها ﴿الأنهار﴾ يتلذذون ببردها في نظير ذلك الحر الذي صبروا عليه في الدنيا ويروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان والوجوه الحسان الجالبة للسرور الجالية للأحزان.
ولما ذكر هذا الذي يسر النفوس ويذهب البؤس، فذلكه بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي الدرجة العظيم البركة ﴿الفوز﴾
360
أي الظفر بجميع المطالب لا غيره ﴿الكبير *﴾ كبراً لا تفهمون منه أكثر من ذكره بهذا الوصف على سبيل الإجمال، وذلك أن من كبره أن هذا الوجود كله يصغر عن أصغر شيء منه.
361
ولما كان لا يثيب ويعذب على هذا الوجه إلا من كان في غاية العظمة، قال معللاً لفعله ذلك دالاً بذلك التعلل على ما له من العظمة التي تتقاصر الأفكار دون عليائها، مؤكداً لما للأعداء من الإنكار: ﴿إن بطش ربك﴾ أي أخذ المحسن إليك المدبر لأمرك أعداء الدين بالعنف والسطوة وغاية الشدة ﴿لشديد *﴾ أي شدة يزيد عنفها على ما في البطش من العنف المشورط في تسميته، فهو عنف مضاعف.
ولما كان هذا البطش لا يتأتى إلا لكامل القدرة، دل على كمال قدرته واختصاصه بذلك بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار: ﴿إنه﴾ وزاد التأكيد بمبتدأ آخر ليدل على الاختصاص فقال: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿يبدىء﴾ أي يوجد ابتداء أي خلق أراد على أي هيئة أراد ﴿ويعيد *﴾ أي ذلك المخلوق بعد إفنائه في أي وقت أراده، وغيره لا يقدر على شيء من ذلك، وليس هذا الضمير بفصل لأنه لا يكون إلا والخبر لا يكون إلا معرفة، أو شبيه بها في أنه لا يلحقه «أل» المعرفة مثل خير منك، وأجاز المازني وقوعه قبل المضارع لمشابهته الاسم وامتناع دخول «أل» عليه
361
فأشبه المعرفة، وقال: ولا يكون قبل الماضي لأن الماضي لا يشبه الاسم، قال الرضي: وما قاله دعوى بلا حجة ومثل «ومكر أولئك هو يبور» ليس بنص في كونه فصلاً لجواز كونه مبتدأ بما بعده خبره، ونقض قوله في الماضي بقوله تعالى: ﴿وإنه هو أضحك وأبكى﴾ [النجم: ٤٣].
ولما ذكر سبحانه بطشه، وكان القادر على العنف قد لا يقدر على اللطف، وإن قدر فربما لم يقدر على الإبلاغ في ذلك، وكان لا يقدر على محو الذنوب أعيانها وآثارها على كل أحد بحيث لا يحصل لصاحبها عقاب ولا عتاب من أحد أصلاً إلا من كان قادراً على كل شيء، قال مبيناً لجميع ذلك دليلاً على أنه الفاعل المختار، ومؤكداً لخروجه عن العوائد: ﴿وهو﴾ أي وحده ﴿الغفور﴾ أي المحاء لأعيان الذنوب وآثارها إذا أراد بحيث لا يحصل لمن محا ذنبه كدر من جهة ذلك الذنب أصلاً ﴿الودود *﴾ أي الذي يفعل بمن أراد فعل المحب الكثير المحبة فيجيبه إلى ما شاء ويلقي على صاحب الذنب الذي محاه عنه وداً أي محبة كبيرة واسعة ويجعل له في قلوب الخلق رحمة، ومادة «ود» تدور على الاتساع كما بينته في سورة الروم، وزاد الأمر تأكيداً بذكر ما
362
لا ينازع أصلاً في اختصاصه به تشريفاً له وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات: ﴿ذو العرش﴾ أي العز الأعظم أو السرير الدال على اختصاصه الملك بالملك وانفراده بالتدبير والسيادة والسياسة، الذي به قوام الأمور ﴿المجيد *﴾ أي الشريف الكريم العظيم في ذاته وصفاته الحسن الجميل الرفيع العالي الكثير العطاء - هذا إذا رفع على أنه صفة ل «ذو» وكذا إن جر على أنه صفة للعرش في قراءة حمزة والكسائي.
ولما كان الاختصاص يدل قطعاً على كمال القدرة، أنتج ذكر هذه الاختصاصات قوله: ﴿فعّال﴾ أي على سبيل التكرار والمبالغة ﴿لما يريد *﴾ لا يؤده شيء من الأفعال سواء كانت منسوبة إليه من غير واسطة أو نسبت في الظاهر إلى غيره. ولما تمت الدلالة على أن بطشه شديد، قرره بما وجد من ذلك وذكره به تخويفاً وتسلية له لأن النظر في المحسوسات أمكن في النفوس فقال: ﴿هل أتاك﴾ أي يا أعظم خلقنا ﴿حديث الجنود *﴾ أي اذكر ما أتاك مما حدث لهم من بطشنا وما وقع بهم من سطواتنا لتكذيبهم رسلنا عليهم أفضل الصلاة والسلام بحيث صار حديثاً يتلى، وذكراً بين الخلق لعظمته لا يبلى، والجنود جمع جند بالضم وهو العسكر المعد للقتال والأعوان والمدينة، والكل ناظر إلى النجدة العظيمة والغلبة الزائدة.
ولما كان المعلوم من السياق أن المراد من حديثهم ما حصل لهم
363
من البطش لتكذيب الرسل لا سيما في البعث الذي السياق له، وكان الواقع من بيانه بآيات موسى وصالح عليهما الصلاة والسلام أبين مما وقع بآيات غيرهم ممن تقدم زمنه على هذه الأزمنة، وكانت أمة كل نبي من النبيين وأتباع فرعون تحوي أصنافاً من الخلق كثيرة، حكي أن طليعته يوم تبع بني إسرائيل وغرق كانت ستمائة ألف، أبدل من «الجنود» إعلاماً بأنهم أعداء الله قوله: ﴿فرعون﴾ وكذا أتباعه الذين كانوا أشد أهل زمانهم وأعتاهم وأكثرهم رعونة في دعوى الإلهية منه والتصديق منهم وكان هذا من عماوة قلوبهم مع ظهور علامات الربوبية السماوية والأرضية، والرسوخ في التكذيب والسفه والخفة والطيش مع رؤية تلك الآيات العظيمة على كثرتها وطول زمنها حتى دخل البحر على أمان من الغرق مع أن خطر الغرق به في تلك الحالة لم يكن يخفى على من له أدنى مسكة من عقله فأغرقه الله ومن معه أجمعين ولم يبق منهم أحداً، فلعنة الله عليه وعلى من كان معه من أتباعه وأتباعهم الطائفة الاتحادية العربية الفارضية الذين يكفي في ظهور كفرهم تصويبهم فرعون الذي أجمع على كفره جميع الفرق ﴿وثمود *﴾ الذين حملتهم الخفة
364
على أن عقروا الناقة بعد رؤيتهم إياها تتكون من الصخرة الصماء غير مجوزين أن الذي خرق العادة بإخراجها ذلك يهلكهم في شأنها، وقد جمع سبحانه بهما بين العرب والعجم والإهلاك بالماء الذي هو حياة كل شيء والصيحة التي هي أمارة الساعة، وإنما كانت آياتهما أبين لأن آية ثمود ناقة خرجت من صخرة صماء، ومن آيات موسى عليه الصلاة والسلام إبداع القمل الذي لا يحصى كثرة من الكثبان، وإبداع الضفادع كذلك والجراد وإحياء العصا مرة أخرى، ولا شك عند عاقل أن من قدر على ذلك ابتداء من شيء لا أصل في الحياة فهو على إعادة ما كان قبل ذلك حياً أشد قدرة.
ولما كان التقدير: نعم قد أتاني ذلك وعلمت من خبرهما وغيره أنك قادر على ما تريد، ولكن الكفار لا يصدقونني، عطف عليه قوله: ﴿بل الذين كفروا﴾ أي جاهروا بالكفر من هؤلاء القوم وغيرهم وإن كانوا في أدنى رتبة ﴿في تكذيب *﴾ أي لما رأوا من الآيات لا مستند لهم فيه وهو شديد محيط بهم لاتباعهم أهواءهم وتقليدهم آباءهم، فهم لا يقدرون على الخروج من ذلك التكذيب الذي صار ظرفاً لهم بعد سماعهم لأخبار هؤلاء المهلكين ورؤية بعض آثارهم، وبعد ما أقمت لهم من الأدلة على البعث في هذا القرآن المعجز، ولم يعتبروا
365
بشيء من ذلك لما عندهم من داء الحسد، فحالهم أعجب من حالهم فحذرهم مثل مآلهم.
ولما كان هذا ربما أوهم أن تكذيبهم على غير مراده سبحانه وتعالى، قال دافعاً لذلك مؤكداً قدرته على أخذهم تحذيراً لهم وتسلية لمن كذبوه: ﴿والله﴾ أي والحال أن الملك الذي اختص بالجلال والإكرام ﴿من ورائهم﴾ أي من كل جهة يوارونها أو تواريهم، وذلك كل جهة ﴿محيط *﴾ فهو محيط بهم من كل جهة بعلمه وقدرته، فهو كناية عن أنهم في قبضته لا يفوتونه بوجه كما أنه لا يفوت من صار في القبضة بإحاطة العدو به من غير مانع، فهو سبحانه قادر على أن يحل بهم ما أحل بأولئك، ولعله خص الوراء لأن الإنسان يحمي ما وراءه ولأنه جهة الفرار من المصائب.
ولما كان من تكذيبهم، وهو أعظم تكذيبهم، طعنهم في أعظم آيات القرآن بأن يقولوا: هو كذب مختلق، إنما هو أساطير الأولين، أي أكذوباتهم لا حقائق لما يخبر به مع أنه قد أقام الدليل الأعظم لنفسه بنفسه بما له من الإعجاز على أنه حق، قال معبراً بالضمير إيذاناً بأنه
366
لعظمه في كل قلب لا غيبة له أصلاً، ليس لأحد حديث إلا فيه، بانياً على ما تقديره: ليس الأمر كما يزعم الكفار في القرآن: ﴿بل هو﴾ أي هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ﴿قرآن﴾ أي جامع لكل منقبة جليلة بالغ الذروة العليا في كل شرف ﴿مجيد *﴾ أي شريف كريم ليس فيه شيء من شوائب الذم عزيز عظيم شريف عال جواد حسن الخلال وحيد في نظمه ومعانيه المغيبة والمشاهدة حاو لمجامع الحمد ليس بقول مخلوق ولا هو مخلوق بل هو صفة الخالق بل هو جواد بكل ما يراد منه من المحاسن لمن صدقت نيته وطهرت طويته، وعلت همته وكرمت سجيته، فهو يأبي له مجده أن يلم بساحته طعن بوجه من الوجوه، ومجده تجريب أحكامه من بين عاجل ما شهد وآخل ما علم بعالم ما شهد، فكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي وما شهد له من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه وأشكاله، فكذب من قال إنه شعر أو كهانة أو سحر - أو غير ذلك من الأباطيل.
ولما وصفه في نفسه مما يأبي له لحاق شيء من شبهة، وصف محله في الملأ الأعلى إعلاماً بأنه لا يطرأ عليه ما يغيره فقال: ﴿في لوح﴾
367
وهو كل صفيحة عريضة من خشب أو عظم أو غيرهما ﴿محفوظ *﴾ أي له الحفظ دائماً على أتم الوجوه من كل خلل ومن أن يصل إليه إلا الملائكة الكرام، قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الموت من الأحياء: يعبر عنه تارة باللوح، وتارة بالكتاب المبين، وتارة بإمام مبين، فجمع ما جرى في العالم وما سيجري مكتوب فيه كتباً لا يشاهد بهذه العين، وليس مما نعهده من الألواح، فلوحه تعالى لا يشبه ألواح خلقه كما أن ذاته تعالى لا تشبه ذوات خلقه، ومثاله مثال قلب الإنسان في حفظ القرآن مثلاً كلماته وحروفه، ولو فتش قلبه لم يوجد فيه شيء ولا ينظر ذلك إلا نبي أو ولي يقرب من درجته - هذا معنى كلام الإمام رحمه الله تعالى، وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن فحفظه من التغيير والتبديل والتحريف وكل شبهة وريب في نظمه أو معناه كما أن البروج محفوظة في لوح السماء المحفوظ، بل القرآن بذلك أولى لأنه صفة الخالق في بيان وصفه لما خلق على الوجه الأتم الأعدل لأنه ترجمة ما أوجده الله سبحانه في الوجود، فصح قطعاً أنه لا بد أن يصدق في كل ما أخبر به، ومن أعظمه أنه سبحانه يحشر الناس للدينونة بالثواب والعقاب كما دان من كذب أولياءه في الدنيا
368
بمثل ذلك فأخذ أعداءه وأنجى أولياءه، فرجع الختام منها على المبتدأ، وتعانق الافتتاح بالمنتهى، فاقتضى ذلك تنزيه المتكلم به عن أن يترك شيئاً فضلاً عن الأنفس بغير حفظ وعن كل ما لا يليق، وإثبات الكمالات له والأكمليات بكل طريق - والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وإليه المهرب والمتاب.
369
سورة الطارق
مقصودها بيان مجد القرآن فيب ضصدقه فيب الإخبار بتنعيم أهل الإيمان، وتعذيب أهل الكفران، في يوم القيامة حين تبلى السرائر وتكشف المخبات الضمائر عن مثقال الذر وما دون المثقال، مما دونته الحفطة الكرام في صحائف الأ " مال، بعد استيفاء الآجال، كما قدر في أزل الآزال، من غير استعجال، ولا تأخير عن الوقت المضروب ولا إهمال، واسمها الطارق أدل ما فيها على هذا الموعود الصادق بتأمل القسم والمقسم عليه حسب ما اتسق الكلام إليه) بسم الله (الذي له الكمال كله) الرحمن (الذي وسع الخلائق فضله وعدله) الرحيم (الذي خص أولياءه بتوفيقه فظهر عليهم جوده وإحسانه وكرمهع وفضله.
370
Icon