تفسير سورة البروج

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة البروج من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة البروج
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» : اسم من لا عقل يكتنهه «١»، اسم من لا مثل يشبهه، اسم من لا فهم «٢» يرتقى إليه بالتصوير، اسم من لا علم ينتهى إليه بالتقدير «٣»، اسم من لم يره بصر إلّا واحد- وهو أيضا مختلف فيه «٤»، اسم من لا يجسر أحد أن يتكلّم بغير ما إذن فيه، اسم من لا قطر يحويه، ولا سرّ يخفيه، ولا أحد يصل إلى معرفته إلّا من يرتضيه.
قوله جل ذكره:
[سورة البروج (٨٥) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧)
أراد البروج الاثني عشر «٥».
«وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ» يوم القيامة.
وجواب القسم قوله: «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ».
قوله جل ذكره: «وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ» يقال: الشاهد الله، والمشهود الخلق.
(١) أي يدرك كنهه.
(٢) هكذا في النسختين، ومع ذلك فإننا نرجح أنها ربما كانت في الأصل (من لا وهم... ) فمن أقوال ذى النون: (كل ما تصور في وهمك فالله بخلاف ذلك) الرسالة ص ٤.
(٣) نعرف في الاصطلاح أن (التقدير) لله و (التدبير) للإنسان، ولكن (التقدير) مستعمل هنا خاصا بالإنسان أي أن أحدا لا يستطيع أن (يقدر) الله حق قدره.
(٤) يشير بذلك إلى اختلاف الآراء حول رؤية النبي (ص) ربه ليلة المعراج رؤية بصرية (الرسالة ص ١٧٥). [.....]
(٥) وهي التي تسير الشمس في كل منها شهرا، وهى: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت.
709
ويقال: الشاهد الخلق، والمشهود الله يشهدونه اليوم بقلوبهم، وغدا بأبصارهم.
ويقال: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود القيامة، قال تعالى: «وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» «١»، وقال في القيامة: «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» «٢».
وقيل: الشاهد يوم الجمعة «٣»، والمشهود يوم عرفة.
ويقال: الشاهد الملك الذي يكتب العمل، والشاهد الإنسان يشهد على نفسه، وأعضاؤه تشهد عليه فهو شاهد وهو مشهود.
ويقال: الشاهد يوم القيامة، والمشهود الناس.
ويقال: المشهود هم الأمة لأنه ﷺ يشهد لهم وعليهم.
ويقال: الشاهد هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم.
ويقال: الشاهد الحجر الأسود لأنّ فيه كتاب العهد.
ويقال: الشاهد جميع الخلق يشهدون لله بالوحدانية، والمشهود الله.
ويقال: الشاهد الله شهد لنفسه بالوحدانية، والمشهود هو لأنه شهد لنفسه.
قوله جل ذكره: «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ» أي لعنوا. والأخدود: الحفرة في الأرض إذا كانت مستطيلة، وقصتهم في التفسير معلومة «٤» و «الْوَقُودِ» الحطب.
وهم أقوام كتموا إيمانهم فلمّا علم ملكهم بذلك أضرم عليهم نارا عظيمة، وألقاهم فيها.
(١) آية ٤١ سورة النساء.
(٢) آية ١٠٣ سورة هود.
(٣) خرّج ابن ماجة وغيره رواية عن أبى الدرداء قوله: قال رسول الله (ص) :«أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة».
(٤) قيل هم من السجستان، وقيل من نجران، وقيل من القسطنطينية، وقيل: هم من المجوس. وقيل من اليهود، وقيل من النصارى.
710
وآخر من دخلها امرأة كان معها رضيع، وهمّت أن ترجع، فقال لها الولد: قفى واصبري..
فأنت على الحقّ.
وألقوها في النار، واقتحمتها، وبينما كان أصحاب الملك قعودا حوله يشهدون ما يحدث ارتفعت النار من الأخدود وأحرقتهم جميعا، ونجا من كان في النار من المؤمنين وسلموا.
قوله جل ذكره:
[سورة البروج (٨٥) : الآيات ٨ الى ١٣]
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣)
ما غضبوا منهم إلّا لإيمانهم.
قوله جل ذكره: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» أي أحرقوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا عن كفرهم «فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ» : نوع من العذاب، «وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» : نوع آخر «١».
قوله جل ذكره: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» «ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» : النجاة العظيمة.
«إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» البطش الأخذ بالشدة.
«إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ» يبدئ الخلق ثم يعيدهم بعد البعث.
(١) قد يكون العذاب الأول بالزمهرير في جهنم، والثاني بنار الحريق فكأنهم يعذبون ببردها وحرها والله أعلم.
ويقال: يبدئ بالعذاب ثم يعيد، وبالثواب ثم يعيد.
ويقال: يبدئ على حكم العداوة والشقاوة ثم يعيد عليه، ويبدئ على الضعف ويعيدهم إلى الضعف.
ويقال: يبدى الأحوال السّنيّة فإذا وقعت حجبة يعيد ثانية.
ويقال: يبدى بالخذلان أمورا قبيحة ثم يتوب عليه، فإذا نقض توبته فلأنه أعاد له من مقتضى الخذلان ما أجراه في أول حاله.
ويقال: يبدى لطائف تعريفه ثم يعيد لتبقى تلك الأنوار أبدا لائحة، فلا يزال يبدى ويعيد إلى آخر العمر.
قوله جل ذكره:
[سورة البروج (٨٥) : الآيات ١٤ الى ٢٢]
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)
«الْغَفُورُ» كثير المغفرة، «الْوَدُودُ» مبالغة من الوادّ، ويكون بمعنى المودود فهو يغفر لهم كثيرا لأنه يودّهم، ويغفر لهم كثيرا لأنهم يودّونه.
قوله جل ذكره: «ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ» ذو الملك الرفيع، والمجد الشريف.
«فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» لأنه مالك على الإطلاق فلا حجر عليه ولا حظر.
قوله جل ذكره: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ» الجموع من الكفار.
«فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ» وقد تقدم ذكر شأنهما.
«بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ» «الَّذِينَ كَفَرُوا» يعنى مشركى مكة «فِي تَكْذِيبٍ» للبعث والنشر.
«وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ»
712
عالم بهم.
«بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» مكتوب فيه. وجاء في التفسير: أنّ اللوح المحفوظ خلق من درّة بيضاء، دفّتاه من ياقوتة حمراء عرضها بين السماء والأرض، وأعلاه متعلّق بالعرش، وأسفله فى حجر ملك كريم.
والقرآن كما هو محفوظ في اللوح كذلك محفوظ في قلوب المؤمنين، قال تعالى: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» فهو في اللوح مكتوب، وفي القلوب محفوظ.
713
Icon