تفسير سورة البروج

مراح لبيد
تفسير سورة سورة البروج من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة البروج
مكية، ثنتان وعشرون آية، مائة وتسع كلمات، أربعمائة وثمانية وخمسون حرفا
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) أي ذات المحال الاثني عشر، والطرق التي تسير فيها الكواكب السبعة وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢)، وهو يوم القيامة فإن الله تعالى وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) فالشاهد من يحضر في ذلك اليوم من الخلائق، والمشهود ما في ذلك اليوم من العجائب. قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) وهذا دليل جواب قسم محذوف، والتقدير: أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل: إن الجواب قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: ١٢]. والأخدود شق مستطيل في الأرض كالنهر، وذكر أن طوله أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر ذراعا. وأصحاب الأخدود هم أناس كانوا بمدارع اليمن كما قاله قتادة عن علي، أو هم الحبشة كما قاله الحسن عن علي أيضا. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) من النفط، والزفت، والحطب.
وقرئ بضم الواو بمعنى الاتقاد وقوله: «النار» بدل اشتمال من الأخدود، ثم إن أصحاب الأخدود إما الجبابرة الذين قتلوا المؤمنين، فحينئذ إن قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ إما خبر فالمعنى: أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على القول بأن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم فهم في تلك الحالة كانوا ملعونين، فالمعنى: أنهم خسروا الدنيا والآخرة، أو دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود، وإما المؤمنون المقتولون بالإحراق بالنار.
فيكون قوله تعالى: لعن أصحاب الأخدود خبرا لا دعاء. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) ظرف ل «قتل» أي لعنوا حين كانوا جالسين على شفير النار يعذبون المؤمنين، فإن النار ارتفعت إليهم فهلكوا، أو يقال لعنوا إذ المؤمنون مطرحون على النار، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) أي وهؤلاء الكفار مع ما يفعلون بالمؤمنين من الإحراق بالنار حضور لم تحصل في قلوبهم، شفقة ولا رأفة لغاية قسوة قلوبهم والوقف هنا تام إن جعل جواب القسم قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ بتقدير لقد وجائزا لطول الكلام إن جعل جواب القسم إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: ١٢].
روى مسلم عن صهيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان الملك فيمن قبلكم ساحر فلما كبر قال
616
للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما ليعلمه، وكان في سلوك طريقه راهب فسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب فقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه فشكى ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجرا وقال: اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتل هذه الحية بواسطة رمي الحجر إليها، ثم رمى الحجر فقتلها، ومضى الناس فاشتغل بطريقة الراهب، ثم صار إلى حيث يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: هذا لك إن شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحد إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله تعالى، فأتى الملك فجلس كما
كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟
فقال: ربي قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فغضب فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فأحضر الراهب، فقال له: ارجع عن دينك، فأبى فقد بالمنشار من مفرق رأسه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقال له:
ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام، فقال له: ارجع عن دينك، فأبى، فقال لأصحابه: اذهبوا به فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فاطرحوه إن لم يرجع عن دينه، فذهبوا به وصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل، فسقطوا وهلكوا ونجا ومشى إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله، فقال لأصحابه اذهبوا به إلى البحر فاحملوه في قرقورة «١» فتوسطوا به البحر فاقذفوه إن لم يرجع عن دينه، فذهبوا به فلججوا به ليغرقوه فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا ونجا ومشى إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك فقال:
كفانيهم الله، فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي، وتقول: باسم الله رب هذا الغلام، ثم ترميني به ففعل الملك ذلك فرماه بالسهم فوقع في صدغه فوضع يده عليه، ومات، فقال الناس آمنا برب هذا الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذره، فأمر بأخاديد في أفواه السكك، وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أماه، اصبري فإنك على الحق فاقتحمت»
«٢». وعن ابن عباس قال: كان بنجران بلد باليمن ملك من ملوك
(١) القرقورة: وهي السبغة الطويلة [القاموس المحيط، مادة: قرقر].
(٢) رواه ابن ماجة في كتاب الصيام، باب: صيام العشر، وأحمد في (م ١/ ص ١٥٦).
617
حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرجيل في الفترة قبل أن يولد النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بدا من طاعة أبيه، فجعل يتردد إلى المعلم، وكان في طريقه راهب حسن الصوت، فأعجبه ذلك، فقعد إليه، وسمع كلامه ذاهبا، وراجعا فدعا الناس إلى دين عيسى عليه السلام، فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيره بين النار واليهودية، فأبى إلى أن قال الغلام للملك: إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول، قال: فكيف أقتلك؟ قال: تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي، ففعل الملك، فقتله، فقال الناس: لا إله إلا إله عبد الله بن تامر لا دين إلا دينه، فغضب الملك وأغلق باب المدينة وأخذ أفواه السكك وجعله أخدودا وملأه نارا فمن رجع عن الإسلام تركه، ومن قال ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه، وكان في مملكته امرأة فأسلمت ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها: ارجعي فأبت، فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار، فأبت أخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها: ارجعي فأبت، فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي: يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق، ولا بأس عليك فألقى الصبي في النار وألقيت أمه عقبه. وعن وهب بن منبه: أحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد، ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هاربا واقتحم البحر بفرسه، فغرق. وقال محمد ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر: إن خربة احترقت في زمن عمر، فوجدوا عبد الله بن تامر واضعا يده على ضربة في رأسه إذا أميطت يده عنها أنبعت دما وإذا تركت رجعت إلى مكانها، وفي يده خاتم من حديد فيه ربي الله فبلغ ذلك عمر، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.
وروي عن علي أنه قال: حين اختلفوا في أحكام المجوس: هم أهل كتاب، وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها بعض ملوكهم، فسكر، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول يا أيها الناس إن الله تعالى قد أحل لكم نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول: إن الله قد حرمه، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك، فقالت: أبسط فيهم السوط، ففعل فلم يقبلوا، فقالت: أبسط فيهم السيف ففعل، فلم يقبلوا، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها. فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ
، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا أي وما عابوا من المؤمنين إلا إيمانهم بِاللَّهِ الْعَزِيزِ أي القادر الذي لا يغلب، والقاهر الذي لا يدفع الْحَمِيدِ (٨) أي الذي يستحق الثناء على ألسنة عباده المؤمنين الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وخزائن المطر، والنبات وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) وهذا وعد عظيم للمطيعين ووعيد شديد للمجرمين إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي إن الذين أحرقوهم بالنار كما قاله
618
ابن عباس، ومقاتل أو أن الذين محنوهم في دينهم بالأذية والتعذيب ليرجعوا عنه، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا عن كفرهم وفتنتهم فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) أي فلهم في الآخرة عذاب بسبب كفرهم، وعذاب زائد على عذاب الكفر بسبب إحراق المؤمنين بالنار، أو عذاب برد، وعذاب إحراق، أو فلهم في الآخرة عذاب جهنم، وفي الدنيا عذاب الحريق حيث ارتفعت عليهم نار الأخدود فاحترقوا بها، وكان هؤلاء قوما من نجران، وقيل: من أهل الموصل، وكان ملكهم يسمى يوسف، ويقال له ذو نواس
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من المفتونين وغيرهم لَهُمْ بسبب الإيمان والعمل الصالح جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يتلذذون ببردها ويزول عنهم برؤية ذلك مع رؤية الأشجار جميع الأحزان والمضار ذلِكَ أي حيازتهم للجنات الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) وهو رضا الله تعالى إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ أي أن أخذه بالعذاب لمن لا يؤمن به لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) أي أنه تعالى يخلق خلقه، ثم يفنيهم، ثم يعيدهم أحياء ليجازيهم في القيامة، فذلك الإمهال لهذا السبب لا لأجل الإهمال ومن كان قادرا على الإيجاد والإعادة كان بطشه في غاية الشدة، وَهُوَ الْغَفُورُ لمن تاب من الكفر الْوَدُودُ (١٤) أي المحب لمن أطاع.
ذُو الْعَرْشِ أي خالقه ومالكه.
وقرئ «ذي العرش» على أنه صفة لربك. الْمَجِيدُ (١٥) قرأ حمزة، والكسائي بالجر على أنه صفة للعرش أو لربك، والباقون بالرفع على أنه خبر بعد خبر. قال العلماء: إن مجد الله عظمته بحسب الجود الذاتي، وكمال القدرة، والعلم، والحكمة، ومجد العرش: علوه في الجهة، وعظمة مقداره، وحسن صورته، وتركيبه. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) يدخل أولياءه الجنة لا يمنعه منه مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء، ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة يفعل من هذه الأشياء، ومن غيرها ما يريد على ما يراه لا يعترض عليه معترض، ولا يغلبه غالب. قال الرازي:
«فعال» خبر مبتدأ محذوف وقال الطبري: رفع «فعال» وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب «الغفور الودود». هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) أي قد أتاك يا أشرف الرسل خبر الجموع فرعون وقومه، وثمود، وعرفت ما فعلوا من الكفر والضلال، وما فعل بهم من العذاب، والنكال، فأنذر قومك أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم، «وفرعون»، «وثمود» بدل من «الجنود» فذكر الله تعالى من المتقدمين ثمود ومن المتأخرين فرعون لأن ثمود كانوا في بلاد العرب، وقصتهم عندهم مشهورة، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم فدل بهما على أمثالهما بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) أي ليست جناية قومك مجرد عدم الاتعاظ بما سمعوا من حديث أولئك، بل هم مع ذلك في تكذيب شديد للقرآن الناطق بذلك في أنه قرآن من عند الله تعالى مع ظهور حاله بالبينات الباهرة، والحال أن الله تعالى قادر على
إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم بالقرآن والنبوة وهم في قبضته تعالى كالمحاط إذا أحيط به من ورائه فسد عليه مسلكه فلا يجد مهربا،
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢) أي ليس الأمر كما قالوا، بل هذا القرآن الذي يقرؤه محمد كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى مكتوب في لوح محفوظ من وصول الشياطين إليه، ومن التحريف.
وقرأ نافع «محفوظ» بالرفع على أنه نعت ل «قرآن»، والباقون بالجر على أنه نعت ل «لوح»، وقرئ «قرآن مجيد» بالإضافة أي قرآن رب مجيد، وقرأ يحيى بن يعمر، وابن السميقع «في لوح» بضم اللام وهو الهواء الذي فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح بفتح اللام، وهو عن يمين العرش مكتوب في صدره لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله، وصدق بوعده، واتبع رسله أدخله جنته، وكونه محفوظا إما محفوظ عن أن يمسه إلا المطهرون، أو عن اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة المقربين، أو عن أن يجري عليه تغيير وتبديل، فلما حكم فيه بسعادة قوم وشقاوة قوم وبتأذي قوم من قوم امتنع تغيره وتبدله فوجب الرضا به.
Icon