تفسير سورة القصص

نظم الدرر
تفسير سورة سورة القصص من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

﴿طسم*﴾ مشيراً بالطاء المليحة بالطهر والطيب إلى خلاص بني إسرائيل بعد طول ابتلائهم المطهر لهم عظيم، وبالسين الرامزة إلى السمو والسنا والسيادة إلى أن ذلك يكون بمسموع من الوحي في ذي طوى من طور سيناء قديم، وبالميم المهيئة للملك والنعمة إلى قضاء من الملك الأعلى بذلك كله تام عميم.
ولما كانت هذه إشارات عالية، وما بعدها لزوم نظوم لأوضح الدلالات حاوية، قال مشيراً إلى عظمتها: ﴿تلك﴾ أي الآيات العالمية الشأن ﴿آيات الكتاب﴾ أي المنزل على قلبك، الجامع لجميع المصالح الدنيوية والأخروية ﴿المبين*﴾ أي الفاصل الكاشف الموضح المظهر، لأنه من عندنا من غير شك، ولكل ما يحتاج إليه من ذلك وغيره، عند من يجعله من شأنه ويتلقاه بقبول، ويلقي إليه السمع وهو شهيد؛ ثم أقام الدليل على إبانته. وأنه يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم يختلفون، بما أورد هنا في قصة موسى عليه الصلاة والسلام
234
من الدقائق التي قل من يعلمها من حذاقهم، على وجه معلم بما انتقم به من فرعون وآله، ومن لحق بهم كقارون، وأنعم به على موسى عليه الصلاة والسلام وأتباعه، ولذلك بسط فيها أمور القصة ما لم يبسط في غيرها فقال: ﴿نتلوا﴾ أي نقص قصاً متتابعاً متوالياً بعضه في أثر بعض ﴿عليك﴾ بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام.
ولما كان المراد إنما هو قص ما هو من الأخبار العظيمة بياناً للآيات بعلم الجليات والخفيات، والمحاسبة والمجازاة، لا جميع الأخبار، قال: ﴿من نبأ موسى وفرعون﴾ أي بعض خبرهما العظيم متلبساً هذا النبأ وكائناً ﴿بالحق﴾ أي الذي يطابقه الواقع، فإنا ما أخبرنا فيه بمستقبل إلا طابقه الكائن عند وقوعه، ونبه على أن هذا البيان كما سبق إنما ينفع أولى الإذعان بقوله: ﴿لقوم يؤمنون*﴾ أي يجددون الإيمان في كل وقت عند كل حادثة لثبات إيمانهم، فعلم أن المقصود منها هنا الاستدلال على نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمي بالاطلاع علىلمغيبات، والتهديد بعلمه المحيط، وقدرته الشاملة، وأنه ما شاء كان ولا مدفع لقضائه، ولا ينفع حذر من قدرة، فصح أنها دليل على قوله تعالى آخر تلك ﴿سيريكم آياته فتعرفونها﴾ الآية، ولذلك لخصت رؤوس أخبار القصة، فذكرت فيها أمهات الأمور الخفية ودقائق أعمال
235
من ذكر فيها من موسى عليه الصلاة والسلام وأمه وفرعون وغيرهم إلى ما تراه من الحكم التي لا يطلع عليها إلا عالم بالتعلم أو بالوحي، ومعلوم لكل مخاطب بذلك انتفاء الأول عن المنزل عليه هذا الذكرُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانحصر الأمر في الثاني، يوضح لك هذا المرام مع هذه الآية الأولى التي ذكرتها قوله تعالى في آخر القصة ﴿وما كنت بجانب الغربي﴾ ﴿وما كنت بجانب الطور﴾ واتباع القصة بقوله تعالى: ﴿ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون﴾ فالمراد بهذا السياق منها كما ترى غير ما تقدم من سياقاتها كما مضى، فلا تكرير في شيء من ذلك - والله الهادي.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمن قوله سبحانه ﴿إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها﴾ - إلى آخر السورة من التخويف والترهيب والإنذار والتهديد لما انجرّ معه الإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام سيملك مكة البلدة ويفتحها الله تعالى عليه، ويذل عتاة قريش ومتمرديهم، ويعز أتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن استضعفته قريش من المؤمنين، اتبع سبحانه ذلك بما قصه على نبيه من تطهير ما أشار إليه من قصة بني إسرائيل وابتداء امتحانهم بفرعون، واستيلائه عليهم، وفتكه بهم إلى
236
أن أعزهم الله وأظهرهم على عدوهم، وأورثهم أرضهم وديارهم، ولهذا أشار تعالى في كلا القصتين بقوله في الأولى ﴿سيريكم آياته فتعرفونها﴾ وفي الثانية بقوله: ﴿وترى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون﴾ ثم قص ابتداء أمر فرعون وحذره واستعصامه بقتل ذكور الأولاد ثم لم يغن ذلك عنه من قدر الله شيئاً، ففي حاله عبرة لمن وفق للاعتبار، ودليل على أنه سبحانه المتفرد بملكه، يؤتي ملكه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، لا يزعه وازع، ولا يمنعه عما يشاء مانع، ﴿قل الله مالك الملك﴾ وقد أصح قوله تعالى ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض﴾ - الآية بما أشار إليه مجمل ما أوضحنا اتصاله من خاتمة النمل وفاتحة القصص، ونحن نزيده بياناً بذكر لمع من تفسير ما قصد التحامه فنقول: إن قوله تعالى معلماً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمراً ﴿إنما أمرت أن أعبد﴾ إلى قوله: ﴿سيريكم آياته﴾ لا خفاء بما تضمن ذلك من التهديد، وشديد الوعيد، ثم في قوله: ﴿رب هذه البلدة﴾ إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام سيفتحها ويملكها، لأنه بلد ربه وملكه، وهو عبده ورسوله، وقد اختصه برسالته، وله كل شيء، فالعباد والبلاد ملكه، ففي هذا من الإشارة مثل ما في قوله تعالى:
237
﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد﴾ وقوله تعالى: ﴿وأن أتلو القرآن﴾ أي ليسمعوه فيتذكروا ويتذكر من سبقت له السعادة، ويلحظ سنة الله في العباد والبلاد، ويسمع ما جرى لمن عاند وعنى وكذب واستكبر، فكيف وقصه الله وأخذه ولم يغن عنه حذره، وأورث مستضعف عباده أرضه ودياره، ومكن لهم في الأرض وأعز رسله وأتباعهم ﴿نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون﴾ أي يصدقون ويعتبرون ويستدلون ويستوضحون، وقوله: ﴿سيريكم آياته﴾ يشير إلى ما حل بهم يوم بدر، وبعد ذلك إلى يوم فتح مكة، وإذعان من لم يكن يظن انقياده، وإهلاك من طال تمرده وعناده، وانقياد العرب بجملتها بعد فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً، وعزة أقوام وذلة آخرين، بحاكم ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ إلى أن فتح الله على الصحابة رضوان الله عليهم ما وعدهم به نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان كما وعد، فلما تضمنت هذه الآية ما أشير إليه، أعقب بما هو في قوة أن لو قيل: ليس عتوكم بأعظم من عتو فرعون وآله، ولا حال مستضعفي المؤمنين بمكة ممن قصدتم فتنته في دينه بدون حال بني إسرائيل حين كان فرعون يمتحنهم بذبح أبنائهم.
فهلا تأملتم عاقبة الفريقين، وسلكتم أنهج الطريقين؟ {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف
238
كان عاقبة الذين من قبلهم} - إلى قوله: ﴿فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون﴾ فلو تأملتم ذلك لعلمتم أن العاقبة للتقوى، فقال سبحانه بعد افتتاح السورة إن فرعون علا في الأرض، ثم ذكر من خبره ما فيه عبرة، وذكر سبحانه آياته الباهرة في أمر موسى عليه السلام وحفظه ورعايته وأخذ أم عدوه إياه ﴿عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً﴾ فلم يزل يذبح الأبناء خيفة من مولود يهتك ملكه حتى إذا كان ذلك المولود تولي بنفسه تربيته وحفظه وخدمته ليعلم لمن التدبير والإمضاء، وكيف نفوذ سابق الحكم والقضاء، فهلا سألت قريش وسمعت وفكرت واعتبرت ﴿أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى﴾ ثم أتبع سبحانه ذلك بخروج موسى عليه السلام من أرضه فخرج منها خائفاً يترقب، وما ناله عليه السلام في ذلك الخروج من عظيم السعادة، وفي ذلك منبهة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خروجه من مكة وتعزية له وإعلام بأنه تعالى سيعيده إلى بلده ويفتحه عليه، وبهذا المستشعر من هنا صرح آخر السورة في قوله تعالى: ﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد﴾ وهذا كاف فيما قصد - انتهى.
ولما كان كأنه قيل: ما هذا المقصوص من هذا النبأ؟ قال: ﴿إن فرعون﴾ ملك مصر الذي ادعى الإلهية ﴿علا﴾ أي بادعائه الإلهية وتجبره على عباد الله وقهره لهم ﴿في الأرض﴾ أي لأنا جمعنا عليه الجنود فكانوا معه إلباً واحداً فأنفذنا بذلك كلمته،
239
وهي وأن كان المراد بها أرض مصر ففي إطلاقها ما يدل على تعظيمها وأنها كجميع الأرض في اشتمالها على ما قل أن يشتمل عليه غيرها.
ولما كان التقدير بما دل عليه العاطف: فكفر تلك النعمة، عطف عليه قوله: ﴿وجعل﴾ بما جعلنا له من نفوذ الكلمة ﴿أهلها﴾ أي الأرض المرادة ﴿شيعاً﴾ أي فرقاً يتبع كل فرقة شيئاً وتنصره، والكل تحت قهره وطوع أمره، قد صاروا معه كالشياع، وهو دق الحطب، فرق بينهم لئلا يتمالؤوا عليه، فلا يصل إلى ما يريده منهم، فافترقت كلمتهم فلم يحم بعضهم لبعض فتخاذلوا فسفل أمرهم، فالآية من الاحتباك، ذكر العلو أولاً دليلاً على السفول ثانياً، والافتراق ثانياً دليلاً على الاجتماع أولاً، جعلهم كذلك حال كونه ﴿يستضعف﴾ أي يطلب ويوجد أن يضعف، أو هو استئناف ﴿طائفة منهم﴾ وهم بنو إسرائيل الذين كانت حياة جميع أهل مصر على يدي واحد منهم، وهو يوسف عليه السلام.
وفعل معهم من الخير ما لم يفعله والد مع ولده، ومع ذلك كافؤوه في أولاده وإخوته بأن استعبدوهم، ثم ما كفاهم ذلك حتى ساموهم على يدي هذا العنيد سوء العذاب فيا بأبي الغرباء بينهم قديماً وحديثاً، ثم بين سبحانه الاستضعاف بقوله:
240
﴿يذبح﴾ أي تذبيحاً كثيراً ﴿أبناءهم﴾ أي عند الولادة، وكل بذلك أناساً ينظرون كلما ولدت امرأة ذكراً ذبحوه خوفاً على ملكه زعم من مولود منهم ﴿ويستحيي نساءهم﴾ أي يريد حياة الإناث فلا يذبحهن.
ولما كان هذا أمراً متناهياً في الشناعة، ليس مأموراً به من جهة شرع ما، ولا له فائدة أصلاً، لأن القدر - على تقدير صدق من أخبره - لا يرده الحذر، قال تعالى مبيناً لقبحه، شارحاً لما أفهمه ذلك من حاله: ﴿إنه كان﴾ أي كوناً راسخاً ﴿من المفسدين*﴾ أي الذين لهم عراقة في هذا الوصف، فلا يدع أن يقع منه هذا الجزئي المندرج تحت ما هو قائم به من الأمر الكلي.
ولما كان التقدير كما أرشد إليه السياق لمن يسأل عن سبب فعله هذا العجيب: يريد بذلك زعم دوام ملكه بأن لا يسلبه إياه واحد منهم أخبره بعض علمائه أنه يغلبه عليه ويستنقذ شعبه من العبودية، عطف عليه قوله يحكي تلك الحال الماضية: ﴿ونريد﴾ أو هي حالية، أي يستضعفهم والحال أنا نريد في المستقبل أن نقويهم. أي يريد دوام استضعافهم حال إرادتنا ضده من أنا نقطع ذلك بإرادة ﴿أن نمن﴾ أي نعطي بقدرتنا وعلمنا ما يكون جديراً بأن نمتن به
241
﴿على الذين استضعفوا﴾ أي حصل استضعافهم وهان هذا الفعل الشنيع ولم يراقب فيهم مولاهم ﴿في الأرض﴾ أي أرض مصر فذلوا وأهينوا، ونريهم في أنفسهم وأعدائهم وفق ما يحبون وفوق ما يأملون ﴿ونجعلهم أئمة﴾ أي مقدمين في الدين والدنيا، علماء يدعون إلى الجنة عكس ما يأتي من عاقبة آل فرعون، وذلك مع تصييرنا لهم أيضاً بحيث يصلح كل واحد منهم لأن يقصد للملك بعد كونهم مستعبدين في غاية البعد عنه ﴿ونجعلهم﴾ بقوتنا وعظمتنا ﴿الوارثين*﴾ أي لملك مصر لا ينازعهم فيه أحد من القبط، ولكل بلد أمرناهم بقصدها، وهذا إيذان بإهلاك الجميع.
242
ولما بشر بتمليكهم في سياق دال على مكنتهم، صرح بها فقال: ﴿ونمكن﴾ أي نوقع التمكين ﴿لهم في الأرض﴾ أي كلها لا سيما أرض مصر والشام، بإهلاك أعدائهم وتأييدهم بكليم الله، ثم بالأنبياء من بعده عليهم الصلاة والسلام بحيث نسلطهم بسببهم على من سواهم بما نؤيدهم به من الملائكة ونظهر لهم من الخوارق.
ولما ذكر التمكين، ذكر أنه مع مغالبة الجبابرة إعلاماً بأنه أضخم تمكين فقال عاطفاً على نحو: ونريد أن نأخذ الذين علوا في الأرض وهم فرعون وهامان وجنودهما: ﴿ونري﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿فرعون﴾ أي الذي كان هذا الاستضعاف منه ﴿وهامان﴾
242
وزيره ﴿وجنودهما﴾ الذين كانا يتوصلان بهم إلى ما يريدانه من الفساد ﴿منهم﴾ أي المستضعفين ﴿ما كانوا﴾ أي بجد عظيم منهم كأنه غريزة ﴿يحذرون*﴾ أي يجددون حذره في كل حين على الاستمرار بغاية الجد والنشاط من ذهاب ملكهم بمولود منهم وما يتبع ذلك، قال البغوي: والحذر: التوقي من الضرر. والآية من الاحتباك: ذكر الاستضعاف أولاً دليلاً على القوة ثانياً، وإراءة المحذور ثانياً دليلاً على إرادة المحبوب أولاً، وسر ذلك أنه ذكر المسلي والمرجي ترغيباً في الصبر وانتظام الفرج.
ولما كان التقدير: فكان ما أردناه، وطاح ما أراد غيرنا، فأولدنا من بني إسرائيل الولد الذي كان يحذره فرعون على ملكه، وكان يذبح أبناء بني إسرائيل لأجله، وقضينا بأن يسمى موسى، بسبب أنه يوجد بين ماء وشجر، ونربيه في بيت الذي يحذره ويحتاط لأجله، عطف على هذا المعلوم التقدير أول نعمة منّ بها على الذين استضعفوا فقال: ﴿وأوحينا﴾ أي أوصلنا بعظمتنا بطريق خفي، الله أعلم به هل هو ملك أو غيره، إذ لا بدع في تكليم الملائكة الولي من غير نبوة ﴿إلى أم موسى﴾ أي الذي أمضينا في قضائنا أنه يسمى بهذا الاسم، وأن يكون هلاك فرعون
243
وزوال ملكه على يده، بعد أن ولدته وخافت أن يذبحه الذباحون ﴿أن أرضعيه﴾ ما كنت آمنة عليه، وحقق لها طلبهم لذبحه بقوله: ﴿فإذا خفت عليه﴾ أي منهم أن يصيح فيسمع فيذبح ﴿فألقيه﴾ أي بعد أن تضعيه في شيء يحفظه من الماء ﴿في اليم﴾ أي النيل، واتركي رضاعه، وعرفه وسماه يماً - واليم: البحر - لعظمته على غيره من الأنهار بكبره وكونه من الجنة، وما يحصل به من المنافع، وعدل عن لفظ البحر إلى اليم لأن القصد فيه أظهر من السعة؛ قال الرازي في اللوامع: وهذا إشارة إلى الثقة بالله، والثقة سواد عين التوكل، ونقطة دائرة التفويض، وسويداء قلب التسليم، ولها درجات: الأولى درجة الأياس، وهو أياس العبد من مقاواة الأحكام، ليقعد عن منازعة الإقسام، فيتخلص من صحة الإقدام؛ والثانية درجة الأمن، وهو أمن العبد من فوت المقدور، وانتقاص المسطور، فيظفر بروح الرضى وإلا فبعين اليقين، وإلا فبطلب الصبر؛ والثالثة معاينة أولية الحق جل جلاله، ليتخلص من محن المقصود، وتكاليف الحمايات، والتعريج على مدارج الوسائل.
﴿ولا تخافي﴾ أي لا يتجدد لك خوف أصلاً من أن يغرق أو يموت من ترك الرضاع وإن طال المدى أو يوصل إلى أذاه ﴿ولا تحزني﴾ أي ولا يوجد لك حزن لوقوع فراقه.
244
ولما كان الخوف عما يلحق المتوقع، والحزن عما يلحق الواقع، علل نهيه عن الأمرين، بقوله في جملة اسمية دالة على الثبات والدوام، مؤكدة لاستبعاد مضمونها: ﴿إنا رادوه إليك﴾ فأزال مقتضى الخوف والحزن؛ ثم زادها بشرى لا تقوم لها بشرى بقوله: ﴿وجاعلوه من المرسلين*﴾ أي الذين هم خلاصة المخلوقين، والآية من الاحتباك، ذكر الإرضاع أولاً دليلاً على تركه ثانياَ، والخوف ثانياً دليلاً على الأمن أولاً، وسره أنه ذكر المحبوب لها تقوية لقلبها وتسكيناً لرعبها.
ولما كان الوحي إليها بهذا سبباً لإلقائه في البحر. وإلقاؤه سبباً لالتقاطه، قال: ﴿فالتقطه﴾ أي فأرضعته فلما خافت عليه صنعت له صندوقاً وقيرته لئلا يدخل إليه الماء وأحكمته وأودعته فيه وألقته في بحر النيل، وكأن بيتها كان فوق بيت فرعون، فساقه الماء إلى قرب بيت فرعون، فتعوق بشجر هناك، فتلكف جماعة فرعون التقاطه، قال البغوي: والالتقاط وجود الشيء من غير طلب. ﴿آل فرعون﴾ بأن أخذوا الصندوق، فلما فتحوه وجدوا موسى عليه السلام فأحبوه لما ألقى الله تعالى عليهم ممن محبته فاتخذوه ولداً وسموه موسى، لأنهم وجدوه
245
في ماء وشجر، ومو بلسانهم: الماء، وسا: الشجر.
ولما كانت عاقبة أمره إهلاكهم، وكان العاقل لا سيما المتحذلق، لا ينبغي له أن يقدم على شيء حتى يعلم عاقبته فكيف إذا كان يدعي أنه إله، عبر سبحانه بلام العاقبة التي معناها التعليل، تهكماً بفرعون - كما مضى بيان مثله غير مرة - في قوله: ﴿ليكون لهم عدواً﴾ أي بطول خوفهم منه بمخالفته لهم في دينهم وحملهم على الحق ﴿وحزناً﴾ أي بزوال ملكهم، لأنه يظهر فيهم الآيات التي يهلك الله بها من يشاء منهم، ثم يهلك جميع أبكارهم فيخلص جميع بني إسرائيل منهم، ثم يظفر بهم كلهم. فيهلكهم الله بالغرق على يده إهلاك نفس واحدة، فيعم الحزن والنواح أهل ذلك الإقليم كله، فهذه اللام للعلة استعيرت لما أنتجته العلة التي قصدوها - وهي التبني وقرة العين - من الهلاك، كما استعير الأسد للشجاع فأطلق عليه، فقيل: زيد أسد. لأن فعله كان فعله، والمعنى على طريق التهكم أنهم ما أخذوه إلا لهذا الغرض، لأنا نحاشيهم من الإقدام على ما يعلمون آخر أمره.
ولما كان لا يفعل هذا الفعل إلا أحمق مهتور أو مغفل مخذول لا يكاد يصيب على ذلك بالأمرين فقال: ﴿إن فرعون وهامان وجنودهما﴾
246
أي كلهم على طبع واحد ﴿كانوا خاطئين*﴾ أي دأبهم تعمد الذنوب، والضلال عن المقاصد، فلا بدع في خطائهم في أن يربّوا من لا يذبحون الأبناء إلاّ من أجله، مع القرائن الظاهرة في أنه من بني إسرائيل الذين يذبحون أبناءهم؛ قال في الجمع بين العباب والمحكم: قال أبو عبيد: أخطأ وخطأ - لغتان بمعنى واحد، وقال ابن عرفة: يقال: خطأ في دينه وأخطأ - إذا سلك سبيل خطأ عامداً أو غير عامد.
وقال الأموي، المخطىء من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطىء: من تعمد ما لا ينبغي، وقال ابن ظريف في الأفعال: خطىء الشيء خطأ وأخطأه: لم يصبه.
ولما أخبر تعالى عن آخر أمرهم معه، تخفيفاً على السامع بجمع طرفي القصة إجمالاً وتشويقاً إلى تفصيل ذلك الإجمال، وتعجيلاً بالتعريف بخطائهم ليكون جهلهم الذي هو أصل شقائهم مكتنفاً لأول الكلام وآخره، أخبر عما قيل عند التقاطه فقال عاطفاً على ﴿فالتقطه﴾ :﴿وقالت امرأة فرعون﴾ أي لفرعون لما أخرجته من التابوت، وهي التي قضى الله أن يكون سعادة، وهي آسية بنت مزاحم إحدى نساء بني إسرائيل - نقله البغوي: ﴿قرت عين لي﴾ أي به ﴿ولك﴾ أي يا فرعون.
ولما أثبت له أنه ممن تقر به العيون، أنتج ذلك استبقاءه، ولذلك
247
نهت عن قتله وخافت أن تقول: لا تقتله، فيجيبها حاملاً له على الحقيقة ثم يأمر بقتله، ويكون مخلصاً له عن الوقوع في إخلاف الوعد، فجمعت قائلة: ﴿لا تقتلوه﴾ أي أنت بنفسك ولا أحد ممن تأمره بذلك، ثم عللت ذلك أو استأنفت فقالت: ﴿عسى﴾ أي يمكن، وهو جدير وخليق ﴿أن ينفعنا﴾ أي لما أتخيل فيه النجابة ولو كان له أبوان معروفان ﴿أو نتخذه ولداً﴾ إن لم يعرف له أبوان، فيكون نفعه أكثر، فإنه أهل لأن يتشرف به الملوك.
ولما كان هذا كله فعل من لا يعلم، فلا يصح كونه إلهاً، صرح بذلك تسفيهاً لمن أطاعه في ادعاء ذلك فقال: ﴿وهم﴾ أي تراجعوا هذا القول والحال أنهم ﴿لا يشعرون*﴾ أي لا شعور لهم أصلاً، لأن من لا يكون له علم إلا بالاكتساب فهو كذلك، فكيف إذا كان لا يهذب نفسه باكتسابه، فكيف إذا كان مطبوعاً على قلبه وإذا كانوا كذلك فلا شعور لهم بما يؤول إليه أمرهم معه من الأمور الهائلة المؤدية إلى هلاك المفسدين ليعلموا لذلك أعماله من الاحتراز منه بما ينجيهم.
248
ولما أخبر عن حال من لقيه، أخبر عن حال من فارقه، فقال: ﴿وأصبح﴾ أي عقب الليلة التي حصل فيها فراقه ﴿فؤاد أم موسى﴾ أي قلبها الذي زاد احتراقه شوقاً وخوفاً وحزناً، وهذا يدل على أنها ألقته ليلاً ﴿فارغاً﴾ أي في غاية الذعر لما جلبت عليه من أخلاق البشر،
248
قد ذهب منه كل ما فيه من المعاني المقصودة التي من شأنها أن يربط عليها الجأش؛ ثم وصل بذلك مستأنفاً قوله: ﴿إن﴾ أي إنه ﴿كادت﴾ أي قاربت ﴿لتبدي﴾ أي يقع منها الإظهار لكل ما كان من أمره، مصرحة ﴿به﴾ أي بأمر موسى عليه السلام من أنه ولدها ونحو ذلك بسبب فراغ فؤادها من الأمور المستكنة، وتوزع فكرها في كل واد ﴿لولا أن ربطنا﴾ بعظمتنا ﴿على قلبها﴾ بعد أن رددنا إليه المعاني الصالحة التي أودعناها فيه، فلم تعلن به لأجل ربطنا عليه حتى صار كالجراب الذي ربط فمه حتى لا يخرج شيء مما فيه؛ ثم علل الربط بقوله: ﴿لتكون﴾ أي كوناً هو كالغريزة لها ﴿من المؤمنين*﴾ أي المصدقين بما وعد الله به من نجاته ورسالته، الواثقين بذلك.
ولما أخبر عن كتمها، أتبعه الخبر عن فعلها في تعرف خبره الذي أطار خفاؤه عليها عقلها، فقال عاطفاً على ﴿وأصبح﴾ :﴿وقالت﴾ أي أمه ﴿لأخته﴾ أي بعد أن أصبحت على تلك الحالة، قد خفي عليها أمره: ﴿قصيه﴾ أي اتبعي أثره وتشممي خبره براً وبحراً،
249
ففعلت ﴿فبصرت به عن جنب﴾ أي بعد من غير مواجهة، ولذلك قال: ﴿وهم لا يشعرون*﴾ أي ليس لهم شعور لا بنظرها ولا بأنها أخته، بل هم في صفة الغفلة التي هي في غاية البعد عن رتبة الإلهية.
ولما كان ذلك أحد الأسباب في رده، ذكر في جملة حالية سبباً آخر قريباً منه فقال: ﴿وحرمنا﴾ أي منعنا بعظمتنا التي لا يتخلف أمرها، ويتضاءل كل شيء دونها ﴿عليه المراضع﴾ جمع مرضعة، وهي من تكترى للرضاع من الأجانب، أي حكمنا بمنعه من الارتضاع منهن، استعار التحريم للمنع لأنه منع فيه رحمة؛ قال الرازي في اللوامع: تحريم منع لا تحريم شرع.
ولما كان قد ارتضع من أمه من حين ولدته إلى حين إلقائه في اليم، فلم يستغرق التحريم الزمان الماضي، أثبت الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي قبل أن تأمر أمه أخته بما أمرتها به وبعد إلقائها له، ليكون ذلك سبباً لرده إليها، فلم يرضع من غيرها فأشفقوا عليه فأتتهم أخته فقالوا لها: هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ ﴿فقالت﴾ أي فدنت أخته منه بعد نظرها له فقالت لهم لما رأتهم في غاية الاهتمام برضاعه لما عرضوا عليه المراضع فأبى أن يرتضع من واحدة منهن: ﴿هل﴾ لكم حاجة في أني ﴿أدلكم على أهل بيت﴾ ولم يقل:
250
على امرأة، لتوسع دائرة الظن ﴿يكفلونه لكم﴾ أي يأخذونه ويعولونه ويقومون بجميع مصالحه من الرضاع وغيره لأجلكم، وزادتهم رغبة بقولها: ﴿وهم له ناصحون*﴾ أي ثابت نصحهم له، لا يغشونه نوعاً من الغش؛ قال البغوي: والنصح ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد فكادت بهذا الكلام تصرح بأن المدلول عليها أمه، فارتابوا من كلامها فاعتذرت بأنهم يعملون ذلك تقرباً إلى الملك وتحبباً إليه تعززاً به، فظنوا ذلك، وهذا وأمثاله بيان من الله تعالى لأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا هو سبحانه، فلا يصح أن يكون غيره إلهاً، فلما سكنوا إليها طلبوا أن تدلهم، فأتت بأمها فأحللنا له رضاعها فأخذ ثديها فقالوا: أقيمي عندنا، فقالت: لا أقدر على فراق بيتي.
إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي، وأظهرت التزهد فيه نفياً للتهمة، فرضوا بذلك فرجعت به إلى بيتها، والآية من الاحتباك: ذكر التحريم أولاً دليلاً على الإحلال ثانياً، واستفهام أخته ثانياً دليلاً على استفهامهم لها أولاً، وسره أن ذكر الأغرب من أمره الأدل على القدرة،
251
ولذلك سبب عما مضى قوله: ﴿فرددناه﴾ أي مع هذا الظاهر في الكشف لسره الموجب للريبة في أمره، ومع ما تقدم من القرائن التي يكاد يقطع بها بأنه من بني إسرائيل، منها إلقاؤه في البحر على تلك الصفة، ومنها أن المدلول عليها لإرضاعه من بني إسرائيل، ومنها أنه قبل ثديها دون غيرها من القبط وغيرهم، بأيدنا الذي لا يقاويه أيد، ولا يداني ساحته شيء من مكر ولا كيد، من يد العدو الذي ما ذبح طفلاً إلا رجاء الوقوع عليه، والخلاص مما جعل في سابق العلم إليه ﴿إلى أمه﴾ وكان من أمر الله - والله هو غالب على أمره - أنه استخدم لموسى - كما قال الرازي - عدوه في كفالته وهو يقتل العالم لأجله؛ ثم علله بقوله: ﴿كي تقر عينها﴾ أي تبرد وتستقر عن الطرف في تطلبه إلى كل جهة وتنام بإرضاعه وكفالته في بيتها، آمنة لا تخاف، وقرة العين بردها ونومها خلاف سخنتها وسهرها بإدامة تقليبها، قرت عينه تقر - بالكسر والفتح - قرة، وتضم، وقروراً: بردت سروراً وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه، وأقر الله عينه وبعينه، وعين قريرة وقارة،
252
وقرتها ما قرت به، وقر بالمكان يقر - بالفتح والكسر - قراراً وقروراً وقراً وتقرة: ثبت واستكن، وأصل قرة العين من القر وهو البرد، أي بردت فصحت ونامت خلاف سخنة عينه، وقيل: من القرار، أي استقرت عيني، وقالوا: دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارة، فمعنى أقر الله عينك من الفرح وأسخنها من الحزن، وهذا قول الأصمعي، وقال أبو عباس: ليس كما ذكر الأصمعي بل كل دمع حار، فمعنى أقر الله عينك: صادفت سروراً فنامت وذهب سهرها، وصادفت ما يرضيك، أي بلغك الله أقصى أملك حتى تقر عينك من النظر إلى غيره استغناء ورضا بما يديك، قالوا: ومعنى قولهم: هو قرة عيني: هو رضى نفسي، فهي تقر وتسكن بقربه فلا تستشرف إلى غيره ﴿ولا﴾ أي وكيلاً ﴿تحزن﴾ أي بفراقه ﴿ولتعلم﴾ أي علماً هو عين اليقين، كما كانت عالمة به علم اليقين، وعلم شهادة كما كانت عالمة علم الغيب ﴿أن وعد الله﴾ أي الأمر الذي وعدها به الملك الأعظم الذي له الكمال كله في حفظه وإرساله ﴿حق﴾ أي هو في غاية الثبات في مطابقة الواقع إياه.
ولما كان العلم هو النور الذي من فقده لم يصح منه عمل، ولم ينتظم له قصد، قال عاطفاً على ما تقديره: فعلمت ذلك برده عين اليقين بعد علم اليقين: ﴿ولكن أكثرهم﴾ أي أكثر آل فرعون وغيرهم ﴿لا يعلمون*﴾ أي لا علم لهم أصلاً، فكيف يدعون ما يدعون من الإلهية والكبرياء على من يكون الله معه.
ولما استقر الحال، على هذا المنوال، علم أنه ليس بعده إلا الخير والإقبال، والعز بتبني فرعون له والجلال، فترك ما بينه وبين السن الصالح للإرسال، وقال مخبراً عما بعد ذلك من الأحوال: ﴿ولما بلغ أشده﴾ أي مجامع قواه وكمالاته ﴿واستوى﴾ أي اعتدل في السن وتم استحكامه بانتهاء الشباب، وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنتين وأربعين، فتم بسبب ذلك في الخلال الصالحة التي طبعناه عليها؛ وقال الرازي: قال الجنيد: لما تكامل عقله، وصحت بصيرته، وصلحت نحيرته، وآن أوان خطابه - أنتهى. أي وصار إلى الحد الذي لا يزاد الإنسان بعده غريزة من الغرائز لم تكن فيه أيام الشباب، بل لا يبقى بعد ذلك إلا الوقوف ثم النقصان ﴿آتيناه﴾ أي خرقاً للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء ابتداء غرائز منحناه إياها من غير اكتساب أصلاً ﴿حكماً﴾ أي عملاً محكماً بالعلم ﴿وعلماً﴾ أي
253
مؤيداً بالحكمة، تهيئة لنبوته، وإرهاصاً لرسالته، جزيناه بذلك على ما طبعناه عليه من الإحسان، فضلاً منا ومنه، واختار الله سبحانه هذا السن للإرسال ليكون - كما أشير إليه - من جملة الخوارق، لأنه يكون به ابتداء الانتكاس الذي قال الله تعالى فيه ﴿ومن نعمره - أي إلى اكتمال سن الشباب - ننكسه في الخلق﴾ أي نوقفه، فلا يزاد بعد ذلك في قواه الظاهرة ولا الباطنة شيء، ولا توجد فيه غريزة لم تكن موجودة أصلا عشر سنين، ثم يأخذ في النقصان - هذه عادة الله في جميع بني آدم إلا الأنبياء، فإنهم في حد الوقوف يؤتون من بحار العلوم ما يقصر عنه الوصف بغير اكتساب، بل غريزة يغرزها الله فيهم حينئذ، ويؤتون من قوة الأبدان أيضاً بمقدار ذلك، ففي وقت انتكاس غيرهم يكون نموهم، وكذا من ألحقه الله بهم من صالحي أتباعهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس من تمام هذا المعنى ما يفتح الله به لمن تأمله أبواباً من العلم، ولذلك قال الله تعالى عاطفاً على ما تقديره: فعلنا به ذلك وبأمه جزاء لهما على إحسانهما في إخلاصهما فيما يفعلانه اعتماداً على الله وحده من غير أدنى التفات إلى ما سواه: ﴿وكذلك﴾ أي ومثل هذا الجزاء العظيم
254
﴿نجزي المحسنين*﴾ أي كلهم.
255
ولما أخبر، بتهيئه لنبوته، أخبر بما هو سبب لهجرته، وكأنها سنت بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: ﴿ودخل المدينة﴾ أي مدينة فرعون آتياً من قصره، لأنه كان عنده بمنزلة الولد، قال ابن جرير: وهي مدينة منف من مصر، وقال البغوي: وقيل: عين الشمس. وقيل غير ذلك ﴿على حين غفلة﴾ قبل بعيد: وقيل بغير ذلك ﴿من أهلها﴾ أي إحكاماً لما جعلناه سبباً لنقلته منها طهارة من عشرة القوم الظالمين ﴿فوجد فيها﴾ أي المدينة ﴿رجلين يقتتلان﴾ أي يفعلان مقدمات القتل من الملازمة مع الخنق والضرب، وهما إسرائيلي وقبطي، ولذا قال مجيباً لمن كأنه يسأل عنهما وهو ينظر إليهما: ﴿هذا من شيعته﴾ أي من بني إسرائيل قومه ﴿وهذا من عدوه﴾ أي القبط، وكان قد حصل لبني إسرائيل به عز لكونه ربيب الملك، مع أن مرضعته منهم، لا يظنون أن سبب ذلك الرضاع
255
﴿فاستغاثه﴾ أي طلب منه ﴿الذي من شيعته﴾ أن يغيثه ﴿على الذي من عدوه فوكزه﴾ أي فأجابه ﴿موسى﴾ فركز أي فطعن ودفع بيده العدو أو ضربه بجميع كفه، وكأنه كالكم، أو دفعه بأطراف أصابعه، وهو رجل أيد لم يعط أحد من أهل ذلك الزمان مثل ما أعطي من القوى الذاتية والمعنوية ﴿فقضى﴾ أي فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة، وهو الموت الذي لا ينجو منه بشر ﴿عليه﴾ فقتله وفرغ منه وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة، فلم يشعر به أحد منهم.
ولما كان كأنه قيل: إن هذا الأمر عظيم، فما ترتب عليه من قول من أوتي حكماً وعلماً؟ أجيب بالإخبار عنه بأنه ندم عليه في الحال بقوله: ﴿قال﴾ أي موسى عليه السلام: ﴿هذا﴾ أي الفعل الذي جرك إليه الإسرائيلي ﴿من عمل الشيطان﴾ أي لأني لم أومر به على الخصوص، ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافراً؛ ثم أخبر عن حال الشيطان بما هو عالم به، مؤكداً له حملاً لنفسه على شدة الاحتراس
256
والحذر منه فقال: ﴿إنه عدو﴾ ومع كونه عدواً ينبغي الحذر منه فهو ﴿مضل﴾ لا يقود إلى خير أصلاً، ومع ذلك فهو ﴿مبين*﴾ أي عداوته وإضلاله في غاية البيان، ما في شيء منهما خفاء.
ولما كان هذا الكافر ليس فيه شيء غير الندم لكونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأته في قتله إذن خاص، وكان قد أخبر عنه بالندم، تشوفت أنفس البصراء إلى الاستغفار عنه، علماً منهم بأن عادة الأنبياء وأهل الدرجات العلية استعظام الهفوات، فأجيبوا بالإخبار عن مبادرته إلى ذلك بقوله: ﴿قال﴾ وأسقط أداة النداء، على عادة أهل الاصطفاء، فقال: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ.
ولما كان حال المقدم على شيء دالة على إرادته فاستحسانه إياه، أكد قوله إعلاماً بأن باطنه على غير ما دل عليه ظاهرة فقال: ﴿إني ظلمت نفسي﴾ أي بالإقدام على ما لم يتقدم إليّ فيه إذن بالخصوص وإن كان مباحاً.
ولما كان المقرب قد يعد حسنة غيره سيئته، قال مسبباً عن ذلك: ﴿فاغفر﴾ أي امح هذه الهفوة عينها وأثرها ﴿لي﴾ أي لأجلي لا تؤاخذني ﴿فغفر﴾ أي أوقع المحو لذلك كما سأل إكراماً ﴿له﴾ ثم علل ذلك
257
بقوله مشيراً إلى أن صفة غيره عدم بالنسبة إلى صفته مؤكداً لذلك: ﴿إنه هو﴾ أي وحده ﴿الغفور﴾ أي البالغ في صفة الستر لكل من يريد ﴿الرحيم*﴾ أي العظيم الرحمة بالإحسان بالتوفيق إلى الأفعال المرضية لمقام الإلهية، ولأجل أن هذه صفته، رده إلى فرعون وقومه حين أرسله إليهم فلم يقدروا على مؤاخذته بذلك بقصاص ولا غيره بعد أن نجاه منهم قبل الرسالة على غير قياس.
ولما أنعم عليه سبحانه بالإجابة إلى سؤله، تشوف السامع إلى شكره عليها فأجيب بقوله: ﴿قال رب﴾ أي أيها المحسن إليّ بكل جميل. ولما كان جعل الشيء عوضاً لشيء أثبت له وأجدر بإمضاء العزم عليه قال: ﴿بما أنعمت عليّ﴾ أي بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة وغيرها. ولما كان في سياق التعظيم للنعمة، كرر حرف السبب تأكيداً للكلام، وتعريفاً أن المقرون به مسبب عن الإنعام، وقرنه بأداة النفي الدالة على التأكيد فقال: ﴿فلن أكون ظهيراً﴾ أي عشيراً أو خليطاً أو معيناً ﴿للمجرمين*﴾ أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل، أي لا أكون بين ظهراني القبط، فإن فسادهم كثير، وظلمهم لعبادك أبناء أوليائك متواصل وكبير، لا قدرة لي على ترك نصرتهم، وذلك يجر إلى أمثال هذه الفعلة، فلا أصلح من المهاجرة لهم، وهذا
258
من قول العرب: جاءنا في ظهرته - بالضم وبالكسر وبالتحريك، وظاهرته، أي عشيرته.
ولما ذكر القتل وأتبعه ما هو الأهم من أمره بالنظر إلى الآخرة، ذكر ما تسبب عنه من أحوال الدنيا فقال: ﴿فأصبح﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام ﴿في المدينة﴾ أي التي قتل القتيل فيها ﴿خائفاً﴾ أي بسبب قتله له ﴿يترقب﴾ أي لازم الخوف كثير الالتفات برقبته ذعراً من طارقة تطرقه في ذلك، قال البغوي: والترقب: انتظار المكروه. ﴿فإذا﴾ أي ففجئه ﴿الذي استنصره﴾ أي طلب نصرته من شيعته ﴿بالأمس﴾ أي اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ من قبله ﴿يستصرخه﴾ أي يطلب ما يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطي آخر كان يظلمه، فكأنه قيل: فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره؟ فقيل: ﴿قال له﴾ أي لهذا المستصرخ ﴿موسى﴾.
ولما كان الحال متقضياً أن ذلك الإسرائيلي يمكث مدة لا يخاصم أحداً خوفاً من جريرة ذلك القتيل، أكد قوله: ﴿إنك لغوي﴾ أي صاحب ضلال بالغ ﴿مبين*﴾ أي واضح الضلال غير خفيه، لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً؛ ثم دنا منهما لينصره؛ ثم قال مشيراً بالفاء إلى المبادرة إلى إصراخه: ﴿فلما﴾
259
وأثبت الحرف الذي أصله المصدر تأكيداً لمعنى الإرادة فقال: ﴿أن أراد﴾ أي شاء، وطلب وقصد مصدقاً ذلك بالمشي ﴿أن يبطش﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام ﴿بالذي هو عدو لهما﴾ أي من القبط بأخذه بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه ﴿قال﴾ أي الإسرائيلي الغوي لأجل ما رأى من غضبه وكلمه به من الكلام الغص ظاناً أنه ما دنا إلا يريد البطش به هو، لما أوقعه فيه لا بعدوه: ﴿يا موسى﴾ ناصاً عليه باسمه العلم دفعاً لكل لبس منكر الفعلة الذي اعتقده لما رآه من دنوه إليهما غضبان وهو يذمه ﴿أتريد أن تقتلني﴾ أي اليوم وأنا من شيعتك ﴿كما قتلت نفساً بالأمس﴾ أي من شيعة أعدائنا، والذي دل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له هذا الكلام السياق بكون الكلام معه - بما أشير إليه بدخول المدينة على حين غفلة من أنهم لم يره أحد غير الإسرائيلي، وبقوله ﴿عدو لهما﴾ من ذم الإسرائيلي كما صرح به موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما نم عليه وأفشى ما لا يعلمه غيره، خاف غائلته فزاد في
260
الإغراء به. مؤكداً بقوله: ﴿إن﴾ أي ما ﴿تريد إلا أن تكون﴾ أي كوناً راسخاً ﴿جباراً﴾ أي قاهراً غالباً؛ قال أبو حيان: وشأن الجبار أن يقتل بغير حق. ﴿في الأرض﴾ أي التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد ﴿وما تريد﴾ أي يتجدد لك إرادة ﴿أن تكون﴾ أي بما هو لك كالجبلة ﴿من المصلحين*﴾ أي العريقين في الصلاح، فإن المصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة، فلما سمع الفرعوني هذا ترك الإسرائيلي، وكانوا - لما قتل ذلك القبطي - ظنوا في بني إسرائيل، فأغروا فرعون بهم فقال: هل من بينة، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا ينبغي له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت - كما ذكر ذلك في حديث المفتون الذي رواه أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما، فلما قال هذا الغوي هذه المقالة تحقق الأمر في موسى عليه الصلاة والسلام.
261
ولما كان تقدير الكلام الذي أرشد إليه السياق: فلما سمع الفرعوني قول الإسرائيلي تركه. ثم رقي الكلام إلى أن ببغ فرعون فوقع الكلام في الأمر بقتل موسى عليه الصلاة والسلام، عطف عليه قوله: ﴿وجاء رجل﴾ أي ممن يحب موسى عليه الصلاة والسلام. ولما
261
كان الأمر مهماً، يحتاج إلى مزيد عزم وعظم قوة، قدم فاعل المجيء على متعلقه بخلاف ما في سورة يس.
ولما كان في بيان الاقتدار على الأمور الهائلة من الأخذ بالخناق حتى يقول القائل: لا خلاص، ثم الإسعاف بالفرج حتى يقول: لا هلاك، قال واصفاً للرجل: ﴿من أقصا المدينة﴾ أي أبعدها مكاناً، وبين أنه كان ماشياً بقوله: ﴿يسعى﴾ ولكنه اختصر طريقاً وأسرع في مشيه بحيث كان يعدو فسبقهم بإعظامه للسعي وتجديد العزم في كل وقت من أوقات سعيه فكأنه قيل: ما فعل؟ فقيل: ﴿قال﴾ منادياً له باسمه تعطفاً وإزالة للبس: ﴿يا موسى﴾ وأكد إشارة إلى أن الأمر قد دهم فلا يسع الوقت الاستفصال فقال: ﴿إن الملأ﴾ أي أشراف القبط الذين في أيديهم الحل والعقد، لأن لهم القدرة على الأمر والنهي ﴿يأتمرون بك﴾ أي يتشاورون بسببك، حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاًّ منهم يأمر الآخر ويأتمر بأمره، فكأنه قيل: لم يفعلون ذلك؟ فقيل: ﴿ليقتلوك﴾ لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم ﴿فاخرج﴾ أي من هذه المدينة؛ ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرق من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك: ﴿إني لك﴾ أي خاصة ﴿من الناصحين*﴾ أي العريقين في نصحك ﴿فخرج﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً ﴿منها﴾ أي المدينة لما علم من
262
صدق قوله مما حفّه من القرائن، حال كونه ﴿خائفاً﴾ على نفسه من آل فرعون ﴿يترقب﴾ أي يكثر الالتفات بإدراة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد؛ ثم وصل به على طريق الاستئناف قوله: ﴿قال﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد والتربية وغير ذلك من وجوه البر ﴿نجني﴾ أي خلصني، مشتق من النجوة، وهو المكان العالي الذي لا يصل إليه كل أحد ﴿من القوم الظالمين*﴾ أي الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم، فاستجاب الله له فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين، فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أن الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر، جرياً على عادة الخائفين الهاربين في المشي عسافاً، أو سلوك ثنيات الطريق فانثنوا فيما ظنوه يميناً وشمالاً ففاتهم.
ولما دعا بهذا الدعاء، أعلم الله تعالى باستجابته منه مخبراً بجهة قصده زيادة في الإفادة فقال: ﴿ولما﴾ أي فاستجاب الله دعاءه فنجاه منهم ووجهه إلى مدين ولما ﴿توجه﴾ أي أقبل بوجهه قاصداً ﴿تلقاء﴾ أي الطريق الذي يلاقي سالكه أرض ﴿مدين﴾ مدينة نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام متوجهاً بقلبه إلى ربه ﴿قال﴾ أي لكونه
263
لا يعرف الطريق: ﴿عسى﴾ أي خليق وجدير وحقيق.
ولما كانت عنايته بالله أتم لما له من عظيم المراقبة، قال مقدماً له: ﴿ربي﴾ أي المحسن إليّ بعظيم التربية في الأمور المهلكة ﴿أن يهديني سواء﴾ أي عدل ووسط ﴿السبيل*﴾ وهو الطريق الذي يطلعه عليها من غير اعوجاج.
ولما كان التقدير: فوصل إلى المدينة، بنى عليه قوله: ﴿ولما ورد﴾ أي حضر موسى عليه الصلاة والسلام حضور من يشرب ﴿ماء مدين﴾ أي الذي يستقي منها الرعاء ﴿وجد عليه﴾ أي على الماء ﴿أمة﴾ أي جماعة كثيرة هم أهل لأن يَقْصُدوا ويُقصَدوا، فلذلك هم عالون غالبون على الماء؛ ثم بين نوعهم بقوله: ﴿من الناس﴾ وبين عملهم أيضاً بقوله: ﴿يسقون*﴾ أي مواشيهم، وحذف المفعول لأنه غير مراد، والمراد الفعل، وكذا ما بعده فإن رحمته عليه الصلاة والسلام لم تكن لكون المذود والمسقي غنماً بل مطلق الذياد وترك السقي ﴿ووجد من دونهم﴾ أي وجداناً مبتدئاً من أدنى مكان من مكانهم الآتي إلى الماء ﴿امرأتين﴾ عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنها ﴿تذودان﴾ أي توجدان الذود، وهو الكف والمنع والطرد وارتكاب أخف
264
الضررين، فتكفان أغنامهما إذا نزعت من العطش إلى الملأ لئلا تخلط بغنم الناس.
ولما كان هذا حالاً موجباً للسؤال عنه، كان كأنه قيل: فما قال لهما؟ قيل: ﴿قال﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام رحمة لهما: ﴿ما خطبكما﴾ أي خبركما ومخطوبكما أي مطلوبكما، وهوكالتعبير بالشأن عن المشؤون الذي يستحق أن يقع فيه التخاطب لعظمه، في ذيادكما لأغنامكما عن السقي؛ قال أبو حيان: والسؤال بالخطب إنما يكون في مصاب أو مضطهد.
ولما كان من المعلوم أن سؤاله عن العلة ﴿قالتا﴾ أي اعتذاراً عن حالهما ذلك؛ وتلويحاً باحتياجهما إلى المساعدة: ﴿لا﴾ أي خبرنا أنا لا ﴿نسقي﴾ أي مواشينا، وحذفه للعلم به ﴿حتى يصدر﴾ أي ينصرف ويرجع ﴿الرعاء﴾ أي عن الماء لئلا يخالطهم - هذا على قراءة أبي عمرو وابن عامر بفتح الياء وضم الدال ثلاثياً، والمعنى على قراءة الباقين بالضم والكسر: يوجدوا الرد والصرف.
265
ولما كان التقدير: لأنا من النساء، وكان المقام يقتضي لصغر سنهما أن لهما أباً، وأن لا إخوة لهما وإلا لكفوهما ذلك، عطفتا على هذا المقدر قولهما: ﴿وأبونا شيخ كبير*﴾ أي لا يستطيع لكبره أن يسقي، فاضطررنا إلى ما ترى، وهذا اعتذار أيضاً عن كون أبيهما أرسلهما لذلك لأنه ليس بمحظور، فلا يأباه الدين، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة، وعاداتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر، لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة ﴿فسقى﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام ﴿لهما﴾ لما علم ضرورتهما، انتهازاً لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف، مع ما به من النصب والجوع ﴿ثم تولى﴾ أي انصرف موسى عليه الصلاة والسلام جاعلاً ظهره يلي ما كان يليه وجهه ﴿إلى الظل﴾ أي ليقيل تحته ويستريح، مقبلاً على الخالق بعد ما قضى من نصيحة الخلائق، وعرفه لوقوع العلم بأن بقعة لا تكاد تخلو من شيء له ظل ولا سيما أماكن المياه ﴿فقال﴾ لأنه ليس في الشكوى إلى المولى العلي الغني المطلق نقص ﴿رب﴾.
ولما كان حاله في عظيم صبره حاله من لا يطلب، أكد سؤاله إعلاماً بشديد تشوقه لما سأل فيه وزيادة في التضرع والرقة، فقال:
266
﴿إني﴾ ولأكد الافتقار بالإلصاق باللام دون «إلى» فقال: ﴿لما﴾ أي لأي شيء. ولما كان الرزق الآتي إلى الإنسان مسبباً عن القضاء الآتي عن العلي الكبير، عبر بالإنزال وعبر بالماضي تعميماً لحالة الافتقار، وتحققاً لإنجاز الوعد بالرزق فقال: ﴿أنزلت﴾ ولعله حذف العائد اختصاراً لما به من الإعياء ﴿إليّ من خير﴾ أي ولو قل ﴿فقير*﴾ أي مضرور، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان قد بلغ من الضر أن اخضر بطنه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه بظهره. فانظر إلى هذين النبيين عليهما الصلاة والسلام في حالهما في ذات يدهما، وهما خلاصة ذلك الزمان، ليكون لك في ذلك أسوة، وتجعله إماماً وقدوة، وتقول: يا بأبي وأمي! ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الدنيا، صوناً لهم منها وإكراماً من ربهم عنها، رغعة لدرجاتهم عنده، واستهانة لها وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك، وفي القصة ترغيب في الخير، وحث على المعاونة على البر، وبعث على بذل المعروف مع الجهد.
267
ولما كان سماعهما لقوله هذا مع إحسانه إليهما سبباً لدعاء شعيب عليه الصلاة والسلام له، قال بانياً على ما تقديره: فذهبت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه بخبرهما وبإحسانه إليهما، فأمر بدعائه ليكافئه: ﴿فجاءته﴾ أي بسبب قول الأب وعلى الفور ﴿إحداهما﴾ أي المرأتين
267
حال كونها ﴿تمشي﴾ ولما كان الحياء كأنه مركب لها وهي متمكنة منه، مالكة لزمامه، عبر بأداة الاستعلاء فقال: ﴿على استحياء﴾ أي حياء موجود منها لأنها كلفت الإتيان إلى رجل أجنبي تكلمه وتماشيه؛ ثم استأنف الإخبار عما تشوف إليه السامع من أمرها فقال: ﴿قالت﴾ وأكدت إعلاماً بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه في قولها: ﴿إن أبي﴾ وصورت حاله بالمضارع فقالت: ﴿يدعوك ليجزيك﴾ أي يعطيك مكافأة لك، لأن المكافأة من شيم الكرام، وقبولها لا غضاضة فيه ﴿أجر ما سقيت لنا﴾ أي مواشينا، فأسرع الإجابة لما بينهما من الملاءمة، ولذلك قال: ﴿فلما﴾ بالفاء ﴿جاءه﴾ أي موسى شعيباً عليهما الصلاة والسلام ﴿وقص﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام ﴿عليه﴾ أي شعيب عليه الصلاة والسلام ﴿القصص*﴾ أي حدثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله، وتتبع له الأمور على ما هي عليه لما توسم فيه بما آتاه اله من الحكم والعلم من النصيحة والشفقة، والعلم والحكمة، والجلال والعظمة.
ولما كان من المعلوم أنه لا عيشة لخائف، فكان أهم ما إلى الإنسان الأمان، قدم له التأمين بأن ﴿قال﴾ أي شعيب له عليهما الصلاة والسلام: ﴿لا تخف﴾ أي فإن فرعون لا سلطان له
268
على ما ههنا، ولأن عادة الله تعالى جرت أن تواضعك هذا ما كان في أحد إلا قضى الله برفعته، ولذلك كانت النتيجة: ﴿نجوت﴾ أي يا موسى ﴿من القوم الظالمين*﴾ أي هو وغيره وإن كانوا في غاية القوة والعراقة في الظلم.
ولما اقتضى هذا القول أنه آواه إليه، علمت انتباه مضمونه، وكانتا قد رأتا من كفايته وديانته ما يرغب في عشرته، فتشوفت النفس إلى حالهما حينئذ، فقال مستأنفاً لذلك: ﴿قالت إحداهما﴾ أي المرأتين. قيل: وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها: ﴿يا أبت استأجره﴾ ليكفينا ما يهمنا؛ ثم عللت قولها فقالت مؤكدة إظهاراً لرغبتها في الخير واغتباطها به: ﴿إن خير من استأجرت﴾ لشيء من الأشياء ﴿القوي﴾ وهو هذا لما رأيناه من قوته في السقي ﴿الأمين*﴾ لما تفرسنا فيه من حيائه، وعفته في نظره ومقاله وفعاله، وسائر أحواله؛ قال أبو حيان: وقولها قول حكيم جامع، لأنه إذا اجتمعت الأمانة والكفاية في القائم بأمر فقد تم المقصود. ﴿قال﴾ أي شعيب عليه الصلاة والسلام، وهو في التوراة يسمى: رعوئيل - بفتح الراء وضم العين
269
المهملة وإسكان الواو ثم همزة مكسورة بعدها تحتانية ساكنة ولام، ويثرو - بفتح التحتانية وإسكان المثلثة وضم الراء المهملة وإسكان الواو ﴿إني أريد﴾ يا موسى، والتأكيد لأجل أن الغريب قل ما يرغب فيه أول ما يقدم لا سيما من الرؤساء أتم الرغبة ﴿أن أنكحك﴾ أي أزوجك زواجاً، تكون وصلته كوصلة أحد الحنكين بالآخر ﴿إحدى ابنتي﴾.
ولما كان يجوز أن يكون المنكح منهما غير المسقي لهما، نفى ذلك بقوله: ﴿هاتين﴾ أي الحاضرتين اللتين سقيت لهما، ليتأملهما فينظر من يقع اختياره عليها منهما ليعقد له عليها ﴿على أن تأجرني﴾ أي تجعل نفسك أجيراً عندي أو تجعل أجري على ذلك وثوابي ﴿ثماني حجج﴾ جمع حجة - بالكسر، أي سنين، أي العمل فيها بأن تكون أجيراً لي أستعملك فيما ينوبني من رعية الغنم وغيرها، وآجره - بالمد والقصر، من الأجر والإيجار، وكذلك أجر الأجير والمملوك وآجره: أعطاهما أجرهما ﴿فإن أتممت﴾ أي الثماني ببلوغ العقد بأن تجعلها ﴿عشراً﴾ أي عشر سنين ﴿فمن﴾ أي فذلك فضل من ﴿عندك﴾
270
غير واجب عليك، وكان تعيين الثماني لأنها - إذا أسقطت منها مدة الحمل - أقل سن يميز فيه الولد غالباً، والعشر أقل ما يمكن فيه البلوغ، لينظر سبطه إن قدر فيتوسم فيه بما يرى من قوله وفعله، والتعبير بما هو من الحج الذي هو القصد تفاؤلاً بأنها تكون من طيبها بمتابعة أمر الله وسعة رزقه وإفاضة نعمه ودفع نقمه أهلاً لأن تقصد أو يكون فيها الحج في كل واحدة منها إلى بيت الله الحرام.
ولما ذكر له هذا، أراد أن يعلمه أن الأمر بعد الشرط بينهما على المسامحة فقال: ﴿وما أريد أن أشق عليك﴾ أي أدخل عليك مشقة في شيء من ذلك ولا غيره لازم أو غير لازم؛ ثم أكد معنى المساهلة بتأكيد وعد الملاءمة فقال: ﴿ستجدني﴾ ثم استثنى على قاعدة أولياء الله وأنبيائه في المراقبة على سبيل التنزل فقال: ﴿إن شاء الله﴾ أي الذي له جميع الأمر ﴿من الصالحين*﴾ أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وكل ما تريد من خير ﴿قال﴾ أي موسى عليه السلام ﴿ذلك﴾ أي الذي ذكرت من الخيار وغيره ﴿بيني وبينك﴾ أي كائن بيننا على حكم النصفة والعدل والسواء على ما ألزمتني به لازماً، وما أشرت
271
إلى التفضل به إحساناً، وعليك ما ألزمت به نفسك فرضاً وفضلاً؛ ثم بين وفسر ذلك بقوله: ﴿أيما الأجلين﴾ أي أيّ أجل منهما: الثماني أو العشر ﴿قضيت﴾ أي عملت العمل المشروط علي فيه خرجت به من العهدة ﴿فلا عدوان﴾ أي اعتداء بسبب ذلك لك ولا لأحد ﴿علي﴾ أي في طلب أكثر منه لأنه كما لا تجب على الزيادة على العشر لا تجب عليّ الزيادة على الثمان، وكأنه أشار بنفي صيغة المبالغة إلى أنه لا يؤاخذ لسعة صدره وطهارة أخلاقه بمطلق العدو ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم ﴿على ما نقول﴾ أي كله في هذا الوقت وغيره ﴿وكيل*﴾ أي شاهد وحفيظ قاهر عليه وملزم به في الدنيا والآخرة، فما الظن بما وقع بيننا من العهد من النكاح والأجر والأجل.
272
ذكر المضمون هذا من التوراة: قال في أول السفر الثاني منها: وهذه أسماء بني إسرائيل الذين دخلوا مصر مع يعقوب عليه السلام، دخل كل امرىء وأهل بيته روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وإيساخار وزيلون وبنيامين ودان ونفتالي وجاد وأشير، وكان عدد ولد
272
يعقوب الذين خرجوا من صلبه سبعين نفساً مع يوسف عليه الصلاة والسلام الذي كان بمصر، فتوفي يوسف وجميع إخواته وجميع ذلك الحقب، وبنو إسرائيل نموا وولدوا وكثروا واعتزوا جداً جداً، وامتلأت الأرض منهم، فملك على مصر ملك جديد لم يكن يعرف يوسف فقال لشعبه: هذا شعب بني إسرائيل قد كثر عددهم فهم أكثر وأعز منا، هلموا نحتال لهم قبل أن يكثروا، لعل أعداءنا يأتونا يقاتلونا فيكونوا عوناً، لأعدائنا علينا فيخرجونا من الأرض، فولى عليهم ولاة ذوي فظاظة وقساوة ليتعبدوهم، وجعلوا يبنون قرى لأجران فرعون واهرائه وفي نسخة: وبنوا لفرعون مدناً محصنة فيسترم في الفيوم وفي عين شمس، وفي نسخة: فيثوم ورعمسيس، وفي نسخة: وأكوان التي هي مدينة الشمس، واشتد تعبدهم لهم، وذلهم أياهم، وكانوا يزدادون كثرة ويعتزون، فاشتد غمهم وحزنهم بسبب بني إسرائيل، وكان المصريون يتعبدون بني إسرائيل بشدة وقساوة، ويمرون حياتهم بالكد والتعب الصعب الشديد بالطين وعمل اللبن وفي كل عمل الحقل، وكان تعبدهم
273
إياهم في جميع ما استعملوهم بالشدة والفظاظة والقسوة، فقال ملك مصر: وجعلنا لقوابل العبرانيات التي تسمى إحداهما فوعا والأخرى شوفرا، وأمرهما: إذا أنتما قبلتما العبرانيات فانظرا إذا سقط الولد، فإن كان ذكراً فاقتلاه، وإن كانت أنثى فاستبقياها فاتقت القابلتان الله ولم يفعلا ما أمرهما به ملك مصر، وجعلتا تستحييان الغلمان، فدعا ملك مصر القابلتين وقال لهما؟ ما بالكما؟ جاوزتما أمري وأحييتما الغلمان؟ فقالتا لفرعون: إن العبرانيات لسن كالمصريات لأنهن قوابل، ويلدن قبل أن تدخل القابلة عليهن، فأحسن الله إلى القابلتين لصنعهما هذا، فكثر الشعب وعز جداً، فلما اتقت القابلتان الله أنماهما وجعل لهما بنين، وفي نسخة: بيوتاً، فأمر فرعون جميع قومه قائلاً: كل غلام يولد لهم فألقوه في النهر، وكل جارية تولد فاستبقوها، فانطلق رجل من آل لاوي فتزوج إحدى بنات لاوي، فحبلت المرأة فولدت ابناً فرأته حسناً جداً، فغيبته ثلاثة أشهر ولم تقدر أن تغيبه أكثر من ذلك، فأخذت تابوتاً من خشب الصنوبر، وطلته بالقار والزفت
274
ووضعت فيه الغلام ووضعته في الضحضاح على شاطىء النهر، وقامت أخته من بعيد لتنظر ما يكون من أمره، فخرجت بنت فرعون تغتسل في النهر، فنظرت إلى التابوت في المخاضة، فأرسلت جواريها فأتوا به ففتحته فرأت الغلام، فإذا هو يبكي فرحمته، وقالت: هذا من بني العبرانيين، فقالت أخته لابنة فرعون: هل لك أن أنطلق أدعو لك ظئراً من العبرانيات فترضع هذا الغلام؟ فقالت لها ابنة فرعون: نعم! انطلقي، فانطلقت الفتاة ودعت أم الغلام، فقالت لها ابنة فرعون: خذي هذا الصبي فأرضعيه وأنا أعطيك أجرتك، فأخذت المرأة الغلام فأرضعته فشب الغلام فأتت به إلى ابنة فرعون فتبنته، وسمته موسى لأنها قالت: إني انتشلته من الماء.
فلما كان بعد تلك الأيام نشأ موسى عليه السلام وخرج إلى إخوته فنظر إلى ذلهم، فرأى رجلاً مصرياً يضرب رجلاً عبرانياً من إخوته من بني إسرائيل، فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً فقتل المصري، فمات ودفنه في الرمل، ثم خرج يوماً آخر فإذا هو برجلين عبرانيين يصطحبان، فقال للمسيء منهما: ما بالك؟ تضرب أخاك؟ فقال له: من جعلك علينا رئيساً وحاكماً؟ لعلك تريد أن تقتلني كما قتلت المصري أمس؟ ففرق موسى وقال: حقاً لقد فشا هذا الأمر، فبلغ فرعون الأمر وأراد موسى، فهرب موسى من فرعون وانطلق إلى أرض
275
مدين، وجلس على طوي الماء، وكان لحبر مدين سبع بنات، فكن يأتين فيدلن الماء فيملأن الحياض ليسقين غنم أبيهن، وكان الرعاة يأتون فيطردونهن، فقام موسى فخلصهن وأسقى غنمهن، فأتين إلى رعوئيل أبيهن فقال لهن: ما بالكن؟ أسرعتن السقي اليوم؟ فقلن له: رجل مصري خلصنا من أيدي الرعاة، فاستقى لنا الماء، وسقى غنمنا، فقال لبناته: وأين هو؟ لم تركتن الرجل، انطلقن وادعونه فيأكل عندنا خبزاً، ففعلن ذلك، فأعجب موسى أن ينزل على ذلك الرجل فزوجه صفورا ابنته فتزوجها فولدت له ابناً فسماه جرشون، لأنه قال: إني صرت ساكناً في أرض غريبة. وولدت لموسى ابناً آخر، فسماه اليعازار، لأنه قال: إن إله آبائي خلصني من حرب فرعون. وقوله: إن المتخاصمين في اليوم الثاني عبرانيان، إن أمكن تنزيل ما في القرآن عليه فذاك، وإلا فهو مما بدلوه، وقوله: إن بنات شعيب سبع لا يخالف ما في القرآن الكريم، بل أيده الزمخشري بتعيينهما بقوله «هاتين» لكن تقدم ما يشير إلى أن ذلك غير لازم.
ولما كان من المعلوم أن التقدير: فلما التزم موسى عليه السلام
276
زوجه ابنته كما شرط، واستمر عنده حتى قضى ما عليه، بنى عليه قوله: ﴿فلما قضى﴾ أي وفى وأتم، ونهى وأنفذ ﴿موسى﴾ صاحبه ﴿الأجل﴾ أي الأوفى وهو العشر، بأن وفى جميع ما شرط عليه من العمل، فإنه ورد أنه قضى من الأجلين أوفاهما، وتزوج من المرأتين صغراهما، وهي التي جاءت فقالت: يا أبت استأجره روى الطبراني في الأوسط معناه عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً، والظاهر أنه مكث عنده بعد الأجل أيضاً مدة، لأنه عطف بالواو قوله: ﴿وسار﴾ ولم يجعله جواباً للما ﴿بأهله﴾ أي امرأة راجعاً إلى أقاربه بمصر ﴿آنس﴾ أي أبصر ﴿من جانب الطور ناراً﴾ آنسته رؤيتها وشرحته إنارتها، وكان مضروراً إلى الدلالة على الطريق والاصطلاء بالنار.
ولما كان كأنه قيل: ماذا فعل عندما أبصرها قيل: ﴿قال لأهله﴾ ولما كان النساء أعظم ما ينبغي ستره، أطلق عليها ضمير الذكور فقال: ﴿امكثوا﴾ وإن كان معه بنين له فهو على التغليب، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً، لاستبعاد أن يكون في ذلك المكان القفر وفي ذلك
277
الوقت الشديد البرد نار: ﴿إني آنست ناراً﴾ فكأنه قيل: فماذا تعمل بها؟ فقال معبراً بالترجي لأنه أليق بالتواضع الذي هو مقصود السورة، وهو الحقيقة في إدراك الآدميين في مثل هذا، ولذا عبر بالجذوة التي مدار مادتها الثبات: ﴿لعلي آتيكم منها﴾ أي من عندها ﴿بخبر﴾ ينفعنا في الدلالة على المقصد ﴿أو جذوة﴾ أي عود غليظ ﴿من النار﴾ أي متمكنة منه هذه الحقيقة أو التي تقدم ذكرها؛ ثم استأنف قوله ﴿لعلكم تصطلون*﴾ أي لتكونوا على رجاء من أن تقربوا من النار فتنعطفوا عليها لتدفؤوا، وهذا دليل على أن الوقت كان شتاء ﴿فلما أتاها﴾ أي النار.
ولما كان آخر الكلام دالاً دلالة واضحة على أن المنادي هو الله سبحانه، بنى للمفعول قوله دالاًّ على ما في أول الأمر من الخفاء: ﴿نودي﴾ ولما كان نداؤه سبحانه لا يشبه نداء غيره بل يكون من جميع الجوانب، وكان مع ذلك قد يكون لبعض المواضع مزيد تشريف بوصف من الأوصاف، إما بأن يكون أول السماع منه أو غير ذلك أو يكون باعتبار كون موسى عليه الصلاة والسلام فيه قال: ﴿من﴾ أي
278
كائناً موسى عليه السلام بالقرب من ﴿شاطئ﴾ أي جانب ﴿الواد﴾ عن يمين موسى عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال: ﴿الأيمن﴾ وهو صفة للشاطىء الكائن أو كائناً ﴿في البقعة المباركة﴾ كائناً أول أو معظم النداء أو كائناً موسى عليه الصلاة والسلام قريباً ﴿من الشجرة﴾ كما تقول: ناديت فلاناً من بيته، ولعل الشجرة كانت كبيرة، فلما وصل إليها دخل النور من طرفها إلى وسطها، فدخلها وراءه بحيث توسطها فسمع - وهو فيها - الكلام من الله تعالى حقيقة، وهو المتكلم سبحانه لا الشجرة، قال القشيري: ومحصل الإجماع أنه عليه الصلاة والسلام سمع تلك الليلة كلام الله، ولو كان ذلك نداء الشجرة لكان المتكلم الشجرة، وقال التفتازاني شرح المقاصد أن اختيار حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزلي بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة، بلا كم ولا كيف، وتقدم في طه أن المراد ما إلى يمين المتوجه من مصر إلى الكعبة المشرفة، والشجرة قال البغوي: قال ابن مسعود رضي الله عنه: كانت سمرة خضراء تبرق، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: كانت عوسجة، وقال وهب: من العليق، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها العناب. ثم ذكر المنادي بقوله: ﴿أن يا موسى﴾ وأكد لأنه سبحانه
279
لعظمه يحتقر كل أحد نفسه لأن يؤهله للكلام لا سيما والأمر في أوله فقال: ﴿إني أنا الله﴾ أي المستجمع للأسماء الحسنى، والصفات العلى.
ولما كان هذا الاسم غيباً، تعرف بصفة هي مجمع الأفعال المشاهدة للإنسان فقال: ﴿رب العالمين*﴾ أي خالق الخلائق أجمعين ومربيهم ﴿وأن ألق عصاك﴾ أي لأريك فيها آية.
ولما كان التقدير: فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة، وهي مع عظمها في غاية الخفة، بنى عليه قوله: ﴿فلما رآها﴾ أي العصا ﴿تهتز كأنها﴾ أي في سرعتها وخفتها ﴿جان﴾ أي حية صغيرة ﴿ولّى مدبراً﴾ خوفاً منها ولم يلتفت إلى جهتها، وهو معنى قوله: ﴿ولم يعقب﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك كناية عن شدة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفاً من الإدراك في الطلب فقيل له: ﴿يا موسى أقبل﴾ أي التفت وتقدم إليها ﴿ولا تخف﴾ ثم أكد له الأمر لما الآدمي مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله: ﴿إنك من الآمنين*﴾ أي العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين؛ ثم زاد طمأنينته بقوله: ﴿اسلك﴾ أي ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة ﴿يدك في جيبك﴾ أي القطع الذي في ثوبك وهو الذي تخرج منه الرأس، أو هو الكم، كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرر، تنسلك على لونها وما هي عليه من
280
أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته، وأخرجها ﴿تخرج بيضاء﴾ أي بياضاً عظيماً يكون له شأن خارق للعادات ﴿من غير سوء﴾ أي عيب من حريق أو غيره، فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس، فالآية من الاحتباك.
ولما كان ذلك لا يكون آية محققة لعدم العيب إلا بعودها بعد ذلك إلى لون الجسد قال: ﴿واضمم إليك﴾ أي إلى جسدك. ولما كان السياق للتأمين من الخوف، عبر بالجناح، لأن الطائر يكون آمناً عند ضم جناحه فقال: ﴿جناحك﴾ أي يديك التي صارت بيضاء، والمراد بالجناح في آية طه الإبط والجانب لأنه لفظ مشترك ﴿من الرهب﴾ أي من خشية أن تظنها معيبة تخرج كما كانت قبل بياضها في لون جسدك - هذا على أن المراد بالرهب الخوف الذي بهره فأوجب له الهرب، ويجوز أن يكون المراد بالرهب الكم، فيكون إدخالها في الفتى - التي ليست موضعها بل الرأس - للبياض، وإدخالها في الكم - الذي هو لها - لرجوعها إلى عادتها، وفي البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره فذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية، وقال: وما من خائف بعد موسى عليه الصلاة والسلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وأظهر بلفظ الجناح من
281
غير إضمار تعظيماً للمقام وتنبيهاً على أن عودها إلى حالها الأول آية مستقلة، وعبر عنها بلفظ الجناح تنبيهاً على الشكر بتعظيم نفعها.
ولما تم كوناً آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال: ﴿فذانك﴾ أي العصي واليد البيضاء، وشدد أبو عمرو وابن كثير ورويس تقوية لها لتعادل الأسماء المتمكنة، وذكر لزيادة التقوية ﴿برهانان﴾ أي سلطانان وحجتان قاهرتان ﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره ﴿إلى﴾ أي واصلان، أو أنت مرسل بهما إلى ﴿فرعون وملئه﴾ كلما أردت ذلك وجدته، لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحفرة فقط، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله مؤكداً تنبيهاً على ان إقدامه على الرجوع إليهم فعل من يظن أنهم رجعوا عن غيهم، وإعلاماً بمنه عليه بالحماية منهم بهذه البراهين: ﴿إنهم كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿قوماً﴾ أي أقوياء ﴿فاسقين*﴾ أي خارجين عن الطاعة، فإذا رأوا ذلك هابوك، فلم يقدروا على الوصول إليك بسوء، وكنت في مقام أن تردهم عن فسقهم.
282
ولما كان كأنه قيل: ما فعل بعد رؤية هذه الخوارق؟ قيل: ثبت، علماً منه بصعوبة المقام وخطر الأمر، فاشترط لنفسه حتى رضي، وتلك كانت عادته ثباتاً وحزماً، وحلماً وعلماً، ألا ترى إلى ما فعل معنا عليه السلام والتحية والإكرام من الخير ليلة الإسراء في السؤال في تخفيف الصلاة، ولذلك كله ﴿قال رب﴾ أي أيها المحسن إليّ ﴿إني﴾ أكده لأن إرسال الله سبحانه له فعل من لا يعتبر أن لهم عليه ترة، فذكر ذلك ليعلم وجه عدم اعتباره ﴿قتلت منهم﴾ أي آل فرعون ﴿نفساً﴾ وأنت تعلم ما خرجت إلا هارباً منهم من أجلها ﴿فأخاف﴾ إن باديتهم، بمثل ذلك ﴿أن يقتلون*﴾ لذنبي إليهم ووحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج.
ولما تسبب عن ذلك طلب الإعانة بشخص فيه كفاية وله عليه شفقة، وكان أخوه هارون أحق الناس بهذا الوصف، كان التقدير: فأرسل معي أخي هارون - إلى آخره، غير أنه قدم ذكره اهتماماً بشأنه فقال: ﴿وأخي هارون﴾ والظاهر أن واوه للحال من ضمير موسى عليه الصلاة والسلام، أو عاطفة على مقول القول، والمعنى أنه يخاف أن يفوت مقصود الرسالة إما بقتله أو لعدم بيانه، فاكتفى بالتلويح في الكفاية
283
من الأول، لأنه لا طاقة لأحد غير الله بها، وصرح بما يكفي من الثاني، فكأن التقدير: إني أخاف أن يقتلون فيفوت المقصود، ولا يحمني من ذلك إلا أنت، وإن لساني فيه عقدة، وأخي - إلى آخره؛ وزاد في تعظيمه بضمير الفصل فقال: ﴿هو أفصح مني لساناً﴾ أي من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون ﴿فأرسله﴾ أي بسبب ذلك ﴿معي ردءاً﴾ أي معيناً، من ردأت فلاناً بكذا، أي جعلته له قوة وعاضداً، وردأت الحائط - إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط؛ وقراءة نافع بغير همز من الزيادة.
ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه، نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله: ﴿يصدقني﴾ أي بأن يلخص بفصاحته ما قتله وبينته، ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً، فيكون - مع تصديقه لي بنفسه - سبباً في تصديق غيره لي؛ ورفعه عاصم وحمزة صفة لردءاً. ثم علل سؤاله هذا، وبين أنه هو المراد، لا أن يقول له: صدقت، فإن قوله لهذه اللفظة لا تعلق له بالفصاحة حتى يكون سبباً للسؤال فيه، بقوله مؤكداً لأجل أن من كان رسولاً عن الله لا يظن به أن يخاف: ﴿إني أخاف أن يكذبون*﴾.
ولما كان ما رأى من الأفعال، وسمع من الأقوال، مقتضياً للأمن
284
من أن يكذبوه، وكان عالماً بما هم عليه من القساوة والكبر، أشار إلى ذلك بالتأكيد، أي وإذا كذبوني عسرت عليّ المحاججة على ما هو عادة أهل الهمم عند تمالؤ الخصوم على العناد، والإرسال موجب لكلام كثير وحجاج طويل، وقريب من هذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أمره الله تعالى بإنذار قومه
«إذن يثلغوا رأسي فيجعلوه خبزة» وكأن مراد السادة القادة عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام الاستعلام عن الأمر هل يجري على العادة أو لا؟ فإن كان يجري على العادة وطنوا أنفسهم على الموت، وإلا ذكر لهم الأمر الخارق فيكون بشارة لهم، ليمضوا في الأمر على بصيرة، ويسيروا فيه على حسب ما يقتضيه من السيرة.
ولما أكد أمر الطلب بهارون عليهما الصلاة والسلام، أكد له سبحانه أمر الإجابة بقوله مستأنفاً: ﴿قال سنشد﴾ وذكر أولى الأعضاء بمزاولة المكاره فقال: ﴿عضدك﴾ أي أمرك ﴿بأخيك﴾ أي سنقويك ونعينك به إجابة لسؤالك صلة منك لأخيك، وعوناً منه لك ﴿ونجعل لكما سلطاناً﴾ أي ظهوراً عظيماً عليهم، وغلبة لهم بالحجج
285
والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف ﴿فلا﴾ أي فيتسبب عن ذلك أنهم لا ﴿يصلون إليكما﴾ بنوع من أنواع الغلبة ﴿بآياتنا﴾ أي نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات المعظمة بنسبتها إلينا، ولذلك كانت النتيجة ﴿أنتما ومن اتبعكما﴾ أي من قومكما وغيرهم ﴿الغالبون*﴾ أي لا غيرهم، وهذا يدل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين لأنفسهم في الله، وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرر من ذكرهم، وقد كشفت العاقبة عن أن السحرة ليسوا من جنوده، بل من حزب الله وجنده، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها، وسيأتي في آخر سورة الحديد عن تاريخ ابن عبد الحكم أنهم خلصوا ورجع بعضهم إلى مصر فكانوا أول من ترهب.
شرح ما مضى من التوراة، قال بعدما تقدم: وكان من بعد
286
أيام كثيرة مات فرعون ملك مصر فاستراح بنو إسرائيل من شدة تعبدهم، فصلوا فسمع الله صلاتهم، وعرف تعبدهم، وسمع ضجتهم، وذكر عهده لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأبصر الله بني إسرائيل، وعرف ذلهم، فكان موسى يرعى غنم يثرو ختنه حبر مدين، فساق بالشاء إلى طرف البرية وأتى إلى حوريب جبل الله، فتراءى له ملك الله بلهب النار من جوف العوسج، تشتعل فيه النار، ولم يكن العوسج يحترق، فقال موسى: لأعدلن فأنظر إلى هذه الرؤيا العظيمة؛ ما بال هذه العوسجة لم تحترق؟ فرأى الرب أنه قد عدل لينظر، فدعاه الله من جوف العوسج وقال له: يا موسى يا موسى! فقال: هأنذا! قال: لا تدن إلى ههنا، اطرح خفيك عن قدميك، لأن المكان الذي أنت واقف عليه مكان طاهر، وفي نسخة: مقدس، وقال الله: أنا إله أبيك إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب، فغطى موسى وجهه لأنه فرق أن يمد بصره نحو الرب، وقال الرب: إني قد رأيت ذل شعبي بمصر، وسمعت ضجتهم التي ضجوا من تعبدهم، لأني عارف براءتهم، فنزلت لأخلصهم من أيدي المصريين، وأن أصعدهم
287
من تلك الأرض إلى أرض صالحة واسعة، تغل السمن والعسل: أرض الكنعانيين والحاثانيين والأمورانيين والفرزانيين والحاوانيين واليابسانيين، والآن هو ذا ضجيج بني إسرائيل قد ارتفع إليّ، ورأيت ضر المصريين لهم، فهبطت الآن حتى أرسلك إلى فرعون.
وأخرج شعبي بني إسرائيل من مصر، فقال موسى لله: من أنا حتى أنطلق إلى فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر، فقال الله: أنا أكون معك وهذه الآية لك أني أرسلتك: إنك إذا أخرجت الشعب من مصر تعبدون الله في هذا الجبل، فقال موسى: ها أنذا منطلق إلى بني إسرائيل وأقول لهم: الرب إله آبائكم أرسلني إليكم، فإن قالوا لي: ما اسمه؟ ما الذي أقول؟ فقال الرب لموسى: قل لهم: الأزلي الذي لم يزل، وفي نسخة: لا يزول، وقال: هكذا قل لبني إسرائيل: أهيا شر أهيا أرسلني إليكم، وقال الرب أيضاً لموسى هكذا قل لبني إسرائيل:
288
الله ربكم إله آبائكم إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب أرسلني إليكم هذا اسمي إلى الأبد، وهذا ذكري إلى حقب الأحقاب، انطلق فاجمع أشياخ بني إسرائيل وقل لهم: الرب إله آبائكم اعتلن لي، وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لكم: قد ذكرتكم وذكرت ما صنع بكم بمصر، ورأيت إخراجكم من تعبد أهل مصر إلى ارض الكنعانيين - ومن تقدم معهم - إلى الأرض التي تعل السمن والعسل، فإذا قبلوا منك فادخل أنت وأشياخ بني إسرائيل إلى ملك مصر فقولوا له: الرب إله العبرانيين ظهر علينا فننطلق الآن مسيرة ثلاثة أيام في البرية ونذبح الذبائح لله ربنا، وأنا أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تخرجون، ولا بيد واحدة شديدة، حتى أبعث بآفتي وأضرب المصريين بجميع العجائب التي أحدثها فيهم، ومن بعد ذلك يرسلكم فأجعل للشعب في أعين المصريين رأفة ورحمة، فإذا انطلقتم فلا تنطلقوا عطلاً صفراً، بل تستعير المرأة منكم من جاراتها وساكنة بيتها حلي ذهب وفضة وكسوة، وألبسوها بنيكم وبناتكم، وأخربوا أهل مصر، فأجاب موسى وقال: إنهم لا يصدقونني، ولا يقبلون قولي، لأنه يقولون:
289
لم يتراءى لك الرب، فقال له الرب: ما هذه التي في يدك؟ فقال: هي عصاي، فقال: ألقها في الأرض، فألقاها في الأرض، فصارت ثعباناً، فهرب منه موسى، فقال له الرب: يا موسى! مد يدك، فخذ بذنبها، فمد يده فأمسكه فتحول في يده عصا، فقال: لكي يصدقوا أن الله إله آبائهم قد تراءى لك، إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب، وقال الرب لموسى: اردد يدك في ردنك، وفي نسخة: في كمك، فأدخلها ثم أخرجها فإذ بيده بيضاء كالثلج، فقال له: اردد يدك في حضنك، وفي نسخة: في كمك، فردها ثم أخرجها فإذا هي مثل جسده، فإن هم لم يؤمنوا ولم يسمعوا بالآية الأولى فإنهم يؤمنون ويسمعون بالآية الأخرى، فإن لم يؤمنوا بالآيتين، ولم يسمعوا قولك فخذ ماء من الأرض، وفي نسخة: النيل، فاصببه على الأرض، فإنه ينقلب ويصير دماً في اليبس، فقال موسى للرب: أطلب إليك يا رب لست رجلاً ناطقاً منذ أمس ولا قبله ولا من الوقت الذي كلمت عبدك فيه، لأني ألثغ المنطق عسر
290
اللسان، فقال له الرب: من الذي خلق المنطق للإنسان؟ ومن الذي خلق الأخرس والأصم والمبصر والمكفوف؟ أليس أنا الرب الذي أصنع ذلك؟ فانطلق الآن وأنا أكون معك، وراقباً للسانك وألقنك ما تنطق به، فقال: موسى أطلب إليك يا رب! أرسل في هذه الرسالة غيري، فقال: هذا أخوك هارون اللاوي، قد علمت أنه ناطق لسن، وهو أيضاً سيلقاك، ويشتد فرحه بك، وأخبره بالأمر، ولقنه كلامي، وأنا أكون راقباً على فيك وفيه وأعلمكما ما تصنعان، وهو يكلم الشعب عنك؛ فيكون لك مترجماً، وأنت تكون له إلهاً، وفي نسخة: أستاذاً ومدبراً، وخذ في يديك هذه العصا لتعمل بها الآيات، فرجع موسى منطلقاً إلى ثيرو ختنه وقال له: إني راجع إلى إخوتي بمصر، وناظر هل هم أحياء بعد؟ فقال: ثيرو لموسى: انطلق راشداً سالماً، وقال الرب لموسى في مدين: انطلق راجعاً إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا معك يطلبون نفسك قد هلكوا جميعاً - إلى آخر ما مضى في الأعراف، وفي هذا الفصل ما لا يسوغ إطلاقه في شرعنا على مخلوق، وهو الإله، وهو في لغة العبرانيين بمعنى العالم والحاكم، وفيه أيضاً أن فرعون مات قبل رجوع موسى فإن كان المراد الذي
291
ربى موسى عليه الصلاة والسلام في بيته فهو مما بدلوه.
292
ولما كان التقدير: فأتاهم كما أمر الله، وعاضده أخوه كما أخبر الله، ودعواهم إلى الله تعالى، وأظهرا ما أمرا به من الآيات، بنى قوله مبيناً بالفاء سرعة امتثاله: ﴿فلما جاءهم﴾ أي فرعون وقومه.
ولما كانت رسالة هارون عليه الصلاة والسلام إنما هي تأييد لموسى عليه الصلاة والسلام، أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي، فقال: ﴿موسى بآياتنا﴾ أي التي أمرناه بها، الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها ﴿بينات﴾ أي في غاية الوضوح ﴿قالوا﴾ أي فرعون وجنوده ﴿ما هذا﴾ أي الذي أظهره من الآيات ﴿إلا سحر مفترى﴾ أي هو خيال لا حقيقة له كجميع أنواع السحر، متعمداً التخييل به، لا أنه معجزة من عند الله ﴿وما سمعنا بهذا﴾ أي الذي تقوله من الرسالة عن الله ﴿في آبائنا﴾ وأشاروا إلى البدعة التي قد أضلت أكثر الخلق، وهي تحكيم عوائد التقليد، ولا سيما عند تقادمها على القواطع في قوله: ﴿الأولين*﴾ وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك في أيام يوسف عليه السلام «وما بالعهد من قدم» فقد قال لهم الذي آمن {يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم
292
الأحزاب} [غافر: ٣٤]- إلى قوله: ﴿ولقد جاءكم يوسف من قبله بالبينات﴾ [غافر: ٣٤].
ولما أخبر تعالى بقولهم عطف عليه الإخبار بقول موسى عليه الصلاة والسلام ليوازن السامع بين الكلامين، ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما «فبضدها تتبين الأشياء» هذا على قراءة الجماعة بالواو، واستأنف جواباً لمن كأنه سأل عن جوابه على قراءة ابن كثير بحذفها، فإن الموضع موضع بحث عما أجابهم به عند تسميتهم الآيات الباهرات سحراً، استعظاماً لذلك فقال: ﴿وقال موسى﴾ أي لما كذبوه وهم الكاذبون، مشيراً لذي البصر إلى طريق يميزون به الأمرين في سياق مهدد لهم: ﴿ربي﴾ أي المحسن إليّ بما ترون من تصديقي في كل ما ادعيته بإظهار ما لا تقدرون عليه على قوتكم من الخوارق، ومنع هذا الظالم العاتي المستكبر من الوصول إليّ بسوء ﴿أعلم بمن جاء﴾ بالضلال ظلماً وعدواناً، فيكون مخذولاً لكونه ساحراً فمحرقاً مفترياً على الله، ويكون له سوء الدار، وأعلم بحاله، ولكنه قال «بمن جاء» ﴿بالهدى﴾ أي الذي أذن الله فيه، وهو حق في نفسه ﴿من عنده﴾، تصويراً لحاله، وتشويقاً إلى أتباعه ﴿ومن تكون له﴾ لكونه منصوراً مؤيداً ﴿عاقبة الدار﴾ أي الراحة والسكن والاستقرار مع الأمن والطمأنينة والسرور والظفر
293
بجميع المطالب في الحالة التي تكون آخر الحالات مني ومنكم، فيعلم أنه أتى بما يرضي الله وهي وإن كانت حقيقتها ما يتعقب الشيء من خير أو شر، لكنها لا يراد بها إلا ما يقصد للعاقل حتى تكون له، وأما عاقبة السوء فهي عليه لا له؛ ثم علل ذلك بما أجرى الله به عادته؛ فقال معلماً بأن المخذول هو الكاذب، إشارة إلى أنه الغالب لكون الله معه، مؤكداً لما استقر في الأنفس من أن التقوي لا يغلبه الضعيف ﴿إنه لا يفلح﴾ أي يظفر ويفوز ﴿الظالمون*﴾ أي الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل، فهم لا يضعون قدماً في موضع يثقون بأنه صالح للمشي فيه، لا تبعة فيه فستنظرون ﴿ولتعلمن نبأه بعد حين﴾ ﴿وقال فرعون﴾ جواباً لهذا الترغيب والترهيب بعد الإعذار، ببيان الآيات الكبار، قانعاً في مدافعة ما رأى أنه اجتذب قومه الأغمار الأغبياء عن الجهل من ظهور تلك الآيات البينات بأن يوقفهم عن الإيمان إلى وقت ما، وكذا كانت عادته كلما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام برهاناً، لأن قومه في غاية الغباوة والعراقة في الميل إلى الباطل والنفرة من الحق وترجيح المظنة على المئنة: ﴿يا أيها الملأ﴾ أي الأشراف، معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم ﴿ما علمت لكم﴾ وأعرق في النفي فقال: ﴿من إله غيري﴾ نفى علمه بذلك إظهاراً للنصفة، وأنه ما قصد غشهم، وذلك منه واضح في أنه قصد تشكيكهم،
294
إشارة منه إلى أن انتقاء علمه بوجوده ما هو إلا لانتفاء وجوده بعد علمه بأن الحق مع موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أنهى ما قدر عليه بعد رؤيتهم لباهر الآيات، وظاهر الدلالات؛ ثم زاد في إيقافهم عن المتابعة بأن سبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أول من عمله، مع أنه هذه العبارة أشبه بهمم الجبابرة من أن يقول: اصنع لي آجراً: ﴿فأوقد لي﴾ أضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بد منه ﴿يا هامان﴾ وهو وزيره ﴿على الطين﴾ أي المتخذ لبناً ليصير آجراً؛ ثم سبب عن الإيقاد قوله: ﴿فاجعل لي﴾ أي منه ﴿صرحاً﴾ أي بناء عالياً يتاخم السماء، قال الطبري: وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر، وقال الزجاج: كل بناء متسع مرتفع ﴿لعلي أطلع﴾ أي أتكلف الطلوع ﴿إلى إله موسى﴾ أي الذي يدعوا إليه، فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه على تقدير صحة الدعوى بأنه موجود، وهو قاطع بخلاف ذلك، ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت، لعلمه أن العادة جرت بأن أكثر
295
الناس يظنون بالملوك القدرة على كل ما يقولونه؛ ثم زادهم شكاً بقوله، مؤكداً لأجل دفع ما استقر في الأنفس من صدق موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿وإني لأظنه﴾ أي موسى ﴿من الكاذبين*﴾ أي دأبه ذلك، وقد كذب هو ولبس لعنة الله ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة العريقة في العدوان، وإن كان هذا الكلام منه على حقيقته فلا شيء أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته منه حيث ظن أنه يصل السماء؛ ثم علل على تقدير الوصول يقدر على الارتقاء على ظهرها، ثم على تقدير ذلك يقدر على منازعة بانيها وسامكها ومعليها.
ولما قال هذا مريداً به - كما تقدم - إيقاف قومه عن إتباع الحق، أتبعه تعالى الإشارة إلى أنهم فعلوا ما أراد، وإن كان ذلك هو الكبر عن الحق فقال تعالى: ﴿واستكبر﴾ أي وأوجد الكبر بغاية الرغبة فيه ﴿هو﴾ بقوله هذا الذي صدهم به عن السبيل ﴿وجنوده﴾ بانصدادهم لشدة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل ﴿في الأرض﴾ أي أرض مصر، ولعله عرفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل ﴿بغير الحق﴾ أي استكباراً مصحوباً بغير هذه الحقيقة، والتعبير
296
بالتعريف يدل على أن التعظيم بنوع من الحق ليس كبراً وإن كانت صورته كذلك، وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله، وعطف على ذلك ما تفرع عنه وعن الغباوة أيضاً ولذا لم يعطفه بالفاء، فقال: ﴿وظنوا﴾ أي فرعون وقومه ظناً بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع ﴿أنهم إلينا﴾ أي إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عنده انقطاع الأسباب ﴿لا يرجعون*﴾ أي لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلذلك اجترؤوا على ما ارتكبوه من الفساد.
297
ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال: ﴿فأخذناه﴾ أي بعظمتنا أخذ قهر ونقمة ﴿وجنوده﴾ أي كلهم، وذلك علينا هين، وأشار إلى احتقارهم بقوله: ﴿فنبذناهم﴾ أي على صغرهم وعظمتنا ﴿في اليم﴾ فكانوا على كثرتهم وقوتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الذراع من يده في البحر، فغابوا في الحال، وما آبوا ولا أحد منهم إلى أهل ولا مال. ولما سببت هذه الآية من العلوم، ما لا يحيط به الفهوم، قال: ﴿فانظر﴾ أي أيها المتعرف للآيات الناظر فيها نظر الاعتبار؛ وزاد في تعظيم ذلك بالتنبيه على أنه مما يحق له أن يسأل عنه فقال: ﴿كيف كان﴾ أي كوناً هو الكون ﴿عاقبة﴾ أي آخر أمر ﴿الظالمين*﴾ وإن زاد ظلمهم، وأعيى أمرهم، ذهبوا في طرفة عين، كأن لم يكونوا، وغابوا عن العيون كأنهم قط لم يبينوا، وسكتوا بعد ذلك الأمر والنهي
297
فصاروا بحيث لم يبينوا، فليحذر هؤلاء الذين ظلموا إن استمروا على ظلمهم أن ينقطعوا ويبينوا، وهذا إشارة عظيمة بأعظم بشارة بأن كل ظالم يكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق، ورابطه حتى يحكم الله وهو خير الحالكمين.
ولما كان «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وكانوا أول من أصر وأطبق في ذلك الزمان على تكذيب الآيات، وإخفاء الدلالات النيرات، على تواليها وكثرتها، وطول زمانها وعظمتها وكانت منابذة العقل واتباع الضلال في غاية الاستبعاد، لا سيما إن كانت ضامنة للهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، قال تعالى في مظهر العظمة: ﴿وجعلناهم﴾ أي في الدنيا ﴿أئمة﴾ أي متبوعين في رد ما لا يرده عاقل من هذه الآيات، أي جعلنا أمرهم شهيراً حتى لا يكاد أحد يجهله، فكل من فعل مثل أفعالهم من رد الحق والتجبر على الخلق، فكأنه قد اختار الاقتداء بهم وإن لم يكن قاصداً ذلك، فأطلق ذلك عليه رفعاً له عن النسبة إلى أنه يعمل ما يلزمه الاتسام به وهو عاقل عنه كما أنه لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل،
298
وأحق الناس باتباعهم في باطن اعتقادهم وظاهر اصطناعهم، وخيبة آمالهم وأطماعهم أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد أهلك الله أنصارهم. وعجل دمارهم، وكشف هذا المعنى بقوله: ﴿يدعون﴾ أي يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم، فضل ضلالهم ﴿إلى النار﴾ أي وجعلنا لهم أعواناً ينصرونهم عكس ما أردنا لبني إسرائيل - كما سلف أول السورة - وجعلناهم موروثين.
ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة، وكان قد أخبر عن خذلانهم في الدنيا، قال: ﴿ويوم القيامة﴾ أي الذي هو يوم التغابن ﴿لا ينصرون*﴾ أي لا يكون لهم نوع نصرة أصلاً كما كانوا يوم هلاكهم في الدنيا سواء، ولا هم أئمة ولا لهم دعوة، يخلدون في العذاب، ويكون لهم سوء المآب.
ولما أخبر عن هذا الحال، أخبر عن ثمرته؛ فقال في مظهر العظمة، لأن السياق لبيان علو فرعون وآله، وأنهم مع ذلك طوع المشيئة ﴿وأتبعناهم في هذه﴾ ولما كان المراد الإطناب في بيان ملكهم، فسر اسم الإشارة فقال: ﴿الدنيا﴾ ولم يقل: الحياة، لأن السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم ﴿لعنة﴾ أي طرداً وبعداً عن جنابنا ودفعاً لهم بذلك ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه
299
إن خالفهم، أو بفعله الذي يكون عليهم مثل وزره إن والفهم ﴿ويوم القيامة هم﴾ أي خاصة، ومن شاكلهم ﴿من المقبوحين*﴾ أي المبعدين أيضاً المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال، والشناعة في الأقوال والأفعال والأحوال، من القبح الذي هو ضد الحسن، ومن قولهم: قبحت الشيء - إذا كسرته، وقبح الله العدو: أبعده عن كل خير، فيا ليت شعري أي صراحة بعد هذا في أن فرعون عدو الله، في الآخرة كما كان عدوه في الدنيا، فلعنة الله على من يقول: إنه مات مؤمناً، وإنه لا صريح في القرآن بأنه من أهل النار، وعلى كل من يشك في كفره بعد ما ارتكبه من جلي أمره.
ولما وعد سبحانه بإمامة بني إسرائيل وقص القصص حتى ختم بإمامة آل فرعون في الدعاء إلى النار إعلاماً بأن ما كانوا عليه تجب مجانبته ومنابذته ومباعدته، وكان من المعلوم أنه لا بد لكل إمامة من دعامة، تشوفت النفس إلى أساس إمامة بني إسرائيل التي يجب العكوف في ذلك الزمان عليها، والتمسك بها، والمبادرة إليها، فأخبر سبحانه عن ذلك مقسماً عليه مع الافتتاح بحرف التوقع، لأن العرب وإن كانوا مصدقين لما وقع من المنة على بني إسرائيل بإنقاذهم من يد فرعون
300
وتمكينهم بعده، وإنزال الكتاب عليهم، فحالهم بإنكار التمكين لأهل الإسلام والتكذيب بكتابهم حال المكذب بأمر بني إسرائيل، لأنه لا فرق بين نبي ونبي، وكتاب وكتاب، وناس وناس، لأن رب الكل واحد، فقال: ﴿ولقد آتينا﴾ أي بما لنا من الجلال والجمال والمجد والكمال ﴿موسى الكتاب﴾ أي التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين؛ قال أبو حيان: وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائض والأحكام.
ولما كان حكم التوراة لا يستغرق الزمان الآتي، أدخل الجار فقال: ﴿من بعد ما﴾ إشارة إلى أن إيتاءها إنما هو في مدة من الزمان، ثم ينسخها سبحانه بما يشاء من أمره ﴿أهلكنا﴾ أي بعظمتنا ﴿القرون الأولى﴾ أي من قوم نوح إلى قوم فرعون، ووقتها بالهلاك إشارة إلى أنه لا يعم أمة من الأمم بالهلاك بعد إنزالها تشريفاً لها ولمن أنزلت عليه وأوصلت إليه؛ ثم ذكر حالها بقوله: ﴿بصائر﴾ جمع بصيرة، وهي نور القلب، مصابيح وأنواراً ﴿للناس﴾ أي يبصرون بها ما يعقل من أمر معاشهم ومعادهم، وأولاهم وأخراهم، كما أن نور العين
301
يبصر به ما يحسن من أمور الدنيا.
ولما كان المستبصر قد لا يهتدي لمانع قال: ﴿وهدى﴾ أي للعامل بها إلى كل خير. ولما كان المهتدي ربما حمل على من توصل إلى غرضه، وكان ضاراً، قال: ﴿ورحمة﴾ أي نعمة هنية شريفة، لأنها قائدة إليها.
ولما ذكر حالها، ذكر حالهم بعد إنزالها فقال: ﴿لعلهم يتذكرون*﴾ أي ليكون حالهم حال من يرجى تذكره، وهذا إشارة إلى أنه ليس في الشرائع ما يخرج عن العقل بل متى تأمله الإنسان تذكر به من عقله ما يرشد إلى مثله.
302
ولما بين سبحانه في هذه السورة من غرائب أمر موسى عليه الصلاة والسلام وخفي أحواله ما بين، وكانت هذه الأخبار لا يقدر أهل الكتاب على إنكارها، نوعاً من الإنكار، وكان من المشهور أي اشتهار، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعرفها ولا سواها من غير الواحد القهار، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله حالاً من ضمير ﴿آتينا﴾ ﴿وما كنت بجانب الغربي﴾ أي الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار، وهو مما يلي البحر منه من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرفة من ناحية مصر، فناداه منه العزيز
302
الجبار، وهو ذو طوى ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قضينا﴾ بكلامنا بما حوى من الجلال، وزاد العظمة في رفيع درجاته بالإشارة بحرف الغاية فقال: ﴿إلى موسى الأمر﴾ أي أمر إرساله إلى فرعون وقومه، وما نريد أن نفعل من ذلك في أوله وأثنائه وآخره مجملاً، فكان كل ما أخبرنا به مطابقاً تفصيله لإجماله، فأنت بحيث تسمع ذلك الذي قضيناه إليه من الجانب الذي أنت فيه ﴿وما كنت﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿من الشاهدين*﴾ لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى في ذلك المكان في أوقاته مع من شهده منه من أهل ذلك العصر من السبعين الذين اختارهم أو غيرهم ممن تبعه أو صد عنه حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي أتيناك به في هذه الأساليب المعجزة، ولا شك أن أمر معرفتك كذلك منحصر في شهودك إياه في وقته أو تعلمك له من الخالق، أو من الخلائق الذين شاهدوه، أو أخبرهم به من شاهده، وانتفاء تعلمه من أحد من الخلائق في الشهرة بمنزلة انتفاء شهوده له في وقته، فلم يبق إلا تلقيه له من الخالق، وهو الحق الذي لا شبهة فيه عند منصف.
ولما كان التقدير: وما كنت من أهل ذلك الزمان الحاضرين
303
لذلك الأمر، وامتد عمرك إلى هذا الزمان حتى أخبرت بما كنت حاضره، استدرك ضد ذلك فقال: ﴿ولكنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿أنشأنا﴾ أي بعد ما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة والإخبار، كلهم ﴿قروناً﴾ أي ما أخرنا أحداً من أهل ذلك الزمان، ولكنا أهلكناهم وأنشأنا بعدهم أجيالاً كثيرة ﴿فتطاول﴾ بمروره وعلوه ﴿عليهم العمر﴾ جداً بتدريج من الزمان شيئاً فشيئاً فنسيت تلك الأخبار، وحرفت ما بقي منها الرهبان والأحبار، ولا سيما في زمان الفترة، فوجب في حكمتنا إرسالك فأرسلناك لتقوم المحجة، وتقوم بك الحجة، فعلم أن إخبارك بهذا والحال أنك لم تشاهده ولا تعلمته من مخلوق إنما هو عنا وبوحينا.
ولما نفى العلم بذلك بطريق الشهود، نفى سبب العلم بذلك فقال: ﴿وما كنت ثاوياً﴾ أي مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين ﴿في أهل مدين﴾ أي قوم شعيب عليه السلام ﴿تتلوا﴾ أي تقرأ على سبيل القص للآثار والأخبار الحق ﴿عليهم آياتنا﴾ العظيمة، لتكون ممن يهتم بأمور الوحي وتتعرف دقيق أخباره، فيكون خبرهم وخبر موسى عليه الصلاة والسلام معهم وخبره بعد فراقه لهم
304
من شأنك، لتوفر داعيتك حينئذ على تعرفه ﴿ولكنا كنا﴾ أي كوناً أزلياً أبدياً نسبته إلى جميع الأزمنة بما لنا من العظمة، على حد سواء ﴿مرسلين*﴾ أي لنا صفة القدرة على الإرسال، فأرسلنا إلى كل نبي في وقته ثم أرسلنا إليك في هذا الزمان بأخبارهم وأخبار غيرهم لتنشرها في الناس، واضحة البيان سالمة من الإلباس، لأنا شاهدين لذلك كله، لم يغب عنا شيء منه ولا كان إلا بأمرنا.
ولما نفى السبب المبدئي للعلم بذلك الإجمال ثم الفائي للعلم بتفصيل تلك الوقائع والأعمال، نفى السبب الفائي للعم بالأحكام ونصب الشريعة بما فيها من القصص والمواعظ والحلال والحرام والآصار والأغلال بقوله: ﴿وما كنت بجانب الطور إذ﴾ أي حين ﴿نادينا﴾ أي أوقعنا النداء لموسى عليه الصلاة والسلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو قبله، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله، لأنك ما خالطت أحداً ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه الصلاة والسلام، ولا أحد أحملها عمن حملها عنه، ولكن ذلك كان إليك منا، وهو معنى قوله: ﴿ولكن﴾ أي أنزلنا ما أردنا منه ومن غيره عليك وأوحيناه إليك وأرسلناك به إلى الخلائق ﴿رحمة من ربك﴾ لك خصوصاً وللخلق عموماً ﴿لتنذر﴾ أي تحذر
305
تحذيراً كبيراً ﴿قوماً﴾ أي أهل قوة ونجدة، ليس لهم عائق من أعمال الخير العظيمة، لا الإعراض عنك، وهم العرب، ومن في ذلك الزمان من الخلق ﴿ما آتاهم﴾ وعم المنفي بزيادة الجار في قوله: ﴿من نذير﴾ أي منهم، وهم مقصودون بإرساله إليهم وإلا فقد أتتهم رسل موسى عليه السلام، ثم رسل عيسى عليه الصلاة والسلام، وإن صح أمر خالد بن سنان العبسي فيكون نبياً غير رسول، أو يكون رسولاً إلى قومه بني عبس خاصة، فدعاؤه لغيرهم إن وقع فمن باب الأمر بالمعروف عموماً، لا الإرسال خصوصاً، فيكون التقدير: نذير منهم عموماً، وزيادة الجار في قوله: ﴿من قبلك﴾ تدل على الزمن القريب، وهو زمن الفترة، وأما ما قبل ذلك فقد كانوا فيه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى غيره عمرو بن لحي فقد أنذرهم في تلك الأزمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم إسماعيل عليه الصلاة والسلام ثم من بعدهم من صالحي ذريتهم إلى زمان عمرو بن لحي، فهم لأجل عدم النذير عمي، عن الهدي، سالكون سبيل الردى، وقال: ﴿لعلهم يتذكرون*﴾ لمثل ما تقدم من أنهم إذا قبلوا ما جئت به وتدبروه أذكرهم إذكاراً ظاهراً - بما أشار إليه
306
الإظهار - ما في عقولهم من شواهده وإن كانت لا تستقل بدونه والله الموفق.
ولما كان انتفاء إنذارهم قبله عليه الصلاة والسلام نافياً للحجة في عذابهم بما أوجبه الله - وله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل - على نفسه الشريفة، فضلاً منه ورحمة، ذكر أن إرساله مما لا بد منه لذلك فقال: ﴿ولولا﴾ أي ولولا هذا الذي ذكرناه ما أرسلناك لتنذرهم، ولكنه حذف هذا الجواب إجلالاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المواجهة به، وذلك الذي ختم الإرسال هو ﴿أن تصيبهم﴾ أي في وقت من الأوقات ﴿مصيبة﴾ أي عظيمة ﴿بما قدمت أيديهم﴾ أي من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنه ﴿فيقولوا ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا ﴿لولا﴾ أي هل لا ولم لا ﴿أرسلت إلينا﴾ أي على وجه التشريف لنا، لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به ﴿رسولاً﴾ وأجاب التخصيص الذي شبهوه بالأمر لكون كل منهما باعثاً على الفعل بقوله: ﴿فنتبع﴾ أي فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع ﴿آياتك ونكون﴾ أي كوناً هو في غاية الرسوخ ﴿من المؤمنين*﴾ أي المصدين بك في كل ما أتى به عنك رسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً بليغاً، فإذا قالوا
307
ذلك على تقدير عدم الإرسال قامت لهم حجة في مجاري عاداتكم وإن كانت لنا الحجة البالغة.
308
ولما كان التقدير: ولكنا أرسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه، بنى عليه قوله: ﴿فلما جاءهم﴾ أي أهل مكة ﴿الحق﴾ الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما، وهو في نفسه جدير بأن يقبل لكونه في الذروة العليا من الثبات، فكيف وهو ﴿من عندنا﴾ على ما لنا من العظمة، وعلى لسانك وأنت أعظم الخلق! ﴿قالوا﴾ أي أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتاً كفراً به: ﴿لولا أوتي﴾ من الآيات، أي هذا الآتي بما يزعم أنه الحق، وبني للمفعول لأن القصد مطلق الإيتاء لأنه الذي يترتب عليه مقصود الرسالة، مع أن المؤتى معلوم ﴿مثل ما أوتي موسى﴾ أي من اليد والعصا وغيرهما من الآيات التي لا يقدر على إتيانها إلا القادر على كل شيء.
ولما كان الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام لا يكون موجباً للإيمان على زعمهم إلا بأن يكون أعظم مما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يكون الناس لم يتوقفوا في الإيمان به، وكان كل من الأمرين منتفياً بأن أهل زمانه كفرو به، وهو لما سألوا
308
اليهود عن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمروهم أن يمتحنوه بالروح وقصتي أهل ألكهف وذي القرنين وجاء في كل من ذلك بما لزمهم تصديقه، فامتنعوا وأصروا على كفرهم، وكان في ذلك كفرهم به وبموسى عليهما الصلاة والسلام، فعلم أن التقدير: ألم يكفروا بما أتاهم به من الآيات الباهرة مع أنه مثل ما أتى به موسى عليهما الصلاة والسلام، بل أعظم منه ﴿أولم يكفروا﴾ أي العرب ومن بلغتهم الدعوة من بني إسرائيل أو من شاء الله منهم أو أبناء جنسهم ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى عليه السلام ﴿بما أوتي موسى﴾.
ولما كان كل من إتيانه وكفرهم لم يستغرق زمان القبل، أثبت الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي من قبل مجيء الحق على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم. ولما كان كأنه قيل: ما كان كفرهم به؟ قيل: ﴿قالوا﴾ أي فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل كقارون ومن تبعه. ولما كان قد تقدم هنا قريباً أن المظاهر له أخوه، فكان المراد واضحاً، أضمرهما فقال: ﴿ساحران﴾ أي هو وأخوه ﴿تظاهرا﴾ أي أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزاً فغلبا جميع السحرة، وتظاهر الساحرين من تظاهر السحرين - على قراءة الكوفيين، ويجوز - وهو أقرب أن يكون الضمير لمحمد وموسى
309
عليهما الصلاة والسلام، وذلك لأنه روي أن قريشاً بعثت إلى يهود فسألوهم عن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروهم أن نعته في كتابهم، فقالوا هذه المقالة، فيكون الكلام استئنافاً لجواب من كأنه قال: ما كان كفرهم بهما؟ فقيل: قالوا - أي العرب: الرجلان ساحران، أو الكتابان سحران، ظاهر أحدهما الآخر مع علم كل ذي لب أن هذا القول زيف.
لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر، لكان سحر فرعون أعظم إعجازاً، لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارض ما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام من آية العصا، وأما محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد دعا أهل الأرض من الجن والإنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فعجزوا.
ولما تضمن قولهم ذلك الكفر، صرحوا به في قولهم: ﴿وقالوا﴾ أي كفار قريش أو المتقدمون من فرعون وأضرابه: ﴿إنا بكل﴾ من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما، وهما ما أتيا به من عند الله ﴿كافرون*﴾ جرأة على الله وتكبراً على الحق.
ولما قالوا ذلك، كان كأنه قيل: فماذا فعل؟ قال: ﴿قل﴾
310
إلزاماً لهم إن كنتم صادقين في أني ساحر وكتابي سحر وكذلك موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿فأتوا بكتاب﴾ وأشار بالتعبير في وصفه بعند دون لدن إلى أنه يقنع منهم بكونه حكيماً خارقاً للعادة في حكمته وإن لم يبلغ الذروة في الغرابة بأن انفك عن الإعجاز في نظمه كالتوراة فقال: ﴿من عند الله﴾ أي الملك الأعلى، ينطق بأنه نم عنده أحواله وحكمته وجلاله ﴿هو﴾ أي الذي أتيتم به ﴿أهدى منهما﴾ أي مما أتيت به ومما أتى به موسى ﴿أتبعه﴾ أي واتركهما.
ولما أمرهم بأمره بالإتيان، ذكر شرطه من باب التنزل، لإظهار النصفة، وهو في الحقيقة تهكم بهم فقال: ﴿إن كنتم﴾ أيها الكفار! كوناً راسخاً ﴿صادقين*﴾ أي في أنا ساحران، فائتوا ما ألزمتكم به.
ولما كان شرط صدقهم، بين كذبهم على تقدير عدم الجزاء فقال: ﴿فإن لم يستجيبوا﴾ أي الكفار الطالبون للأهدى في الإتيان به. ولما كانت الاستجابة تتعدى بنفسها إلى الدعاء، وباللام إلى الداعي، وكان ذكر الداعي أدل على الاعتناء به والنظر إليه، قال
311
مفرداً لضميره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لا يفهم المقايسة في الأهدوية غيره: ﴿لك﴾ أي يطلبوا الإجابة ويوجدوها في الإيمان أوالإتيان بما ذكرته لهم ودعوتهم إليه مما هو أهدى، من القرآن والتوراة ليظهر صدقهم ﴿فاعلم﴾ أنت ﴿أنما يتبعون﴾ أي بغاية جهدهم فيما هم عليه من الكفروالتكذيب ﴿أهواءهم﴾ أي دائماً، وأكثر الهوى مخالف للهدى فهم ظالمون غير مهتدين، بل هم أضل الناس، وذلك معنى قوله: ﴿ومن أضل﴾ أي منهم، ولكنه قال: ﴿ممن اتبع﴾ أي بغاية جهده ﴿هواه﴾ تعليقاً للحكم بالوصف؛ والتقييد وبقوله: ﴿بغير هدى﴾ أي بيان وإرشاد ﴿من الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال دليل على أن الهوى قد يوافق الهدى، والتعبير بالافتعال دليل على أن التابع وإن كان ظالماً قد لا يكون أظلم.
ولما كانت متابعة الهوى على هذا الصورة ظلماً، وصل به قوله مظهراً لئلا يدعى التخصيص بهم: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا راد لأمره ﴿لا يهدي﴾ وأظهر موضع الإضمار للتعميم فقال: ﴿القوم الظالمين*﴾ أي وإن كانوا أقوى الناس لاتباعهم أهوائهم، فالآية من الاحتباك: أثبت أولاً اتباع الهوى دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً الظلم دليلاً على حذفه أولاً.
312
ولما أبلغ في هذه الأساليب في إظهار الخفايا، وأكثر من نصب الأدلة على الحق وإقامة على وجوب اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا بإعراضهم عن ذلك كله كأنهم منكرون لأن يكون جاءهم شيء من ذلك، قال ناسقاً على ما تقديره: فلقد آتيناك في هذه الآيات بأعظم البينات، منبهاً بحرف التوقع المقترن بأداة القسم على أنه مما يتوقع هنا أن يقال: ﴿ولقد وصلنا﴾ أي على ما لنا من العظمة التي مقتضاها أن يكفي أدنى إشارة منها ﴿لهم﴾ اي خاصة، فكان تخصيصهم بذلك منة عظيمة يجب عليهم شكرها ﴿القول﴾ أي أتبعنا بعض القول - الذي لا قول في الحقيقة سواه - بعضاً بالإنزال منجماً، قطعاً بعضها في أثر بعض، لتكون جواباً لأقولهم، وحلاًّ لإشكالهم، فيكون أقرب إلى الفهم، وأولى بالتدبر، مع تنويعه في وعد ووعيد، وأخبار ومواعظ، وحكم ونصائح، وأحكام ومصالح، وأكثرنا من ذلك حتى كانت آياته المعجزات وبيناته الباهرات كأنها أفراس الرهبان، يوم استباق الأقران، في حومة الميدان، غير أن كلاًّ منهما سابق في العيان.
ولما بكتهم بالتنبيه بهذا التأكيد على مبالغتهم في الكذب بالقول أو بالفعل في أنه ما أتاهم ما يقتضي التذكير أتبع ذلك التوصيل عليه فقال: ﴿لعلهم يتذكرون*﴾ أي ليكون حالهم حال الذين يرجى لهم
313
أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق تذكيراً، بما أشار إليه الإظهار.
ولما كان من التذكر ما دل عليه مجر العقل، ومنه ما انضم إليه مع ذلك العقل، وكان صاحب هذا القسم أجدر بأن يتبصر، وكان كأنه قيل: هل تذكروا؟ قيل: نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقاً تذكروا حقاً، وذلك معنى قوله: ﴿الذين آتيناهم﴾ أي بعظمتنا التي حفظناهم بها ﴿الكتاب﴾ أي العلم من التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الأنبياء، وهم يتلون ذلك حق تلاوته، في بعض الزمان الذي كان ﴿من قبله﴾ أي القرآن ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿به﴾ أي القرآن، لا بشيء مما يخالفه ﴿يؤمنون*﴾ أي يوقعون الإيمان به في حال وصوله إليهم إيماناً لا يزال يتجدد؛ ثم أكد هذا المعنى بقوله: ﴿وإذا يتلى﴾ أي تتجدد تلاوته ﴿عليهم قالوا﴾ مبادرين: ﴿آمنا به﴾ ثم عللوا ذلك بقولهم الدال على غاية المعرفة، مؤكدين لأن من كان على دين لا يكاد يصدق رجوعه عنه، فكيف إذا كان أصله حقاً من عند الله، ﴿إنه الحق﴾ أي الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل، مع كونه ﴿من ربنا﴾ المحسن إلينا،
314
وكل من الوصفين موجب للتصديق والإيمان به؛ ثم عللوا مبادرتهم إلى الإذعان منبهين على أنهم في غاية البصيرة من أمره بأنهم يتلون ما عندهم حق تلاوته، لا بألسنتهم فقط، فصح قولهم الذي دل تأكيدهم له على اغتباطهم به الموجب لشكره: ﴿إنا كنا﴾ أي كوناً هو في غاية الرسوخ؛ وأشار إلى أن من صح إسلامه ولو في زمن يسير أذعن لهذا الكتاب، بإثبات الجار، فقال: ﴿من قبله مسلمين*﴾ أي منقادين غاية الانقياد لما جاءنا من عند الله من وصفه وغير وصفه وافق هوانا وما ألفناه أو خالفه، لا جرم كانت النتيجة: ﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة ﴿يؤتون﴾ بناه للمفعول لأن القصد الإيتاء، والمؤتى معروف ﴿أجرهم مرتين﴾ لإيمانهم به غيباً وشهادة، أو بالكتاب الأول ثم الكتاب الثاني ﴿بما صبروا﴾ على ما كان من الإيمان قبل العيان، بعدما هزهم إلى النزوع عنه إلف دينهم الذي كان، وغير ذلك من امتحان الملك الديان.
ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوىء، قال عاطفاً على ﴿يؤمنون﴾ مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين: ﴿ويدرءون بالحسنة﴾ من الأقوال والأفعال ﴿السيئة﴾ أي من ذلك كله فيمحونها بها.
315
ولما كان بعض هذا الدرء لا يتم إلا بالجود قال: ﴿ومما رزقناهم﴾ أي بعظمتنا، لا بحول منهم ولا قوة، قليلاً كان أو كثيراً ﴿ينفقون*﴾ معتمدين في الخلق على الذي رزقه؛ قال البغوي: قال سعيد بن جبير: قدم مع جعفر رضي الله تعالى عنه من الحبشة أربعون رجلاً، يعني: فأسلموا، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أموالهم، فأتوا بها فواسوا بها المسلمين.
316
ولما ذكر أن السماح بما تضن النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان، أتبعه أن حزن ما تبذله الألسن من فضول الأقوال من علامات العرفان، فقال: ﴿وإذا سمعوا اللغو﴾ أي ما لا ينفع في دين ولا دنيا من شتم وتكذيب وتعبير ونحوه ﴿أعرضوا عنه﴾ تكرماً عن الخنا ﴿وقالوا﴾ أي وعظاً وتسميعاً لقائله: ﴿لنا﴾ أي خاصة ﴿أعمالنا﴾ لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون ﴿ولكم﴾ أي خاصة ﴿أعمالكم﴾ لا نطالب بشيء منها، فنحن لا نشتغل بالرد عليكم لأن ذمكم لنا لا ينقصنا شيئاً من أجرنا ولا الاشتغال برده ينقصنا.
ولما كان معنى هذا أنهم سالمون منهم، صرحوا لهم به فقالوا:
316
﴿سلام عليكم﴾ أي منا. ولما جرت العادة بأن مثل هذا يكسر اللاغي، ويرد الباغي، أشاروا لهم إلى قبح حالهم، رداً على ضلالهم، بقولهم تعليلاً لما مضى من مقالهم: ﴿لا نبتغي﴾ أي لا نكلف أنفسنا أن نطلب ﴿الجاهلين*﴾ أي نريد شيئاً من أحوالهم أو أقوالهم، أو غير ذلك من خلالهم.
ولما كان من المعلوم أن نفس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جبلت عليه من الخير والمحبة لنفع جميع العباد، لا سيما العرب، لقربهم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لاسيما أقربهم منه صلة للرحم تتأثر بسبق أهل الكتاب لقومه، وكان ربما ظن ظان أن عدم هدايتهم لتقصير في دعائه أو إرادته لذلك، وأنه لو أراد هدايتهم وأحبها، وعلق همته العلية بها لاهتدوا، أجيب عن هذا بقوله تعالى في سياق التأكيد إظهاراً لصفة القدرة والكبرياء والعظمة: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ أي نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه، وإنما في يدك الهداية التي هي الإرشاد والبيان.
ولما كان ربما ظن من أجل الإخبار بتوصيل القول وتعليله ونحو ذلك من أشباهه أن شيئاً من أفعالهم يخرج عن القدرة، قال نافياً لهذا الظن مشيراً إلى الغلط في اعتقاده بقوله: ﴿ولكن الله﴾ المتردي برداء الجلال والكبرياء والكمال وله الأمر كله ﴿يهدي من يشاء﴾ هدايته
317
بالتوفيق إلى ما يرضيه ﴿وهو﴾ أي وحده ﴿أعلم بالمهتدين*﴾ أي الذين هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم، فيكونوا عريقين فيه سواء كانوا من أهل الكتاب أو العرب، أقارب كانوا أو أباعد، روى البخاري في التفسير عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه: «قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيره، فقال: أي عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله عز وجل ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى﴾ وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنك لا تهدي من
318
أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} - الآية -»
انتهى وقال في كتاب التوحيد: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ قال سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه: نزلت في أبي طالب، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بالتوحيد فقال: لولا أن تعيرني نساء قريش لأقررت بها عينك فأنزل الله الآية.
ولما عجب من حال قريش في طلبهم من الآيات مثل ما أوتي موسى عليه الصلاة والسلام ثم كفرهم به وبما هو أعظم منه، وختم بأنه أعلم بأهل الخير وأهل الشر، إشارة إلى الإعراض عن الأسف على أحد، والإقبال على عموم الدعاء للقريب والبعيد على حد سواء، قال دليلاً على ذلك لأنهم إنما يتبعون أهواءهم، عاطفاً على قالوا ﴿لولا أوتي﴾ ﴿وقالوا إن نتبع﴾ أي غاية الاتباع ﴿الهدى﴾ أي الإسلام فنوحد الله من غير إشراك ﴿معك﴾ أي وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس ﴿نتخطف﴾ أي من أي خاطف أردنا، لأنا نصير قليلاً في كثير. من غير نصير ﴿من أرضنا﴾ كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا، وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوتهم فيسرعو إلينا فيتخطفونا، أي يتقصدون خطفنا واحداً واحداً، فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن لا يشذ بعضنا عن بعض؛ قال البغوي:
319
والاختطاف: الانتزاع بسرعة.
ولما كان التقدير في الرد على هذا الكلام الواهي: ألم نحمك ومن اتبعك منهم وقد جئتموهم من الخلاف بمثل ما يخالفون هم، به العرب أو أشد، ولا نسبة لكم إلى عددهم ولا جلدهم، عطف عليه قوله: ﴿أولم نمكن﴾ أي غاية التمكين ﴿لهم﴾ في أوطانهم ومحل سكناهم بما لنا من القدرة ﴿حرماً آمناً﴾ أي ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها، حتى أن سيل الحل لا يدخل الحرم، بل إذا وصل إليه عدل عنه؛ قال ابن هشام في استيلاء كنانة وخزاعة على البيت: وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلماً ولا بغياً، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته - انتهى. وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يعرض له بسوء؛ وروى الأزرقي في تأريخ مكة بسنده عن حويطب بن عبد العزى رضي الله عنه قال: كانت في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد، فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده،
320
فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشل، وروي عن ابن جريج قصة العرب من غير قريش في أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا إن أعارتهم قريش ثياباً، فجاءت امرأة فطافت عريانة وكان لها جمال فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها، فأدنى عضده من عضدها، فالتزقت عضده بعضدها، فخرجا من المسجد هاربين على وجوههما فزعين لما أصابهما من العقوبة، فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب، فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا، فدعوا وأخلصا النية، فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية، وبسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخذ رجل ذود ابن عم له فأصابه في الحرم فقال: ذودي: فقال اللص: كذبت، قال: فاحلف، فحلف عند المقام، فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطاً يديه يدعو، فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة: ما لي، وللزود، ما لي، ولفلان - رب الزود، فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الزود فدفعه إلى المظلوم، فخرج به وبقي الآخر متولهاً حتى وقع من جبل فتردى فأكلته السباع.
وعن أيوب بن موسى أن امرأة في الجاهلية كان معها ابن عم لها صغير فقالت له: يا بني: إني
321
أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد، فإن جاءك ظالم بعدي فإن لله بمكة بيتاً لا يشبهه شيء من البيوت، وعليه ثياب ولا يقاربه مفسد، فإن ظلمك ظالم يوماً فعذبه، فإن له رباً سيمنعك، فجاءه رجل فذهب به فاسترقه، قال: وكان أهل الجاهلية يعمرون أنعامهم فأعمر سيده ظهره، فلما رأى الغلام البيت عرف الصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت، وجاءه سيده فمد يده إليه ليأخذه، فيبست يده، فمد الأخرى فيبست، فاستفتى فأفتى أن ينحر عن كل واحدة من يدية بدنة، ففعل فأطلقت يداه، وترك الغلام وخلى سبيله. وعن عبد العزيز بن أبي رواد أن قوماً انتهوا إلى ذي طوى، فإذا ظبي قد دنا منهم، فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابه: ويحك! أرسله، فجعل يضحك ويأبى أن يرسله، فبعر الظبي وبال؛ ثم أرسله، فناموا في القائلة فانتبهوا، فإذا بحية منطوية على بطن الرجل الذي أخذ الظبي، فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحديث مثل ما كان من الظبي. وعن مجاهد قال: دخل قوم مكة نجاراً من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام، فرمى رجل منهم ظبية من ظباء الحرم
322
وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوا لحمها ليأتدموا به، فبينما قدرهم على النار تغلي بلحمة إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعاً ولم تحترق ثيابهم ولا أمتعتهم ولا السمرات التي كانوا تحتها.
وفي سيرة أبي ربيع بن سالم الكلاعي أن رجلاً من كنانة بن هذيل ظلم ابن عم له فخوفه بالدعاء في الحرم، فقال: هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء، فجاء الحرم في الشهر الحرام، فقال: اللهم إني ادعوك جاهداً مضطراً على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له، ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق، فما زال ينتفخ حتى انشق، وأن عمر رضي الله عنه سال رجلاً من بني سليم عن ذهاب بصره، فقال: يا أمير المؤمنين! كنا بني ضبعاء عشرة، وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه فكان يذكرنا بالله، وبالرحم، فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه يقول:
323
لا همّ أدعوك دعاء جاهداً اقتل بني الضبعاء إلا واحدا
ثم اضرب الرجل ودعه قاعداً أعمى إذا قيد يعيي القائدا
قال: فمات إخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد، وبقيت أنا فعميت، ورماني الله عز وجل في رجلي، فليس يلائمني قائد، فقال عمر رضي الله عنه: سبحان الله إن هذا لهو العجب، جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها، لينتكب الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة، فلما جاء الدين، صار الموعد الساعة، ويستجيب الله لمن يشاء، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين - انتهى. وكأنه لمثل ذلك عبر بالتمكين ويتخطف الناس من حولهم كما يأتي تأكيده في التي بعدها، وقد كان قبل ذلك بقعة من بقاع الأرض لا مزية له على غيره بنوع مزية، فالتقدير: إنما فعلنا ذلك بعد سكنى إسماعيل عليه الصلاة والسلام، توطئة لما أردنا من الحكم والأحكام، أو ليس الذي قدر على ذلك وفعله لمن يعبد غيره بقادر على حماية من يدخل في دينه، وقد صار من حزبه بأنواع الحمايات، وإعلائه على كل من يناويه إلى أعلى الدرجات، كما فعل في حمايتكم منهم ومن غيرهم من سائر المخالفين أعداء الدين.
ولما وصفه بالأمن، أتبعه ما تطلبه النفس بعده فقال: ﴿يجبى﴾ أي يجمع ويجلب مما لا يرجونه ولا قدرة لهم على استجلابه ﴿إليه﴾
324
أي خاصة، دون غيره من جزيرة العرب ﴿ثمرات كل شيء﴾ من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والموز والنبق، والباردة كالعنب والتفاح والرمان والخوخ، وفي تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض من المال، ما لم يخطر لأحد منهم في بال، وقد صدق الله فيما قال كما تراه - ومن أصدق من الله قيلاً.
ولما كان مجموع ما رزقهم في هذا الحرم من الأمن بأسبابه من الإسراع باصابة من آذى فيه بأنواع العقوبات، وجباية هذه الثمرات، في غاية الغرابة في تلك الأراضي اليابسة الشديدة الحر، المحفوفة من الناس بمن لا يدين ديناً، ولا يخشى عاقبة، ولا له ملك قاهر من الناس يرده، ولا نظام من سياسة العباد يمنعه، عبر عنه سبحانه مع مظهر العظمة بلدان فقال: ﴿رزقاً من لدنا﴾ أي من أبطن ما عندنا وأغربه، لا صنع لأحد فيه كما تعلم ذلك أنت ومن أتبعك ومن فيه قابلية الهداية منهم، وكل ذلك إنما هو لأجلك بحلولك في هذا الحرم مضمراً في الأصلاب، ومظهراً في تلك أشعاب، توطئة لنبوتك، وتمهيداً لرسالتك، ومتى غبت عنهم غاب عنهم ذلك كله وسينظرون.
325
ولما كان هذا الذي أبدوه عذراً عن تخلفهم عن الهدى يظنونه من نفائس العلم، رده تعالى نافياً عمن لم يؤمن منهم جميع العلم الذي بنفيه ينتفي أن يكون هذا الفرد علماً، فقال في أسلوب التأكيد لذلك: ﴿ولكن أكثرهم﴾ أي أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له ﴿لا يعلمون*﴾ أي ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بترتيب أسبابه حتى تمكن ذلك وتم فلا قدرة لأحد على تغييره، وإنا قادرون على أن نمنعهم - إذا تابعوا أمرنا - ممن يريدهم، بل نسلطهم على كل من ناواهم، كقدرتنا على ما مكنا لهم وهو خارج عن القياس على ما يقتضيه عقول الناس، وإنا قادرون على سلب ذلك كله عنهم لإصرارهم على الكفر، ولا بد أن نذيقهم ذلك أجمع بعد هجرتك ليعلموا أنه إنما نالهم ذلك ببركتك، ولو علموا ذلك لشكروا، ولكنهم جهلوا فكفروا، ولذلك أنذروا ﴿ولتعلمن نبأه بعد حين﴾.
ولما أخبر تعالى أنه قادر على التأمين والإنجاء والتمكين مع الضعفة، أتبعه الإعلام بقدرته على الإخافة والإهلاك مع القوة، ترغيباً لهم - إن آمنوا - بإهلاك أضدادهم، وترهيباً - إن أصروا - من المعاملة بعكس مرادهم، فقال في مظهر العظمة عاطفاً على معنى
326
الكلام: ﴿وكم أهلكنا﴾ ويجوز أن يكون حالاً من ضمير نمكن أي فعلنا بهم ما ذكرنا من النعمة مع ضعفهم وعجزهم، والحال أنا كثيراً ما أهلكنا الأقوياء، وأشار إلى تأكيد التكثير مع تمييز المبهم بقوله: ﴿من قرية﴾، وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله: ﴿بطرت معيشتها﴾ أي وقع منها البطر في زمان عيشها الرخي الواسع، فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق، فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم، ومعنى بطرهم لها أنهم شقوها بمجاوزة الحد في المرح، والأشر والفرح، إلى أن تعدوها فأفسدوها وكفروها فلم يشكروها، بل فعلوا في تلقيها فعل الحائر المدهوش، فلم يحسنوا رعايتها، وقل احتمالهم لحق النعمة فيها، فطغوا في التقلب عند مصاحبتها وتكبروا بها، وتمادوا في الغي قولاً وفعلاً، من أجل ما عمهم من الرفاهية عن تقييدها وساء احتمالهم للغنى بها، وطيب العيش فيها، فأبطلوها بهذه الخصائل، وأذهبوها هدراً من غير مقابل، وذلك من قول أهل اللغة: البطر: الأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة، والفعل من الكل كفرح، وبطر الحق أن يتكبر عنه فلا يقبله، وبطره كنصره وضربه: شقه، والبطور: الصخاب الطويل
327
اللسان، والمتمادي في الغي، وأبطره ذرعه: حمله فوق طاقته، وذهب دمه بطراً - بالكسر، أي هدراً وبطرهم لها أنهم عصوا من خولهم فيها، فخالفوا أمره، وأنساهم الكبر بما أعطاهم ذكره.
ولما تسبب عن هذا الإخبار تشوف النفس إلى آثار هذه الديار، سبب عنه الإشارة بأداة البعد إلى منازلهم، تنبيهاً على كثرتها وسهولة الوصول إليها في كل مكان، لكونها بحيث يشار إليها وعلى بعد رتبتها في الهلاك دليلاً على الجملة التي قبلها فقال: ﴿فتلك مساكنهم﴾.
ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله: ﴿لم تسكن﴾ أي من ساكن ما مختار أو مضطر. ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال: ﴿من بعدهم﴾ بعد أن طال ما تغالوا فيها ونمقوها، وزخرفوها وزوقوها، وزفوا فيها الأبكار، وفرحوا بالأعمال الكبار، ﴿إلا﴾ سكوناً ﴿قليلاً﴾ بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار، ثم يصير تباباً موحشة كالقفار، بعد أن كانت متمنعة القبا، ببيض الصفاح وسمر القنا.
ولما صارت هذه الأماكن بعد الخراب لا متصرف فيها ظاهراً إلا الله، ولا حاكم عليها فيما تنظره العيون سواه، وكان هذا أمراً
328
اللسان، والمتمادي في الغي، وأبطره ذرعه: حمله فوق طاقته، وذهب دمه بطراً - بالكسر، أي هدراً وبطرهم لها أنهم عصوا من خولهم فيها، فخالفوا أمره، وأنساهم الكبر بما أعطاهم ذكره.
ولما تسبب عن هذا الإخبار تشوف النفس إلى آثار هذه الديار، سبب عنه الإشارة بأداة البعد إلى منازلهم، تنبيهاً على كثرتها وسهولة الوصول إليها في كل مكان، لكونها بحيث يشار إليها وعلى بعد رتبتها في الهلاك دليلاً على الجملة التي قبلها فقال: ﴿فتلك مساكنهم﴾.
ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله: ﴿لم تسكن﴾ أي من ساكن ما مختار أو مضطر. ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال: ﴿من بعدهم﴾ بعد أن طال ما تغالوا فيها ونمقوها، وزخرفوها وزوقوها، وزفوا فيها الأبكار، وفرحوا بالأعمال الكبار، ﴿إلا﴾ سكوناً ﴿قليلاً﴾ بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار، ثم يصير تباباً موحشة كالقفار، بعد أن كانت متمنعة القبا، ببيض الصفاح وسمر القنا.
ولما صارت هذه الأماكن بعد الخراب لا متصرف فيها ظاهراً إلا الله، ولا حاكم عليها فيما تنظره العيون سواه، وكان هذا أمراً
329
عظيماً، وخطباً جسيماً، لأنه لا فرق فيه بين جليل وحقير، وصغير وكبير، وسلطان ووزير، دل على ضخامته بقوله مكرراً لمظهر العظمة: ﴿وكنا﴾ أي أزلاً وأبداً ﴿نحن﴾ لا غيرنا ﴿الوارثين*﴾ لم يستعص علينا أحد وإن عظم، ولا تأخر عن مرادنا لحظة وإن ضخم، فليت شعري! أين أولئك الجبارون وكيف خلا دورهم، وعطل قصورهم؟ المتكبرون أفنتهم والله كؤوس الحمام منوعة أشربة المصائب العظام، وأذلتهم مصارع الأيام، بقوة العزيز العلام، فيا ويح من لم يعتبر بأيامهم، ولم يزدجر عن مثل آثامهم.
330
ولما أظهر سبحانه سوط العذاب بيد القدرة، دل على وطأ العدل بثمرة الغنى، ولكونه في سياق الرحمة بالإرسال عبر بالربوبية فقال: ﴿وما كان﴾ أي كوناً ما ﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس ﴿مهلك القرى﴾ أي هذا الجنس كله بجرم وإن عظم ﴿حتى يبعث في أمها﴾ أي أعظمها وأشرفها، لأن غيرها تبع لها، ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه الصلاة والسلام من الناصرة، وبعث في بيت المقدس ﴿رسولاً يتلوا عليهم﴾ أي أهل القرى كلهم ﴿آياتنا﴾ الدالة - بما لها من الجري على مناهيج العقول، على ما ينبغي لنا من الحكمة، وبما لها من الإعجاز - على تفرد الكلمة، باهر العظمة، إلزاماً للحجة، وقطعاً للمعذرة، لئلا يقولوا ﴿ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً﴾ ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول من أم القرى كلها، وهي مكة البلد الحرام، وفيها لأنها مع كونها مدينة تجري فيها الأمور على قانون الحكمة هي في بلاد البوادي تظهر فيها الكلمة، فجمعت الأمرين لأن المرسل إليها جامع، وجازت الأثرين لأن الختام به واقع، وكان السر في جعل المؤيد لدينه عيسى عليهما الصلاة والسلام من البادية كثرة ظهور الكلمة على يديه.
ولما غيّى الإهلاك بالإرسال تخويفاً، ضرب له غاية أخرى تحريراً للأمر وتعريفاً، ولكونه في سياق التجرؤ من أهل الضلال، على مقامه العال، بانتهاك الحرمات، عبر بأداة العظمة فقال: ﴿وما كنا﴾ أي بعظمتنا وغنانا ﴿مهلكي القرى﴾ أي كلها، بعد الإرسال ﴿إلا وأهلها ظالمون*﴾ أي عريقون في الظلم بالعصيان، بترك ثمرات الإيمان.
ولما اعتلوا في الوقوف عن الإيمان بخوف التخطف، فذكرهم نعمته عليهم بإقامة أسباب الأمن وإدرار الرزق، وعرفهم أنه هو وحده الذي تخشى سطواته، ويتقي أخذه لمن خالفه وبطشاته، وكان خوفهم من عواقب المتابعة إما على أنفسهم وإما على ما بأيديهم من المتاع، علم من ذلك كله قطعاً أن التقدير بما سبب التخويف من عواقب الظلم بمثل مصارع الأولين: فأنفسكم في خطر من خوف الهلاك من القادر عليكم كقدرته على من قبلكم بسبب التوقف عن المتابعة أشد من خطر
330
الخوف من التخطف بسبب المتابعة، أو يكون التقدير: فما خفتم منه التخطف غير ضائركم، وكفكم عن المتابعة لأجله غير مخلدكم، فما إهلاككم على الله بأي وجه كان - بعزيز، فعطف على هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره قوله: ﴿وما أوتيتم﴾ أي من أي مؤت كان ﴿من شيء﴾ أي من هذه الأشياء التي بأيدكم وغيرها ﴿فمتاع﴾ أي فهو متاع ﴿الحياة الدنيا﴾ وليس يعود نفعه إلى غيرها، فهو إلى نفاد وإن طال زمن التمتع به ﴿وزينتها﴾ أي وهو زينة الحياة الدنيا التي هي كلها - فضلاً عن زينتها - إلى فناء، فليست هي ولا شيء منها بأزلي ولا أبدي ﴿وما عند الله﴾ أي الملك الأعلى مما تثمره لكم المتابعة من الثواب الذي وعدكموه في الدار الآخرة التي دل عليها دلالة واضحة إطباقكم على وصف هذه بالدنيا، ومن أصدق وعداً منه ﴿خير﴾ على تقدير مشاركة ما في الدنيا له في الخيرية في ظنكم، لأن الذي عنده أكثر وأطيب وأظهر، وأحسن وأشهى، وأبهج وأزهى، ﴿و﴾ هو مع ذلك كله ﴿أبقى﴾ لأنه وإن شارك متاع الدنيا في أنه لم يكن أزلياً فهو أبدي.
فلما بان أنه لا يقدم على خطر المخالفة المذكور خوفاً من خطر المتابعة الموصوف عاقل، توجه الإنكار عليهم في قوله تعالى: ﴿أفلا تعقلون*﴾.
ولما كان هذا سبباً لأن ظهر كالشمس بون عظيم بين حال المخالف والمؤالف، سبب عنه وأنتج قوله، مقرراً لما ذكر من الأمرين
331
موضحاً لما لهما من المباينة، منكراً على من سوى بينهما، فكيف بمن ظن أن حال المخالف أولى: ﴿أفمن وعدناه﴾ على عظمتنا في الغنى والقدرة والصدق ﴿وعداً﴾ وهو الإثابة والثواب ﴿حسناً﴾ لا شيء أحسن منه في موافقته لأمنيته وبقائه ﴿فهو﴾ بسبب وعدنا الذي لا يخلف ﴿لاقيه﴾ أي مدركه ومصيبه لا محالة ﴿كمن متعناه﴾ أي بعظمتنا ﴿متاع الحياة الدنيا﴾ فلا يقدر أحد غيرنا على سلبه منه بغير إذن منا، ولا يصل أحد إلى جعله باقياً، وهو مع كونه فانياً وإن طال زمنه مشوب بالأكدار، مخالط بالأقذار والأوزار ﴿ثم هو﴾ مع ذلك كله ﴿يوم القيامة﴾ الذي هو يوم التغابن، من خسر فيه لا يربح أصلاً، ومن هلك لا يمكن عيشه بوجه ﴿من المحضرين*﴾ أي المقهورين على الحضور إلى مكان يود لو افتدى منه بطلاع الأرض ذهباً، فإن كل من يوكل به لحضور أمر يتنكد على حسب مراتب التوكيل كائناً من كان في أي أمر كان.
ولما كان اليوم وإن كان واحداً يتعدد بتعدد أوصافه، بما يقع في أثناءه وأضعافه، على يوم القيامة تهويلاً لأمره، وتعظيماً لخطره وشره، قوله مقرراً لعجز العباد، عن شيء من الإباء في يوم العباد:
332
﴿ويوم يناديهم﴾ أي ينادي الله هؤلاء الذين يغرون بين الناس ويصدون عن السبيل، ويتعللون في أمر الإيمان، وتوحيد المحسن الديان ﴿فيقول﴾ أي الله: ﴿أين شركاءي﴾ أي من الأوثان وغيرهم؛ ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله: ﴿الذين كنتم﴾ أي كوناً أنتم عريقون فيه ﴿تزعمون*﴾ ليدفعوا عنكم أو عن أنفسهم.
ولما كان اسم الشريك يقع على من سواه الإنسان بآخر في شيء من الأشياء، وكان الأتباع قد سووا المتبوعين الذين عبدوهم من الشياطين وغيرهم بالله تعالى في الخضوع لهم، والطواعية في عبادة الأوثان، ومعاندة الهداة ومعاداتهم، والصد عن أتباعهم، فكان اسم الشريك متناولاً لهم، وكان بطش من وقع الإشراك به يكون أولاً بمن عد نفسه شريكاً ثم بمن أنزله تلك المنزلة، فتشوفت النفس إلى مبادرة الرؤساء بالجواب خوفاً من حلول العقاب بهم وزيادتهم بقيادتهم عليهم، فقيل: قالوا - هكذا الأصل، ولكنه أظهر إعلاماً بالوصف الذي أوجب لهم القول فقال: ﴿قال الذين حق﴾ أي ثبت ووجب ﴿عليهم القول﴾ أي وقع عليهم معنى هذا الاسم وتناولهم، وهو العذاب المتوعد به بأعظم القول، وهم أئمة الكفر، وقادة الجهل، بإنزالهم أنفسهم منزلة الشركاء، وأفهم بإسقاط الأداة كعادة أهل القرب والتعبير بوصف الإحسان
333
أنهم وصلوا بعد السماجة والكبر إلى غاية الترقق والذل، فقال معبراً عن قولهم: ﴿ربنا هؤلاء﴾ إشارة إلى الأتباع ﴿الذين أغوينا﴾ أي أوقعنا الإغواء وهو الإضلال بهم بما زينا لهم من الأقوال التي أعاننا على قبولهم أنها منا، مع كونها ظاهرة العوار، واضحة العار، ما خولتنا فيه في الدنيا من الجاه والمال؛ ثم استأنفوا ما يظنون أنه يدفع عنهم فقالوا: ﴿أغويناهم﴾ أي فغووا باختيارهم ﴿كما غوينا﴾ أي نحن لما أغوانا بما زين لنا من فوقنا حتى تبعناهم، لم يكن هناك إكراه منا ولا إجبار، مع ما أتاهم من الرسل ولهم من العقول، كما غوينا نحن باختيارنا، لم يكن ممن فوقنا إجبار لنا كما قال إبليس
﴿وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي﴾ [إبراهيم: ٢٢]- فالآية من الاحتباك: حذف أولاً ﴿فغووا﴾ لدلالة ﴿غوينا﴾ عليه، وثانياً «لما أغوانا، من قبلنا» لدلالة ﴿أغويناهم﴾ عليه ومرادهم، بقولهم هذا السفساف أنه لا لوم علينا في الحقيقة بسببهم، وهذا معنى قولهم: ﴿تبرأنا إليك﴾ أي من أمرهم، فلا يلزمنا عقوبة بسببهم، فهو تقرير لما قبل وتصريح به.
ولما كان يعلمون أنهم غير مؤمنين من أمرهم، تبرؤوا من انفرادهم
334
بإضلالهم، فقالوا لمن كأنه قال: ما وجه براءتكم وقد أقررتم باغوائهم؟ :﴿ما كانوا إيانا﴾ أي خاصة ﴿يعبدون*﴾ بل كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم وإن كان لنا فيه نوع دعاء لهم إليه وحث عليه، فأقل ما نريد أن يوزع العذاب على كل من كان سبباً في ذلك كما في الآية الأخرى ﴿فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء﴾ وضل عن الجهلة أن هذا لا يغنيهم عن الله شيئاًَ، فإن الكل في العذاب وليس يغني أحد منهم عن أحد شيئاً، قال ﴿لكل ضعف ولكن لا تعلمون﴾.
335
ولما لم يلتفت إلى هذا الكلام منهم بل عد عدماً، لأنه لا طائل تحته، أشير إلى الإعراض عنه لأنه لا يستحق جواباً كما قيل «رب قول جوابه في السكوت» بقوله: ﴿وقيل﴾ أي ثانياً للأتباع تهكماً بهم وإظهاراً لعجزهم الملزوم لتحسرهم وعظم تأسفهم، وعبر بصيغة المجهول، إظهاراً للاستهانة بهم، وأنهم من الذل والصغار بحيث يجيبون كل أمر كائناً من كان: ﴿ادعوا﴾ أي كلكم ﴿شركاءكم﴾ أي الذين ادعيتم جهلاً شركتهم ليدفعوا عنكم. وأضافهم هنا إليهم إشارة إلى أنهم لم يستفيدوا زعمهم أنهم شركاء الله - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - إلا أن
335
أشركوهم فيما صرفوا إليهم من أموالهم وأقوالهم، وأزمانهم وأحوالهم ﴿فدعوهم﴾ تعللاً بما لا يغني، وتمسكاً بما يتحقق أنه لا يجدي، لفرط الغلبة واستيلاء الحيرة والدهشة ﴿فلم يستجيبوا لهم﴾ كما يحق لهم بما لهم من وصف عدم الإدراك، والعجز والهلاك ﴿ورأوا﴾ أي كلهم ﴿العذاب﴾ عالمين بأنه مواقعهم لا مانع له عنهم، فكان الحال حينئذ مقتضياً لأن يقال من كل من يراهم: ﴿لو أنهم كانوا﴾ أي كوناً هو لهم صفة راسخة ﴿يهتدون*﴾ أي يحصل منهم هدى ساعة من الدهر، تأسفاً على أمرهم، وتمنياً لخلاصهم، أو لو أن ذلك كان في طبعهم لنجوا من العذاب، أو لما رأوه أصلاً، أو لما اتبعوهم.
ولما أشار إلى أنه لا خلاص من ذلك الردى إلا بالهدى، أتبعه الإعلام بأنه لا يمكن أحداً هناك أن يفعل ما قد يروج على سائله كما يفعل في هذه الدار من إظهار ما لم يكن مكرراً لتهويل ذلك اليوم وتبشيعه وتعظيمه وتفظيعه، سائلاً عن حق رسله عليهم الصلاة والسلام بعد السؤال عن حقه سبحانه، منادياً بعجز الشركاء في الأخرى كما كانوا عاجزين في الأولى ﴿ويوم يناديهم﴾ وهم بحيث يسمعهم
336
الداعي، وينفذهم البصر، قد برزو الله جميعاً من كان منهم عاصياً ومن كان مطيعاً في صعيد واحد، قد أخذ بأنفاسهم الزحام، وتراكبت الأقدام على الأقدام، وألجمهم العرق، وعمهم الغرق ﴿فيقول ماذا﴾ أي أوضحوا أو عينوا جوابكم الذي ﴿أجبتم المرسلين*﴾ أي به، ولما لم يكن لهم قدم صدق ولا سابق حق بما أتتهم الرسل به من الحجج، وتابعت عليهم من الأدلة، لم يكن لهم جواب إلا السكوت، وهو المراد بقوله: ﴿فعميت﴾ أي خفيت وأظلمت في غواية ولجاج ﴿عليهم الأنباء﴾ أي الأخبار التي هي من العظمة بحيث يحق لها في ذلك اليوم أن تذكر، وهي التي يمكن أن يقع بها الخلاص، وعداه بعلى إشارة إلى أن عماها وقع عليهم، فعم الكل العمى فصاروا بحيث لا تهتدي الأنباء لعماها إليهم لتجددها، ولا يهتدون إليها لانتشار عماها إليهم، وهذا كله إشارة إلى أنهم لم يقدموا عملاً في إجابة الرسل بحق أن يذكر في ذلك اليوم، بل أسلفوا من التكذيب والإساءة ما يودون لو أن بينهم وبينه أمداً بعيدأً، وقال: ﴿يومئذ﴾ تكريراً لتخويف ذلك اليوم وتهويله، وتقريراً لتعظيمه وتبجيله.
337
ولما تسبب عن هذا السؤال السكوت علماً منهم بأنه ليس عند أحد منهم ما يغني في جوابه من حسن القول وصوابه، وأنهم لا يذكرون شيئاً من المقال إلا عاد عليهم بالوبال، قال مترجماً عن ذلك: ﴿فهم لا يتساءلون*﴾ أي لا يسأل أحد منهم أحداً عن شيء يحصل به خلاص، لعلمهم أنه قد عمهم الهلاك، ولات حين مناص، ولأن كل منهم أبغض الناس في الآخر.
ولما علم بهذه الآيات حال من أصر على كفره وعمل سيئاً بطريق العبارة، وأشير إلى حال من تاب فوعد الوعد الحسن ألطف إشارة تسبب عن ذلك التشوف إلى التصريح بحالهم، فقال مفصلاً مرتباً على ما تقديره: هذا حال من أصر على كفره ﴿فأما من تاب﴾ أي عن كفره وقال: ﴿وآمن﴾ تصريحاً بما علم التزاماً، فإن الكفر والإيمان ضدان، لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر ﴿وعمل﴾ تصديقاً لدعواه باللسان ﴿صالحاً﴾.
ولما كانت النفس نزاعة إلى النقائص، مسرعة إلى الدنايا، أشير إلى صعوبة الاستمرار على طريق الهدى إلا بعظيم المجاهدة بقوله: ﴿فعسى﴾ أي فإنه يتسبب عن حاله هذا الطمع في ﴿أن يكون﴾ أي كوناً هو في غاية الثبات ﴿من المفلحين*﴾ أي الناجين من شر ذلك اليوم، الظافرين
338
بجميع المراد، باستمرارهم على طاعتهم إلى الموت، وإنما لم يقطع له بالفلاح وإن كان مثل ذلك في مجاري عادات الملوك قطعاً، إعلاماً بأنه لا يجب سبحانه شيء ليدوم حذره، ويتقي قضاؤه وقدره، فإن الكل منه.
ولما كان كأنه قيل: ما لأهل القسم الأول لا يتوخون النجا من ضيق ذلك البلا، إلى رحب هذا الرجا، وكان الجواب: ربك منعهم من ذلك، أو ما لم يقطع لأهل هذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأول بالشقاء؟ وكان الجواب: إن ربك لا يجب عليه شيء عطف عليه - إشارة إليه قوله ﴿وربك﴾ أي المحسن إليك، بموافقة من وافقك ومخالفة منخالفك لحكم كبار، دقت عن فهم أكثر الأفكار ﴿يخلق ما يشاء﴾ من الهدى الضلال وغيرهما، لأنه المالك المطلق لا مانع له من شيء من ذلك ﴿ويختار﴾ أي يوقع الاختيار، لما يشاء فيريد الكفر للأشرار، والإيمان للأبرار، لا اعتراض عليه، فربما ارتد أحد ممن أظهر المتاب، لما سبق عليه من الكتاب، فكان من أهل التباب فلا تأس على من فاتك كائناً من كان، واعلم أنه ما ضر إلا نفسه،
339
ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته.
ولما أفهم هذا أن غيره سبحانه إذا أراد شيئاً لم يكن إلا أن يوافق مراده تعالى، صرح به بقوله: ﴿ما كان لهم الخيرة﴾ أي أن يفعلوا أو يفعل لهم كل ما يختارونه من إتيان الرسول بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام أو غيره، اسم من الاختيار، يقام مقام المصدر، وهو أيضاً اسم المختار، فهو تعبير بالمسبب عن السبب لأنه إذا خلى عنه كان عقيماً فكان عدماً، قال الرازي في اللوامع: وفيه دليل على أن العبد في اختياره غير مختار، فلهذا أهل الرضى حطوا الرحال بين يدي ربهم، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض، يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا، وإن أصابهم بسهام المصائب العظام صابروا، وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا، وإن أذلهم رضوا وسلموا، فلا يرضيهم إلا ما يرضيه، ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ما من يهون عليك ممن أكرم
ولما كان إيقاع شيء على غير مراده نقصاً، وكان وقوع الشرك
340
سفولاً وعجزاً، قال تعالى مشيراً إلى نتيجة هذه الآيات في نفي ذلك عنه: ﴿سبحان الله﴾ أي تنزه الجامع لصفات الكمال عن أن يختار أحد شيئاً لا يريده فيص إليه أو يقع بوجه عليه ﴿وتعالى﴾ أي علا علو المجتهد في ذلك، فعلوُّه لا تبلغ العقول بوجه كنه هداه ﴿عما يشركون*﴾ لأنه لا إرادة لما ادعوهم شركاء، ولو كانت لهم إرادة لتوقف إنفادها لعجزهم على إيجاد الخالق.
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم، قال: ﴿وربك﴾ أي المحسن إليك المتولي لتربيتك، كما هو بالغ القدرة، فهو شامل العلم ﴿يعلم ما تكن﴾ أي تخفي وتستر ﴿صدورهم﴾ من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى أو لا يؤمنون، ومن كون ما أظهر من أظهر منهم الإيمان بلسانه خالصاً أو مشوباً.
ولما كان علم الخفي لا يستلزم علم الجلي إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك قال: ﴿وما يعلنون*﴾ أي يظهرون، كل ذلك لديه سواء، فلا يكون لهم مراد إلا بخلقه.
ولما كان علمه بذلك إنما هو لكونه إلهاً، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه، عبر عن ذلك بقوله: ﴿وهو الله﴾ أي المستأثر بالإلهية الذي لا سمي له، الذي لا يحيط الوصف من عظمته بأكثر من أنه عظيم على الإجمال، وأما التفاصيل كلها أو أقلها فهيهات هيهات؛
341
ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله ﴿لا إله إلا هو﴾ ثم علل ذلك بقوله: ﴿له﴾ أي وحده ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿في الأولى والآخرة﴾ وليس ذلك لشيء سواه إن آمنوا أو كفروا ﴿وله﴾ أي وحده ﴿الحكم﴾ أي إمضاء القضاء على الإطلاق، فلو أراد لقسرهم على الإيمان ﴿وإليه﴾ أي لا إلى غيره ﴿ترجعون*﴾ أي بأيسر أمر يوم النفخ في الصور، لبعثرة القبور، بالبعث والنشور، ومع أنكم الآن أيضاً راجعون في جميع أحكامكم إليه ومقصورون عليه، إن شاء أمضاها، وإن أراد ردها ولواها، ففي الايات غاية التقوية لقلوب المطيعين، ونهاية الزجر والردع للمتمردين، بالتنبيه على كونه قادراً على جميع الممكنات، علماً بكل المعلومات، منزهاً عن النقائص والآفات يجزي الطائعين والعاصين بالقسط.
342
ولما قامت على القدرة الشاملة والعلم التام وأنه الإله وحده إن وحدوا أو الحدوا هذه الأعلام على هذا النظام، أقام دليلاً دالاًّ على ذلك كله بما اجتمع فيه من العلم والحكمة وتمام القدرة، منبهاً على وجوب حمده مفصلاً لبعض ما يحمد عليه، فقال مقدماً الليل لأن آيته عدمية، وهي أسبق: ﴿قل﴾ لمن ربما عاندوا في ذلك، منكراً عليهم ملزماً لهم، وعبر بالجمع لأنه أدل على الإلزام، أعظم في الإفحام،
342
فقال: ﴿أرءيتم﴾ أي أخبروني ﴿إن جعل الله﴾ أي الملك الأعلى نظراً إلى مقام العظمة والجلال ﴿عليكم الليل﴾ الذي به اعتدال حر النهار ﴿سرمداً﴾ أي دائماً، وقال: ﴿إلى يوم القيامة﴾ تنبيهاً على أنه مما لا يتوجه إليه إنكار ﴿من إله غير الله﴾ العظيم الشأن الذي لا كفوء له.
ولما كان النور نعمة في نفسه، ويعرف به خالقه، صرح به وطوى أثره فقال: ﴿يأتيكم بضياء﴾ أي يولد نهاراً تنتشرون فيه، ولقوة إعلامه بالقدرة وتعريفه بالله عبر بهذا دون يؤتيكم ضياء، ولما كان الليل محل السكون ومجمع الحواس، فهو أمكن للسمع وأنفذ للفكر، قال تعالى: ﴿أفلا تسمعون*﴾ أي ما يقال لكم إصغاء وتدبر، كما يكون لمن هو في الليل فينتفع بسمعه من أولي العقل ﴿قل أرءيتم إن جعل الله﴾ أي الذي له الأمر كله بجلاله وباهر كماله ﴿عليكم النهار﴾ الذي توازن حرارته رطوبة الليل فيتم بهما صلاح النبات، وغير ذلك من جميع المقدرات ﴿سرمداً﴾ أي دائماً، من السرد، وهو المتابعة بزيادة الميم مبالغة فيه ﴿إلى يوم القيامة﴾ أي الذي لا يسمع عاقلاً إنكاره ﴿من إله غير الله﴾ الجليل الذي ليس له مثيل، وهو على كل شيء وكيل.
343
ولما كان الظلام غير مقصود في نفسه، وكان بعد الضياء في غاية التعريف بموحده، عدل عن اسمه فقال معبراً لمثل ما مضى: ﴿يأتيكم بليل﴾ أي ينشأ من ظلام؛ ثم بين بما يدل على ما حذفه من الأول فقال: ﴿تسكنون فيه﴾ فالآية من الاحتباك: ذكر الضياء أولاً دليلاً على حذف الظلام ثانياً، والليل والسكون ثانياً دليلاً على حذف النهار والانتشار أولاً.
ولما كان الضياء مما ينفذ فيه البصر قال: ﴿أفلا تبصرون*﴾ أي بالبصر والبصيرة كيف تنقشع جلابيب الظلام، عن وجوه الضياء الغر الكرام، ثم تتقنع بسواد أردية الحياء، وجوه الأنوار والضياء قال ابن هبيرة: قال المبرد: سلطان السمع في الليل وسلطان البصر في النهار.
ولما كان التقدير: فمن حكمته جعل لكم السمع والأبصار، لتتدبروا آياته، وتتبصروا في مصنوعاته، عطف عليه ﴿ومن رحمته﴾ أي التي وسعت كل شيء لا من غيرها من خوف أو رجاء أو تعلق غرض من الأغراض ﴿جعل لكم الليل والنهار﴾ آيتين عظيمتين دبر فيهما وبهما جميع مصالحكم، وادخر معظم رحمته إلى الآخرة،
344
ومحا آية الليل ﴿لتسكنوا فيه﴾ أي فلا تسعوا في معاشكم ﴿و﴾ جعل آية النهار مبصرة ﴿لتبتغوا من فضله﴾ بأن تسعوا في معاشكم بجهدكم، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً السكون دليلاً على حذف السعي في المعاش ثانياً، والابتغاء ثانياً دليلاً على حذف عدم السعي في المعاش أولاً.
ولما ذكر هذه النعمة التي أسبغها من هذه الرحمة، وذكر علة جعله لها على الصفة المذكورة، ذكر علة أخرى هي المقصودة بالذات لأنها نتيجة السمع والبصر اللذين، قدم الحث على استعمالهما فقال: ﴿ولعلكم تشكرون*﴾ أي وليكون حالكم حال من يرجى منه الشكر بما يتجدد لكم بتقبلهما من النعم المتوالية المذكورة بالمنعم، وبما دبر لكم رفقاً بكم فيما كفلكم به في دار الأسباب من أمر المعاش والمعاد من الراحة بالسكون إثر ما أفادكم من الأرباح والمنح بالانتشار والتقلب، وأما الآخرة فلما كانت غير مبينة على الأسباب، وكان الجنة لا تعب فيها بوجه من الوجوه، كان لا حاجة فيها إلى الليل.
ولما ذكر ما للمفلح من الرجاء في يوم الجزاء، وأتبعه الإعلام بأن الهداية إلى الفلاح إنما هي به، ودل على ذلك إلى أن ذكر ايام الدنيا المشتملة على الليل والنهار على وجه دال على وحدانيته، معلم بالقدرة
345
على البعث بعد الموت بتكرير إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه وتكرير إماتة الناس بالنوم، ثم نشرهم باليقظة، وختم ذلك بالشكر إشارة إلى أنه سبب الفلاح، عاد إلى يوم الجزاء الذي تظهر فيه ثمرة ذلك كله، مقرعاً على الإشراك مع ظهور هذه الدلائل على التوحيد، وعدم شبهة قائمة على الشرك غير محض التقليد، فقال منبهاً على عجزهم عن البرهان عند استحقاق البرهان في يوم التناد، لمحضر من الأشهاد، مع ما فيه من التأكيد للتهويل بالتكرير، والتاطيد للتهليل والتقرير: ﴿ويوم يناديهم﴾ أي هؤلاء الذي يظنون أنهم معجزون ﴿فيقول﴾ بلسان الغضب والإخزاء والتوبيخ وقد جمعوا جمعاً: ﴿أين شركاءي﴾ وكرر الإشارة إلى أن إشراكهم إنما هو بالاسم لا معنى فيه أصلاً فقال: ﴿الذين كنتم﴾ أي بغاية جهدكم حتى صار لكم ذلك لمكة ﴿تزعمون*﴾ بلا شبهة لكم في ذلك عند التحقق أصلاً.
ولما ذكر الدليل الأول من الدليل على إبطال الشركة أن الشركاء لم يستجيبوا لهم ولا كانت لهم قدرة على نصرهم ولا نصر أنفسهم، وكان ربما قيل: إن ذلك الشيء عبر العجز، دل هنا على الإشراك لا شبهة دليل فقال صارفاً بقول إلى مظهر التكلم بأسلوب العظمة لأنه مجرد فعال ﴿ونزعنا﴾ أي أفردنا بقوة وسطوة ﴿من كل أمة شهيداً﴾
346
أي وهو رسولهم، فشهد عليهم بأعمالهم وما كانوا فيه من الارتباك في أشراك الإشراك.
ولما تسبب عن ذلك سؤالهم عن سندهم في إشراكهم قال: ﴿فقلنا﴾ أي للأمم: ﴿هاتوا برهانكم﴾ أي دليلكم القطعي الذي فزعتم في الدنيا إليه، وعولتم في شرككم عليه، كما هو شأن ذوي العقول أنهم لا يبنون شيئاً على غير أساس ﴿فعلموا﴾ بسبب هذا السؤال لما اضطروا ففتشوا واجتهدوا فلم يجدوا لهم سنداً أصلاً ﴿أن الحق﴾ أي في الإلهية ﴿لله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ولا مكافىء له، لا شركة لشيء معه ﴿وضل﴾ أي غاب وبطل غيبة الشيء الضائع ﴿عنهم ما كانوا﴾ أي كوناً هو كالجبلة لهم ﴿يفترون*﴾ أي يقولونه قول الكاذب المتعمد للكذب لكونه لا دليل عليه ولا شبهة موجبة للغلط فيه.
347
ولما دل على عجزهم في تلك الدار، وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار، إنما هو الواحد القهار، دل على أن ذلك له أيضاً في هذه الدار وقوع العلم به بإهلاك أولي البطر، والمرح والأثر، من غير أن يغنوا عمن أضلوا، أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق، وما أضلهم من
347
صامت، تطبيقاً لعموم ﴿وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها﴾ على بعض الجزئيات، تخويفاً لمن كذب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا سيما من نسبه إلى السحر، وإعلاماً بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء، لأنه سبحانه عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحد، وهم من بني إسرائيل ومن أقرب بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فعلم كان من كان اغتر بما أوتيه أن الحق لله في كل ما دعت إليه رسله، ونطقت به كتبه، وضل عنهم ما كانوا يفتقرون، ولم يغن عنهم شيئاً ما اعتمدوا عليه، فكان معبودهم في الحقيقة مما جمعوه من حطام الدنيا فاعتدوا أنهم نالوا به السعادة الدائمة والعز الباقي، فكان مثله - كما يأتي في التي بعده - كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وكل ذلك بمرأى من موسى عليه الصلاة والسلام حين كذبه ونسبه إلى السحر وتكبر عليه، فلم يسأل الله تعالى فيه لخروجه باستكباره من الوعد بالمنة على الذين استضعفوا في الأرض، وكان ذلك العذاب الذي عذبوا به من جنس ما عذب به فرعون في الصورة من حيث إنه تغييب وإن كان ذلك في مائع، وهذا صلب جامد، ليعلم أنه قادر على ما يريد، ليدوم
348
منه الحذر، فيما سبق منه القضاء والقدر، ونزع موسى عليه الصلاة والسلام من كل سبط من أسباط بني إسرائيل شهيداً من عصبهم وقال لهم: هاتوا برهانكم فيها، فعلموا بإبراق عصا هاورن عليه الصلاة والسلام دون عصيهم أن الحق لله في أمر الحبورة وفي جميع أمره فقال: ﴿إن قارون﴾ ويسمى في التوراة قورح، ثم بين سبب التأكيد بقوله: ﴿كان﴾ أي كوناً متمكناً ﴿من قوم موسى﴾ تنبيهاً على أنه جدير بأن ينكر كونه كذلك لأنه فعله معهم لا يكاد يفعله أحد مع قومه، وذلك أنه كان من الذين آمنوا به وقلنا فيهم ﴿ونريد أن نمن على الذين﴾ إلى آخره، لأنه ابن عم موسى عليه الصلاة والسلام على ما حكاه أبو حيان وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿فبغى عليهم﴾ أي تجاوز الحد في احتقارهم بما خولناه فيه من هذا الحطام المتلاشي، والعرض الفاني، فقطع ما بينه وبينهم من الوصلة، ووصل ما بينه وبين فرعون وأضرابه، من الفرقة، فأخرجه ذلك من حوزة المنة والأمانة والوراثة إلى دائرة الهلاك والحقارة والخيانة، كما بغى عليهم فرعون؛ وكان أصل «بغى» هذه: أراد، لكن لما كان العبد لا ينبغي أن يكون
349
له إرادة، بل الإرادة لسيده كما نبه عليه ﴿ما كان لهم الخيرة﴾، جعلت إرادته تجاوز الحد، وعديت ب «على» المقتضية للاستعلاء تنبيهاً على خروجها عن أصلها.
ولما ذكر بغيه، ذكر سببه الحقيقي، فقال: ﴿وآتيناه﴾ أي ومع كوننا أنعمنا عليه بجعله من حزب أصفيائنا آتيناه بعظمتنا ﴿من الكنوز﴾ أي الأموال المدفونة المدخرة، فضلاً عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منه لما عساه يعرض من المهمات ﴿ما﴾ أي الذي أو شيئاً كثيراً لا يدخل تحت حصر حتى ﴿إن مفاتحه﴾ أي مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيما وراء أبوابها ﴿لتنوء﴾ أي تميل بجهد ومشقة لثقلها ﴿بالعصبة﴾ أي الجماعة الكثيرة التي يعصب - أي يقوي - بعضهم بعضاً، وفي المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده، وكل ذلك مما تستبعده العقول، فلذلك وقع التأكيد ﴿أولي القوة﴾ أي تميلهم من أثقالها إياهم، والنوء: الميل، قال الرازي: والنوء: الكوكب مال عن العين عند الغروب، يقال: ناء بالحمل - إذا نهض به مثقلاً، وناء به الحمل - إذا أماله لثقله.
350
ولما ذكر بغيه، ذكر وقته، والوقت قد يكون واسعاً كما نقول: جرى كذا عام كذا، وفيه التعرض للسبب فقال: ﴿إذ قال له﴾ وقال: ﴿قومه﴾ إشارة إلى تناهي بغيه بافتخاره وكبره على أقاربه الذين جرت العادة أن لا يغضب كلامهم ولا يؤرث التعزر عليهم ولا يحمل إلا على النصح والشفقة، وساغت نسبة القول للكل وإن كان القائل البعض، بدليل ما يأتي، إما عداً للساكت قائلاً لرضاه به لأنه مما لا يأباه أحد، وإما لأن أهل الخير هم الناس، ومن عداهم عدم: ﴿لا تفرح﴾ أي لا تسر سروراً يحفر في قلبك فيتغلغل فيه فيحرفك إلى الأشر والمرح، فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه، وذلك يدل على نسيان الآخرة، وذلك على غاية الجهل والطيش وقلة التأمل للعواقب، فيجر إلى المرح فيجر إلى الهلاك، قال الرزاي: ومن فرح بغير مفروح به استجلب حزناً لا انقضاء له، وعللوا نهيهم له بما يفهم أشد الشفقة والمحبة فقالوا مؤكدين لاستبعاد من يرى تواصل النعم السارة على أحد أن يكون غير محبوب: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال فلا شيء أجل منه، فبه ينبغي أن يفرح ﴿لا يحب﴾ أي لا يعامل معاملة المحبوب ﴿الفرحين*﴾ أي
351
الراسخين في الفرح بما يفنى، فإن فرحهم يدل على سفول الهمم.
ولما كان ترك الفرح سبباً للزهد، وهو سبب القرب إلى الله، كان كأن قيل: وازهد فيه إن الله يحب الزاهدين ﴿وابتغ﴾ أي اطلب طلباً تجهد نفسك فيه ﴿فيما آتاك الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله من هذه الأموال حال تمكنك ﴿الدار الآخرة﴾ بإنفاقه فيما يحبه الله بحيث يكون ابتغاؤك ذلك مظروفاً له فيكون كالروح والمؤتى كالجسد ليكون حياً بذلك الابتغاء، فلا يكون منه شيء بغير حياة، فإن فعلك لذلك يذكرك أن هذه الدار دار قلعة وارتحال، وكل ما فيها إلى زوال، وذلك يوجب الزهد في جميع ما فيها من الأموال.
ولما كان ذلك شديد المشقة على النفوس مع ما فيه من شائبة الاتهام قالوا: ﴿ولا تنس﴾ أي تترك ترك الناسي ﴿نصيبك من الدنيا﴾ ترك المنسي، بل استعمل المباحات من المآكل والملابس والمناكح والمساكن وما يلائمها، وليكن استعمالك لذلك - كما دل عليه السياق - من غير إسراف ولا مخيلة توجب ترك الاتصاف بالإنصاف؛ وعن
352
علي رضي الله عنه: ولا تنس صحتك وقوتك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة.
ولما أطلق له الاقتصاد في التمتع بالزاد، وكانت النفس مجبولة على الشره، فإذا أذن لها من الدنيا في نقير جعلته أكبر كبير، أتبعوا ذلك ما لعله يكف من شرهها فقالوا: ﴿وأحسن﴾ أي أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج، والإنفاق في جميع الطاعات ﴿كما أحسن الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال، المتردي برداء العظمة والجلال ﴿إليك﴾ بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع عليك.
ولما كانت النفس من شأنها إن لم تزم بزمام الشرع الإسراف والإجحاف، قالوا: ﴿ولا تبغ﴾ أي لا ترد إرادة ما ﴿الفساد في الأرض﴾ بتقتير ولا تبذير، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا، وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب، فقيل: ﴿إن الله﴾ أي العالم بكل شيء، القدير على كل شيء ﴿لا يحب المفسدين*﴾ أي لا يعاملهم معاملة من يحبه، فلا يكرمهم.
ولما كان مما قالوه أن الذي أعطاه ذلك إنما هو الله، وكان قد
353
أبطرته النعمة حتى على خالقه حتى حصل التشوف إلى جوابه فقيل في أسلوب التأكيد لأن كل أحد يعلم من نفسه العجز، وأن غيره ينكر عليه فيما يدعي أنه حصله بقوته: ﴿قال إنما أوتيته﴾ أي هذا المال ﴿على علم﴾ حاصل ﴿عندي﴾ فأنا مستحق لذلك، وذلك العلم هو السبب في حصوله، لا فضل لأحد عليّ فيه - بما يفيده التعبير بإنما، وبناء الفعل للمجهول إشارة إلى عدم علمه بالمؤتى من هو، وقد قيل: إن ذلك العلم هو الكيمياء.
ولما كان التقدير: ألا يخاف أن يسلبه الله - عقوبة له على هذا - علمه وماله ونفسه؟ ألم يعلم أن ذلك إنما هو بقدرة الله؟ لا صنع له في الحقيقة في ذلك أصلاً، لأن الله قد أفقر من هو أجل منه حيلة وأكثر علماً، وأعطى أكثر منه من لا علم له ولا قدرة، فهو قادر على إهلاكه، وسلب ما معه وإفنائه، كما قدر على إيتائه، عطف عليه قوله منكراً عليه: ﴿أولم يعلم أن الله﴾ أي بما به من صفات الجلال والعظمة والكمال ﴿قد أهلك﴾ ونبه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان بإدخال من في قوله: ﴿من قبله﴾ ولو حذفها لاستغرق الإهلاك على ذلك الوصف جميع ما تقدمه من
354
الزمان ﴿من القرون﴾ أي الذين هم في الصلابة كالقرون ﴿من هو أشد منه﴾ أي قرون ﴿قوة﴾ أي في البدن، والمعاني من العلم وغيره، والأنصار والخدم ﴿وأكثر جمعاً﴾ في المال والرجال، آخرهم فرعون الذي شاوره في ملكه، وحقق أمره يوم مهم هلكه، وكان يستعبده أمثالة ويسومهم سوء العذاب، ولم يعاملهم معاملة من يحبه ولا امتنع عليه ذلك لعلم عند أحد منهم ولا جمع، بل أخذهم لبغيهم وقبح تقلبهم وسعيهم.
ولما كانت عادة أهل الدنيا أنهم إذا غضبوا من أحد فأرادوا إهلاكه عاتبوه، فتارة يحلف على نفي الذنب فيقبل منه وإن كان كاذباً، وتارة يكشف الحال عن أن باطن أمره على خلاف ما ظهر من شره، فيكون له عذر خفي، أشار سبحانه إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل بحقائق الأمور ومقادير ما يستحق على كل ذنب من العقوبة، وأمل المطلع على بواطن الضمائر وخفايا السرائر فغني عن ذلك، فقال تعالى ذاكراً لحال المفعول وهو ﴿من﴾ :﴿ولا﴾ أي أهلكهم والحال أنهم لا يسألون - هذا الأصل، ولكنه قال: ﴿يسأل﴾ أي من سائل ما ﴿عن ذنوبهم المجرمون*﴾ فأظهر لإفادة أن الموجب للإهلاك الإجرام، وهو قطع ما ينبغي
355
وصله بوصل ما ينبغي قطعه، ولهذا سبب وعقب عن وعظهم الحسن وجوابه الخشن قوله سبحانه دليلاً على إجرامه، وطغيانه في آثامه: ﴿فخرج على قومه﴾ أي الذين نصحوه في الإقتصاد في شأنه، والإكثار في الجود على إخوانه، ثم ذكر حاله معظماً لها بقوله: ﴿في زينته﴾ أي التي تناسب ما ذكرنا من أمواله، وتعاظمه في كماله من أفعاله وأقوله.
ولما كان كأنه قيل: ما قال قومه؟ قيل: ﴿قال الذين يريدون﴾ أي هم بحيث يتجدد منهم أن يريدوا ﴿الحياة الدنيا﴾ منهم لسفول الهمم وقصور النظر على الفاني، لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من الحسد الذي هو تمني زوال نعمة المحسود: ﴿يا ليت لنا﴾ أي نتمنى تمنياً عظيماً أن نؤت من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وجه كان ﴿مثل ما أوتي قارون﴾ من هذه الزينة وما تسببت عنه من العلم، حتى لا نزال أصحاب أموال، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن من يريد الآخرة ينكر عليهم: ﴿إنه لذو حظ﴾ أي نصيب وبخت في الدنيا ﴿عظيم*﴾ بما أوتيه من العلم الذي كان سبباً له إلى جميع هذا المال، ودل على جهلهم وفضل العلم الرباني وحقارة ما
356
أوتي قارون من المال والعلم الظاهر الذي أدى إليه باتباعه قوله: ﴿وقال الذين﴾ وعظم الرغبة في العلم بالبناء للمفعول إشارة إلى أنه نافع بكل اعتبار وباعتبار الزهد، وبالتعبير عن أهل الزهد به فقال: ﴿أوتوا العلم﴾ أي من قومه، فشرفت أنفسُهم عن إرادة الدنيا علماً بفنائها، زجراً لمن تمنى مثل حاله، وشمراً إلى الآخرة لبقائها: ﴿ويلكم﴾ أي عجباً لكم، أو حل بكم الشر حلولاً، وأصل ويل، «وي» قال الفراء: جيء بلام الجر بعدها مفتوحة ما المضمر نحو وي لك، ووي له، أي عجباً لك وله، ثم خلط اللام بوي لكثرة الاستعمال حتى صارت كلام الكلمة فصار معرباً بإتمامه ثلاثياً، فجاز أن يدخل بعدها لام أخرى في نحو ويلاً لك، لصيرورة الأول لام الكلمة، ثم نقل إلى باب المبتدأ فقيل: ويل لك، وهو باق على ما كان عليه في حال النصب إذ الأصل في ويل لك: هلكت ويلاً، أي هلاكاً فرفعوه بعد حذف الفعل نفضاً لغبار الحدوث، وقيل: أصل ويل الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى كما استعمل لا أبا لك - وأصله الدعاء على الرجل - في الحث على الفعل، فكأنهم قالوا: ما لنا يحل بنا الويل؟ فأخبروهم بما ينبغي معرضين
357
عما استحقوا به الويل من التمني، تحقيراً لما استفزهم حتى قالوه فقالوا: ﴿ثواب الله﴾ أي الجليل العظيم ﴿خير﴾ أي من هذا الحطام، ومن فاته الخير حل به الويل؛ ثم بينوا مستحقه تعظيماً له وترغيباً للسامع في حاله فقالوا: ﴿لمن آمن وعمل﴾ أي تصديقاً لإيمانه ﴿صالحاً﴾ ثم بين سبحانه عظمة هذه النصيحة وعلو قدرها بقوله مؤكداً لأن أهل الدنيا ينكرون كونهم غير صابرين: ﴿ولا يلقاها﴾ أي لا يجعل لاقياً لهذا الكلمات أوالنصيحة التي قالها أهل العلم، أي عاملاً بها ﴿إلا الصابرون*﴾ أي على قضاء ربهم في السراء والضراء، والحاملون أنفسهم على الطاعات الذين صار الصبر لهم خلقاً، وعبر بالجمع ترغيباً في التعاون إشارة إلى أن الدين لصعوبته لا يستقل به الواحد.
358
ولما تسبب عن نظره هذا الذي أوصله إلى الكفر بربه أخذه بالعذاب، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: ﴿فخسفنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿به وبداره﴾ أي وهي على مقدار ما ذكرنا من عظمته بأمواله وزينته، فهي أمر عظيم، تجمع خلقاً كثيراً وأثاثاً عظيماً، لئلا يقول قائل: إن الخسف به كان للرغبة في أخذ أمواله ﴿الأرض﴾ وهو من قوم موسى عليه الصلاة والسلام وقريب منه جداً - على ما نقله
358
أهل الأخبار - فإياكم يا أمة هذا النبي أن تردوا ما آتاكم من الرحمة برسالته فتهلكوا وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن الأنبياء كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدى، فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون لهم أبداً، إذا تحققوا أنهم من أهل الشقا ﴿فما﴾ أي فتسبب عن ذلك أنه ما ﴿كان له﴾ أي لقارون، وأكد النفي - لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون - بزيادة الجار في قوله: ﴿من فئة﴾ أي طائفة من الناس يكرون عليه بعد أن هالهم ما دهمه، وأصل الفئة الجماعة من الطير - كأنها سميت بذلك لكثرة رجوعها وسرعته إلى المكان الذي ذهبت منه ﴿ينصرونه﴾.
ولما كان الله تعالى أعلى من كل شيء قال: ﴿من دون الله﴾ أي الحائز لصفات الكمال، المتردي بالعظمة والجلال، لأن من كان على مثل رأيه هلك، ومن كان من أولياء الله راقب الله في أمره، فلم يسألوا الله فيه، وعلم هو أن الحق لله، وضل عنه - كما في الآية التي قبلها - ما كان يفتري ﴿وما كان﴾ أي هو ﴿من المنتصرين*﴾ لأنفسهم بقوتهم. ولما خسف به فاستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات، عبر عن حالهم بقوله: ﴿وأصبح﴾ أي
359
وصار، ولكنه عبر به لمقابلة الأمس، وإعلاماً بأن ما رأوا من حاله ملأ صدورهم فلم يكن لهم هم سواه ﴿الذين تمنوا﴾ أي أرادوا إرادة عظيمة بغاية الشغف أن يكونوا ﴿مكانه﴾ أي يكون حاله ومنزلته في الدنيا لهم ﴿بالأمس﴾ أي الزمان الماضي القريب وإن لم يكن يلي يومهم الذي هم فيه من قبله ﴿يقولون ويكأن﴾ هذه الكلمة والتي بعدها متصلة بإجماع المصاحف، وعن الكسائي أنه يوقف على الياء من وى، وعن أبي عمرو أنه يوقف على الكاف: ويك، قال الرضي في شرح الحاجبية: وي للتندم أو للتعجب، ثم قال: وهو عند الخليل وسيبويه «وي» للتعجب، ركبت مع «كأن» التي للتشبيه، وقال الفراء: كلمة تعجب ألحق بها كاف الخطاب نحو ويك عنتر أقدم، أي من قوله في قصيدته الميمية المشهورة إحدى المعلقات السبع:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
أي ويلك وعجباً منك، وضم إليها «أن» فالمعنى: ألم تر أنه، ونقل ابن الجوزي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال الفراء: ولما صار معنى ويكأن ألم تر، لم تغير كاف الخطاب للمؤنث والمثنى والمجموع بل لزم حالة واحدة، وقال الجعبري في شرح الشاطبية: وي صوت يقوله المتندم والمتعجب، وويك أصله ويلك، حذفت
360
لامه تخفيفاً لكثرة دوره؛ والكاف للخطاب وفتحت «أن» لإضمار العلم؛ وقال قطرب: لتقدير اللام، ونشأ من التركيب معنى: ندمنا على تفريطنا، وتعجبنا من حالنا، وتحققنا خلاف اعتقادنا، ورسمت متصلة تنبيهاً على التركيب، وقال القزاز في ديوانه الجامع: ويك كلمة ينبه بها الإنسان، وقيل: معناها رحمة، ووي معناها التنبيه والإنكار، وقال الإمام عبد الحق: وي كلمة تقال في التعجب والاستدراك، وقيل: وي حزن، وقال قطرب: وي كلمة تفجع - انتهى. وقال سيبويه في باب ما ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة: وسألت الخليل عن هذه الآية فزعم أنها وي مفصولة من كأن والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم، أو نبهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا - والله تعالى أعلم، وأما المفسرون: فقالوا: ألم تر أن الله. فالمعنى الذي يجمع الأقوال حينئذ: تعجباً أو ويلاً أو تندماً على ما قلنا في تبين غلطنا، وتنبيهاً على الخطأ، أو هلاك لنا، إو إنكار علينا، أو حزن لنا، أو تفجع علينا، أو استدراك علينا، أو رحمة لنا، أو تنبه منا، أو تنبيه لنا، ثم عللوا ذلك بقولهم: أن الله، أو يشبه أن الله،
361
أو ألم تر أيها السامع والناظر أن الله، وقال الرازي: اسم سمي به القول، أي أعجب، ومعناه التنبيه؛ ثم ابتدأ كأن ﴿الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ﴿يبسط الرزق﴾ أي الكامل ﴿لمن يشاء﴾ سواء كان عنده ما يحتال به على الرزق أم لا.
ولما كانت القصة لقارون، وكان له من المكنة في الدنيا ما مضى ذكره، وكانت العادة جارية بأن مثله يبطر وقد يؤدي إلى تألهه، قال منبهاً بالإيقاع به على الوجه الماضي أنه من جملة عبيده، لا فرق بينه وبين أضعفهم بالنسبة إلى قدرته: ﴿من عباده﴾.
ولما دل على أن البسط إنما هو منه، أتبعه قوله دليلاً آخر على ربوبيته: ﴿ويقدر﴾ أي يضيق على من يشاء سواء كان فطناً أم لا، لا يبسطه لأحد لكرامته عليه، ولا يضيق على أحد لهوانه عنده، ولا يدل البسط والقبض على هوان ولا كرامة، وهذا دليل على أنهم ظنوا صحة قول قارون أنه أوتيه على علم عنده، وأنهم إنما تمنوا علمه الذي يلزم منه على اعتقادهم حصول المال على كل حال.
ولما لاح لهم من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله، أتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضاً أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما
362
هو قادر على الرزق من قولهم: ﴿لولا أن منَّ الله﴾ أي تفضل الملك الأعظم الذي استأثر بصفات الكمال ﴿علينا﴾ بجوده، فلم يعطنا ما تمنيناه من الكون على مثل حاله ﴿لخسف بنا﴾ مثل ما خسف به ﴿ويكأنه﴾ أي عجباً أو ندماً لأنه، أو يشبه أنه، أو ألم تر أنه، قال الرضي في شرح الحاجبية: كأن المخاطب كان يدعى أنهم يفلحون فقال لهم: عجباً منك، فسئل: لم تتعجب منه؟ فقال: لأنه - إلى آخره، فحذف حرف الجر مع «أن» كما هو القياس.
﴿لا يفلح﴾ أي يظفر بمراد ﴿الكافرون*﴾ أي العريقون في الكفر لنعمة الله، وقد عرف بهذا تنزيل المعنى على ما قالوه في المراد من ويكأنه، سواء وقف على وي أو يك أو لا.
ذكر شرح هذه القصة: قال البغوي: قال أهل العلم بالأخبار: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى عليه الصلاة والسلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم فبغى وطغى، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة، في كل طرف منها خيطاً أخضر بلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي،
363
فقال موسى: يا رب! ألا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً، فإن بني إسرائيل تحتقر هذه الخيوط، فقال له ربه: يا موسى! إن الصغير من أمري ليس بصغير، فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير، فدعاهم موسى يعني فأعلمهم ففعلوا واستكبر قارون، فكان هذا بدء عصيانه وطغيانه وبغيه، فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة لهارون عليه السلام وهي رئاسة المذبح، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله، فقال قارون: يا موسى! لك الرسالة ولهارون الحبورة، ولست في شيء وأنا أقرأ التوراة، لا صبر لي على هذا، فقال له موسى عليه الصلاة والسلام: ما أنا بالذي جعلتها في هارون ولكن الله جعلها له، فقال قارون: والله لا أصدقك حتى أرى بيانه، يعني فجمع موسى عصي الرؤساء فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله فيها وباتوا يحرسونها، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر، وكانت من اللوز، فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، وذكر أموراً مما كان يتعظم بها وأنه رمى موسى عليه الصلاة والسلام بعظيمة فحينئذ غار الله لموسى عليه الصلاة والسلام فخسف به.
364
والذي رأيته أنا في التوراة في السفر الرابع ما نصه: وكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل وقل لهم: اعملوا خيوطاً في أطراف أرديتكم في أحقابكم، ولتكن الخيوط التي تعملون في أطراف أرديتكم من حرير، ولتكن هذه الخيوط تذكركم وصايا الله لتعملوا بها ولا تضلوا بما في قلوبكم، ولا تتبعوا آراءكم، بل اذكروا جميع وصاياي واعملوا بها، لتكونوا مقدسين لله ربكم، أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر، لا يكون لكم إله غيري، أنا الله ربكم.
ومن بعد هذه الأمور شق قورح - وهو اسم قارون بالعبرانية - بن يصهر بن قاهث بن لاوى، ودائن وأبيروم ابنا أليب، وأون بن قلب ابن روبيل العصي، وقاموا بين يدي موسى، وقم من بني إسرائيل عددهم مائتان وخمسون رجلاً من رؤساء الجماعة مذكورون مشهورون بأسمائهم أبطال، هؤلاء أجمعون اجتمعوا إلى موسى وهارون وقالوا لهما: ليس حسبكما أن الجماعة كلها طاهرة وأنتما رئيسان عليها حتى تريدا أن تتعظما على الجماعة كلها - أي يكون هارون هو الكاهن أي متولي
365
أمر القربان والحكم على خدمة قبة الزمان - فسمع موسى ذلك وخر ساجداً على وجهه، وكلم قورح وجماعته كلها فقال لهم: سيظهر الرب ويبين لمن الكهنوت والرئاسة بكرة، ومن كان طاهراً فليتقرب إليه. ومن يختار الرب يتقرب؛ ثم أمرهم أن يقربوا قرباناً ثم قال: يا بني لاوي! أما تكتفون بما اختاره الله لكم من كل جماعة بني إسرائيل وقربكم إليه لتعملوا العمل في بيت الرب وقربك أنت وجميع إخوتك معك إلا أن تريدوا الكهنوت أيضاً، فلذلك أنت وجماعتك كلها احتشدوا بين يدي الرب غداً، فأما هارون فمن هو حتى صرتم تقعون فيه وتتذمرون عليه، وأرسل موسى ليدعو دائن وأبيروم ابني أليب فقالا: لا تصعد إليك، أما تكتفيان بما صنعتما أنكما أخرجتمانا من الأرض التي تغل السمن والعسل لتقتلانا في هذه البرية حتى تعظما علينا وتفخرا، فأما ما وعدتنا به أنك تدخلنا الأرض التي تغل السمن والعسل فما فعلت، ولم تعطنا مواريث المزارع والكروم، فلو عميت أعيننا لم نصعد إليك. فشق ذلك على موسى جداً، وقال أمام الرب: لا تقبل قرابينهم يا رب لأني لم أظلم منهم رجلاً ولا أسأت إلى أحد منهم، ثم قال لقورح: اجتمع أنت وأصحابك أمام الرب وهارون معكم بكرة، وليأخذ كل منكم مجمرته، وقام موسى وهارون أمام قبة الزمان وجمع قورح
366
الجماعة كلها، وظهر مجد الرب للجماعة كلها، وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما: تنحيا عن هذه الجماعة فإني مهلكها في ساعة واحدة، فخرا ساجدين وقالا: اللهم أنت إله أرواح كل ذي لحم، يجرم رجل واحد فينزل الغضب بالجماعة كلها؟ فكلم الرب موسى وقال له: كلم الجماعة كلها وقل لهم: تنحوا عن خيم دائن وأبيروم وقورح، تنحوا عن خيم هؤلاء الفجار، ولا تقربوا شيئاً مما لهم لئلا تعاقبوا، وقال موسى: بهذه الخلة تعلمون أن الرب أرسلني أن أعمل هذه الأعمال كلها، ولم أعملها من تلقاء نفسي، إن مات هؤلاء مثل موت كل إنسان أو نزل بهم الموت مثل ما ينزل بجميع الناس فلم يرسلني الرب، وإن فتحت الأرض فاها وابتلعتهم وابتلعت كل شيء لهم نزلوا هم وكل شيء لهم إلى الجحيم علمتم أن هؤلاء قد أغضبوا الرب.
فلما أكمل موسى قوله هذا انفتحت الأرض من تحتهم، وفغرت فاها فابتلعتهم وابتلعت خيمهم وجميع مواشيهم فنزلوا إلى الجحم أحياء، ثم استوت الأرض فوقهم، وهرب جميع بني إسرائيل حيث سمعوا أصواتهم ورأوا ما قد صنع بهم، وقالوا: لعل الأرض تبتلعنا أيضاً، واشتعلت نار من قبل الرب فأحرقت المائتين
367
والخمسين رجلاً الذين كانوا يبخرون البخور، وتذمر جماعة بني إسرائيل من بعد ذلك اليوم على موسى وهارون فقالوا لهما: أنتما قتلتما جماعة شعب الرب، فأقبلوا إلى قبة الزمان ورأوا أن السحاب قد تغشى القبة وظهر مجد الرب، وأتى موسى وهارون فقاما في قبة الزمان، وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما: تنحيا عن هذه الجماعة لأني مهلكها في ساعة واحدة، فخرا ساجدين على وجوههما، وقال موسى لهارون: خذ مجمرة بيدك واجعل فيها ناراً وبخوراً، وانطلق مسرعاً إلى الجماعة واستغفر لهم لأنه قد نزل غضب الرب بالجماعة كلها، وبدأ موت الفجأة بالشعب، وأخذ هارون كما أمره موسى فأحضر إلى الجماعة ورأى أن الموت قد بدأ بالشعب، وبخر بخوراً للرب واستغفر للشعب، وقام فيما بين الأموات والأحياء، فكف موت الفجأة عن الشعب، وكان عدد الذين ماتوا فجأة أربعة عشر ألفاً وسبعمائة رجل غير المخسوف بهم، ورجع هارون إلى موسى إلى قبة الزمان فكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل وخذ منهم عصا عصا من كل سبط، واكتب اسم كل رجل على عصاه، واكتب اسم هارون على عصا سبط لاوي، واجعلها في قنة الزمان أمام تابوت الشهادة لأنزل إليكم إلى
368
هناك، فالرجل الذي أحبه تنضر عصاه، وأخلصكما من هتار بني إسرائيل وتذمرهم؛ ثم دخل موسى خبأ الشهادة فرأى عصا هارون قد نضرت وأخرجت أغصاناً وأورقت وأثمرت لوزاً، وأخرج موسى العصي كلها فنظروا إليها، وقال الرب لموسى: رد قضيب هارون إلى موضع الشهادة واحفظه آية لأبناء المتسخطين ليكف تذمرهم عني ولا يموتوا، ولا يعمل عمل قبة الزمان غير اللاويين - أي سبط لاوي، فأما بنو إسرائيل - أي باقيهم - فلا يقتربوا إلى قبة الزمان لئلا يعاقبوا ويموتوا؛ ثم ذكر وفاة هارون عليه السلام في هور الجبل وولاية إليعازر ابنه مكانه أمر الكهنوت - انتهى. وهو نحو مما فعل الله لنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حنين الجذع، وتخيير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له أن يعيده تعالى إلى أحسن ما كان وهو حي أو يجعله في الجنة، فاختار أن يكون في الجنة، وكذا أمر سراقة بن مالك بن جعشم حيث لحقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طريق الهجرة ليرده فخسف بقوائم حصانه حتى نزل إلى بطنه ثلاث مرات غير أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان نبي الرحمة لم يكن القاضية، فكفى بذلك شره، وأسلم بعد ذلك علم الفتح،
369
وبشره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه يلبس سوراى كسرى فكان كذلك، وشر من الخسف الذي يغيب به المخسوف به وأنكأ وأشنع وأخزى قصة الذي ارتد فقصم ودفن فلفظته الأرض - روى البيهقي في آخر الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، فرفعوه وأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذاً، وقال: رواه مسلم في الصحيح، وعن أنس رضي الله عنه مثله أيضاً في رجل نصراني لفظته الأرض ثلاث مرات ثم تركوه.
وقال رواه البخاري في الصحيح.
370
ولما قدم سبحانه أن المفلح من تاب وآمن وعمل صالحاً، وهو الذي أشار أهل العلم إلى أن له ثواب الله، وكان ذلك للآخرة
370
سبباً ومسبباً، ومر فيما لا بد منه حتى ذكر قصة قارون المعرّفة - ولا بد - بأن هذه الدار للزوال، لا يغنى فيها رجال ولا مال، وأن الآخرة للدوام، وأمر فيها بأن يحسن الابتغاء في أمر الدنيا، وختم بأن هذا الفلاح مسلوب عن الكافرين، فكان موضع استحضار الآخرة، مع أنه قدم قريباً من ذكرها وذكر موافقتها ما ملأ به الأسماع، فصيرها حاضرة لكل ذي فهم، معظمة عند كل ذي علم، أشار إليها سبحانه لكلا الأمرين: الحضور والعظم، فقال: ﴿تلك﴾ أي الأمر المنظور بكل عين، الحاضر في كل قلب، العظيم الشأن، البعيد الصيت، العلي المرتبة، الذي سمعت أخباره، وطنت على الآذان أوصافه وآثاره ﴿الدار الآخرة﴾ أي التي دلائلها أكثر من أن تحصر، وأوضح من أن تبين وتذكر، من أعظمها تعبير كل أحد عن حياته بالدنيا والتي أمر قارون بابتغائها فأبى إلا علواً وفساداً ﴿نجعلها﴾ بعظمتنا ﴿للذين﴾ يعملون ضد عمله.
ولما كان المقصود الأعظم طهارة القلب الذي عنه ينشأ عمل الجوارح، قال: ﴿لا يريدون﴾ ولم يقل يتعاطون - مثلاً،
371
تعظيماً لضرر الفساد بالتنفير من كل ما كان منه تسبب، إعلاماً بأن النفوس ميالة إليه نزاعة له فمهما رتعت قريباً منه اقتحمته لا محالة ﴿علواً﴾ أي شيئاً من العلو ﴿في الأرض﴾ فإنه أعظم جارّ إلى الفساد، وإذا أرادوا شيئاً من ذلك فيما يظهر لك عند أمرهم بمعروف أو نهيهم عن منكر، كان مقصودهم به علو كلمة الله للإمامة في الدين لا علوهم ﴿ولا فساداً﴾ بعمل ما يكره الله، بل يكونون على ضد ما كان فيه فرعون وهامان وقارون، من التواضع مع الإمامة لأجل حمل الدين عنهم ليكون لهم مثل أجر من اهتدى بهم، لا لحظ دنيوي، وعلامة العلو لأجل الإمامة لا الفساد ألا يتخذوا عباد الله خولاً، ولا مال الله دولاً، والضابط العمل بما يرضي الله والتعظيم لأمر الله والعزوف عن الدنيا.
ولما كان هذا شرح حال الخائفين من جلال الله تعالى، أخبر سبحانه أنه دائماً يجعل ظفرهم آخراً، فقال معبراً بالاسمية دلالة على الثبات: ﴿والعاقبة﴾ أي الحالة الأخيرة التي تعقب جميع الحالات لهم في الدنيا والآخرة، هكذا الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وإعلاماً بالوصف الذي أثمر لهم ذلك فقال تعالى: ﴿للمتقين*﴾ أي دائماً في كلا الدارين، لا عليهم فمن اللام يعرف أنها محمودة، وهذه الآيةِ يُعْرَف
372
أهل الآخرة من أهل الدنيا، فمن كان زاهداً في الأولى مجتهداً في الصلاح، وكان ممتحناً في أول أحواله مظفراً في ماله، فهو من أبناء الآخرة، وإلا فهو للدنيا.
ولما تحرر الفرق بين أهل الدارين، وكان لا بد من إتيان الآخرة، وعلم أن الآخرة إنما هي جزاء الأعمال، وتقرر من كونها للخائفين أنها على الآمنين، فاستؤنف تفصيل ذلك جواباً لمن كأنه قال: ما لمن أحسن ومن أساء عند القدوم؟ بقوله: ﴿من جاء﴾ أي في الآخرة أو الدنيا ﴿بالحسنة﴾ أي الحالة الصالحة ﴿فله﴾ من فضل الله ﴿خير منها﴾ من عشرة أضعاف إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما لا يحيط به إلا الله تعالى ﴿ومن جاء بالسيئة﴾ وهي ما نهى الله عنه، ومنه إخافة المؤمنين ﴿فلا يجزى﴾ من جاز ما، وأظهر ما في هذا الفعل من الضمير العائد على من فقال: ﴿الذين عملوا السيئات﴾ تصويراً لحالهم تقبيحاً لها وتنفيراً من عملها، ولعله جمع هنا وأفرد أولاً إشارة إلى أن المسيء أكثر ﴿إلا﴾ مثله سواء عدلاً منه تعالى، هكذا كان الأصل، ولكنه قال: ﴿ما كانوا﴾ أي بجميع هممهم ﴿يعملون*﴾ مبالغة في المثلية، هذا
373
في الآخرة، وزادت الآية الإشارة إلى أنه يفعل في الدنيا مثل ذلك وإن خفي، فسيخافون في حرمهم بما أخافوا المؤمنين فيه وقد جعله الله للأمن، فاعتلوا عن الدخول في دينه بخوف التخطف من أرضهم، فسيصير عدم دخولهم فيه سبباً لخوفهم وتخطفهم من أرضهم فيعلمون أن ما كانوا فيه من الأمن إنما هو بسببك، ثم يصيرون يوم الفتح في قبضتك.
ولما قرر ذكر الآخرة التي هي المرجع وكرره، وأثبت الجزاء فيها، وأن العاقبة للمتقين، أتبعه ما هو في بيان ذلك كالعلة، فقال مستأنفاً مقرراً مؤكداً لما تقرر في أذهانهم من إنكار الآخرة وما يقتضيه حال خروجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة المشرفة من استبعاد رده إليها: ﴿إن الذي فرض﴾ أي أوجب ﴿عليك القرآن﴾ أي الجامع لما تفرق من المحاسن، المفصل لما التبس من جميع المعاني، أي فرض عليك جميع ما في هذا الكتاب المشتمل على الجمع والفرق بما يظهر حسن تلقيه من تلاوة وإبلاغ وتحد وعمل وألزمك فيه وغيرك هذه الملازم، وكلفكم تلك التكاليف التي منها المقارعة بالسيوف ﴿لرآدك﴾
374
أي بعد الموت لأجل صعوبة ما كلفك به وألزمك من مشقته ﴿إلى معاد﴾ أي مرجع عظيم يا له من مرجع! يجزي فيه كل أحد بما عمل، فيبعثك ربك فيه ثواباً على إحسانك في العمل مقاماً محموداً يغبطك فيه الأولون والآخرون، بما عانيت في أمره من هذه المشقات التي لا تحملها الجبال، ولولا الرد إلى إلى هذا المعاد لكانت هذه التكاليف - التي لا يعمل أكثرهم بأكثرها ولا يجازي على المخالفة فيها - من العبث المعلوم أن العاقل من الآدميين متنزه عنه فكيف بأحكم الحاكمين! فاجتهد فيما أنت فيه لعز ذلك اليوم فإن العاقبة لك، والآية مثل قوله تعالى
﴿واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله﴾ [البقرة: ٢٨١]، ﴿ثم إليه ترجعون﴾ [البقرة: ٢٨] ﴿إلى الله مرجعكم﴾ [المائدة: ٤٨] إلى غير ذلك من الآيات، ويجوز أن يقال: إلى معاد أيّ معاد، أي مكان هو لعظمته أهل لأن يقصد العودَ إليه كل من خرج منه وهو مكة المشرفة: وطنك الدنيوي، كما فسرها بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه عنه البخاري، وعود هو لجلالته أهل لأن يذكر لدخولك إليها في جنود يعز بها الإسلام، ويذل بها الكفر وأهله على الدوام، والجنة المزخرفة:
375
وطنك الخروي، على أكمل الوجوه وأعلاها، وأعزها وأولاها، فلا تظن أنه يسلك بك سبيل أبويك عليهما الصلاة والسلام: إبراهيم في هجرته من حران بلد الكفر إلى الأرض المقدسة فلم يعد إليها، وإسماعيل في العلو به من الأرض المقدسة إلى أقدس منها فلم يعد إليها، بل يسلك لك سبيل أخيك موسى عليه الصلاة والسلام - الذي أنزل عليه الكتاب كما أنزل عليك الكتاب القرآن الفرقان، والذي أشركوك به في قولهم ﴿لولا أوتي مثل ما أوتي موسى﴾ [القصص: ٤٨]- في إعادته إلى البلد الذي ذكر في هذه السورة - توطئة لهذه الآية - أنه خرج منه خائفاً يترقب - وهي مصر - إلى مدين في أطراف بلاد العرب، على وجه أهلك فيه أعداءه، أما من كان من غير قومه فبالإغراق في الماء، وأما من كان من قومه فبالخسف في الأرض، وأعز أولياءه من قومه وغيرهم، كما خرجت أنت من بلدك مكة خائفاً تترقب إلى المدينة الشريفة غير أن رجوعك - لكونك نبي الرحمة، وكون خروجك لم يكن مسبباً عن قتل أحد منهم - لا يكون فيه هلاكهم، بل عزهم وأمنهم وغناهم وثباتهم، واختير لفظ القرآن دون الكتاب لما فيه من الجمع من لازم النشر - كما مضى في الحجر، فناسب السياق الذي هو للنشر والحشر والفصل من بلده ثم الوصل، فإنه روى أن هذه
376
الآية نزلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجحفة وهي في طريق الهجرة.
ولما فهم من الإبلاغ في هذا التأكيد أن ثَم من يبالغ في النفي والإنكار على حسب هذا التأكيد في الإثبات فيقول: إن الأمر ليس كذلك، ولا يعود إلى مكة المشرفة ومنا عين تطرف، قال مهدداً على طريق الاستئناف على لسانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكون الإنكار تكذيباً له كما كذب موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أجاب بمثل ذلك كما تقدم: ﴿قل﴾ أي لهؤلاء المنكرين لما أخبرتك به: ﴿ربي﴾ أي المحسن إليّ ﴿أعلم﴾ أي من كل أحد.
ولما كانت هذه القصة مسلمة لا نزاع فيها لعاقل تثبت الخالق، وكانوا يقولون: من ادعى رجوعه فهو ضال، توجه السؤال عن المهتدي إلى الصواب والضال، بما يشهد به فتح مكة عند الإقبال في أولئك الضراغمة الأبطال، والسادة الأقيال، فقال في أسلوب الاستفهام لإظهار الإنصاف والإبعاد من الاتهام: ﴿من جاء بالهدى﴾ أي الذي لا أبين منه، أنا فيما جئت به من ربي بهذا الكلام الذي يشهد الله لي بإعجازه أنه من عنده أم أنتم فيما تقولون من عند أنفسكم؟ ﴿ومن هو في ضلال﴾ أي أنتم في كلامكم الظاهر العوار العظيم العار أم أنا ﴿مبين*﴾ أي بين
377
في نفسه مظهر لكل أحد ما فيه من خلل وإن اجتهد التابع له في ستره.
ولما كان الجواب لكل من أنصف: هم في ضلال مبين لأنهم ينحتون من عند أنفسهم ما لا دليل عليه، وأنت جئت بالهدى لأنك أتيت به عن الله، بني عليه قوله: ﴿وما﴾ ويجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير في ﴿عليك﴾ وما بينهما اعتراض للاهتمام بالرد على المنكر للمعاد، أي فرضه عليك والحال أنك ما، ويجوز أن يقال: لما كان رجوعه إلى مكة غاية البعد لكثرة الكفار وقلة الأنصار، قربه بقوله معلماً أن كثيراً من الأمور تكون على غير رجاء، بل وعلى خلاف القياس: وما ﴿كنت ترجوا﴾ أي في سالف الدهر بحال من الأحوال ﴿أن يلقى﴾ أي ينزل على وجه لم يقدر على رده ﴿إليك الكتاب﴾ أي بهذا الاعتقاد ولا بشيء منه؛ ولا كان هذا من شأنك، ولا سمعه أحد منك يوماً من الأيام، ولا تأهبت لذلك أهبته العادية من تعلم خط أو مجالسة عالم ليتطرق إليك نوع اتهام، كما يشير إليه قوله تعالى في التي بعدها ﴿وما كنت تتلوا من قبله من كتاب﴾ [العنكبوت: ٤٨] واختير هنا لفظ الكتاب لأن السياق للرحمة التي من ثمراتها الاجتماع
378
المحكم، وذلك مدلول الكتاب؛ ثم قال: ﴿إلا﴾ أي لكن ألقي إليك الكتاب ﴿رحمة﴾ أي لأجل رحمة عظيمة لك ولجميع الخلائق بك، لم تكن ترجوها ﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بجعلك مصطفى لذلك، بالدعاء إليه وقصر الهمم عليه، وعبر بأداة الاستثناء المتصل إشارة إلى أن حاله قبل النبوة من التنزه عن عبادة الأوثان وعن القرب منها والحلف بها وعن والفواحش جميعاً، ومن الانقطاع إلى الله بالخلوة معه والتعبد له توفيقاً من الله كان حال من يرجو ذلك.
ولما تسبب عما تقدم الاجتهاد في تحريك الهمم إلى العكوف على أمر الله طمعاً فيما عنده سبحانه من الثواب، وشكراً على إنزال الكتاب، قال في سياق التأكيد لأن الطبع البشري يقتضي إدراك مظاهرة الكفار لأمر من التوفيق عظيم، لكثرتهم وقوتهم وعزتهم: ﴿فلا تكونن﴾ إذ ذاك بسبب اتصافهم لك لكثرتهم ﴿ظهيراً﴾ أي معيناً ﴿للكافرين*﴾ بالمكث بين ظهرانيهم، أو بالفتور عن الاجتهاد في دعائهم، يأساً منهم لما ترى من بعدهم من الإجابة وإن طال إنذارك، لا تمل أنت كما لم نمل نحن، فقد وصلنا لهم القول، وتابعنا لهم الوعظ
379
والقص، ونحن قادرون على إهلاكهم في لحظة، وهدايتهم في أقل لمحة، وكما أن موسى عليه الصلاة والسلام بعد الإنعام عليه لم يكن ظهيراً للمجرمين، وهذا تدريب من الله تعالى لأئمة الأمة في الدعاء إلى الله عند كثرة المخالف، وقلة الناصر المحالف.
ولما كان التواني في النهي عن المنكر إعراضاً عن الأوامر وإن كان المتواني مجتهداً في العمل، قال مؤكداً تنبيهاً على شدة الأمر لكثرة الأعداء وتتابع الإيذاء والاعتداء: ﴿ولا يصدنك﴾ أي الكفار بمبالغتهم في الإعراض وقولهم ﴿لولا أوتي مثل ما أوتي موسى﴾ ونحوه ﴿عن آيات الله﴾ أي عن الصدع بها وهي من المتصف بصفات الكمال، في الأوقات الكائنة ﴿بعد إذ أنزلت﴾ أي وقع إنزالها ممن تعلمه منتهياً ﴿إليك﴾ مما ترى من أوامرها ونواهيها، ولقد بين هذا المعنى قوله: ﴿وادع﴾ أي أوجد الدعاء للناس ﴿إلى ربك﴾ أي المحسن إليك لإحسانه إليك، وإقباله دون الخلق عليك، وأعراه من التأكيد اكتفاء بالمستطاع فإن الفعل ليس للمبالغة فيه جداً، إشارة إلى أن جلب المصالح أيسر خطباً من درء المفاسد، فإن المطلوب فيه النهاية محدود بالاجتناب.
380
ولما كان الساكت عن فاعل المنكر شريكاً له، قال مؤكداً تنبيهاً علىلاهتمام بدرء المفاسد، وأنه لا بد فيه من بلوغ الغاية: ﴿ولا تكونن من المشركين*﴾ أي معدوداً في عدادهم بترك نهيهم عن شركهم وما يتسبب عنه ساعة واحدة.
ولما كان الكائن من قوم موصوفاً بما اتصف به كل منهم، وكانت مشاركتهم بالفعل أبعد من مشاركتهم بالسكوت، قال من غير تأكيد: ﴿ولا تدع مع الله﴾ أي الجامع لجميع صفات الكمال ﴿إلهاً﴾ ولما كانت النكرة في سياق النهي تعم كما لو كانت في سياق النفي، وكان المشركون قد تعنتوا لما رأوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو باسم الله واسم الرحمن كما ذكر آخر الإسراء، قال: ﴿آخر﴾ أي غير الله حقيقة دون أن يغاير في الاسم دون الذات، ومضى في آخر الحجر، ويأتي إن شاء الله تعالى في الذاريات ما يتضح به هذا المعنى، والمراد بهذا كله المبالغة في الإنذار إعلاماً بأن تارك النهي عن المنكر مع القدرة شريك للفاعل وإن لم يباشره، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قادر لحراسة الله تعالى له؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿لا إله إلا هو﴾ أي حتى يستحق أن يشتغل به عبد؛ ثم علل وحدانيته بقوله: ﴿كل شيء هالك﴾ أي
381
هو في قوة الهلاك والفناء ومستحق لذلك لأنه ممكن ﴿إلا وجهه﴾ أي هو، فهو الباقي لأنه الواجب الوجود، ووجود كل موجود إنما كان به، ولعله عبر عن الذات بالوجه ليشمل ما قصد به من العمل الصالح مع ما هو معروف من تسويغه لذلك بكونه أشرف الجملة، وبكون النظر إليه هو الحامل على الطاعة بالاستحياء وما في معناه؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿له﴾ أي لله وحده فالضمير استخدام ﴿الحكم﴾ أي العمل المحكم بالعلم النافذ على كل شيء، ولا حكم لشيء عليه ﴿وإليه﴾ وحده ﴿ترجعون*﴾ في جميع أحوالكم: في الدنيا بحيث أنه لا ينفذ لأحد مراد إلا بإرادته، وفي الآخرة بالبعث فيجازي المحسن بإحسانه والعاصي بعصيانه، ولا شك أن هذه الأوامر والنواهي وإن كان خطابها متوجهاً إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالمقصود بها أتباعه، ولعلها إنما وجهت إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه لأن أمر الرئيس أدعى لأتباعه إلى القبول، وقد اتضح بهذا البيان، في هذه المعاني الحسان، أن هذا الكتاب مبين، وبإنفاذ إرادته سبحانه وتعالى في تقوية أهل الضعف من بني إسرائيل دون ما أراد فرعون وقارون وأتباعهما من أهل العلو بطاعة الماء والتراب وما جمع العناصر من اليد والعصا أن له وحده الحكم
382
على ما يريد ويختار، فصح أن إليه الرجوع يوم المعاد يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه، فقد انطبق آخر السورة على أولها، وانشرح مجملها بمفصلها.
383
مقصودها الحث على الاجتهاد في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء إلى الله تعالى وحمده من غير فترة، كما ختمت به السورة الماضية، من غير تعريج على غيره سبحانه أصلاً، لئلايكون مَثَلُ الفرج عند المتعوض عوضاً منه مَثَلَ العنكبوت، فهي سورة ضعف الكافرين وقوة المؤمنين، وقد ظهر سر تسميتها بالعنكبوت وأنه دال على مقصودها) بسم الله (الذي أحاط بجميع القوة فأعز جنده) الرحمن (الذي شمل جميع العباد بنعمة الأمر والنهي) الرحيم (الذي ألزم أهل العرفان ذروة الإحسان.
لما ختم السورة الماضية بالحث على العمل للدار الآخرة، وأن كل أحد من محسن مسيء مجزى بعمله، وبالإخبار بأنه سبحانه عالم بالسر والعلن، بالأمر بالاجتهاد فيالدعاء إليه وقصر الهمم عليه وإن أدى ذلك إلى الملال، وذهاب النفس والأموال، معللاً بأن له الحكم سبحانه لأنه الباقي بلا زوال، وكل ماعداه فإلى تلاش واضمحلال، وأنه لا يفوته شيء في حال ولا مآل، قال أول هذه:
384
Icon