ﰡ
الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن مرة يأتي حرف واحد مثل( ق، ن ) أو حرفان مثل( طس، حم ) أو ثلاثة أحرف مثل( الم، طسم ) أو أربعة مثل( المر ) أو خمسة مثل( حمعسق، كهيعص ) وكل منها له مفتاح وأسرار لم يفتح علينا بعد لمعرفته وما قلنا في معنى هذه الحروف مجرد محاولات على الطريق.
وقوله﴿ بالحق... ٣ ﴾( القصص ) لأن تلاوته وقصصه حق، كما في قوله تعالى :﴿ إن هذا لهو القصص الحق... ٦٢ ﴾( آل عمران )
والقصص مأخوذ من قص الأثر وتتبعه، وقد اشتهر به بعض العرب قديما، ومهروا فيه حتى إنهم ليعرفون أثر الرجل الذي فقد حمله، وقابل أحد القصاصين، وسأله عنه فقال : جملك أبتر١ الذنب ؟ قال : نعم، قال : أعور ؟ قال : نعم، قال : أعرج ؟ عندها لم يشك صاحب الجمل أن هذا الرجل هو الذي أخذ جمله، فأمسك به وقاضاه.
وفي مجلس القضاء، قال الرجل : والله ما أخذت جملك، لكني رأيت الجمل يبعثر بعره خلفه، أما هذا فيضع بعره مرة واحدة، فعرفت أنه مقطوع الذنب، ورأيت أحد أخفافه لا يؤثر في الرمل فعرفت أنه أعرج، ورأيته يأكل من ناحية ويترك الأخرى فعرفت أنه أعور.
والحق- تبارك وتعالى- حين يقص علينا يقص الواقع، فقصص القرآن لا يعرف الخيال كقصص البشر ؛ لذلك يسميه القصص الحق، وأحسن القصص، لأنه يروي الواقع طبق الأصل.
﴿ وجعل أهلها شيعا... ٤ ﴾( القصص ) جمع شيعة، وهي الطائفة التي لها استقلالها الخاص، والمفروض في المملك أن يسوي بين رعيته، فلا تأخذ طبقة أو جماعة حظوة عن الأخرى، أما فرعون فقد جعل الناس طوائف، ثم يسلط بعضها على بعض، ويسخر بعضها لبعض.
ولا شك أن جعل الأمة الواحدة عدة طوائف له ملحظ عند الفاعل، فمن مصلحته أن يزرع الخلاف بين هذه الطوائف ويشغل بعضها ببعض، فلا تستقر بينهم الأمور، ولا يتفرغون للتفكير فيما يقلقه ويهز عرشه من تحته، فيظل هو مطلوبا من الجميع.
والقبط كانوا هم سكان مصر والجنس الأساسي بها، ثم لما جاءها يوسف- عليه السلام- واستقر به الأمر حتى صار على خزائنها، ثم جاء إخوته لأخذ أقواتهم من مصر، ثم استقروا بها وتناسلوا إلا أنهم احتفظوا بهويتهم فلم يذوبوا في المجتمع القبطي.
وبالمناسبة يخطئ الكثيرون فيظنون أن القبطي يعني النصراني وهذا خطأ، فالقبطي يعني المصري كجنس أساسي في مصر، لكن لما استعمرت الدولة الرومانية مصر كان مع قدوم المسيحية فأطلقوا على القبطي ( مسيحي )
لكن، ما السبب في أن فرعون جعل الناس طوائف، تستعبد كل منها الأخرى ؟ قالوا : لأن بني إسرائيل كانوا في خدمة المستعمر الذي أزاح حكم الفراعنة، وهم ملوك الرعاة، فلما طرد ملوك الرعاة من مصر كان طبيعيا فيمن يحكم مصر أن يضطهد بني إسرائيل ؛ لأنهم كانوا موالين لأعدائه، ويسيرون في ركابهم، ومن هنا جاء اضطهاد فرعون لبني إسرائيل.
والقرآن الكريم حينما يتحدث عن ملوك مصر في القديم وفي الحديث يسميهم فراعنة، كما في قوله تعالى :﴿ وفرعون ذي الأوتاد ١٠ ﴾( الفجر )
وهنا في قصة موسى- عليه السلام- قال أيضا : فرعون. أما في قصة يوسف عليه السلام فلم يأت ذكر للفراعنة، إنما قال ﴿ الملك... ٤٣ ﴾ ( يوسف ) وهذه من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم ؛ لأن الحكم في مصر أيام يوسف كان لملوك الرعاة، ولم يكن للفراعنة، حيث كانوا يحكمون مصر قبله وبعده لما استردوا ملكهم من ملوك الرعاة ؛ لذلك في عهد يوسف بالذات قال﴿ الملك... ٥٠ ﴾( يوسف ) فلم يكن للفرعون وجود في عصر يوسف.
فمعنى﴿ يستضعف طائفة منهم... ٤ ﴾( القصص ) يعني : تستبد طائفة الأقباط، وهم سكان مصر الأصليون بطائفة بني إسرائيل لينتقموا منهم جزاء موالاتهم لأعدائهم.
ذلك لأن دين الله واحد، وأوامره واحدة للجميع، فلو كنتم متمسكين بالدين الحق لجعلتم الناس جميعا شيعة واحدة، لا يكون لبعضهم سلطة زمنية على الآخرين، فإذا رأيت في الأمة هذه التفرقة وهذا التحزب فاعلم أنهم جميعا مدينون ؛ لأن الإسلام- كما قلنا- في صفائه كالماء الذي لا طعم له، ولا لون، ولا رائحة.
وهذا الماء يحبه الجميع ولا بد لهم منه لاستبقاء حياتهم، أما أن نلون هذا الماء بما نحب، فأنت تحب البرتقال، وأنا أحب المانجو. وهذا يحب الليمون... إلخ إذن : تدخلت الأهواء، وتفرق الدين الذي أراده الله مجتمعا.
لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ستفترق أمتى بضع وستون، أو بضع وسبعون فرقة، كلهم في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي " ١.
فشيعة الإسلام إذن واحدة، أما أن نرى على الساحة عشرات الفرق والشيع والجماعات، فأيها يتبع المسلم ؟ إذن : ما داموا قد فرقوا دينهم، وكانوا شيعا فلست منهم في شيء.
ثم يفسر الحق سبحانه هذا الاستضعاف ﴿ يستضعف طائفة منهم... ٤ ﴾( القصص ) فيقول﴿ يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم... ٤ ﴾( القصص ) وقلنا : إن الإفساد أن تأتي على الصالح بذاته فتفسده، فمن الفساد- إذن- قتل الذكران واستحياء النساء ؛ لأن حياة الناس لا تقوم إلا باستبقاء النوع، فقتل الذكران يمنع استبقاء النوع، واختار قتل الذكران ؛ لأنهم مصدر الشر بالنسبة له، أما النساء فلا شوكة لهن، ولا خوف منهن ؛ لذلك استبقاهن للخدمة وللاستذلال.
وحين نتتبع هذه الآية نجد أنها جاءت في مواضع ثلاثة من كتاب الله، لكل منها أسلوب خاص، ففي الآية الأولى يقول تعالى :﴿ وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم... ٤٩ ﴾( البقرة )
في موضع آخر :﴿ يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم... ١٤١ ﴾( الأعراف ) وهاتان الآيتان على لسان الحق تبارك وتعالى.
أما الأخرى فحكاية من الله على لسان موسى- عليه السلام- حين يعدد نعم الله تعالى على بني إسرائيل، فيقول :
﴿ اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم... ٦ ﴾( إبراهيم )
فالواو في﴿ ويذبحون... ٦ ﴾( إبراهيم ) لم ترد في الكلام على لسان الله تعالى، إنما وردت في كلام موسى ؛ لأنه في موقف تعداد نعم الله على قومه وقصده ؛ لأن يضخم نعم الله عليهم ويذكرهم بكل النعم، فعطف على﴿ يسومونكم سوء العذاب... ٦ ﴾( إبراهيم ) قوله﴿ ويذبحون... ٦ ﴾( إبراهيم )
لكن حين يتكلم الله تعالى فلا يمتن إلا بالشيء الأصيل، وهو قتل الأولاد واستحياء النساء ؛ لأن الحق- تبارك وتعالى- لا يمتن بالصغيرة، إنما يمتن بالشيء العظيم، فتذبيح الأبناء واستحياء النساء هو نفسه سوء العذاب.
وقوله مرة﴿ يذبحون... ٤٩ ﴾( البقرة ) ومرة﴿ يقتلون... ١٤١ ﴾( الأعراف ) لأن قتل الذكران أخذ أكثر من صورة، فمرة يذبحونهم ومرة يخنقونهم.
ومعنى﴿ يسومونكم... ١٤١ ﴾الأعراف ) من السوم، وهو أن تطلب الماشية المرعى، فنتركها تطلبه في الخلاء، وتلتقط رزقها بنفسها لا نقدمه نحن لها، وتسمى هذه سائمة، أما التي نربطها ونقدم لها غذاءها فلا تسمى سائمة.
فالمعنى﴿ يسومونكم سوء العذاب... ١٤١ ﴾ ( الأعراف ) يعني : يطلبون لكم سوء العذاب، وما داموا كذلك فلا بد أن يتفننوا لكم فيه.
ثم يقول الحق سبحانه :
فلن يدوم لفرعون هذا الظلم ؛ لأن الله تعالى كتب ألا يفلح ظلوم، وألا يموت ظلوم، حتى ينتقم للمظلوم منه، ويريه فيه عاقبة ظلمه، حتى إن المظلوم ربما رحم الظالم، وحسبك من حادث بامرئ ترى حاسديه بالأمس، راحمين له اليوم.
وهنا تطالعنا غضبة الحق- تبارك وتعالى- للمؤمنين﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض... ٥ ﴾( القصص ) والمنة : عطاء معوض، وبدون مجهود من معطي المنة، كأنها هبة من الحق سبحانه، وغضبة لأوليائه وأهل طاعته ؛ لأن الحق- تبارك وتعالى- كما قال الإمام علي : إن الله لا يسلم الحق، ولكن يتركه ليبلو غيرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا عليه غار هو عليه.
والحق- تبارك وتعالى- حينما يغار على الذين استضعفوا لا يرفع عنهم الظلم فحسب، وإنما أيضا﴿ ونجعلهم أئمة... ٥ ﴾( القصص ) أئمة في الدين وفي القيم، وأئمة في سياسة الأمور والملك﴿ ونجعلهم الوارثين ٥ ﴾( القصص ) أي : يرثون من ظلمهم، ويكونون سادة عليهم وأئمة لهم، فانظر على كم مرحلة تأتي غيرة الله لأهل الحق.
ولولا أن فرعون- الذي قوي على المستضعفين وأذلهم- تأبى على الله ورفض الانقياد لشملته رحمة الله، ولعاش هو ورعيته سواء.
لذلك أهل الثورات الذي جاءوا للقضاء على أصحاب الفساد وإنصاف شعوبهم ممن ظلمهم، كان عليهم بعد أن يقضوا على الفساد، وبعد أن يمنعوا المفسد أن يفسد، ويحققوا العدالة في المجتمع، كان عليهم أن يضموا الجميع إلى أحضانهم ورعايتهم، ويعيش الجميع بعد تعديل الأوضاع سواسية في مجتمعهم، وبذلك نأمن الثورة المضادة.
﴿ ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون٦ ﴾
قوله تعالى :﴿ ونمكن لهم في الأرض... ٦ ﴾( القصص ) نعرف أن الأرض مكان يحدث فيه الحدث، لأن كل حدث يحتاج إلى زمان وإلى مكان، فالمعنى : نجعل الأرض مكانا لممكن فيها، والتمكين يعني : يتصرف فيها تسلطا، ويأخذ خيرها.
وقد شرح الحق سبحانه لنا التمكين في عدة مواضع من القرآن، ففي قصة يوسف عليه السلام :﴿ إنك اليوم لدينا مكين أمين ٥٤ ﴾( يوسف ) مكين يعني : لك عندنا مكانة ومركز ثابت لا ينالك أحد بشيء، ومنها قوله تعالى :﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض... ٢١ ﴾( يوسف )يعني : أعطيناه سلطة يأخذ بها خير المكان، ثم يصرف هذا الخير للآخرين.
وقوله تعالى :﴿ ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ٦ ﴾( القصص ) وهامان هو وزير فرعون، ولا بد أنه كان لكل منهما جنود خاصة غير جنود الدولة عامة، كما نقول الآن : الحرس الجمهوري، والحرس الملكي، والجيش.
أو : أن هامان يصنع من باطن فرعون، فالملك لا يزاول أموره إلا بواسطة وزرائه، وفي هذه الحالة يأخذ الجنود الأوامر من هامان. أو : أن هامان كان له سلطة ومركز قوة لا تقل أهمية عن سلطة فرعون، وربما رفع رأسه وتطاول على فرعون في وقت من الأوقات.
وقد رأينا هذا عندنا في مصر- لذلك يقولون في المثل الريفي المعروف : تقول لمن يحاول خداعك ( على هامان ) ؟ يعني : أنا لا تنطلي علي هذه الحيل.
والضمير في ﴿ منهم... ٦ ﴾( القصص ) يعود على المستضعفين ﴿ ما كانوا يحذرون٦ ﴾( القصص ) أي : سنريهم الشيء الذي يخافون منه، والمراد النبوءة التي جاءتهم، إما عن طريق الكهنة، أو عن طريق الرؤيا، حيث رأى فرعون نارا تأتي من بيت المقدس، وتتسلط على القبط في مصر، لكنها لا تؤذي بني إسرائيل، فلما عبروا له عن هذه الرؤيا قال : لا بد أنه سيأتي من هذه البلد من يسلب مني ملكي ١.
ويروي أن الكهنة أخبروه أنه سيولد في هذه السنة ولود يكون ذهاب ملكك على يديه.
فسوف يرى فرعون وقومه هذه المسألة بأعينهم ويباشرونها بأنفسهم، وسيقع هذا الذي يخافون منه ؛ لذلك أمر فرعون بقتل الذكران من بني إسرائيل ليحتاط لأمره، ويبقى على ملكه، لكن هذا الاحتياط لم يغن عنه شيئا.
﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه قي اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ٧ ﴾
عجيب أمر فرعون، فبعد أن أمر بقتل الأولاد من بني إسرائيل يأتيه في البحر تابوت به طفل رضيع، فلا يخطر على باله أن أهله ألقوه في البحر لينجو من فرعون، فكيف فاتته هذه المسألة وهو إله ؟ لن يعرفها بألوهيته، ولا عرفها حتى بذكائه وفطنته.
وإذا كان الكهنة أخبروه بأن ذهاب ملكه على يد وليد من هؤلاء الأولاد، وإذا كانت هذه النبوءة صحيحة فلا بد أن الولد سينجو من القتل ويكبر، ويقضي على ملك فرعون، وما دام الأمر كذلك فسوف يقتل فرعون الأولاد غير الذي سيكون ذهاب ملكه على يديه.
وتشاء إرادة الله أن يتربى موسى في قصر فرعون، وأن تأتي إليه أمه السيدة الفقيرة لتعيش معه عيشة الترف والثراء١، ويصير موسى بقدرة الله قرة عين للملكة، فانظر إلى هذا التغفيل، تغفيل عقل وطمس على بصيرة فرعون الذي ادعى الألوهية.
وبذلك نفهم قول الله تعالى :﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه... ٢٤ ﴾( الأنفال ) فقلبه يغطي على بصيرته ويعميها.
وقوله تعالى لأم موسى :﴿ أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم.... ٧ ﴾( القصص ) فمن النساء من تقبل إن خافت على ولدها أن تلقيه في اليم ؟ من ترضى أن تنجيه من موت مظنون إلى موت محقق ؟ وقد جعل الحق سبحانه عاطفة الأمومة تتلاشى أمام وارد الرحمن الذي أتاه، والذي يؤثر فيه وارد الشيطان.
ثم يهيئ الحق سبحانه كذلك امرأة فرعون ليتم هذا التدبير الإلهي لموسى فتقول﴿ قرت عين لي ولك... ٩ ﴾( القصص )
فيرد عليها فرعون : بل لك أنت وحدك، وكأنه يستشعر ما سيحدث، ولكن إرادة الله لا بد نافذة ولا بد أن يأخذ القدر مجراه لا يمنعه شيء ؛ لأن الله تعالى إذا أراد شيئا فلا راد لإرادته.
فمع ما علمه فرعون من أمر الرؤيا أو النبوءة ربي الوليد في بيته، ولا يخلو الأمر أيضا من سيطرة المرأة على الرجل في مثل هذا الموقف.
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قرئت الآية قال : " والذي يحلف به، لو قال فرعون كما قالت امرأته –قرة عين لي ولك- لهداه الله كما هداها " ٢. إنما رد الخير الذي ساقه الله إليه ؛ لذلك أسلمت زوجته وماتت على الإيمان.
وهي التي قالت :﴿ رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ١١ ﴾( التحريم ) أما هو فمات على كفره شر ميتة.
وسبق أن تكلمنا في وحي الله لأم موسى ﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضيه... ٧ ﴾( القصص ) وقلنا : إن الوحي في عموم اللغة : إعلام بطريق خفي دون أن تبحث عن الموحي، أو الموحى إليه، أو الموحى به. أما الوحي الشرعي فإعلام من الله تعالى لرسوله بمنهج لخلقه.
فالله تعالى يوحي للملائكة :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذي آمنوا.... ١٢ ﴾( الأنفال )
ويوحي إلى الرسل :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب... ١٦٣ ﴾( النساء )
ويوحي للمؤمنين الصادقين في خدمة رسول :﴿ وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي... ١١١ ﴾( المائدة )
يوحي إلى النحل، بل وإلى الجماد :﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها ١وأخرجت الأرض أثقالها٢ وقال الإنسان ما لها ٣ يومئذ تحدث أخبارها ٤ بأن ربك أوحى لها ٥ ﴾( الزلزلة )
وقد يكون الإعلام والوحي من الشيطان :﴿ وإن الشيطان ليوحون إلى أوليائهم... ١٢١ ﴾( الأنعام )
ويكون من الضالين :﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا... ١١٢ ﴾( الأنعام )
فالوحي إلى أم موسى كان وحيا من المرتبة الرابعة بطريق النفث في الروع، أو الإلهام، أو برؤيا، أو بملك يكلمها، هذا كله يصح.
وهذا الوحي من الله، وموضوعه﴿ أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم... ٧ ﴾( القصص ) وهذا أمر﴿ ولا تخافي ولا تحزني... ٧ ﴾( القصص ) نهى﴿ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ٧ ﴾( القصص ) وهذه بشارة في خبرين. فهذه الآية إذن جمعت لأم موسى أمرين، ونهيين، وبشارتين في إيجاز بليغ معجز.
ومعنى﴿ أرضعيه... ٧ ﴾( القصص ) يعني : مدة أمانك عليه﴿ فإذا خفت عليه... ٧ ﴾( القصص ) ولم يقل من أي شيء ليدل على أي مخوف تخشاه على وليدها﴿ فألقيه في اليم... ٧ ﴾( القصص ) ويراعي الحق سبحانه مشاعر الأم وقلقها على ولدها، خاصة إذا ألقته في البحر فيطمئنها ﴿ ولا تخافي... ٧ ﴾( القصص ) لأن الله سيسر له تربية خيرا من تربيتك في ظل بيت الغني والملك.
﴿ ولا تحزني... ٧ ﴾ ( القصص ) أي : لفراقه ؛ لأن هذا الفراق سيعوضك، ويعوض الدنيا كلها خيرا، حين يقضي على هذا الطاغية، ويأتي منهج الله الذي يحكم خلق الله في الأرض.
ثم اعلمي بعد هذا أن الله راده إليك، بل وجاعله من المرسلين، إذن : أنا الذي أحفظه، ليس من أجلك فحسب، إنما أيضا لأن له مهمة عندي.
يقولون : ظلت أم موسى ترضعه في بيتها طالما كانت آمنة عليه من أعين فرعون، إلى أن جاءها أحد العسس يفتش البيت فخافت على الولد فلفته في خرقة ودسته في فجوة بجوارها، كانت هذه الفجوة هي الفرن، ألقته فيه وهو مسجور٣ دون أن تشعر- يعني من شدة خوفها عليه- حتى إذا ما انصرف العسس ذهبت إليه، فإذا به سالما لم يصبه سوء. وكأن الله تعالى يريد لها أن تطمئن على حفظ الله له، وأن وعده الحق.
وقد وردت مسألة وحي الله لأم موسى في كتاب الله مرتين مما دعا السطحيين من المستشرقين إلى اتهام القرآن بالتكرار الذي لا فائدة منه، وذكروا قوله تعالى :﴿ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحي ٣٨ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ٣٩ ﴾( طه )
لكن فرق بين الوحي الأول والوحي الآخر : الوحي الأول خاص بالرضاعة في مدة الأمان، أما الآخر فبعد أن خافت عليه أوحي إليها لتقذفه في اليم.
وتأمل ﴿ أن اقذفيه... ٣٩ ﴾( طه ) والقذف إلقاء بقوة، لا أن تضعه بحنان ورفق ؛ لأن عناية الله ستحفظه على أي حال ﴿ فليلقه اليم بالساحل... ٣٩ ﴾( طه ) وهذا أمر من الله تعالى لليم أن يخرج الوليد سالما إلى الساحل ؛ لذلك لم يأت في هذا الوحي ذكر لعملية الرضاعة. فكأن الوحي الأول جاء تمهيدا لما سيحدث ؛ لتستعد الأم نفسيا لهذا العمل، ثم جاء الوحي الثاني للممارسة والتنفيذ، كما تحدث جارك، وتحذره من اللصوص وتنصحه أن يحتاط لهذا الأمر، فإذا ما دخل الليل حدث فعلا ما حذرته منه فرحت تنادي عليه ليسرع إليهم ويضربهم.
لذلك يختلف أسلوب الكلام في الوحي الأول، فيأتي رتيبا مطمئنا :﴿ أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ٧ ﴾( القصص ) هكذا في نبرة هادئة لأن المقام مقام نصح وتمهيد، لا مقام أحداث وتنفيذ.
أما الوحي الثاني فيأتي في سرعة، وبنبرة حادة :﴿ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل... ٣٩ ﴾( طه ) فالعجلة في اللفظ تدل على أن المقام مقام مباشرة للحدث فعلا.
وفي الأول قال ﴿ فألقيه... ٧ ﴾( القصص )، أما في الثانية فقال﴿ فاقذفيه... ٣٩ ﴾( طه ) والأم لا تقذف وليدها، بل تضعه بحنان وشفقة، لكن الوقت هنا ضيق لا يتسع لممارسة الحنان والشفقة.
والأمر لليم بأن يلقي التابوت بالساحل له حكمة ؛ لأن العمق موضع للحيوانات البحرية المتوحشة التي يخاف منها، أما بالقرب من الساحل فلا يوجد إلا صغار الأسماك التي لا خطورة منها، وكذلك ليكون على مرأى العين، فيطمئن عليه أهله، ويراه من ينقذه ليصل إلى البيت الذي قدر له أن تربى فيه.
وفعلا، وصل التابوت إلى الساحل، وكان فرعون وزوجته آسية وابنته على الشاطئ، فلما أخرج لهم التابوت وجدوا فيه الطفل الرضيع، وكان موسى عليه السلام أسمر اللون، مجعد الشعر، كبير الأنف، يعني لم يكن- عليه السلام- جميلا تنجذب إله الأنظار ويفرح به من يراه.
لذلك يمتن عليه بقوله :﴿ وألقيت عليك محبة مني.... ٣٩ ﴾( طه ) أي : ليس بذاته أن يحبك من يراك إنما بمحبة الله٤، لذلك ساعة رأته آسية أحبته وانشرح صدرها برؤيته، فتمسكت به رغم معارضة فرعون لذلك.
كما أن ابنة فرعون، وكانت فتاة مبروصة أصابها البرص٥، ورأت في الرؤيا أن شفاءها سيكون بشيء يخرج من البحر، فتأخذ من ريقه، وتدهن موضع البرص فيشفي، فلما رأت موسى تذكرت رؤياها، فأخذت من ريقه ودهنت جلدها، فشفيت في حال فتشبثت به هي أيضا.
فاجتمع لموسى محبة الزوجة، ومحبة البنت، وهما بالذات أصحاب الكلمة المسموعة لدى فرعون، بحيث لا يرد لهما طلبا.
وفي انصياع فرعون لرغبة زوجته وابنته وضعفه أمامهما رغم ما يعلم من أمر الطفل دليل على أن الزوجة والأولاد هما نقطة الضعف عند الرجل، ووسلية السيطرة على شهامته وحزمه، والضغط على مراداته.
لذلك يطمئننا الحق- تبارك وتعالى- على نفسه، فيقول سبحانه وتعالى﴿ ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ٣ ﴾( الجن )
ذلك لأن الصاحبة غالبا ما تستميل زوجها بوسيلة أو بأخرى، أما الولد فيدعو الأب إلى الجبن والخضوع، والحق- تبارك وتعالى- لا يوجد لديه مراكز قوى، تضغط عليه في كل شيء، فهو سبحانه منزه عن كل نقص.
وحكوا في دعابات أبي نواس أن أحدهم وسطه ليشفع له عند الخليفة هارون الرشيد، فشفع له أبو نواس، لكن الخليفة لم يجبه إلى طلبه، وانتظر الرجل دون جدوى، ففكر في وساطة أخرى، واستشفع بآخر عند زبيدة زوجة الرشيد، فلما كلمته أسرع إلى إجابة الرجل، وهنا غضب أبو نواس وعاتب صاحبه الرشيد، لكنه لم يهتم به، فقال له اسمع إذن :
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
ولهذه العناية الأهلية بموسى عليه السلام نلحظ أنه لما قال له ربه﴿ اذهب إلى فرعون إنه طغى٢٤ ﴾( طه ) خاف موسى من هذه المهمة، وكان اسم فرعون في هذا الوقت يلقي الرعب في النفوس، حتى أن موسى وهارون قالا ﴿ ربنا إننا نخاف أن يفرط ٦ علينا أو أن يطغى ٤٥ ﴾( طه )
لذلك طلب موسى من ربه ما يعينه على القيام بمهمته :﴿ قال رب اشرح لي صدري٢٥ ويسر لي أمري ٢٦ واحلل عقدة من لساني ٢٧ يفقهوا قولي ٢٨ واجعل لي وزيرا من أهلي ٢٩ هارون أخي ٣٠اشدد به أزري ٣١ وأشركه في أمري٣٢ كي نسبحك كثيرا٣٣ ونذكرك كثيرا ٣٤ إنك كنت بنا بصيرا ٣٥ ﴾( طه ) فماذا قال له ربه ؟ ﴿ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ٣٦ ولقد مننا عليك مرة أخرى ٣٧ ﴾( طه )
أي : أوتيت كل مسئولك ومطلوبك.
٢ أورده السيوطي في الدر المنثور (٥/٥٦٩) عن ابن عباس وعزاه لابن أبي عمر العدني في مسنده وعبد بن حميد والنسائي وأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" والذي يحلف به، لو أقر فرعون بأن يكون قرة عين له، كما قالت امرأته لهداه الله به، كما هدى به امرأته ولكن الله عز وجل حرمه ذلك..
٣ سجر التنور يسجره: أوقده وأحماه، وقيل: أشبع وقوده. (لسان العرب- مادة: سجر)..
٤ وقد ذكر القرطبي في تفسيره (٧/٥١٣٧) أن" بعض القوابل الموكلات بحبالي بني إسرائيل مصافية لها، فقالت(لها أم موسى): لينفعني حبك اليوم، فعالجتها، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه، وارتعش كل مفصل منها، ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون، ولكني وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله قط، فاحفظيه "..
٥ البرص: مرض جلدي يحدث بقعا بيضاء في الجلد تشوهه، وهو من أعراض مرض الجذام الكثيرة.(القاموس القويم١/٦٤)..
٦ فرط على القوم: ظلمهم وجاوز الحد في الحكم. قال تعالى عن موسى وهارون﴿إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ٤٥﴾(طه) يظلمنا فرعون ويتعدى علينا. (القاموس القويم٢/٧٧)..
﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ٨ ﴾
اللقط واللقطة : أن تجد شيئا بدون طلب له، ومنه اللقيط، وهو الطفل الرضيع تجده في الطريق دون قصد منك، أو بحث. وكذلك كان الأمر مع التابوت، فقد جاء آل فرعون وهم جلوس لم يسعوا إليه، ولم يطلبوه، فما أن رأوه أخذوه، لكن ما علة التقاطه ؟
الزوجة قالت﴿ قرت عين لي ولك... ٩ ﴾( القصص ) وقالت في حيثية أخرى :﴿ عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا... ٩ ﴾( القصص ) فلم يكن لهم بنون، فأرادوه أخا للبنت، وأرادته البنت صيدلية علاج، لكن هل ظلت هذه العلة قائمة ووجدت فعلا ؟
لا، إنما التقطوه لتقدير آخر﴿ ليكون لهم عدوا وحزنا.... ٨ ﴾( القصص ) لا ليكون قرة عين، فاللام هنا في﴿ ليكون... ٨ ﴾( القصص ) لام العاقبة يعني : كان يفكر لشيء، فجاءت العاقبة بشيء آخر.
وفي هذا إشارة وبيان لغباء فرعون والطمس على بصيرته وهو الإله ! ! فبعد أن حذره الكهنة، وبعد الرؤيا التي رآها وعلمه بخطورة هذا المولود على ملكه وعلى حياته يرضى أن يربيه في بيته، وهذا دليل صدق قوله تعالى :﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه... ٢٤ ﴾( الأنفال )
ومعنى﴿ حزنا... ٨ ﴾( القصص ) يعني حزن مثل : عدم وعدم، وسقم وسقم، وبخل وبخل، فالمعنى يأتي الصيغتين.
وقول الحق سبحانه :﴿ إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين٨ ﴾( القصص )
هم خاطئون ؛ لأن تصرفاتهم لا تتناسب مع ما عرفوه من أمر الوليد، فلم يقدروا المسائل، ولم يستنبطوا العواقب، وكان عليهم أن يشكوا في أمر طفل جاء على هذه الحالة، فلا بد أن أهله قصدوا نجاته من يد فرعون.
أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا غلام ريح صر
إن جلبت ضيفا فأنت حر
إذن : قرة العين إما بمعنى ثباتها وعدم حركتها، وثبات العين، واستقرارها إما يكون ثباتا حسيا، أو معنويا، والثبات المعنوي : أن تستقر العين على منظر أو شيء بحيث تكتفي وتقنع به، ويغنيها عن التطلع لغيره.
ومنه قولهم : فلان ليس له تطلعات أخرى، يعني اكتفى بما عنده، ومنه ما قال تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم... ١٣١ ﴾( طه )
لذلك يسمون الشيء الجميل الذي يجذب النظر، فلا ينظر إلى غيره( قيد النظر ) يقول الشاعر :
سمرت عيني في القمر فنال مني من نظر
يا ليت لائمي عذر فحسنه قيد النظر
أما الثبات الحسي فيعني : ثبات العين في ذاتها بحيث لا ترى، ومنه قول المرأة للخليفة : أقر الله عينك، وأتم عليك نعمتك. توهم أنها تدعو له، وهي في الحقيقة تدعو عليه تقصد : أقر الله عينك.
يعني : سكنها وجمدها بالعمي، وأتم عليك نعمتك. وتمام الشيء بداية نقصه على حد قول الشاعر :
إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالا إذا قيل تم
أما القر بمعنى البرد، فمن المعلوم عن الحرارة أن من طبيعتها الاستطراق والانتشار في المكان، لكن حكمة الله خرقت هذه القاعدة في حرارة جسم الإنسان، حيث جعل لكل عضو فيه حرارته الخاصة، فالجلد الخارجي تقف حرارته الطبيعية عند٣٧ درجة، في حين أن الكبد مثلا لا يؤدي مهمته إلا عند ٤٠درجة.
أما العين فإذا زادت حرارتها ٩درجات تنصهر، ويفقد الإنسان البصر، والعجيب أنهما عضوان في جسم واحد، فهي آية من آيات الله في الخلق، لذلك حين ندعو لشخص نقول له : أقر الله عينك يعني : جعلها باردة سالمة، ألا ترى أن الإنسان إذا غضب تسخن عينه ويحمر وجهه ؟
فالمعنى هنا﴿ قرت عين لي ولك٩ ﴾( القصص ) يعني يكون نعمة ومتعة لنا، نفرح به ونقنع، فلا ننظر إلى غيره.
وفي موضع آخر يشرح لنا الحق سبحانه قرة العين :﴿ قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ١٨ أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت... ١٩ ﴾( الأحزاب )
فهؤلاء تدور أعينهم هنا وهناك كما نقول نحن :( فلان عينه لايجة ) يعني : لا تهدأ، إما من خوف، أو من قلق، أو من اضطراب، وهذا كله ينافي قرة العين.
وقولها بعد ذلك﴿ لا تقتلوه... ٩ ﴾( القصص ) تعني : أنهم فعلا هموا بقتله، ففي بالهم إذن أن هلاك فرعون على يدي هذا الطفل، وهم على يقين من ذلك.
﴿ عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ٩ ﴾( القصص ) يعني : لا يشعرون بنفعه لهم أو عدم نفعه، وهل سيكون لهم ولدا أم عدوا ؟
﴿ وأصبح فؤاد أم موسى١ فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ١٠ ﴾
الفؤاد : هو القلب، لكن لا يسمى القلب فؤادا إلا إذا كانت فيه قضايا تحكم حركتك، فالمعنى : أصبح فؤاد أم موسى﴿ فارغا... ١٠ ﴾( القصص ) أي : لا شيء فيه مما يضبط السلوك، فحين ذهبت لترمي بالطفل وتذكرت فراقه وما سيتعرض له من أخطار كادت مشاعر الأمومة عندها أن تكشف سرها، وكادت أن تسرقها هذه العاطفة.
﴿ إن كادت لتبدي به.. ١٠ ﴾( القصص ) يعني : تكشف أمره﴿ لولا أن ربطنا على قلبها ١٠ ﴾( القصص )
وسبق أن قلنا : إن الإنسان يدرك الأشياء بآلات الإدراك عنده، ثم يتحول هذا الإدراك إلى وجدان وعاطفة، ثم إلى نزوع وعمل، ومثلنا لذلك بالوردة التي تراها بعينيك، ثم تعجب بها، ثم تنزع إلى قطفها، وعند النزوع تواجهك قضايا في الفؤاد تقول لك : لا يحق لك ذلك، فربما رفض صاحب البستان أو قاضاك، فالوردة ليست ملكا لك.
وكذلك أم موسى، كان فؤادها فارغا من القضية التي تطمئنها على وليدها، بحيث لا تفشي عواطفها هذا السر.
ومعنى ﴿ ربطنا على قلبها... ١٠ ﴾( القصص ) أي : ثبتناها ليكون الأمر عندها عقيدة راسخة لا تطفو على سطح العاطفة، ومن ذلك قوله تعالى عن أهل الكهف :﴿ وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض١٤ ﴾( الكهف )
إذن : الربط على القلب معناه الاحتفاظ بالقضايا التي تتدخل في النزوع، فإن كان لا يصح أن تفعل فلا تفعل، وإن كان يصح أن تفعل فافعل، فهذه القضايا الراسخة هي التي تضبط التصرفات، وكان فؤاد أم موسى فارغا منها.
لذلك نقول لمن يتكلم بالكلام الفارغ الذي لا معنى له : دعك من هذا الكلام الفارغ – أي : الذي لا معنى له ولا فائدة منه، ومن ذلك قولهم : فلان عقله فارغ يعني : من القضايا النافعة. وإلا فليس هناك شيء فارغ تماما، لابد أن يكون فيه شيء، حتى لو كان الهواء.
ومنه قوله تعالى :﴿ وأفئدتهم هواء... ٤٣ ﴾( ( إبراهيم ) ويقولون في العامية :( فلان معندوش ولا الهوا ) ذلك لأن الهواء آخر ما يمكن أن يفرغ منه الشيء.
ومعنى :﴿ إن كادت لتبدي به... ١٠ ﴾( القصص ) يعني : قاربت من فراغ فؤادها أن تقول إنه ولدي ٢ ﴿ لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ١٠ ﴾ ( القصص ) لأن الإيمان هو الذي يجلب لك النفع، ويمنعك من الضار، وإن كان فيه شهوة عاجلة لك، فمنعها إيمانها من شهوة الأمومة في هذا الموقف، ومن ممارسة العطف والحنان الطبيعيين في الأم ؛ لأن هذه شهوة عاجلة يتبعها ضرر كبير، فإن أحسوا أنه ولدها قتلوه.
أي: خالبا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى. قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وغيرهم.
أي: فارغا من الوحي إذ أوحى إليها حين أمرت أن تلقيه في البحر﴿ولا تخافي ولا تحزني... ٧﴾(القصص) والعهد الذي عهده إليها أن يرده ويجعله من المرسلين. قاله الحسن وابن إسحاق وابن زيد.
أي: فارغا من الغم والحزن لعلمها أنه لم يغرق. قاله أبو عبيدة والأخفش.
أي: ذهب عقلها. قاله مالك. والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش.
قال النحاس: أصح هذه الأقوال الأول، والذين قالوه أعلم بكتاب الله عز وجل، فإذا كان فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي، وقول أبي عبيدة: فارغا من الغم غلط قبيح، لأن بعده﴿إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها... ١٠﴾(القصص).(تفسير القرطبي ٧/٥١٤١)..
٢ قال ابن عباس: أي تصيح عند إلقائه: وا ابناه. وقال السدي: كادت تقول لما حملته لإرضاعه وحضانته: هو ابني. وقيل: إنه لما شب سمعت الناس يقولون موسى ابن فرعون، فشق عليها وضاق صدرها، وكادت تقول: هو ابني. (تفسير القرطبي ٧/٥١٤٢)..
﴿ وقالت لأخته قصيه١ فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ١١ ﴾
قصيه : يعني : تتبعي أثره، وراقبي سيره إلى أين ذهب ؟ وماذا فعل به ؟ وحين سمعت الأخت هذا الأمر سارعت إلى التنفيذ ؛ لذلك استخدم الفاء الدالة على التعقيب وسرعة الاستجابة﴿ فبصرت به١١ ﴾( القصص ) ولم يقل : فقصته ؛ لأن البصر وإن كان بمعنى الرؤية إلا أنه يدل على العناية والاهتمام بالمرئي.
ومعنى :﴿ عن جنب... ١١ ﴾( القصص ) من ناحبة بحيث لا يراها أحد، ولا يشعر بتتبعها له، واهتمامها به، ومن ذلك ما حكاه القرآن من قول السامري :﴿ بصرت بما لم يبصروا به.... ٩٦ ﴾( طه ) أي : رأى من حيث لا يطلع أحد عليه.
ونلحظ هنا أن أخت موسى أخذت الأمر من أمها ﴿ قصيه... ١١ ﴾( القصص ) فقط ولم تلفت نظرها إلى هذا الاحتياط ﴿ عن جنب... ١١ ﴾( القصص ) مما يدل على ذكاء الفتاة وقيامها بمهمتها على أكمل وجه، وإن لم تكلف بذلك، وهذا من حكمة المرسل الحريص على أداء رسالته على وجهها الصحيح.
وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى :
إذا كنت في حاجة مرسل ا فأرسل حكيما ولا توصه
وقوله تعالى :﴿ عن جنب... ١١ ﴾( القصص ) يظن البعض أن جنب يعني قريب مني، وهذا غير صحيح ؛ لأن معنى الجنب ألا تكون في مواجهتي، لذلك يقول تعالى :﴿ والجار ذي القربى والجار الجنب... ٣٦ ﴾( النساء ) إذن : الجار الجنب مقابل الجار القريب، فمعناه الجار البعيد.
ومن ذلك قولنا :( فلان تجنبني، أو فلان واخد جنب مني )
أي : يبتعد عني، إذن : البعض يفهم هذه الكلمة على عكس مدلولها.
ألا ترى لقول إبراهيم عليه السلام :﴿ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام... ٣٥ ﴾( إبراهيم ) وقوله تعالى :﴿ واجتنبوا قول الزور٣٠ ﴾( الحج ) فالاجتناب يعني : الابتعاد.
وفي تحرم الخمر قال تعالى :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام٢ رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه... ٩٠ ﴾( المائدة ) فطلع علينا من يقول : هذا ليس نصا في التحريم، لأنه لم يقل حرمت عليكم، فهي مجرد موعظة ونصيحة.
ونقول : لو فهمت معنى﴿ فاجتنبوه... ٩٠ ﴾( المائدة ) لعلمت أنها أقوى في التحريم من حرمت عليكم ؛ لأن معنى حرمت عليكم الخمر يعني : لا تشربوها، أما﴿ اجتنبوه... ٩٠ ﴾( المائدة ) يعني : ابتعدوا عنها كلية شربا أو بيعا، أو شراء، أو نقلا، أو حتى الجلوس في مجالسها.
٢ الأزلام: جمع زلم: وهي قطعة من الخشب تشبه السهم يقترعون بها، فيقسمون بها الذبائح، يكتب على كل زلم عدد الأنصاب يأخذه من المقامرين من يخرج له وهو نوع من الميسر المحرم شرعا.('القاموس القويم ١/٢٨٩)..
التحريم هنا لا يعني التحريم بالنسبة للمكلف ؛ هذا حلال وهذا حرام، إنما﴿ وحرمنا عليه المراضع... ١٢ ﴾( القصص ) يعني : منعناه أن يرضع من المرضعات اللائي يأتون بهن لتتقلب عليه المراضع واحدة بعد الأخرى، إلى أن تأتيه أمه.
و﴿ المراضع... ١٢ ﴾( القصص ) جمع مرضع، ونقول أيضا : مرضعة، ولكل من اللفظين مدلول، على خلاف ما يظنه البعض أنهما بمعنى واحد.
واقرأ أول سورة الحج :﴿ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت... ٢ ﴾( الحج )
المرضع : التي من شأنها أن ترضع، وصالحة لهذه العملية، لكن المرضعة التي ترضع الآن فعلا، وعلى حجرها طفل يلتقم ثديها، وفي موقف القيامة ستذهل هذه عن طفلها من هول ما ترى، إذن : فالتي تذهل هي المرضعة لا المرضع.
والضمير في﴿ فقالت هل أدلكم... ١٢ ﴾ ( القصص ) يعود على أخت موسى ؛ لأنها ما زالت في مهمة تتبع الولد، وقد سمعها هامان تقول ﴿ هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ١٢ ﴾( القصص ) فقال لها : لابد أنك من أهل هذا الولد ؟ وتعرفين قصته، فقالت : بل ناصحون للملك مخلصون له١، وفعلا وافقوها على ما نصحت به ؛ لأنهم معذورون، فالولد يأبى الرضاعة من الأخريات.
﴿ فرددناه إلى أمه كي تقر عنها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ١٣ ﴾
وسبق أن وعدها الله :﴿ إنا رادوه إليك... ٧ ﴾( القصص ) وها هو أوان تحقيق الوعد الأول، وهو بشرى بتحقق الوعد الثاني﴿ وجاعلوه من المرسلين ٧ ﴾( القصص ) لكن هذا في مستقبل الأيام، وسوف يتحقق أيضا.
وقوله سبحانه :﴿ فرددناه إلى أمه... ١٣ ﴾( القصص ) يدل على أن الأسباب في يد المسبب سبحانه، فنحن الذين رددناه، لا أخته ولا فرعون، لأننا نسير الأمور على وفق مرادنا، ونمهد لها الطريق حتى أننا نحول بين المرء وقلبه، لينفذ قضاؤها فيه.
وقوله تعالى :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ١٣ ﴾( القصص ) يعني : لا يعلمون أن وعد الله حق.
﴿ ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ١٤ ﴾
الأشد : يعني القوة واكتمال النمو، وقد حددوا لذلك سن الثامنة عشرة إلى العشرين ﴿ واستوى... ١٤ ﴾( القصص ) الاستواء هو بلوغ العقل مرحلة النضج الفكري، فلما اكتملت لموسى- عله السلام- قوة الجسم ونضج العقل﴿ آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ١٤ ﴾( القصص )
﴿ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ١٥ ﴾
أراد موسى –عليه السلام – أن يدخل القرية على حين غفلة من أهلها، لأن بني إسرائيل كانوا مضطهدين، وكان القبط في بعض المدن ذات الكثافة العددية منهم يحرمون على بني إسرائيل دخول قراهم ؛ لذلك اختار موسى وقت غفلة الناس، لكنه لم يدخل في الليل لأنه لا يهتدي إلى الطريق، فقيل : دخلها وقت القيلولة والناس في بيوتهم١.
﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته... ١٥ ﴾ ( القصص ) يعني : من بني إسرائيل ﴿ وهذا من عدوه... ١٥ ﴾( القصص ) يعني : الأقباط ﴿ فاستغاثه... ١٥ ﴾( القصص ) أي " طلب منه العون والنجدة﴿ فوكزه موسى... ١٥ ﴾( القصص ) يعني : ضربه بجمع يديه، فجاءت نهاية القبطي وأجله مع هذه الضربة، لا أنه مات بها، وكثيرا ما تحدث هذه المسألة في شجار مثلا بين شخصين، فيضرب أحدهما الآخر فيقع ميتا، وبتشريح جثته يتبين أنه مات بسبب آخر.
ومثال ذلك : حين تكلف شخصا بقضاء حاجة لك، أو توسطه في أمر ما، فيدخل عند المسئولين ويسعى إلى أن يقضي لك حاجتك فتقول : " فلان قضالي كذا وكذا " وهو في الحقيقة ما قضى في الأرض إلا بعد أن قضى الله في السماء.
لكن الله تعالى أراد أن يكرم الواسطة، فجعل قضاءها موافقا لقضائه سبحانه، فنقول في هذه الحالة : قضى الله المصلحة معه لا به.
كان القبط- كما قلنا- يكرهون بني إسرائيل ويعذبونهم، فلما قتل موسى القبطي زاد غضبهم وكراهيتهم لبني إسرائيل ؛ لذلك أحس موسى أن هذا العمل من الشيطان، ليزيد هذه العداوة ﴿ إنه عدو مضل مبين١٥ ﴾( القصص )
ومن هنا كان الفرق بين معصية آدم عليك السلام ومعصية إبليس : آدم عصى واعترف بذنبه وأقر به، فقال﴿ ربنا ظلمنا أنفسنا... ٢٣ ﴾( الأعراف ) فقبل الله منه وغفر له. أما إبليس فعلل عدم سجوده :﴿ أأسجد لمن خلقت طينا ٦١ ﴾( الإسراء ) وقال :﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ٧٦ ﴾( ص ) فرد الحكم على الله.
لذلك نقول لمن يفتي بغير ما شرع الله فيحلل الحرام لسبب ما، نقول له : احذر أن ترد على الله حكمه ؛ لأنك إن فعلت أنت كإبليس حين رد على الله حكمه، لكن افت بالحكم الصحيح، ثم تعلل بأن الظروف لا تساعد على تطبيقه، فعلى الأقل تحتفظ بإيمانك، والمعصية تمحوها التوبة والاستغفار، أما الكفر فلا حيلة معه.
فلما استغفر موسى ربه غفر له﴿ إنه هو الغفور الرحيم ١٦ ﴾( القصص ) يعرف الذنب، ثم يغفره رحمة بنا ؛ لأن الإنسان حين تصيبه غفلة فيقع في المعصية إذا لم يجد بابا للتوبة وللرجوع يئس وفقد الأمل، وتمادى في معصيته ونسميه( فاقد ) عنده سعار للجريمة، ولا مانع لديه من ارتكاب كل الذنوب.
إذن : فمشروعية التوبة والاستغفار تعطي المؤمن أملا في أنه لن يطرد من رحمة الله، لأن رحمة الله واسعة تسع كل ذنوبه مهما كثرت.
لذلك يقول تعالى في مشروعية التوبة﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا.. ١١٨ ﴾( التوبة ) والمعنى : شرع لهم التوبة، وحثهم عليها ليتوبوا بالفعل فيقبل منهم.
﴿ قال رب بما أنعمت علي١ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ١٧ ﴾
قوله :﴿ بما أنعمت علي... ١٧ ﴾( القصص ) يعني : بالمغفرة وعذرتني وتبت علي ﴿ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ١٧ ﴾( القصص ) أي : عهد الله علي ألا أكون معينا للمجرمين٢.
٢ أراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته، وتكثير سواده، حين كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما بمظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى قتل الذي لم يحل له قتله.(القرطبي في تفسيره ٧/٥١٤٨)..
﴿ فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين١٨ ﴾
أي : بعد أن قتل موسى القبطي صار خائفا منهم﴿ يترقب... ١٨ ﴾( القصص )
ينظر في وجوه الناس، يرقب انفعالاتهم نحوه، فربما جاءوا ليأخذوه١، كما يقولون : يكاد المريب أن يقول : خذوني، فلو جلس قوم في مكان، ثم فاجأهم رجال الشرطة تراهم مطمئنين لا يخافون من شيء، أما المجرم فيفر هاربا.
ومن ذلك ما يقوله أهل الريف :( اللي على رأسه بطحة يحسس عليها )
وهو على هذه الحال من الخوف والترقب إذ بالإسرائيلي الذي استغاث به بالأمس﴿ يستصرخه... ١٨ ﴾( القصص ) استصرخ يعني : صرخ، ونادى على من يخلصه، وهو انفعال للاستنجاد للخلاص من مأزق، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي... ٢٢ ﴾( إبراهيم )
وسبق أن تكلمنا في همزة الإزالة نقول : صرخ فلان يعني استنجد فأصرخه يعني : أزال سبب صراخه، فمعنى الآية : أنا لا أزيل صراخكم، ولا أنتم تزيلون صراخي.
عندها قال موسى عليه السلام لصاحبه الذي أوقعه في هذه الورطة بالأمس﴿ إنك لغوي مبين ١٨ ﴾( القصص ) تريد أن تغويني بأن أفعل كما فعلت بالأمس، وما كان موسى-عليه السلام- ليقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ٢.
٢ نص حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه البخاري في صحيحه (٦١٣٣)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٩٩٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
وقوله تعالى :﴿ إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ١٩ ﴾( القصص ) إن هنا نافية يعني : ما تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض، فقد قتلت نفسا بالأمس، وتريد أن تقتلني اليوم.
﴿ وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ٢٠ ﴾
هو الرجل المؤمن من آل فرعون، جاء لينصح موسى بالخروج والهرب قبل أن يمسكوا به فيقتلوه١.
﴿ ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ٢٢ ﴾
معنى﴿ توجه تلقاء مدين... ٢٢ ﴾( القصص ) يعني : ناحيتها، وأراد أن يهرب من مصر كلها، ولم يكن يقصد مدين بالذات، إنما سار في طريق صادف أن يؤدي إلى مدين بلد شعيب عليه السلام.
ولو كانت مدين مقصودة له لما قال بعد توجهه :﴿ عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ٢٢ ﴾( القصص ) فموسى حينما خرج من مصر خائفا يريد الهرب لم يفكر في وجهة معينة، فالذي يهمه أن يخرج من هذه البلدة، وينجو بنفسه.
معنى﴿ ورد ماء مدين... ٢٣ ﴾( القصص ) يعني : جاء عند الماء، ولا يقتضي الورود أن يكون شرب منه، والورود بهذا المعنى حل لنا الإشكال في قوله تعالى :﴿ وإن منكم إلا واردها... ٧١ ﴾( مريم ) فليس المعنى دخول النار، ومباشرة حرها، إنما ذاهبون إليها، ونراها جميعنا –إذن : وردنا العين. يعني : جئنا عندها ورأيناها، لكن الشرب منها، شيء آخر.
﴿ وجد عليه.... ٢٣ ﴾( القصص ) أي : على الماء﴿ أمة... ٢٣ ﴾( القصص ) جماعة ﴿ يسقون... ٢٣ ﴾( القصص ) أي : مواشيهم﴿ ووجد من دونهم... ٢٣ ﴾( القصص ) يعني : بعيدا عن الماء﴿ امرأتين تذودان... ٢٣ ﴾( القصص ) أي : تكفان الغنم وتمنعانها من الشرب لكثرة الزحام على الماء ﴿ قال ما خطبكما... ٢٣ ﴾( القصص ) أي : ما شأنكما ؟
وفي الاستفهام هنا معنى التعجب يعني : لماذا تمنعان الغنم أن تشرب، وما أتيتما إلا للسقيا ؟
﴿ قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ٢٣ ﴾( القصص )
وقولهما﴿ حتى يصدر الرعاء... ٢٣ ﴾( القصص ) يعني : ينصرفوا عن الماء، فصدر مقابل ورد، فالآتي للماء : وارد، والمنصرف عنه : صادر. نقول : صدر يصدر أي : بذاته، وأصدر يصدر أي : غيره.
فالمعنى : لا نسقي حتى يسقى الناس وينصرفوا. و﴿ الرعاء... ٢٣ ﴾( القصص ) جمع راع. ثم يذكران العلة في خروجهما لسقي الغنم ومباشرة عمل الرجال﴿ وأبونا شيخ كبير ٢٣ ﴾( القصص )
﴿ فسقى لهما حتى تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير٢٤ ﴾
معنا- إذن- في هذه القصة أحكام ثلاثة ﴿ لا نسقي حتى يصدر الرعاء... ٢٣ ﴾( القصص ) أعطت حكما و﴿ أبونا شيخ كبير٢٣ ﴾( القصص ) أعطت حكما و﴿ فسقى لهما... ٢٤ ﴾( القصص ) أعطت حكما ثالثا.
وهذه الأحكام الثلاثة تنظم للمجتمع المسلم مسألة عمل المرأة، وما يجب علينا حينما تضطر امرأة للعمل، فمن الحكم الأول نعلم أن سقي الأنعام من عمل الرجال، ومن الحكم الثاني نعلم أن المرأة لا تخرج للعمل إلا للضرورة، ولا تؤدى مهمة الرجل إلا إذا عجز الرجل عن أداء هذه المهمة ﴿ وأبونا شيخ كبير ٢٣ ﴾( القصص )
أما الحكم الثالث فيعلم المجتمع المسلم أو حتى الإنساني إذا رأى المرأة قد خرجت للعمل فلا بد أنه ليس لها رجل يقوم بهذه المهمة، فعليه أن يساعدها وأن ييسر لها مهمتها.
وأذكر أنني حينما سافرت إلى السعودية سنة ١٩٥٠ ركبت مع أحد الزملاء سيارته، وفي الطريق رأيته نزل من سيارته، وذهب إلى أحد المنازل، وكان أمامه طاولة من الخشب مغطاة بقطعة من القماش، فأخذها ووضعها في السيارة، ثم سرنا فسألته عما يفعل، فقال : من عاداتنا إذا رأبت مثل هذه الطاولة على باب البيت، فهي تعني أن صاحب البيت غير موجود، وأن ربة البيت قد أعدت العجين، وتريد من يخبزه فإذا مر أحدنا أخذه فخبزه، ثم أعاد الطاولة إلى مكانها.
وفي قوله تعالى :﴿ لا نسقي حتى يصدر الرعاء... ٢٣ ﴾( القصص ) إشارة إلى أن المرأة إذا اضطرت للخروج للعمل، وتوفرت لها هذه الضرورة عليها أن تأخذ الضرورة بقدرها، فلا تختلط بالرجال، وأن تعزل نفسها عن مزاحمتهم والاحتكاك بهم، وليس معنى أن الضرورة أخرجت المرأة لتقوم بعمل الرجال أنها أصبحت مثلهم، فتبيح لنفسها الاختلاط بهم.
وقوله تعالى :﴿ ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ٢٤ ﴾( القصص ) فكان موسى – عليه السلام- طوال رحلته إلى مدين مسافرا بلا زاد حتى أجهده الجوع، وأصابه الهزال حتى صار جلدا على عظم، وأكل من بقل الأرض١، وبعد أن سقى للمرأتين تولى إلى ظل شجرة ليستريح، وعندها لهج بهذا الدعاء ﴿ رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير ٢٤ ﴾( القصص )
كأن الحق- تبارك وتعالى- يريد من الضعيف أن يتجه إلى المعونة، وحين يتجه إليها فلن يفعل هو، إنما سيفعل الله له ؛ لذلك نلحظ أن موسى في ندائه قال ﴿ رب... ٢٤ ﴾( القصص ) واختار صفة الربوبية، ولم يقل يا الله ؛ لأن الألوهية تقتضي معبودا، له أوامر ونواه، أما الرب فهو المتولي للتربية والرعاية، فقال : يا رب أنا عبدك، وقد جئت بي إلى هذا الكون، وأنا جائع أريد أن آكل.
ومعنى﴿ أنزلت.... ٢٤ ﴾( القصص ) أن الخير منك في الحقيقة، وإن جاءني على يد عبد مثلي ؛ ذلك لأنك حين تسلسل أي خير في الدنيا لا بد أن ينتهي إلى الله المنعم الأول، وضربنا لذلك مثلا برغيف العيش الذي تأكله، بدايته نبتة لولا عناية الله ما نبتت.
لذلك يقولون في ( الحمد لله ) صيغة العموم في العموم، حتى إن حمدت إنسانا على جميل أسداه إليك، فأنت في الحقيقة تحمد الله حين ينتهي إليه كل جميل.
إذن : فحمد الناس من باطن حمد الله، والحمد بكل صوره وبكل توجهاته، حتى ولو كانت الأسباب عائدة على الله تعالى، حتى يقول بعضهم : لا تحمد الله حتى تحمد الناس٢.
ذلك لأن أزمة الأمور بيده تعالى، وإن جعل الأسباب في أيدينا، وهو سبحانه القادر وحده على تعطيل الأسباب، وأذكر أن بعض الدول( باكستان ) أعلنت عن وفرة عندهم في محصول القمح، وأنها ستكفيهم وتفيض عنهم للتصدير، وقبل أن ينضج المحصول أصابته جائحة فأهلكته. فاختلفت كل حساباتهم، حتى استوردوا القمح في هذا العام.
هذا معنى﴿ رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير٢٤ ﴾( القصص ) فالخير منك يا رب، وإن سقته إلي على يد عبد من عبيدك، وفقري لا يكون إلا إليك، وسؤالي لا يكون إلا لك.
ولم يكد موسى –عليه السلام- ينتهي من مناجاته لربه حتى جاءه الفرج :﴿ فجاءته إحداهما تمشي على استحياء٣ قالت إن ربي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين٢٥ ﴾
٢ أخرجه أحمد في مسنده(٢/٢٥٨)، والترمذي في سننه(١٩٥٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لا يشكر الناس لا يشكر الله" قال الترمذي:" هذا حديث حسن صحيح"..
٣ قال عمرو بن ميمون: لم تكن سلفعا من النساء، خراجة ولاجة. وقيل: جاءته ساترة وجهها بكم دراعها، قاله عمر بن الخطاب.(تفسير القرطبي ٧/٥١٥٧). والمرأة السلفع: السليطة الجريئة. والسلفعة: البذية الفحاشة القليلة الحياء. (لسان العرب- مادة: سلف)..
لما جاءته هذه الدعوة لم يتردد في قبولها، وانتهز هذه الفرصة، فهو يعلم أنها استجابة سريعة من ربه حين دعاه﴿ رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ٢٤ ﴾( القصص ) وهي سبب من الأسباب يمده الله له، وما كان له أن يرد أسباب الله، فلم يتأب، ولم يرفض دعوة الأب. ولم يذكر لنا السياق هنا كيف سار موسى والفتاة إلى أبيها، لكن يروى أنهما سارا في وقت تهب فيه الرياح من خلفها، وكانت الفتاة في الأمام تدله على الطريق، فلما ضم الهواء ملابسها، فوصفت عجيزتها، قال لها : يا هذه، سيري خلفي ودليني على الطريق ١.
وهذا أدب آخر من آداب النبوة.
﴿ فلما جاءه... ٢٥ ﴾( القصص ) أي : سيدنا شعيب عليه السلام ﴿ وقص عليه القصص... ٢٥ ﴾( القصص ) أي : ما كان بينه وبين القبطي﴿ قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين٢٥ ﴾( القصص ) يعني : طمأنه وهدأ من روعه.
وفي قولها دليل على أنها لم تعشق الخروج للعمل، إنما تطلب من يقوم به بدلا عنها ؛ لتقر في بيتها.
ثم تذكر البنت حيثيات هذا العرض الذي عرضته على أبيها﴿ إن خير من استأجرت القوي الأمين٢٦ ﴾( القصص ) وهذان شرطان لابد منهما في الأجير : قوة على العمل، وأمانة في الأداء. وقد تسأل : ومن أين عرفت البنت أنه قوي أمين ؟
قالوا : لأنه لما ذهب ليسقي لهما لم يزاحم الناس، وإنما مال إلى ناحية أخرى وجد بها عشبا عرف أنه لا ينبت إلا عند ماء، وفي هذا المكان أزاح حجرا كبيرا لا يقدر على إزاحته إلا عدة رجال، ثم سقى لهما من تحت هذا الحجر، وعرفت أنه أمين حينما رفض أن تسير أمامه، حتى لا تظهر له مفاتن جسمها.
﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين١ على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ٢٧ ﴾
في الأمثال نقول :( اخطب لبنتك ولا تخطب لابنك ) ذلك لأن كبرياء الأب يمنعه أن يعرض ابنته على شاب فيه كل صفات الزوج الصالح- وإن كان القلة يفعلون ذلك- وهذه الحكمة من الأب في أمر زواج ابنته تحل لنا إشكالات كثيرة، فكثيرا ما نجد الشاب سوى الدين، سوى الأخلاق، لكن مركزه الاجتماعي- كما نقول- دون مستوى البنت وأهلها، فيتهيب أن يتقدم لها فيرفض.
وفي هذه الحالة على الأب أن يجرئ الشاب على التقدم، وأن يلمح له بالقبول إن تقدم لابنته، كأن يقول له : لماذا لم تتزوج يا ولد حتى الآن، وألف بنت تتمناك ؟ أو غير ذلك من عبارات التشجيع.
أما أن ترتقي إلى مستوى التصريح كسيدنا شعيب﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين... ٢٧ ﴾( القصص ) فهذا شيء آخر، وأدب عال عن العارض، ومن المعروض عليه، وفي مجتمعاتنا كثير من الشباب والفتيان ينتظرون هذه الجرأة وهذا التشجيع من أولياء أمور البنات.
ألا ترى أن الله أباح لنا أن نعرض بالزواج لمن توفي عنها زوجها، قال تعالى :﴿ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء... ٢٣٥ ﴾( البقرة ) ولا تخفى علينا عبارات التلميح التي تلفت نظر المرأة للزواج.
وقوله :﴿ على أن تأجرني ثماني حجج.... ٢٧ ﴾( القصص ) أي : تكون أجيرا عندي ثماني سنوات، وهذا مهر الفتاة، أراد به أن يغلي من قيمة بنته، حتى لا يقول زوجها : إنها رخيصة، أو أن أباها رماها عليه.
﴿ فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ٢٧ ﴾( القصص )يعني : حينما تعايشني ستجدني طيب المعاملة، وستعلم أنك موفق في هذا النسب، بل وستزيد هذه المدة محبة في البقاء معنا.
﴿ قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل ٢٨ ﴾
أي : أنا بالخيار، أقضى ثمانية، أم عشرة﴿ فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل٢٨ ﴾( القصص )
وقد أخذ العلماء حكما جديدا من هذه الآية، وهو أن المطلوب عند عقد الزواج تسمية المهر، ولا يشترط قبضه عند العقد، فلك أن تؤجله كله ونجعله مؤخرا، أو تؤجل بعضه، وتدفع بعضه.
والمهر ثمن بضع المرأة، بحيث إذا ماتت ذهب إلى تركتها، وإذا مات الزوج يؤخذ من تركته، بدليل أن شعيبا عليه السلام استأجر موسى ثماني أو عشر سنين، وجعلها مهرا لابنته.
ونلحظ أن السياق هنا لم يذكر شيئا عن الطعام، مع أن موسى عليه السلام كان جائعا ودعا ربه :﴿ رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ٢٤ ﴾( القصص )
لكن يروي أهل السير أن شعيبا عليه السلام قدم لموسى طعاما، وطلب منه أن يأكل، فقال : أستغفر الله، يعني : أن آكل من طعام. كأنه مقابل ما سقى للبنتين الغنم ؛ لذلك قال : إنا أهل بيت لا نبيع عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا، فقال شعيب : كل، فإنا أهل بيت نطعم الطعام ونقري الضيف، قال : الآن نأكل١
﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ٢٩ ﴾
قوله تعالى :﴿ فلما قضى موسى الأجل... ٢٩ ﴾( القصص ) أي : الذي اتفق عليه مع شعيب عليه السلام﴿ وسار بأهله.... ٢٩ ﴾( القصص ) قلنا : إن الأهل تطلق على الزوجة، وفي لغتنا العامية نقول : معي أهلي أو الجماعة ونقصد الزوجة ؛ ذلك لأن الزوجة تقضي لزوجها من المصالح ما لا يقدر عليه إلا جماعة، بل وتزيد على الجماعة بشيء خاص لا يؤديه عنها غيرها، وهو مسألة المعاشرة ؛ لذلك حلت محل جماعة.
ومعنى﴿ آنس... ٢٩ ﴾( القصص ) يعني : أبصر ورأى أو أحس بشيء من الأنس، ﴿ الطور... ٢٩ ﴾( القصص ) اسم الجبل﴿ قال لأهله امكثوا... ٢٩ ﴾( القصص ) انتظروا﴿ إني آنست نارا... ٢٩ ﴾( القصص ) يخبرها بوجود النار، وهذا يعني أنها لم ترها كما رآها هو.
وهذا دليل على أنها ليست نارا مادية يوقدها بشر، وإلا لاستوى أهله معه في رؤيتها، فهذا- إذن- أمر خاص به﴿ لعلي آتيكم منها بخبر... ٢٩ ﴾( القصص ) يعني : رجاء أن أجد من يخبرنا عن الطريق، ويهدينا إلى أين نتوجه﴿ أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ٢٩ ﴾( القصص ).
﴿ قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ٢٩ ﴾ [ القصص ]
الجذوة : قطعة من نار متوهجة ليس لها لهب، ومعنى تصطلون أي : تستدفئون بها، وفي موضع آخر قال ﴿ بشهاب قبس.. ٧ ﴾ [ النمل ] يعني : شعلة لها لسان ولهب، فمأربهم – إذن – على هذه الحال أمران : من يخبرهم بالطريق حيث تاهت الخطى في مكان لا يعرفونه، ثم جذوة نار يستدفئون بها من البرد.
وفي موضع آخر١ لهذه القصة لم يذكر قوله تعالى :﴿ امكثوا.. ٢٩ ﴾ [ القصص ] وهذا من المآخذ التي يأخذها السطحيون على أسلوب القرآن، لكن بتأمل الموقف نرى أنه أخذ صورة المحاورة بين موسى وأهله.
فزوجة وزوجها ضمهما الظلام في مكان موحش، لا يعرفون به شيئا، ولا يهتدون إلى طريق، والجو شديد البرودة، فمن الطبيعي حين يقول لها : إني رأيت نارا سأذهب لأقتبس منها أن تقول له : كيف تتركني وحدي في هذا المكان ؟ فربما تضل أنت أو أضل أنا، فيقول لها ﴿ امكثوا.. ٢٩ ﴾ [ القصص ] إذن : لابد أن هذه العبارة تكررت على صيغتين كما حكاها القرآن الكريم.
كذلك في :﴿ سآتيكم.. ٧ ﴾ [ النمل ] وفي مرة أخرى ﴿ لعلي آتيكم.. ٢٩ ﴾ [ القصص ] قالوا : لأنه رأى النار قال ﴿ سآتيكم.. ٧ ﴾ [ النمل ] على وجه اليقين، لكن لما راجع نفسه، فربما طفئت قبل أن يصل إليها استدرك، فقال ﴿ لعلي آتيكم.. ٢٩ ﴾[ القصص ] على سبيل رجاء غير المتقين.
ومضمون النداء :﴿ أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين٣٠ ﴾ [ القصص ] سمع موسى هذا النداء يأتيه من كل نواحيه، وينساب في كل اتجاه ؛ لأن الله تعالى لا تحيزه جهة ؛ لذلك لا تقل : من أين يأتي الصوت ؟ وليس له إلف بأن يخاطبه الرب – تبارك وتعالى.
ومع النداء يرى النار تشتعل في فرع من الشجرة، النار تزداد اشتعالا، والشجرة تزداد خضرة، فلا النار تحرق الشجرة بحرارتها، ولا الشجرة تطفئ النار برطوبتها١. فهي – إذن – مسألة عجيبة يحار فيها الفكر، فهل يستقبل كل هذه العجائب بسهولة أم لابد له من مراجعة ؟
﴿ وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين٣١ ﴾
وفي موضع آخر يسأله ربه ليؤنسه :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى ١٧ ﴾ [ طه ] وقلنا : إن موسى – عليه السلام – أطال في هذا الوقف ليطيل مدة الأنس بربه، فلما أحس أنه أسرف وأطال قال :﴿ ولي فيها مآرب أخرى ١٨ ﴾ [ طه ] فأطنب أولا ليزداد أنسه بربه، ثم أوجز ليظل أدبه مع ربه.
أما هنا فيأتي الأمر مباشرة ليوظف العصا :﴿ وأن ألق عصاك.. ٣١ ﴾[ القصص ]
وقوله :﴿ فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب.. ٣١ ﴾ [ القصص ] لأنه رأى عجيبة أخرى أعجب مما سبق فلو سلمنا باشتعال النار في خضرة الشجرة، فكيف نسلم بانقلاب العصا جانا يسعى ويتحرك ؟
وكان من الممكن أن تنقلب العصا الجافة إلى شجرة خضراء من جنس العصا، وتكون أيضا معجزة، أما أن تتحول إلى جنس آخر، وتتعدى النباتية إلى الحيوانية والحيوانية المتحركة المخيفة، فهذا شيء عجيب غير مألوف.
وهنا كلام محذوف ؛ لأن القرآن الكريم مبني على الإيجاز، فالتقدير : فألقى موسى عصاه ﴿ فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا.. ٣١ ﴾ [ القصص ] ذلك ليترك للعقل فرصة الاستنباط، ويحرك الذهن لمتابعة الأحداث.
والجان : قلنا هو فرح الحية، وقد صورت في هذه القصة بأنها : جان، وثعبان، وحية. وهي صور ثلاثة للشيء الواحد، فهي في خفتها جان، وفي طولها ثعبان، وفي غلظها حية.
ومعنى ﴿ ولى مدبرا.. ٣١ ﴾ [ القصص ] يعني : انصرف خائفا، ﴿ ولم يعقب.. ٣١ ﴾ [ القصص ] لم يلتفت إلى الوراء، فناداه ربه :﴿ يا موسى أقبل ولا تخف.. ٣١ ﴾[ القصص ] يعني : ارجع ولا تخف من شيء، ثم يعطيه القضية التي يجب أن تصاحبه في كل تحركاته في دعوته ﴿ إنك من الآمنين٣١ ﴾ [ القصص ] فلم يقل ارجع فسوف أؤمنك في هذا الموقف إنما ﴿ إنك من الآمنين٣١ ﴾ [ القصص ]
يعني : هي قضية مستمرة ملازمة لك ؛ لأنك في معية الله، ومن كان في معية الله لا يخاف، وإلا لو خفت الآن، فماذا ستفعل أمام فرعون ؟
وهكذا يعطي الحق – سبحانه وتعالى – لموسى – عليه السلام – دربة معه سبحانه، ودربة حتى يواجه فرعون وسحرته والملأ جميعا دون خوف ولا وجل، وليكون على ثقة من نصر الله وتأييده في جولته الأخيرة أمام فرعون.
وقد انتفع موسى – عليه السلام – بكل هذه المواقف، وتعلم من هذه العجائب التي رآها فزادته ثقة وثباتا ؛ لذلك لما كاد فرعون أن يلحق بجنوده موسى وقومه، وقالوا :﴿ إنا لمدركون٦١ ﴾ [ الشعراء ] استعاد موسى عليه السلام قضية ﴿ إنك من الآمنين٣١ ﴾[ القصص ] فقال بملء فيه :﴿ قال كلا إن معي ربي سيهدين٦٢ ﴾ [ الشعراء ]
فيحثه الثقة عند موسى – عليه السلام – هي معية الله له، قالها موسى، ويمكن أن تكذب في وقتها حالا، فهاهم البحر من أمامهم، وفرعون من خلفهم، لكنها ثقة من أمنه الله، وجعله في معيته وحفظه.
وهذا الأمن قد كلفه الله تعالى لجميع أنبيائه ورسله، فقال تعالى ﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين١٧١ إنهم المنصورون١٧٢ وإن جندنا لهم الغالبون١٧٣ ﴾[ الصافات ]
وقال :﴿ يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون١٠ ﴾ [ النمل ]
وقد قص هذا كله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فانتفع به ووثق في نصر الله، فلما قال له الصديق وهما في الغار : يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، قال صلى الله عليه وسلم :( ( يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما ) )١.
وحكى القرآن قوله صلى الله عليه وسلم لصاحبه :﴿ لا تحزن إن الله معنا.. ٤٠ ﴾[ التوبة ] وما دمنا في معية من لا تدركه الأبصار، فلن تدركنا الأبصار.
﴿ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملإيه إنهم كانوا قوما فاسقين٣٢ ﴾
معنى ﴿ اسلك يدك.. ٣٢ ﴾ [ القصص ] يعني : أدخلها ﴿ في جيبك.. ٣٢ ﴾[ القصص ] الجيب : فتحه الثوب من الأعلى، وسموها جيبا ؛ لأنهم كانوا يجعلون الجيوب مكان حفظ الأموال في داخل الثياب حتى لا تسرق، فكان الواحد يدخل يده في قبة الثوب لتصل إلى جيبه.
ونلحظ هنا دقة الأداء القرآني﴿ تخرج بيضاء.. ٣٢ ﴾ [ القصص ] ولم يقل بصيغة الأمر : وأخرجها كما قال ﴿ اسلك يدك.. ٣٢ ﴾ [ القصص ] وكأن العملية عملية آلية منضبطة بدقة، فبمجرد أن يدخلها تخرج هي بيضاء، فكأن إرادته على جوارحه كانت في الإدخال، أما في الإخراج فهي لقدرة الله.
وكلمة ﴿ بيضاء.. ٣٢ ﴾ [ القصص ] أي : منورة دون مرض، والبياض لابد أن يكون عجيبا في موسى – عليه السلام – لأنه كان أسمر اللون ؛ لذلك قال ﴿ من غير سوء.. ٣٢ ﴾[ القصص ] حتى لا يظنوا به برصا مثلا، فهو بياض طبيعي معجز.
وقوله تعالى :﴿ واضمم إليك جناحك من الرهب.. ٣٢ ﴾ [ القصص ] الجناحان في الطائر كاليدين في الإنسان، وإذا أراد الإنسان أن يعوم مثلا يفعل كما يفعل الطائر حين يطير، فالمعنى : أضمم إليك يديك يذهب عنك الخوف.
وهذه العملية يصدقها الواقع، فنرى المرأة حين ترى ولدها مثلا يسيء التصرف تضرب صدرها وتولول، وسيدنا ابن عباس يقول : كل من خاف يجب عليه أن يضرب صدره بيديه ليذهب عنه ما يلاقى١، ولك أن تجربها لتعلم صدق هذا الكلام.
ومعنى ﴿ فذانك.. ٣٢ ﴾ [ القصص ] ذا : اسم إشارة للمفرد ونقول : ذان اسم إشارة للمثنى، والكاف للخطاب، والمراد : الإشارة لمعجزتي العصا واليد﴿ برهانان من ربك.. ٣٢ ﴾ [ القصص ]أي ربك الحق ﴿ إلى فرعون.. ٣٢ ﴾ [ القصص ] الرب الباطل، ولا يمكن أن يجتمع الحق والباطل، لابد للباطل أن يزهق ؛ لأنه ضعيف لا يصمد أمام قوة الحق ﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.. ١٨ ﴾ [ الأنبياء ]
والبرهان : هو الحجة والدليل على صدق المبرهن عليه ﴿ إلى فرعون وملئه.. ٣٢ ﴾ [ القصص ]، لأن فرعون ادعى الألوهية، وملؤه استخفهم فأطاعوه ﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين٣٢ ﴾ [ القصص ] أي : جميعا فرعون والملأ ﴿ فاسقين٣٢ ﴾ [ القصص ]أي : خارجين عن الطاعة من قولنا فسقت الرطبة يعني : خرجت من قشرتها.
والمراد هنا الحجاب الديني الذي يغلف الإنسان، ويحميه ويعصمه أن يتأثر بعوامل المعصية، فإذا انسلخ من هذا الثوب، ونزع هذا الحجاب، وتمرد على المنهج تكشفت عورته، وبانت سوءته.
وكان بإمكان موسى أن يطلب من ربه أن يستعين بأخيه هارون، فيكون هارون من باطن موسى، لكنه أحب لأخيه أن يشاركه في رسالته، وأن ينال هذا الفضل وهذه الرفعة، فقال :﴿ فأرسله معي ردءا يصدقني.. ٣٤ ﴾[ القصص ] يعني : معنيا لي حتى لا يكذبني الناس، فيكون رسولا مثلي بتكليف من الله.
لذلك نرى الآيات تتحدث عن هارون على أنه رسول شريك لموسى في رسالته، يقول تعالى في شأنهما :﴿ اذهبا إلى فرعون إنه طغى٤٣ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى٤٤ ﴾ [ طه ]
فإذا نظرنا إلى وحدة الرسالة فهما رسول واحد، وهذا واضح في قوله تعالى :
﴿ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين١٦ ﴾ [ الشعراء ]
وجاء في قول فرعون :﴿ إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ٢٧ ﴾ [ الشعراء ]بصيغة المفرد. كما لو بعث رئيس الجمهورية رسالة مع اثنين أو ثلاثة إلى نظيره في دولة أخرى، نسمي هؤلاء جميعا ( رسول ) ؛ لأن رسالتهم واحدة، فإذا نظرت إلى وحدة الرسالة من المرسل إلى المرسل إليه فهما واحد، وإذا نظرت إلى كل على حدة فهما رسولان.
وقد ورد أيضا :﴿ إنا رسولا ربك.. ٤٧ ﴾[ طه ] فخاطبهم مرة بالمفرد، ومرة بالمثنى.
لذلك لما دعا موسى – عليه السلام – على قوم فرعون لما غرتهم الأموال، وفتنتهم زينة الحياة الدنيا قال ﴿ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم٨٨ ﴾ [ يونس ]
المتكلم هنا موسى وحده، ومع ذلك قال تعالى :﴿ قال قد أجيبت دعوتكما.. ٨٩ ﴾ [ يونس ] فنظر إلى أنهما رسول واحد، فموسى يدعو وهارون يؤمن على دعائه١، والمؤمن أحد الداعيين.
لذلك حين نمدح شخصا بالقوة نقول : فلان هذا ( عضل )، وحين يصاب الإنسان والعياذ بالله بمرض ضمور العضلات تجده هزيلا لا يقدر على فعل شيء، فالمعنى : سنقويك بقوة مادية.
﴿ ونجعل لكما سلطانا.. ٣٥ ﴾ [ القصص ] هذه هي القوة المعنوية، وهي قوة الحجة والمنطق والدليل، فجمع لهما : القوة المادية، والقوة المعنوية.
لذلك قال بعدها ﴿ فلا يصلون إليكما.. ٣٥ ﴾ [ القصص ] أي : ننجيكم منهم، لكن معركة الحق والباطل لا تنتهي بنجاة أهل الحق، إنما لابد من نصرتهم على أهل الباطل، وفرق بين رجل يهاجمه عدوه فيغلق دونه الباب، وتنتهي المسألة عند هذا الحد، وبين من يجرؤ على عدوه ويغالبه حتى ينتصر عليه، فيكون قد منع الضرر عن نفسه، وألحق الضرر بعدوه.
وهذا هو المراد بقوله تعالى﴿ أنتما ومن اتبعكما الغالبون٣٥ ﴾ [ القصص ] وهكذا أزال الله عنهم سلبية الضرر، ومنحهم إيجابية الغلبة.
ونلحظ توسط كلمة ﴿ بآياتنا.. ٣٥ ﴾ [ القصص ] بين العبارتين :﴿ فلا يصلون إليكما.. ٣٥ ﴾ [ القصص ] و ﴿ أنتما ومن اتبعكما الغالبون ٣٥ ﴾[ القصص ] فهي إذن سبب فيهما : فبآياتنا ومعجزتنا الباهرات ننجيكم، وبآياتنا ومعجزاتنا ننصركم، فهي كلمة واحدة تخدم المعنيين، وهذا من وجوه بلاغة القرآن الكريم.
ومن عجائب ألفاظ القرآن كلمة ( النجم ) في قوله تعالى :﴿ الشمس والقمر بحسبان٥ والنجم والشجر يسجدان٦ ﴾[ الرحمن ] فجاءت النجم بين الشمس والقمر، وهما آيتان سماويتان، والشجر وهو من نبات الأرض ؛ لذلك صلحت النجم بمعنى نجم السماء، أو النجم بمعنى النبات الصغير الذي لا ساق له، مثل العشب الذي ترعاه الماشية في الصحراء٢.
لذلك قال الشاعر :
أراعي النجم في سيرى إليكم***ويرعاه من البيدا جوادي
٢ قال أبو إسحاق: قد قيل إن النجم يراد به النجوم، قال: وجائز أن يكون النجم ههنا ما نبت على وجه الأرض وما طلع من نجوم السماء. ويقال لكل ما طلع: قد نجم. [لسان العرب – مادة: نجم]..
﴿ فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحرمفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين٣٦ ﴾
قوله تعالى :﴿ بآياتنا بيانات.. ٣٦ ﴾[ القصص ] أي : بمعجزاتنا واضحات باهرات، فلما بهتوا أمام آيات الله، وحاروا كيف يخرجون من هذا المأزق، فقد جاءهم موسى ليهدم عرش الألوهية الباطلة عند فرعون، ولم يملكوا إلا أن قالوا ﴿ ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين٣٦ ﴾[ القصص ]
لذلك يعلم الحق – تبارك وتعالى – موسى عليه السلام محاجة هؤلاء، فكأنه قال له : أنت مقبل على أناس متمسكين بالباطل، حريصين عليه، منتفعين من ورائه، ولابد أن يغضبوا إن قضيت على باطلهم، وصرفتهم عنه إلى الحق، فقد ألفوا الباطل، فإن أخرجتهم مما ألفوا إلى ما لا يألفون فلا بد لك من اللين وألا تهيجهم حين تجمع عليهم قسوة ترك ما ألفوه مع قسوة الدعوة إلى ما لم يألفوه.
ويكفي أنك ستسلبهم سلطان الألوهية الذي عاشوا في ظلة، فإن زدت في القسوة عليهم ولدت عندهم لددا وعنادا في الخصومة.
لذلك قال تعالى :﴿ فقولا له قولا لينا.. ٤٤ ﴾[ طه ] يعني : اعذروه فيما يلاقي حين تسلب منه ألوهيته، ويصير واحدا من الرعية.
وإن قابلوك هم بالقسوة حين قالوا :﴿ ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين٣٦ ﴾[ القصص ] فقابلهم أنت باللين.
ثم قال :﴿ إنه لا يفلح الظالمون٣٧ ﴾ [ القصص ] سواء كنا نحن أم أنتم، ولم يقل أنتم الظالمون. لقد أطلق القضية، وترك للعقول أن تميز.
ومعنى ﴿ عاقبة الدار.. ٣٧ ﴾[ القصص ] الدار يعني : الدنيا. وعاقبتها تعني : الآخرة.
وهذا الأدب النبوى في الجدل والحوار رأيناه في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة والمعاندين له، وقد خاطبه ربه :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.. ٤٦ ﴾ [ العنكبوت ]
والعلة أنك ستخرجهم من الباطل الذي أحبوه وألفوه إلى الحق الذي يكرهون، فلا تجمع عليهم شدتين، لذلك في أشد ما كان إيذاء الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :( ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) )١.
ورحم الله شوقى الذي صاغ هذه المسألة في عبارة موجزة فقال :( النصح ثقيل فلا ترسله جبلا، ولا تجعله جدلا ) فنصحك معناه أنك تقول لمن أمامك : أنت على خطأ وأنا على الصواب. فلكى يسمع لك لابد أن تستميله أولا إليك ليقبل منك، ولا تجرح مشاعره فيزداد عنادا ومكابرة، وما أشبه صاحب الخطأ بالمريض الذي يحتاج لمن يأخذ بيده، ويأسو٢ مرضه.
وقد مثلوا لذلك بشخص يغرق، وصاحبه على الشاطئ يلومه على نزوله البحر، وهو لا يجيد السباحة، فقال له :( آس ثم انصح ) انقذنى أولا وأدركني، ثم قل ما شئت.
وقال آخر : الحقائق مرة، فاستعيروا لها خفة البيان.
أما إن يئس الناصح من استجابة المنصوح كما في قصة نبي الله نوح عليه السلام، والذي ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، فالأمر يختلف. فالنبي صبر على قومه علهم يثوبون إلى رشدهم، أو لعلهم ينجبون الذرية الصالحة التي تقبل ما رفضه الآباء.
فما أطول صبر نوح على قومه، وما أعظم أدبه في الحوار معهم وهو يقول لهم وقد اتهموه بالكذب والافتراء :﴿ قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون٣٥ ﴾ [ هود ]
فنسبت الإجرام إلى نفسه ليسوي نفسه بهم لعله يستميل قلوبهم، لكن، لما كان في علم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، ولا فائدة منهم، ولا من أجيالهم المتعاقبة، وبعد أن قضي نوح في دعوتهم هذا العمر المديد أمره الله أن يدعو عليهم، حيث لا أمل في هدايتهم، فقال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا٣٢٦ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا٢٧ ﴾ [ نوح ]
ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول في محاورته مع كفار مكة :﴿ لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون٢٥ ﴾ [ سبأ ]
سبحان الله ما هذا التواضع، وهذا الأدب الجم في استمالة القوم، ينسب الإجرام إلى نفسه وهو رسول الله، وحينما يتكلم عنهم يقول ﴿ تعملون٢٥ ﴾ [ سبأ ] فيسمي إجرامهم وإيذاءهم وكفرهم عملا. ولو قال كما قال أخوه نوح لكان تواضعا منه صلى الله عليه وسلم.
.
٢ الأسا: المداواة والعلاج. والإساء: الدواء بعينه. [لسان العرب – مادة: أسا]..
٣ ديار: أحد. يقال: ما بالدار ديار. أي: ما بها أحد.[لسان العرب – مادة: دير]..
{ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا١لعلي أطلع إلى
إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين٣٨ }
خشى فرعون من كلام موسى على قومه، وتصور أنه سيحدث لهم كما نقول ( غسيل مخ ) فأراد أن يذكرهم بألوهيته، وأنه لم يتأثر بما سمع من موسى ﴿ يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري.. ٣٨ ﴾[ القصص ] يعني : إياكم أن تصدقوا كلام موسى، فأنا إلهكم، وليس لكم إله غيري.
ثم يؤكد هذه الألوهية فيقول لهامان وزيره :﴿ فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى.. ٣٨ ﴾[ القصص ] وفي موضع آخر قال :﴿ يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب٣٦ أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى.. ٣٧ ﴾ [ غافر ]
وكأنه يريد أن يرضى قومه، فها هو يريد أن يبحث عن الإله الذي يدعيه موسى، وكأنه إن بنى صرحا واعتلاه سيرى رب موسى، لكن هل بنى له هامان هذا الصرح ؟ لم يبن له شيئا، مما يدل على أن المسألة هزل في هزل، وضحك على القوم الذين استخفهم ولعب بعقولهم.
وإلا، فما حاجتهم لحرق الطين ليصير هذه القوالب الحمراء التي نراها ونبنى بها الآن وعندهم الحجارة والجرانيت التي بنوا بها الأهرامات وصنعوا منها التماثيل ؟ وعملية حرق الطين تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد، إذن : المسألة كسب الوقت من الخصم، وتخدير الملأ من قومه.
وقوله :﴿ لعلي أطلع إلى إله موسى.. ٣٨ ﴾[ القصص ] وقبل أن يصل إلى حكم فيرى إله موسى أو لا يراه، يبادر بالحكم على موسى ﴿ وإني لأظنه من الكاذبين٣٨ ﴾ [ القصص ] ؛ ليصرف ملأه عن كلام موسى.
.
وكذلك في دواعي الكبر الأخرى : الغني، القوة، الجاه، والسلطان... إلخ.
لذلك يكره الله تعالى المتكبرين، ويقول في الحديث القدسي :
( ( الكبرياء رائي، والعظمة إزاري، فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته جهنم ) )١.
والكبرياء والعظمة صفة جلال وجمال لله تعالى تجعل الجميع أمام كبرياء الله سواء، فلا يتكبر أحد على أحد ( ونرعى جميعا مساوى ) في ظل كبرياء الله الذي يحمي تواضعنا، فلو تكبر أحدنا على الآخر لتكبر بشيء موهوب له، ليس ذاتيا فيه ؛ لذلك ينتصر الله لمن تكبرت عليه، ويجعله أعلى منك، وعندنا في الأرياف يقولون :( اللي يرمى أخاه بعيب لن يموت حتى يراه في نفسه ).
والمتكبر في الحقيقة ناقص الإيمان ؛ لأنه لا يتكبر إلا حين يرى الناس جميعا دونه، ولو أنه استحضر كبرياء خالقه لاستحيا أن يتكبر أمامه، وهكذا كان استكبار فرعون وجنوده في الأرض بغير حق.
أما إن كان الاستكبار من أجل حماية الضعيف ليعيش في ظلاله فهو استكبار بحق، لذلك نقول حين يصف الحق – تبارك وتعالى – نفسه بأنه العظيم المتكبر نقول : هذا حق. لأنه حماية لنا جميعا من أن يتكبر بعضنا على بعض.
وقوله تعالى :﴿ وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون٣٩ ﴾[ القصص ] فاستكبارهم في الأرض جاء نتيجة ظنهم بأنهم لن يرجعوا إلى الله، وأنه تعالى خلقهم ورزقهم، ثم تفلتوا منه، ولن يعودوا إليه، لكن هيهات، لابد – كما تقول – لهم رجعة.
.
كما قال سبحانه :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد١٠٢ ﴾ [ هود ]
ولم يوصف أخذ الإنسان بالقوة إلا في قوله تعالى١يحثنا على أن نأخذ مناهج الخير بقوة :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة.. ٩٣ ﴾ [ البقرة ]
ثم يقول سبحانه :﴿ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين٤٠ ﴾ [ القصص ]أي : نهايتهم وقد جاءت عجيبة من عجائب الزمن وآية من آيات الله، فالبحر والماء جند من جنود الله، تنصر الحق وتهزم الباطل، وقد ذكرنا كيف أنجى الله موسى – عليه السلام – وأهلك فرعون بالشيء الواحد حين أمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر، فصار كل فرق كالطود العظيم.
فلما أن جازه موسى وقومه إلى الناحية الأخرى أراد أن يضرب البحر مرة أخرى ؛ ليعود الماء إلى سيولته واستطراقه فيصحح الله له ويأمره أن يدعه على حاله، فالحق – تبارك – وتعالى – يتابع نبيه موسى خطوة بخطوة كما قال له :﴿ إنني معكما أسمع وأرى٤٦ ﴾[ طه ]
وحاشا لله أن يكلفه بأمر ثم يتركه، ولما رأى فرعون الطريق اليابس أمامه عبر بجنوده، فأطبقه الله عليهم، فصاروا آية وعبرة، كما قال سبحانه :﴿ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية.. ٩٢ ﴾ [ يونس ]
وتأمل قدرة الله التي أنجت موسى من الغرق، وقد ألقته أمه بيديها في الماء، وأغرقت فرعون.
.
والإمام أسوة وقدوة للمأمومين في الخير ومنهج الحق، كما قال تعالى ١في حق نبيه إبراهيم عليه السلام :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما... ١٢٤ ﴾ [ البقرة ]
وعندها أراد إبراهيم عليه السلام أن تظل الإمامة في ذريته من بعده، فقال ﴿ قال ومن ذريتي.. ١٢٤ ﴾[ البقرة ] فصحح الله له وأعلمه أن الإمامة لا تكون إلا في أهل الخير ﴿ قال لا ينال عهدي الظالمين١٢٤ ﴾ [ البقرة ]
لذلك لما دعا نوح – عليه السلام – ربه :﴿ رب إن ابني من أهلي.. ٤٥ ﴾[ هود ]صحح الله له﴿ إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح.. ٤٦ ﴾ [ هود ]
إذن : أهلية النبوة وأهلية الإمامة عمل وسلوك لا قرابة ولا نسب.
وقد تكون الإمامة في الشر، كهذه التي نتحدث عنها :﴿ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار.. ٤١ ﴾[ القصص ] فهم أسوة سيئة وقدرة للشر، وقد جاء في الحديث الشريف :( ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ) ١.
ويقول تعالى في أصحاب القدوة السيئة :﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم.. ٢٥ ﴾ [ النحل ]
فكان فرعون وملؤه أسوة في الشر، وأسوة في الضلال والإرهاب والجبروت، وكذلك سيكونون في الآخرة أئمة وقادة، لكن إلى النار ﴿ ويوم القيامة لا ينصرون٤١ ﴾ [ القصص ]
﴿ ويوم القيامة هم من المقبوحين٤٢ ﴾ [ القصص ] مادة : قبح، تقول للشرير : قبحك الله، أي : طردك وأبعدك عن الخير. ولها استعمال آخر : تقول : قبحت الدمل أي : فتحته ونكأته قبل نضجه فيخرج منه الدم مع الصديد ويشوه مكانه.
وسبق أن قلنا : إن الدمل إذا تركته للصيدلية الربانية في جسمك حتى يندمل بمناعة الجسم ومقاومته تجده لا يترك أثرا، أما إن تدخلت فيه بالأدوية والجراحة، فلا بد أن يترك أثرا، ويشوه المكان.
ويكون المعنى إذن :﴿ هم من المقبوحين ٤٢ ﴾[ القصص ] أي : الذين تشوهت وجوههم بعد نعومة الجلد ونضارته، وقد عبر القرآن عن هذا التشويه بصور مختلفة.
يقول تعالى :﴿ ووجوه يومئذ عليها غبرة٤٠ ترهقها قترة٤١ ﴾ [ عبس ]
ويقول سبحانه ﴿ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.. ١٠٦ ﴾[ آل عمران ]
ويقول :﴿ ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ١٠٢ ﴾ [ طه ]
ومعلوم أن زرقة الجسم لا تأتي إلا نتيجة ضربات شديدة وكدمات تحدث تفاعلات ضارة تحت الجلد، فتسبب زرقته، وكذلك زرقة العين، ومن أمراض العيون المياه الزرقاء، وهي أخطر من البيضاء.
لذلك يقول الشاعر :
وللبخيل على أمواله علل***زرق العيون عليها أوجه سود
لأنه حريص على أمواله ولا يريد إنفاقها.
ويستخدم اللون الأزرق للتبشيع والتخويف، وقد كانوا في العصور الوسطى يطلون وجوه الجنود باللون الأزرق لإخافة الأعداء وإرهابهم، وتعارف الناس أنه لون الشيطان ؛ لذلك نقول في لغتنا العامية :( العفاريت الزرق ) ونقول في الذم :( فلان نابه أزرق ).
ويقول الشاعر١ :
أيقتلني والمشرفي٢ مضاجعى*** ومسنونة زرق كأنياب أغوال٣
أما السواد فيقصد به الوجه المشوه المنفر، وإلا فالسواد لا يذم في ذاته كلون، وكثيرا ما نرى صاحب البشرة السوداء يشع جاذبية وبشاشة، بحيث لا تزهد في النظر إليه، ومعلوم أن الحسن لا لون له.
والله تعالى يهب الحسن والبشاشة ويشعهما في جميع الصور. وقد ترى للون الأسود في بعض الوجوه أسرا وإشراقا، وترى صاحب اللون الأبيض كالحا، لا حيوية فيه.
٢ السيوف المشرفية منسوبة إلى قرى من أرض اليمن، وقيل: من أرض العرب تدنو من الريف.[لسان العرب – مادة: شرف]..
٣ قال الجاحظ في كتابه (الحيوان) (٦/١٥٨) تحقيق عبد السلام هارون: ((الأغوال: اسم لكل شيء الجن يعرض للمسافرين ويتلون في ضروب من الصور والثياب ذكرا كان أو أنثى إلا أن أكثر كلامهم على أنه أنثى)). والبيت في ديوان امرئ القيس ٣٣، والكامل للمبرد(٢/٧٩)، وحسن التوسل إلى صناعة الترسل لشهاب الدين محمود الحلبى – ص١١٢.
.
القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون٤٣ }
قول تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى.. ٤٣ ﴾[ القصص ] قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، يعني : أن موسى – عليه السلام – جاء برزخا وواسطة بين رسل كذبتهم أممهم، فأخذهم الله بالعذاب، ولم يقاتل الرسل قبل موسى، إنما كان الرسول منهم يبلغ الرسالة ويظهر الحج، وكانوا هم يقترحون الآيات، فإن أجابهم الله وكذبوا أوقع الله بهم العذاب.
كما قال سبحانه :
﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا١ وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون٤٠ ﴾ [ العنكبوت ]
وهذا كله عذاب استئصال، لا يبقى من المكذبين أحدا.
ثم جاء موسى – عليه السلام – برزخا بين عذاب الاستئصال من الله تعالى للمكذبين دون تدخل من الرسل في مسألة العذاب، وبين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أمره الله بقتال الكفار والمكذبين دون أن ينزل بهم عذاب الاستئصال، ذلك لأن رسالته عامة في الزمان وفي المكان إلى أن تقوم الساعة، وهو صلى الله عليه وسلم مأمون على حياة الخلق أجمعين.
لذلك يقول تعالى في مسألة القتال في عهد موسى عليه السلام :﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى.. ٢٤٦ ﴾ [ البقرة ] إنما في عهده وعصره ﴿ إذ قالوا لبني لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم.. ٢٤٦ ﴾ [ البقرة ]
وقد ورد أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ( ما عذب الله قوما، ولا قرنا، ولا أمة، ولا أهل قرية منذ أنزل الله التوراة على موسى ) )٢.
كأن عذاب الاستئصال انتهى بنزول التوراة، ولم يستثن من ذلك إلا قرية واحدة هي ( أيلة ) التي بين مدين والأردن.
والحق – تبارك وتعالى – يعطينا أول تجربة لمهمة، وتدخل الرسل في قصة موسى عليه السلام.
وروي عن أبي أمامة أنه قال : وإني لتحت رحل رسول الله – يعني : ممسكا برحل ناقة الرسول – يوم الفتح، فسمعته يقول كلاما حسنا جميلا، وقال فيما قال :( ( أيما رجل من أهل الكتاب يؤمن بي فله أجران – أي : أجر إيمانه بموسى، أو بعيسى، وأجر إيمانه بي – له ما لنا وعليه ما علينا ) )٣.
وهذا يعني أن القتال لم يكن قد كتب عليهم.
وقوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب.. ٤٣ ﴾[ القصص ]أي : التوراة ﴿ من بعد ما أهلكنا القرون الأولى.. ٤٣ ﴾[ القصص ]أي : بدون تدخل الأنبياء ﴿ بصائر للناس.. ٤٣ ﴾[ القصص ] أي : آتيناه الكتاب ليكون نورا يهديهم، وبصيرة ترشدهم، وتنير قلوبهم ﴿ وهدى ورحمة.. ٤٣ ﴾[ القصص ] هدى إلى طريق الخير ورحمة تعصم المجتمع من فساد المناهج الباطلة، وتعصمهم أن يكونوا من أهل النار ﴿ لعلهم يتذكرون٤٣ ﴾ [ القصص ]
والتذكر يعني : أنه كان لديك قضية، ثم نسيتها فاحتجت لمن يذكرك بها، فهي ليست جديدة عليك، هذه القضية هي الفطرة :
﴿ فطرت الله التي فطر الناس عليها.. ٣٠ ﴾ [ الروم ]
لكن هذه الفطرة السليمة تنتابها شهوات النفس ورغباتها، وتطرأ عليها الغفلة والنسيان، لذلك يذكر الحق سبحانه الناس بما غفلوا عنه من منهج الحق، إذن : في الفطرة السليمة المركوزة في كل نفس مقومات الإيمان والهداية، لولا غفلة الإنسان.
-﴿فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا٤٠﴾ [العنكبوت] هم: قوم عاد. أرسل الله عليهم ريحا عاتية حملت عليهم حصباء الأرض، فألقتها عليهم واقتلعتهم من الأرض.
-﴿ومنهم من أخذته الصيحة٤٠﴾ [العنكبوت] هم: قوم ثمود، جاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات.
-﴿ومنهم من خسفنا به الأرض٤٠﴾[العنكبوت]هو: قارون، خسف الله به وبداره الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
- ﴿ومنهم من أغرقنا٤٠﴾ [العنكبوت] هو فرعون ووزيره هامان وجنودهما عن آخرهم. [تفسير ابن كثير٣/٤١٣]..
٢ أخرجه الحاكم في مستدركه (٤/٤٠٨) من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: ((ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية منذ أنزل التوراة على وجه الأرض بعذاب من السماء غير أهل القرية التي مسخت قردة)) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد(٧/٨٨) ((رواه البزار موقوفا ومرفوعا، ورجالهما رجال الصحيح))..
٣ أخرجه ابن ماجة في سننه (١٩٥٦)، وسعيد بن منصور في سننه (٩١٣) من حديث أبي موسى الأشعري، ولفظه: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدركه النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به، ثم اتبعه فله أجران)).
.
{ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر
وما كنت من الشاهدين٤٤ }
قوله :﴿ بجانب الغربي.. ٤٤ ﴾[ القصص ] أي : الجانب الغربي من البقعة المباركة من الشجرة، وهو المكان الذي كلم الله فيه موسى وأرسله ﴿ إذ قضينا إلى موسى الأمر.. ٤٤ ﴾ [ القصص ] يعني : أمرناه به أمرا مقطوعا به، وهو الرسالة.
﴿ وما كنت من الشاهدين٤٤ ﴾ [ القصص ]
ولك أن تسأل : إذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدا لهذه الأحداث، فمن أخبره بها ؟ نقول : أخبره الله تعالى، فإن قلت فربما أخبره بها شخص آخر، أو قرأها في كتب السابقين.
نقول : لقد شهد له قومه بأنه أمي، لا يقرأ ولا يكتب، ولم يعلم عنه أنه جلس في يوم من الأيام إلى معلم، كذلك كانوا يعرفون سيرته في حياته وسفرياته ورحلاته، ولم يكن فيها شيء من هذه الأحداث.
لذلك لما اتهموا رسول الله أنه جلس إلى معلم، وقالوا : كما حكى القرآن :﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر.. ١٠٣ ﴾ [ النحل ]
رد القرآن عليهم في بساطة :﴿ لسان الذي يلحدون١إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين١٠٣ ﴾ [ النحل ]
وكانوا يقصدون بذلك حدادين روميين٢ تردد عليهما رسول الله. وكذلك كانت الأمة التي بعث فيها رسول الله أمة أمية، فممن تعلم إذن ؟
وإذا كانت الأمية صفة مذمومة ننفر منها، حتى أن أحد سطحيى الفهم يقول : لا تقولوا لرسول الله أمي ونقول : إن كانت الأمية مذمة، فهي ميزة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الأمي يعني المنسوب إلى الأم وما يزال على طبيعته لا يعرف شيئا.
واقرأ قوله تعالى :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا.. ٧٨ ﴾ [ النحل ] ونقول في المثل ( فلان زي ما ولدته أمه ) يعني : لا يعرف شيئا، وهذه مذمة في عامة البشر ؛ لأنه لم يتعلق ممن حوله، ولم يستفد من خبرات الحياة.
أما الأمية عند رسول الله فشرف ؛ لأن قصارى المتعلم في أي أمة من الأمم أن يأخذ بطرف من العلم من أمثاله من البشر، فيكون مدينا له بهذا العلم، أما رسول الله فقد تعلم من العليم الأعلى، فلم يتأثر في علمه بأحد، وليس لأحد فضل عليه ولا منة.
لذلك تعجب الدنيا كلها من أمة العرب، هذه الأمة الأمية المتبدية التي لا يجمعها قانون، إنما لكل قبيلة فيها قانونها الخاص، يعجبون : كيف سادت هذه الأمة العالم، وغزت حضارتهم الدنيا في نصف قرن من الزمان.
ولو أن العرب أمة حضارة لقالوا عن الإسلام قفزة حضارية، كما قالوا بعد انتصارنا في أكتوبر، وبعد أن رأى رجالنا أشياء غير عادية تقاتل معهم، حتى أنهم لم يشكوا في أنها تأييد من الله تعالى لجيش بدأ المعركة بصيحة الله أكبر، لكن ثالث أيام المعركة طلع علينا في جرائدنا من يقول : إنه نصر حضاري، وفي نفس اليوم فتحت الثغرة في ( الدفرسوار ).
وعجيب أمر هؤلاء من أبناء جلدتنا : لماذا تردون فضل الله وتنكرون تأييده لكم ؟ وماذا يضايقكم في نصر جاء بمدد من عند الله ؟ ألم تقرأوا :﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو.. ٣١ ﴾ [ المدثر ] وبعد أن فتحت الثغرة ماذا قدمتم لسدها، تعالوا بفكركم الحضاري وأخرجونا من هذا المأزق.
وإذ تقل على هؤلاء الاعتراف بجنود الله بين صفوفهم، أليس المهندس الذي اهتدى إلى فكرة استخدام ضغط الماء في فتح الطريق في ( بارليف ) لينفذ منه الجنود، أليس من جنود الله ؟
لقد أخذت منا هذه الفكرة كثيرا من الوقت والجهد دون فائدة، إلى أن جاء هذا الرجل الذي نور الله بصيرته وهداه إلى هذه العملية التي لم تأت اعتباطا، إنما نتيجة إيمان بالله وقرب منه سبحانه وتضرع إليه، فجزاه الله عن مصر وعن الإسلام خيرا.
ومن العجيب، بعد نهاية الحرب أن يجروا للحرب بروفة تمثيلية، فلم يستطيعوا اجتياز خط بارليف، وهم في حال أمن وسلام.
نعود إلى قضية الأمية وتقول لمن ينادى بمحو الأمية عند الناس بأن يعلمهم من علم البشر : ليتكم قلتم نمحو الأمية عندهم لنعلمهم عن الله.
إذن : فقوله تعالى :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين٤٤ ﴾ [ القصص ] يعني : ما أرى محمد هذه الأحداث ولا حضرها، ومنه قوله تعالى عن شهر رمضان :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه.. ١٨٥ ﴾ [ البقرة ] يعني : حضره.
٢ قال عبيد الله بن مسلم: كان لنا غلامان روميان يقرآن كتابا لهما بلسانهما، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهما فيقوم فيسمع منهما فقال المشركون: يتعلم منهما فأنزل الله هذه الآية. أورده ابن كثير في تفسيره (٢/٥٨٧).
.
{ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر
وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم
آياتنا ولكنا مرسلين٤٥ }
أهل مدين هم قوم شعيب عليه السلام، وكان لهم شغل بالقراءة، لذلك قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ وما كنت ثاويا.. ٤٥ ﴾ [ القصص ] أي : مقيما ﴿ في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا.. ٤٥ ﴾[ القصص ]أي : تلاوة المتعلم كما يتلو التلميذ على أستاذه ليصحح له ﴿ ولكنا كنا مرسلين٤٥ ﴾ [ القصص ] أي : أن الرسالات كلها منا : من كان يقرأ، ومن كان أميا.
وكلمة ( وما كنت ) في مواضع عدة في القرآن تدل على أن رسول الله جاء بأخبار لم يقرأها في كتاب، ولم يسمعها من معلم ؛ لأنه لا يقرأ، ولم يعرف عنه أنه جلس إلى معلم، وأهل الكتاب هم الذين يعرفون صدق هذه الأخبار ؛ لأنها ذكرت في كتبهم، لذلك قال القرآن عنهم :﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.. ٢٠ ﴾ [ الأنعام ]
ويقول سبحانه ﴿ إن هذا لفي الصحف الأولى١٨ صحف إبراهيم وموسى١٩ ﴾ [ الأعلى ]
ومن علامات النبوة أن يخرق الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم حجت الغيب، والشيء يغيب عنك إما لأنه ماض، ولا وسيلة لك إليه، وهذا هو حجاب الزمن الماضي، وهو لا يعرف إلا بواسطة القراءة في كتاب أو التعلم من معلم، وقد نفى الله تعالى هذا بالنسبة لرسول صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون الحجاب حجاب الزمن المستقبل والأحداث التي لم تأت بعد، ولا يستطيع أن يخبرك بها إلا الذي يعلمها أزلا.
لذلك يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ سنقرئك فلا تنسى٦ ﴾[ الأعلى ] فكان النجم من القرآن ينزل على رسول الله فلما يسرى عنه يمليه على أصحابه، كل آية في مكانها وترتيبها من السورة١، ثم يقرؤها بعد ذلك كما أنزلت، وكما أملاها.
وسبق أن قلنا : تستطيع أن تتحدى أي شخص بأن يتكلم مثلا لمدة ثلث الساعة، ثم يعيد ما قال، ولن يستطيع، أما المسألة مع سيدنا رسول الله فتختلف ؛ لأنها من الله تعالى ﴿ سنقرئك فلا تنسى ٦ ﴾
وقلنا : إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول نزول القرآن عليه كان يردد الآية خلف جبريل عليه السلام مخافة أن ينساها، فإن قال جبريل :﴿ والضحى١ ﴾[ الضحى ] قال رسول الله ﴿ والضحى١ ﴾[ الضحى ] وهكذا، فأنزل الله عليه :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به١٦ إن علينا جمعة وقرآنه ١٧ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه١٨ ﴾ [ القيامة ]
وقال سبحانه :﴿ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه.. ١١٤ ﴾ [ طه ]
أي : أرح نفسك يا محمد، ولا تخش النسيان، وانتظر حتى تنتهي الآيات، وسوف تعيدها كما هي، لا تنسى منها حرفا واحدا.
ومن كشف حجب الغيب المستقبل قوله تعالى :﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة.. ٨ ﴾ [ النحل ] ولو انتهت الآية إلى هذا الحد لقالوا : ذكر القرآن البدائيات، ولم يذكر شيئا عن السيارة والصاروخ.. إلخ.
لكن الحق – تبارك وتعالى – يكمل الآية ﴿ ويخلق ما لا تعلمون ٨ ﴾[ النحل ] ليجعل في القرآن رصيدا لكل ما يستجد من وسائل المواصلات والانتقال إلى يوم القيامة.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون٣٦ ﴾ [ يس ] فكل شيء في الوجود قائم على الزوجين ذكورة وأنوثة حتى الجمادات التي لا نرى فيها حياة.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ آلم١ غلبت الروم٢ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ٣ في بضع سنين.. ٤ ﴾ [ الروم ]
فمن يستطيع أن يحكم على نتيجة معركة بعد سبع سنين ؟ وبعد ذلك يصدقه الله، وتنتصر الروم، وكانوا أهل كتاب على الفرس، وكانوا يعبدون النار ؛ لذلك قال سبحانه :﴿ ويومئذ يفرح المؤمنون ٤ بنصر الله.. ٥ ﴾ [ الروم ]
ولما تشوق الصحابة لأداء العمرة ونزل على رسول الله قوله تعالى :﴿ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا٢٧ ﴾ [ الفتح ]
فخرج بهم رسول الله حتى بلغوا الحديبية على بعد٢٢ كيلوا من مكة تعرضت لهم قريش، ومنعهم من العمرة، واشترطوا عليهم العودة في العام المقبل، وقد كتبوا وثيقة تعاهدوا فيها، فلما أملى رسول الله على الكاتب : هذا ما تعاهد عليه محمد رسول الله، قام عمرو بن سهيل فقال : لو كنا نعلم أنك رسول الله حاربناك ولا رددناك، إنما اكتب : هذا ما تعاهد عليه محمد بن عبد الله.
وعندها ثار صحابة رسول الله وغضبوا حتى راجعوا رسول الله فقال عمر : يا رسول الله ألسنا على الحق ؟ قال : بلى، قال : أليسوا على الباطل ؟ قال : بلى قال : فلم نعطي الدنية في ديننا، فقال الصديق : الزم غرزه يا عمر، يعني قف عند حدك – إنه رسول الله٢.
ولما أصر على بن أبي طالب أن يكتب محمد رسول الله نظر إليه رسول الله، وقال :( ( يا علي ستسام مثلها فتقبل ) )٣ ومرت الأيام والسنون، وقبض رسول الله، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فلما تولى علي الخلافة وحدثت الفتنة بينه وبين معاوية، وقامت بينهما حرب الجمل ثم صفين حتى اضطر علي لأن يكتب مع معاوية وثيقة لإنهاء القتال أملى علي : هذا ما تعاهد عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، فقالوا له : لو أنك أمير المؤمنين ما حاربناك، فاسترجع علي قول رسول الله :( ( ستسام مثلها فتقبل ) ).
إذن : خرق الله لرسوله حجاب الزمن الماضي، والزمن المستقبل، فماذا عن الزمن الحاضر ؟ وكيف يكون خرق الحجاب فيه ؟ هذا في مثل قوله تعالى :﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول.. ٨ ﴾ ( المجادلة )[ فأطلعه الله على ما في نفوس القوم ].
وفي غزوة مؤتة، وهي الغزوة الوحيدة التي لم يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك سميت غزوة – لأن الغزوة لا تقال إلا للمعركة التي حضرها رسول الله، أما في مؤتة فقد حضرها وشاهدها وهو في المدينة، حيث كشف الله حجاب الحاضر، فصار يخبر أصحابه في المدينة بما يجرى في مؤتة وكأنها رأى العين.
ويومها تولى القيادة جماعة من كبار الصحابة : زيد بن حارثة، وابن رواحة، وجعفر بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، فكان صلى الله عليه وسلم يقول : قتل فلان وسقطت الراية، فأخذها فلان وقتل وحملها فلان.. إلخ فلما عادوا من الغزوة أخبروا بنفس ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم٤.
.
٢ أخرجه أحمد في مسنده(٤/٣٢٥، ٣٣٠) ضمن حديث طويل في صلح الحديبية من حديث المسور بن مخرمة الزهري ومروان بن الحكم..
٣ وقد استشهد علي بن أبي طالب بهذا في محاجته للخوارج الذين خرجوا عليه وعتبوا عليه أنه كاتب معاوية فكتب علي بن أبي طالب مجردا من كونه أمير المؤمنين فقال: ((قد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشا فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال كيف تكتب؟ قال: اكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب فكتب، فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك، فكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشا)).(البداية والنهاية لابن كثير٧/٢٩١)..
٤ أخرجه البخاري في صحيحه (٤٢٦٢) من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب – وعيناه تذرفان – حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم)).
.
{ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم
فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك
ونكون من المؤمنين٤٧ }
المعنى : لولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم لعذبناهم فاحتجوا قائلين :﴿ ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين٤٧ ﴾[ القصص ] فلو عذبهم الله دون أن يرسل إليهم رسولا لكانت حجة لهم.
وسبق أن قلنا : إنه لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص ولا نص إلا بإعلام، لذلك تنشر الأحكام في الواقع الرسمية ليعرفها الجميع، فلتزمهم الحجة، ولا يعذر أحد بالجهل بالقانون، ولا يعفى من العقاب.
إذن : قطع الله عليهم الحجة، حين بعث إليهم رسول الله بمنهج الحق الذي يدلهم على الخير والثواب عليه في الجنة، ويحذرهم من الشر والعقاب عليه في النار ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.. ١٦٥ ﴾ [ النساء ]
إذن : الحكمة من إرسال الرسول إقامة الحجة على المرسل إليهم مجرد إقامة الحجة ؛ لأن قضايا الدين قضايا حق فطري يهتدي إليها العقل السليم بفطرته ؛ لذلك وقف المستشرقون طويلا عند شخصية عمر – رضي الله عنه -.
يقولون : تذكرون عمر في كل شيء : في العدل تقولون عمر، وفي القوة تقولون عمر، وفي وجود رسول الله تقولون نزل القرآن موافقا لكلام عمر، أليس عندكم إلا عمر ؟
وكأن الحق – تبارك وتعالى – يدلنا بشخصية عمر إلى أنه سبحانه لم يكلفنا بقضايا تنفر منها الفطرة، إنما بقضايا تقبلها فطرتنا السليمة، وتهتدي إليها بطبيعتها السوية الخالية من الهوى، وهذا عمر لم يكن نبيا ولا رسولا، لكن كان يصل إلى الحق بما فيه من فطرة إيمانية وعقلية سالمة من الأهواء، حتى وصلت به الفطرة السليمة إلى أن ينطق القرآن بنفس ما نطق به.
وكلمة ﴿ لولا.. ٤٧ ﴾ [ القصص ] تأتي بأحد معنيين : إن دخلت على الجملة الاسمية فهي حرف امتناع لوجود، كما لو قلت : لولا زيد عندك لزرتك، فامتنعت الزيارة لوجود زيد. ومن هذه قوله تعالى :﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة.. ٤٧ ﴾[ القصص ] والتقدير : لولا إصابتهم.
فإن دخلت ( لولا ) على الجملة الفعلية أفادت الحث والحض، كما تقول لولدك : لولا ذاكرت دروسك، وكذلك لولا الثانية في الآية ﴿ فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ٤٧ ﴾ [ القصص ]
{ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي
مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من
قبل قالوا سحران١ تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون٤٨ }
قوله تعالى :﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا.. ٤٨ ﴾[ القصص ]أي : الرسول الذي طلبوه ﴿ قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى.. ٤٨ ﴾[ القصص ] سبحان الله، إن كنت كذوبا فكن ذكورا، لقد طلبتم مجرد الرسول ولم تطلبوا معه معجزة معينة فقلتم :﴿ ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا.. ٤٧ ﴾[ القصص ] ولآن تطلبون آيات حسية كالتي أرسل بها موسى من قبل.
والمتأمل يجد أن الآيات قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانت آيات حسية كونية، مثل سفينة نوح عليه السلام، وناقة صالح عليه السلام، وعصا موسى عليه السلام، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله بالنسبة لسيدنا عيسى عليه السلام. وهذه كلها معجزات حسية تنتهي بانتهاء وقتها، فهي مناسبة للرسل المحدودى الزمن، والمحدودى المكان.
أما الرسول الذي أرسل للناس كافة في الزمان وفي المكان، فلا تناسبه الآية الحسية الوقتية ؛ لأنها ستكون معجزة لزمانها، وتظل العصور فيما بعد بلا معجزة ؛ لذلك جاء الحق – تبارك وتعالى – على يد محمد صلى الله عليه وسلم بمعجزة باقية خالدة محفوظة بحفظ الله إلى يوم القيامة.
وقلنا : إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كان الرسول يأتي بمعجزة تثبت صدق بلاغه عن الله، ومعه كتاب يحمل منهجه، فالكتاب غير المعجزة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فجاءت معجزته هي عين الكتاب والمنهج الذي أرسل به ليظل الدليل على صدقه باقيا مع المنهج الذي يطالب الناس به، وإلى أن تقوم الساعة نظل نقول : محمد رسول الله هذه معجزته.
أما إخوانه من الرسل السابقين فنقول فلان، وكانت معجزته كذا على سبيل الإخبار، والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.
وقد صدقنا بهذه المعجزات كلها ؛ لأن الله أخبرنا بها في القرآن الكريم، فللقرآن الذي جاء معجزة ومنهجا الفضل في إبقاء هذه المعجزات ؛ لأنه أخبر بها وخلد ذكرها.
ثم يرد الله عليهم :﴿ أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل.. ٤٨ ﴾ [ القصص ] ثم يحكي ما قالوا عن معجزة موسى، وعن معجزة محمد ﴿ قالوا سحران تظاهرا.. ٤٨ ﴾ [ القصص ] أي : أن موسى جاء بسحر، ومحمد جاء بسحر آخر، وقد ﴿ تظاهرا.. ٤٨ ﴾ [ القصص ] علينا يعني : تعاونا، وهي مأخوذة من الظهر كأنك قلت : أعطني ظهرك مع ظهري لنحمل معا، والظهر محل الحمل.
والرد على هذا الاتهام يسير، فمعجزة موسى وإن كانت من جنس السحر إلا أنها ليست سحرا، فالسحر يخيل لك أ الحبال حية تسعى، أما ما فعله موسى فكان قلب العصا إلى حية حقيقية تسعى وتبتلع سحرهم، لذلك ألقى السحرة ساجدين ؛ لأنهم رأوا معجزة ليست من جنس ما نبغوا فيه فآمنوا من فورهم.
أما الذين قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم : إنه ساحر فالرد عليهم بسيط : فلماذا لم يسحركم أنتم أيضا كما سحر المؤمنين به ؟
ثم يؤكدون كفرهم بكل من الرسولين : موسى ومحمد :﴿ وقالوا إنا بكل كافرون٤٨ ﴾[ القصص ]
أحدها: موسى ومحمد عليهما السلام. وهذا قول مشركي العرب. وبه قال ابن عباس والحسن.
الثاني: موسى وهارون. وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة. وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد.
الثالث: عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا قول اليهود اليوم. وبه قال قتادة. وقيل: أم لم يكفر جميع اليهود بما أوتي موسى في التوراة من ذكر المسيح، وذكر الإنجيل والقرآن، فرأوا موسى ومحمدا ساحرين والكتابين سحرين.
.
وهذا يعني منهجين : منهج حق جاء به محمد، ومنهج باطل يصرون هم عليه، وهذا التحدي من سيدنا رسول الله للكفار يعني أنه لا يوجد كتاب أهدى مما جاء به، لا عند القوم، ولا عند من سيأتي من بعدهم، وحين يقر لهم رسول الله بإمكانية وجود كتاب أهدى من كتابه يطمعهم في طلبه، فإذا طلبوه لم يجدوا كتابا أهدى منه، فيعرفوا هم الحقيقة التي لم ينطق بها رسول الله. وهل يستطيع بشر أن يضع للناس منهجا أهدى من منهج الله ؟
إذن : يقول لهم :﴿ إن كنتم صادقين٤٩ ﴾[ القصص ] وهو يعلم أنهم غير صادقين، لأن الله تعالى جعل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فلن يأتي رسل بعده، بحيث يأتي الرسول فتستدركوا عليه فيأتي آخر بكتاب جديد، وأنتم لن تستطيعوا أن تأتوا بكتاب من عند أنفسكم ؛ لأن كل مقنن سيأتي بالمنهج الذي يخدم مذهبه، ويرضى هواه.
لذلك نقول : ينبغي في المقنن ويشترط فيه :
أولا : أن يكون على علم واسع، بحيث لا يستدرك عليه فيما يعد، وهذه لا تتوفر في أحد من البشر، بدليل أن القوانين التي وضعت في الماضي لم تعد صالحة الآن ينادي الناس كثيرا بتعدليها، حيث طرأت عليهم مسائل جديدة غابت عن ذهن المشرع الأول، فلما جدت هذه المسألة أتبعت البشر بالتجربة، فطالبوا بتعديلها.
ثانيا : يشترط في المشرع ألا يكون له هوى فيما يشرع للناس، ونحن نرى الرأسماليين والشيوعيين وغيرهم كل يشرع بما يخدم مذهبه وطريقته في الحياة ؛ لذلك يجب ألا يسند التشريع للناس لأحد منهم ؛ لأنه لا يخلو من هوى.
ثالثا : يشترط فيه ألا يكون منتفعا بشيء مما يشرع.
وإذا اقتضت مسائل الحياة وتنظيماتها أن نقنن لها، فلا يقنن لنا من البشر إلا أصحاب العقل الناضج والفكر المستقيم، بحيث يتوفر لهم نضج التقنين، لكن إلى أن يوجد عندهم نضج التقنين أي منهج يسيرون عليه ؟
فإن حدثت فجوة في التشريع عاش الناس بلا قانون، وإلا فما الذي قنن لأول مقنن ؟ الذي قنن لأول مقنن هو الذي خلق أول من خلق.
{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم
ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن
الله لا يهدي القوم الظالمين٥٠ }
وهذا يعني أن الله تعالى لم يطاوعهم إلى ما أرادوا، فلم يأتهم بكتاب آخر، لكن كيف كان سيأتيهم هذا الكتاب ؟ يجيب الحق – تبارك وتعالى – على هذا السؤال بقوله تعالى :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم٣١ ﴾ [ الزخرف ]
إذن : الكلام عندهم ليس في الكتاب، إنما فيمن أنزل عليه الكتاب، وهذا معنى :﴿ فاعلم أنما يتبعون أهواءهم.. ٥٠ ﴾[ القصص ]
ثم يقول سبحانه :﴿ ومن أضل.. ٥٠ ﴾[ القصص ] يعني لا أضل ﴿ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.. ٥٠ ﴾ [ القصص ] أي : اتبع هوى نفسه، أما إن وافق هواه هوى المشرع، فهذا أمر محمود أوضحه رسول الله في الحديث الشريف :( ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) )١.
فنحن في هذه الحالة لا نتبع الهوى إنما نتبع الشرع ؛ لذلك يقول أحد الصالحين الذين أفنوا عمرهم في الطاعة والعبادة : اللهم إني أخشى ألا تثيبني على طاعتي ؛ لأنك أمرتنا أن نحارب شهوات أنفسنا، وقد أصبحت أحب الطاعة حتى صارت شهوة عندي.
وأضل الضلال أن يتبع الإنسان هواه ؛ لأن الأهواء متضاربة في الخلق تضارب الغايات، لذلك المتقابلات في الأحداث موجودة في الكون.
وقد عبر المتنبي٢ عن هذا التضارب، فقال :
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه***حريصا عليه مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى***وحب الشجاع النفس أورده الحربا
فنحن جميعا نحب الحياة ونحرص عليها، لكن تختلف وسائلنا، فالجبان لحبه للحياة يهرب من الحرب، والشجاع يلقي بنفسه في معمعتها مع أنه محب للحياة، لكنه محب لحياة أخرى أبقى، هي حياة الشهيد.
وآخر يقول :
كل من في الوجود يطلب صيدا***غير أن الشباك مختلفات
فالرجل الذي يتصدق بما معه رغم حاجته إليه، لكنه رأى من هو أحوج منه، وفيه قال تعالى :﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. ٩ ﴾ [ الحشر ]
نقول : هذا آثر الفقير على نفسه، لكنه من ناحية أخرى يبغي الأجر ويطمع في عشرة أمثال ما أنفق، بل يطمع في الجنة، إذن : المسألة فيها نفعية، فالدين عند المحققين أنانية، لكنها أنانية رفيعة راقية، ليست أنانية حمقاء، الذين يرتقى بصاحبه، ويجعله إيجابيا نافعا للآخرين، ولا عليه بعد ذلك أن يطلب النفع لنفسه.
فالشرع حين يقول لك : لا تسرق. وحين يأمرك بغض بصرك، وغير ذلك من أوامر الشرع، فإنما يقيد حريتك وأنت واحد، لكن يقيد من أجلك حريات الآخرين جميعا، فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك، فإذا نظرت إلى ما أخذ منك باتباعك للمنهج الإلهي فلا تنس ما أعطاك.
لذلك حين نتأمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج داءات النفوس حينما أتاه شاب من الأعراب الذين آمنوا، يشتكي إليه ضعفه أمام النساء، وقلة صبره على هذه الشهوة، حتى قال له : يا رسول الله ائذن لي في الزنا، ومع ذلك لم ينهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أعلم أنه أمام مريض يحتاج إلى من يعالجه، ويستل من نفسه هذه الثورة الجامحة، خاصة وقد صارح رسول الله بما يعاني فكان صادقا مع نفسه لم يدلس عليها.
لذلك أدناه رسول الله، وقال له : يا أخا العرب، أتحب ذلك لأمك ؟ أتحب ذلك لزوجتك ؟ أتحب ذلك لأختك ؟ أتحب ذلك لابنتك ؟ والشاب في كل هذا يقول : لا يارسول الله جعلت فداك.
عندها قال صلى الله عليه وسلم :( ( كذلك الناس يا أخا العرب لا يحبون ذلك لأمهاتهم ولا لزوجاتهم ولا لأخواتهم ولا لبناتهم ) )٣.
فانصرف الشاب وهو يقول : والله ما شيء أبغض إلي من الزنا بعدما سمعت من رسول الله، وكلما همت بي شهوة ذكرت قول رسول الله في أمي، وزوجتي، وأختي، وابنتي.
فالذي يجرىء الناس على المعصية والولوع بها عدم استحضار العقوبة وعدم النظر في العواقب، وكذلك يزهدون في الطاعة لعدم استحضار الثواب عليها.
وسبق أن قلنا لطلاب الجامعة : هبوا أن فتى عنده شره جنسي، فهو شره منطلق يريد أن يقضي شهوته في الحرام، ونريد له أن يتوب فقلنا له : سنوفر لك ما تريد على أن تلقي بنفسك في هذا ( الفرن ) بعد أن تنهى ليلتك كما تحب، ماذا يصنع ؟
ثم يقول تعالى :﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين٥٠ ﴾[ القصص ] وفي مواضع أخرى :﴿ لا يهدي القوم الفاسقين١٠٨ ﴾[ المائدة ]، ﴿ لا يهدي القوم الكافرين٢٦٤ ﴾ [ البقرة ]، وكلها دلت على أن الله لا يصنع عدم الهداية لأحد إلا بسبق شيء منه، والمراد بالهداية هنا – أي : هداية الإيمان والتقوى – وإلا فقد هدى الله الجميع هداية الدلالة والإرشاد فلم يأخذ بها هؤلاء فحرموا هداية الإيمان.
٢ أبو الطيب المتنبي هو: أحمد بن الحسين الكندي، الشاعر الحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي، له الأمثال السائرة والحكم البالغة، ولد بالكوفة عام ٣٠٣ هـ في محلة تسمى ((كندة)) ونشأ بالشام، تنبأ في بادية السماوة، وقتل عام ٣٥٤ هـ على يد جماعة خرجوا عليه بالطريق.[الأعلام للزركلي ١/١١٥].
.
٣ عن أبي أمامة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فهم من كان قرب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناولوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحب أن يفعل هذا بأختك؟ قال: لا، قال: فابنتك؟ قال: لا. فلم يزل يقول فبكذا فبكذا، كل ذلك يقول: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاكره ما كره الله وأحب لأخيك ما تحب لنفسك. أورده المتقي الهندي في منتخب الكنز (٢/٣٩٧) وعزاه لابن جرير الطبري..
﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون٥١ ﴾
كلمة ﴿ وصلنا.. ٥١ ﴾ [ القصص ] تشعر بأشياء، انفصل بعضها عن بعض، ونريد أن نوصلها، فقوله تعالى﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ٥١ ﴾ [ القصص ] أي : وصلنا لهم الرسالات، فكلما انقضى عهد رسول وكفر الناس أتاهم الله برسالة أخرى ليظل الخلق متصلين بهدى الخالق وبمنهجه، أو : أن الأمر خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى وصلنا له الآيات، فكلما نزل عليه نجم من القرآن وصلنا بنجم آخر حسب الأحداث.
لذلك كانت هذه المسألة من الشبهات التي أثارها خصوم رسول الله، حين قالوا كما حكى عنهم القرآن ﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة.. ٣٢ ﴾ [ الفرقان ] فرد عليهم القرآن ليبين لهم حكمة نزوله منجما :﴿ كذلك.. ٣٢ ﴾ [ الفرقان ] أي : أنزلناه كذلك منجما ﴿ لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا٣٢ ﴾ [ الفرقان ]
فلو نزل القرآن جملة واحدة لكان التثبيت لرسول الله مرة واحدة، وهو محتاج إلى تثبيت مستمر مع الأحداث التي سيتعرض لها، فيوصل الله له الآيات ليظل على ذكر من سماع كلام ربه كلما اشتدت به الأحداث، فيأتيه النجم من القرآن ليسليه، ويسري عنه ما يلاقي من خصومه.
وحكمة أخرى في قوله :﴿ ورتلناه ترتيلا٣٢ ﴾[ الفرقان ] فكلما نزل قسط من القرآن سهل عليهم حفظه وترتيبه والعمل به، كما أن المؤمنين المأمورين بهذا المنهج ستسجد عليهم قضايا، وسوف يسألون فيها رسول الله، فكيف سيكون الجواب عليها إن نزل القرآن جملة واحدة ؟
لابد أن يتأخر الجواب إلى أن يطرأ السؤال ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا٣٣ ﴾ [ الفرقان ]
وقد ورد الفعل يسألونك في القرآن عدة مرات في سور شتى، فكيف تتأتى لنا الإجابة لو جاء القرآن كما تقولون جملة واحدة، ثم سبحان الله هل أطقتموه منجما حتى تطلبوه جملة واحدة ؟
ثم تختم الآية بحكمة أخرى :﴿ لعلهم يتذكرون٥١ ﴾ [ القصص ] فكلما نزل نجم من القرآن ذكرهم بما غفلوا عنه من منهج الله.
﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون٥٢ ﴾
كأن الحق – تبارك وتعالى – يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : سأجعل خصومك من أهل الكتاب هم الذين يشهدون بصدقك ؛ لأنهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم، وما جاء في كتابك ذكر في كتبهم وذكرت صورتك وأوصافك عندهم.
لذلك تجد آيات كثيرة من كتاب الله تعول على أهل الكتاب في معرفة الحق الذي جاء به القرآن، يقول تعالى :﴿ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب٤٣ ﴾ [ الرعد ]
فهم أيضا شهداء على صدق رسول الله بما عندهم من الكتب السابقة فاسألوهم.
ويقول تعالى :﴿ بل تؤثرون الحياة الدنيا١٦ والآخرة خير وأبقى ١٧ إن هذا لفي الصحف الأولى ١٨ صحف إبراهيم وموسى١٩ ﴾ [ الأعلى ]
ويقول الحق سبحانه :﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله.. ١٩٩ ﴾ [ آل عمران ]
وإلا، فلماذا أسلم عبد الله بن سلام وغيره من علماء اليهود ؟
إذن : أهل الكتاب الصادقون مع أنفسهم ومع كتبهم لابد أن يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما الذين لم يؤمنوا فحجبتهم السلطة الزمنية والحرص على السيادة التي كانت لهم قبل الإسلام، سيادة في العلم، وفي الحرب، وفي الثروة.
وكان هؤلاء عبد الله بن أبي، وكان أهل المدينة يستعدون لتنصيبه ملكا عليهم، فلما هاجر سيدنا رسول الله إليها أفسد عليهم ما يريدون، ونزع منهم هذه السيادة، والسلطة الزمنية حينما تتدخل تعني أن يشترك هوى الناس فيستخدمون مرادات الله لخدمة أهوائهم، لا لخدمة مرادات الله.
{ وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا إنه الحق من ربنا
إنا كنا من قبله مسلمين٥٣ }
هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب إذا يتلى عليهم القرآن قالوا : آمنا به، وشهدوا له أنه الحق من عند الله، وأنهم لم يزدادوا بسماع آياته إيمانا، فهم كانوا من قبله مسلمين، فقد آمنوا أولا بكتبهم، وآمنوا كذلك بالقرآن.
.
هنا إذا كان الدين الأول لم يتبدل، فإذا كان الدين الأول قد تبدل، فالمسألة واضحة ؛ لأن التبديل يحدث فجوة عند من يريد دينا ﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة.. ١٥٧ ﴾ [ الأعراف ]
آمنوا به ؛ لأنهم وجدوا نعته، ووجدوا العقائد التي لا تتغير موجودة في كتابة، وهو أمي لم يعرف شيئا من هذا، فأخذوا من أميته دليلا على صدقه.
فقوله تعالى ﴿ أولئك.. ٥٤ ﴾ [ القصص ]أي : أهل الكتاب الذين يؤمنون بالقرآن وهم خاشعون لله، والذين سبق وصفهم ﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا.. ٥٤ ﴾ [ القصص ] أجر لإيمانهم برسلهم، وأجر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
لذلك جاء في الحديث الشريف :( ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وأدى حق أوليائه، ورجل عنده أمة – جارية – فأدبها فأحسن تأديبها، فأعتقها بعد ذلك، ثم تزوجها ) )١.
وهؤلاء الذين آمنوا برسلهم، ثم آمنوا برسول الله استحقوا هذه المنزلة، ونالوا هذين الأجرين لأنهم تعرضوا للإيذاء ممن لم يؤمن في الإيمان الأول، ثم تعرضوا للإيذاء في الإيمان الثاني، فصبروا على الإيذاءين، هذه هي حيثية ﴿ يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا.. ٥٤ ﴾ [ القصص ]
وكما أن الله تعالى يؤتي أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد أجرهم مرتين، كذلك يؤتي بعض المسلمين أجرهم مرتين، ومنهم- كما بين سيدنا رسول الله :( ( عبد مملوك أدى حق الله، وأدى حق أوليائه، ورجل عنده أمة... ) ).
ولا يحرم هذا الأجر الدين الذي باشر الإسلام، وأتى قبله، وهو المسيحية، فلهم ذلك أيضا ؛ لذلك يقول تعالى :
﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.. ٢٥ ﴾ [ الحديد ]
وأهم هذه المنافع ﴿ وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب.. ٢٥ ﴾[ الحديد ] وذكر الحديد، لأن منه سيصنع سلاح الحرب.
إذن : أنزل الله القرآن لمهمة، وأنزل الحديد لمهمة أخرى ؛ لذلك يقول الشاعر :
فما هو إلا الوحي أو حد مرهف***يقيم ظباه٢ أخدعى٣ كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل وذاك دواء الداء من كل جاهل
ولي أنا شخصيا ذكريات ومواقف مع هذه الآية ﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا.. ٥٤ ﴾[ القصص ] وقد كنا في بلد بها بعض من إخواننا المسيحين، وكان من بينهم رجل ذو عقل وفكر، كان دائما يواسي المسلمين، ويحضر مآتمهم ويستمع للقرآن، وكانت تعلق بذهنه بعض الآيات، فجاءني مرة يقول : سمعت المقرىء يقرأ :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين١٠٧ ﴾ [ الأنبياء ]
فألسنا من العالمين ؟ قلت له : نعم أرسل محمد رحمة للعالمين جميعا، فمن آمن به نالته رحمته، ومن لم يؤمن به حرم منها، ومع ذلك لو نظرت في القرآن نظرة إمعان وتبصر تجد أنه رحم غير المؤمن، قال : كيف ؟ فقرأت له قوله تعالى :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس.. ١٠٥ ﴾[ النساء ] ولم يقل بين المؤمنين ﴿ بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ ﴾ [ النساء ]
فمن رحمة الرسول بغير المؤمنين أن ينصف المظلوم منهم، وأن يرد عليه حقه، ثم ﴿ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما١٠٦ ﴾ [ النساء ] لأن الله لا يحب الخوان الأثيم ولو كان مسلما.
ثم ذكرت له سبب نزول هذه الآية٤ وهي قصة الدرع الذي أودعه اليهودي زيد بن السمين أمانة عند طمعة بن أبيرق المسلم، وكان الدرع قد سرق من قتادة بن النعمان، فلما افتقده قتادة ذهب يبحث عنه، وكان قد وضعه في كيس من الدقيق، فتتبع أثر الدقيق حتى ذهب إلى بيت زيد بن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته، وأذاع أمره بين الناس، فقص اليهودي ما كان من أمر طمعة بن أبيرق، وأنه أودع الدرع عنده على سبيل الأمانة ؛ لأنه يخشى عليه أن يسرق من بيته.
وهنا أحب المسلمون تبرئة صاحبهم ؛ لأنه حديث عهد بإسلام، وكيف ستكون صورتهم لو شاع بين الناس أن أحدهم يسرق، ومالوا إلى إدانة اليهود، وفعلا عرضوا وجهة نظرهم هذه على رسول الله ليرى فيه حلا يخرجه من هذا المأزق، مع أنهم لا يستبعدون أن يسرق ابن أبيرق٥.
وجلس رسول الله يفكر في هذا الأمر، لكن سرعان ما نزل عليه الوحي، فيقول له : هذه المسألة لا تحتاج إلى تفكير ولا بحث :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ ﴾ [ النساء ]
فأدانت الآية ابن أبيرق، ودلت على أن هذه ليست الحادثة الأولى في حقه، ووصفته بأنه خوان أي : كثير الخيانة وبرأت اليهودي، وصححت وجهة نظر المسلمين الذين يخافون من فضيحة المسلم بالسرقة، وغفلوا عن الأثر السيء لو قلبوا الحقائق، وأدانوا اليهودي.
فالآية وإن أدانت المسلم، إلا أنها رفعت شأن الإسلام في نظر الجميع : المسلم واليهودي وكل من عاصر هذه القصة بل وكل من قرأ هذه الآية، ولو انحاز رسول الله وتعصب للمسلم لاهتزت صورة الإسلام في نظر الجميع. ولو حدث هذا ماذا سيكون موقف اليهود الذين يراودهم الإسلام، وقد أسلموا فعلا بعد ما حدث ؟
وما أشبه هذه المسألة بشاهد الزور الذي يسقط أول ما يسقط من نظر صاحبه الذي شهد لصالحه، حتى قالوا : من جعلك موضعا للنقيصة فقد سقطت من نظره، وإن أعنته على أمره، فشاهد الزور يرتفع رأسك على الخصم بشهادته، وتطأ قدمك على كرامته.
وقوله تعالى :﴿ ويدرءون بالحسنة السيئة.. ٥٤ ﴾[ القصص ] هذه أيضا من خصالهم أن يدفعوا السيئة بالحسنة، فمن صفاتهم العفو والصفح كما قال تعالى :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور٤٣ ﴾[ الشورى ] ﴿ ومما رزقناهم ينفقون٥٤ ﴾[ القصص ]النفقة الواجبة على نفسه وعلى آله، والنفقة الواجبة للفقراء وهي الزكاة، ثم نفقة المورءات للمساكين وأهل الخصاصة.
.
٢ الظبة: حد السيف والسنان والنصل والخنجر وما إلى ذلك.[لسان العرب – مادة: ظبا]..
٣ الأخدعان: عرقان في جانبي العنق قد خفيا وبطنا. وقال اللحياني: هما عرقان في الرقبة. [لسان العرب – مادة: خدع]..
٤ أورده الواحدي في أسباب النزول (ص١٠٣) – طبعة المكتبة الثقافية بيروت..
٥ قال ابن حجر العسقلاني في كتاب((الإصابة في تمييز الصحابة)) (٣/٢٨٥) (ترجمة ٤٢٣٨): ((ذكره أبو إسحق المستلمي في الصحابة وقال: شهد المشاهد كلها إلا بدرا.. وقد تكلم في إيمان طعمة))..
ولذلك كان من صفات عباد الرحمن :﴿ وإذا مروا باللغو مروا كراما ٧٢ ﴾[ الفرقان ] أي : لا يلتفتون إليه.
وسبب نزول هذه الآية١ : لما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسل النجاشي وكانوا جماعة من القساوسة، فلما جلسوا أسمعهم سورة ( يس )، فتأثروا بها حتى بكوا جميعا، ثم آمنوا برسول الله، ولما انصرفوا تعرض لهم أبو جهل ونهرهم وقال : خيبكم الله من ركب- وهم الجماعة يأتون في مهمة – أرسلكم من خلفي- يعني : النجاشي – لتعلموا له أخبار الرجل، فسمعتموه فبكيتم وأسلمتم، والله ما رأينا ركبا أحمق منكم، فما كان منهم إلا أعرضوا عنه.
هذا معنى قول الحق سبحانه :﴿ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.. ٥٥ ﴾ [ القصص ]
وهؤلاء مروا باللغو مرور الكرام، وأعرضوا عنه، فلم يلتفتوا إليه، وزادوا على ذلك أنهم لم يسكتوا على اللغو إنما قالوا :﴿ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين٥٥ ﴾[ القصص ] لنا أعمالنا الخيرة التي يجب أن نقبل عليها، ولكم أعمالكم الباطلة التي ينبغي أن تترك، فكل منا له شأن يشغله.
﴿ سلام عليكم.. ٥٥ ﴾[ القصص ] والسلام إما سلام تحية كما هو شائع بيننا، وإما سلام للمتاركة كما لو دخلت مع صاحبك في جدل، فلما رأيت أنه سيطول وربما تعديت عليه فتقول له تاركا : سلام عليكم. تعني : إنني ليس لدي ما أقوله لمفارقتك إلا هذه الكلمة.
ومن ذلك ما دار بين الخليل إبراهيم – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – وبين عمه، فبعد أن ناقشه ولم يصل معه إلى نتيجة قال له :﴿ سلام عليك سأستغفر لك ربي.. ٤٧ ﴾ [ مريم ]
هذا الخطاب لسيدنا رسول الله خاص بدعوته لعمه أبي طالب الذي ظل على دين قومه ؛ ولكنه كان يحمي رسول الله حماية عصبية قربى وأهل ؛ لا محبة في الإسلام. ولله تعالى حكمة في أن يظل أبو طالب على الكفر ؛ لأنه بذلك كسب قريشا ونال احترامهم ؛ حيث أعجبهم عدم إيمانه بمحمد وعدم مجاملته له، وأعجبهم أن يظل على دين الآباء، فاحترموا حمايته لابن أخيه. وهذا منع عن رسول الله إيذاءهم، وحمى الدعوة من كثير من الاعتداءات عليه. لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يرد له هذا الجميل. ورد رسول الله للجميل لا يكون بعرض من الدنيا ؛ إنما بشيء باق خالد. فلما حضرت أبا طالب الوفاة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ( يا عم ؛ قل لا إله إلا الله ؛ كلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة ) ). فقال : يا ابن أخي ؛ لولا أن قريشا تعيرني بهذه الواقعة، ويقولون ما آمن إلا جزعا من الموت لأقررت عينك بها٢.
لكن يروى أنه بعدما انتقل أبو طالب جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : يا محمد ؛ إن الكلمة التي طلبت من عمك أن يقولها قالها قبل أن يموت ؛ وأنا أشهد بها.
ونلاحظ هنا دقة الأداء من العباس، حيث لم يقل : إن هذه الكلمة لا إله إلا الله، بل سماها ( الكلمة ) لماذا ؟ لأنه لم يكن قد أسلم بعد.
وسبق أن تكلمنا في معنى الهداية ﴿ إنك لا تهدي من أحببت.. ٥٦ ﴾[ القصص ] وقلنا : إنها تأتي بأحد معنيين : بمعنى الإرشاد والدلالة، وبمعنى المعونة لمن يؤمن بالدلالة ؛ ومن ذلك قوله تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم١٧ ﴾[ محمد ] أي : سمعوا الدلالة وأطاعوها فزادهم الله هداية أخرى ؛ هي هداية الإيمان والمعونة.
يقول تعالى في هذه المسألة :﴿ وأما ثمود فهديناهم١٧ ﴾ [ فصلت ] يعني : دللناهم﴿ فاستحبوا العمى على الهدى١٧ ﴾[ فصلت ] ؛ لذلك حرموا هداية المعونة.
إذن : الهداية المنفية عن سيدنا رسول الله ﴿ إنك لا تهدي من أحببت.. ٥٦ ﴾ [ القصص ] هي هداية المعونة والتوفيق للإيمان ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هدى الجميع هداية الدلالة والإرشاد ؛ وكان مما قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم١٠ ﴾ [ الصف ]. فهداية الدلالة صدرت أولا عن الله تعالى، ثم بالبلاغ من رسوله صلى الله عليه وسلم ثانيا.
وقاله ابن عباس (أخرجه ابن مردويه)، وابن عمر (أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود في القدر)، وقتادة (أخرجه عبد بن حميد) أورد كل هذه الأقوال السيوطي في الدر المنثور (٦/٤٢٩)..
٢ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٥) كتاب الإيمان، والبيهقي في دلائل النبوة (٢/٣٤٤)، والواحدي في ((أسباب النزول)) ص١٩٤ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
{ وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم
نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا
من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون٥٧ }
وهذه المقولة ﴿ إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا.. ٥٧ ﴾[ القصص ] قالها الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، فقد ذهب إلى سيدنا رسول الله، وقال : إننا نعلم أنك جئت بالحق، ولكن نخاف إن آمنا بك واتبعنا هواك أن نتخطف من أرضنا، ولابد أنه كان يتكلم بلسان قومه الذين ائتمروا على هذا القول.
والخطف : هو الأخذ بشدة وسرعة.
إذن : فهم يقرون للرسول بأنه جاء بالحق، وأنه على الهدى، لكن علة امتناعهم أن يتخطفوا، وكان عليهم أن يقارنوا بعقولهم بين أن يكونوا مع رسول الله على الحق وعلى الهدى ويتخطفوا، وبين أن يظلوا على كفرهم.
فقصارى ما يصيبهم إن اتبعوا رسول الله أن يتخطفهم الناس في أموالهم أو في أنفسهم – على فرض أن هذا صحيح- قصارى ما يصيبهم خسارة عرض فإن من الدنيا لو استمر لك لتمتعت به مدة بقائك فيها، وهذا الخير الذي سيفوتك من الدنيا محدود على مقتضى قوة البشر، ولا يضيرك هذا إن كنت من أهل الآخرة حيث سيذهب إلى الخير باق دائم، خير يناسب قدرة المنعم سبحانه.
أما إن ظلوا على كفرهم، فمتاع قليل في الدنيا الفانية، ولا نصيب لهم في الآخرة الباقية. إذن : فأي الطريق أهدى ؟ إن المقارنة العقلية ترجع طريق الهدى واتباع الحق الذي جاء به رسول الله، هذه واحدة.
ثم من قال إنكم إن اتبعتم الهدى مع رسول الله تتخطفوا وتضطهدوا ؟ لذلك يرد الله عليهم : قل لهم يا محمد : كذبتم، فلن يتخطفكم أحد بسبب إسلامكم :﴿ أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون٥٧ ﴾ [ القصص ]
فقد أنعم الله عليكم وأنتم كافرون مشركون به، تعبدون الأصنام في جاهلية، ومكن لكم حياة آمنة في رحاب بيته الحرام، ووفر لكم رغد العيش وأنتم بواد غير ذي زرع حيث يجبى إليه الثمرات من كل مكان، فالذي صنع معكم هذا الصنيع أيترككم ويتخلى عنكم بعد أن آمنتم به، واهتديتم إلى الحق ؟ كيف يكون منكم هذا القياس ؟
ومعنى :﴿ أو لم نمكن لهم.. ٥٧ ﴾[ القصص ] استفهام للتقرير، فاسألهم وسوف يعترفون هم أن الله مكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء، فالحق سبحانه يريد أن يثبت هذه القضية بإقرارهم بها.
ومعنى ﴿ نمكن لهم.. ٥٧ ﴾[ القصص ] نجعلهم مكينين فيه، كما في قوله تعالى :﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض.. ٢١ ﴾[ يوسف ] والتمكين يدل على الثبات ؛ لأن ظرف المكان ثابت على خلاف ظرف الزمان.
وقال :﴿ حرما آمنا.. ٥٧ ﴾ [ القصص ]مع أن الأمن لمن في المكان، لكن أراد سبحانه أن يؤمن نفس المكان، فيكون كل ما فيه آمنا، حتى القاتل لا يقتض منه في الحرم، والحيوان لا يثار فيه ولا يصاد، والنبات لا يعضد حتى الحجر في هذا المكان آمن، ألا تراهم يرجمون حجرا في رمي الجمرات في حين يكرمون الحجر الأسود ويقبلونه.
وحينما نتأمل الحرم منذ أيام الخليل إبراهيم – عليه السلام – نجد أن له خطة، وأن الحق سبحانه يعده ليكون حرما آمنا، فلما جاءه إبراهيم قال :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم.. ٣٧ ﴾ [ إبراهيم ]
هذا يعني أن المكان ليس به من مقومات الحياة إلا الهواء، لأن نفي الزرع يعني عدم وجود الماء ؛ لذلك اعترضت السيدة هاجر على هذا المكان القفر، فلما علمت أنه اختيار الله لهم قالت : إذن لن يضيعنا٢.
وقد رأت بنفسها أن الله لم يضيعهم، فلما احتاجت الماء لترضع وليدها وسعت في طلبه بين الصفا والمروة سبعة أشواط على قدر ما أطاقت لم تجد الماء في سعيها، ولو أنها وجدته لكان سعيها سببا إنما أراد الله أن يصدقها في كلمتها، وأن يثبت لها أنه سبحانه لن يضيعهم من غير أسباب لتتأكيد أن كلمتها حق، ثم شاءت قدرة الله أن يخرج الماء من تحت قدم الوليد، وهو يضرب بقدمه الأرض، ويبكي من شدة الجوع والعطش، وانبجست زمزم.
ولما أسكن إبراهيم أهله في هذا المكان المقفر أراده لهم سكنا دائما، لا مجرد استراحة من عناء السفر ؛ لذلك قال :﴿ ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات.. ٣٧ ﴾ [ إبراهيم ]
وكأنه – عليه السلام – يريد أن يطمئن على إقامة أهله في هذا المكان، وأن يكون البيت مصلى لله، لا تنقطع فيه الصلاة، وهذا هو الفرق بين بيت الله باختيار الله وبيت باختيار عباد الله.
فالبيت الذي نبنيه لله تعالى قد يغلق حتى في أوقات الفروض، أما بيت الله الذي اتخذه لنفسه فلا يخلو من الطواف والصلاة في أي وقت من ليل أو نهار، ولا ينقطع منه الطواف إلا لصلاة مكتوبة، فإذا قضيت الصلاة رأيتهم يهرعون إلى الطواف.
وقد رأيت الحرم في إحدى السنوات وقد دهمه سيل جارف حتى ملأ ساحته، ودخل الماء الكعبة وغطى الحجر الأسود، فكان الناس يطوفون سباحة، ورأينا أناسا يغطسون عند الحجر ليقبلوه، وكأن الحق – سبحانه وتعالى – يريد أن يظل الطواف بيته لا ينقطع على أي حال.
كذلك نفهم من قوله تعالى ﴿ تهوي إليهم.. ٣٧ ﴾ [ إبراهيم ]
من الفعل هوى يهوي، يعني : سقط ؛ لأن الذي يسقط لا إرادة له في عدم السقوط، كذلك من يأتي بيت الله أو يجلب إليه الخيرات يجد دافعا يدفعه كأنه لا إرادة له.
كما نفهم منها معنى آخر، فكل تكاليف الحق سبحانه ربما تكاسل الناس في أدائها، فمنا من لا يصلي أو لا يزكي، إلا الحج حيث قال الله فيه :﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا.. ٢٧ ﴾[ الحج ] فمجرد أن تؤذن يأتوك.
لذلك نجد من غير القادرين على نفقات الحج من يجوع ويمسك على أهله ليوفر تكاليف الحج، فهو – إذن – الفريضة الوحيدة التي يتهافت عليها من لم تطلب منه.
ونلحظ أن إبراهيم – عليه السلام – دعا بالأمن للحرم مرتين : مرة في قوله :﴿ رب اجعل هذا بلدا آمنا.. ١٢٦ ﴾[ البقرة ]يعني : اجعل هذا المكان بلدا آمنا، كأي بلد آمن لا تقام إلا في مكان يؤمنون فيه كل مقومات الحياة، فأي بلد لا تبنى حتى من الكافر إلا إذال كان آمنا فيها، فالطلب الأول أن يتحول هذا المكان الخالي إلى بلد آمن، كما يأمن كل بلد حين ينشأ، وهذا أمن عام.
ثم يدعو مرة أخرى ﴿ رب اجعل هذا البلد آمنا.. ٣٥ ﴾[ إبراهيم ] بعد أن أصبحت مكة بلدا آمنا يطلب لها مزيدا من الأمن، وهذا أمن خاص، حيث جعلها بلدا حراما، يأمن فيها الإنسان والحيوان والنبات، بل والجماد.
وقد وقف البعض عند قوله تعالى :
﴿ ومن دخله كان آمنا.. ٩٧ ﴾ [ آل عمران ]
وقالوا : أين هذا الأمن، وقد حدث في الحرم الاعتداء والقتل وترويع الآمنين، كما حدث في أيام القرامطة لما دخلوا الحرم، وقتلوا الناس فيه، وأخذوا الحجر، وفي العصر الحديث نعرف حكاية جهيمان، وما حدث فيها من قتل في الحرم.
وهذه الآية :﴿ ومن دخله كان آمنا.. ٩٧ ﴾[ آل عمران ] جملة خبرية غرضها الأمر والحث، كأنه تعالى قال : أمنوا من دخل الحرم، وهذه ليست قضية كونية، إنما قضية شرعية، وفرق بيه القضيتين : الكونية لابد أن تحدث، أما الشرعية فأمر ينفذه البعض، ويخرج عليه البعض، فمن أطاع الأمر الشرعي لله وأراد أن يجعل أمر الله صادقا يؤمن أهل الحرم، ومن أراد أن يكذب ربه يهيج الناس ويروعهم فيه.
ومن الآيات التي كثيرا ما يسأل عنها في هذا الصدد قوله تعالى :﴿ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيتات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات.. ٢٦ ﴾[ النور ] يقولون : كثيرا ما يتزوج خبيث من طيبة، أو طيبة من خبيث، فالواقع لا يتفق مع الآية. نقول أيضا هنا : هذه قضية شرعية تحمل أمرا قد يطاع وقد يعصى، وليست قضية كونية لابد أن تأتي كما أخبر الله تعالى بها، ولا يتخلف مدولولها.
فالمعنى في الآية : إن زوجتم فزوجوا الخبيث للخبيثة، والطيب للطيبة ؛ ليتحقق التكافؤ بين الزوجين ويحدث بينهما الوفاق، حتى إن عير الخبيث زوجته كانت مثله تستطيع أن ترد عليه، لابد من وجود التكافؤ حتى في ( القباحة )، وإلا فكيف تفعل الطيبة مع الخبيث، أو الخبيث مع الطيبة ؟
إذن : فالآية وأمثالها قصية شرعية في صيغة الخبر، وإن كانت تعني الأمر، كما تقول عن الميت : رحمة الله بصيغة الماضي، وأنت لا تدري رحمه الله، أو لم يرحمه، إذن : لابد أن المعنى دعاء : فليرحمه الله، قتلها أنت بصيغة الماضي، رجاء أن تكون له الرحمة.
نعود إلى قوله تعالى ﴿ أو لم نمكن لهم حرما آمنا.. ٥٧ ﴾ [ القصص ]ونلحظ هذا التمكين وهذا الأمن في قصة الفيل، حيث جاء أبرهة ليهدم الكعبة، ويتقدم الجيش فيل ضخم يقال له محمود، فلما قالوا في أذنه ( ابرك محمود وارجع راشدا )٣يعني : انفد بجلدك ( فإنك ببلد الله الحرام ) فبرك الفيل واستجاب.
ثم جاءت معركة الطير الأبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول. هذا كله من الأمن الذي جعله الله لقريش سكان حرمه ؛ لتظل الكعبة مسكونة بهم، وما داموا هم سكان الحرم والناس تأتيهم من كل الأنحاء للحج كل عام، فسوف يظل لهم الأمن بين القبائل، ولا يجرؤ أحد على الاعتداء عليهم، أو التعرض لقوافلهم في رحلة الشتاء والصيف، وأي أمن، وأي مهابة بعد هذا ؟
ومع الحجيج يجلب الطعام وتجلب الأرزاق، وصدق الله العظيم :﴿ لإيلاف قريش١ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف٢ فليعبدوا ربه هذا البيت٣ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف٤ ﴾ [ قريش ]
وكيف بعد هذا الأمن والأمان يخاف من يؤمن بمحمد أن يتخطف من أرضه ؟ إنها مقولة لا مدلول لها.
.
٢ أخرجه البخاري في صحيحه (٣٣٦٤) من حديث ابن عباس من حديث طويل، وفيه أن إبراهيم جاء بهاجر وابنها إسماعيل – وهي ترضعه – حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه ثمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا)).
.
٣ أورده ابن هشام في السيرة النبوية (١/٥٢)، والذي قال للفيل: ابرك. هو نفيل بن حبيب الخثعمي. وفيه ((أنهم ضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوه في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن (المحجن: عصا معقفة الرأس) لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك)).
.
ومعنى :﴿ من قرية٥٨ ﴾ [ القصص ] من للعموم أي : من بداية ما يقال له قرية ﴿ بطرت معيشتها٥٨ ﴾[ القصص ] البطر : أن تنسى شكر المنعم على نعمه، أي : أنه سبحانه لم يرد ذكره على بالك وأنت تتقلب في نعمه، أو يكون البطر باستخدام النعمة في معصية المنعم عز وجل.
ومن البطر أن يتعالى المرء على النعمة، أو يستقلها ويراها أقل من مستواه، كالولد الذي تأتي له أمه مثلا بطبق العدس فيتبرم به، وربما لا يأكل، فتقول الأم كما نقول في العامية : أنت ( بتتبطر ) على نعمة ربنا ؟ كلمة في لغتنا العامية لكن لها أصل في الفحصي.
إذن : من البطر أن تتجبر، أو تتكبر، أو تتعالى على نعمة الله، فلا ترضى بها، وتطلب أعلى منها.
ومعنى ﴿ معيشتها٥٨ ﴾ [ القصص ]أي : أسباب معيشتها ﴿ فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين٥٨ ﴾[ القصص ] فما داموا قد بطروا نعمة الله فلا بد أن يسلبها من أيديهم، وإن سلبت نعم الله من بلد هلكوا، أو رحلوا عنها ﴿ إلا قليلا ٥٨ ﴾[ القصص ] هم الذين يقيمون بعد هلاك ديارهم.
﴿ وكنا نحن الوارثين٥٨ ﴾ [ القصص ] نرثهم لأنهم لم يتركوا من يرثهم، وإذا ترك مكان بلا خليفة يرثه آل ميراثه إلى الله تعالى.
وفي آية أخرى يعالج الحق سبحانه هذه القضية بصورة أوسع، يقول تعالى :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله.. ١١٢ ﴾ [ النحل ] يعني : بطرت بنعمه تعالى :﴿ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف.. ١١٢ ﴾ [ النحل ]
ومعنى الكفر بالله : ستر وجود الله، والستر يقتضي مستورا، فكأن الأصل أن الله تعالى موجود، لكن الكافر يستر هذا الوجود، وهكذا يكون الكفر نفسه دليلا على الإيمان، فالإيمان هو الأصل والكفر طارىء عليه.
ومثال ذلك قولنا : إن الباطل جندي من جنود الحق، فحين يستشري الباطل بذوق الناس مرارته، ويكتوون بناره، فيعودون إلى الحق وإلى الصواب، ويطلبون فيه المخرج حين تعضهم الأحداث.
وكذلك نقول بنفس المنطق : الألم أول جنود الشفاء ؛ لذلك نجد أن أخطر الأمراض هو المرض الذي يتلصص على المريض دون أن يشعره بأي ألم، فلا يدري به إلا وقد استفحل أمره، وتفاقم خطره وعز علاجه، لذلك نسميه – والعياذ بالله – المرض الخبيث.
ففي قوله تعالى :﴿ فكفرت بأنعم الله.. ١١٢ ﴾ [ النحل ]
دليل على وجود النعم، ومع ذلك كفروا بها أي : ستروها، إما بعدم البحث في أسبابها، والتاكسل عن استخراجها، أو ستروها عن المستحق لها وضنوا بها على العاجز الذي لا يستطيع الكسب ؛ لذلك يسلبهم الله هذه النعم ويحرمهم منها رغم قدرتهم.
وهناك أشياء لو ظلت موجودة لأعطت رتابة، ربما فهموا منها أن هذه الأشياء إنام تأتيهم تلقائيا بطيبعة الأشياء، وحين يسلب الله منهم نعمه ويقطع هذه الرتابة، فإنما ليفهموا أن الرتابة في التكليفات تضعف الحكمة من التكليف، كيف ؟
نقول : الحق – تبارك وتعالى – حرم علينا أشياء وأحل لنا أشياء، فمثلا حرم الله علينا الخمر حتى أصبحنا لا نشربها ولا حتى تخطر ببالنا، فأصبحت عادة رتيبة عندنا، والله تعالى يريد أن يديم على الإنسان تكليف العبادة، حتى لا يعتادها فيفعلها بالعادة، فيكسر هذه العادة مثلا في صوم رمضان.
ويحرم عليك ما كان حلالا لك طوال العام، وقد اعتدت عليه، فيأتي رمضان وتكليف الصيام ليحرم عليك الطعام الذي كنت تأكله بالأمس، ذلك لتظل حرارة العبادة موجودة تشوق العبد إليها، وتعوده الانضباط في أداء التكاليف.
ثم يذكر العقاب على الكفر بنعمة الله ﴿ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف.. ١١٢ ﴾[ النحل ] والجوع له مظهران : أن تطلبه البطن في أول الأمر، فإن زاد الجوع ضعفت الجوارح، وتألمت الأعضاء كلها، وذاقت ألم الجوع، والله تعالى يريد أن يرينا إحاطة هذا الألم، فشبهه باللباس الذي يحيط بالجسم كله، ويلفه من كل نواحيه.
{ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا
يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى
إلا وأهلها ظالمون٥٩ }
إذن : لابد أن نعلم بالمنهج، ويأتي رسول يقول : افعل كذا، ولا تفعل كذا، حتى إذا حل العذاب بالكافرين يكون بالعدل، وبعد إلزامهم الحجة، لا أن نترك الناس يذنبون، ثم نقول لهم : هذا حرام.
وسبق أن قلنا ما قاله القانون : لا عقوبة إلا بتحريم، ولا تجريم إلا بنص، ولا نص إلا بإعلام. وما كان الله ليهلك قرية ظلما، إنما عقوبة لهم على ما فعلوا.
والقرية لها تسلسل فنقول :( نجع ) وهو المكان الذي تسكنه أسرة واحدة، و( كفر ) لعدة أسر، ثم ( قرية ) ثم ( أم القرى ) وهي الحضر أو العاصمة، وقد نزل القرآن في أمة متبدية، تعيش على الترحال، وتقيم في الخيام تنتقل بها بين منابت الكلأ، فقالوا ( أم القرى ) للمكان الذي تجد به القرى، وتتوفر فيه مقومات الحياة ما لا يوجد في النجوع والكفور والقرى الصغير، كما يعيش الآن أهل الريف على قضاء حوائجهم من ( البندر )، كأن أم القرى لها حنان، يشمل صغار البلاد حولها.
{ وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها
وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون٦٠ }
معنى :﴿ من شيء.. ٦٠ ﴾[ القصص ]من أي شيء من مقومات الحياة، ومن كمالياتها ﴿ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها... ٦٠ ﴾ [ القصص ] فمهما بلغ من السمو، فإنه متاع عمره قليل، كما قال سبحانه :﴿ قل متاع الدنيا قليل٧٧ ﴾ [ النساء ]
لذلك طلبنا منكم ألا تنشغلوا بهذا المتاع، وألا تجعلوه غاية، لأن بقاءك فيها مظنون، ومتاعك فيها على قدرة نشاطك وحركتك.
وسبق أن قلنا : إن آفة النعيم في الدنيا أنه إما أن يتركك أو تتركه، وأن عمرك في الدنيا ليس هو عمر الدنيا، إنما مدة بقائك أنت فيها، ومهما بلغت من الدنيا فلا بد من الموت.
لذلك يدلنا ربنا – عز وجل – على حياة أخرى باقية متيقنة لا يفارق نعيمها ولا تفارقه.
﴿ وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون٦٠ ﴾ [ القصص ]
﴿ خير.. ٦٠ ﴾ [ القصص ] لأن النعيم فيها ليس على قدرة نشاطك، إنما على قدرة الله وعطائه وكرمه، ﴿ وأبقى.. ٦٠ ﴾[ القصص ] لأنه دائم لا ينقطع. فلو قارن العاقل بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة لاختار الآخرة.
لذلك، فإن الصحابي الذي حدثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد، وتيقن أنه ليس بينه وبين الجنة إلا ان يقتل في سبيل الله، وكان في يده تمرات يأكلها فألقاها١، ورأى مدة شعله بمضغها طويلة ؛ لأنها تحول بينه وبين هذه الغاية، ألقاها وأسرع إلى الجهاد لينال الشهادة. لماذا ؟ لأنه أجرى مقارنة بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة.
والحق – سبحانه وتعالى – حين يجري هذه المقارنة بين الكفار وبين المؤمنين يقول :﴿ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين.. ٥٢ ﴾[ التوبة ] إما أن ننتصر عليكم ونذلكم، ونأخذ خيراتكم، وإما ننال الشهادة فنذهب إلى خير مما تركنا ﴿ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا.. ٥٢ ﴾ [ التوبة ]
إذن : لا تتربصون بنا إلا خيرا، ولا نتربص بكم إلا شرا.
وفي موضع آخر قال سبحانه :﴿ بل تؤثرون الحياة الدنيا١٦ والآخرة خير وأبقى ١٧ ﴾[ الأعلى ] لذلك ذيل الآية هنا بقوله تعالى :﴿ أفلا تعقلون٦٠ ﴾[ القصص ] لأن العقل لو قارن بين الدنيا والآخرة لابد أن يختار الآخرة.
.
{ أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع
الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين٦١ }
تعدهذه الآية شرحا وتأكيدا لما قبلها، والوعد : بشارة بخير، وإذا بشرك مساو لك بخير أتى خيره على قدر إمكاناته، وربما حالت الأسباب دون الوفاء بوعده، فإن كان الوعد من الله جاء الوفاء على قدر إمكاناته تعالى في العطاء، ثم إن وعده تعالى لا يتخلف ﴿ ومن أوفى بعهده من الله.. ١١١ ﴾ [ التوبة ]
لذلك قال ﴿ وعدا حسنا فهو لاقيه.. ٦١ ﴾[ القصص ]أي : حتما ﴿ كمن متعناه متاع الحياة الدنيا.. ٦١ ﴾[ القصص ] وهو لا محالة زائل ﴿ ثم هو يوم القيامة من المحضرين٦١ ﴾[ القصص ]أي : للعذاب.
وهذه الكلمة ﴿ المحضرين٦١ ﴾[ القصص ] لا تستعمل في القرآن إلا للعذاب، وربما الذي وضع كلمة ( محضر ) قصد هذا المعنى ؛ لأن المحضر لا يأتي أبدا بخير.
ويقول تعالى في موضع آخر :﴿ ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ١٥٨ ﴾ [ الصافات ]
وقال تعالى :﴿ ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين٥٧ ﴾[ الصفات ]
.
والسؤال هنا للذين أشركوا، لا لمن أشرك بهم، وكلمة ﴿ ويوم.. ٦٢ ﴾[ القصص ] منصوبة على الظرفية، لابد أن نقدر لها فعلا يناسبها، فالتقدير : واذكر يوم يناديهم، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لمن يذكره رسول الله ؟ يذكره للكافرين بهذا اليوم يوم القيامة.
والآية تعطينا لقطة من لقطات هذا اليوم الذي هو يوم الواقعة التي لا واقعة بعدها، ويوم الحاقة أي الثابتة التي لا تزحزح عنها، ويوم الصاخة أي : التي تصخ الآذان التي انصرفت عنها في الدنيا، ويوم الطامة التي تطم، ويوم الدين، أي : الذي ينفع فيه الدين.
والحق سبحانه يذكر هذه اللقطة لأمرين :
الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عودي وأوذي وهزيء به وسخر منه، واجتمعت عليه كل وسائل النكال من خصومه فبيتوا له بمكر، وصنعوا له سحرا.. إلخ.
وحين تجد دعوة تقابل بهذه الشراسة، فاعلم أنها ما قوبلت هذه المقابلة إلا لأنها ستهدم فسادا ينتفع به قوم ترهبهم كلمة الإصلاح ؛ لأنها تصيبهم في مصالحهم وفي شهواتهم وفي جاههم وعنجهيتهم وطغيانهم، فطبيعي أن يقفوا في وجهها.
لذلك نجد كثيرا من الغربيين يعرفون عظمة الإسلام من شراسة عدواة خصومه، يقولون : لو لم يكن هذا الدين ضد فسادهم ما ائتمروا عليه، ولو كان أمرا هينا لتركوه للزمن يمحوه، لكنهم أيقنوا أنه الحق الذي سيذهب باطلهم، ويقضي على طغيانهم.
فالحق سبحانه يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذكر ذلك اليوم يذكره لنفسه، ويذكره لقومه ليعتبروا، فربما إذا سمعوا ما في هذا اليوم من القسوة والخزي والنكال ربما راجعوا أنفسهم فتابوا إلى الله.
إذن : ليس حظ الله تعالى من هذا العمل أن يرهبهم إنما ليحذرهم، لئلا يقع منهم الكفر الذي يوقفهم هذا الوقف، كما تبشع لولدك عاقبة الإهمال، وتحذره من الرسوب لينفر من أسبابه، ويبحث عن أسباب النجاح.
يقول تعالى :﴿ ويوم يناديهم.. ٦٢ ﴾[ القصص ]وقد ناداهم في الدنيا : يأيها الناس، يا بني آدم فصموا آذانهم، وأعرضوا عن نداء الله، واليوم يناديهم نداء لا يملكون أن يصموا آذانهم عنه ؛ لأنه﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار١٦ ﴾[ غافر ] فكأن الحق يذكرهم بهذا اليوم، لعلهم يرعوون، ولعلهم يرجعون.
الأمر الثاني : أن الآية جاءت تسلية لسيدنا رسول الله يقول له ربه : لا تيأس مما يصنعون معك، ولا يحزنك كيدهم وعنادهم ؛ لأنني سأصنع بهم كيت وكيت. وأنت تستطيع أن تدرك سر هذا الإيعاز النفسي في نفس المضطهد وفي نفس المظلوم حين يشكوا لك ولدك أن أخاه ضربه أو أهانه فتقول أنت لترضيه : انتظر سوف أفعل به كذا وكذا، فترى الولد ينبهر بهذه العقوبة المسموعة ويسعد بها، وكذلك حين يسمع رسول الله العقوبة التي تنال أعداءه على ما حدث منهم يسعد بها، وتسري عن نفسه ما يلاقي.
ومضمون النداء :﴿ أين شركائي الذين كنتم تزعمون٦٢ ﴾[ القصص ] فلم يقل شركائي ويسكت، إنما وصفهم ﴿ الذين كنتم تزعمون٦٢ ﴾ [ القصص ]لأنه سبحانه واحد لا شريك له، وهؤلاء شركاء في زعمهم فقط، والزعم كما يقولون : مطية الكذب ؛ لذلك لن يجدوا جوابا لهذا السؤال :﴿ أين شركائي الذين كنتم تزعمون٦٢ ﴾[ القصص ]
ولو كان أمامهم شركاء لقالوا : ها هم الذين أضلونا، فأذقهم يا رب العذاب ضعفين، لكنهم لم يجيبوا فهذا دليل على أنهم غير موجودين، لقد وقف هؤلاء المشركون حائرين، لا يدرون جوابا كما قال تعالى :﴿ فعميت عليهم الأنباء.. ٦٦ ﴾ [ القصص ]
{ قال الذين حق عليه القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم
كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون٦٣ }
والكلام هنا للشركاء الذين أضلوا المشركين وأغووهم، ومعنى ﴿ حق عليهم.. ٦٣ ﴾[ القصص ] أي : ثبت ووقع، فهو أمر لا محالة منه، ولم يعد هناك مجال لزحزحته عنهم، كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون٣١ ﴾ [ الصافات ]
وقال الحق سبحانه وتعالى :
﴿ ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون٧٥ ﴾ [ النمل ]
لكن، ما هو القول الذي وقع وثبت لهم وحق عليهم ؟ القول : أن كل واحد له مكان عندي في الجنة على فرض أنكم جميعا آمنتم، وكل واحد له مكان في النار على فرض أنكم جميعا كفرتم.
وماذا قالوا ؟ قالوا :﴿ ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغوايناهم كما غوينا.. ٦٣ ﴾[ القصص ] سبحان الله الآن تقولون ربنا وتعترفون بربوبيته تعالى، كما قال تعالى في شأن فرعون :﴿ الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين٩١ ﴾ [ يونس ]
الآن تعترفون بعد أن سلب منكم الاختيار، ولم تعد لكم إرادة حتى على جوارحكم وأبعاضكم، فيدك التي كنت تبطش بها، ورجلك التي كنت تسعى بها ولسانك.. كلها خرجت عن إرادتك وطوع أمرك ؛ لأنها الآن طوع لأمر الله ﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون٢٤ ﴾ [ النور ]
ومعنى ﴿ هؤلاء الذين أغوينا.. ٦٣ ﴾[ القصص ] أي : المشركين ﴿ أغويناهم كما غوينا.... ٦٣ ﴾( القصص )أي : لنكون سواء، هذه علة غوايتهم، أن يكونوا في الخسران سواء، وإلا فأهل الباطل يسعون جاهدين للإيقاع بأهل الحق ليشاركوهم باطلهم، وليكونوا أمثالهم.
وهذه المسألة تعطينا السيال النفسي لكل منحرف حين يرى ملتزما مستقيما، لا يشاركه فساده وانحرافه، فيعز عليه أن يكون في الهاوية وحده، ولماذا يمتاز عنه الآخرون ؟ واقرأ قوله تعالى :﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكنون سواء.. ٨٩ ﴾[ النساء ]
ألا ترى أهل الباطل والفساد والفجور يهزءون من أهل الحق ويسخرون منهم، ليزهدوهم في الخير والصلاح، وليغروهم بما هم فيه، حتى أصبح الإنسان الملتزم بدينه وشرع ربه لا يسلم من ألسنتهم، كما يقول تعالى :
﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون٢٩ وإذا مروا بهم يتغامزون٣٠ ﴾ [ المطففين ]
وليت الأمر ينتهي عند الغمز واللمز، إنما يتمادى هؤلاء، فيجعلون من سخريتهم بأهل الإيمان والطاعة مادة للمسامرة والتسلية ﴿ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين٣١ ﴾[ المطففين ] يعني : فرحين مسرورين بما نالوه من أهل الطاعة، مما يدل على أنهم جميعا تسعدهم هذه المسألة وترضي شيئا في نفوسهم المريضة الحاقدة.
لكن المؤمن من طبيعته يحب أن يكرم، وأن ينأى بنفسه عن مجاراة هؤلاء، لذلك يتولى ربه – عز وجل – الدفاع عنه يقول له : لا تحزن فسوف نقتص لك، ونسخر منهم، ونجعلهم أضحوكة في يوم باق لا ينتهي فيه عذابهم :
﴿ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ٣٤ على الأرائك ينظرون ٣٥ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ٣٦ ﴾ [ المطففين ]
وكأن الحق – تبارك وتعالى – يسترضي عباده المؤمنين : أيعجبكم ما آلوا إليه ؟ أقدرنا أن نجازيهم على ما اقترفوه في حقكم ؟ نعم يا رب، فسخرية الكفار من أهل الإيمان في دار الباطل الفانية انقلبت سخرية منهم في دار الحق الباقية، وهي سخرية دائمة لا نهاية لها.
إذن :﴿ أغويناهم كما غوينا.. ٦٣ ﴾[ القصص ] يعني : حتى نكون سواء، لا يكون أحدنا أحسن من الآخر، ومن هذا المنطلق أغوى إبليس آدم، لأنه لما طغى وطرد من رحمة الله، ومن الصفائية التي كان ينعم بها مع الملائكة. أراد أن يأخذ آدم بل وذريته إلى هذا المصير، فقد حز في نفسه أن يلاقي هذا المصير وحده، في حين ينعم آدم وذريته برحمة الله ورضوانه.
لذلك نجد إبليس – لعنه الله – لا يكتفي بأن تغوى ذريته ذرية آدم، إنما يطلب من الله أن ينظره إلى يوم البعث ليباشر بنفسه هذه الغواية، فهو ( المعلم ) الكبير، وكأنه يحذر أن إمكانات ذريته في الغواية قد لا ترضيه ؛ لذلك يتولى بنفسه هذه المهمة فيقول :﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم١٦ ﴾ [ الأعراف ]
والبعض يفهم قوله تعالى :﴿ قال أنظرني١ إلى يوم يبعثون١٤ قال إنك من المنظرين١٥ ﴾[ الأعراف ] أن الله تعالى أجاب إبليس إلى ما طلب، لكن ﴿ إنك من المنظرين١٥ ﴾[ الأعراف ] ليست إجابة، إنما تقرير لشيء حادث بالفعل قبل أن يطلب، فالمعنى أن سؤالك ليس له معنى ؛ لأنك من المنظرين فعلا، لماذا ؟ قالوا : لأن الله تعالى يريد أن يظل إبليس الذي أغوى آدم وأخرجه من الجنة باقيا أمام ذريته ليذكرهم دائما : هذا الذي أغوى أباكم آدم.
وقولهم :﴿ ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا.. ٦٣ ﴾[ القصص ] لنا وقفة مع ﴿ هؤلاء.. ٦٣ ﴾[ القصص ] وهي اسم إشارة للجمع بنوعيه، تقول : هؤلاء الرجال، وهؤلاء النساء، وهي عبارة عن : الهاء للتنبيه، وأولاء اسم إشارة، وكذلك في هذا، هذه، هذان، هاتان. فالهاء للتنبيه لتنبه السامع أنك ستتكلم ليعطيك سمعه، ويهتم بما تقول، فلا يفوته من كلامك شيء.
هذا حين تخاطب مثلك لأنه يحتاج إلى تنبيه، أما إذا خاطبت ربك – عز وجل – فمن سوء الأدب أن تستخدم في خطابه أداة التنبيه، كما استخدمها المشركون، فما داموا قد قالوا ﴿ ربنا.. ٦٣ ﴾[ القصص ] فليس من الأدب أن يقولوا ﴿ هؤلاء.. ٦٣ ﴾[ القصص ] أينبهون الله عز وجل ؟
لذلك نلحظ هذا الأدب في خطاب نبي الله موسى – عليه السلام – فيما حكاه عنه القرآن :﴿ وما أعجلك عن قومك يا موسى ٨٣ قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى٨٤ ﴾[ طه ] فقال ( أولاء ) بدون هاء التنبيه تأدبا مع ربه عز وجل.
ونلحظ أنك لا تجد خطابا من الكفار إلا باستخدام هؤلاء :﴿ ربنا هؤلاء أضلونا.. ٨٣ ﴾[ الأعراف ]﴿ ربنا هؤلاء شركاؤنا.. ٨٦ ﴾ [ النحل ]أما المؤمن فلا يليق به أبدا أن ينبه الله تعالى، بل ولا تصدر من مؤمن لمؤمن لأنه دائما منتبه.
ثم يقولون :﴿ تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون٦٣ ﴾[ القصص ] الآن ينكصون كما قالوا من قبل ﴿ ربنا.. ٦٣ ﴾[ القصص ] يقولون الآن ﴿ تبرأنا إليك.. ٦٣ ﴾[ القصص ] لكن هيهات تنفعهم هذه البراءة، لقد انتهى وقتا، ومضى زمن التكليف والاختيار، والآن وقت الحساب وسلب الإرادة والاختيار، وما أشبههم بفرعون حين قال الله له :﴿ الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين٩١ ﴾ [ يونس ]
وقولهم :﴿ ما كانوا إيانا يعبدون٦٣ ﴾[ القصص ] يقول الشركاء : ما كان معنا قوة قهر نحملكم بها على عبادتنا، ولا قوة سلطان أو حجة نقنعكم بها، إنما كنتم في انتظار إشارة منا، كما قال كبيرهم إبليس :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم... ٢٢ ﴾ [ إبراهيم ]
إذن : فهؤلاء المشركون كانوا يعبدون أنفسهم وذواتهم ؛ لأن الشركاء كانوا أصناما أو غيرها، وليس لهم منهج يتكلمون به، ويدعون الناس إلى عبادتهم به، وإلا فماذا قالت الأصنام أو الشمس أو النجوم لمن عبدها ؟ بم أمرتهم، وعم نهتهم ؟
إذن : هو إله بلا منهج وبلا تكاليف، وهذا ما يريده المشركون ؛ لأن الذي يتعب الناس في قضية الإيمان بالألوهية ما تقتضيه من تكاليف، وما تفرضه من أمر أو نهي يحول بين النفس البشرية وما تشتهي، ويوقفها عند حدود لا تتعداها.
إذن :﴿ ما كانوا إيانا يعبدون ٦٣ ﴾[ القصص ] بل يعبدون ذواتهم، ويعبدون شهواتهم ورغباتهم، وما أسهل أن يعبد الإنسان آلهة لا تلزمه بشيء، فيسير في حياته على هواه، وهذه هي التي روجت لعبادة هذه الآلهة.
لذلك فإن الحق سبحانه يريد أن يلزم الإنسان حجة أن نفسه هي الوسيلة الأولى لشهواته، وإلا فلو أن المسألة كلها وسوسة شيطان، فمن أغوى إبليس بالعصيان أولا على حد قول الشاعر :
*إبليس لما عصى من كان وسوسه ؟ *
إذن : فهي كبرياء النفس ورغباتها، وليس للشيطان إلا أن يلوح لها فتقع ؛ لذلك جاء في الحديث الشريف :( ( إذا أقبل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين ) )٢.
وما دامت الشياطين سلسلت، فليس لها حركة مع الإنس ؛ لأن الله تعالى يعلم منا أنا نعلق كل معاصينا على الشيطان، فكأنه سبحانه يقول : ها هي الشياطين صفدت وسلسلت، فمن أغواكم وزين لكم حال سلسلتها ؟ إذن : هي نفسك التي توسوس لك ؛ لذلك نقول : كل معصية تقع في رمضان ليس للشيطان فيها نصيب، إنما هي شهوة النفس.
وسبق أن بينا كيف نفرق بين المعصية متى تكون من الشيطان ؟ ومتى تكون شهوة نفس ؟ إن كانت المعصية توقفك عندها لا تتزحزح عنها إلى غيرها، فهي من الشيطان ؛ لأنه والعياذ بالله يريدك عاصيا على أي وجه، وبأي طريقة فينقلك إلى معصية أخرى يستطيع أن يوقعك فيها، على خلاف شهوة النفس، فهي تريد شيئا بذاته لا تريد غيره.
.
٢ أخرجه أحمد في مسنده (٢/٢٨١)، والنسائي في سننه (٤/١٢٨) من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشيطاين)).
.
{ وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجبوا
لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا مهتدون٦٤ }
وسبق أن ناداهم ﴿ أين شركائي الذين كنتم تزعمون ٦٢ ﴾ [ القصص ] أي : في زعمكم ؛ لأنه سبحانه ليس له شركاء، وهنا يقول لهم﴿ ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون٦٤ ﴾[ القصص ] ولم يقل شركائي، مع أنهم اتخذوهم شركاء لله.
فمعنى ﴿ شركاءكم.. ٦٤ ﴾[ القصص ] أفي دعوى الألوهية ؟ لا، لأنهم تابعون لهم، إذن : فما معنى ﴿ شركاءكم.. ٦٤ ﴾ [ القصص ] ؟ قالوا : الإضافة تأتي بمعان ثلاثة : إما بمعنى ( من ) مثل : أردب قمح أي : من قمح، أو بمعنى ( في ) مثل : مكر الليل أي : مكر في الليل، أو : بمعنى ( لام ) الملكية مثل : قلم زيد أي : قلم لزيد.
فالمعنى هنا﴿ شركاءكم.. ٦٤ ﴾[ القصص ] أي : من جنسكم أو فيكم يعني : لا يتميز عنكم بشيء، والإله لابد أن يكون من جنس أعلى، فإن كان من جنسكم، فهو مساو لكم، لا يصلح أن تتخذوه إلها.
ومعنى ﴿ ادعوا شركاءكم.. ٦٤ ﴾[ القصص ]يعني : نادوهم لينصروكم، ويشفعوا لكم، كما قلتم :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله.. ١٨ ﴾ [ يونس ]
وقلتم :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.. ٣ ﴾ [ الزمر ]
إذن : فنادوهم ليقربوكم من الله، وليشفعوا لكم، والذي يقوم بهذه المهمة لابد أن يكون له منزلة عند الله يضمنها، وهل يضمن هؤلاء الشركاء منزلة عند الله ؟ كيف وهم لا يضمنونها لأنفسهم ؟
﴿ فدعوهم.. ٦٤ ﴾ [ القصص ] يا شركاءنا، يا من قلتم لنا كذا وكذا أركونا ﴿ فلم يستجيبوا لهم.. ٦٤ ﴾[ القصص ] لأنهم مشغولون بأنفسهم ﴿ ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون٦٤ ﴾[ القصص ] يعني : لو كانوا يهتدون بهدي الله، وهدى رسوله، ويرون العذاب الذي أنذرهم به حقيقة وواقعا لا يتخلفون عنه لما حدث لهم هذا، ولما واجهوا هذه العاقبة.
أو : أنهم لما رأوا العذاب حقيقة في الآخرة تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين.
{ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ٦٥ فعميت
عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتسألون٦٦ }
قال هنا أيضا ﴿ يناديهم.. ٦٥ ﴾[ القصص ] فما الغرض من كل هذه النداءات ؟ إنها للتقريع وللتوبيخ وللسخرية منهم، وممن عبدوهم واتبعوهم من دون الله، ومضمون النداء :﴿ ماذا أجبتم المرسلين ٦٥ ﴾[ القصص ] والإجابة : موافقة المطلوب من الطالب، فماذا كانت إجابتكم لهم بعد أن آمنتم بإله، أأخذتم بما جاءوا به من أحكام ؟ أعلمتم منهم علما يقينيا حقا ؟
وهذا الاستفهام للتعجيز ؛ لأنهم إن حاولوا الإجابة فلن يجدوا إجابة فيخزون ويخجلون ؛ لذلك يقول بعدها ﴿ فعميت عليهم الأنباء.. ٦٦ ﴾ [ القصص ] أي : خفيت عليهم الحجج والأعذار وعموا عنها فلم يروها ﴿ فهم لا يتساءلون٦٦ ﴾[ القصص ] لا يملكون إلا السكوت كما قالوا : جواب ما يكره السكوت، وكما قال سبحانه :﴿ ولا يسأل حميم حميما١٠ ﴾ [ المعارج ]
وهؤلاء لا يتساءلون ؛ لأنهم في الجهل سواء، وفي الضلال شركاء، وكل منهم مشغول بنفسه ﴿ يوم يفر المرء من أخيه٣٤ وأمه وأبيه ٣٥ وصاحبته وبنيه٣٦ لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه٣٧ ﴾[ عبس ]
وكما سئل المشركون ﴿ ماذا أجبتم المرسلين٦٥ ﴾[ القصص ] في موضع آخر يسأل الرسل :﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم.. ١٠٩ ﴾[ المائدة ]أي : فيما علمتم من العلم، وأوله : علم اليقين الأعلى، وثانيها : علم الأحكام، فبماذا أجابكم الناس ؟
وتأمل هنا أدب الرسل ومدى فهمهم في مقام الجواب لله، وهم يعلمون تماما بماذا أجاب أقوامهم، وأن منهم من آمن بهم، وتفانى في خدمة دعوتهم وضحى واستشهد، ومنهم من كفر وعاند، ومع ذلك يقولون :﴿ قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب١٠٩ ﴾[ المائدة ]
فكيف يقولون ﴿ لا علم لنا.. ١٠٩ ﴾[ المائدة ] وهم يعلمون ؟ قالوا : لأنهم غير واثقين أن من آمن عن عقيدة أم لا، فهم يأخذون بظواهر الناس، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله، كأنهم يقولون : أنت يا ربنا تسأل عن إجابة الحق لا عن إجابة النفاق، وإجابة الحق نحن لا نعرفها، وأنت سبحانك علام الغيوب.
إذن : جعلوا الحق – تبارك وتعالى – هو السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية في محكمة العدل الإلهي التي سيعلن فيها على رؤوس الأشهاد ﴿ لمن الملك اليوم.. ١٦ ﴾[ غافر ]
والسؤال عند العرب يطلق، إما للمعرفة حيث تسأل لتعرف، كما يسأل التلميذ أستاذه، أو يكون السؤال للإقرار بما تعرف، كما يسأل الأستاذ تلميذه ليقر على نفسه، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان٣٩ ﴾[ الرحمن ] أي : سؤال علم ؛ لأننا نعلم.
وقوله تعالى :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ٢٤ ﴾[ الصافات ]أي : سؤال إقرار منهم، وإن كان كلامي يوم القيامة حجة، لأنه لا مرد له، لكن مع ذلك نسألهم ليقروا هم، وليشهدوا على أنفسهم.
والحق – تبارك وتعالى – يدلك على أنه تعالى يشبع مظاهر يوم القيامة على الكفارين، لا لأنه كاره لهم، بل يريدهم أن يستحضروا هذه الصورة البشعة لعلهم يرعوون ويتوبون ؛ لذلك يفتح لهم باب التوبة لأنه رب ورحيم.
لذلك جاء في الحديث القدسي :( ( قالت الأرض : يا رب إئذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وقالت الجبال : يا رب إئذن لي أن أخر على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وقالت البحار : يا رب إئذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. فقال تعالى : دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم، دعوهم فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ) )١.
أعالجهم بالترغيب مرة، وبالترهيب أخرى، أشوقهم إلى الجنة، وأخوفهم من النار، وأفتح باب التوبة، وفتح باب التوبة ليس رحمة من الله للتائب فقط، ولكن رحمة لكل من يشقى بعصيان غير التائب.
ولو أغلق باب التوبة في وجه العاصي ليئس وتحول إلى ( فاقد ) يشقى به المجتمع طوال حياته، إذن : ففتح باب التوبة رحمة بالتائب، ورحمة بمجتمعه، بل وبالإنسانية كلها، رحمة بالعاصي وبمن اكتوى بنار المعصية.
.
{ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ٦٥ فعميت
عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتسألون٦٦ }
قال هنا أيضا ﴿ يناديهم.. ٦٥ ﴾[ القصص ] فما الغرض من كل هذه النداءات ؟ إنها للتقريع وللتوبيخ وللسخرية منهم، وممن عبدوهم واتبعوهم من دون الله، ومضمون النداء :﴿ ماذا أجبتم المرسلين ٦٥ ﴾[ القصص ] والإجابة : موافقة المطلوب من الطالب، فماذا كانت إجابتكم لهم بعد أن آمنتم بإله، أأخذتم بما جاءوا به من أحكام ؟ أعلمتم منهم علما يقينيا حقا ؟
وهذا الاستفهام للتعجيز ؛ لأنهم إن حاولوا الإجابة فلن يجدوا إجابة فيخزون ويخجلون ؛ لذلك يقول بعدها ﴿ فعميت عليهم الأنباء.. ٦٦ ﴾ [ القصص ] أي : خفيت عليهم الحجج والأعذار وعموا عنها فلم يروها ﴿ فهم لا يتساءلون٦٦ ﴾[ القصص ] لا يملكون إلا السكوت كما قالوا : جواب ما يكره السكوت، وكما قال سبحانه :﴿ ولا يسأل حميم حميما١٠ ﴾ [ المعارج ]
وهؤلاء لا يتساءلون ؛ لأنهم في الجهل سواء، وفي الضلال شركاء، وكل منهم مشغول بنفسه ﴿ يوم يفر المرء من أخيه٣٤ وأمه وأبيه ٣٥ وصاحبته وبنيه٣٦ لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه٣٧ ﴾[ عبس ]
وكما سئل المشركون ﴿ ماذا أجبتم المرسلين٦٥ ﴾[ القصص ] في موضع آخر يسأل الرسل :﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم.. ١٠٩ ﴾[ المائدة ]أي : فيما علمتم من العلم، وأوله : علم اليقين الأعلى، وثانيها : علم الأحكام، فبماذا أجابكم الناس ؟
وتأمل هنا أدب الرسل ومدى فهمهم في مقام الجواب لله، وهم يعلمون تماما بماذا أجاب أقوامهم، وأن منهم من آمن بهم، وتفانى في خدمة دعوتهم وضحى واستشهد، ومنهم من كفر وعاند، ومع ذلك يقولون :﴿ قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب١٠٩ ﴾[ المائدة ]
فكيف يقولون ﴿ لا علم لنا.. ١٠٩ ﴾[ المائدة ] وهم يعلمون ؟ قالوا : لأنهم غير واثقين أن من آمن عن عقيدة أم لا، فهم يأخذون بظواهر الناس، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله، كأنهم يقولون : أنت يا ربنا تسأل عن إجابة الحق لا عن إجابة النفاق، وإجابة الحق نحن لا نعرفها، وأنت سبحانك علام الغيوب.
إذن : جعلوا الحق – تبارك وتعالى – هو السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية في محكمة العدل الإلهي التي سيعلن فيها على رؤوس الأشهاد ﴿ لمن الملك اليوم.. ١٦ ﴾[ غافر ]
والسؤال عند العرب يطلق، إما للمعرفة حيث تسأل لتعرف، كما يسأل التلميذ أستاذه، أو يكون السؤال للإقرار بما تعرف، كما يسأل الأستاذ تلميذه ليقر على نفسه، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان٣٩ ﴾[ الرحمن ] أي : سؤال علم ؛ لأننا نعلم.
وقوله تعالى :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ٢٤ ﴾[ الصافات ]أي : سؤال إقرار منهم، وإن كان كلامي يوم القيامة حجة، لأنه لا مرد له، لكن مع ذلك نسألهم ليقروا هم، وليشهدوا على أنفسهم.
والحق – تبارك وتعالى – يدلك على أنه تعالى يشبع مظاهر يوم القيامة على الكفارين، لا لأنه كاره لهم، بل يريدهم أن يستحضروا هذه الصورة البشعة لعلهم يرعوون ويتوبون ؛ لذلك يفتح لهم باب التوبة لأنه رب ورحيم.
لذلك جاء في الحديث القدسي :( ( قالت الأرض : يا رب إئذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وقالت الجبال : يا رب إئذن لي أن أخر على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وقالت البحار : يا رب إئذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. فقال تعالى : دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم، دعوهم فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ) )١.
أعالجهم بالترغيب مرة، وبالترهيب أخرى، أشوقهم إلى الجنة، وأخوفهم من النار، وأفتح باب التوبة، وفتح باب التوبة ليس رحمة من الله للتائب فقط، ولكن رحمة لكل من يشقى بعصيان غير التائب.
ولو أغلق باب التوبة في وجه العاصي ليئس وتحول إلى ( فاقد ) يشقى به المجتمع طوال حياته، إذن : ففتح باب التوبة رحمة بالتائب، ورحمة بمجتمعه، بل وبالإنسانية كلها، رحمة بالعاصي وبمن اكتوى بنار المعصية.
.
قالوا : لأنه ربما تاب، لكن عسى أن يستمر على توبته ليستديم الفلاح أو نقول أن ( عسى ) من الله تدل على التحقيق، وسبق أن قلنا : إن الرجاءات على درجات : فالرجاء في المتكلم أقوى من الرجاء في الغائب، فإن كان الرجاء في الله فهو أقوى الرجاءات كلها.
لذلك يقول سبحانه في خطابه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾[ الإسراء ] فأي رجاء أقوى من الرجاء في الله ؟
إذن :( عسى ) رجاء حين تصدر ممن لا يملك إنفاذ المرجو، وتحقيق حين تصدر ممن يملك إنفاذ المرجو، وهو الحق سبحانه وتعالى.
{ وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم
الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون٦٨ }
كنا ننتظر أن يخبرنا السياق بما سيقع على المشركين من العذاب، لكن تأتي الآية ﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار.. ٦٨ ﴾[ القصص ]وكأن الحق سبحانه يقول : أنا الذي أعرف أين المصلحة، وأعرف كيف أريحكم من شرهم، فدعوني أخلق ما أشاء، وأختار ما أشاء، فأنا الرب المتعهد للمربى بالتربية توصله إلى المهمة منه.
والمربى قسمان : إما مؤمن وإما كافر، ولابد أن يشقى المؤمن بفعل الكافر، وأن يمتد هذا الشقاء إن بقى الكافر على كفره ؛ لذلك شرعت له التوبة، وقبلت منه الرجوع، وهذا أول ما يريح المؤمنين.
ومعنى :﴿ ما كان لهم الخيرة.. ٦٨ ﴾[ القصص ] يعني : لا خيار لكم، فدعوني لأختار لكم، ثم نفذوا ما أختاره أنا.
أو : أن هذه الآية ﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار.. ٦٨ ﴾[ القصص ] قيلت للرد على قولهم :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم٣١ ﴾[ الزخرف ]. يقصدون الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي، فرد الله عليهم :﴿ أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات.. ٣٢ ﴾ [ الزخرف ]
فكيف يطمعون في أن يختاروا هم وسائل الرحمة، ونحن الذين قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، فجعلنا هذا غنيا، وهذا فقيرا، وهذا قويا، وهذا ضعيفا، فمسائل الدنيا أنا متمكن منهم فيها، فهل يريدون أن يتحكموا في مسائل الآخرة وفي رحمة الله يوجهونها حسب اختيارهم ؟ ! !
﴿ ما كان لهم الخيرة.. ٦٨ ﴾[ القصص ] أي : الاختيار في مثل هذه المسائل.
ويجوز ﴿ ما كان لهم الخيرة.. ٦٨ ﴾[ القصص ]أي : المؤمنون ما كان لهم أن يعترضوا على قبول توبة الله على المشركين الذين آذوهم، يقولون : لماذا تقبل منهم التوبة وقد فعلوا بنا كذا وكذا، وقد كنا نود أن نراهم يتقلبون في العذاب ؟
والحق تبارك وتعالى يختار ما يشاء، ويفعل ما يريد، وحين يقبل التوبة من المشرك لا يرحمه وحده، ولكن يرحمكم أنتم أيضا حين يريحكم من شره.
وقوله :﴿ سبحان الله وتعالى عما يشركون٦٨ ﴾[ القصص ]أي : تعالى الله وتنزه عما يريدون من أن ينزلوا الحق سبحانه على مرادات أصحاب الأهواء من البشر، ولو أن الحق سبحانه نزل على مرادات أصحاب الأهواء من البشر – وأهواؤهم مختلفة – لفسدت حياتهم جميعا.
ألا ترى أن البشر مختلفون جميعا في الرغبات والأهواء، بل وفي مسائل الحياة كلها، فترى الجماعة منهم في سن واحدة، وفي مركز اجتماعي واحد، فإذا توجهوا لشراء سلعة مثلا اختار كل منهم نوعا ولونا مختلفا عن الآخر.
وإذا كان الحق سبحانه يمتن علينا بأن علمه واسع يعلم السر، فهو يعلم الجهر من باب أولى ؛ لأن يشترك فيه جميع الناس ويعرفونه. أما الأخفى من السر، فلأنه سبحانه ما تسره في نفسك قبل أن يوجد في صدرك، وهو وحده الذي يعلم الأشياء قبل أن توجد.
ولك أن تسأل : إذا كان من صفاته تعالى أنه يعلم السر وما هو أخفى من السر، فماذا عن الجهر وهو شيء معلوم للجميع ؟ وهذه المسألة استوقفت بعض المستشرقين وأتباعهم من المسلمين ( المنحلين ) الذين يجارونهم.
وحين نستقرئ آيات القرآن نجد أن الله تعالى سوى في عمله تعالى بين السر والجهر، فقال سبحانه﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به.. ١٠ ﴾ [ الرعد ]
وقال سبحانه :﴿ وأسروا قولكم أو اجهروا به.. ١٣ ﴾ [ الملك ]
والآية التي معنا :﴿ وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون٦٩ ﴾[ القصص ] وفي هذه الآيات قدم السر على الجهر، وأما في قوله تعالى :
﴿ سنقرئك فلا تنسى ٦ إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى٧ ﴾ [ الأعلى ]
وقال سبحانه :﴿ إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون١١٠ ﴾[ الأنبياء ] فقدم العلم بالجهر على العلم بالسر، ولا يقدم الجهر إلا إذا كان له ملحظية خفاء عن السر، وهذه الملحيظة غفل عنها السطحيون، فأخطأوا في فهم الآية.
فأنت مثلا لو أسررت في نفسك شيئا، فربما ظهر في سقطات لسانك أو على ملامح وجهك، وربما خانك التعبير فدل على ما أسررته، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى :﴿ ولتعرفنهم في لحن القول.. ٣٠ ﴾ [ محمد ]
إذن : هناك قرائن وعلامات نعرف بها السر، أما الجهر وهو من الجماعة ليس جهرا واحدا ؛ لأنه مقابل بالجمع :﴿ إنه ةيعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون١١٠ ﴾ [ الأنبياء ] فالمعنى : ويعلم ما تجهرون وما تكتمون.
ولك أن تتابع مظاهرة لجمع غفير من الناس، يهتف كل منهم هتافا، أتستطيع أن تميز بين هذه الهتافات، وأن ترجع كلا منها إلى صاحبها ؟ هذا هو اللغز في الجهر والملحظ الذي فاتهم تدبره، لذلك امتن الله علينا بعلمه للجهر من القول الذي لا نعلمه نحن مهما أوتينا من آلات فرز الأصوات وتمييزها.
لذلك يقولون : لا تستطيع أن تحدد جريمة في جمهور من الناس ؛ لأن الأصوات والأفعال مختلطة، يستتر كل منها في الآخر كما يقولون : الفرد بالجمع يعصم.
ويقولون : الجماهير ببغائية، كما قال شوقي في مصرع كليوباترا، لما انهزموا في يوم ( أكتيوما ) وأشاعوا أنهم انتصروا، لكن هذه الحيلة لا تنطلي على العقلاء من القوم، فيقول أحدهم للآخر عن غوغائية الجماهير :
اسمع الشعب ديون***كيف يوحون إليه
ملأ الجو هتافا***بحياتي قاتليه
أثر البهتان فيه***وانطلى الزور عليه
يا له من ببغاء***عقله في أذنيه
إذن : فعلم الجهر هنا ميزة تستحق أن يمتن الله بها، كما يمتن سبحانه بعلم السر.
وقال سبحانه ﴿ وربك يعلم.. ٦٩ ﴾[ القصص ] ليطمئن رسول الله ؛ لأنه سبحانه ربه، والمتولى لتربيته والعناية به، يقول له : لا تحزن مما يقولون، فأنا أعلم سرهم وجهرهم، فإن كنت لا تعرف ما يقولون فأنا أعرفه، وسوف أخبرك به، ألم يقل سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول.. ٨ ﴾[ المجادلة ]
فأخبره ربه بما يدور حتى في النفوس، كأنه سبحانه يقول لرسوله : إياك أن تظن أنني سأؤاخذهم بما عرفت من أفعالهم فحسب، بل بما لا تعلم مما فعلوه، ليطمئن رسول الله أنه سبحانه يحصي عليهم كل شيء.
{ وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة
وله الحكم وإليه ترجعون٧٠ }
الله : هو المعبود بحق، وله صفات الكمال كلها، وهو سبحانه ﴿ لا إله إلا هو.. ٧٠ ﴾[ القصص ] وما دام هو وحده سبحانه، فلا أحد يفتن عليه، أو يستدرك عليه بشيء، وسبق أن قال لهم : هاتوا شركاءكم لنفصل في مسألة العبادة علانية و ( نفاصل ) : من صاحب هذه السلعة : أي يوم القيامة.
ومعنى ﴿ الأولى.. ٧٠ ﴾[ القصص ]أي : الخلق الذي خلقه الله، والكون الذي أعده لاستقبال خليفته في الأرض : الشمس والقمر والنجوم والشجر والجبال والماء والهواء والأرض، فقبل أن يأتي الإنسان أعد الله الكون لاستقباله.
لذلك حينما يتكلم الحق سبحانه عن آدم لا يقول : إنه أول الخلق، إنما أول بني آدم، فقد سبقه في الخلق عوالم كثيرة ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا١ ﴾[ الإنسان ]أي : لم يكن له وجود.
وإعداد الكون لاستقبال الإنسان جميل يستوجب الحمد والثناء، فقد خلق الله لك الكون كله، ثم جعلك تنتفع به مع قدرتك عليه أو وصولك إليه، فالشمس تخدمك، وأنت لا تقدر عليها ولا تملكها، وهي تعمل لك دون صيانة منك، ودون أن تحتاج قطعة غيار، وكذلك الكون كله يسير في خدمتك وقضاء مصالحك، وهذا كله يستحق الحمد.
وبعد أن خلقك الله في كون أعد لخدمتك تركك ترتع فيه، ذرة في ظهر أبيك، ونطفة في بطن أمك إلى أن تخرج للوجود، فيضمك حضنها، ولا يكلفك إلا تبليغ مبلغ الرجال وسن الرشد، ومنحك العقل والنضج لتصبح قادرا على إنجاب مثلك، وهذه علامة النضج النهائي في تكوينك كالثمرة لا تخرج مثلها إلا بعد نضجها واستوائها.
لذلك نجد من حكمة الله تعالى ألا يعطي الثمرة حلاوتها إلا بعد نضج بذرتها، بحيث حين تزرعها بعد أكلها تنبت مثلها، ولو أكلت قبل نضجها لما أنبتت بذرتها، ولانقرض هذا النوع ؛ لذلك ترى الثمرة الناضجة إذا لم تقطفها سقطت لك على الأرض لتقول لك : أنا جاهزة.
لذلك نلحظ عندنا في الريف شجرة التوت أو شجرة المشمش مثلا يسقط الثمر الناضج على الأرض، ثم ينبت نباتا جديدا، يحفظ النوع، ولو سقطت الثمار غير ناضجة لما أنبتت.
وكذلك الإنسان لا ينجب مثله إلا بعد نضجه، وعندها يكلفه الله ويسأله ويحاسبه. إذن : على الإنسان أن يسترجع فضل الله عليه حتى قبل أن يستدعيه إلى الوجود، وأن يثق أن الذي يكلفه الآن ويأمره وينهاه هو ربه وخالقه ومربيه، ولن يكلفه إلا بما يصلحه، فعليه أن يسمع، وأن يطيع.
وقوله تعالى :﴿ والآخرة.. ٧٠ ﴾[ القصص ] يعني : له الحمد في القيامة، كما قال سبحانه :﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ١٠ ﴾[ يونس ] فيحمد الله في الآخرة ؛ لأنه كان يمتعنى في الدنيا إلى أمد، ويمتعنى في الدنيا على قدر إمكاناتي، أما في الآخرة فيعطيني بلا أمد، وعلى قدر إمكاناته هو سبحانه، فحين نرى هذا النعيم لا نملك إلا أن نقول : الحمد لله، وهكذا اجتمع لله تعالى الحمد في الأولى، والحمد في الآخرة.
وقوله تعالى :﴿ وله الحكم وإليه ترجعون٧٠ ﴾ [ القصص ]لأن الآخرة ما كانت إلا للحكم وللفصل في الخصومات، حيث يعرف كل ما له وما عليه، فلا تظن أن الذين آذوك وظلموك سيفلتون من قبضتنا.
﴿ وإليه ترجعون٧٠ ﴾[ القصص ]أي : للحساب، وفي قراءة ( ترجعون ) لأنهم سيرجعون إلينا ويأتوننا بأنفسهم، كأنهم مضبوطون على ذلك، كالمنبه تضبطه على الزمن، كذلك هم إذا جاء موعدهم جاءونا من تلقاء أنفسهم، دون أن يسوقهم أحد.
وعلى قراءة ﴿ ترجعون٧٠ ﴾[ القصص ] إياكم أن تظنوا أنكم بإمكانكم أن تتأبوا علينا، كما تأبيتم على رسلنا في الدنيا ؛ لأن الداعي في الدنيا كان يأخذكم بالرفق واللين، أما داعي الآخرة فيجمعكم قسرا ورغماعنكم، ولا تستطيعون منه فكاكا ﴿ يوم يدعون١إلى نار جهنم دعا١٣ ﴾ [ الطور ]
.
﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا١ إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون٧١ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون٧٢ ﴾
يعدد الحق – تبارك وتعالى – نعمه على عبيده في شيئين يتعلقان بحركة الحياة وسكونها، فالحركة تأتي بالخير للناس، والسكون يأتي بالراحة للمتعب من الحركة، والإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يعطي ويتعب إلا بعد راحة، والذي يتحدى هذه الطبيعة فيسهر الليل ويعمل بالنهار لابد أن ينقطع، وأن تنهك قواه فلا يستمر.
لذلك يقول تعالى :﴿ والليل إذا يغشى ١ والنهار إذا تجلى ٢ وما خلق الذكر والأنثى ٣ إن سعيكم لشتى٤ ﴾ [ الليل ]
فكل من الليل والنهار له مهمة، وكذلك الرجل والمرأة، فإياكم أن تخلطوا هذه المهام، وإلا فسدت الحياة وأتعبتكم الأحداث، فقبل الكهرباء ودخول ( التليفزيون والفيديو ) المنازل كان يوميا يبدأ في نشاط مع صلاة الفجر، لأننا كنا ننام بعد صلاة العشاء، أما الآن فالحال كما ترى. كنا نستقبل يومنا بحركة سليمة نشطة ؛ لأننا نستقبل الليل بسكون سليم وهدوء تام.
والحق سبحانه في معرض تعداد نعمه علينا يقول﴿ أرأيتم.. ٧١ ﴾[ القصص ]يعني : أخبروني ماذا تفعلون ﴿ إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة.. ٧١ ﴾[ القصص ] يعني : طوال حياتكم ﴿ من إله غير الله يأتيكم بضياء.. ٧١ ﴾[ القصص ] والسرمد : الدائم المستمر.
وقال ﴿ بضياء.. ٧١ ﴾[ القصص ] ولم يقل بنور ؛ لأن النور قد يأتي من النجوم، وقد يأتي من القمر، أما الضياء وهو نور وأشعة وحرارة، فلا يأتي إلا من الشمس.
لذلك يقول سبحانه :﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا.. ٥ ﴾[ يونس ]
وقال :﴿ من إله غير الله يأتيكم بضياء.. ٧١ ﴾[ القصص ]ولم يقل : من يأتيكم بضياء ليلفت نظرنا إلى أن هذه المسألة لا يقدر عليها إلا إله، ولا إله إلا الله، وفي الضياء تبصرون الأشياء، وتسيرون على هدى، فتؤدون حركات حياتكم دون اصطدام أو اضطراب، وبالضياء أعايش الأشياء في سلامة لي ولها، وإلا لو سرنا في الظلام لتحطمنا أو حطمنا ما حولنا، لأنك حين تسير في الظلام إما أن تحطم ما هو أقل منك، أو يحطمك ما هو أقوى منك.
وكما يكون الضياء في الماديات يكون كذلك له دور في المعنويات، وضياء المعنويات القيم التي تحكم حركة الحياة وتعدلها، وتحميك أن تحطم من هو أضعف منك، أو أن يحطمك الأقوى منك ؛ لذلك كان منطقيا أن يقول تعالى :﴿ هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور.. ٤٣ ﴾ [ الأحزاب ]
والمراد : من ظلمات المعاني إلى نور القيم، لا ظلمات المادة لأنني لا أستغني عنه لراحتي، فله مهمة عندي لا تقل عن مهمة النور لذلك يقول تعالى في وصفه لنوره عز وجل ﴿ نور على نور.. ٣٥ ﴾ [ النور ]
نور مادي تبصرون به الأشياء من حولكم، فلا تتخبطون بها، فتسلم حركتكم، وهذا النور المادي يشترك فيه المؤمن والكافر، وينتفع به المطيع والعاصي، فلم يضن به على أحد من خلقه. أما النور المعنوي نور الهداية ونور اليقين والقيم، فهذا يرسله الله على يدي رسله، فإذا أخذ المؤمن النورين انتفع بهما في الدنيا، وامتد نفعه بهما إلى يوم القيامة ؛ لذلك قال بعدها :
﴿ يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس.. ٣٥ ﴾[ النور ]
ولأن الآية الكريمة بدأت بقل، فمن المناسب أن تختم بقوله تعالى :﴿ أفلا تسمعون٧١ ﴾ [ القصص ]يعني : اسمعوا ما أقول لكم وتدبروه.
تلحظ أن هاتين الآيتين على نسق واحد، لكن تذييلهما مختلف، مما يدل على بلاغة وإعجاز القرآن، فكل معنى ما يناسبه، ففي آية الليل قال﴿ أفلا تسمعون٧١ ﴾[ القصص ]وفي آية النهار قال ﴿ أفلا تبصرون٧٢ ﴾[ القصص ] ذلك لأن العين لا عمل لها في الليل إنما للأذن، فأنت تسمع دون أن ترى، وبالأذن يتم الاستدعاء.
أما في النهار وفي وجود الضوء، فالعمل للعين حيث تبصر، فهو إذن ختام حكيم للآيات يضع المعنى فيما يناسبه.
{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه
ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون٧٣ }
بعد أن فصل الله تعالى القول في الليل والنهار كل على حدة جمعهما ؛ لأنهما معا مظهر من مظاهر رحمة الله، وفي الآية ملمح بلاغي يسمونه ( ( اللف والنشر ) )، فبعد أن جمع الله تعالى الليل والنهار أخبر عنهما بقوله :﴿ لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله.. ٧٣ ﴾[ القصص ] ثقة منه تعالى بفطنة السامع، وأنه سيرد كلا منهما إلى ما يناسبه، فالليل يقابل ﴿ لتسكنوا فيه.. ٧٣ ﴾[ القصص ]، والنهار يقابل ﴿ ولتبتغوا من فضله.. ٧٣ ﴾[ القصص ]
فاللف أي : جمع المحكوم عليه معا في جانب والحكم في جانب آخر، والنشر : رد كل حكم إلى صاحبه.
وضربنا لذلك مثلا بقول التيمورية :
قلبي وجفني واللسان وخالقي*** راض وباك شاكر وغفور
فجمعت المحكوم عليه في الشطر الأول والحكم في الشطر الثاني، وعليك أن تعيد كل حكم إلى صاحبه.
والليل والنهار آيتان متكاملتان، وبهما تنتظم حركة الحياة ؛ لأنك إن لم ترتح لا تقوى على العمل ؛ لأن لك طاقة، وفي جسمك مولدات للطاقة، فساعة تتعب تجد أن أعضاءك تراخت وأجهدت، وهذا إنذار لك، تنبهك جوارحك أنك لم تعد صالحا للحركة، ولا بد لك من الراحة لتستعيد نشاطك من جديد.
والراحة تكون بقدر التعب، فربما ترتاح حين تقف مثلا في حالة السير، فإن لم يرحك الوقوف تجلس أو تضطجع، فإن زاد التعب غلبك النوم، وهو الردع الذاتي الذي يكبح جماع صاحبه إن تمرد على الطبيعة التي خلقها الله فيه.
ومن عجب أن البعض يخرج عن هذه الطبيعة، فيأخذ منشطات حتى لا يغلبه النوم، ويأخذ مهدئات لينام، ولو أسلم نفسه لطبيعتها، فنام حينما يحضره النوم، وعمل حينما يجد في نفسه نشاطا للعمل لأراح نفسه من كثير من المتاعب.
لذلك يقولون : النوم ضيف إن طلبك أراحك، وإن طلبته أعنتك، وحتى الآن، ومع تقدم العلوم لم يصلوا إلى سر النوم، وكيف يأخذ الإنسان في هدوء ولطف دون أن يشعر ما هيته، وأتحدى أن يعرف أحد منا كيف ينام.
لذلك جعل الله النوم آية من آياته تعالى، مثل الليل والنهار والشمس والقمر، فقال سبحانه :﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار.. ٢٣ ﴾ [ الروم ]
{ ويوم يناديهم فيقول أين شركاءي
الذين كنتم تزعمون٧٤ }
تقدمت المناداة قبل ذلك مرتين ومع ذلك لا يوجد تكرار لهذا المعنى ؛ لأن كل نداء منها له مقصوده الخاص، فالنداء في الأولى خاص بمن أشركوهم مع الله وما قالوه أمام الله تعالى :﴿ ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا.. ٦٣ ﴾[ القصص ]
أما الثانية، فالنداء فيها للمشركين ﴿ ماذا أجبتم المرسلين٦٥ ﴾[ القصص ]
أما هنا، فيهتم النداء بمسألة الشهادة عليهم. إذن : فكلمة ( أين ) و ( شركائي ) و ( والذين كنتم تزعمون ) قدر مشترك بين الآيات الثلاثة، لكن المطلوب في كل قدر غير المطلوب في القدر الآخر، فليس في الأمر تكرار، إنما توكيد في الكل١.
.
{ ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا
هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل
عنهم ما كانوا يفترون٧٥ }
أي : أخرجنا من كل أمة نبيها، وأحضرناه ليكون شاهدا عليها ﴿ فقلنا هاتوا برهانكم.. ٧٥ ﴾[ القصص ]أرونا شركاءكم الذين اتخذتموهم من دون الله، أين هم ليدافعوا عنكم ؟ لكن هيهات، فقد ضلوا عنهم، وهربوا منهم.
﴿ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون٦٦ ﴾ [ القصص ]
إذن : غاب شركاؤكم، وغاب شهودكم، لكن شهودنا موجودون ﴿ ونزعنا من كل أمة شهيدا.. ٧٥ ﴾[ القصص ]يشهد أنه بلغهم منهج الله فإن قتلتم : لقد أغوانا الشيطان وأغوانا المضلون من الإنس، نرد عليكم بأننا ما تركناكم لإغوائهم، فيكون لكم عذر، إنما أرسلنا إليكم رسلا لهدايتكم، وقد بلغكم الرسل.
وفي موضع آخر يقول تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا٤١ ﴾ [ النساء ]
فماذا يكون موقفهم يوم تشهد أنت عليهم بأنك بلغت، وأعذرت في البلاغ، وأنك اضطهدت منهم، وأوذيت، وقد ضل عنهم شركاؤهم، ولم يجدوا من يشهد لهم أو يدافع عنهم ؟ عندها تسقط أعذارهم وتكون المحكمة قد ( تنورت ).
ثم يقول تعالى :﴿ فقلنا هاتوا برهناكم.. ٧٥ ﴾[ القصص ] أي : قولوا : إن رسلنا لم يبلغوكم منهجنا، وهاتوا حجة تدفع عنكم، فلما تحيروا وأسقط في أيديهم حيث غاب شهداؤهم وحضر الشهداء عليهم ﴿ فعلموا أن الحق لله.. ٧٥ ﴾ [ القصص ]
وفوجئوا كما قال تعالى عنهم :﴿ ووجد الله عنده فوفاه حسابه.. ٣٩ ﴾ [ النور ]
وقال :﴿ ووجدوا ما عملوا حاضرا.. ٤٩ ﴾ [ الكهف ]
فوجئوا بما لم يصدقوا به ولم يؤمنوا به، لكن ما وجه هذه المفاجأة، وقد أخبرناهم بها في الدنيا وأعطيناهم مناعة كان من الواجب أن يأخذوا بها، وأن يستعدوا لهذا الموقف، فالعاقل حين تحذره من وعورة الطريق الذي سيسلكه وما فيه من مخاطر وأهوال ينبغي عليه أن ينصرف عنه، إن كان الناصح له صادقا، ولا عليه حين يحتاط لنفسه أن يكون ناصحه كاذبا، على حد قول الشاعر :
زعم المنجم والطبيب كلاهما***لا تبعث الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر***أو صح فالخسار عليكما
وما عليك إن حملت بندقية في هذا الطريق المخوف، ثم لم تجد شيئا يخيفك ؟ إذن : أنتم إن لم تخسروا فلن تكسبوا شيئا، ونحن إن لم نكسب لن نخسر.
وقوله :﴿ وضل عنهم.. ٧٥ ﴾ [ القصص ] أي : غاب ﴿ ما كانوا يفترون٧٥ ﴾[ القصص ] من ادعاء الشركاء.
بعد أن أعطانا الحق – تبارك وتعالى – لقطة من لقطات يوم القيامة، والقيامة لا تخيف إلا من يؤمن بها، أما من لا يؤمن بالآخرة والقيامة فلا بد له من رادع آخر ؛ لأن الحق سبحانه يريد أن يحمي صلاح الكون وحركة الحياة.
ولو اقتصر الجزاء على القيامة لعربد غير المؤمنين واستشرى فسادهم، ولشقى الناس بهم، والله تعالى يريد أن يحمي حركة الحياة من المفسدين من غير المؤمنين بالآخرة، فيجعل لهم عذابا في الدنيا قبل عذاب الآخرة.
يقول تعالى :﴿ وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك.. ٤٧ ﴾[ الطور ]
يعني : قبل عذاب الآخرة.
{ إن قارون من قوم موسى١فبغى عليهم وآتيناه
من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ٢ بالعصبة أولي القوة إذ
قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين٧٦ }
فلم يتكلم عن قارون وجزائه في الآخرة، إنما يجعله مثلا وعبرة واضحة في الدنيا لكل من لم يؤمن بيوم القيامة لعله يرتدع.
والنبي صلى الله عليه وسلم اضطهده كفار قريش، ووقفوا في وجه دعوته، وآذوا صحابته، حتى أصبحوا غير قادرين على حماية أنفسهم، ومع ذلك ينزل القرآن على رسول الله يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ٤٥ ﴾ [ القمر ]
فيتعجب عمر رضي الله عنه : أي جمع هذا ؟ فنحن غير قادرين على حماية أنفسنا، فلما وقعت بدر وانهزم الكفار وقتلوا. قال عمر٣ : نعم صدق الله ﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر٤٥ ﴾ [ القمر ]
لذلك يقولون : لا يموت ظالم في الدنيا حتى ينتقم الله منه، ويرى فيه المظلوم يوما يشفى غليله، ولما مات ظلوم في الشام ولم ير الناس فيه ما يدل على انتقام الله منه تعجبوا وقال أحدهم : لابد أن الله انتقم منه دون أن نشعر، فإن أفلت من عذاب الدنيا، فوراء هذه الدار دار أخرى يعاقب فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وعدل الله – عز وجل – يقتضي هذه المحاسبة.
والحق – تبارك وتعالى – يجعل من قارون عبرة لكل من لا يؤمن بالآخرة ليخاف من عذاب الله، ويحذر عقابه، والعبرة هنا بمن ؟ بقارون رأس من رؤوس القوم، وأغنى أغنيائهم، والفتوة فيهم، فحين يأخذه الله يكون في أخذه عبرة لمن دونه.
وحدثونا أن صديقا لنا كان يعمل بجمرك الأسكندرية، فتجمع عليه بعض زملائه من الفتوات الذين يريدون فرض سيطرتهم على الآخرين، فما كان منه إلا أن أخذ كبيرهم، فألقاه في الأرض، وعندها تفرق الآخرون وانصرفوا عنه.
ومن هذا المنطلق أخذ الله تعالى قارون، وهو الفتوة، ورمز الغنى والجاه بين قومه، فقال تعالى :﴿ إن قارون كان من قوم موسى.. ٧٦ ﴾ [ القصص ] إذن : حينما نتأمل حياة موسى عليه السلام نجده قد منى بصناديد الكفر، فقد واجه فرعون الذي ادعى الألوهية، وواجه هامان، ثم موسى السامري الذي خانه في قومه في غيبته، فدعاهم إلى عبادة العجل.
ومنى من قومه بقارون، ومعنى : من قومه، إما لأنه كان من رحمه من بني إسرائيل، أو من قومه يعني : الذين يعيشون معه. والقرآن لم يتعرض لهذا المسألة بأكثر من هذا، لكن المفسرين يقولون : إنه ابن عمه، فهو : قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي ابن يعقوب وموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.
وللمؤرخين كلام في العداوة بين موسى وقارون، قالوا : حينما سأل موسى عليه السلام ربه أن يشد عضده بأخيه هارون، أجابه سبحانه ﴿ قال قد أوتيت سؤالك يا موسى٣٦ ﴾[ طه ] وليست هذه أول مرة بل ﴿ ولقد مننا عليك مرة أخرى ٣٧ ﴾[ طه ] وأرسل الله معه أخاه هارون ؛ لأنه أفصح من موسى لسانا، وجعلهما شريكين في الرسالة، وخاطبهما معا ﴿ اذهبا.. ٤٣ ﴾[ طه ] ليؤكد أن الرسالة ليست من باطن موسى.
وإن رأيت الخطاب في القرآن لموسى بمفرده، فاعلم أن هارون ملاحظ فيه، ومن ذلك لما دعا موسى على قوم فرعون، فقال :﴿ ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم٨٨ ﴾ [ يونس ]
فالذي دعا موسى، ومع ذلك لما أجابه ربه قال :﴿ قد أجيبت دعوتكما.. ٨٩ ﴾[ يونس ] وهذا دليل على أن هارون لم يكن رسولا من باطن موسى، إنما من الحق سبحانه، وأيضا دليل على أن المؤمن على الدعاء كالداعي، فكان موسى يدعو وهارون يقول : آمين.
ولما ذهب موسى لميقات ربه قال لأخيه :﴿ اخلفني في قومي ١٤٢ ﴾[ الأعراف ] وفي غيبة موسى حدثت مسألة العجل، وغضب موسى من أخيه هارون، فلما هدأت بينهما الأمور حدث تخصيص في رسالة كل منهما، فأعطى هارون ( الحبورة ) والحبر : هو العالم الذي يعد مرجعا، كما أعطي ( القربان ) أي : التقرب إلى الله.
وعندها غضب قارون ؛ لأنه خرج من هذه المسألة صفر اليدين، وامتاز عنه أولاد عمومته بالرسالة والمنزلة، رغم ما كان عنده من أموال كثيرة.
ثم إن موسى – عليه السلام – طلب من قارون زكاة ماله، دينار في كل ألف دينار، ودرهم في كل ألف درهم، فرفض قارون وامتنع، بل وألب الناس ضد موسى – عليه السلام٤.
ثم دبر له فضيحة ؛ ليصرف الناس عنه، حيث أغرى امرأة بغيا فأعطاها طستا مليئا بالذهب، على أن تدعي على موسى وتتهمه، فجاء موسى عليه السلام ليخطب في الناس، ويبين لهم الأحكام فقال : من يسرق نقطع يده، ومن يزني نجلده إن كان غير محصن، ونرجمه إن كان محصنا، فقام له قارون وقال : فإن كنت أنت يا موسى ؟ فقال : وإن كنت أنا.
وهنا قامت المرأة البغي وقالت : هو راودني عن نفسي، فقال لها : والذي فلق البحر لتقولن الصدق فارتعدت المرأة، واعترفت بما دبره قارون، فانفضح أمره وبدأت العداوة بينه وبين موسى عليه السلام.
بدأ قارون في البغي والطغيان حتى أخذه الله، وقال في حقه هذه الآيات :﴿ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم.. ٧٦ ﴾ [ القصص ]
والبغي : تجاوز الحد في الظلم، خاصة وقد كان عنده من المال ما يعينه على الظلم، وما يسخر به الناس لخدمة أهدافه، وكأنه يمثل مركز قوة بين قومه، والبغي إما بالاستيلاء على حقوق الغير، أو باحتقارهم وإزدرائهم، وإما بالبطر.
ثم يذكر حيثية هذا البغي :﴿ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة.. ٧٦ ﴾ [ القصص ]
كلمة ( مفاتح ) كما في قوله تعالى :﴿ وعنده مفاتح الغيب... ٥٩ ﴾ [ الأنعام ]
ولو قلنا : مفاتح جمع، فما مفردها ؟ لا تقل مفتاح ؛ لأن مفتاح جمعها مفاتيح، أما مفاتح، فمفردها ( مفتح )٥ وهي آلة الفتح كالمفتاح، وهي على وزن ( مبرد ) فالمعنى : أن مفاتيح خزائنه لو حملتها عصبة تنوء بها، وهذه كناية عن كثرة أمواله، نقول : ناء به الحمل، أو ناء بالحمل، إذا ثقل عليه، ونحن لا نميز الخفيف من الثقيل بالعين أو اللمس أو الشم إنما لابد من حمله للاحساس بوزنه.
وقلنا : إن هذه الحاسة هي حاسة العضل، فالحمل الثقيل يجهد العضلة، فتشعر بالثقل، على خلاف لو حملت شيئا خفيفا لا تكاد تشعر بوزنه لخفته، ولو حاولت أن تجمع أوزانا في حيز ضيق كحقيبة ( هاندباج ) فإن الثقل يفضحك ؛ لأنك تنوء به.
والعصبة : هم القوم الذين يتعصبون لمبدأ من المبادىء بدون هوى بينهم، ومنه قول إخوة يوسف :﴿ ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة.. ٨ ﴾ [ يوسف ]
إنها كلمة حق خرجت من أفواههم دون قصد منهم ؛ لأنهم فعلا كانوا قوة متعصبين بعضهم لبعض في مواجهة يوسف وأخيه، وكانا صغيرين لا قوة لهما ولا شوكة، وكانوا جميعا من أم واحدة، ويوسف وأخوه من أم أخرى٦، فطبيعي أن يميل قلب يعقوب عليه السلام مع الضعيف.
وقالوا : العصبة من الثلاثة إلى العشرة، وقد حددهم القرآن بقوله :﴿ إني رأيت أحد عشر كوكبا.. ٤ ﴾[ يوسف ]وهم إخوته ومنهم بنيامين ﴿ والشمس والقمر.. ٤ ﴾[ يوسف ] أي : أباه وأمه. فمن هاتين الآيتين نستطيع تحديد العصبة.
وبهذا التفكير الذي يقوم على ضم الآيات بعضها إلى بعض حل الإمام علي – رضي الله عنه – مسألة تعد معضلة عند البعض، حيث جاءه من يقول له : تزوجت امرأة وولدت بعد ستة أشهر، ومعلوم أن المرأة تلد لتسعة أشهر، فلا بد أنها حملت قبل أن تتزوج.
فقال الإمام علي : أقل الحمل ستة أشهر، فقال السائل : ومن أين تأخذها يا أبا الحسن ؟ قال : نأخذها من قوله تعالى :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا.. ١٥ ﴾[ الأحقاف ] وفي آية أخرى قال سبحانه :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين.. ٢٣٣ ﴾[ البقرة ]
يعني : أربعة وعشرين شهرا، وبطرح الأربعة والعشرين شهرا من الثلاثين يكون الناتج ستة أشهر، هي أقل مدة للحمل. وهكذا تتكاتف آيات القرآن، ويكمل بعضها بعضا، ومن الخطأ أن نأخذ كل آية على حدة، ونفصلها عن غيرها في ذات الموضوع.
ثم يقول سبحانه :﴿ إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين٧٦ ﴾[ القصص ] والنهي هنا عن الفرح المحضور، فالفرح : انبساط النفس لأمر يسر الإنسان، وفرق بين أمر يسرك ؛ لأنه يمتعك، وأمر يسرك لأنه ينفعك، فالمتعة غير المنفعة.
فمثلا، مريض السكر قد يأكل المواد السكرية لأنها تحدث له متعة، مع أنها مضرة بالنسبة له، إذن : فالفرح ينبغي أن يكون بالشيء النافع، لأن الله تعالى لم يجعل المتعة إلا في النافع.
فحينما يقولون له ﴿ لا تفرح.. ٧٦ ﴾[ القصص ] أي : فرح المتعة، وإنما الفرح بالشيء النافع، ولو لم تكن فيه متعة كالذي يتناول الدواء المر الذي يعود عليه بالشفاء، لذلك يقول تعالى :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا.. ٥٨ ﴾[ يونس ]
ويقول تعالى :﴿ ويومئذ يفرح المؤمنون ٤ بنصر الله.. ٥ ﴾[ الروم ]فسماه الله فرحا ؛ لأنه فرح بشيء نافع ؛ لأن انتصار الدعوة يعني أن مبدءك الذي آمنت به، وحاربت من أجله سيسيطر وسيعود عليك وعلى العالم بالنفع.
ومن فرح المتعة المحظور ما حكاه القرآن :﴿ فرح المختلفون بمقعدهم خلاف رسول الله.. ٨١ ﴾[ التوبة ] هذا هو فرح المتعة ؛ لأنهم كارهون لرسول الله، رافضون للخروج معه، ويسرهم قعودهم، وتركه يخرج للقتال وحده.
فقوله تعالى :﴿ لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين٧٦ ﴾[ القصص ]أي : فرح المتعة الذي لا ينظر إلى مغبة الأشياء وعواقبها، فشارب الخمر يشربها لما لها من متعة مؤقتة، لكن يتبعها ضرر بالغ، ونسمع الآن من يقول عن الرقص مثلا : إنه فن جميل وفن راق ؛ لأنه يجد فيه متعة ما، لكن شرط الفن الجميل الراقي أن يظل جميلا، لكن أن ينقلب بعد ذلك إلى قبح ويورث قبحا، كما يحدث في الرقص، فلا يعد جميلا.
٢ ناء الرجل بالحمل: نهض به متثاقلا في جهد ومشقة، أي: تثقل عليهم وتجهدهم وهذا كناية عن كثرة كنوز قارون.[القاموس القويم٢/٢٩٠]..
٣ أورد ابن كثير في تفسيره(٤/٢٦٦) وعزاه لابن أبي حاتم عن عكرمة قال: ((لما نزلت: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر٤٥﴾[القمر] قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي: أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)) فعرفت تأويلها يومئذ))..
٤ أخرج ابن أبي شبية في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس أن موسى عليه السلام قال لقارون: إن الله أمرني أن آخذ الزكاة، فأبى فقال: إن موسى عليه السلام يريد أن يأكل أموالكم، جاءكم بالصلاة، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها، فتحملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل، فما ترى، فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها.[أورده السيوطي في الدر المنثور ٦/٤٣٦]..
٥ المفتح: الخزانة. قال الأزهري: كل خزانة كانت لصنف من الأشياء، فهي مفتح، والمفتح: الكنز. قيل: هي الكنوز والخزائن، قال الزجاج: روى أن مفاتحه خزائنه. قال الأزهري: والأشبه في التفسير أن مفاتحه خزائن ماله، والله أعلم بما أراد.[لسان العرب – مادة: فتح].
.
٦ تزوج يعقوب أولا ليئة بنت لابان، ثم تزوج أختها الصغرى راحيل، جمع بينهما، لأنه كان مباحا في شريعتهم وقد ولدت له ليئة ٦ بنين (رأوبين، شمعون، لاوى، يهوذا، يساكر، زبولون) وبنتا واحدة (دينة). وولدت له راحيل ولدين: يوسف وبنيامين. وولدت له سريته ((بلهة)) ولدين: دان، ونفتالي. وولدت له سريته((زلفة)) ولدين: جاد، وأشير. ذلك ما ذكرته التوراة في [سفر التكوين: الأصحاح ٢٦-٢٣: ٣٥].
.
{ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس
نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك
ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين٧٧ }
معنى ﴿ وابتغ.. ٧٧ ﴾[ القصص ] أي : اطلب ﴿ فيما آتاك الله.. ٧٧ ﴾[ القصص ] بما أنعم عليك من الرزق ﴿ الدار الآخرة.. ٧٧ ﴾[ القصص ] لأنك إن ابتغيت برزق الله لك الحياة الدنيا، فسوف يفنى معك في الدنيا، لكن إن نقتله للآخرة لأبقيت عليه نعيما دائما لا يزول.
وحين تحب نعيم الدنيا وتختصه وتتشبت به، فاعلم أن ديناك لن تمهلك، فإما أن تفوت هذا النعيم بالموت، أو يفوتك هو حين تفتقر. إذن : إن كنت عاشقا ومحبا للمال ولبقائه في حوزتك، فانقله إلى الدار الباقية، ليظل في حضنك دائما نعيما باقيا لا يفارقك، فسارع إذن واجعله يسبقك إلى الآخرة.
وفي الحديث الشريف لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة عن الشاة التي أهديت له قالت بعد أن تصدقت بها : ذهبت إلا كتفها، فقال صلى الله عليه وسلم :( ( بل بقيت إلا كتفها ) )١.
ويقول صلى الله عليه وسلم :( ( ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت ) )٢.
لذلك كان أولو العزم حين يدخل على أحدهم سائل يسأله، يقول له : مرحبا بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.
والإمام علي – رضي الله عنه – جاعه رجل يسأله : أأنا من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة ؟ فقال : جواب هذا السؤال ليس عندي، بل عندك أنت، وأنت الحكم في هذه المسألة. فإن دخل عليك من تعودت أنه يعطيك، ودخل عليك من تعودت أن يأخذ منك، فإن كنت تبش لمن يعطي، فأنت من أهل الدنيا، وإن كنت تبش لمن يسألك ويأخذ منك، فأنت من أهل الآخرة، لأن الإنسان يحب من يعمر له ما يحب، فإن كنت محبا للدنيا فيسعدك من يعطيك، وإن كنت محبا للآخرة فيسعدك من يأخذ منك.
وإذا كان ربنا – عز وجل – يوصينا بأن نبتغي الآخرة، فهذا لا يعني أن نترك الدنيا :﴿ ولا تنس نصيبك من الدنيا.. ٧٧ ﴾[ القصص ] لكن هذه الآية يأخذها البعض دليلا على الانغماس في الدنيا ومتعها.
وحين نتأمل ﴿ لا تنس نصيبك من الدنيا.. ٧٧ ﴾[ القصص ]نفهم أن العاقل كان يجب عليه أن ينظر إلى الدنيا على أنها لا تستحق الاهتمام، لكن ربه لفته إليها ليأخذ بشيء منها تقتضيه حركة حياته.
فالمعنى : كان ينبغي علي أن أنساها فذكرني الله بها.
ولأهل المعرفة في هذه المسألة ملمح دقيق : يقولون : نصيبك من الشيء ما ينالك منه، لا عن مفارقة إنما عن ملازمة ودوام، وعلى هذا فنصيبك من الدنيا هو الحسنة التي تبقى لك، وتظل معك، وتصحبك بعد الدنيا إلى الآخرة، فكأن نصيبك من الدنيا يصب في نصيبك من الآخرة، فتخدم دنياك آخرتك.
أو : يكون المعنى موجها للبخيل الممسك على نفسه، فيذكره ربه ﴿ ولا تنس نصيبك من الدنيا.. ٧٧ ﴾[ القصص ] يعني : خذ منها القدر الذي يعنيك على أمر الآخرة. لذلك قالوا عن الدنيا : هي أهم من أن تنسى – لأنها الوسيلة إلى الآخرة – وأتفه من أن تكون غاية ؛ لأن بعدها غاية أخرى أبقى وأدوم٣.
ثم يقول سبحانه :﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك.. ٧٧ ﴾[ القصص ]الحق سبحانه يريد أن يتخلق خلقه بخلقه، كما جاء في الأثر ( ( تخلقوا بأخلاق الله ) ).
فكما أحسن الله إليك أحسن إلى الناس، وكما تحب أن يغفر الله لك، اغفر لغيرك إساءته ﴿ ألا تحبون أن يغفر الله لكم.. ٢٢ ﴾ [ النور ]
وما دام ربك يعطيك، فعليك أن تعطي دون مخافة الفقر ؛ لأن الله تعالى هو الذي استدعاك للوجود ؛ لذلك تكفل بنفقتك وتربيتك ورعايتك. لذلك حين ترى العاجز عن الكسب – وقد جعله ربه على هذه الحال لحكمة – حين يمد يده إليك، فاعلم أنه يمدها لله، وأنك مناول عن الله تعالى.
ونلحظ هذا المعنى في قوله تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا.. ١١ ﴾ [ الحديد ]
فسمى الصدقة قرضا لله، لماذا ؟ لأن هذا العبد عبدي، مسئول مني أن أرزقه، وقد ابتليته لحكمة عندي – حتى لا يظن أحد أن المسألة ذاتية فيه، فيعتبر به غيره – فمن إذن يقرضني لأسد حاجة أخيكم ؟
وقال تعالى :﴿ يقرض الله.. ١١ ﴾[ الحديد ] مع أنه سبحانه الواهب ؛ لأنه أراد أن يحترم ملكيتك، وأن يحترم انتفاعك وسعيك.. كما لو أراد والد أن يجرى لأحد أبنائه عملية جراحية مثلا وهو فقير وإخوته أغنياء، فيقول لأولاده : اقرضوني من أموالكم لأجري الجراحة لأخيكم، وسوف أرد عليكم هذا القرض.
وفي الحديث الشريف أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة – رضوان الله عليها – فوجدها تجلوا درهما فسألها : ماذا تصنعين به ) ) ؟ قالت : أجلوه، قال :( ( لم ) ) ؟ قالت : لأني نويت أن أتصدق به، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير.
إذن : فالمال مال الله، وأنت مناول عن الله تعالى.
وقد وقف بعض المستشرقين عند هذه المسألة ؛ لأنهم يقرأون الآيات والأحاديث مجرد قراءة سطحية غير واعية، فيتوهمون أنها متضاربة. فقالوا هنا : الله تعالى يقول :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له.. ١١ ﴾[ الحديد ]
وقال في موضع آخر :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.. ١٦٠ ﴾[ الأنعام ]وفي الحديث الشريف :( ( مكتوب على باب الجنة : الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر ) )٤.
فالظاهر الحديث يختلف مع الآية الكريمة – هذا في نظرهم – لأنهم لا يملكون الملكة العربية في استقبال البيان القرآني، وبتأمل الآيات والأحاديث نجد اتفاقهما على أن الحسنة أو الصدقة بعشر أمثالها، فالخلاف – ظاهرا – في قوله تعالى :﴿ فيضاعفه له.. ١١ ﴾[ الحديد ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم :( ( والقرض بثمانية عشر ) ).
وليس بينهما اختلاف، فساعة تصدق الإنسان بدرهم مثلا أعطاه الله عشرة منها الدرهم الذي تصدق به، فكأنه أعطاه تسعة، فحين تضاعف التسعة، تصبح ثمانية عشرة.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ٧٧ ﴾[ القصص ] والفساد يأتي من الخروج عن منهج الله، فإن غيرت فيه فقد أفسدت، فالفساد كما يكون في المادة يكون في المنهج، وفي المعنويات، يقول سبحانه :﴿ ولا تفسيدوا في الأرض بعد إصلاحها.. ٥٦ ﴾ [ الأعراف ]
فالحق سبحانه خلق كل شيء على هيئة الصلاح لإسعاد خلقه، فلا تعمد إليه أنت فتفسده، ومن هذا الصلاح المنهج، بل المنهج وهو قوام الحياة المعنوية – أولى من قوام الحياة المادية.
إذن : فلتكن مؤدبا مع الكون من حولك، فإذا لم تستطع أن تزيده حسنا فلا أقل من أن تدعه كما هو دون أن تفسده، وضربنا لذلك مثلا ببئر الماء قد تعمد إليه فتطمسه، وقد تبنى حوله سورا يحميه.
هذه مسائل خمس توجه بها قوم قارون لنصحه بها، منها الأمر، ومنها النهي، ولابد أنهم وجدوا منه ما يناقضها، لابد أنهم وجدوه بطرا أشرا٥ مغرورا بماله، فقالوا له :﴿ لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين٧٦ ﴾ [ القصص ]
ووجدوه قد نسي نصيبه من الدنيا فلم يتزود منها للآخرة، فقالوا له ﴿ ولا تنس نصيبك من الدنيا.. ٧٧ ﴾[ القصص ]، ووجدوه يضن على نفسه فلا ينفق في الخير، فقالوا له :﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك.. ٧٧ ﴾[ القصص ] يعني : عد نعمتك إلى الغير، كما تعدت نعمة الله إليك.. وهكذا ما أمروه أمرا، ولا نهوه نهيا إلا وهو مخالف له، وإلا لما أمروه ولما نهوه.
٢ أخرجه أحمد في مسنده (٤/٢٤، ٢٦)، ومسلم في صحيحه(٢٩٥٨)، والترميذي في سننه (٢٣٤٢) وصححه..
٣ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥٢٠١): ((قوله تعالى: ﴿ولا تنس نصيبك من الدنيا.. ٧٧﴾[القصص] اختلف فيه.
فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك، إذا الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها، فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة.
- وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضيع حظك من دنياك في متعتك بالحلال وطلب إياه، ونظرك لعاقبة دنياك، فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه، وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة، قاله ابن عطية))..
٤ عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((دخل رجل الجنة فرأى على بابها مكتوبا الصدقة بعشرة أمثالها، والقرض بثماني عشر)). أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (٤/١٢٦) وعزاه للطبراني في المعجم الكبير وقال: ((فيه عتبة بن حميد وثقة ابن حبانوغيره وفيه ضعف)).
وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض ثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما للقرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل عنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة)) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٨/٣٣٣)..
٥ الأشر: البطر. وقيل: هو أشد البطر. والبطر: الطغيان في النعمة، فهو بطر: لم يشكرها. [لسان العرب – مادتا: أشر - بطر]..
{ قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد
أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر
جميعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون٧٨ }
لكن ما وجه هذا الرد ﴿ إنما أوتيته على علم عندي.. ٧٨ ﴾[ القصص ] على المطلوبات الخمسة التي طلبوها منه ؟ كأنه يقول لهم : لا دخل لكم بهذه الأمور ؛ لأن الذي أعطاني المال علم أنني أهل له، وأنني أستحقه ؛ لذلك ائتمنني عليه، ولست في حاجة لنصيحتكم.
أو يكون المعنى :﴿ إنما أوتيته على علم عندي.. ٧٨ ﴾[ القصص ]يعني : بمجهودي ومزوالة الأعمال التي تغل على هذا المال، وكان قارون مشهورا بحسن الصوت في قراءة التوراة، وكان حافظا لها.
وكان حسن الصورة، وعلى درجة عالية بمعرفة أحكام التوراة.
فعجيب أن يكون عنده كل هذا العلم ويقول ﴿ إنما أوتيته على علم عندي.. ٧٨ ﴾[ القصص ] ولا يعلم أن الله قد أهلك من قبله قرونا كانوا أشد منه قوة، وأكثر منه مالا وعددا.
﴿ أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا... ٧٨ ﴾[ القصص ]فكيف فاتته هذه المسألة مع علمه بالتوراة ؟
ومعنى :﴿ أو لم يعلم.. ٧٨ ﴾[ القصص ] أي : من ضمن ما علم ﴿ من القرون.. ٧٨ ﴾[ القصص ] أناس كانوا أكثر منه مالا، وقد أخذهم الله وهم أمم لا أفراد، وكلمة، ﴿ جمعا.. ٧٨ ﴾[ القصص ] يجوز أن تكون مصدرا يعني : جمع المال، أو : اسم للجماعة أي : له عصبة.
وبعد ذلك قال سبحانه :﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون٧٨ ﴾ [ القصص ]وعلامة أنهم لا يسألون أن الله تعالى يأخذهم دون إنذار يأخذهم على غرة، فلن يقول لقارون : أنت فعلت كذا وكذا، وسأفعل بك كذا وكذا، وأخسف بك وبدارك الأرض، فأفعالك معلومة لك، والحيثيات السابقة كفيلة بأن يفاجئك العذاب.
وهكذا يتوقع أن يأتيه الخسف والعذاب في أي وقت، إذن : لن نسألهم، ولن نجري معهم تحقيقا كتحقيق النيابة أو ( البوليس )، حيث لا فائدة من سؤالهم، وليس لهم عندنا إلا العقاب.
{ فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون
الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه
لذو حظ عظيم٧٩ }
قلنا : إن قارون كان بطبيعة الحال غنيا وجيها، حسن الصوت والصورة، كثير العدد، كثير المال، فكيف لو أضفت إلى هذا كله أن يخرج في زينته وفي موكب عظيم، وفي أبهة﴿ فخرج على قومه في زينته.. ٧٩ ﴾ [ القصص ]
وللعلماء كلام كثير١ في هذه الزينة التي خرج فيها قارون، فقد كان فيها ألف جارية من صفاتهن كذا وكذا، وألف فرس.. إلخ، حتى أن الناس انبهروا به وبزينته، بل وانقسموا بسببه قسمين : جماعة فتنوا به، وأخذهم بريق النعمة والزينة والزهو وترف الحياة، ومدوا أعينهم إلى ما هو فيه من متعة الدنيا.
وفي هؤلاء يقول تعالى :﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم٧٩ ﴾[ القصص ] وقد خاطب الحق – تبارك وتعالى – نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا.. ١٣١ ﴾ [ طه ]
والمعنى : لا تنظر إلى ما في يد غيرك، واحترم قدر الله في خلق الله، واعلم أنك إن فرحت بالنعمة عند غيرك أتاك خيرها يطرق بابك وخدمتك كأنها عندك، وإن كرهتها وحسدته عليها تأبت عليك، وحرمت نفعها ؛ لأن النعمة أعشق لصاحبها من عشقه لها، فكيف تأتيه وهو كاره لها عند غيره ؟
لذلك من صفات المؤمن أن يحب الخير عند أخيه كما يحبه لنفسه. وحين لا تحب النعمة عند غيرك، فما ذنبه هو ؟ فكأنك تعترض على قدر الله فيه، وما دمت قد تأبيت واعترضت على قدر المنعم، فلا بد أن يحرمك منها.
لذلك يقول سبحانه في موضع آخر :﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض.. ٣٢ ﴾ [ النساء ]
لأن لكل منكم مهمة ودورا في الحياة، ولكل منكم مواهبه وميزاته التي يمتاز بها عن الآخرين، لابد أن يكون فيك خصال أحسن ممن تحسده، لكنك غافل عنها غير متنبه لها.
وسبق أن قلنا : إن الحق سبحانه قد وزع أسباب فضله على خلقه ؛ لأننا جميعا أمام الله سواء، وهو سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ؛ لذلك قلنا : إن مجموع مواهب كل فرد تساوي مجموع مواهب الآخر، فقد تزيد أنت عني في خصلة، وأزيد عنك في أخرى، فهذا يمتاز بالذكاء، وهذا بالصحة، وهذا بالعلم، وهذا بالحلم.. إلخ.
لأن حركة الحياة تتطلب كل هذه الإمكانيات، فبها تتكامل الحياة، وليس من الممكن أن تتوفر كل هذه المزيا لشخص واحد يقوم بكل الأعمال، بل إن تميزت في عملك، وأتقنت مهمتك فلك الشكر.
ومن العجيب ألا تنتفع أنت بنبوغك، في حين ينتفع به غيرك، ومن ذلك قولهم مثلا ( باب النجار مخلع )، فلماذا لا يصنع بابا لنفسه، وهو نجار ؟ قالوا : لأنه الباب الوحيد الذي لا يتقاضى عليه أجرا.
إذن : حينما تجد غيرك متفوقا في شيء فلا تحقد عليه ؛ لأن تفوقه سيعود عليك، وضربنا لذلك مثلا بشيء بسيط : حين تمسك المقص بيدك اليمنى لتقص أظافر اليد اليسرى تجد أن اليد اليمنى – لأنها مرنة سهلة الحركة – تقص أظافر اليسرى بدقة، أما حين تقص اليسرى أظافر اليمنى فإنها لا تعطيك نفس المهارة التي كانت لليمنى.
إذن : فحسن اليمنى تعدى لليسرى ونفعها.
وهكذا إذا رأيت أخاك قد تفوق في شيء أو أحسن في صنعه فاحمد الله ؛ لأن حسنه وتفوقه سيعود عليك، وقد لا يعود عليه هو، فلا تحسده، ولا تحقد عليه، بل ادع له بالمزيد ؛ لأنك ستنتفع به في يوم من الأيام.
لكن ماذا قال أهل الدنيا الذين بهروا بزينة قارون ؟ قالوا :﴿ يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم٧٩ ﴾[ القصص ] يعني : كما نقول نحن ( حظه بمب ) ؛ لأن هؤلاء لا يعنيهم إلا أمر الدنيا ومتعها وزخرفها، أما أهل العلم وأهل المعرفة فلهم رأي مخالف، ونظرة أبعد للأمور ؛ لذلك ردوا عليهم :
{ وقال الذين أوتوا العلم ويلكم
ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا
ولا يلقاها إلا الصابرون٨٠ }
إن الذي جعل الحقيقة علقما***لم يخل من أهل الحقيقة جيلا
وما دام أن الله تعالى قال في الجماعة الأولى :﴿ وقال الذين يريدون الحياة الدنيا.. ٧٩ ﴾ [ القصص ] فهم لا يرون غيرها، ولا يطمحون لأبعد منها، وقال في الأخرى :﴿ وقال الذين أوتوا العلم.. ٨٠ ﴾[ القصص ] فهذا يعني : أن أهل الدنيا ( سطحيون )، لم يكن عندهم علم ينفعهم ؛ لذلك وقعوا في هذا المأزق الذي نجا منه أهل العلم، حينما أجروا مقارنة بين الطمع في الدنيا والطمع في الآخرة.
كما قلنا سابقا : إن عمر الدنيا بالنسبة لك ؛ لا تقل من آدم إلى قيام الساعة ؛ فعمرك أنت فيها عمر موقوت، لا بد أن يفنى. إذن : العاقل من يختار الباقية على الفانية، لذلك أهل الدنيا قالوا ﴿ يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون.. ٧٩ ﴾ [ القصص ]
أما أهل العلم والمعرفة فردوا عليهم :﴿ ويلكم.. ٨٠ ﴾[ القصص ] أي : الويل لكم بسبب هذا التفكير السطحي، وتمنى ما عند قارون الويل والهلاك لكم بما حسدتم الناس، وبما حقدتم عليهم، وباعتراضكم على أقدار الله في خلقه.
فأنتم تستحقون الهلاك بهذا ؛ لذلك قال الله عنهم في موضع آخر :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ٦ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا.. ٧ ﴾ [ الروم ]
يعني : لا يعرفون حقيقة الأشياء، ولو عرفوا ما قالوا هذا الكلام، وما تمنوا هذه الأمنية.
ثم يلفت أهل العلم والمعرفة أنظار أهل الدنيا، ويوجهونهم الوجهة الصحيحة :﴿ ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا.. ٨٠ ﴾[ القصص ] أي : ثواب الله خير من الدنيا، ومما عند قارون، وكيف تتمنون ما عنده، وقد شجبتم تصرفاته، ونهيتموه عنها، ولم ترضوها ؟
ومعنى :﴿ ولا يلقاها إلا الصابرون ٨٠ ﴾[ القصص ] أي : يلقى الإيمان والعمل الصالح والهداية، ليقبل على عمل الآخرة، ويفضلها عن الدنيا، أي : يلقي قضية العلم بالحقائق، ولا تخدعه طواهر الأشياء. هذه لا يجدها ولا يوفق إليها إلا الصابرون، كما قال سبحانه في آية أخرى :﴿ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم٣٥ ﴾ [ فصلت ]
والصبر : احتمال ما يؤذي في الظاهر، لكنه ينعم في الباطن. وله مراحل، فالله تعالى كلفنا بطاعات فيها أوامر، وكلفنا أن نبتعد عن معاص، وفيها نواه، وأنزل علينا أقدارا قد لا تستطيبها نفوسنا، فهذه مراحل ثلاث.
فالطاعات ثقيلة وشاقة على النفس ؛ لذلك يقول تعالى عن الصلاة :﴿ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين٤٥ ﴾ [ البقرة ] فهناك دواع شتى تصرفك عن الصلاة، وتحاول أن تقعدك عنها، فتجد عند قيامك للصلاة كسلا وتثاقلا.
واقرأ قوله تعالى عن الصلاة مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها.. ١٣٢ ﴾[ طه ] وهذا دليل على أنها صعبة وشاقة على النفس، لطن إن تعودت عليها، وألفتها النفس صارت أحب الأشياء إليك، وأخفها على نفسك، بل وقرة عين لك.
والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذا الدرس في قوله لمؤذنه بلال :( ( أرحنا بها يا بلال ) )١ لا أرحنا منها تلك المقالة التي يقولها لسان حالنا الآن.
ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم :( ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) )٢وخص الصلاة بالذات من بين سائر العبادات، لأنها تتكرر في اليوم خمس مرات، فهي ملازمة للمؤمن يعايشها على مدى يومه وليلته بخلاف الأركان الأخرى، فمنها ما هو مرة واحدة في العام، أو مرة واحدة في العمر كله.
هذا هو النوع الأول من الصبر، وهو الصبر على مشقة الطاعة.
الثاني : الصبر عن شهوة المعصية، ولا تنس أنه أول صبر تصادفه في حياتك أن تصبر على نفسك ؛ لذلك يقول الشاعر٣ :
إذا رمت أن تستقرض المال منفقا***على شهوات النفس في زمن العسر
فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها***عليك وإنظارا إلى ساعة اليسر
فإن فعلت كنت الغني وإن***أبت فكل منوع بعدها واسع العذر
فبدل أن تقترض لقضاء شهوة نفس عاجلة، فأولى بك أن تصبر إلى أن تجد سعة وتيسيرا، فصبرك على نفسك أهون من صبر الناس عليك، وإن لم تسعك نفسك، فلا عذر لأحد بعد ذلك إن منعك.
الثالث : صبر على الأقدار المؤلمة التي لا تفطن أنت إلى الحكمة منها، فالأقدار ما دامت من حكيم، ومجريها عليك رب، إذن لابد أن لها حكمة فيك، فخذ القضية القدرية بحكمة مجريها عليك، فهو سبحانه ربك، وليس عدوك، أنت عبده وصنعته، ألم تقرأ قول الرسول في الحديث الشريف :( ( الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أرأفهم بعياله ) )٤.
إذن : حين تجري عليك الأقدار المؤلمة، فيكفيك للصبر عليها أن تعلم أنها حكمة الله، ويكفيك أن مجريها عليك ربك، فإن جاءت الأقدار المؤلمة بسبب تقصيرك، فلا تلومن إلا نفسك، كالطالب الذي يهمل دروسه ويتكاسل، فيفشل في الإمتحان، فالفشل نتيجة إهماله وتكاسله.
أما الذي يذاكر ويجد ويكبر إلى الامتحان مستبشرا فتصدمه سيارة مثلا في الطريق، تمنعه من أداء امتحانه، فهذا هو القدر المؤلم الذي له حكمة، وربما داخله شيء من الغرور، وعول على مذاكرته، ونسي توفيق الله له، فأراد الله أن يلقنه هذا الدرس ليعلمه أن الأمر في النهاية بيد الله وبمعونته، وأنه الخاسر إن لم تصادفه هذه المعونة، على حد قول الشاعر :
إذا لم يكن عون من الله للفتى***فأول ما يجنى عليه اجتهاده
فعليك إذن أن تنظر إن كانت المصيبة نتيجة لما قدمت، فلا تلومن إلا نفسك، فإن كنت قد أخذت بالأسباب، واستوفيت ما طلب منك، ثم أصابتك المصيبة، فاعلم أن لله فيها حكمة، وعليك أن تحترم حكمة الله وقدره في خلقه.
وباعتبار آخر، يمكن أن نقسم المصائب إلى قسمين : قسم لك فيه غريم، كأن يعتدي عليك غيرك بضرب أو قتل أو نحوه، وقسم ليس لك فيه غريم كالموت والمريض مثلا.
وقد أعطانا الحق – سبحانه وتعالى – حكما في كل منهما، ففي النوع الأول حيث لا غريم لك، يقول تعالى على لسان لقمان وهو يوصي ولده :﴿ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور١٧ ﴾ [ لقمان ]
ويقول فيما لك فيه غريم :﴿ ولمن صبر وغفر.. ٤٣ ﴾[ الشورى ] فما دام قد ذكر المغفرة ودعاك إليها، فلا بد أن أمامك غريما، ينبغي أن تصبر عليه، وأن تغفر له، والغريم يهيجني إلى المعصية وإلى الانتقام، فكلما رأيته أتميز غيظا، فالصبر في هذه الحالة أشد ويحتاج إلى عزيمة قوية.
لذلك قال سبحانه :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور٤٣ ﴾[ الشورى ]ولم يقل كما في الأولى :﴿ إن ذلك من عزم الأمور١٧ ﴾ [ لقمان ] إنما بصيغة التأكيد باللام ( لمن ).
ويعلمنا ربنا – تبارك وتعالى – كيف نعالج غيظ النفوس أمام الغريم، فيقول سبحانه :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين١٣٤ ﴾
[ آل عمران ]
هذه مراحل ثلاث، تتدرج بك حسب ما عندك من استعداد للخير وقدرة على التسامح، فأولها : أن تكظم غيظك، هذا يعني أن الغيظ موجود، لكنك تكتمه في نفسك، فإن ارتقيت عفوت بأن تخرج الغيظ والغل من نفسك، كأن شيئا لم يحدث، فإن ارتقيت إلى المرتبة الأعلى أحسنت، لأن الله تعالى يحب المحسنين، والإحسان أن تقدم الخير وتبادر به من أساء إليك، فتجعله ردا على إساءته.
ولا شك أن هذه المراحل تحتاج إلى مجاهدة ؛ فهي قاسية على النفس، وقلما تجد من يعمل بها ؛ لذلك ما جعلها الله على وجه الإلزام، إنما ندب إليها وحث عليها، فإن أخذت بأولاها فلا شيء عليك ؛ لأن الله تعالى أباح لك أن ترد الإساءة بمثلها، فإن كظمت غيظك فأنت على خير، وإن اخترت لنفسك الرقي في طاعة ربك، فنعم الرجل أنت، ويكفيك ﴿ والله يحب المحسنين١٣٤ ﴾ [ آل عمران ]
ويكفيك أن المسيء بإساءته إليك جعل الله في جانبك، فهو مع إساءته إليك يستحق مكافأة منك، كما قال أحد العارفين : ألا أحسن لمن جعل الله في جانبي ؟
وضربنا لذلك مثلا بالوالد حين يجد أن احد الأولاد اعتدى على الآخر، فيميل ناحية المعتدي عليه ويتودد إليه، ويحاول إرضاءه، حتى إن المعتدي ليغتاظ ويندم على أنه أساء إلى أخيه، كذلك الحق – تبارك وتعالى – إن اعتدى بعض خلقه على بعض يحتضن المظلوم، وينصره على من ظلمه.
٢ أخرجه أحمد في مسنده (٣/١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥) والنسائي في سننه (٧/٦١) والحاكم في مستدركه (٢/١٦٠) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقة الذهبي، وتمامة: ((حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني الصلاة))..
٣ من شعر الشيخ رحمه الله..
٤ أخرج نحوه من حديث عبد الله بن مسعود أبو نعيم في الحلية (٤/٢٣٧) وابن الجوزي بإسناده في ((العلل المتناهية)) (٢/٥١٩) وضعفه. وأورده العجلوني في كشف الخفاء (١/٤٥٧)..
{ فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة
ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين٨١ }
والخسف : أن تشق الأرض فتبتلع ما عليها، كالذي يقول ( يا أرض انشقى وابلعيني )، والخسف كان به وبداره التي فيها كنوزه وخزائنه وما يملك ﴿ فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله.. ٨١ ﴾[ القصص ]، فما نفعه مال، ولا دافع عنه أهل ﴿ وما كان من المنتصرين ٨١ ﴾[ القصص ] أي : بذاته. فلم تكن له عصبة تحميه، ولا استطاع هو حماية نفسه، فمن يدفع عذاب الله إن حل، ومن يمنعه وينفذه إن خسفت به الأرض ؟ !
وهنا ينبغي أن نتسأل : كيف الآن حال من اغتروا به، وفتنوا بماله وزينته ؟
{ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون
ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده
ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه
لايفلح الكافرون٨٢ }
لقد كانوا بالأمس يقولون ﴿ يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون.. ٧٩ ﴾[ القصص ]، لكن اليوم وبعد أن عاينوا ما حاق به من عذاب الله وبأسه الذي لا يرد عن القوم الكافرين – اليوم يثوبون إلى رشدهم ويقولون :﴿ ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر.. ٨٢ ﴾ [ القصص ]
كلمة( وى ) اسم فعل مثل : أف وهيهات، وتدل على الندم والتحسر على ما حدث منك، فهي تنديد وتخطيء للفعل، وقد تقال ( وي ) للتعجب. فقولهم ( وي ) ندما على ما كان منهم من تمنى النعمة التي تنعم بها قارون وتخطيئا لأنفسهم، بعد أن شاهدوا الخسف به وبداره، وهم يندمون الآن ويخطئون أنفسهم ؛ لأن لله تعالى في رزقه حكمة وقدرا.
﴿ يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر.. ٨٢ ﴾[ القصص ] أي : يقبض ويضيق، وليس بسط الرزق دليل كرامة، ولا تضييقه دليل إهانة، بدليل أن الله بسط الرزق لقارون، ثم أخذه عزيز مقتدر.
وقد تعرضت سورة الفجر لهذه المسألة في قوله تعالى :﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن١٥ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن١٦ ﴾ [ الفجر ]
فالأول اعتبر الرزق الواسع دليل الكرامة، والآخر اعتبر التضييق دليل إهانة، فرد الحق سبحانه عليهما ليصحح هذه النظرة فقال :﴿ كلا.. ١٧ ﴾[ الفجر ] يعني : أنتما خاطئان، فلا سعة الرزق دليل كرامة، ولا تضيقه دليل إهانة، وإلا فكيف يكون إيتاء المال دليل كرامة، وأنا أعطي بعض الناس المال، فلا يؤدون حق الله فيه ؟
﴿ كلا بل لا تكرمون اليتيم ١٧ ولا تحاضون على طعام المسكين١٨ وتأكلون التراث أكلا لما ١٩ وتحبون المال حبا جما٢٠ ﴾ [ الفجر ]
إذن : فأي كرامة في مال يكون وبالا على صاحبه، وابتلاء لا يوفق فيه، فلو سلب هذا المال من صاحبه لكان خيرا له، فما أشبه هذا المال بالسلاح في يد الذي لا يحسن استعماله، فربما قتل نفسه به.
وقوله تعالى :﴿ لولا أن من الله علينا لخسف بنا.. ٨٢ ﴾[ القصص ] لأنهم بالأمس تمنوا مكانه، أما الآن فيعترفون بأن الله من عليهم حين نجاهم من هذا المصير، ثم يقولون ﴿ ويكأنه لا يفلح الكافرون٨٢ ﴾[ القصص ] تعجب من أنه لا يفلح الكافرون عند الله تعالى.
{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في
الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين٨٣ }
لأنه لا يصح أن يعلو الإنسان على بني جنسه، ولا على بيئته إلا بشيء ذاتي فيه، فلا يصح أن يعلو بقوته ؛ لأنه قد يمرض، فيصير إلى الضعف، ولا بماله لأنه قد يسلب منه.
إذن : إياك أن تعلو على غيرك بشيء موهوب لك، إن أردت فبشيء ذاتي فيك، وليس فيك شيء ذاتي، فلست أفضل من أحد حتى تعلو عليه، كما أن الدنيا أغيار، وربما انتقل ما عندك إليهم، فهل يسرك إن صار غيرك غنيا أو قويا أن يتعالى عليك ؟
ثم أنت لا تستطيع العلو إلا بالاعتماد على قوة أعلى منك تسندك، وجرب بنفسك وحاول أن تقفز إلى أعلى كلاعب السيرك، ثم أمسك نفسك في هذا العلو، وطبعا لن تستطيع، لماذا ؟ لأنه لا ذاتية لك في العلو.
وما دام الأمر كذلك، فإياك أن تعلو ؛ لأنك بعلوك تحفظ الآخرين ؛ فإن حصل لك العكس شتموا فيك، وأيضا لأن الإنسان لا يعلو في بيئة ولا في مكان إلا إذا رأى كل من حوله دونه، حين ترى أن كل الناس دونك فأنت لم تتنبه إلى أسرار فضل الله في خلقه.
ولو تأملت لوجدت في كل منهم خصلة ليست عندك، ولو قدرت أن الناس جميعا عيال الله وخلقه، ليس منا من بينه وبين الله نسب أو قرابة ونحن جميعا عنده تعالى سواء، وقد وزع المواهب بيننا جميعا بالتساوي، وبالتالي لا يمتاز أحد على أحد، فلم التعالي إذن ؟ ولم الكبر ؟
وأيضا الذي يتعالى لا يتعالى إلا في غفلة منه عن ملاحظة كبرياء ربه، وإلا فالذي يستحضر عظمة ربه وكبرياءه لابد له أن يتواضع، وأن يتضاءل أمام كبريائه تعالى، وأن يستحي أن يتكبر على خلقه.
والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نحترم الآخرين ؟ وكيف نتواضع لهم ؟ فلما دخل عليه الصحابي الجليل عدى بن حاتم١ قام عن كرامة مجلسه له، يعني : إن كان جالسا على ( وسادة مثلا ) يقوم عنها، ويعطيها لصاحبه ليجلس هو عليها.
وهكذا يحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على المساواة في المجلس ؛ لذلك قال عدى بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أنك لا تريد علو في الأرض، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأسلم.
وعجيب ما نراه مثلا في مساجدنا، وهي بيوت الله وأولى الأماكن بهذه المساواة، فتراهم إذا دخل أحد أصحاب النفوذ يفرشون له مصلى ليصلي عليها، مع أن المسجد مفروش، على أعلى مستوى من النظافة، فلماذا هذا التمييز ؟
ومع ذلك نجد منهم من يزيح هذه المصلى جانبا، ويصلي كما يصلي بقية الناس، وأظن أن الذي يقبل أن توضع له هذه المصلى أظنه يبتغي علوا في الأرض.
والحق سبحانه يريد للإنسان أن يعيش سوى الحركة في أسوياء لتظل القلوب متآلفة، لا يداخلها ضغن، وإذا خلت القلوب من الضغن وسع الناس جميعا رغيف عيش واحد.
ثم يقول سبحانه :﴿ والعاقبة للمتقين٨٣ ﴾ [ القصص ]أي : العاقبة الخيرة، والعاقبة الحسنة في النعيم المقيم الدائم للمتقين.
{ من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا
يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعلمون٨٤ }
قلنا : إن كلمة ( خير ) تطلق ويراد بها ما يقابل الشر، كما في قوله تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره٨ ﴾ [ الزلزلة ]
وتطلق ويراد بها الأحسن في الخير، تقول : هذا خير من هذا، فكلاهما فيه خير، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ) )١ فهي بمعنى التفضيل، أي : أخير منها، ومن ذلك قول الشاعر :
زيد خيار الناس***وابن الأخير
فجاء بصيغة التفضيل على الأصل. وتقول : هذا حسن، وذلك أحسن.
فالمعنى هنا :﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها.. ٨٤ ﴾[ القصص ]أي : خير يجيئه من طريقها، أو إذا عمل خيرا أعطاه الله أخير منه وأحسن، والمراد أن الحسنة بعشر أمثالها.
والحق سبحانه يعطينا صورة توضيحية لهذه المسألة، فيقول سبحانه :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم٢٦١ ﴾ [ البقرة ]
فقوله تعالى :﴿ من جاء بالحسنة.. ٧٤ ﴾[ القصص ]قضية عقدية، تثبت وتقرر الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، ومعنى ﴿ جاء بالحسنة.. ٨٤ ﴾ [ القصص ] أي : أتى بها حدثا لم يكن موجودا، فحين تفعل أنت الحسنة فقد أوجدتها بما خلق الله فيك من قدرة على الطاعة وطاقة لفعل الخير.
أو المعنى : جاء بالحسنة إلى الله أخيرا لينال ثوابها، ولا مانع أن تتجمع له هذه المجيئات كلها ليقبل بها على الله، فيجازيه بها في الآخرة.
لكن، هل ثواب الحسنة مقصور فقط على الآخرة، أم أن الدين بقضاياه جاء لسعادة الدنيا وسعادة الآخرة ؟ فما دام الدين لسعادة الدارين فللحسنة أثر أيضا في الدنيا، لكن مجموعها يكون لك في الآخرة.
وهذه الآية جاءت بعد الحديث عن قارون، وبعد أن نصحه قومه، وجاء في نصحهم :﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك.. ٧٧ ﴾[ القصص ] إذن : فطلبهم أن يحسن كما أحسن الله إليه جاء في مجال ذكر الحسنة، والحسنة أهي الشيء الذي يستطيبه الإنسان ؟ لا، لأن الإنسان قد يستطيب الشيء ثم يجلب عليه المضرة، وقد يكره الشيء ولا يستطيبه، ويأتي له بالنفع.
فمن إذن الذي يحدد الحسنة والسيئة ؟ ما دام الناس مختلفين في هذه المسألة، فلا يحدده إلا الله تعالى، الذي خلق الناس، ويعلم ما يصلحهم، وهو سبحانه الذي يعلم خصائص الأشياء، ويعلم ما يترتب عليها من آثار، أما الإنسان فقد خلقه الله صالحا للخير، وصالحا للشر، يعمل الحسن، ويعمل القبيح، وربما اختلطت عليه المسائل.
لذلك يقولون في تعريف الحسنة : هي ما حسنه الشرع، لا ما حسنتها أنت، فنحن مثلا نستسيغ بعض الأطعمة، ونجد فيها متعة ولذة، مع أنها مضرة، في حين نأنف مثلا من أكل الطعام المسلوق، مع أنه أفيد وأنفع ؛ لذلك يقول تعالى في صفة الطعام :﴿ فكلوه هنيئا مريئا٤ ﴾ [ النساء ] لأن الطعام قد يكون هنيئا تجد له متعة، لكنه غير مرىء ويسبب لك المتاعب بعد ذلك.
الحق سبحانه يقول هنا :﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها.. ٨٤ ﴾[ القصص ] فالحسنة خير، لكن الثواب عليها خير منها أي : أخير ؛ لأنه عطاء دائم باق لا ينقطع، أو خير يأتيك بسببها. كما يقول أصحاب الألغاز واللعب بالكلمات : محمد خير من ربه، والمعنى : خير يصلنا من الله، ولا داعي لمثل هذه الألغاز طالما تحتمل معنى غير مقبول.
ثم يقول سبحانه :﴿ من جاء بالسيئة.. ٨٤ ﴾[ القصص ] لم يقل الحق سبحانه : فله أشر منها، قياسا على الحسنة فنضاعف السيئة كما ضاعفنا الحسنة، وهذه المسألة مظهر من مظاهر رحمة الله بخلقه، هذه الرحمة التي تتعدى حتى إلى العصاة من خلقه.
لذلك قال ﴿ فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ٨٤ ﴾[ القصص ] أي : على قدرها دون زيادة.
واقرأ إن شئت قوله تعالى في سورة ( عم ) :﴿ إن للمتقين مفازا ٣١ حدائق وأعنابا٣٢وكواعب٢أتربا٣٣ وكأسا دهاقا٣٣٤ لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا٣٥ جزاء من ربك عطاء حسابا٣٦ ﴾[ النبأ ] فحسابا هنا لا تعني أن الجزاء بحساب على قدر العمل، إنما تعني كافيهم في كل ناحية من نواحي الخير، ومنه قولنا : حسبي الله يعني : كافيني.
وفي المقابل سبحانه في السيئة :﴿ جزاء وفاقا ٢٦ ﴾[ النبأ ] أي : على قدرها موافقا لها.
إذن : فربنا – عز وجل – يعاملنا بالفضل لا بالعدل ؛ ليغري الناس بفعل الحسنة، وأنت حين تفعل الحسنة فأنت واحد تقدم حسنتك إلى كل الناس، وفي المقابل يعود عليك أثر حسنات الجماهير كلها، فينالك من كل واحد منهم حسنة، كأنه ( أوكازيون ) حسنات يعود عليك أنت.
٢ الكواعب الأتراب: أي فتيات ناضجات متماثلات في السن. وكعب الثدي: برز ونهد يقال للفتاة: كاعب، أي: ذات ثدي بارز. [القاموس القويم ٢/١٦٤]..
٣ الكأس الدهاق: الممتلئة المتتابعة على شاربيها. وقوله تعالى ﴿وكأسا دهاقا ٣٤﴾[النبأ] أي: هي الامتلاء الدائم، وهذا كناية عن النعيم الدائم.[القاموس القويم ١/٢٣٤]..
{ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل
ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ظلال مبين٨٥ }
معنى فرض : ألزم وأوجب وحتم. وأصل الفرض الحز والقطع، كما تقطع شيئا بالسكين مثلا تسمى فرضا ؛ لأنها خرجت عن طبيعة تكوينها، كذلك القرآن يخرج النفس عن طبيعة مشتهاها، ويقطع عليها مشيئتها، ويردها إلى مشيئة الله ؛ لذلك يقول سبحانه في أول سورة النور :﴿ سورة أنزلناها وفرضناها.. ١ ﴾ [ النور ]
يعني : حتمناها وألزمنا بها، والإلزام يعني رد النفس إلى ما يريده خالقها منها، بصرف النظر عما تشتهيه هي، فقد يأمرها بما تكره، وينهاها عما تحب. إذن : يقطع سيال النفس ؛ لأنها عادة ما تكون أمارة بالسوء، تنظر إلى العاجل، ولا تهتم بالآجل ولا تعمل له حسابا.
فالقرآن منهج الله بافعل ولا تفعل، هو الذي يكبح جماح النفس، ويحدد لها محال مشيئتها ؛ لأن الخالق – عز وجل – خلق النفس، وجعل مشيئتها صالحة لعمل الخير، ولعمل الشر.
وسبق أن تكلمنا عن الفرق بين عباد وعبيد وقلنا : إن الخلق جميعا عبيد لله، المؤمن منهم والكافر، وإن تأبى الكافر على الله في الإيمان، فهو مقهور له تعالى في مسائل أخرى، كالمرض والموت وغيره، ثم أعطانا الله تعالى مجالا للاختيار، ليثيب من يثيب بحق، ويعذب من يعذب بحق.
والعاقل حينما يرى أنه مقهور لله في قدريات لا يستطيع منها فكاكا، وليس له فيها تصرف، فيتنازل عن مراده، وعن اختياره لمراد ربه واختيار ربه، ويرضى أن يكون مسيرا في كل شيء، وهنا يتحولون من عبيد إلى عباد.
فالعباد إذن هم الذين يخرجون عن اختياراتهم الممنوحة لهم من الله إلى مراد الله في الحكم، وبهذا المنطق يكون الجميع في الآخرة عبادا ؛ لأنه لا اختيار لهم، ويستوي في ذلك المؤمن والكافر، يوم يقول سبحانه :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار١٦ ﴾[ غافر ]
وسمى إنزال القرآن فرضا لما في القرآن من تكاليف، وهي عادة ما تكون شاقة على النفس، ألا ترى قوله تعالى عن الصلاة، وهي أم العبادات :﴿ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين٤٥ ﴾ [ البقرة ]
فلا يعرف منزلتها ومكانتها إلا خاشع ؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال :( ( أرحنا بها يا بلال ) )١ويقول :( ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) )٢لأنه صلى الله عليه وسلم أحبها وعشقها، حتى صارت قرة عينه، ومنتهى راحته.
إذن : أول ما يفرض التكليف لابد أن يكون شاقا ؛ لذلك يحتاج إلى صلابة إيمان وجلد يقين، بحيث تثق في أن العمل الشاق عليك الآن سيجلب لك الخير والسعادة الباقية الدائمة في الآخرة.
ويقول تعالى عن القتال :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم.. ٢١٦ ﴾[ البقرة ] فلا شك أن مكروه للنفس، لكن إن استحضرت الجزاء، وعرفت أنه : إما النصر، وإما الشهادة، فإنه يحلو لك حتى تعشقه، وتبادر أنت إليه، كالصحابى في بدر بعد أن سمع ما للشهيد من الأجر وكان في فمه تمرة يمضغها فقال :( ( أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقاتل فأقتل ) ) ؟ ثم ألقى التمرة وأسرع إلى ساحة القتال٣.
لذلك الحق سبحانه يضخم الجزاءات في نفس المؤمن ؛ ليقبل على العمل بحب وشهوة. ومن هنا يقول بعض العارفين الذين عشقوا الخير حتى أصبح شهوة نفس عندهم : أخشى ألا يثيبنى الله على الطاعة، لماذا ؟ يقول : لأنني أصبحت أشتهيها، أي : كما يشتهي أهل المعصية المعصية.
وحين يصل الإيمان بصاحبه إلى درجة أنه يعشق الطاعة، فقد أصبح ربانيا يثق فيما عند الله من الجزاء.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فلما سألته السيدة عائشة : ألم يغفر لك ربك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال :( ( أفلا أكون عبدا شكورا ) )٤ ؟
ومعنى :﴿ لرادك إلى معاد... ٨٥ ﴾[ القصص ] يعني : يجازيك أفضل الجزاء، ونزلت هذه الآية لما اضطهد أهل مكة رسول الله وآذوه، حتى اضطروه للذهاب إلى الطائف ليبحث فيها عن نصير، لكنهم لم يكونوا أقل قسوة من أهل مكة، فعز على رسول الله النصير فيها، وعاد منكسرا حزينا لم يجد من يدخل في جواره، إلى أن أجاره مطعم بن عدي.
وتأمل حين يكون رسول الله بجلالة قدره لا يجد من يناصره، أو يدخله في جواره، أما الصحابة فلم تكن لهم شوكة بعد، ولا قوة لحماية رسول الله، وفي هذه الفترة لاقوا المشاق في سبيل الدعوة، فحاصرهم الكفار في شعب أبي طالب، وفرضوا عليهم المقاطعة التامة حتى عزلوهم عن الناس، ومنعوا عنهم الطعام والشراب، والبيع والشراء، حتى الزواج، وحتى اضطروا إلى أكل المخلفات وأوراق الشجرة.
لذلك أمرهم الله بالهجرة، والهجرة تكون إلى دار أمن، أو إلى دار إيمان، إلى دار أمن كالهجرة إلى الحبشة حيث قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا حيثية الهجرة إليها :( ( إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد ) )٥يعني : النجاشي ملك الحبشة، وفعلا صدق فيه قول رسول الله، فلما أرسلت قريش في إثرهم من يكلم النجاشي في طلبهم وإعادتهم إلى مكة، رفض أن يسلمهم، وأن يمكن قريشا منهم، مع أن هدايا قريش كانت عظيمة، والإغراء كان كبيرا.
وهذا يدل على عظمة رسول الله، وعلى فكرة الواسع، وعلى دراسة الخريطة من حوله، ومعرفة من يصلح لهجرة صحابته إليه، فاختياره ملك الحبشة لا يأتي إلا إما بإلهام من الله، أو بذكاء كبير، وهو رجل أمي في أمة أمية، ولو لم يذهب وفد قريش في طلب المهاجرين ما ظهر لنا الدليل على صدق مقولة رسول الله.
ونتيجة ( ( لا يظلم عنده أحد ) ) فقد شرفه الله بالإسلام فأسلم ووكله رسول الله في أن يزوجه من السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت رضي الله عنها من المهاجرين الأوائل إلى الحبشة مع زوجها الذي تنصر هناك، وبقيت هي على دينها وتمسكت بعقيدتها.
وفي هذا دليل أولا : على مدى ما كان يلاقيه المؤمنون من إيذاء الكافرين، ثانيا : دليل على الطاعة الواعية للزواج، فقد آثرت الخروج مع زوجها لا عشقا له، ولا هياما به، إنما فرارا معه بدينها ؛ لذلك لما تنصر لم تتردد في تركه ؛ لذلك طلبها رسول الله لنفسه، ثم لما مات النجاشي صلى الله عليه رسول الله وترحم عليه. هذه هي هجرة الإيمان إلى دار الأمن.
ثم كانت الهجرة بعد ذلك إلى دار الإيمان، إلى المدينة، بعد بيعة العقبة الأولى والثانية، وبعد أن وجد رسول الله أنصارا يتحملون معه أعباء الدعوة، وقد ضرب الأنصار في المدينة أروع مثل في التضحية التي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.
ذلك أن الرجل أغير ما يكون على زوجته، فلا يضن على غيره بما يملك، فتعطيني سيارتك أركبها، أو بيتك أسكن فيه، أو ثوبك ألبسه، وأتقمش به، أما الزوجة فتظل مصونة لا يجرؤ أحد على النظر إليها.
لكن كان للأنصار في هذه المسألة نظرة أخرى حيث أشركوا إخوانهم المهاجرين في كل شيء حتى في زوجاتهم، فقد راعوا فيهم خروجهم من أهلهم وبلادهم، وراعوا غربتهم وما لهم من إربة وحاجة للنساء.
فكان الواحد منهم يقول لأخيه : انظر إلى زوجاتي، فأيتهن أعجبتك أطلقها، وتتزوجها أنت، هذه تضحية لا نجد لها مثيلا في تاريخ الناس حتى عند الكفرة.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فخرج خفية في حين خرج عمر مثلا جهرا وعلانية، حتى إنه وقف ينادي في أهل مكة بأعلى صوته يتحدى أهلها عند خروجه : من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل زوجته فليلقني خلف هذا الوادي.
أما رسول الله فقد خرج خفية، وهذه المسألة يقف عندها البعض أو تخفى عليه الحكمة منها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائما أسوة للضعيف، أما القوي فلا يحتاج إلى حماية أحد، ولا عليه إن خرج علانية ؛ لذلك لا يستحي أحد أن يتخفى كما تخفي رسول الله.
ثم إنك حين تتأمل : نعم خرج رسول الله خفية لكنها خفية التحدي، فقد خرج من بين فتيانهم المتربصين به، وعفر وجوههم بالتراب، وهو يقول ( ( شاهت الوجوه ) )٦.
ومع ذلك لم يمنعه تأييد الله له أن يأخذ بأسباب النجاة، فخالف الطريق ؛ لأن كفار مكة كانوا يعرفون أن وجهته المدينة لما عقد بيعه العقبة مع الأنصار ؛ لذلك ترصدوا له على طريقها، وأرسلوا العيون للبحث عنه، وجعلوا جعلا لمن يأتيهم به صلى الله عليه وسلم.
والمتأمل في حادث الهجرة يجد أنها خطة محكمة تراعي كل جوانب الموقف، كأن الله تعالى يريد أن يعلمنا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نهمل الأسباب، وألا نتصادم مع الواقع ما دمنا قادرين على ذلك.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وهي بلده، وأحب البلاد إلى قلبه قال :( ( اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني أحب البلاد إليك ) )٧.
لذلك إن كانت مكة محبوبة لرسول الله، فالمدينة محبوبة لله ؛ لذلك بعد أن خرج رسول الله من مكة وقارب المدينة حن قلبه إلى مكة، فطمأنه ربه بهذه الآية :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاذ.. ٨٥ ﴾ [ القصص ]
فالذي فرض عليك مشقة التكاليف، وحملك مشاق الدعوة والإقناع بها، وتنفيذ أحكامها. هو الذي سيردك إلى بلدك رد نصر، ورد فتح، وما أشبه رد رسول الله إلى بلده برد موسى عليه السلام إلى أمه في قوله تعالى لأم موسى :﴿ إنا رادوه إليك.. ٧ ﴾[ القصص ] ليس ردا عاديا، إنما ﴿ وجاعلوه من المرسلين٧ ﴾ [ القصص ]
إذن : سيرد إليك ولدك، لكن سيرد رسولا منتصرا. وكما صدق الله في رد موسى يصدق في رد محمد.
ومعنى ﴿ معاد.. ٨٥ ﴾[ القصص ] ليس هو الموعد كما يظن البعض، إنما يراد به المكان الذي تعود إليه بعد أن تفارقه، فالمعنى : سنردك إلى المكان الذي تحن إليه، ويتعلق به قلبك.
أو : نردك إلى ( معاد ) أي : إلينا، كما قال تعالى :﴿ فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون٧٧ ﴾ [ غافر ] ولا مانع من إرادة المعنين معا.
ثم يقول سبحانه :﴿ قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين٨٥ ﴾[ القصص ] الحق تبارك وتعالى يعلم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم الجدل العفيف، لا الجدل العنيف، يعلمه كيف يرد على ما قالوا عن الذي يؤمن به ( صبأ فلان ) يعني : خرج عن دين آبائه وهم يعتقدون أنه الحق، فكأن يؤمن في نظرهم خرج من الحق إلى الباطل.
إذن : فهذه عقول تحتاج إلى سياسة وجدل، كما قال سبحانه :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن.. ١٢٥ ﴾[ النحل ] ؛ لأن الجدل العنيف يزيد خصمك عنادا ولجاجة، أما الجدل العفيف فيستميل القلوب ويعطفها نحوك ؛ لذلك يرد رسول الله بقوله :﴿ قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين٨٥ ﴾[ القصص ] أي : جاء بالهدى من عند الله وهو النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ ومن هو في ضلال مبين٨٥ ﴾[ القصص ]
٢ أخرجه أحمد في مسنده (٣/١٢٨)، والنسائي في سننه(٧/٦١)، والحاكم في مستدركه(٢/١٦٠) من حديث أنس رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقة الذهبي..
٣ أخرجه البخاري في صحيحه (٤٠٤٦)، وكذا مسلم في صحيحه (١٨٩٩) في كتاب الإمارة من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه..
٤ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(٤٨٣٧)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٨٢٠) من حديث عائشة رضي الله عنها. وعند البخاري زيادة: ((فلما كثر لحمه صلى حالسا، فإذا أراد أن يركع قام، فقرأ ثم ركع))..
٥ أورده ابن هشام في السيرة النبوية (١/٣٢١): ((قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء. قال لهم: لو أخرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه))..
٦ ورد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا في حديث الهجرة عن ابن عباس عند أحمد في مسنده (١/٣٦٨) وكذلك في غزوة حنين في صحيح مسلم (١٧٧٧) من حديث إياس بن سلمة عن أبيه، وأحمد في مسنده (١/٢٨٦) والدارمي في سننه (٢/٢١٩) من حديث أبي عبد الرحمان الفهري..
٧ أخرجه الحاكم في مستدركه (٣/٣) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أي: جاء بالهدى من عند اللهى، وقال: هذا حديث رواته مدنيون من بيت أبي سعيد المقبري، قال الذهبي: ((لكنه موضوع، فقد ثبت أن أحب البلاد إلي مكة، وسعد بن سعيد المقبري ليس بثقة))..
{ وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة
من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين٨٦ }
يعني : إذا كنت تتعجب، أو تستبعد أن نردك إلى بلدك ؛ لأن الكفار يقفون لك بالمرصاد، حتى أصبحت لا تصدق أن تعود إليها، فانظر إلى أصل الرسالة معك : هل كنت تفكر أو يتسامى طموحك إلى أن تكون رسولا ؟ إنه أمر لم يكن في بالك، ومع ذلك أعطاك الله إياه واختارك له، فالذي أعطاك الرسالة ولم تكن في بالك كيف يحرمك من أمر أنت تحبه وتشتاق إليه ؟
إذن : تقوم هذه الآية مقام الدليل والبرهان على صدق ﴿ لرادك إلى معاد.. ٨٥ ﴾[ القصص ] وفي موضع آخر يؤكد الحق سبحانه هذا المعنى، فيقول سبحانه :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء.. ٥٢ ﴾[ الشورى ] فالذي أعطاك الرسالة لا يعجز أن يحقق لك ما تريد.
وقوله تعالى :﴿ إلا رحمة من ربك.. ٨٦ ﴾ [ القصص ] هذا استثناء يسمونه استثناء منقطعا.
والمعنى : ما كنت ترجو أن يلقي إليك الكتاب إنما ألقيناه وما ألقيناه إليك إلا رحمة لك من ربك.
وما دام هؤلاء الكفار عاندوك وأخرجوك، فإياك أن تلين لهم﴿ فلا تكونن ظهيرا للكافرين٨٦ ﴾[ القصص ] أي : معينا لهم مساندا، وكانوا قد اقترحوا على رسول الله أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدون إلهه سنة١، فحذره الله أن يعنيهم على ضلالهم، أو يجاريهم في باطلهم، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يناصر ظالما أو مجرما، حتى إن كان من أتباعه.
وسبق أن ذكرنا في تأويل قوله تعالى :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ ﴾ [ النساء ] قصة اليهود زيد بن السمين لما جاءه المسلم طعمة بن أبيريق، وأودع عنده درعا له، وكان هذا الدرع مسروقا من آخر اسمه قتادة بن النعمان، فلما افتقده قتادة بحث عنه حتى وجده في بيت الهودي، وكان السارق قد وضعه في كيس للدقيق، فدل أثر الدقيق على مكان الدرع فاتهموا اليهودي بالسرقة، ولما عرفوا حقيقة الموقف أشفقوا أن ينتصر اليهودي على المسلم، خاصة وهم حديثو عهد بالإسلام، حريصون على ألا تشوه صورته.
لذلك شرحوا لرسول الله هذه المسألة، لعله يجد لها مخرجا، فأدار رسول الله المسألة في ٍرأسه قبل أن يأخذ فيها حكما ؛ وعندها نزل٢ الوحي على رسول الله :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس.. ١٠٥ ﴾ [ النساء ] أي : جميع الناس، المؤمن والكافر ﴿ بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ ﴾[ النساء ] أي : تخاصم من أجلهم ولصالحهم ﴿ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما١٠٦ ﴾[ النساء ] أي : مما خطر ببالك في هذه المسألة.
وفي بعض الآيات نجد في ظاهرها قسوة على رسول الله وشدة مثل :﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل ٤٤ لأخذنا منه باليمين٤٥ ثم لقطعنا منه الوتين٤٦ ﴾[ الحاقة ]
وكل ما يكون في القرآن من هذا القبيل لا يقصد به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الحق سبحانه يريد أن يعطي للأمة نموذجا يلفت أنظارهم، وكأنه تعالى يقول لنا : انتبهوا فإذا كان الخطاب لرسول الله بهذه الطريقة، فكيف يكون الخطاب لكم ؟
كان يكون عندك خادم يعبث بالأشياء حوله، فتوجه الكلام أنت إلى ولدك : والله لو عبثت بشيء لأفعلن بك كذا وكذا، فتوجه الزجر إلى الولد، أنت تقصد الخادم، على حد المثل القائل ( إياك أعني واسمعى يا جارة ).
لذلك يقول بعض العارفين :
ما كان في القرآن من نذارة***إلى النبي صاحب البشارة
فكن لبيبا وافهم الإشارة***إياك أعني واسمعي يا جارة
يعني : اسمعوا يا أمه محمد، كيف أخاطبه، وأوجه إليه النذراة، مع أنه البشير.
٢ أورده الواحدي النيسابوري في ((أسباب النزول))(ص١٠٣)، وقال: ((هذا قول جماعة من المفسرين))..
{ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع
إلى ربك ولا تكونن من المشركين٨٧ }
قوله تعالى :﴿ ولا يصدنك.. ٨٧ ﴾[ القصص ] أي : لا يصرفنك ولا يمنعنك المشركون ﴿ عن آيات الله.. ٨٧ ﴾[ القصص ] أي : قراءتها وتبليغها للناس، وقوله :﴿ ولا تكونن من المشركين٨٧ ﴾[ القصص ] هذا أيضا داخل في ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) لأن رسول الله أبعد ما يكون عن الشرك، وليس مظنة له.
ولو كان معه سبحانه وتعالى آلهة أخرى لواجهوه :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا٤٢ ﴾[ الإسراء ] أي : سعوا إليه لينازعوه الألوهية، أو ليتقربوا إليه.
﴿ كل شيء هالك إلا وجهه.. ٨٨ ﴾[ القصص ] الوجه في عرفنا ما به المواجهة في الإنسان، وكل شيء يصف به الحق سبحانه نفسه علينا أن نصفه سبحانه به، بناء على وصفه في إطار قوله سبحانه ﴿ ليس كمثله شيء.. ١١ ﴾ [ الشورى ]
فالحق سبحانه له وجه، لكن ليس ككل الوجوه، وهكذا في كل الصفات التي يشترك فيها الحق سبحانه مع الخلق، وأنت آمنت بوجود الله، وأن وجوده ذاتي، ليس كوجودك أنت.
وقوله :﴿ كل شيء.. ٨٨ ﴾[ القصص ] كلمة شيء يقولون : إنها جنس الأجناس يعني : أي موجود طرأ عليه الوجود يسمى ( شيء ) مهما كان تافها ضئيلا. وقد تكلم العلماء في : أيطلق على الله تعالى أنه شيء لأنه موجود ؟
قالوا : ننظر في أصل الكلمة ( شيء ) من يشاء شيئا، فالشيء شاءه غيره، فأوجده ؛ لذلك لا يقال لله تعالى شيء ؛ لأنه سبحانه ما شاءه أحد، بل هو سبحانه موجود بذاته.
وفي آية أخرى يقول تعالى في عمومية الشيء :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده.. ٤٤ ﴾[ الإسراء ] يعني : كل ما يقال له شيء موجود سبق وجوده عدم، إلا يسبح بحمد الله، البعض قال : هو تسبيح دلالة على موجدها، وليس تسبيح مقالة حقيقية، لكن قوله سبحانه ﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. ٤٤ ﴾[ الإسراء ] يدل على أنه تسبيح حقيقي، فكل شيء يسبح بلغته وبما يناسبه.
وقد أثبت الله تعالى منطقا للطير وتسبيحا للجبال، ولو فهمت لغة هذه الأشياء لأمكنك أن تعرف تسبيحها، لكن كيف نطمع في معرفة لغات الحجر والشجر، ونحن لا نفهم لغات بعضنا، فإذا لم تكن تعرف مثلا الإنجليزية، أتعرف ماذا يقول المتحدث بها لو سبح بها الله وهو بشر مثلك يتكلم بنفس طريقتك وبنفس الأصوات ؟
لذلك يقولون في معجزاته صلى الله عليه وسلم : سبح الحصى في يده، والصواب أن نقول : سمع رسول الله تسبيح الحصى في يده، وإلا فالحصى يسبح في يد رسول الله، ويسبح في يد أبى جهل. ومن ذلك أيضا حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ألم يقل الحق سبحانه :﴿ وأوحى ربك إلى النحل.. ٦٨ ﴾ [ النحل ]
ألم يقل عن الأرض :﴿ بأن ربك أوحى لها٥ ﴾ [ الزلزلة ] ؟ ألم يثبت للنملة كلاما ؟ ألم يكلم الهدهد سليمان عليه السلام، وفهم منه سليمان ؟
إذن : لكل جنس من المخلوقات لغته التي يفهمها أفراده عن بعض ﴿ كل قد علم صلاته وتسبيحه.. ٤١ ﴾[ النور ] وإن شاء الله أطلع بعض خلقه على هذه اللغات، وأفهمه إياها.
ومعنى ﴿ هالك... ٨٨ ﴾( القصص ) البعض يظن أن الهلاك خاص بما فيه روح كالإنسان والحيوان، لكن لو وقفنا عند قوله تعالى :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة... ٤٢ ﴾( الأنفال )
إذن : فالهلاك يقابله الحياة، فكال شيء يهلك كانت له حياة تناسبه، وإن كنا لا نفهم إلا حياتنا نحن، والتي تذهب بخروج الروح.
ومعنى ﴿ إلا وجهه... ٨٨ ﴾ [ القصص ] أي : إلا ذاته تعالى، ولم يقل : إلا هو ؛ لأنه تعالى ليس شيئا، وللوجه هنا معنى آخر، كما نقول : فعلت ذلك ابتغاء وجه الله يعني : فعلت والله في بالي، فالمعنى : كل شيء هالك، إلا ما كان لوجه الله، فلا يهلك أبدا ؛ لأنه يبقى لك وتنال خيره في الدنيا وثوابه في الآخرة.
ثم يقول سبحانه :﴿ له الحكم وإليه ترجعون٨٨ ﴾[ القصص ] أي : له الحكم في الآخرة يوم يقول ﴿ لمن الملك اليوم.. ١٦ ﴾[ غافر ] لكن لماذا خص الملك يوم القيامة، وهو سبحانه له الملك الدائم في الدنيا وفي الآخرة ؟ قالوا : لأن هناك ملكا في الدنيا، يملكه لخلقه، كما قال سبحانه في النمرود :﴿ أن آتاه الله الملك.. ٢٥٨ ﴾[ البقرة ] وقال سبحانه :﴿ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء.. ٢٦ ﴾[ آل عمران ]
إذن : فالملك ملك الله، وهو سبحانه الذي يملك خلقه في الدنيا دنيا الأسباب، لكن في الآخرة تنزع الملكية من أي أحد إلا لله وحده. حتى إرادة الإنسان على جوارحه تسلب منه، فتشهد عليه بما كان منه في الدنيا.
وإن أردت أن تعرف الآن صدق هذه المسألة فانظر إلى الأمور القدرية التي تجري عليك، كالمرض وكالموت وغيرها، هل تستطيع أن تتأبى عليها ؟
ثم يقول سبحانه :﴿ وإليه ترجعون٨٨ ﴾[ القصص ] أي : للحساب في الآخرة ؛ لأن الله تعالى لم يخلقنا عبثا، ولن يتركنا هملا، بل لابد من الرجوع إليه ليحاسب كلا منكم على ما قدم، وما دمتم قد عرفتم ذلك، فعليكم أن تحترموا المرجع إلى الله، وتنظروا ماذا طلب منكم.
والمتتبع لهذا الفعل في القرآن يجد أنه جاء مرة مبنيا للمجهول ( ترجعون ) وهو للكافر الذي تأبى على الله، فنقول له : سترجع إلى الله، وتقذف في النار غضبا عنك، ورغما عن أنفك، فإن تأبيت على الله في الدنيا، فلن تتأبى عليه في الآخرة، ويأتي مبنيا للمعلوم ( ترجعون ) وهو للمؤمن الذي يشتاق لثواب الآخرة فيتهافت بنفسه ويقبل عليه.