سورة القصص مكية، وآياتها ٨٨ آية، نزلت بعد سورة النمل، وقد نزلت في الفترة المكية الأخيرة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، وقد سميت بسورة القصص لاشتمالها على القصص الذي حكاه موسى لنبي الله شعيب في قوله سبحانه :﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾ [ القصص : ٢٥ ].
قصة موسى
تستغرق قصة موسى حيزا كبيرا من سورة القصص، فمن بداية السورة إلى الآية ٤٨ ؛ نجد حديثا مستفيضا عن موسى عليه السلام.
وفي الآيات [ ٧٥-٨٢ ] نجد حديثا عن قارون، أي أن معظم سورة القصص يتناول قصة موسى ويتناول قصة قارون، والحكمة في ذلك أن هذه السورة نزلت بمكة في مرحلة قاسية، كان المسلمون فيها قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان، فنزلت هذه السورة تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، وتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود، هي قوة الله، وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان، فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى.
ومن ثم يقوم كيان سورة القصص على قصة موسى وفرعون، وتعرض السورة من خلال هذه القصة قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر، وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة، ولا ملجأ له ولا وقاية.
وقد علا فرعون في الأرض، واتخذ أهلها شيعا، واستضعف بني إسرائيل، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وهو على حذر منهم، وهو قابض على أعناقهم، لكن قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته، لا تغني عنه شيئا، بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير المجرد من كل قوة وحيلة، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة، ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السوء، وتعمى عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا، فتدفع به إلى حجره، وتدخل به عليه عرينه، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه.
لقد طمعت آسية أن يكون موسى وليدا لها تتبناه مع زوجها فرعون، فقالت لفرعون :﴿ قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ﴾ [ القصص : ٩ ]
وهكذا دبر الله أن يتربى موسى في بيت فرعون، وأن يؤتى الحذر من مكمنه، ولما حرم الله المراضع على موسى، جاءت أمه كمرضعة له، وأرضعته في بيت فرعون، وصار فرعون يجري عليها كل يوم دينارا من الذهب، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( مثل المؤمن كأم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرتها )i.
موسى في سن الرجولة :
بلغ موسى أشده، واستكمل نيفا وثلاثين عاما، وقد صنعه الله على عينه، فصار يتأمل في هذا الكون، ويبتعد عن حاشية فرعون، ودخل العاصمة في فترة الظهيرة فرأى قبطيا يعمل طباخا في قصر فرعون يتشاجر مع إسرائيلي، فاستغاث به الإسرائيلي ؛ فضرب موسى القبطي بجمع يده فوقع جثة هامدة، وندم موسى على ذلك واستغفر الله وتاب إليه.
وتربص قوم فرعون بموسى ليقتلوه، فانتدبت يد القدرة واحدا منهم يكتم إيمانه عنهم، وجاء لموسى وقال له :﴿ إن الملأ يأتمرون به ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ﴾ [ القصص : ٢٠ ].
خرج موسى هاربا مهاجرا متجها إلى أرض مدين وحيدا فريدا فآواه الله ورعاه، وتعرف هناك على نبي الله شعيب وتزوج بابنته ومكث هناك عشر سنين، ثم عاوده الحنين إلى مصر فجاء إليها عبر سيناء، وعند الشجرة المباركة نودي من قبل الله : أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين، وامتن الله عليه بالرسالة وأيده بالمعجزات.
موسى مع فرعون :
عاد موسى إلى فرعون مرة أخرى يدعوه إلى الإيمان بالله ويقدم له الأدلة العقلية والمعجزات الظاهرة، ولكن فرعون طغى وتجبر وكذب وعصى ؛ فأهلكه الله وأخذه نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
الحلقة الجديدة في القصة :
عنيت سورة القصص بإبراز حلقة ميلاد موسى، وتربيته في بيت فرعون، وهي حلقة جديدة في القصة تكشف عن تحدي القدرة الإلهية للطغيان والظلم، وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ.
لقد ولد موسى في ظروف قاسية في ظاهرها، فصاحبته رعاية الله وعنايته، في رضاعه وفي نشأته وفتوته، وصنعه الله على عينه وهيأه للرسالة، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب ثم قال له كن فيكون.
قارون :
ذكرت سورة القصص قصة موسى في بدايتها وقصة قارون في نهايتها، والهدف واحد، فقصة فرعون تمثل طغيان الملك، وقصة قارون تمثل طغيان المال.
كان قارون من قوم موسى وكان غنيا ذا قدرة ومعرفة، وأوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء، وخرج على قومه في زينته وأبهته ليكسر قلوب الفقراء، ونصحه قومه بالاعتدال وإخراج الزكاة، والإحسان إلى الناس والابتعاد عن الفساد.
فزادته النصيحة تيها وعلوا، وخرج يباهي الناس بماله وكنوزه، ثم تدخلت يد القدرة الإلهية فخسفت به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه.
وهكذا تصير عاقبة الظالمين، كما غرق فرعون في البحر، هلك قارون خسفا في الأرض، ولا تزال بحيرة قارون تذكر الناس بنهاية الظالمين، قال تعالى :﴿ وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين*فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ العنكبوت : ٣٩، ٤٠ ].
أهداف السورة
تهدف سورة القصص إلى إثبات قدرة الله ورعايته للمؤمنين، فهو سبحانه الواحد الأحد الفرد الصمد المتفرد بالحكم والقضاء، قد آزر موسى وحيدا فريدا طريدا، ونجاه من بطش فرعون، وأغرق فرعون وجنوده، كما أهلك قارون وقومه.
وبين القصتين نجد الآيات من [ ٤٤ – ٧٥ ] تعقب على قصة موسى وتبين أين يكون الأمن، وأين تكون المخافة، وتجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير، تجول معهم جولات شتى في مشاهد الكون، وفي مشهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمن، بعد أن تعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين، بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود، وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكرون.
ختام السورة
في ختام السورة نجد الآيات [ ٨٥-٨٨ ] تعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة فاتحا منتصرا، ينشر الهدى ويقيم الحق والعدل، ومن العجيب أن هذا الوعد بالنصر جاءه وهو مخرج من بلده، مطارد من قومه، مهاجر إلى المدينة ولم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة، قريبا من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، ويقول عند فراقه مخاطبا مكة : " والله إنك لمن أحب البلاد إليّ، ومن أحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ".
ويعده الله بالرجوع إلى مكة فيقول :﴿ إن الله فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.. ﴾ [ القصص : ٨٥ ].
ويبين سبحانه : أن كل ما دون الحق فهو عرضة للفناء والزوال، وأن زمام الحكم بيده تعالى، وتحتم السورة بهذه الآية إثباتا للوحدانية ولجلال القدرة الإلهية :﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ﴾ [ القصص : ٨٨ ].
ﰡ
﴿ طسم( ١ ) تلك آيات الكتاب المبين( ٢ ) نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ( ٣ ) إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين( ٤ ) ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ( ٥ ) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون( ٦ ) ﴾.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في بداية سورة القصص، توضح أن يد القدرة الإلهية نافذة واصلة إلى ما تريد، وتحكي أهداف القصة ومغزاها، وهي إرادة الله أن يمكن في الأرض للضعفاء المقهورين، مثل موسى الطفل الرضيع الذي ييسر الله له الأسباب، حتى يكون سببا في هلاك فرعون وقومه، وغرقهم في ماء النيل ؛ فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
التفسير :
١- ﴿ طسم ﴾
تقدم الكلام عن هذه الأحرف المقطعة في أول سورتي البقرة وآل عمران وغيرهما.
والخلاصة :
أن للعلماء في هذه الأحرف رأيين رئيسيين :
الأول : أنها مما استأثر الله تعالى بعلمه.
الثاني : أن لها معنى، لكن الآراء تعددت في تحديد هذا المعنى، فقيل : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته، وقيل : هي أدوات للتنبيه، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة، وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن القرآن مكوّن من حروف عربية، هي الطاء والسين والميم، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ؛ فدلّ ذلك على أنه ليس من صنع بشر، ولكنه تنزيل من حكيم حميد.
تأتي هذه الآيات في بداية سورة القصص، توضح أن يد القدرة الإلهية نافذة واصلة إلى ما تريد، وتحكي أهداف القصة ومغزاها، وهي إرادة الله أن يمكن في الأرض للضعفاء المقهورين، مثل موسى الطفل الرضيع الذي ييسر الله له الأسباب، حتى يكون سببا في هلاك فرعون وقومه، وغرقهم في ماء النيل ؛ فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
المفردات :
الكتاب : القرآن، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، أو لأنه يكتب في المصحف.
المبين : الواضح المبين للأحكام.
التفسير :
٢- ﴿ تلك آيات الكتاب المبين ﴾
هذه آيات القرآن الكريم الواضح المبين، السهل الممتنع، الذي وضّح الأحكام والفرائض، وتحدث عن الحلال والحرام، وبيّن أحكام التشريع، وقصص السابقين، مثل : نوح، وعاد، وثمود، وموسى، وهارون، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وأخبر عن القيامة والبعث والحشر والحساب والجزاء، فهو كتاب واضح معجز مبين، شهد له الأعداء، وتحدّى الله به العرب والعجم والإنس والجن.
تأتي هذه الآيات في بداية سورة القصص، توضح أن يد القدرة الإلهية نافذة واصلة إلى ما تريد، وتحكي أهداف القصة ومغزاها، وهي إرادة الله أن يمكن في الأرض للضعفاء المقهورين، مثل موسى الطفل الرضيع الذي ييسر الله له الأسباب، حتى يكون سببا في هلاك فرعون وقومه، وغرقهم في ماء النيل ؛ فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
المفردات :
نتلوا عليك : ننزل عليك.
النبأ : الخبر العجيب.
التفسير :
٣- ﴿ نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ﴾
نقصّ عليك أيها الرسول الكريم من قصة موسى مع فرعون وقوميهما، قصصا متصفا بالحق والصدق، لقوم يؤمنون بالله ويصدقون بقدرته وجبروته، فهو سبحانه وتعالى الواحد الأحد الفرد الصمد، وهو الفعال لما يريد، وهو الذي إذا أراد أمرا قال له كن فيكون، وفي قصة موسى وهو وليد مرغوب في قتله، ولا قدرة له ولا حيلة، وفي قصة فرعون وهو الملك المتغطرس الذي ادعى الألوهية ؛ وقال :﴿ يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري.. ﴾ [ القصص : ٣٨ ] وقد بطش وظلم وجعل الناس شيعا وأحزابا، وقتل الأطفال الأبرياء.
ثم جعل الله نهايته وهلاكه عظة وعبرة، وبيانا لكل ظالم أن يد الله قوية قادرة قاهرة، ولكل مظلوم أن السماء لا تنام وعليك أن تأخذ بالأسباب ثم تتوكل على الله، قال تعالى :﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ﴾ [ الطلاق : ٣ ]
تأتي هذه الآيات في بداية سورة القصص، توضح أن يد القدرة الإلهية نافذة واصلة إلى ما تريد، وتحكي أهداف القصة ومغزاها، وهي إرادة الله أن يمكن في الأرض للضعفاء المقهورين، مثل موسى الطفل الرضيع الذي ييسر الله له الأسباب، حتى يكون سببا في هلاك فرعون وقومه، وغرقهم في ماء النيل ؛ فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
المفردات :
علا في الأرض : تجبّر واستكبر.
شيعا : فرقا، يستخدم كل صنف في عمل، من بناء وحرث وحفر، إلى نحو ذلك من الأعمال الشاقة، أو أحزابا، يغرى بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتفقوا.
يستضعف : يجعلهم ضعفاء مقهورين.
طائفة : بنو إسرائيل.
يستحيي نساءهم : يبقى إناثهم دون قتل.
التفسير :
٤- ﴿ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ﴾.
إن فرعون تكبر وتجبر في أرض مصر، فهو نموذج لحاكم ظالم، يقرّب طائفة من القبط، ويسخّر طائفة في البناء أو الحرث أو الأعمال الشاقة، ويستضعف طائفة ويستذلها وهم طائفة بني إسرائيل، وكانوا أفضل الطوائف في ذلك الوقت، وكان فرعون قد رأى رؤيا خلاصتها ؛ أن نارا جاءت من جهة بني إسرائيل فأحرقت عرشه، وفسرها الكهنة له بأن طفلا يولد في بني إسرائيل يكون على يديه ذهاب ملك فرعون، فأمر فرعون بقتل المواليد الذكور من بني إسرائيل، واستحياء الإناث للخدمة والسخرة، لقد كان مفسدا طاغيا باغيا، فلقي حتفه في فعله، وحفر لنفسه بظلفه، حيث خشي من طفل يولد من بني إسرائيل، وخافت أم موسى عليه فألقته في البحر، والتقطه آل فرعون وألقى الله الحبّ على موسى ؛ فأحبته امرأة فرعون، وتربى في قصر فرعون وأكل من طعامه، ثم أوحى الله بالرسالة إلى موسى، فبلّغ رسالته، وجاهد طويلا حتى نصره الله وأغرق فرعون.
تأتي هذه الآيات في بداية سورة القصص، توضح أن يد القدرة الإلهية نافذة واصلة إلى ما تريد، وتحكي أهداف القصة ومغزاها، وهي إرادة الله أن يمكن في الأرض للضعفاء المقهورين، مثل موسى الطفل الرضيع الذي ييسر الله له الأسباب، حتى يكون سببا في هلاك فرعون وقومه، وغرقهم في ماء النيل ؛ فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
٥- ﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ﴾.
يريد الحق سبحانه وتعالى، وهو فعال لما يريد، أن يتفضل على هؤلاء الذين كانوا ضعافا أذلاء، مقهورين مغلوبين ؛ ليجعلهم هداة يهتدي بهم في أمور الدين والدنيا، وأن يرفع عنهم المذلة والمهانة.
﴿ ونجعلهم الوارثين ﴾
المتصرفين في نعمتنا وفضلنا تصرف الوارث في المال الذي ورثه، ولم يثبت في التاريخ أن بني إسرائيل حكموا مصر، أو ورثوا أرضها، فالمراد : أن الله أورثهم أرضا شبيهة بها في فلسطين، أو كانت فلسطين في ذلك الوقت تابعة لحكم فرعون، والثابت أنهم خرجوا من مصر، ثم حكم الله عليهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة، ثم هلك الجيل الذليل، ونشأ جيل عزيز مؤمن، فتح فلسطين بقيادة يوشع بن نون، ولعل هذا هو الميراث المذكور.
تأتي هذه الآيات في بداية سورة القصص، توضح أن يد القدرة الإلهية نافذة واصلة إلى ما تريد، وتحكي أهداف القصة ومغزاها، وهي إرادة الله أن يمكن في الأرض للضعفاء المقهورين، مثل موسى الطفل الرضيع الذي ييسر الله له الأسباب، حتى يكون سببا في هلاك فرعون وقومه، وغرقهم في ماء النيل ؛ فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
٦- ﴿ ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ﴾.
لقد أراد الله –ولا راد لقضائه- أن يمكن لبني إسرائيل في أرض فلسطين وقتا ما، ثم فتحوا فلسطين واستمر ملكهم بها فترة محدودة، وغرق فرعون وهامان وجنودهما في ماء النيل، وأراد الله إعزاز المؤمنين وإذلال المفسدين، وكان فرعون يخشى من بني إسرائيل، ويخاف من موسى وقومه، فنصر الله موسى، ومكّن لبني إسرائيل في الأرض، ولم ينفع فرعون ظلمه وغشمه وقتله للأطفال الأبرياء ؛ فغرق في النيل وهلك جيشه معه. وحصل ما كان يحذره فرعون ويخاف منه، فإن الحذر لا يمنع القدر، قال الشاعر :
عناية الله إن تولت ضعيفا | تعبت في مراسه الأقوياء. |
قال تعالى :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ].
وقال سبحانه :﴿ واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون*كم تركوا من جنات وعيون*وزروع ومقام كريم* ونعمة كانوا فيها فاكهين*كذلك وأورثناها قوما آخرين*فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ﴾ [ الدخان : ٢٤ -٢٩ ].
﴿ وقال جل شأنه : فأخرجناهم من جنات وعيون*وكنوز ومقام كريم*كذلك وأورثناها بني إسرائيل ﴾ [ الشعراء : ٥٧-٥٩ ].
وقد ذكر المفسرون هنا أن بني إسرائيل لم يحكموا مصر، فلعل المراد : أن الله عوضهم بما يشبه هذه النعم، في التيه أو في فلسطين.
المفردات :
الوحي : الإلهام، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وأوحى ربك إلى النحل.. ﴾ [ النحل : ٦٨ ].
اليم : البحر، والمقصود هنا النيل، وكل نهر عظيم يطلق عليه بحر لاستبحاره.
الخوف : غم يحصل بسبب توقع مكروه يحدث في المستقبل.
الحزن : غم يحدث بسبب مكروه قد حصل.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن حلقة معينة من حياة نبي الله موسى هي حلقة ميلاده، وما لابس ذلك من عنايات إلهية، منها الوحي والإلهام لأم موسى أن ترضعه في خفاء، فإذا خشيت عليه من جواسيس فرعون فعليها أن تلقيه في البحر، وسترعاه عناية الله ليرده إلى أمه، وقد التقطت أسرة فرعون هذا الوليد، وألقى الله محبته في قلب آسية، فقالت :﴿ لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.. ﴾ [ القصص : ٩ ].
ودبرت العناية الإلهية لهذا الوليد أن يربى في بيت فرعون، وأن ترضعه أمه، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب، ثم قال له كن فيكون.
التفسير :
٧- ﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليوم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾.
أي : ألهمنا أم موسى، أو أرسلنا إليها ملكا يطلب منها ذلك، وهذا الوحي لا يثبت لها نبوة، لاتفاق العلماء على أن النبوة خاصة بالأنبياء الذكور، أو كلفت بذلك في النوم.
والمقصود أن الله أعلمها وأمرها أن ترضعه وقتما تكون آمنة عليه، فإذا خشيت عليه القتل من جواسيس فرعون، فعليها أن تضعه في تابوت أو صندوق خشبي وتلقيه في النيل، وقد أمرها الله ألا تخاف عليه الضياع، ولا تحزن على مفارقته إياها، فإن الله سيرده إليها بفضله وقدرته، وعندما يبلغ سن الرسالة سيجعله الله من المرسلين برحمته وفضله.
ملاحق حول هذه الآية
أولا :
اتصال السماء بالأشخاص منّة إلهية، ووحي الله إلى أم موسى معناه إعلامها بهذا الأمر، قيل : بواسطة ملك، وقيل : بواسطة رؤيا منامية، كرؤيا إبراهيم بذبح ولده، وقيل : إلهما قذف في قلبها.
ويذكر المفسرون هنا قصة اتصال الملائكة بالناس في أحاديث صحيحة، مثل قصة الأقرع والأبرص والأعمى، ii وكانوا مرضى وفقراء، فأراد الله أن يختبرهم فأرسل ملكا إلى كل واحد منهم، فطلب كل واحد منهم الشفاء من مرضه، وأعطى الأول بقرة عشراء، والثاني ناقة عشراء، والثالث شاة عشراء، ثم كثرت أموالهم وصاروا أغنياء أصحاء، فأراد الله اختبارهم في حالة الغنى، فأرسل الملاك إلى الأول في صورة شخص أقرع مريض يرجو المعونة، ولكن الشخص الذي كان أقرع سابقا، رفض مساعدته، فذكره الملاك بأنه كان مريضا وفقيرا، فقال الرجل : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر، فقال الملاك : اللهم إن كان هذا الرجل كاذبا فأعده إلى ما كان عليه، فعاد الرجل فقيرا كما كان مريضا، كما كان، وفعل الأبرص مثل الأقرع، فعاد مريضا فقيرا، أما الأعمى فقد نجح في الامتحان، وقال للسائل : خذ ما تشاء من المال، فوالله لا أمنعك مالا أخذته في سبيل الله، فقال له الملاك : أمسك عليك مالك، فقد رضي عنك، وسخط على صاحبيك.
وفي الحديث الصحيح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر ). iii
وقد سلمت الملائكة على عمران بن حصين ولم يكن نبيا، كما في تفسير القرطبي.
وفي الحديث النبوي :( إن رجلا ذهب لزيارة أخ له في الله ؛ فأرصد الله له ملكا على مدرجته، وسأله : أين تذهب، ولماذا ؟ فقال الرجل : أزور أخا لي في الله، لأني أحبه في الله ؛ فقال الملك : إن الله أرسلني إليك لأخبرك أن الله يحبك بحبك لأخيك )iv.
وقد كلمت الملائكة مريم ابنة عمران وبشرتها بعيسى... إلخ، كما نزلت الملائكة في غزوة بدر، وفي غزوة بني قريظة، وفي غزوتي حنين والطائف، وفي غيرها من الغزوات والمواقف.
قال تعالى :﴿ هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما ﴾. [ الأحزاب : ٤٣ ]
وفي الحديث الشريف :( إن لله ملائكة طوافين عليكم، فإذا أتوا إلى مجلس ذكر قالوا : هلموا إنا قد وجدناهم، فيحفونهم بأجنحتهم ويشملونهم بالرحمة والسكينة.. )v إلى آخر الحديث.
وكلها تلتقي على أن الله تعالى يسخر الملائكة لإنفاذ أمره، وتيسير مراده، ورعاية المؤمنين، ومعاقبة المفسدين.
ثانيا :
اشتملت الآية القرآنية على أمرين ونهيين، وخبرين وبشارتين.
يروى أن امرأة أنشدت شعراvi، فمدح الأصمعي فصاحتها وبلاغتها، فقالت : أبعد قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه.. ﴾ فصاحة، وقد جمعت بين أمرين ونهيين، وخبرين وبشارتين، وتفصيل ذلك :
أن قوله تعالى :﴿ أرضعيه وألقيه ﴾ أمران.
وأن قوله تعالى :﴿ لا تخافي ولا تحزني ﴾ نهيان.
وقوله تعالى :﴿ إنا راده إليك، وجاعلوه من المرسلين ﴾ خبران وبشارتان.
ثالثا :
يروى المفسرون هنا قصصا كثيرا حول بطش فرعون ببني إسرائيل، ومن ذلك ما ورد في تفاسير : ابن كثير، ومقاتل بن سليمان، والقرطبي وغيرهم.
وخلاصته :
أن فرعون رأى رؤيا فيها أن نارا جاءت من بني إسرائيل فأحرقت عرشه، ففسرها الكهان بأن طفلا يولد في بني إسرائيل يكون على يديه نهاية ملكه، فأمر أن تقتل الذكور من بني إسرائيل وتستحيى الإناث، فقتل فرعون الآلاف من أطفال بني إسرائيل، ليموت موسى بينهم، بيد أن عناية الله جعلت فرعون يلتقطه ويربيه ويرعاه لتكون نهايته على يديه، فإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب، ثم قال له كن فيكون.
رابعا :
ولد موسى في ظروف صعبة، فأرضعته أمه ثلاث أشهر، وقيل : أربعة أشهر، حتى خشيت عليه من جواسيس فرعون ؛ فصنعت له تابوتا على هيئة صندوق من ورق البردي ودهنته بالقار وأغلقت الصندوق، ووضعته في البحر، وشتان بين صبي في حضن أمه وثديها وحنانها، ونفس هذا الصبي يلقى في البحر عند الخوف عليه، فيلقي الله عليه المحبة، فكل من رآه أحبه، وتصنع الأقدار ما تشاء، لتجعل من هذا الصبي المنقذ لبني إسرائيل، ولتكون نهاية فرعون على يديه.
تتحدث الآيات عن حلقة معينة من حياة نبي الله موسى هي حلقة ميلاده، وما لابس ذلك من عنايات إلهية، منها الوحي والإلهام لأم موسى أن ترضعه في خفاء، فإذا خشيت عليه من جواسيس فرعون فعليها أن تلقيه في البحر، وسترعاه عناية الله ليرده إلى أمه، وقد التقطت أسرة فرعون هذا الوليد، وألقى الله محبته في قلب آسية، فقالت :﴿ لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.. ﴾ [ القصص : ٩ ].
ودبرت العناية الإلهية لهذا الوليد أن يربى في بيت فرعون، وأن ترضعه أمه، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب، ثم قال له كن فيكون.
المفردات :
الالتقاط : أخذ شيء فجأة من غير طلب له.
آل فرعون : المراد بآله : من ينسبون إليه، ولو بالخدمة.
عدوا : فتكون عاقبة أمره أن يكون لهم معاديا.
وحزنا : مصدر حزن لهم.
خاطئين : مشركين عاصين لله، متعمدين لارتكاب الخطأ.
التفسير :
٨- ﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ﴾.
أفادت الآية السابقة أن الله أوحى إلى أم موسى أن أرضعيه ما دامت آمنة عليه من أتباع فرعون، فإذا خفت عليهم منهم فألقيه في البحر.
ونفهم من السياق أن أم موسى أرضعته فترة ذكر بعض المفسرين أنها ثلاثة أشهر، وقال بعضهم : أربعة أشهر، فلما اشتد خوفها عليه من العسس والجواسيس الذين يذبحون الذكور بسكاكين حادة، لم يتركونهم ذاهبين، عندئذ صنعت تابوتا وضعت فيه موسى وألقته في نهر النيل، فأخذته الأمواج قرب قصر فرعون، وشاهدته آسية امرأة فرعون، فأمرت الجنود بإحضاره : فأحضروه لها، ففتحت الصندوق فأبصرت غلاما وضيئا يشع النور من جبينه، فألقى الله محبته في قلبها، فتمسكت به ورغبت في حضانته لحكمة أرادها الله، هي أن يربى في بيت فرعون، وبين سمعه وبصره، وليكون موسى هو المخلص لبني إسرائيل من عنت فرعون.
﴿ ليكون لهم عدوا وحزنا... ﴾
أي : التقط أهل فرعون وحاشيته الوليد من ماء النيل، ليتحقق ما أراده الله، في أن يكون هذا الوليد الذي التقطوه وأنقذوه وكفلوه، هو الذي أوحى إليه برسالة سماوية عادلة، أمرت بعبادة الله وحده، لا بعبادة الفرعون، وحررت الناس من العبودية، وقاد موسى بني إسرائيل في ليلة معينة، ونجاه الله من البحر، وأغرق فرعون.
قال المفسرون، واللام هنا لام العاقبة والصيرورة ؛ لأنهم التقطوه ليكون لهم قرة عين، فكانت عاقبته أن كان مصدر عداوة وحزن، كما في قول الشاعر :
وللمنايا تربي كل مرضعة | ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
﴿ إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ﴾.
فقد ارتكبوا ذنوبا عظاما، وقتلوا آلاف الأطفال الأبرياء، وعذّبوا بني إسرائيل واستذلوهم ؛ فعاقب الله فرعون وقومه عقابا يستحقونه.
﴿ خاطئين ﴾ مرتكبين للخطأ أو مرتكبين للخطيئة والإثم، ويطلق عليه الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء.
قال تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ﴾ [ الإسراء : ٣١ ].
تتحدث الآيات عن حلقة معينة من حياة نبي الله موسى هي حلقة ميلاده، وما لابس ذلك من عنايات إلهية، منها الوحي والإلهام لأم موسى أن ترضعه في خفاء، فإذا خشيت عليه من جواسيس فرعون فعليها أن تلقيه في البحر، وسترعاه عناية الله ليرده إلى أمه، وقد التقطت أسرة فرعون هذا الوليد، وألقى الله محبته في قلب آسية، فقالت :﴿ لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.. ﴾ [ القصص : ٩ ].
ودبرت العناية الإلهية لهذا الوليد أن يربى في بيت فرعون، وأن ترضعه أمه، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب، ثم قال له كن فيكون.
المفردات :
قرة عين : سكون وطمأنينة يقال : قرّت عينه تقرّ " بفتح القاف وضمها " قرّة، إذا سكنت بعد حيرة، أو بردت وانقطع بكاؤها.
التفسير :
٩-﴿ وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ﴾.
حين رأت آسية بنت مزاحم الصبي تخيلت فيه وسامة وذكاء ونورا، وألقى الله محبته في قلبها ؛ فقالت لزوجها :﴿ قرة عين لي ولك.. ﴾أي : مصدر سرور وفرح لي ولك، لا تقتلوه كما تقتل أطفال بني إسرائيل، وكأنها أحست من فرعون برغبة في قتله، فحببت فيه فرعون ؛ وقالت : انظر إلى براءة وجهه وطهارته ونجابته وأصالته، ثم خاطبت الفرعون والحاشية المكلفة بقتل الأطفال فقالت :{ لا تقتلوه... وكانت عقيما لا تلد، أو ولدت بنتا مريضة، شفيت عند قدوم موسى.
فقالت لفرعون :﴿ عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ﴾ عسى أن يكون عونا لنا ومساعدا، فإني أرى فيه كرم الأصل، ومسحة الذكاء، وخيرا وبركة.
﴿ أو نتخذه ولدا ﴾ نتبناه فيكون لنا ولدا، نعتمد عليه في كبرنا ويشد أزرنا، ونسعد به كما يسعد الآباء بأبنائهم.
﴿ وهم لا يشعرون ﴾
أن يد القدرة الإلهية تحرك الأمور، وتلقى الحب لموسى في القلوب، ليكون الحب له وسيلة عملية، تستولي على قلب الطاغية، وعلى قلب زوجته، لتصنع الأقدار بيد هذا الطفل هلاك الطاغين، ونجاة المؤمنين.
تتحدث الآيات عن حلقة معينة من حياة نبي الله موسى هي حلقة ميلاده، وما لابس ذلك من عنايات إلهية، منها الوحي والإلهام لأم موسى أن ترضعه في خفاء، فإذا خشيت عليه من جواسيس فرعون فعليها أن تلقيه في البحر، وسترعاه عناية الله ليرده إلى أمه، وقد التقطت أسرة فرعون هذا الوليد، وألقى الله محبته في قلب آسية، فقالت :﴿ لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.. ﴾ [ القصص : ٩ ].
ودبرت العناية الإلهية لهذا الوليد أن يربى في بيت فرعون، وأن ترضعه أمه، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب، ثم قال له كن فيكون.
المفردات :
فارغا : خاليا من العقل وحسن التصرف لما دهمها من الخوف والحيرة، أو خاليا من كل شيء إلا من شأن موسى.
إن كادت : إنها كادت لتعلن أمره للناس.
ربطنا على قلبها : مجاز عن التثبيت بالصبر.
التفسير :
١٠-﴿ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ﴾.
ألقت الأم وليدها في البحر امتثالا لأمر الله تعالى، لقد ألقته ليلا، وفي الصباح اشتد حزنها وهلعها، حين رأت الأمواج ترتفع وتنخفض، أو حين خشيت عليه الغرق أو الضياع، أو القتل أو الموت.
قال المفسرون : أصبح قلبها فارغا من كل شيء إلا من موسى، أين ذهب ؟ من أخذه ؟ هل هو حيّ أم ميّت ؟ ماذا يصير أمره إذا عثر عليه ؟
وهي عاطفة الأم، تكاد تسيطر على تصرفاتها، فتنسيها الحكمة أو الصبر، أو التجلد أو انتظار الفرج، وفي تلك اللحظة أو شكت أن تصيح في الناس قائلة : أدركوني، لقد لقيت وليدي بيدي في البحر، فهل من سبيل لإرجاعه لي ؟
﴿ لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ﴾.
أي : لولا أن ثبّت الله قلبها بالإيمان، وملأ قلبها باليقين والثقة بوعد الله، فأعاد الله إليها الهدوء والاطمئنان وثبات الفؤاد، لتكون من الملتزمين بتصديق الله في وعده، والآية تصور فطرة الأم وعاطفتها في حالة من حالات الشك واليأس، ثم يأتي فضل الله فيجعل في القلب بردا وسلاما ويقينا وثقة واطمئنانا، وقريب من هذا المعنى قوله تعالى :﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا.. ﴾ [ يوسف : ١١٠ ]
تتحدث الآيات عن حلقة معينة من حياة نبي الله موسى هي حلقة ميلاده، وما لابس ذلك من عنايات إلهية، منها الوحي والإلهام لأم موسى أن ترضعه في خفاء، فإذا خشيت عليه من جواسيس فرعون فعليها أن تلقيه في البحر، وسترعاه عناية الله ليرده إلى أمه، وقد التقطت أسرة فرعون هذا الوليد، وألقى الله محبته في قلب آسية، فقالت :﴿ لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.. ﴾ [ القصص : ٩ ].
ودبرت العناية الإلهية لهذا الوليد أن يربى في بيت فرعون، وأن ترضعه أمه، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب، ثم قال له كن فيكون.
المفردات :
قصيه : اقتفي أثره وتتبعي خبره.
فبصرت به : أبصرته.
عن جنب : عن بعد.
لا يشعرون : لا يدرون أنها أخته.
التفسير :
١١-﴿ وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ﴾
أي : كلفت أم موسى أخته الكبرى أن تقص أثره وأن تعرف مصيره، وأن تحاول التعرف على أخباره، فأبصرته من بعيد وهي ترقبه بعينها، وتحاول أن تصرف عنه وجهها، وأهل فرعون لا يشعرون أنها أخته، ولا يدركون أنها تتعرف على حاله ومصيره.
فما أعظم هذه الأخت التي تخوض الأهوال، بقلب ثابت وعزيمة راسخة، وروح فدائية، وتتسبب في خير كثير، وتكون وسيلة القدر في إعادة الطفل إلى أمه، وتربيته في أحضان والدته، والله على كل شيء قدير.
تتحدث الآيات عن حلقة معينة من حياة نبي الله موسى هي حلقة ميلاده، وما لابس ذلك من عنايات إلهية، منها الوحي والإلهام لأم موسى أن ترضعه في خفاء، فإذا خشيت عليه من جواسيس فرعون فعليها أن تلقيه في البحر، وسترعاه عناية الله ليرده إلى أمه، وقد التقطت أسرة فرعون هذا الوليد، وألقى الله محبته في قلب آسية، فقالت :﴿ لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.. ﴾ [ القصص : ٩ ].
ودبرت العناية الإلهية لهذا الوليد أن يربى في بيت فرعون، وأن ترضعه أمه، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب، ثم قال له كن فيكون.
المفردات :
حرمنا : منعنا.
يكفلونه : يتولونه ويقومون على تربيته ورضاعته.
ناصحون : النصح : إخلاص العمل، والمراد : أنهم يعملون ما ينفعه في غذائه وتربيته، ولا يقصّرون في خدمته.
١٢- ﴿ وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ﴾
عندما فرحت آسية بالوليد، ورغّبت فرعون في كفالته وتبنيه، قبل الفرعون ذلك، ووضع الله لموسى الحب، فكل من رآه أحبه، قال تعالى :﴿ وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ﴾ [ طه : ٣٩ ].
واستقدم آل فرعون المراضع لإرضاع موسى، فرفض الرضاع منهن جميعا، واشتد جزع آسية إشفاقا على الوليد، وخوفا على حياته، فلما شاهدته أخته ذلك تقدمت إليه بالنصح وقالت : أعرف امرأة طيبة اللّبن، طيبة الريح، يمكن أن ترضع هذا الوليد لكم، فسألوها : هل تعرفين هذا الوليد ؟ قالت : لا، وإنما نحن جميعا ناصحون للملك، نريد خدمته والمحافظة على أحبابه، فطلبوا منها إحضار هذه المرضعة، فجاءت يوكابد أم موسى في صورة مرضعة، فلما رآها الوليد فرح بها ورضع منها، فسألوها : هل أنت أمّه ؟ قالت : لا، لكني امرأة طيبة اللبن، طيبة الريح، لا أوتي بصبي إلا رضع مني، فقدموا لها بعض الأطفال الرضع فرضعوا منها جميعا، ولم يرفضها رضيع، ففرحت بذلك آسية، وأكرمت يوكابد، وقدّمت لها الصلة والمعروف، وسمحت لها أن تحمل الوليد إلى بيتها لترضعه وترعاه، فذلك قوله تعالى :-﴿ فرددنا إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾.
تتحدث الآيات عن حلقة معينة من حياة نبي الله موسى هي حلقة ميلاده، وما لابس ذلك من عنايات إلهية، منها الوحي والإلهام لأم موسى أن ترضعه في خفاء، فإذا خشيت عليه من جواسيس فرعون فعليها أن تلقيه في البحر، وسترعاه عناية الله ليرده إلى أمه، وقد التقطت أسرة فرعون هذا الوليد، وألقى الله محبته في قلب آسية، فقالت :﴿ لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.. ﴾ [ القصص : ٩ ].
ودبرت العناية الإلهية لهذا الوليد أن يربى في بيت فرعون، وأن ترضعه أمه، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب، ثم قال له كن فيكون.
١٣-﴿ فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾.
فأرجع الله الوليد إلى أمه يعيش آمنا مطمئنا، وتعيش أمّه معه في بحبوحة من العيش، وسعادة وقرة عين بلا حزن ولا خوف، وقد كان الوقت قليلا بين إلقائه في البحر، وبين عودته إلى أمه في أمان ويسر وسعادة، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( مثل المؤمن كأم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرتها )vii.
فالمؤمن يصلّي ويصوم ويطيع الله، فيحفظه الله في الدنيا، ويدّخر له الثواب في الآخر، فله جهتان للمنفعة، وأم موسى ترضع ابنها فتسعد وتفرح، وتأخذ أجرة من بيت فرعون زيادة من الله في الفضل والعناية.
﴿ ولنعلم أن وعد الله حق ﴾
حين وعدها الله أن يردّ إليها ولدها، وأن يجعله رسولا، ليتأكد لها صدق الوحي والإعلام بذلك. أو ما وعد الله به رسله من النصر، حين قال :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ﴾ [ المجادلة : ٢١ ].
فقد دبّر الله لهذا الوليد سلامته ورعايته وتربيته بإشراف فرعون، وإحضار أمه مرضعة له، وقبول آل فرعون أن يربى في بيت أمه، وما يعلمون أن القدر يدبّر ويسخّر ويمهد لما يشاؤه الله.
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾
أي : لا يعرفون حكمة الله في أفعاله وعواقبها المحمودة، فربما وقع الأمر كريها إلى النفوس وعاقبته محمودة، كما قال تعالى :﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ].
ويشبه أن تكون جملة ولكن أكثرهم لا يعلمون، تعريضا بما حدث من أم موسى، حين أصبح قلبها فارغا من كل شيء في الدنيا إلا أمر موسى، وأوشكت أن تصيح في الناس قائلة : ألقيت بولدي في البحر، لكن الله ربط على قلبها لتكون من المؤمنين، ثم رد إليها ولدها لتتيقن بأن وعد الله حق لا ريب فيه، ولكن كثيرا من الناس يخامرهم الشك في ذلك.
قال القرطبي :
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾. يعني : أكثر آل فرعون لا يعلمون.
أي : كانوا في غفلة عن التقدير وسر القضاء.
المفردات :
أشد : قوته، ما بين ١٨-٣٠ سنة، كما في القاموس، وقال البيضاوي : هو من ٣٠-٤٠ سنة.
واستوى : واعتدل وبلغ المبلغ الذي لا يزاد عليه، واستوى الرجل : بلغ أشده، أو أربعين سنة.
حكما : حكمة.
وعلما : ومعرفة وفهما.
التفسير :
١٤- ﴿ ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾.
سكت القرآن عن الحلقة التالية لحلقة الرضاعة، وقد كانت هذه الحلقة في كفالة الفرعون، وقد يلقب موسى بن فرعون، لكن آيات القرآن تشير إلى رعاية الله له وإلقاء المحبة عليه، كما قال تعالى :﴿ وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ﴾ [ طه : ٣٩ ].
فلا بد أن أمه أخبرته بحقيقة نسبه، وعشيرته، والمتوقع أن طبيعة موسى الكريمة تأنف ظلم فرعون وبطشه، وغشمه، والمتوقع أن فجوة ما تحدث بين موسى وبين فرعون وحاشيته، بسبب سلوك موسى الكريم، الآنف من الظلم.
وتشير الآية إلى أن موسى قد بلغ مبلغ الرجال، ﴿ واستوى ﴾ بلغ غاية الكمال الجسمي والعقلي.
قال بعض المفسرين : بلغ أربعين سنة، وقال بعضهم : ثلاثين سنة، ونختار أن تكون سنه في ذلك الوقت مقاربة للثلاثين، لأنه مكث في أرض مدين عشر سنين ثم عاد إلى مصر، فاختاره الله رسولا.
﴿ آتيناه حكما وعلما.. ﴾
أي : سيرة الحكماء والعلماء وأخلاقهم وسمتهم قبل البعثة.
﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾
أي : وبمثل هذا الفضل والرعاية، والمعونة والخير، نجزي كل محسن في عمله، بأن نفتح له أبواب الفتوح والحكمة والعلم.
ونلاحظ أن هذه الآية من المتشابه، حيث قال تعالى في سورة يوسف :﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾ [ يوسف : ٢٢ ].
ونلمح أن يوسف هنا بلغ مبلغ الرجال، أي : فيما بين العشرين والثلاثين فهو أقرب إلى سن الخامسة والعشرين.
وفي سورة القصص قال تعالى :﴿ ولما بلغ أشده، واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾.
فهذه الآية زادت كلمة : واستوت، أي : اكتمل جسمه وعقله ورشده، فهو أقرب إلى سن الثلاثين، وقد تعددت آراء العلماء في بلوغ الأشد والاستواء.
عن ابن عباس : الأشد ما بين الثامنة عشرة والثلاثين، والاستواء ما بين الثلاثين والأربعين.
وقال مجاهد : الأشد في الثلاثين، والاستواء في الأربعين.
وقال الزجاج : الأشد ما بين الثلاثين والأربعين.
والمحققون يقولون :
بلوغ الأشد في الأصل الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت تمام النمو وغايته، والاستواء تمام العقل وكماله ونضجه، وذلك يختلف باختلاف الأقاليم والعصور والأحوال، ولذا وقع له تفاسير كثيرة في كتب اللغة والتفسير.
شيعته : جماعته وحزبه، أي : من بني إسرائيل.
فاستغاثه : طلب غوثه ونصرته ومساعدته.
فوكزه موسى : ضربه بكفه مقبوضة الأصابع في صدره، وقد يطلق الوكز على معنى الطعن والدفع.
فقضى عليه : أنهى حياته فمات.
التفسير :
١٥- ﴿ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ﴾.
كان موسى عليه السلام قد جاهر بعداوة فرعون، وندد بسلوكه كما أخبر بذلك ابن إسحاق، وقد اختفى موسى بعض الوقت، ثم دخل مصر أو مدينة منف من أرض مصر متنكرا، فوجد رجلين يقتتلان ويتشاحنان، أحدهما قبطي من أتباع فرعون، والثاني إسرائيلي من شيعة موسى، فاستعان به الإسرائيلي طالبا نصرته لأنه مظلوم، والآخر يريد أن يسخّره بدون وجه حق، فوكزه موسى بقبضة يده، بعد أن جمع فيها أصابعه، واتجه بها على صدر القبطي، فوقع القبطي ميتا، ونلمح من ذلك قوة موسى، وشدة انفعاله، لكن موسى لم يقصد قتل الرجل بل تأديبه، فلما رآه ميتا، ندم وقال " هذا من الغضب، والغضب من الشيطان، فالشيطان عدو بين العداوة، يريد أن يستدرج الإنسان إلى الشر والإثم.
رجع موسى فورا إلى ربه نادما مستبينا أنه فعل ذنبا، أدى إلى قتل نفس ووفاة هذا القبطي، فقال :﴿ رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له.. ﴾
لجأ إلى الله تعالى نادما مستغفرا تائبا، طالبا من الله تعالى المغفرة والستر، وأحس موسى بمغفرة الله تعالى له، فالله هو كثير المغفرة، كثير الرحمة بعباده.
لقد رأى موسى في الوكز دفع ظالم عن مظلوم، فلما خرّ الرجل ميتا تبين أنه تسرّع، وأنه كان يمكن دفعه بدون الوكز، ولعلّ موسى كان غاضبا من تصرف هذا القبطي، ويقال : إن القبطي كان خبازا للملك، وأنه كلف الإسرائيلي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون فأبى فاقتتلا، وشاهد موسى ذلك فوكز القبطي فقتله، ثم ندم واستغفر، وتبين أنه فعل خلاف الأولى، وأنه كان ينبغي أن يتريث، وأن يمنع القبطي عن الظلم بدون هذه الضربة القاضية.
ظهيرا : معينا ومساعدا.
التفسير :
١٧-﴿ قال رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ﴾
أي : قال موسى مناجيا ربه : رب أنعمت عليّ بالقوة والحكمة، والعلم وسائر النعم، وقبلت توبتي، فإني أعاهدك ألا أناصر ظالما، ولا أمشي في ركابه، ولا أكون وسيلة من وسائل بطشه، وتعذيبه للضعفاء والمظلومين.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية، أن المؤمن لا ينبغي أن يكون آله في يد الظالم، يسير خلفه أو ينفّذ أوامره، أو يعذب الناس ويضطهدهم، بل ينبغي للمؤمن أن يكون عونا للضعفاء والمظلومين.
جاء في تفسير النيسابوري :
وفي الآية دليل على عدم جواز إعانة الظلمة والفسقة، حتى برى القلم وليق الدواة.
يترقب : ينتظر ويترصد المكروه.
استنصره : طلب نصره ومعاونته.
يستصرخه : يستغيث به.
التفسير :
١٨-﴿ فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين ﴾
أصبح موسى في مدينة منف حيث يستقر الحاكم، أو مدينة مصر، خائفا من عاقبة ما حدث بالأمس من قتل القبطي، يترقب وقوع الشر والمكروه، وما سيسفر عنه هذا القتل من اتهامات وعقوبات ومساءلات، ونشعر من هذا التعبير، بما أصاب موسى عليه السلام، من هم وحزن وقلق نفسي، من جراء ما حدث، وما أحاط به من ملابسات، ونشعر كذلك أن علاقة موسى بالقصر الفرعوني، لم تكن علاقة مودة ومحبة، بل كان بينهما محبة مفقودة، ورغبة في الانتقام.
﴿ فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه.. ﴾
أي : بينما موسى في هذه الحالة من الخوف والترقب، إذا الشخص الإسرائيلي الذي طلب نصرته بالأمس، يصرخ طالبا نجدته ونصرته على قبطي آخر.
﴿ قال له موسى إنك لغوي مبين ﴾
أي : نهر موسى ذلك الإسرائيلي الذي لا عمل له سوى الشجار، ودخول معارك بدون استعداد لها، فقال له موسى : إنك كثير الغواية والشر، واضح انغماسك في المشاجرات والمشاحنات.
يبطش : البطش الأخذ بالشدة والعنف.
جبارا : الجبار : اسم من أسمائه تعالى، والجبار : العظيم القويّ، وكل عات، ومن يقاتل في غير حق.
التفسير :
١٩-﴿ فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ﴾
رغم حالة موسى النفسية، وما هو فيه من الخوف والترقب، إلا أنه لم يشأ أن ينفرد القبطي الظالم، بالإسرائيلي المظلوم، وعزم على أن يبطش بالقبطي ويدفعه بقوة وعنف، فإذا بالإسرائيلي يتوقع الشر من موسى، ويظن أنه يريد أن يبطش به هو، بعد أن قال له :﴿ إنك لغوي مبين ﴾ فقال الإسرائيلي :
﴿ يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس.. ﴾
ولم يكن أحد يعرف أن قتيل الأمس قتل على يد موسى، فلما سمع القبطي ذلك حمل هذه الأخبار إلى فرعون وحاشيته، فقد كان قتيل الأمس قد قتل في وقت الظهيرة والقيلولة، أو فيما بين المغرب والعشاء، ولم يتأكد لدى السلطة من الذي قتل القبطي، ولكن الإسرائيلي الخائف هو الذي صرح باسم القاتل، وقال : يا موسى أتريد أن تبطش بي أنا، فتقتلني بقوتك وجبروتك، كما قتلت قتيلا بالأمس.
﴿ إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض... ﴾
ما تريد إلا أن تكون باطشا بالناس، كثير القتل وسفك الدماء، مفسدا في الأرض.
﴿ وما تريد أن تكون من المصلحين ﴾
الذي يصلحون بين الناس، أو يعلمون الناس الدين والسلوك القويم، وكان موسى مشهورا بدعوته إلى الاستقامة، والصفح والتعاون، والنهي عن الحقد والحسد والشر.
والخلاصة : أنت صاحب دعوة إلى التسامح والعفو، لكني أرى الشر في عينيك، أتريد قتلى كما قتلت نفسا بالأمس ؟ ما تريد بتصرفك هذا إلا الفساد والعدوان، وما تريد أن تكون من المتسامحين المصلحين.
رأي لبعض المفسرين
الرأي السابق هو رأي جمهور المفسرين.
وذهب الإمام الرازي في تفسيره الكبير، والأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن، والدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسيره، والصابوني في صفوة التفاسير وغيرهم، إلى أن هذا القول :
﴿ يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ﴾.
كان من كلام القبطي، واستدلوا على ذلك بالآتي : كان المناخ الذي عاشت فيه مصر، مناخ ظلم من فرعون وجنوده، ومناخ استسلام وعدم مقاومة للظلم من بني إسرائيل، وكان موسى يكره الظلم ويقاومه، ولعل الإسرائيلي قد تحدث إلى بعض عشيرته من الإسرائيليين بما فعله موسى من قتل القبطي، ومثال هذه الحادثة من شأنها أن تروج، وأن تنال الإعجاب من الإسرائيليين ولعل خبرها قد انتقل إلى هذا القبطي، ولعله أحس من توبيخ موسى للإسرائيلي، بأن قتيل الأمس كان بسببه، فقال لموسى مقالته وهو في موقف الخوف من البطش، ولتذكيره بما يدعو إليه من التسامح والإصلاح، ثم إن سياق الآية هكذا :
﴿ فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس.. ﴾
فالسياق يؤيد أن موسى عندما أراد أن يبطش بالقبطي خائفا مسترحما : يا موسى أتريد قتلي كما قتلت نفسا بالأمس، ما تريد إلا أن تكون مفسدا منتقما في قسوة، وما تريد آن تكون مصلحا متسامحا، فأين دعوتك إلى التسامح، وما اشتهر عنك من الرغبة في الصلاح والتقوى ؟
وسياق الآية محتمل للرأيين، والله تعالى أعلم.
المفردات :
أقصى المدينة : أبعد نواحي المدينة.
الملأ : الأشراف، والقوم ذوو الشأن والتجمع.
يأتمرون : يتشاورون ويطلب بعضهم أمر بعض ليقتلوك، والائتمار والمؤامرة : والمشاورة والهم بالشر.
فاخرج : اخرج من هذه البلاد إلى أخرى.
التفسير :
٢٠- ﴿ وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ﴾
يفيد السياق السابق أن خبر قتل موسى للقبطي قد انتشر، وبلغ أسماع فرعون وحاشيته، فاجتمعوا للتشاور في الأمر، ولو كانت جريمة قتل عادية، ما احتاجت أن يجتمع فرعون بنفسه مع حاشيته، ولكنها جريمة قتل تحمل طابع الثورة، والمقاومة والتصدي، فرغب القوم في قتل موسى عقوبة على قتله القبطي، وجاء رجل مؤمن من آل فرعون، والراجح أنه هو الذي قدّم لهم النصيحة بعدم قتل موسى فلم يقبلوها.
وفي الآية ٢٨ من سورة غافر :﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله.. ﴾
فلعل هذا الرجل كان من حاشية فرعون، أو من أهل المشورة والرأي في حاشيته، فلما أحس بالخطر، جاء من أطراف مدينة منف حيث يسكن فرعون يسعى. أي : يسرع في مشيته لمزيد اهتمامه، بإخبار موسى ونصحه.
فقال : يا موسى إن أشراف القوم يتشاورون في قتلك، قصاصا للقبطي الذي قتلته بالأمس، فاخرج من مصر قبل أن يظفروا به، إني لك من الناصحين المخلصين.
خائفا يترقب : خائفا من القتل، يترقب ما يحدث له.
التفسير :
٢١- ﴿ فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ﴾
أي : خرج موسى من مصر خائفا من قتله، يتوجس خيفة من أن يصيبه مكروه، فالتجأ إلى الله تعالى في هذه الشدة العصبية قائلا.
﴿ رب نجني من القوم الظالمين ﴾
أنقذني من فرعون وملئه الراغبين في قتلي، وأنت يا الله ملجأ المظلومين، وغياث المستغيثين، ومجيب المضطرين، وقد استجاب الله دعاءه، وألهمه الصواب، أو أرسل له ملكا أو جبريل يرشده إلى الطريق.
سواء السبيل : الطريق السوي.
التفسير :
٢٢-﴿ ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ﴾
خرج موسى من مصر على عجل وبدون استعداد، ولا معرفة بالطريق، يريد الوصول إلى أرض مدين، جهة بلاد الشام، وشمال الجزيرة العربية، ولا علم له بالطريق، لكنه كان على أمل في وجه الله، ومعونته وبركته وعنايته، فقال :﴿ عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ﴾
آمل من الله أن يلهمني الطريق السوّي، الموصل إلى بلاد مدين، وقد استجاب الله دعاءه، وألهمه الصواب، ويسر له السير في سفر شاق صعب، بدون معونة أو زاد، إلا معونة الله رب العالمين.
عناية الله إن تولّت ضعيفا | تعبت في مراسه الأقوياء |
وإذا العناية لاحظتك عيونها | نم فالمخاوف كلهن أمان |
المفردات :
ورد ماء مدين : وصل إليه.
تذودان : تدفعان وتمنعان غنمهما عن الماء، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم :( فليذادن رجال عن حوضي ) أي : ليطردن ويمنعن
ما خطبكما : ما شأنكما، قال رؤبة : " يا عجبا ما خطبه وخطبي ".
يصدر : من أصدر بمعنى أرجع، أي : حتى يرجعوا مواشيهم.
الرعاء : جمع راع، مثل : صاحب وصحاب، وهو الذي يرعى الغنم.
التفسير :
٢٣-﴿ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ﴾.
يسر الله الأسباب لموسى، ووصل إلى أرض مدين، مجهدا متعبا من سفر طويل، جائعا محتاجا إلى المعونة والرعاية، لكنه وجد على الماء جموعا كثيرة من الناس، منهم من يروي إبله، ومنهم من يروي غنمه، والناس مشغولة بسقي الماشية، في زحام يحتاج إلى قوة ومنافسة، ووجد دون ذلك الزحام، أو أسفل منه، امرأتين تمنعان الغنم من الاختلاط بأغنام القوم، وتحبسان الغنم عن ورود الماء، فرقّ موسى لهما، رغم إجهاده وتعبه، وسألهما : ما شأنكما، ولماذا تمنعان الغنم من السقيا ؟ فأجابتا : إنما يزاحم على السقيا الرجال الأشداء، أما نحن فنساء متحفظات.
﴿ لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ﴾
من عادتنا أن نصبر حتى يسقي الرعاة أغنامهم وينتهي الزحام، فليس من عادتنا مزاحمة الرجال، بل نمتنع عن السقي إلى أن يفرغ الماء لنا، فنسقي، وأبونا شيخ كبير، ضعيف عن سقي الغنم، ولذلك اضطررنا أن نسقي الغنم بأنفسنا.
قال أبو حيان في البحر المحيط : فيه اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطاف لموسى في إعانتهما.
اسم الشيخ الكبير
المشهور عند كثير من العلماء أنه شعيب عليه السلام، الذي أرسل إلى أهل مدين.
وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب، وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب.
قال الآلوسي : والأخبار مختلفة، ولم يتميز عندنا ما هو الأرجح فيها.
وصل موسى إلى أرض مدين متعبا مجهدا جائعا، شديد الإجهاد والتعب، لم يأكل في الطريق سوى البقل وورق الشجر، وقد استمر في الطريق بضعة أيام حتى اشتد به التعب والجوع، وما إن شاهد امرأتين ضعيفتين تبتعدان عن الرجال، حتى رقّ لهما ونزع غطاء البئر، وكان لا ينزعه إلا عصبة من الرجال، ثم سقى لهما أغنامهما، وأدى لهما مهمة رغبة في المعروف، وإغاثة الملهوف، ثم جلس تحت ظل شجرة-وهو من أكرم الخلق على الله- وتضرع إلى الله تعالى وناجاه قائلا :
﴿ رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ﴾
إني محتاج إلى رزقك وفضلك، فقير إلى معروفك وعونك، واستجابت السماء لدعاء موسى عليه السلام.
جاءت الفتاة إلى موسى في أدب واستحياء، تقوم بمهمة في عفة وكمال، فقالت :
﴿ إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا.. ﴾
إن دعوة كريمة موجهة من أبي إليك، ليكافئك على سقي الغنم لنا، أرادت أن توضح له الموقف، حتى لا يظن بها الظنون، ولبّى موسى الدعوة، وسار أمام المرأة، وطلب منها أن ترشده بصوتها إذا أخطأ الطريق، ثم وصل إلى شعيب عليه السلام، أو إلى رجل صالح من قوم شعيب، وأخبره بقصته مع فرعون، وإلقائه في اليم، ورضاعته ورعاية فرعون له، ثم قتل موسى للقبطي، ثم خروجه هاربا من أرض مصر، فقال الرجل الصالح لموسى : طب نفسا وقرّ عينا، فقد خرجت من مملكتهم، ولا سلطان لهم علينا، لقد نجاك الله من فرعون وجنوده، ونزلت أرض مدين على الرحب والسعة.
أرسل الشيخ إحدى ابنتيه لدعوة موسى إلى الضيافة، فلما حضر وقصّ عليه قصته، طمأنه وهدأه ورحب به، فقالت إحداهما [ والراجح أنها هي التي ذهبت إلى موسى لدعوته ] :﴿ يا أبت استأجره ﴾ على رعي الغنم، فإنه يجمع أفضل الخصال، وهي : القوة والأمانة.
فالقوة : تعين الإنسان على أداء العمل كاملا، وتشمل الخبرة والمعرفة.
والأمانة : تشمل المحافظة والعفة والاستقامة وعدم الخيانة، وهي شروط لازمة لمن يقوم بالعمل، أو يلي شؤون الدولة، بيد أنه في بعض الأعمال كالحرب نقدم القوة، وفي بعض الأعمال كالاقتصاد والمالية وسياسة المال نقدم الأمانة.
ومن كلام عمر رضي الله عنه : إلى الله أشكو قوة الفاجر وعجز الثقة.
أحيانا يكون الفاجر قويا شجاعا، ويكون الثقة الأمين ضعيفا أو مترددا، فإذا اجتمعا في شخص كان أهلا لولاية العمل المناسب له، وفي السياسة الشرعية نجد أن من صفات الحاكم العادل الحكم بالعدل، والشورى، واختيار الأمناء الثقات، لأنه لا يستطيع أن يتولى جميع شؤون الدولة بنفسه، فلا بد له من مساعدين، فينبغي أن يتوخى فيهم الكفاءة، وتكون بالقوة والأمانة، فلا يولّي شخصا لقرابته، أو لمصلحة تعود على الحاكم.
وفي الحديث النبوي الشريف :( من ولّى رجلا شيئا من أمر المسلمين، وهو يعلم أن في المسلمين من هو أكفأ منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين )viii.
غيرة محمودة
روى أن شعيبا قال لابنته : وما أعلمك بقوته وأمانته ؟ فقالت : رفع الصخرة من على البئر ولا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإني لما جئت معه تقدمت أمامه، فقال لي : كوني من ورائي ودُلّيني على الطريق، ولما أتيته خفض بصره فلم ينظر إليّ، فرغب شعيب في مصاهرته وتزويجه بإحدى ابنتيه.
روى ابن كثير، والزمخشري، عن ابن مسعود، قال : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب حين قالت :
﴿ إن خير من استأجرت القوي الأمين ﴾ وصاحب يوسف حين قال :﴿ أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا ﴾ [ يوسف : ٢١ ] وأبو بكر في عمر، أي : في اختياره وترشيحه ليكون خليفة بعده.
تأجرني : تكون أجيرا لي، وفي القاموس : أجره يأجره، جزاه، كآجره، والأجر : الجزاء على العمل.
حجج : جمع حجة بكسر الحاء وهي السنة.
أشق عليك : أوقعك في المشقة والصعاب.
التفسير :
٢٧-﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ﴾
أي : قال شعيب لموسى : إني أريد أن أزوجك واحدة من ابنتي هاتين، الكبرى أو الصغرى، ولك أن تختار من تروق لك، على أن يكون مهرها أن تعمل عندي أجيرا لرعي الغنم ثماني سنوات، فإن أتممت عشرا في الخدمة والعمل فهذا تفضل منك وتطوع وتبرع لا ألزمك به، وما أريد أن أصعب عليك الأمر فألزمك بأبعد الأجلين، ولا أشدد عليك في العمل بل ستجد المياسرة والسماح، وستجدني إن شاء الله من الصالحين، المحسنين للمعاملة الموفين للعهد، وفي هذه الآية سنّة حسنة، حيث عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعلى هذه السنة سار الخلفاء، فقد عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، فلا بأس بعرض الرجل ابنته، والمرأة تعرض نفسها على الرجل الصالح، اقتداء بالسلف الصالح.
ونلاحظ أن الأب عرض إحدى ابنتيه فهو عرض لا عقد، لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز الإبهام في النكاح، فلا بد من تعيين المعقود عليها.
أما تعيين الفتاة فقد حدث عند العقد، أن اختار موسى إحداهما للزواج منه، وتم الزواج وبدأ تنفيذه والالتزام بالأجرة، وتنفيذ الشروط حتى تم الأجل المتفق عليه.
وفي الآية تيسير الزواج والمعاونة على إتمامه، والأخذ بيد الشباب ليقفوا على أقدامهم ويفتحوا بيتا في الحلال.
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا امرأة على أن يعلمها عشرين آية، وإذا وسّع الله عليه عوّضها، وهذا يعبر عن روح الإسلام في تيسير العفة والتصون، وتعاون الأغنياء والصلحاء والجمعيات الخيرية في حل أزمة الزواج، وتيسير التعارف بين الراغبين فيه، وتيسير المسكن والحياة الزوجية، وبذلك نوسع فرص الحلال، ونقضي على الشذوذ والانحراف والزنا والخيانة، وتعود إلينا قيمنا الأصيلة، ومنها العفة والاستقامة والتطهر، وغض البصر وحفظ الفرج والبعد عن الريبة والفاحشة.
فلا عدوان عليّ : لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة.
التفسير :
٢٨-﴿ قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ والله على ما نقول وكيل ﴾
قبل موسى عليه السلام مصاهرة شعيب، وترك لنفسه الخيار في إتمام أي الأجلين، الثماني أو العشر، وقال لشعيب : ذلك الاتفاق حاصل وموافق عليه مني ومنك، وعلى كل واحد منا أن يقوم بما يجب عليه فيه، وسأحتفظ لنفسي بتحديد أي الأجلين : الثماني أو العشر، أي واحد منهما قضيته، فلا أطالب بما هو أكثر منه، وهذا عهد بيننا، والله وكيل وشاهد على اتفاقنا، والمراد توثيق العقد، وأنه لا سبيل لأحد منهما إلى الخروج عليه أصلا.
وبما سبق في الآيتين استدل العلماء على أن اليسار لا يعتبر في الكفاءة، فإن موسى لم يكن حينئذ موسرا، وقد استدل أبو حنيفة والشافعي بالأحاديث النبوية الشريفة، على أن النكاح يحتاج إلى شهادة الشهود، وفي الحديث الشريف :( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ). ix
وقال مالك : ينعقد النكاح، ولا يشترط فيه الإشهاد لأنه عقد معاوضة، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بين النكاح والسفاح الدف، كما ذكر ذلك القرطبي في المسألة ٢٣.
وقد ذكر البخاري، عن ابن عباس : أن نبي الله موسى قضى أكثر الأجلين وأطيبهماx، أي : عشر سنين، والله تعالى أعلم.
المفردات :
قضى موسى الأجل : أتم المدة المضروبة بينه وبين شعيب.
آنس : أبصر، وأصل الإيناس : إبصار ما يؤنس.
بخبر : بنبأ يعلم منه الطريق.
جذوة : " مثلثة الجيم " وهي عود غليظ مشتعل.
تصطلون : تستدفئون.
تمهيد :
عاش موسى حياة القصور في رعاية فرعون، وشاء الله أن يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وأن يساعد إسرائيليا، بوكزة لقبطي قضت عليه، وأن يخبره رجل مؤمن بأن حياته في خطر، وأن يخرج من مصر خائفا يترقب، وأن يسير في الطريق إلى مدين جائعا خائفا، وأن يمكث في مدين أجيرا راعيا للغنم، وأن يتزوج من ابنة شعيب، وأن يعود من نفس الطريق، وكأن الله يمهده لرسالة شاقة، وليألف الطريق المؤدية للخروج من مصر، والعودة إليها، حتى يكون على بينة من هذه الطرق، عندما يخرج مع بني إسرائيل قائدا لهم إلى البحر، حيث ينجو بهم ويغرق فرعون، وفي الآيات حلقة المناجاة والرسالة، والمعجزات الباهرة، والتمرين على إلقاء العصا، وإدخال اليد في الجيب، مع فضل الله على موسى واصطفائه، وجعله من أولي العزم من الرسل، واختياره لمهمة من أشق مهمات الرسل-عدا محمد صلى الله عليه وسلم- لأن بني إسرائيل، كانت لديهم رسالة محرفة، وبهم ذل وخسف أذل طباعهم، وبذل موسى عليه السلام جهودا كثيرة، وصبر صبرا طويلا، وقد أمده الله بمعونته وتوفيقه ورعايته، ورباه بفضله قال تعالى :﴿ ولتصنع على عيني ﴾ [ طه : ٣٩ ].
التفسير :
٢٩-﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ﴾.
أفادت الآيات السابقة اتفاق موسى وشعيب على أن يتزوج موسى بإحدى ابنتي شعيب، نظير أن يقوم برعي الغنم مدة من السنين، وقد أتم موسى المدة المتفق عليها، والراجح أنه أكمل عشر سنين، ثم طاف به الحنين إلى أمه وأسرته، فاستأذن ليعود إلى أرض مصر مع زوجته، وكانت حاملا لا تعلم هل يتم الوضع ليلا أو نهارا، وجاء الليل باردا شاتيا مظلما، وضل موسى الطريق، وحاول أن يقدح زنده ليوقد نارا فأصلد ولم يخرج نارا، فنظر فإذا نار تلوح في الأفق، فآنس بها واطمأن إليها، وقال لأهله : أقيموا مكانكم وامكثوا في هذا الوضع، فقد شاهدت نارا سأقصدها.
﴿ لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ﴾.
لعلي أجد عند هذه النار من يرشدني إلى الطريق الصحيح، أو أحضر لكم عودا غليظا ملتهبا بالنار، تستدفئون به من شدة البرد.
ونلمح أن موسى شاهد نارا فاقترب منها، فإذا النار نور أثيرى، وإذا الموقف موقف تفضل ورحمة وإكرام، وإذا المنعم الجليل يختار موسى، ليحمل رسالة إلهية سامية.
١- الأنبياء أوفياء، فموسى قضى أوفى الأجلين، عشر سنين.
٢- مشروعية السفر بالأهل، وقد يحصل للمرء أن يضل الطريق، أو يحتاج إلى شيء ويصبر.
٣- فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى فيها موسى، وهي من جبل الطور.
٤- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله.
٥-لا يُلام على الخوف الطبيعي.
٦-من خاف فوضع يده على صدره زال خوفه إن شاء اللهxiii.
عاش موسى حياة القصور في رعاية فرعون، وشاء الله أن يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وأن يساعد إسرائيليا، بوكزة لقبطي قضت عليه، وأن يخبره رجل مؤمن بأن حياته في خطر، وأن يخرج من مصر خائفا يترقب، وأن يسير في الطريق إلى مدين جائعا خائفا، وأن يمكث في مدين أجيرا راعيا للغنم، وأن يتزوج من ابنة شعيب، وأن يعود من نفس الطريق، وكأن الله يمهده لرسالة شاقة، وليألف الطريق المؤدية للخروج من مصر، والعودة إليها، حتى يكون على بينة من هذه الطرق، عندما يخرج مع بني إسرائيل قائدا لهم إلى البحر، حيث ينجو بهم ويغرق فرعون، وفي الآيات حلقة المناجاة والرسالة، والمعجزات الباهرة، والتمرين على إلقاء العصا، وإدخال اليد في الجيب، مع فضل الله على موسى واصطفائه، وجعله من أولي العزم من الرسل، واختياره لمهمة من أشق مهمات الرسل-عدا محمد صلى الله عليه وسلم- لأن بني إسرائيل، كانت لديهم رسالة محرفة، وبهم ذل وخسف أذل طباعهم، وبذل موسى عليه السلام جهودا كثيرة، وصبر صبرا طويلا، وقد أمده الله بمعونته وتوفيقه ورعايته، ورباه بفضله قال تعالى :﴿ ولتصنع على عيني ﴾ [ طه : ٣٩ ].
المفردات :
نودي : ناداه الله تعالى.
شاطئ : جانب الوادي الأيمن بالنسبة لموسى.
الأيمن : اليمين : الجهة اليمنى بالنسبة لموسى، وقيل : الأيمن، أي : المبارك، من اليمن بمعنى البركة.
البقعة : قطعة الأرض، التي عليها الشجرة الكائنة بشاطئ الوادي.
التفسير :
٣٠-﴿ فلما آتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ﴾
عندما اقترب موسى من النار، وجد النار نورا أثيريا، وسمع نداء الحق سبحانه وتعالى، من جانب الوادي الأيمن في ذلك المكان المبارك من ناحية الشجرة.
﴿ أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ﴾.
لقد كان النداء من الله متفضلا بالرسالة على موسى، وناداه الله تعالى :﴿ إني أنا الله رب العالمين ﴾.
أنا الله الخالق الرازق الواهب الماجد المحيي المميت، ﴿ رب العالمين ﴾ خالق الإنس والجن والطير والكون، والليل والنهار والبحار وسائر الموجودات.
وفي سورة طه :﴿ فلما آتاها نودي يا موسى*إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى*إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ﴾ [ طه : ١١-١٤ ].
وفي سورة النمل :﴿ نودي أن بورك في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين* يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ﴾ [ النمل : ٨، ٩ ].
جاء في التفسير الوسيط : بإشراف مجمع البحوث بالأزهر :
ذهب الإمام إلى أن الله تعالى حكى في كل من هذه السور بعض ما اشتمل عليه النداء، لما أن المطابقة بين ما في المواضع الثلاثة تحتاج إلى تكلف ما.
ومثل هذا يقال فيما تكرر ذكره من القصص في القرآن الكريم، مع اختلاف التعبير فيه، لأن كل سورة تعني عند ذكر القصة بالجانب الذي تسوقها من أجله والتعبير الذي يناسبه.
إن المقام مقام تجل إلهي، رب كريم يناجي عبدا من عباده اصطفاه للرسالة، وصنعه على عينه، ويسر له المجيء إلى هذا المكان المبارك، الذي بورك بالرسالة وبكلام الله لموسى، إلى جوار جبل الطور، والوادي إلى يمين موسى في بقعة مباركة قد باركها الله منذ هذه اللحظة، عند شجرة وحيدة في ذلك المكان.
﴿ أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ﴾
وسجل ضمير الوجود ذلك النداء العلوي، وبوركت البقعة التي تجلّى عليها ذو الجلال، وتميز الوادي الذي كرّم بهذا التجلي، ووقف موسى في أكرم موقف يلقاه إنسانxi.
١- الأنبياء أوفياء، فموسى قضى أوفى الأجلين، عشر سنين.
٢- مشروعية السفر بالأهل، وقد يحصل للمرء أن يضل الطريق، أو يحتاج إلى شيء ويصبر.
٣- فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى فيها موسى، وهي من جبل الطور.
٤- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله.
٥-لا يُلام على الخوف الطبيعي.
٦-من خاف فوضع يده على صدره زال خوفه إن شاء اللهxiii.
سورة القصص مكية، وآياتها ٨٨ آية، نزلت بعد سورة النمل، وقد نزلت في الفترة المكية الأخيرة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، وقد سميت بسورة القصص لاشتمالها على القصص الذي حكاه موسى لنبي الله شعيب في قوله سبحانه :﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾ [ القصص : ٢٥ ].
قصة موسى
تستغرق قصة موسى حيزا كبيرا من سورة القصص، فمن بداية السورة إلى الآية ٤٨ ؛ نجد حديثا مستفيضا عن موسى عليه السلام.
وفي الآيات [ ٧٥-٨٢ ] نجد حديثا عن قارون، أي أن معظم سورة القصص يتناول قصة موسى ويتناول قصة قارون، والحكمة في ذلك أن هذه السورة نزلت بمكة في مرحلة قاسية، كان المسلمون فيها قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان، فنزلت هذه السورة تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، وتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود، هي قوة الله، وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان، فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى.
ومن ثم يقوم كيان سورة القصص على قصة موسى وفرعون، وتعرض السورة من خلال هذه القصة قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر، وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة، ولا ملجأ له ولا وقاية.
وقد علا فرعون في الأرض، واتخذ أهلها شيعا، واستضعف بني إسرائيل، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وهو على حذر منهم، وهو قابض على أعناقهم، لكن قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته، لا تغني عنه شيئا، بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير المجرد من كل قوة وحيلة، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة، ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السوء، وتعمى عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا، فتدفع به إلى حجره، وتدخل به عليه عرينه، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه.
لقد طمعت آسية أن يكون موسى وليدا لها تتبناه مع زوجها فرعون، فقالت لفرعون :﴿ قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ﴾ [ القصص : ٩ ]
وهكذا دبر الله أن يتربى موسى في بيت فرعون، وأن يؤتى الحذر من مكمنه، ولما حرم الله المراضع على موسى، جاءت أمه كمرضعة له، وأرضعته في بيت فرعون، وصار فرعون يجري عليها كل يوم دينارا من الذهب، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( مثل المؤمن كأم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرتها )i.
موسى في سن الرجولة :
بلغ موسى أشده، واستكمل نيفا وثلاثين عاما، وقد صنعه الله على عينه، فصار يتأمل في هذا الكون، ويبتعد عن حاشية فرعون، ودخل العاصمة في فترة الظهيرة فرأى قبطيا يعمل طباخا في قصر فرعون يتشاجر مع إسرائيلي، فاستغاث به الإسرائيلي ؛ فضرب موسى القبطي بجمع يده فوقع جثة هامدة، وندم موسى على ذلك واستغفر الله وتاب إليه.
وتربص قوم فرعون بموسى ليقتلوه، فانتدبت يد القدرة واحدا منهم يكتم إيمانه عنهم، وجاء لموسى وقال له :﴿ إن الملأ يأتمرون به ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ﴾ [ القصص : ٢٠ ].
خرج موسى هاربا مهاجرا متجها إلى أرض مدين وحيدا فريدا فآواه الله ورعاه، وتعرف هناك على نبي الله شعيب وتزوج بابنته ومكث هناك عشر سنين، ثم عاوده الحنين إلى مصر فجاء إليها عبر سيناء، وعند الشجرة المباركة نودي من قبل الله : أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين، وامتن الله عليه بالرسالة وأيده بالمعجزات.
موسى مع فرعون :
عاد موسى إلى فرعون مرة أخرى يدعوه إلى الإيمان بالله ويقدم له الأدلة العقلية والمعجزات الظاهرة، ولكن فرعون طغى وتجبر وكذب وعصى ؛ فأهلكه الله وأخذه نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
الحلقة الجديدة في القصة :
عنيت سورة القصص بإبراز حلقة ميلاد موسى، وتربيته في بيت فرعون، وهي حلقة جديدة في القصة تكشف عن تحدي القدرة الإلهية للطغيان والظلم، وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ.
لقد ولد موسى في ظروف قاسية في ظاهرها، فصاحبته رعاية الله وعنايته، في رضاعه وفي نشأته وفتوته، وصنعه الله على عينه وهيأه للرسالة، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب ثم قال له كن فيكون.
قارون :
ذكرت سورة القصص قصة موسى في بدايتها وقصة قارون في نهايتها، والهدف واحد، فقصة فرعون تمثل طغيان الملك، وقصة قارون تمثل طغيان المال.
كان قارون من قوم موسى وكان غنيا ذا قدرة ومعرفة، وأوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء، وخرج على قومه في زينته وأبهته ليكسر قلوب الفقراء، ونصحه قومه بالاعتدال وإخراج الزكاة، والإحسان إلى الناس والابتعاد عن الفساد.
فزادته النصيحة تيها وعلوا، وخرج يباهي الناس بماله وكنوزه، ثم تدخلت يد القدرة الإلهية فخسفت به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه.
وهكذا تصير عاقبة الظالمين، كما غرق فرعون في البحر، هلك قارون خسفا في الأرض، ولا تزال بحيرة قارون تذكر الناس بنهاية الظالمين، قال تعالى :﴿ وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين*فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ العنكبوت : ٣٩، ٤٠ ].
أهداف السورة
تهدف سورة القصص إلى إثبات قدرة الله ورعايته للمؤمنين، فهو سبحانه الواحد الأحد الفرد الصمد المتفرد بالحكم والقضاء، قد آزر موسى وحيدا فريدا طريدا، ونجاه من بطش فرعون، وأغرق فرعون وجنوده، كما أهلك قارون وقومه.
وبين القصتين نجد الآيات من [ ٤٤ – ٧٥ ] تعقب على قصة موسى وتبين أين يكون الأمن، وأين تكون المخافة، وتجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير، تجول معهم جولات شتى في مشاهد الكون، وفي مشهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمن، بعد أن تعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين، بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود، وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكرون.
ختام السورة
في ختام السورة نجد الآيات [ ٨٥-٨٨ ] تعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة فاتحا منتصرا، ينشر الهدى ويقيم الحق والعدل، ومن العجيب أن هذا الوعد بالنصر جاءه وهو مخرج من بلده، مطارد من قومه، مهاجر إلى المدينة ولم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة، قريبا من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، ويقول عند فراقه مخاطبا مكة :" والله إنك لمن أحب البلاد إليّ، ومن أحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ".
ويعده الله بالرجوع إلى مكة فيقول :﴿ إن الله فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.. ﴾ [ القصص : ٨٥ ].
ويبين سبحانه : أن كل ما دون الحق فهو عرضة للفناء والزوال، وأن زمام الحكم بيده تعالى، وتحتم السورة بهذه الآية إثباتا للوحدانية ولجلال القدرة الإلهية :﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ﴾ [ القصص : ٨٨ ].
المفردات :
تهتز : تضطرب وتتحرك بسرعة.
جان : حية كحلاء العين بيضاء، تكثر في الدور ولا تؤذي.
مدبرا : منهزما خلفه من الخوف.
ولم يعقب : ولم يرجع لخوفه وفزعه منها.
التفسير :
٣١-﴿ وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ﴾.
ألقى موسى عصاه فانقلبت حيّة كبيرة ضخمة، تصطك أنيابها، لو صادفت صخرة لاقتلعتها وابتلعتها، كأن الصخرة تندكّ من جبل إلى واد سحيق، ومع عظم الحية وضخامتها، فهي تتحرك في خفة وسرعة، كأنها حية صغيرة في خفة حركتها وشدة سرعتها، عندئذ خاف موسى خوفا شديدا، وولى مدبرا مسرعا إلى الخلف، ولم يعقب ويرجع مرة أخرى، ليشاهد هذه الحية ويتأمل صفاتها، يقال : عقب الفارس، إذا أقبل بعد أن أدبر، وكرّ بعد أن فرّ، فناداه الله سبحانه وتعالى : يا موسى أقبل إلينا، ولا تخف من الحية أو غيرها فأنت في معية الرحمان، ومن كان في معية الله فلا خوف عليه.
قال تعالى :﴿ إني لا يخاف لدي المرسلون ﴾ [ النمل : ١٠ ] أي : أنت في كنفي ورعايتي وحفظي، وأنت أمن فأنت رسولي أحفظك بحفظي، وأكلؤك برعايتي.
١- الأنبياء أوفياء، فموسى قضى أوفى الأجلين، عشر سنين.
٢- مشروعية السفر بالأهل، وقد يحصل للمرء أن يضل الطريق، أو يحتاج إلى شيء ويصبر.
٣- فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى فيها موسى، وهي من جبل الطور.
٤- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله.
٥-لا يُلام على الخوف الطبيعي.
٦-من خاف فوضع يده على صدره زال خوفه إن شاء اللهxiii.
عاش موسى حياة القصور في رعاية فرعون، وشاء الله أن يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وأن يساعد إسرائيليا، بوكزة لقبطي قضت عليه، وأن يخبره رجل مؤمن بأن حياته في خطر، وأن يخرج من مصر خائفا يترقب، وأن يسير في الطريق إلى مدين جائعا خائفا، وأن يمكث في مدين أجيرا راعيا للغنم، وأن يتزوج من ابنة شعيب، وأن يعود من نفس الطريق، وكأن الله يمهده لرسالة شاقة، وليألف الطريق المؤدية للخروج من مصر، والعودة إليها، حتى يكون على بينة من هذه الطرق، عندما يخرج مع بني إسرائيل قائدا لهم إلى البحر، حيث ينجو بهم ويغرق فرعون، وفي الآيات حلقة المناجاة والرسالة، والمعجزات الباهرة، والتمرين على إلقاء العصا، وإدخال اليد في الجيب، مع فضل الله على موسى واصطفائه، وجعله من أولي العزم من الرسل، واختياره لمهمة من أشق مهمات الرسل-عدا محمد صلى الله عليه وسلم- لأن بني إسرائيل، كانت لديهم رسالة محرفة، وبهم ذل وخسف أذل طباعهم، وبذل موسى عليه السلام جهودا كثيرة، وصبر صبرا طويلا، وقد أمده الله بمعونته وتوفيقه ورعايته، ورباه بفضله قال تعالى :﴿ ولتصنع على عيني ﴾ [ طه : ٣٩ ].
المفردات :
اسلك : أدخل.
جيبك : الجيب : فتحة القميص من حيث يدخل الرأس.
جناحك : الجناح : العضد والذراع، لأن الذراع للإنسان كالجناح للطائر.
سوء : عيب ومرض، كبرص ونحوه.
الرهب : الخوف، بفتح الراء وسكون الهاء، بقراءة حفص عن عاصم، وقرأ الجمهور :[ الرّهب ] بفتح الراء والهاء.
برهانان : حجتان واضحتان، تثنية برهان، وهو الحجة القاطعة.
التفسير :
٣٢-﴿ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذلك برهان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾.
أدخل يدك في جيبك، والجيب فتحة الثوب تكون في الصدر، ومن هذا الجيب تدخل الرأس عند لبس الثوب، قال تعالى :﴿ وليضربن بخمرهن على جيوبهن.. ﴾ [ النور : ٣١ ] أي : على المرأة المسلمة أن تضع طرف الخمار على فتحة الصدر حتى تستر صدرها.
والمراد : أن الله طلب من موسى عليه السلام أن يدخل يده في فتحة القميص أو فتحة الثوب الخارجي، فإذا أخرجها خرجت بيضاء بياضا ساطعا، مثل ضوء الشمس، بدون مرض أو برص، فهذه معجزة ثانية، والعهد في يد موسى أنها تميل إلى السواد أو الحمرة، فربما دخله الرعب أو الخوف من شدة بياض اليد، وشدة إشراق الضوء منها، فأمره الله تعالى أن يضم يده إلى صدره فإن ذلك يذهب عنه الرهب والخوف، وهي وسيلة عملية لكل خائف، أن يضع يده في صدره، حتى يخفف من خفقان قلبه.
قال القرطبي :
وما فسروه من ضم اليد إلى الصدر يدل على أن الجيب موضعه الصدر، وقرأ حفص :﴿ من الرهب ﴾ بفتح الراء وإسكان الهاء، وقرأ جمهور القراء بفتح الراء والهاء :﴿ من الرهب ﴾، لقوله تعالى :﴿ ويدعوننا رغبا ورهبا.. ﴾ [ الأنبياء : ٩٠ ] وكلها لغات، وهو بمعنى الخوف.
والمعنى : إذا هالك أمر يدك وشعاعها فأدخلها في جيبك، وارددها إليه تعد كما كانت.
قال ابن عباس :
ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه السلام، ثم يدخل يده فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعبxii.
﴿ فذانك برهانان من ربك.. ﴾
هاتان حجتان واضحتان، ومعجزتان بارزتان، تأييدا من الله لك، وهما العصا تنقلب حية، واليد تضيء كالشمس.
﴿ إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾.
هاتان الآيتان أرسلناك بهما إلى فرعون وقومه، إنهم كانوا قوما خارجين على طاعة الله، فأيدك بالمعجزتين دعما لموقفك، وإعلاما للجميع بأنك رسول من عند الله مؤيد بالمعجزتين.
١- الأنبياء أوفياء، فموسى قضى أوفى الأجلين، عشر سنين.
٢- مشروعية السفر بالأهل، وقد يحصل للمرء أن يضل الطريق، أو يحتاج إلى شيء ويصبر.
٣- فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى فيها موسى، وهي من جبل الطور.
٤- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله.
٥-لا يُلام على الخوف الطبيعي.
٦-من خاف فوضع يده على صدره زال خوفه إن شاء اللهxiii.
التفسير :
٣٣-﴿ قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ﴾
حظي موسى بالمناجاة والتأييد بالمعجزات، وهو في حضرة الجبار القهار الذي بيده الخلق والأمر ؛ فرغب في أن يحتاط لنفسه، وللدعوة التي يحملها، فهو قد قتل قبطيا أثناء نزاعة مع إسرائيلي، ورغب القوم في قتله فخرج خائفا إلى أرض مدين، حيث مكث بها عشر سنين.
وكان موسى قد عزم أن يعود إلى مصر، وأن يزور أسرته سرا، لكنه الآن سيعود حاملا رسالة، مجابها لفرعون وقومه، وله تاريخ سابق، ونقاط ضعف أظهرها أمام الله قائلا :
﴿ رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ﴾
أي : لقد قتلت قبطيا في لحظة غضب، ورغب فرعون وقومه في قتلى، فخرجت من مصر خائفا أترقب، والآن أعود بالرسالة، وأخاف أن يقتلني فرعون وقومه قصاصا لذلك، وليس ذلك لخوف موسى على نفسه، بل لخوفه على ضياع الدعوة بعد قتله.
ردءا : معينا لي.
يصدقني : بإيضاح الحق بلسانه، وبسط القول فيه، ونفى الشبهة عنه.
التفسير :
٣٤-﴿ وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون ﴾.
كان هارون مقيما في مصر طول غياب موسى في أرض مدين، وكان هارون هادئ الأعصاب، خبيرا بمقارعة الحجة بالحجة، وكان في موسى لكنة أو حبسة في لسانه، فخشي أن يرتج عليه، ويعجز عن إقامة الحجة في مجالس النقاش والجدال مع فرعون، فناجي موسى ربه وقال : إن أخي هارون ﴿ أفصح مني لسانا ﴾ وأقدر على إقامة الحجة، أو تلخيص الدعوة، أو شرح الرسالة، أو إقامة الدليل والبرهان، أو الرد على الاعتراض والإنكار، فأرسل هارون معي، معينا ومساعدا، يؤكد دعوتي، ويشرحها ويفصلها ويدافع عنها.
﴿ إني أخاف أن يكذبون ﴾ أخشى أن يكذبني فرعون وقومه، فأحتاج إلى مساعد ومعين يشد أزري ويعاونني.
قال العلماء : أعظم شفاعة، هي شفاعة موسى لهارون، حتى يكون رسولا معه.
سنشد عضدك : سنقويك ونعينك.
سلطانا : حجة قوية وبرهانا، وتسلطا وغلبة، وحماية وحفظا.
التفسير :
٣٥-﴿ قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ﴾
طلب موسى من ربه المعونة، وفي سورة طه، ﴿ قال رب اشرح لي صدري*ويسر لي أمري* واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي*واجعل لي وزيرا من أهلي*هارون أخي*اشدد به أزري*وأشركه في أمري* كي نسبحك كثيرا* ونذكرك كثيرا* إنك كنت بنا بصيرا* قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ﴾ طه :[ ٢٥-٣٦ ].
وقد استجاب الله لرجاء موسى وأعطاه ما طلب.
والمعنى : قال الله تعالى لموسى :﴿ سنشد عضدك بأخيك ﴾ سنقويك ونؤازرك، ونساعدك في مهمتك بهارون عليه السلام، وسأمنحكما من مهابتي وسلطاني وعنايتي وجلالي فلا يستطيع الأعداء إيذاءكما أو النيل منكما، وسأعطيكما الآيات الباهرة والمعجزات التسع حتى ينتصر سلطانكما، وتغلب دعوتكما، وسيهلك فرعون، وتنتصران أنتما ومن اتبعكما من المؤمنين
آياتنا : المعجزات، أو آيات التوراة.
بينات : واضحات الدلالة على صدق موسى في رسالته.
سحر مفترى : مختلق مكذوب.
الأولين : السابقين.
التفسير :
٣٦-﴿ فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ﴾
على طريقة القرآن الكريم الفذة، يطوى الزمان والمكان وحركة الأحداث ؛ ليستنبط المشاهد استجابة الله لموسى، ثم يسير موسى وهارون بالرسالة إلى فرعون، ويقدمان الأدلة الباهرة على وحدانية الله وقدرته وجلاله، ووجوب عبادته وحده، وقد فصلت سورة طه هذه المعاني مثل.
﴿ قال فمن ربكما يا موسى*قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾ [ طه : ٤٩، ٥٠ ].
وتصور هاتان الآيتان وما بعدهما دلائل القدرة الإلهية، واستعانة فرعون بالسحرة، ثم إيمان السحرة واستهانتهم بتهديد فرعون، وغير ذلك، لكن السياق هنا يطوي هذه الجوانب من قصة موسى، لأن السياق هنا مهتم بجوانب الفضل الإلهي على موسى، في صغره وشبابه ورسالته، وبيان معونة الله له، فقد وهبه سلطان الجلال الذي قهر به سلطان الفرعون، وغرق الطاغية في الماء، ونجا موسى والمؤمنون.
ومعنى الآية :
فلما تقدم موسى إلى فرعون وقومه، وقدّم لهم رسالته وأيد دعواه بالمعجزات، وآزره هارون في رسالته، قال فرعون وقومه :
﴿ ما هذا إلا سحر مفترى.. ﴾
أنت ساحر تفتري على الله، وتدعي أنك رسول، ومعجزتك مهارة في السحر، وأنت مختلق متقول على الله.
﴿ وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ﴾.
وما سمعنا بهذه الدعوى-دعوى التوحيد وتفرد الله بالألوهية- في آبائنا وأجدادنا السابقين.
بكل هذه البساطة كان ردّهم وجوابهم، الإنكار بدون مناقشة، أو تقديم أدلة أو براهين يقبلها العقل والمنطق.
ومثل ذلك كان موقف أهل مكة من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنما هي طبيعة الكفار في كل رسالة ودعوة، وكأنما وصّى الكفار السابقون من جاء بعدهم من المكذبين، قال تعالى :﴿ أتواصوا به بل هم قوم طاغون ﴾ [ الذاريات : ٥٣ ].
عاقبة الدار : العاقبة المحمودة في الدار الآخرة، قال تعالى :﴿ أولئك لهم عقبى الدار ﴾ [ الرعد : ٢٢ ].
الظالمون : المشركون الكافرون.
التفسير :
٣٧-﴿ وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ﴾
أجاب موسى إجابة مهذبة، فهم لم يقدموا حجة ولا دليلا حتى يناقشهم، لكنهم اتهموه بدون دليل، وموسى واثق في صدقه وفي نصرة ربّه.
ومعنى الآية :
قال موسى : الله أعلم بأني جئت بالرسالة من عنده صادقا، وأن العاقبة ستكون للمؤمنين، بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة، وحاشا لله أن ينتصر الظالمون، فتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ويتعلق بالآية أنها جاءت لوحة هادفة في أدب الخطاب فموسى لم يجبهم بأنهم كاذبون، وأنه رسول مؤيد من عند الله، لكنه أجابهم بطريق التجهيل، أي الجهل بمن تكون له العاقبة، على طريقة القرآن الكريم حين قال :﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ﴾ [ سبأ : ٢٤ ] وكذلك موسى هنا يقول : الله أعلم بالصادق منا، وبمن تكون له العاقبة والغلبة في النهاية، لأن الظالم منّا لن يفلح.
المفردات :
الملأ : الأشراف وذوو الرأي.
من إله غيري : من رب يطاع ويذل ويعظم غيري.
هامان : أحد وزراء فرعون، لعله وزير الصناعة، أو العمل والعمال.
أوقد : أشعل النار على الطين شديدة قوية، ليتحول إلى أجر، فيكون أقوى في البناء.
صرحا : قصرا عاليا، أو بناء شامخا.
التفسير :
٣٨-﴿ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين ﴾.
كان بيان موسى واضحا، وشرحه لصفات الإله مقنعا، لكن فرعون خشي من تأثير كلام موسى ومن إيمان السحرة، وتحديهم لكل عذاب في سبيل الإيمان.
وتفيد الآية ما يأتي :
قال فرعون مخاطبا أشراف قومه : ليس في علمي أن هناك إلها آخر لكم غير الفرعون الملك، وهذه بقية عقائد فاسدة، ترى الملك إلها، أو حاول فرعون أن يستخف بعقول قومه فأعلن ألوهيته، وأنكر وجود أي إله آخر، قال تعالى :﴿ فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾ [ الزخرف : ٥٤ ].
ومبالغة في استخفافه بعقول قومه تظاهر بأنه يريد البحث عن إله موسى، فطلب من هامان أن يوقد النار على الطوب اللين، ليتحول إلى آجر، فيكون أقوى في البناء، ثم يبني هامان من هذا الآجر قصرا عاليا، أو بناء شامخا، متجها نحو السماء، حتى يصعد عليه الفرعون باحثا عن إله موسى صوب السماء.
ثم قال فرعون :
﴿ وإني لأظنه من الكاذبين ﴾
أي : إني متيقن من كذب موسى، لكني مبالغة في الإنصاف سأبحث عن إله موسى بنفسي، وهي مبالغة في استخفافه بعقول المخاطبين، وسير في طريق الكبرياء الكاذب، والجبروت المفتعل، وقريب من ذلك قوله تعالى :﴿ فحشر فنادى*فقال أنا ربكم الأعلى ﴾ [ النازعات : ٢٣، ٢٤ ].
لقد جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مصرحا بأنه الرب الأعلى، فأجابوه سامعين مطيعين، ولهذا انتقم الله تعالى منه فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرةxiv، وقد جاء هذا المعنى في قوله تعالى :﴿ وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب* أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا.. ﴾ [ غافر : ٣٦، ٣٧ ].
بغير الحق : بالباطل.
التفسير :
٣٩-﴿ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ﴾.
أي : استكبر فرعون وجنوده وحاشيته في أرض مصر، حيث نشروا الفساد، وأحدثوا فرقة بين الطوائف، واستذلوا بني إسرائيل، وبغوا في الأرض بغير الحق، حيث تعظموا على الإيمان بالله ورسوله، ولم يناقشوا رسالة موسى مناقشة عقلية فكرية، قال تعالى :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ [ النمل : ١٤ ].
إن تواضع الحاكم وعدله، واعتماده على الشورى، واختيار أكفأ الناس لولاية الأمور، كلها وسائل استدامة الملك، أما التكبر والتجبر والتعالي والتأله بدون وجه حق، فهو خسران وبطلان، لأن رؤية العظمة للنفس على الخصوص دون غيرها لا تكون حقا إلا من الله عز وجل.
قال الزمخشري : الاستكبار بالحق إنما هو لله وحده، وكل مستكبر على سواه، فاستكباره بغير حق.
وفي الحديث القدسي :( الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في النار، ولا أبالي )xv. رواه أبو داود، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة وابن عباس.
﴿ وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ﴾
اعتقدوا ألا قيامة ولا بعث ولا حشر ولا معاد ولا حساب، وبشموا من نعيم الدنيا عتوا وعنادا وظلما وفسادا، معتقدين أنهم لا يعودون إلينا، ولا يرجعون لنا لملاقاة الجزاء، ومواجهة العذاب.
فنبذناهم، طرحناهم ورميناهم.
اليم : البحر، والمراد به : نهر النيل لاستبحاره واتساعه.
التفسير :
٤٠-﴿ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾
تطوي السورة أحداثا كثيرة ذكرت بتوسع في سور أخرى، وتنتقل إلى الخاتمة التي أنزلها الله بفرعون وقومه، حينما استدرجهم الحق سبحانه وتعالى، عندما خرج موسى ليلا مع بني إسرائيل، فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا، ثم نجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، ونلمح يد القدرة الإلهية، كأنما أخذتهم أخذا فنبذتهم في اليم ورمتهم فيه رمي النواة، والأشياء المستغنى عنها التي لم تعد صالحة.
﴿ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾
فتأمل النهاية المؤلمة، وتعجب كيف صار الملك الجبار هالكا بين الأمواج، وكيف حاول الإيمان عندما رأى الموت رأي العين، فلم يقبل منه ذلك، ونجى الله جثته لتكون عظة وعبرة ودليلا عمليا على سمو القدرة، وهلاك الظالمين ونجاة المؤمنين.
قال تعالى :﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين* الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين* فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آيتنا لغافلون ﴾ [ يونس : ٩٠-٩٢ ].
أئمة : رؤساء يُقتدى بهم.
يدعون إلى النار : إلى الكفر والشرك والمعاصي.
التفسير :
٤١-﴿ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ﴾
لقد صاروا أئمة في الشر، ومثلا أعلى في الفجور والعدوان، ونموذجا في طريق الضلال، والصد عن آيات الله، فهم قدوة للفجار وأئمة يقتدى بهم في رفض الحق والتمسك بالباطل، وبئس الإمامة التي تؤدي بصاحبها ومن اقتدى به إلى النار.
وفي الحديث الشريف :( من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة )xvi رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وابن ماجة، والدارمي، عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي.
لقد صار فرعون إمام الظالمين، وعلما يقتدى به كل ضال، وينهج نهجه كل فاجر، فيا بؤسه ويا بؤس من اقتدى به.
﴿ ويوم القيامة لا ينصرون ﴾
وفي يوم القيامة يخذلون ويدخلون النار، فاجتمع عليهم ذل الدنيا موصولا بذل الآخرة، فقد غرق الفرعون في الدنيا، وهو أشد الناس عذابا يوم القيامة، ويا ليته العذاب وحده، بل القبح والمهانة، جزاء مجاوزته الحد في العدوان.
لعنة : طردا وإبعادا عن الرحمة.
المقبوحين : المبعدين من كل خير، مشوهي الخلقة.
التفسير :
٤٢-﴿ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ﴾
قال ابن كثير : وشرع الله لعنتهم، ولعنة ملكهم فرعون، على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين لرسله، كما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك.
﴿ ويوم القيامة هم من المقبوحين ﴾
فهم في عرصات القيامة صورة مشوهة، يعروها الذل والعار، ويكسوها الفضيحة والهول والقطران، قال تعالى :﴿ ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ [ هود : ١٨ ]
وقال سبحانه :﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار*مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ﴾ [ إبراهيم : ٤٢، ٤٣ ].
فيا بؤسا لفرعون وجنده ومن سار على نهجه، إن اللعنة تنزل عليهم في الدنيا من الصالحين، وفي الآخرة لا يجدون من يكرمهم، ولا من يستقبلهم بالكرامة أو حسن الاستقبال، بل يجدون الذل والصغار كما قال تعالى :﴿ وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ﴾ [ هود : ٩٩ ].
الكتاب : التوراة.
القرون الأولى : هم أقوام نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم.
بصائر للناس : أنوارا لقلوبهم.
التفسير :
٤٣-﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ﴾.
لقد كان الحديث طويلا عن قصة موسى وفرعون، واستأثر فرعون في الآيات السابقة بقسط كبير، فاتجه السياق إلى الحديث عن نصيب موسى، وبيان أن الله منّ عليه بالتوراة، بعد قرون طويلة لم يُرسل فيها رسول، فتكون حاجة الناس أشد إلى الهداية.
قال تعالى :﴿ لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ﴾ [ يس : ٦ ].
وكأن القرآن-وقد طال الحديث عن عنت فرعون وظلمه، وعاقبته في الدنيا والآخرة- أراد أن يقدم ميزة لهذا الرسول الصابر موسى عليه السلام.
ومعنى الآية :
لقد أعطينا موسى التوراة بعد هلاك الأمم السابقة، مثل قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط، وهذه التوراة جاءت بعد الحاجة إليها، حيث نزلت على فترة من الرسل، وبعد مدة زمنية من انقطاع الرسالات.
﴿ بصائر للناس.. ﴾ هداية للقلوب من العمى والغي.
﴿ وهدى ورحمة.. ﴾ وهداية وإرشادا وتشريعا وبيانا للعبادات والمعاملات، مشتملة على رحمة من الله للعباد، حيث شرع لهم ما ينفعهم في الدنيا، ويسعدهم في الآخرة.
﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ لعل الناس يتذكرون بهذا الكتاب ويهتدون بسببه.
وذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية تفيد أن الله أهلك الأمم السابقة التي كذبت رسولها، كما أهلك فرعون ومن قبله عقوبة على كفرهم، وبعد نزول التوراة لم تتدخل السماء بعقوبة لإهلاك الظالمين بل أمر الله المؤمنين بجهاد الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة*فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ﴾ [ الحاقة : ٩، ١٠ ].
روى ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الخدري قال : ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى، ثم قرأ ﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ﴾
والمقصود هنا : أن الله أهلك الأمم السابقة عندما كذبت رسلها، وأهلك فرعون ومن قبله من الجبارين، ثم أنزل التوراة هداية للناس، ورحمة بهم، حيث اشتملت على التشريع والقصاص والآداب ونظام الدين والدنيا، لعل الناس تتذكر فضل الله، فتطيع وتسعد في دنياها وأخراها، وكانت التوراة تمهد وتبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وكذلك الإنجيل، فهذه الآية كالتمهيد لما يأتي بعدها من سوق الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال يحيى بن سلام : التوراة أول كتاب نزلت فيه الفرائض والحدود والأحكام.
المفردات :
الغربي : الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات، وأعطى الله فيه ألواح التوراة لموسى.
قضينا : عهدنا إليه، وكلفناه أمرنا ونهينا.
الأمر : أمر الرسالة.
الشاهدين : الحاضرين للوحي من جملة السبعين المختارين.
تمهيد :
قص القرآن الكريم جانبا من قصص موسى وشعيب وغيرهما من الأنبياء، وهنا يقدم القرآن الأدلة على صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حوى القرآن أخبار الأمم السابقة، كقصص نوح وهود وصالح ولوط وموسى، مع من أرسلوا إليهم، وهذه الأخبار تطاول عليها الزمن، ووجد نصيب منها في التوراة سليما من التحريف، ونصيب منها محرف، قوّمه القرآن وأرشد إلى الصواب واليقين فيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان أميا نشأ في أمة أمية، ولم يتجول في البلاد، ولم يقرأ أخبار الأمم، ثم قصّ هذا القصص بالحق، فلا يمكن أن يروى هذا القصص بهذا التفصيل البارع إلا أن يكون ذلك عن طريق الوحي الإلهي، الذي أنزله الله عليه ليبلغه للناس، تحقيقا لوعد الله ألا يعذب أمة إلا بعد أن يرسل إليها الرسل، ويبلغها الكتب وأمور الرسالة وشئونها على وجه يحرك فيها داعية القبول، فإذا أطاعت فلها السعادة في الدارين، وإلا فقد أعذر من أنذر.
التفسير :
٤٤-﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ﴾
والغربي هو الجانب الغربي للطور الذي جعله الله ميقاتا مع موسى عليه السلام، بعد أجل محدد ثلاثين ليلة، أتمها بعشر فكانت أربعين ليلة.
قال تعالى :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة.. ﴾[ الأعراف : ١٤٢ ].
وفي هذا الميقات قضى الأمر لموسى في الألواح، لتكون شريعته في بني إسرائيل، وما كان رسول الله صلى الله موجودا بجانب الجبل الغربي، حين عهد الله تعالى بالرسالة إلى موسى، وأحكم أمر نبوته بالوحي وإنزال التوراة، وما كان من جملة الشاهدين الحاضرين للوحي، وهم السبعون المختارون للميقات المنوّه عنهم بقوله تعالى :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا.. ﴾[ الأعراف : ١٥٥ ].
أو ما كنت من الشاهدين بجميع ما أعلمناك من شأن موسى، وأخبرت به، فهو نفي لشهادته صلى الله عليه وسلم جميع ما جرى لموسى.
قص القرآن الكريم جانبا من قصص موسى وشعيب وغيرهما من الأنبياء، وهنا يقدم القرآن الأدلة على صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حوى القرآن أخبار الأمم السابقة، كقصص نوح وهود وصالح ولوط وموسى، مع من أرسلوا إليهم، وهذه الأخبار تطاول عليها الزمن، ووجد نصيب منها في التوراة سليما من التحريف، ونصيب منها محرف، قوّمه القرآن وأرشد إلى الصواب واليقين فيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان أميا نشأ في أمة أمية، ولم يتجول في البلاد، ولم يقرأ أخبار الأمم، ثم قصّ هذا القصص بالحق، فلا يمكن أن يروى هذا القصص بهذا التفصيل البارع إلا أن يكون ذلك عن طريق الوحي الإلهي، الذي أنزله الله عليه ليبلغه للناس، تحقيقا لوعد الله ألا يعذب أمة إلا بعد أن يرسل إليها الرسل، ويبلغها الكتب وأمور الرسالة وشئونها على وجه يحرك فيها داعية القبول، فإذا أطاعت فلها السعادة في الدارين، وإلا فقد أعذر من أنذر.
المفردات :
أنشأنا قرونا : خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا كثيرة.
فتطاول : تمادى وتباعد.
عليهم العمر : عليهم الزمن، قال تعالى :﴿ فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم.. ﴾ [ الحديد : ١٦ ].
ثاويا : مقيما.
أهل مدين : قوم شعيب عليه السلام.
التفسير :
٤٥-﴿ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ﴾
هذه الآية استدراك، لتأكيد المعنى السابق قبلها.
والمعنى :
ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا وأمما كثيرة، تمادى وتباعد عليها الزمن، فتغيرت الشرائع، وتبدلت الأحكام، وعميت عليهم الأنباء، ولا سيما ما كان منهم في آخر هذه الأزمان، من الذين أنت فيهم، فاقتضت حكمة الله أن يرسل محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، لينذر قوما ما أتاهم من نذير من قبله لعلهم يهتدون.
﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا.. ﴾
لقد تحدث القرآن عن قصة موسى، واتجاهه صوب مدين وإصهاره إلى شعيب، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن مقيما في أرض مدين ليتسمع منهم ويتعلم هذه الأخبار عنهم، ثم يتلوها على قومه، بهذا الإخبار الصادق الذي أخبر به.
﴿ ولكنا كنا مرسلين ﴾
ولكن ذلك لأننا أوحينا إليك، وأرسلناك رسولا.
قص القرآن الكريم جانبا من قصص موسى وشعيب وغيرهما من الأنبياء، وهنا يقدم القرآن الأدلة على صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حوى القرآن أخبار الأمم السابقة، كقصص نوح وهود وصالح ولوط وموسى، مع من أرسلوا إليهم، وهذه الأخبار تطاول عليها الزمن، ووجد نصيب منها في التوراة سليما من التحريف، ونصيب منها محرف، قوّمه القرآن وأرشد إلى الصواب واليقين فيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان أميا نشأ في أمة أمية، ولم يتجول في البلاد، ولم يقرأ أخبار الأمم، ثم قصّ هذا القصص بالحق، فلا يمكن أن يروى هذا القصص بهذا التفصيل البارع إلا أن يكون ذلك عن طريق الوحي الإلهي، الذي أنزله الله عليه ليبلغه للناس، تحقيقا لوعد الله ألا يعذب أمة إلا بعد أن يرسل إليها الرسل، ويبلغها الكتب وأمور الرسالة وشئونها على وجه يحرك فيها داعية القبول، فإذا أطاعت فلها السعادة في الدارين، وإلا فقد أعذر من أنذر.
المفردات :
الطور : الجبل
لتنذر : لتخوف وتحذر.
التفسير :
٤٦-﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ﴾.
لقد أخبرت عن الأنبياء والرسل، والأمم والقيامة والبعث، وما كان لك من علم بذلك إلا عن طريق الوحي، فأنت لم تشاهد موسى عند تلقيه الرسالة، ولم تكن بجانب الطور حين ناداه ربّه وأوحى إليه، فالآية اختيار للحظة معينة اتصلت فيها السماء بالأرض، وتفضل فيها الرب الكريم على موسى.
قال تعالى :﴿ فلما أتاها نودي يا موسى* إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى*وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى*إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ﴾ [ طه : ١١-١٤ ].
ونلمح هنا أن الآية ٤٤ تكلمت عن رسالة موسى بصفة عامة، أما الآية ٤٦ فقد اختارت لحظة التفضل على موسى بالنداء والمناجاة، فهذه أخص والسابقة أعم.
وقال قتادة : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا. موسى، وهذا أشبه بقوله :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر.. ﴾ ثم أخبر ههنا بصيغة أخرى أخص من ذلك وهو النداء، كما قال تعالى :﴿ وإذ نادى ربك موسى.. ﴾ الشعراء : ١٠ ] وقال تعالى :﴿ إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ﴾ [ النازعات : ١٦ ].
وقال تعالى :﴿ وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ﴾ [ مريم : ٥٢ ]
﴿ ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ﴾
أي : إنك لم تكن بجانب الطور حين نادينا موسى، ولكن أعطاك الله الرسالة ؛ رحمة وفضلا وكرامة، وفيها هذه الأخبار، وفيها أيضا التشريع والهداية، لتنذر بها قومك الذين لم يرسل إليهم رسول منذ عهد إسماعيل عليه السلام، وهي مدة تزيد على ألفي عام، فقد طال العهد عليهم، وبعد الأمد بالرسل، فكان من رحمة الله وفضله أن أرسلك على حين فترة من الرسل ؛ لترشد الناس إلى الإيمان، وتذكرهم بالوحي، وترشدهم إلى الخالق الواحد سبحانه وتعالى.
قص القرآن الكريم جانبا من قصص موسى وشعيب وغيرهما من الأنبياء، وهنا يقدم القرآن الأدلة على صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حوى القرآن أخبار الأمم السابقة، كقصص نوح وهود وصالح ولوط وموسى، مع من أرسلوا إليهم، وهذه الأخبار تطاول عليها الزمن، ووجد نصيب منها في التوراة سليما من التحريف، ونصيب منها محرف، قوّمه القرآن وأرشد إلى الصواب واليقين فيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان أميا نشأ في أمة أمية، ولم يتجول في البلاد، ولم يقرأ أخبار الأمم، ثم قصّ هذا القصص بالحق، فلا يمكن أن يروى هذا القصص بهذا التفصيل البارع إلا أن يكون ذلك عن طريق الوحي الإلهي، الذي أنزله الله عليه ليبلغه للناس، تحقيقا لوعد الله ألا يعذب أمة إلا بعد أن يرسل إليها الرسل، ويبلغها الكتب وأمور الرسالة وشئونها على وجه يحرك فيها داعية القبول، فإذا أطاعت فلها السعادة في الدارين، وإلا فقد أعذر من أنذر.
المفردات :
مصيبة : عذاب الدنيا والآخرة.
لولا " الثانية " : هلا، وتفيد تمنّى حصول ما بعدها والحث عليه.
التفسير :
٤٧-﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ﴾.
وأرسلناك لتقيم عليهم الحجة، وتقطع عنهم العذر، حين ينزل عليهم عذاب في الدنيا أو الآخرة، فيقولون : يا ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يرشدنا ويحذرنا، فنتبع آياتك المنزلة عليه، ونكون من المؤمنين به، فالآية تعقيب يبين الحكمة في إرسال الرسل عامة، وفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي الإعذار إلى الناس، وإخبارهم بحقائق الكون وخلق الدنيا، والبعث في الآخرة.
وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ [ الإسراء : ١٥ ].
ويقول عز شأنه :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ﴾ [ النساء : ١٦٥ ].
جاء في ظلال القرآن :
فهي رحمة الله بالقوم، وهي حجته كذلك عليهم، كيلا يعتذروا بأنهم أخذوا على غرة، وأنهم لم ينذروا قبل أخذهم بالعذاب –وما هم فيه من جاهلية وشرك ومعصية يستوجب العذاب- فأراد الله أن يقطع حجتهم، وأن يعذر إليهم، وأن يوقفهم أمام أنفسهم، مجردين من كل عائق يعوقهم عن الإيمان. اه.
المفردات :
الحق : القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو الرسول المصدق بالقرآن.
سحران : أي : ما أوتيه موسى، وما أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم.
تظاهرا : تعاونا بتصديق كل منهما الآخر.
تمهيد :
تناقش الآيات مشركي مكة مناقشة عقلية، فتستعرض تكذيبهم بالقرآن، وتعللاتهم، واقتراحاتهم المتعنتة، وتقترح عليهم الإتيان بكتاب أهدى من التوراة والقرآن، فإن عجزوا وأصروا على الكفر فهم أتباع الهوى والضلال، وكفى.
التفسير :
٤٨-﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون ﴾
بعد فترة من الرسل أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم بالحق : بالرسالة الحق، وبالقرآن الحق، وبالقول الحق والصدق، والدعوة إلى الإيمان والإسلام : أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا في أسباب كفرهم : هلا أوتي محمد صلى الله عليه وسلم معجزات مادية ملحوظة مثل ما أوتي موسى، " يعنون مثل العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وتنقيص الزروع والثمار مما يضيق على أعداء الله، وكفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، إلى غير ذلك من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة على يدي موسى عليه السلام حجة وبرهانا له على فرعون وملئه )xvii.
وقريب من هذا المعنى ما حكاه القرآن عنهم حين قالوا :﴿ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا*أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها.. ﴾ [ الفرقان : ٧، ٨ ].
﴿ أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل.. ﴾
أو لم يكفر أمثالهم في الكفر والعناد بما أوتي موسى ؟ حيث كذبوا موسى، وكفروا برسالته، كما قالوا :﴿ أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا.. ﴾ [ يونس : ٧٨ ].
وقال تعالى :﴿ فكذبوهما فكانوا من المهلكين ﴾ [ المؤمنون : ٤٨ ].
قال ابن كثير :
﴿ أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل.. ﴾
أي : أو لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة }.
﴿ قالوا سحران تظاهرا.. ﴾
أي : سحر موسى وسحر هارون تعاونا.
﴿ وقالوا إنا بكل كافرون ﴾
أي : بكل منهما كافرون. اه.
أي : إن التكذيب لم يكن في أهل مكة وحدهم، بل سبقهم قوم فرعون، حيث أيد الله موسى بآيات باهرة منها تسع آيات بينات، لكنهم كذبوا موسى وهارون، وقالوا : ساحران تعاونا وإنا كافرون بهما، فالكفر والعناد كانا طبيعة في المكذبين بالرسل على مختلف العصور، كأنما وصى السابق منهم اللاحق.
قال تعالى :﴿ أتواصوا به بل هم قوم طاغون ﴾ [ الذاريات : ٥٣ ].
رأي آخر في تفسير الآية
روى أن أهل مكة بعثوا رهطا إلى رؤساء اليهود، فسألوهم عن شأن محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود، قال كفار مكة :﴿ سحران تظاهرا.. ﴾ أي : سحر موسى وسحر محمد ﴿ وقالوا إنا بكل كافرون ﴾ أي : بكل من الكتابين –التوراة والقرآن- كافرون، قالوا ذلك تأكيدا لكفرهم وعتوهم وتماديهم في العناد والطغيان.
قال الآلوسي :
وقرأ الأكثرون :﴿ قالوا سحران تظاهرا.. ﴾ وأرادوا بهما محمدا وموسى عليهما الصلاة والسلام.
وجاء في ظلال القرآن ما يأتي :
لقد كان في الجزيرة يهود، وكان معهم التوراة، فلم يؤمن لهم العرب، ولم يصدقوا بما بين أيديهم من التوراة، ولقد علموا أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة، واستفتوا بعض أهل الكتاب فيما جاءهم به فأفتوهم بما يفيد أنه الحق، وأنه مطابق لما بين أيديهم من الكتاب، فلم يذعنوا لهذا كله، وادعوا أن التوراة سحر، وأن القرآن سحر، وأنهما من أجل هذا يتطابقان، ويصدق أحدهما الآخر، ﴿ قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون ﴾.
فهو المراء إذن واللجاجة، لا طلب الحق ولا نقصان البراهين، ولا ضعف الدليل.
تناقش الآيات مشركي مكة مناقشة عقلية، فتستعرض تكذيبهم بالقرآن، وتعللاتهم، واقتراحاتهم المتعنتة، وتقترح عليهم الإتيان بكتاب أهدى من التوراة والقرآن، فإن عجزوا وأصروا على الكفر فهم أتباع الهوى والضلال، وكفى.
المفردات :
أهدى : أقوى في الهداية.
منهما : من القرآن والتوراة.
التفسير :
٤٩-﴿ قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ﴾
أي : إن لم يعجبكم القرآن ولم تعجبكم التوراة، فأتوا أنتم بكتاب منزل من عند الله أفضل منهما، وأكثر اشتمالا على الهدى وبيان التشريع، والقصص والآداب ومكارم الأخلاق، فإذا أتيتم بهذا الكتاب فسأتبعه وألتزم بهدايته.
﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في أنهما سحران تظاهرا، أو في أن سبب رفضكم نقص الحجة والدليل، لا اتباع الهوى والمكابرة بدون دليل.
قال ابن كثير :
وقد علم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتابا من السماء-فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه- أكمل ولا أشمل ولا أفصح، ولا أعظم ولا أشرف، من الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة، الكتاب الذي أنزله على موسى عليه السلام، وهو الكتاب الذي قال الله فيه :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور.. ﴾ [ المائدة : ٤٤ ]
والإنجيل إنما أنزل متمما للتوراة، ومحلا لبعض ما حرم على بني إسرائيل، ولهذا قال الله تعالى :﴿ قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ﴾
أي : فيما تدافعون به الحق، وتعارضون به من الباطلxviii.
تناقش الآيات مشركي مكة مناقشة عقلية، فتستعرض تكذيبهم بالقرآن، وتعللاتهم، واقتراحاتهم المتعنتة، وتقترح عليهم الإتيان بكتاب أهدى من التوراة والقرآن، فإن عجزوا وأصروا على الكفر فهم أتباع الهوى والضلال، وكفى.
المفردات :
فإن لم يستجيبوا : فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به
التفسير :
٥٠-﴿ فإن لم يستجيبوا لك فأعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾.
فإن لم يستجيبوا لك في الإتيان بكتاب هو أهدى من التوراة والقرآن، فطب نفسا، واطمئن قلبا، وازدد ثقة بأنك على الحق، وأنهم إنما يتبعون الهوى، والكبر والعناد بلا دليل ولا حجة.
﴿ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.. ﴾
أي : لا أحد أضل ممن سار على هواه وشيطانه، بدون أن تكون معه هداية الله ومعونته.
﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾.
لقد ظلموا أنفسهم باتباع الباطل، ورفض الحق، فسلب الله عنهم الهدى، وتركهم في الغي والضلال، جزاء ظلمهم وعنادهم.
جاء في تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي ما يأتي :
﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾
أي : إن الله لا يوفق لإصابة الحق واتباع سبل الرشد من خالفوا أمره، وتركوا طاعته، وكذبوا رسله، وبدّلوا عهده، واتعبوا هوى أنفسهم، إيثارا منهم لطاعة الشيطان على طاعة الرحمان. اه.
المفردات :
وصلنا لهم : التوصيل : ضم قطع الحبل بعضها إلى بعض، قال الشاعر :
فقل لبنى مروان ما بال ذمتي بحبل ضعيف ما يزال يوصّل
والمراد به هنا : إنزال القرآن منجما مفرقا، يتصل بعضه ببعض.
يتذكرون : يتعظون ويتدبرون
تمهيد :
بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، أثبت هنا أن أهل الكتاب أمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر عل صدقه، وموافقته لما في كتبهم، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
التفسير :
٥١-﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ﴾
تواصلت الرسالات رسولا بعد رسول، وتواصلت الكتب التي ختمت بالقرآن الكريم، الذي وصل الرسالات السابقة، وجاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.
فوصل الله سلسلة الرسالات بالإسلام، ووصل سلسلة الكتب والصحف بالقرآن، لعل الناس تذكر ربها ودينها، وليستمر صوت التذكير والتنبيه، وتتجدد الدعوة إلى الإيمان حالا بعد حال، وزمانا بعد زمان. لقد خلد الله صوت الحق الإلهي بهذا القرآن، وجعله ذكرى متجددة دائمة للأجيال، بما تكفل له من الصون والحفظ عن التغيير والتبديل، وبما اشتمل عليه من التنوع في الأسلوب والخطاب، وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا، نصائح ومواعظ، إرادة أن يتذكر الناس به ويعملوا بموجبه فيفلحوا.
قال القرطبي : الآية الكريمة رد على من قال : هلا أوتي محمد القرآن جملة واحد، مثل ما أوتي موسى التوراة كذلك ؟ اه.
والمعنى :
أنزلنا القرآن الكريم منجما ومقسطا، حسب الوقائع والحوادث، ليتواصل تذكير الناس بربهم، وليكون القرآن الكريم كتاب الحياة، يجيب على أسئلة الناس، ويناقش المشركين، ويصحح المفاهيم، وينسخ الأحكام عند الحاجة إلى النسخ أو التيسير، فقد نزل القرآن الكريم في مكة ثلاثة عشر عاما، يشرح العقيدة، ويعمق الإيمان، ويرد على شبهات المشركين، ونزل القرآن في المدينة عشر سنوات، نزلت فيها آيات الأحكام والجهاد والرد على شبه أهل الكتاب، وكشف ألا عيب المنافقين، وتفصيل أحكام السلم والحرب، والعبادات والمعاملات، فتواصلت آياته، وامتد نزوله، ليساند المؤمنين ويذكر الغافلين، وكان الرسول أميا، فكان من الرفق به أن ينزل القرآن منجما يؤازره، وييسر عليه حفظ القرآن وكتابته لدى كتاب الوحي.
قال تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا*ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ﴾ [ الفرقان : ٣٢، ٣٣ ].
بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، أثبت هنا أن أهل الكتاب أمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر عل صدقه، وموافقته لما في كتبهم، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
٥٢-﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ﴾
كان بعض اليهود والنصارى يدخلون في الإسلام راغبين باكين مصدقين بالقرآن، معلنين أن التوراة نصت على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم آمنوا بالقرآن، وبصدق محمد صلى الله عليه وسلم لمطابقة القرآن لأصول كتبهم، وبشارة تلك الكتب بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتطابق الأوصاف عليه.
قال القرطبي : ويدخل فيه من أسلم من علماء النصارى، وهم أربعون رجلا قدموا المدينة، منهم اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب، وثمانية من الشام، وكانوا أئمة النصارى، وأنزل الله فيهم هذه الآية وما بعدها.
وأخرج ابن جرير، عن علي بن رفاعة قال : خرج عشرة رهط من أهل الكتاب، منهم رفاعة –يعني أباه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا فأوذوا فنزلت :﴿ الذين آتيناهم الكتاب.. ﴾ الآيات.
وأخرج ابن جرير أيضا عن قتادة قال : كنا نتحدث أنها نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على الحق، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، منهم سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام.
وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم :﴿ يس*والقرآن الحكيم ﴾ [ يس : ١، ٢ ] حتى ختمها، فجعلوا يبكون وأسلمواxix.
وفي معنى الآية قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله.. } [ آل عمران : ١٩٩ ].
بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، أثبت هنا أن أهل الكتاب أمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر عل صدقه، وموافقته لما في كتبهم، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
المفردات :
مسلمين : منقادين خاضعين لله.
التفسير :
٥٣-﴿ وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ﴾.
وإذا قرئ القرآن عليهم استجابوا له، وقالوا : آمنا به وصدقنا بأنه كلام الله لاشتماله على الحق والصدق، ولأنه معجز للبشر وهو من كلام ربنا، إنا كنا قبل نزول هذا القرآن منقادين لأحكام الله، نجد في التوراة بشارة بأحمد وأمته، والكتاب المنزل عليه.
قال تعالى :﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة.. ﴾ [ الفتح : ٢٩ ].
وقال عز شانه :﴿ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ﴾ [ الصف : ٦ ].
بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، أثبت هنا أن أهل الكتاب أمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر عل صدقه، وموافقته لما في كتبهم، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
المفردات :
يدرءون : يدفعون.
التفسير :
٥٤-﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ﴾
هؤلاء المؤمنون بالقرآن والإسلام من أهل الكتاب يضاعف لهم الثواب، ويؤتون أجرهم مرتين : الأولى : لإيمانهم بنبيهم موسى، أو نبيهم عيسى، وصبرهم على اتباع تعاليم اليهودية أو المسيحية، والثانية : لإيمانهم بالقرآن ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودخولهم في الإسلام، وصبرهم على الأذى، واحتمالهم الإساءة ممن يعيرهم بذلك، أو يعيب عليهم الدخول في الإسلام وقد مدحهم الله بما يأتي :
١- الثبات على الإيمان والصبر وتحمل تبعات الإيمان.
٢- مقابلة الإساءة بالإحسان.
٣- الإنفاق من النفس والمال والعلم وسائر ما رزقهم الله.
وقد وردت عدة روايات في تفسيري القرطبي وابن كثير، وسيرة ابن إسحاق، تفيد أن مجموعة من أهل الكتاب، أو من علماء النصارى أو أحبار اليهود، أو أصحاب النجاشي، قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن هذا الدين، ثم قرأ عليهم القرآن ففاضت عيونهم بالدمع، ودخلوا في الإسلام، واستجابوا لله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عند النبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد الحرام بمكة، اعتراضهم أبو جهل ووبخهم على ترك دينهم، وتصديقهم محمدا، فقالوا لأبي جهل ومن معه : سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، وقد قيل : إنهم النفر النصارى من أهل نجران، ونقل ابن إسحاق أنهم قدموا بمكة على رسول الله، وكانوا عشرين رجلا أو قريبا من ذلك، وأخرج ابن جرير أنهم كانوا عشرة من أهل الكتاب.
وفي تفسير ابن كثير : قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية وما بعدها، في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي.. فأسلموا، وإذا تأملنا في هذه الروايات، نقول : لعل حضور وفد من أهل الكتاب تكرر أكثر من مرة، فحينا كان عشرة، وحينا كان عشرين، وحينا كان سبعين، فذكرت كل رواية قصة وفد معين، وعموما فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد ورد في صحيحي البخاري ومسلم روايات عديدة تفيد أن من آمن من أهل الكتاب بالإسلام فله أجران، فعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها، فتزوجها )xx.
وروى أبو إمامة قال : إني لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال قولا حسنا جميلا، و قال فيما قال :( من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين، وله ما لنا وعليه ما علينا )xxi.
بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، أثبت هنا أن أهل الكتاب أمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر عل صدقه، وموافقته لما في كتبهم، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
المفردات :
اللغو : ما حقه أن يلغى ويترك من البعث وسخف القول.
سلام عليكم : كلمة توديع ومتاركة لا تحية.
لا نبتغي الجاهلين : لا نطلب صحبة الجاهلين، ولا نريد مخالطتهم ولا جدالهم.
التفسير :
٥٥-﴿ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ﴾.
يؤتيهم الله أجرهم مرتين لأنهم آمنوا بنبيهم ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولأنهم تخلقوا بالأخلاق الحسنة، ومنها مقابلة الإساءة بالإحسان، والهُجْر من القول بالصمت أو بالترك.
وتفيد كتب السيرة والتفسير مثل الآلوسي وابن كثير والطبري وغيرهم، أن وفدا من نصارى نجران، أو من أصحاب النجاشي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام، فلما سمع القرآن بكى وأسلم، ثم قام الوفد فاعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدقتموه فيما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم، فقالوا لهم : سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا. اه.
وتقرير معنى الآية ما يأتي
إذا عيرهم المشركون أو غيرهم، أو آذاهم الناس بالقول أو الفعل، أعرضوا من الأذى وسكتوا عن الرد على الجاهلين، وقالوا : لنا أعمالنا سنحاسب عليها وحدنا، ولكم أعمالكم ستحاسبون عليها وحدكم، سلام عليكم، سلام متاركة، أي : وداعا سنترككم، لا نريد صحبة الجاهلين، ولا نريد أن نخوض في الجدال والمشاتمة مع السفهاء.
بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، أثبت هنا أن أهل الكتاب أمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر عل صدقه، وموافقته لما في كتبهم، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
٥٦-﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ﴾
كان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية قومه وذوي قرابته، خصوصا عمه أبا طالب، الذي بذل نفسه لحماية ابن أخيه والدفاع عنه، حمية وعصبية لا من أجل العقيدة، لقد كان أبو طالب صخرة تحطمت عليها أطماع قريش في النيل من النبي صلى الله عليه وسلم، وبذل الكثير من أجل حمايته والدفاع عنه، وتحمل أبو طالب المقاطعة في شعب بني هاشم مع كبر سنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية عمه إلى الإسلام، ضنينا به أن يعذب في نار جهنم، والله تعالى وحده يعلم من هو الشخص الذي سبقت له الهداية، ومن هو الشخص الذي ختم على قلبه فلا يقبل الهداية، فما أجل هذا الإسلام، وما أعظم الهدف، وما أسمى وأعدل الحكمة الإلهية، ابن نوح عليه السلام يغرق مع الكافرين، ويحاول أبوه أن يشفع له فيقول له الله تعالى :﴿ قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ [ هود : ٤٦ ].
وهنا يثوب نوح إلى الحقيقة الثابتة، والعدالة الإلهية، وهي أن كل إنسان بما كسب رهين، فلا ينفع الإنسان علو درجة أقرب الناس إليه، ولا يضره تهاوي أقرب الناس إليه، وأمثلة ذلك كثيرة : إبراهيم عليه السلام دعا أباه للإسلام، واعتزله واستغفر له، ثم تبرأ منه عندما علم أنه عدو لله، امرأة نوح وامرأة لوط خانتاهما فدخلتا النار، امرأة فرعون أسلمت وآمنت وتحملت الآلام، فجعلها الله مثلا أعلى للذين آمنوا.
وقد ثبت في الصحيحين : أن الآية نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزهري : حدثني سعيد بن مسيب عن أبيه –وهو المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه- قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية ابن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله )xxii فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان له بتلك المقالة، حتى كان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والله لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك ) فأنزل الله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى.. ﴾ [ التوبة : ١١٣ ].
وأنزل في أبي طالب :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.. ﴾
وروى الترمذي من حديث يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( يا عماه، قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة )xxiii فقال : لولا أن تعيرني بها قريش، يقولون ما حمله عليها إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك، لا أقولها إلا لأقر بها عينك، فأنزل الله تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ﴾.
وخالف في ذلك الشيعة، وقالوا بإيمان أبي طالب، وادعوا إجماع أئمة أهل البيت على ذلك.
المفردات :
نتخطف : نخرج، أو يبطش بنا أعداؤنا، وأصل الخطف : الاختلاس بسرعة، فاستعير لما ذكر.
آمنا : مكينا.
يجبى إليه : يحمل إليه ويجمع إليه من كل جانب وجهة.
التفسير :
٥٧-﴿ وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾.
قال بعض الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لنعلم أن ما جئت به هو الحق، ولكنا نخشى إذا اتبعنا دينك أن تغير علينا القبائل، أو تهاجمنا فارس والروم.
وكان العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقيمون الحروب لأتفه الأسباب، وهم في صحراء واسعة، ليس لها ملك أو حكومة، وإنما كل قبيلة لها شيخ قبيلة، وإذا ثار نزاع احتكموا إلى السيف، والحرب والغارة والعدوان، وكان أهل مكة آمنين مطمئنين، سالمين من العدوان عليهم، فهم سدنة البيت الحرام، والقائمون عليه، وكانوا يتحركون بتجارتهم شمالا وجنوبا، صيفا وشتاء، ولا يعتدى عليهم أحد، مع العدوان على غيرهم من الناس، فامتن عليهم بتلك النعمة، وهي نعمة الأمن والأمان، وواجههم بذلك قائلا :
﴿ أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء.. ﴾
لقد كانوا مقيمين بواد غير ذي زرع عند البيت الحرام، والعرب يعظمون البيت الحرام، ويحافظون على حرمته، ويحملون الثمار والخيرات إلى هذا البيت من كل مكان.
﴿ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾
كان هذا الرزق الذي يحمل إلى البيت الحرام وأهله فضلا من الله تعالى، واستجابة لدعاء إبراهيم الخليل، وتيسيرا من الله تعالى لاحترام بيته، وإكرام المقيمين حوله، وهذا الرزق والفضل والحماية. والحصانة والنعمة من الله القادر الرزاق، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك، فيتركون الإسلام والإيمان، وإذا كان الله قد تفضل عليهم بالرزق وهم كفار مشركون، يعبدون الأصنام، أفيتركهم حيت يدخلون في الإسلام، قال تعالى :﴿ لإيلاف قريش*إيلافهم رحلة الشتاء والصيف*فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴾ [ قريش : ١-٤ ].
وقال تعالى :﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ]
بطرت معيشتها : بغت وتجبرت ولم تحفظ الله، من البطر، وهو جحود النعمة، وكفران الفضل، وفي القاموس : البطر : الأشر وقلة احتمال النعمة، أو الطغيان بها، وفعله بطر كفرح.
التفسير :
٥٨-﴿ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ﴾.
أراد القرآن أن يؤكد لأهل مكة أن سبب هلاك القرى يكمن في ظلمها وكفر النعمة، والبطر والأشر والعدوان، والقتل بدون وجه حق.
والخلاصة : أن الكفر بنعمة الله هو سبب الهلاك، وليس الإيمان بالله أو بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الآية :
كثيرا ما أهلكنا من قرى الظالمين، كعاد وثمود وقوم لوط، بسبب عتوهم وبطرهم بالنعمة وكفرهم بالرسل، وسوء استخدامهم للنعمة، فهذه بيوتهم خاوية بعد هلاكهم، لم تسكن بعد هلاك أهلها، إلا وقتا قليلا، هو وقت المستريح بها من القيلولة، أو من ظلام الليل، لأنها لا تصلح للإقامة الدائمة، لما أصابها من التصدع.
﴿ وكنا نحن الوارثين ﴾، فلما يوجد من أبناء الهالكين من يرثها، لهلاك الجميع والقضاء عليهم، أو لأنها بعد الصاعقة أو الطاغية أو التدمير لم تعد تصلح للسكنى.
قال القرطبي :
بين سبحانه لمن توهم أنه لو آمن لقاتلته العرب وتخطفته أن الخوف في ترك الإيمان أكثر، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار، والبطر : الطغيان بالنعمة. اه.
أمها : أكبرها وأعظمها، وهي أصلها وعاصمتها، وأم القرى : مكة، لأنها توسطت الأرض، أو لأنها قبلة الناس يؤمونها.
التفسير :
٥٩-﴿ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آيتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾.
الله تعالى لا يظلم الناس، ولا يهلكهم بدون وجه حق، قال تعالى :﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾ [ يونس : ٤٤ ].
ومن عدالة الله تعالى ورحمته بالعباد إرسال الرسل وإنزال الكتب، وتقديم النصيحة، ومن شأن الرسل أن تكون في القرى الرئيسية كالعاصمة للقطر، أو عاصمة الإقليم كالمحافظة، أو قرية تكون أساسا وعمادا لما حولها من القرى، مثل مكة فهي أم القرى، أي : عاصمة الجزيرة العربية.
والمعنى : ما صح ولا استقام في حكمتنا وشرعنا أن نهلك قرية من القرى، حتى نرسل رسولا في عاصمة هذه القرية للتبليغ والإرشاد، والنصح والتوجيه، وتلك مهمة الرسل، قال تعالى :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ﴾ [ النساء : ١٦٥ ].
هؤلاء الرسل يقرءون الوحي والقصص، ويدعون الناس إلى الله تعالى، بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد، وبيان منهج الله تعالى وسنته وشريعته، وأوامره ونواهيه، فمن أطاع الله كانت له سعادة الدارين، ومن عصى وطغى وبغى أهلكه الله جزاء ظلمه وبغيه.
﴿ وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾
فالله تعالى لا يهلك الناس عبثا، ولا يعاقبهم جزافا، وإنما يهلك من كذب الرسل، وجحد النبوات، وظلم وطغى وبغى، فاستحق الهلاك بعمله وبغيه، قال تعالى :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴾ [ النحل : ١١٢ ].
وقد أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم في مكة وهي أم القرى، وقد كذب أهلها، فكأن في الآية وعيدا وتهديدا لأهل مكة، والله أعلم.
تأتي هذه الآية كالرد على قول المشركين :﴿ إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا.. ﴾.
فبين الله فيما سبق أن الإيمان سبب للأمان المادي والنفسي، وأن الكفر والطغيان سبب في الهلاك والعذاب، وهنا يقول القرآن : إن كل ما يناله إنسان في هذه الدنيا من مال أو جاه أو سلطان، هو متاع قليل من متاع الدنيا محدودة الأجل.
قال تعالى :﴿ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ﴾ [ التوبة : ٣٨ ]
وقال تعالى :﴿ بل تؤثرون الحياة الدنيا* والآخرة خير وأبقى ﴾ [ الأعلى : ١٦، ١٧ ].
﴿ وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ﴾
فالدنيا فانية والآخرة باقية، ومتاع الدنيا قليل، ومتاع الآخرة دائما لا يزول، وما عند الله من ثواب وجنة ونعيم ورضوان أفضل وأبقى وأعز وأكرم، فهلا استخدمتم عقولكم لتسارعوا إلى الإيمان فتنالوا عز الدنيا وشرف الآخرة.
وقد كثر حديث القرآن عن هذا المعنى فبين أن متاع الدنيا ظل زائل وعرض حائل، وأن متاع الآخرة خلود في الجنة، ومغفرة من الله ورضوان.
قال تعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب*قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد*الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار*الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ﴾ [ آل عمران : ١-١٧ ].
ويقول الشاعر :
تالله لو عاش الفتى في دهره | ألفا من الأعوام مالك أمره. |
متنعما فيها بكل نفيسة | متلذذا فيها بنعمى حصره |
ما كان هذا كله في أن يفى*** بمبيت أول ليلة في قبره
وقال عمر بن عبد العزيز للحسن البصري : يا تقي الدين عظنا وأوجز، قال : يا أمير المؤمنين، صم عن الدنيا وأفطر على الموت، وأعدّ الزاد لليلة صبحها يوم القيامة.
لاقيه : مدرك له، ظافر به.
من المحضرين : الذين يحضرون مرغمين للعذاب، وقد اشتهر ذلك في عرف القرآن، كما قال :﴿ لكنت من المحضرين ﴾ [ الصافات : ٥٧ ]، أي : المرغمين على الحضور، لأن فيه إشعارا بالتكليف والإلزام، ولا يليق ذلك بمجالس اللذات بل أشبه بمجالس المكاره.
التفسير :
٦١-﴿ أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ﴾
تأتي هذه الآية لتقارن بين نصيب المؤمن ونصيب الكافر، فالمؤمن متيقن بالآخرة مؤمن بالله وكتبه وملائكته ورسله، مؤمن بالجزاء والثواب والعقاب، هذا المؤمن وعده الله وعدا حسنا ؛ أي : جنّة عالية وقد صدق بوعد الله فسيلقى هذا النعيم، أهذا في حصوله على النعيم الدائم، كرجل كافر متعه الله بمتاع الدنيا من المال والزواج والجاه وسائر المتع، ثم هو كافر، مطالب بالحضور والمثول أمام عدالة الله يوم القيامة، أيما أفضل ؟
وفي سبب نزول هذه الآية، قال ابن عباس : نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل بن هشام، وقال مجاهد : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبى جهل، وقال الثعلبي : نزلت في كل كافر متّع في الدنيا بالعافية والغنى وله في الآخرة النار، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا، ثقة بوعد الله وله في الآخرة الجنة. اه.
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ﴾ [ محمد : ١٥ ]
تمهيد :
تعرض الآيات بعض مشاهد القيامة، كأنك تراها رأى العين :
فالله يسأل المشركين : أين الآلهة الباطلة التي عبدتموها من دون الله ؟ فلا جواب، وكأن الرؤساء والشياطين أحسوا أنهم المقصودون، فتبرءوا إلى الله من عبادة الأتباع، وقالوا : ربنا هؤلاء الذين حق عليهم عذاب جهنم، لم نجبرهم على الكفر، إنما دعوناهم فقط، فاستجابوا بعقولهم وإرادتهم.
كان الكفار يعبدون أصناما وأوثانا، وآلهة كثيرة بدون وجه حق، فطلب منهم الاستعانة بهؤلاء الشركاء، فدعوهم فلم يجدوا منهم استجابة، وهنا شاهدوا العذاب، وتمنوا لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا.
والقرآن بهذا يعرض الآخرة ليراها الناس رأى العين، ويفيقوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.
ويوجه القرآن أسئلة معلوما جوابها، لكنها للتبكيت والتقريع، فيسأل الكافرين : بماذا أجبتم المرسلين ؟ فخفيت عليهم الحجة ولم يجدوا جوابا ولاذوا بالصمت، وهنا يعرض القرآن لوحة مشرقة للتائبين، ويوضح أن الحكم والأمر والاختيار لله تعالى أحكم الحاكمين.
التفسير :
٦٢-﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾
تعرض الآية مشهدا من مشاهد القيامة، حين ينادي الله المشركين فيقول لهم :
﴿ أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾
أين الأصنام والأوثان والآلهة الباطلة الذين عبدتموهم وزعمتم أنهم آلهة.
ومعروف أنه لا جواب ولا حجة، والسؤال هنا للتقريع والتبكيت، وفي مواقف أخرى أفاد القرآن : أن الأتباع يلقون التبعة على الزعماء والشياطين ورؤساء الضلال، وكأن هؤلاء القادة أحسوا بأن الأتباع يلقون عليهم المسؤولية، فتنصلوا منها.
تعرض الآيات بعض مشاهد القيامة، كأنك تراها رأى العين :
فالله يسأل المشركين : أين الآلهة الباطلة التي عبدتموها من دون الله ؟ فلا جواب، وكأن الرؤساء والشياطين أحسوا أنهم المقصودون، فتبرءوا إلى الله من عبادة الأتباع، وقالوا : ربنا هؤلاء الذين حق عليهم عذاب جهنم، لم نجبرهم على الكفر، إنما دعوناهم فقط، فاستجابوا بعقولهم وإرادتهم.
كان الكفار يعبدون أصناما وأوثانا، وآلهة كثيرة بدون وجه حق، فطلب منهم الاستعانة بهؤلاء الشركاء، فدعوهم فلم يجدوا منهم استجابة، وهنا شاهدوا العذاب، وتمنوا لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا.
والقرآن بهذا يعرض الآخرة ليراها الناس رأى العين، ويفيقوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.
ويوجه القرآن أسئلة معلوما جوابها، لكنها للتبكيت والتقريع، فيسأل الكافرين : بماذا أجبتم المرسلين ؟ فخفيت عليهم الحجة ولم يجدوا جوابا ولاذوا بالصمت، وهنا يعرض القرآن لوحة مشرقة للتائبين، ويوضح أن الحكم والأمر والاختيار لله تعالى أحكم الحاكمين.
المفردات :
حق عليهم القول : ثبت ووجب عليهم آيات الوعيد كقوله تعالى :﴿ ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ [ السجدة : ١٣ ]
أغوينا : أضللنا، بأن دعوناهم إلى الغي والضلال.
تبرأنا إليك : تبرأ بعضنا من بعض، فالشياطين يتبرءون ممن أطاعهم، والرؤساء يتبرءون ممن تبعهم.
التفسير :
٦٣-﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾
القول في الآية يراد به كلمة العذاب، أو المكث في جهنم، تحقيقا لعدالة الله القائل :﴿ ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ [ السجدة : ١٣ ].
أي : قال الرؤساء والشياطين ورموز الإغواء والإضلال : إن هؤلاء الأتباع اختاروا الضلال، وساروا وراءنا مختارين، وما كان لنا عليهم من سلطان، إلا أن دعوناهم فاستجابوا بإرادتهم واختيارهم، كما ضللنا نحن دعوناهم للضلال فضلوا، ونحن نتبرأ إلى الله من عبادتهم ومن ضلالهم، ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم ونزواتهم، ولو أعملوا عقولهم، وشحذوا أفكارهم، لاهتدوا في الدنيا، وما ساروا وراءنا، وهكذا يتبرأ القادة من الأتباع، ويتبرأ الأتباع من القادة، في وقت لا ينجى فيه الإنسان إلا العمل الصالح والتوبة النصوح.
قال تعالى :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب*وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ﴾ [ البقرة : ١٦٦، ١٦٧ ].
تعرض الآيات بعض مشاهد القيامة، كأنك تراها رأى العين :
فالله يسأل المشركين : أين الآلهة الباطلة التي عبدتموها من دون الله ؟ فلا جواب، وكأن الرؤساء والشياطين أحسوا أنهم المقصودون، فتبرءوا إلى الله من عبادة الأتباع، وقالوا : ربنا هؤلاء الذين حق عليهم عذاب جهنم، لم نجبرهم على الكفر، إنما دعوناهم فقط، فاستجابوا بعقولهم وإرادتهم.
كان الكفار يعبدون أصناما وأوثانا، وآلهة كثيرة بدون وجه حق، فطلب منهم الاستعانة بهؤلاء الشركاء، فدعوهم فلم يجدوا منهم استجابة، وهنا شاهدوا العذاب، وتمنوا لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا.
والقرآن بهذا يعرض الآخرة ليراها الناس رأى العين، ويفيقوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.
ويوجه القرآن أسئلة معلوما جوابها، لكنها للتبكيت والتقريع، فيسأل الكافرين : بماذا أجبتم المرسلين ؟ فخفيت عليهم الحجة ولم يجدوا جوابا ولاذوا بالصمت، وهنا يعرض القرآن لوحة مشرقة للتائبين، ويوضح أن الحكم والأمر والاختيار لله تعالى أحكم الحاكمين.
-﴿ وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ﴾.
أي : قيل لهؤلاء الكفار على سبيل التبكيت والتقريع، والفضيحة على رءوس الأشهاد :
﴿ ادعوا شركاءكم ﴾ الذين عبدتموهم من دون الله وزعمتم أنهم ينفعونكم في هذا اليوم.
﴿ فدعوهم فلم يستجيبوا لهم.. ﴾
أي : دعوهم يائسين مغلوبين على أمرهم، فلم يلتفت إليهم الشركاء لانشغالهم بأنفسهم، ولأنهم لا يملكون لهم أي نفع أو مصلحة، وشاهد الكفار العذاب بأعينهم رأى العين، فتمنوا لو أنهم كانوا قد رغبوا في الهدى واستقاموا عليه في الدنياxxiv.
قال الزمخشري :
حكى سبحانه وتعالى- أولا ما يوبخهم به، من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم، لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة، اعتذروا أن الشياطين هم الذين استفزوهم وزينوا لهم عبادتها، ثم ما يشبه الشماتة بهم، من استغاثتهم آلهتهم، وخذلانهم لهم، وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليه، بإرسال الرسل وقطع الحجة، وإبطال المعاذير.
تعرض الآيات بعض مشاهد القيامة، كأنك تراها رأى العين :
فالله يسأل المشركين : أين الآلهة الباطلة التي عبدتموها من دون الله ؟ فلا جواب، وكأن الرؤساء والشياطين أحسوا أنهم المقصودون، فتبرءوا إلى الله من عبادة الأتباع، وقالوا : ربنا هؤلاء الذين حق عليهم عذاب جهنم، لم نجبرهم على الكفر، إنما دعوناهم فقط، فاستجابوا بعقولهم وإرادتهم.
كان الكفار يعبدون أصناما وأوثانا، وآلهة كثيرة بدون وجه حق، فطلب منهم الاستعانة بهؤلاء الشركاء، فدعوهم فلم يجدوا منهم استجابة، وهنا شاهدوا العذاب، وتمنوا لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا.
والقرآن بهذا يعرض الآخرة ليراها الناس رأى العين، ويفيقوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.
ويوجه القرآن أسئلة معلوما جوابها، لكنها للتبكيت والتقريع، فيسأل الكافرين : بماذا أجبتم المرسلين ؟ فخفيت عليهم الحجة ولم يجدوا جوابا ولاذوا بالصمت، وهنا يعرض القرآن لوحة مشرقة للتائبين، ويوضح أن الحكم والأمر والاختيار لله تعالى أحكم الحاكمين.
-﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾
إنها مواقف محيرة، فقد سئلوا في السابق سؤال تقريع وتوبيخ على اتخاذهم شركاء لله. وهنا يسألون أيضا سؤال تقريع وتوبيخ على رفضهم الاستجابة لرسل الله، وعدم استماعهم أدلة الهدى، وآيات الإيمان، ولفت الأنظار إلى هذا الكون وما فيه من أدلة القدرة الإلهية، وقصص الأولين، وأخبار البعث والمعاد، لقد صموا آذانهم في الدنيا عن سماع صوت الرسل، وأغمضوا عيونهم عن رؤية الحق، وهنا في يوم القيامة يوجه إليهم السؤال التالي : بماذا أجبتم المرسلين الذين بعثهم الله لإرشادكم، ودعوتكم للإيمان والتوحيد ؟
تعرض الآيات بعض مشاهد القيامة، كأنك تراها رأى العين :
فالله يسأل المشركين : أين الآلهة الباطلة التي عبدتموها من دون الله ؟ فلا جواب، وكأن الرؤساء والشياطين أحسوا أنهم المقصودون، فتبرءوا إلى الله من عبادة الأتباع، وقالوا : ربنا هؤلاء الذين حق عليهم عذاب جهنم، لم نجبرهم على الكفر، إنما دعوناهم فقط، فاستجابوا بعقولهم وإرادتهم.
كان الكفار يعبدون أصناما وأوثانا، وآلهة كثيرة بدون وجه حق، فطلب منهم الاستعانة بهؤلاء الشركاء، فدعوهم فلم يجدوا منهم استجابة، وهنا شاهدوا العذاب، وتمنوا لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا.
والقرآن بهذا يعرض الآخرة ليراها الناس رأى العين، ويفيقوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.
ويوجه القرآن أسئلة معلوما جوابها، لكنها للتبكيت والتقريع، فيسأل الكافرين : بماذا أجبتم المرسلين ؟ فخفيت عليهم الحجة ولم يجدوا جوابا ولاذوا بالصمت، وهنا يعرض القرآن لوحة مشرقة للتائبين، ويوضح أن الحكم والأمر والاختيار لله تعالى أحكم الحاكمين.
المفردات :
فعميت عليهم الأنباء : خفيت عليهم الحجج، خفاء المرئي على الأعمى.
لا يتساءلون : لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج.
التفسير :
٦٦-﴿ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ﴾
خفيت عليهم الحجج، وغابت عنهم الأدلة، فلاذوا بالصمت والإبلاس.
قال الزمخشري :
لا يسأل بعضهم بعضا، كما يتساءل الناس في المشكلات، لأنهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم، والعجز عن الجواب. اه.
وجاء في ظلال القرآن :
والتعبير يلقي ظل العمى على المشهد والحركة، وكأنما الأنباء عمياء لا تصل إليهم، وهم لا يعلمون شيئا عن أي شيء ! ولا يملكون سؤالا ولا جوابا، وهم في ذهولهم صامتون ساكتون. اه.
تعرض الآيات بعض مشاهد القيامة، كأنك تراها رأى العين :
فالله يسأل المشركين : أين الآلهة الباطلة التي عبدتموها من دون الله ؟ فلا جواب، وكأن الرؤساء والشياطين أحسوا أنهم المقصودون، فتبرءوا إلى الله من عبادة الأتباع، وقالوا : ربنا هؤلاء الذين حق عليهم عذاب جهنم، لم نجبرهم على الكفر، إنما دعوناهم فقط، فاستجابوا بعقولهم وإرادتهم.
كان الكفار يعبدون أصناما وأوثانا، وآلهة كثيرة بدون وجه حق، فطلب منهم الاستعانة بهؤلاء الشركاء، فدعوهم فلم يجدوا منهم استجابة، وهنا شاهدوا العذاب، وتمنوا لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا.
والقرآن بهذا يعرض الآخرة ليراها الناس رأى العين، ويفيقوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.
ويوجه القرآن أسئلة معلوما جوابها، لكنها للتبكيت والتقريع، فيسأل الكافرين : بماذا أجبتم المرسلين ؟ فخفيت عليهم الحجة ولم يجدوا جوابا ولاذوا بالصمت، وهنا يعرض القرآن لوحة مشرقة للتائبين، ويوضح أن الحكم والأمر والاختيار لله تعالى أحكم الحاكمين.
٦٧-﴿ فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ﴾
في مقابل الصفحة القاتمة لموقف المشركين وتبكيتهم وتقريعهم، وتبرؤ الزعماء والقادة منهم، وعدم استجابة الشركاء لهم، وغياب الحجة عن عيونهم، توجد صفحة أخرى مشرقة ناصعة للتائبين وكأنها دعوة مفتوحة للناس أجمعين.
والمعنى :
فأما من تاب عن الشرك بالله أو عن المعصية، وآمن بالله تعالى، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح، فهو جدير بالفلاح في الدنيا، والنجاة من العذاب يوم القيامة، قال تعالى :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ].
﴿ فعسى ﴾ هنا للتحقيق على عادة القرآن.
قال ابن كثير :﴿ فعسى أن يكون من المفلحين ﴾ يوم القيامة و[ عسى ] من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة. اه.
وقيل :[ فعسى ] للترجي من قبل التائب المذكور، بمعنى فيتوقع أن يفلح ويفوز.
تعرض الآيات بعض مشاهد القيامة، كأنك تراها رأى العين :
فالله يسأل المشركين : أين الآلهة الباطلة التي عبدتموها من دون الله ؟ فلا جواب، وكأن الرؤساء والشياطين أحسوا أنهم المقصودون، فتبرءوا إلى الله من عبادة الأتباع، وقالوا : ربنا هؤلاء الذين حق عليهم عذاب جهنم، لم نجبرهم على الكفر، إنما دعوناهم فقط، فاستجابوا بعقولهم وإرادتهم.
كان الكفار يعبدون أصناما وأوثانا، وآلهة كثيرة بدون وجه حق، فطلب منهم الاستعانة بهؤلاء الشركاء، فدعوهم فلم يجدوا منهم استجابة، وهنا شاهدوا العذاب، وتمنوا لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا.
والقرآن بهذا يعرض الآخرة ليراها الناس رأى العين، ويفيقوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.
ويوجه القرآن أسئلة معلوما جوابها، لكنها للتبكيت والتقريع، فيسأل الكافرين : بماذا أجبتم المرسلين ؟ فخفيت عليهم الحجة ولم يجدوا جوابا ولاذوا بالصمت، وهنا يعرض القرآن لوحة مشرقة للتائبين، ويوضح أن الحكم والأمر والاختيار لله تعالى أحكم الحاكمين.
المفردات :
الخيرة : الاختيار.
التفسير :
٦٨-﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ﴾.
اختار المشركون آلهة باطلة، وتمنوا أن يكون الرسول أحد زعماء مكة أو الطائف، ﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] يقصدون الوليد بن المغيرة بمكة، أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف، فأنزل الله هذه الآيات توضح أن الخلق بيده، والاختيار بيده، واختيار الرسل للبشر، أو اختيار الملائكة للنزول بالوحي أمر بمشيئة الله تعالى، واختياره وحكمته، على مقتضى علمه باستعداد عباده لذلك، فليس من حق العباد ولا في مقدورهم أن يختاروا على الله ما يشاءون من أديان باطلة وآلهة زائفة.
﴿ سبحان الله وتعالى عما يشركون ﴾
أي : تنزه الله تعالى بذاته تنزها خاصا به، من أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره، وتقدس وتمجد عن إشراكهم.
قال الزمخشري : إن الاختيار إلى الله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه، ولا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم. اه.
وفي معنى الآية قوله تعالى :﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.. ﴾ [ الأحزاب : ٣٦ ].
قال الشاعر :
العبد ذو ضجر والربّ ذو قدر والدهر ذو دول والرزق مقسومُ
والخير أجمع فيما اختار خالقنا وفي اختيار سواه اللّوم والشّوم
وروت عائشة، عن أبي بكر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال :( اللهم خر لي واختر لي )xxv.
وروى أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يا أنس، إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى ما يسبق إليه قلبك، فإن الخير فيه )xxvi.
فالله تعالى هو وحده العليم، وهو سبحانه عالم الغيب، والمؤمن يصلي الاستخارة ويدعو بدعائها، الذي ورد في صحيحي البخاري ومسلم.
عن جابر بن عبد الله قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول :( إذا هم أحدكم بالأمر لا يدري عاقبته فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر [ ويسمي حاجته ] خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري عاجله وآجله، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري عاجله وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به )xxvii.
قال العلماء : وينبغي له أن يفرغ قلبه من جميع الخواطر، ومن رغبة له في الموضوع قبل الاستخارة أو رغبة عنه، حتى لا يكون مائلا إلى أمر من الأمور، فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه فإن الخير فيه إن شاء الله، فإن وجد انشراحا وشرورا وارتياحا فالأمر خير، وإن وجد انقباضا وضيقا فالأمر شر.
تعرض الآيات بعض مشاهد القيامة، كأنك تراها رأى العين :
فالله يسأل المشركين : أين الآلهة الباطلة التي عبدتموها من دون الله ؟ فلا جواب، وكأن الرؤساء والشياطين أحسوا أنهم المقصودون، فتبرءوا إلى الله من عبادة الأتباع، وقالوا : ربنا هؤلاء الذين حق عليهم عذاب جهنم، لم نجبرهم على الكفر، إنما دعوناهم فقط، فاستجابوا بعقولهم وإرادتهم.
كان الكفار يعبدون أصناما وأوثانا، وآلهة كثيرة بدون وجه حق، فطلب منهم الاستعانة بهؤلاء الشركاء، فدعوهم فلم يجدوا منهم استجابة، وهنا شاهدوا العذاب، وتمنوا لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا.
والقرآن بهذا يعرض الآخرة ليراها الناس رأى العين، ويفيقوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.
ويوجه القرآن أسئلة معلوما جوابها، لكنها للتبكيت والتقريع، فيسأل الكافرين : بماذا أجبتم المرسلين ؟ فخفيت عليهم الحجة ولم يجدوا جوابا ولاذوا بالصمت، وهنا يعرض القرآن لوحة مشرقة للتائبين، ويوضح أن الحكم والأمر والاختيار لله تعالى أحكم الحاكمين.
المفردات :
ما تكن صدورهم : ما يخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة، وعداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
وما يعلنون : ما يظهرونه من الأفعال الخبيثة، والطعن في الإسلام.
التفسير :
٦٩-﴿ وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ﴾
هو سبحانه العليم علما مطلقا بسرائر النفوس، وما يخفيه المشركون في صدورهم، حين قالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] وهو عالم بما يعلنونه، ومطلع على كل أمر سواء منه الخفي والعلن، والسر والجهر، والباطن والظاهر، وهو علام الغيوب.
تعرض الآيات بعض مشاهد القيامة، كأنك تراها رأى العين :
فالله يسأل المشركين : أين الآلهة الباطلة التي عبدتموها من دون الله ؟ فلا جواب، وكأن الرؤساء والشياطين أحسوا أنهم المقصودون، فتبرءوا إلى الله من عبادة الأتباع، وقالوا : ربنا هؤلاء الذين حق عليهم عذاب جهنم، لم نجبرهم على الكفر، إنما دعوناهم فقط، فاستجابوا بعقولهم وإرادتهم.
كان الكفار يعبدون أصناما وأوثانا، وآلهة كثيرة بدون وجه حق، فطلب منهم الاستعانة بهؤلاء الشركاء، فدعوهم فلم يجدوا منهم استجابة، وهنا شاهدوا العذاب، وتمنوا لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا.
والقرآن بهذا يعرض الآخرة ليراها الناس رأى العين، ويفيقوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.
ويوجه القرآن أسئلة معلوما جوابها، لكنها للتبكيت والتقريع، فيسأل الكافرين : بماذا أجبتم المرسلين ؟ فخفيت عليهم الحجة ولم يجدوا جوابا ولاذوا بالصمت، وهنا يعرض القرآن لوحة مشرقة للتائبين، ويوضح أن الحكم والأمر والاختيار لله تعالى أحكم الحاكمين.
المفردات :
له الحكم : لله وحده القضاء النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغيره.
التفسير :
٧٠-﴿ وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ﴾
﴿ وهو الله لا إله إلا هو.. ﴾
هو سبحانه المتفرد بالألوهية، فلا معبود سواه، كما أنه لا رب يخلق ما يشاء ويختار غيره، فهو العليم بكل شيء، القادر على كل شيء.
﴿ له الحمد في الأولى والآخرة.. ﴾
له كل الحمد والشكر، فهو الخالق الرازق المتفضل على عباده، وهو سبحانه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها، على الخلق كافة، يحمده المؤمنون في الدنيا على إنعامه وهدايته، وفي الآخرة على عدله ومثوبته.
﴿ وله الحكم وإليه ترجعون ﴾
له القضاء النافذ في كل شيء، فلا معقب لحكمه، وهو القاهر فوق عباده، الرحيم اللطيف الخبير، وإليه ترجع جميع الخلائق يوم القيامة، فيجزى كل عامل بعمله من خير أو شر، ولا تخفى عليه منهم خافية في الأرض ولا في السماء.
وفيه نهاية الزجر والردع للعصاة، ونهاية تقوية القلب للمطيعين، فهو سبحانه الحاكم العادل، يجازي المحسنين على طاعتهم، ويعاقب العصاة على عصيانهم.
المفردات :
قل أرأيتم : أخبروني.
سرمدا : دائما متصلا مؤبدا متتابعا.
تمهيد :
سورة القصص تبين من أولها عظمة القدرة الإلهية، وتؤكد أن الله فعال لما يريد، حيث رعى طفلا رضيعا، جعل على يديه هلاك ملك قوي مستبد.
وتذكر مشاهد القيامة، وحيرة المشركين وضياع حجتهم، وذكرت في الآيات السابقة وحدانية الله تعالى، وانفراده بالخلق والاختيار، واستحقاقه وحده الحمد والشكر في الدنيا والآخرة، وتفرده بالحكم والفصل بين العباد، وإليه المرجع والمصير.
وتواصل الآيات ٧١- ٧٥ من سورة القصص بيان القدرة الإلهية، بأمثلة محسوسة حيث جعل الله الليل والنهار متتابعين، يعقب أحدهما الآخر، ولو استمر الليل سرمدا دائما لتعطلت مصالح الناس، وتعطنت أجسامهم، ولو استمر النهار دائما لتلفت أعصاب الناس، وقلّت راحتهم، ومن رحمة الله أنه جعل الليل لباسا، والنهار معاشا، ثم عرض مشهدا من مشاهد القيامة، لتكرير العظة والذكرى.
التفسير :
٧١—﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ﴾
أبدع الله نظام هذا الكون، رفع السماء وبسط الأرض، وأرسى الجبال، وأظلم الليل وأضاء النهار، وسخر الشمس والقمر، ولو خلق الله الأرض بحيث يكون ليلها دائما، أو بحيث يكون نهارها دائما كذلك، فليس هناك إله غير الله يستطيع أن ينعم عليهم بالليل والنهار المتعاقبين، والناس لطول الإلف والعادة قد ألفوا تتابع الليل والنهار، وظهور الشمس والقمر، وهنا يذكرهم الله بهذه النعمة، فيقول : أخبروني إن جعل الله عليكم الليل دائما متتابعا إلى يوم القيامة، فتعطلت مصالحكم، وطال شوقكم للضياء والشمس والحركة والسعي، من إله غير الله يقدر أن يقدّم لكم الضياء، أفلا تسمعون، سماع تدبر وتأمل أن الله وحده هو الذي يرسل النهار، ويحفظ نظام الكون، ويسخر الشمس والقمر، ويجعل تتابع الليل والنهار من أسباب سعادة الناس، واستمرار حركتهم، وقضاء مصالحهم، والاستمتاع بالراحة أيضا.
سورة القصص تبين من أولها عظمة القدرة الإلهية، وتؤكد أن الله فعال لما يريد، حيث رعى طفلا رضيعا، جعل على يديه هلاك ملك قوي مستبد.
وتذكر مشاهد القيامة، وحيرة المشركين وضياع حجتهم، وذكرت في الآيات السابقة وحدانية الله تعالى، وانفراده بالخلق والاختيار، واستحقاقه وحده الحمد والشكر في الدنيا والآخرة، وتفرده بالحكم والفصل بين العباد، وإليه المرجع والمصير.
وتواصل الآيات ٧١- ٧٥ من سورة القصص بيان القدرة الإلهية، بأمثلة محسوسة حيث جعل الله الليل والنهار متتابعين، يعقب أحدهما الآخر، ولو استمر الليل سرمدا دائما لتعطلت مصالح الناس، وتعطنت أجسامهم، ولو استمر النهار دائما لتلفت أعصاب الناس، وقلّت راحتهم، ومن رحمة الله أنه جعل الليل لباسا، والنهار معاشا، ثم عرض مشهدا من مشاهد القيامة، لتكرير العظة والذكرى.
المفردات :
تسكنون فيه : تهدأون فيه وتستريحون.
التفسير :
٧٢-﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ﴾.
ثم تلمس السورة القلوب والأفئدة، والعقول والخيال، فلو تخيل الإنسان أن الحياة نهار دائم مستمر، لا ليل فيه ولا ظلام، ولا سكن ولا هدوء، حينئذ تتأثر أعصاب الناس من كثرة الضوء والعمل، ومن قلة الهدوء والظلام، وفي ليالي الشتاء الطويلة يشتاق الناس إلى طلوع الفجر، ثم طلوع الشمس ثم الحركة والسعي، وكذلك في نهار الصيف القائظ يضيق الناس بالهجير والحرارة والضوء، ويشتاقون إلى نسيم الليل وهدوئه وراحته، مع أن الليل محدود في الشتاء، والنهار محدود في الصيف، لكن إذا طال الليل قليلا زاد الحنين إلى النهار، وإذا طال النهار قليلا اشتد الحنين إلى الليل.
والمعنى :
أخبروني إن جعل الله عليكم النهار سرمدا مستمرا دائما أبدا إلى يوم القيامة، هل يوجد صنم أو وثن أو إله آخر غير الله يستطيع أن يأتيكم بليل يكون لكم سكنا وراحة، ونوما وهدوءا، أفلا تنظرون بعيونكم، وتتأملون ضياء النهار، وانسحاب الظلام، كما قال سبحانه :﴿ والليل إذا أدبر* والصبح إذا أسفر* إنها لإحدى الكبر ﴾ [ المدثر : ٣٣-٣٥ ].
ونلاحظ ما يأتي :
عندما تحدث الله عن استمرار الليل قال :﴿ أفلا تسمعون ﴾ لأن الإنسان إذا كان في الظلام يعتمد على حاسة السمع، وهي حاسة لا تنام، وقد وردت في القرآن قبل البصر لأنها وسيلة الفكر والتعلم.
وعندما تحدث القرآن عن استمرار النهار قال :﴿ آفلا تبصرون ﴾ لأن الإنسان في النهار يستخدم البصر في رؤية ما حوله.
وقال الآلوسي :
﴿ أفلا تبصرون ﴾ الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة، لتقفوا على أن غير الله لا قدرة له على ذلك، فإذا أقررتم بأنه لا يقدر على الإتيان بالليل والنهار غير الله، فلم تشركون ؟ اه.
ونلاحظ أنه لم يجتمع السمع والبصر في كتاب الله إلا وقدم السمع على البصر.
قال تعالى :﴿ وهو الذي أنشأكم لكم السمع والأبصار والأفئدة.. ﴾ [ المؤمنون : ٧٨ ].
وقال تعالى :﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ].
وقد ذكر العلماء والمحدثون أن السمع أول حاسة تؤدي وظيفتها في الدنيا، وهو أداة الاستدعاء في الآخرة، ولأن الأذن لا تنام، فالسمع أسبق وأنفع وأدومxxviii.
سورة القصص تبين من أولها عظمة القدرة الإلهية، وتؤكد أن الله فعال لما يريد، حيث رعى طفلا رضيعا، جعل على يديه هلاك ملك قوي مستبد.
وتذكر مشاهد القيامة، وحيرة المشركين وضياع حجتهم، وذكرت في الآيات السابقة وحدانية الله تعالى، وانفراده بالخلق والاختيار، واستحقاقه وحده الحمد والشكر في الدنيا والآخرة، وتفرده بالحكم والفصل بين العباد، وإليه المرجع والمصير.
وتواصل الآيات ٧١- ٧٥ من سورة القصص بيان القدرة الإلهية، بأمثلة محسوسة حيث جعل الله الليل والنهار متتابعين، يعقب أحدهما الآخر، ولو استمر الليل سرمدا دائما لتعطلت مصالح الناس، وتعطنت أجسامهم، ولو استمر النهار دائما لتلفت أعصاب الناس، وقلّت راحتهم، ومن رحمة الله أنه جعل الليل لباسا، والنهار معاشا، ثم عرض مشهدا من مشاهد القيامة، لتكرير العظة والذكرى.
٧٣-﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾.
إن كل شيء في الكون يسير وفق ناموس ونظام وحكمة عليا، تعلم مصالح الناس، وتيسر لهم أسباب راحتهم وسعادتهم.
ومن رحمة الله وفضله أن جعل الليل ظلاما لينام الناس، ويجددوا نشاطهم، ويستقروا ويسكنوا، وتهدأ أبدانهم ونفوسهم وأرواحهم، ثم يعقب ذلك النهار لينشط الناس، ويتحركوا إلى أعمالهم وأرزاقهم، وسعيهم ونشاطهم، وبذلك يجمع الناس بين العمل والراحة، والسعي والنشاط ثم الهدوء والاستقرار.
﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ الله تعالى الذي تابع بين الليل والنهار، وجعل أحدهما يأتي وراء الآخر، فمن فاته عمل بالليل تداركه بالنهار، ومن فاتته صلاة أو عبادة بالنهار تدارك التقصير بالليل.
قال تعالى :﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أرادة أن يذكر أو أراد شكورا ﴾ [ الفرقان : ٦٢ ]
سورة القصص تبين من أولها عظمة القدرة الإلهية، وتؤكد أن الله فعال لما يريد، حيث رعى طفلا رضيعا، جعل على يديه هلاك ملك قوي مستبد.
وتذكر مشاهد القيامة، وحيرة المشركين وضياع حجتهم، وذكرت في الآيات السابقة وحدانية الله تعالى، وانفراده بالخلق والاختيار، واستحقاقه وحده الحمد والشكر في الدنيا والآخرة، وتفرده بالحكم والفصل بين العباد، وإليه المرجع والمصير.
وتواصل الآيات ٧١- ٧٥ من سورة القصص بيان القدرة الإلهية، بأمثلة محسوسة حيث جعل الله الليل والنهار متتابعين، يعقب أحدهما الآخر، ولو استمر الليل سرمدا دائما لتعطلت مصالح الناس، وتعطنت أجسامهم، ولو استمر النهار دائما لتلفت أعصاب الناس، وقلّت راحتهم، ومن رحمة الله أنه جعل الليل لباسا، والنهار معاشا، ثم عرض مشهدا من مشاهد القيامة، لتكرير العظة والذكرى.
٧٤-﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾
هذا توبيخ وزيادة خزي لهؤلاء المشركين، حيث يناديهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد، فيسألهم أين الشركاء، أين الأصنام، أين الأوثان، أين الآلهة التي زعمتم أن لها تصرفا وسلطانا ؟
قال القرطبي :
ينادي الله المشركين مرة فيقول لهم : أين شركائي الذين كنتم تزعمون.
فيدعون الأصنام فلا تستجيب، فتظهر حيرتهم وخزيهم، ثم ينادون مرة أخرى على رءوس الأشهاد فيسكتون، وهو توبيخ وزيادة خزي.
سورة القصص تبين من أولها عظمة القدرة الإلهية، وتؤكد أن الله فعال لما يريد، حيث رعى طفلا رضيعا، جعل على يديه هلاك ملك قوي مستبد.
وتذكر مشاهد القيامة، وحيرة المشركين وضياع حجتهم، وذكرت في الآيات السابقة وحدانية الله تعالى، وانفراده بالخلق والاختيار، واستحقاقه وحده الحمد والشكر في الدنيا والآخرة، وتفرده بالحكم والفصل بين العباد، وإليه المرجع والمصير.
وتواصل الآيات ٧١- ٧٥ من سورة القصص بيان القدرة الإلهية، بأمثلة محسوسة حيث جعل الله الليل والنهار متتابعين، يعقب أحدهما الآخر، ولو استمر الليل سرمدا دائما لتعطلت مصالح الناس، وتعطنت أجسامهم، ولو استمر النهار دائما لتلفت أعصاب الناس، وقلّت راحتهم، ومن رحمة الله أنه جعل الليل لباسا، والنهار معاشا، ثم عرض مشهدا من مشاهد القيامة، لتكرير العظة والذكرى.
المفردات :
نزعنا : أخرجنا بشدة وقلعنا وانتزعنا.
شهيدا : شاهدا.
برهانكم : حجتكم ودليلكم.
ضل عنهم : ذهب وغاب عنهم غيبة الضال، أي : الضائع.
ما كانوا يفترون : ما كانوا يختلقونه في الدنيا من الباطل والكذب على الله تعالى، من أنّ معه آلهة تعبد.
٧٥-﴿ ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾
انتزعنا وأخرجنا من كل أمة شهيدا يشهد عليها، بما فعلت مع الرسل الذين أرسلهم الله إليها، وقال الله تعالى للكفار والمشركين : هاتوا أدلتكم وبرهانكم على أن هناك آلهة أخرى مع الله تعالى، فضاع منهم الدليل، وغابت عنهم الحجة، وعلموا أن الحق لله وحده في العبادة والألوهية والوحدانية.
﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾
ضاع منهم وتاه، ولم يجدوا له أصلا، كما يضيع الشيء من الإنسان، فلا يجد له أثرا، أي : ضاع منهم الافتراء على الله تعالى، بأن له شريكا من الأصنام أو الأوثان أو الآلهة المدعاة.
إنها مواقف التبكيت واللوم والإزعاج، فقد عجزوا عن إحضار شركاء لله، ثم شهدت عليهم الرسل، بأن الرسل بلغوا رسالة الله إليهم فقابلوها بالرفض والجحود والنكران، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ [ النساء : ٤١ ].
والخلاصة ما يأتي :
١-مواقف الآخرة متعددة.
٢- تتكرر مناداة الآلهة المزعومة من أصنام وأوثان وغيرها أمام الله تعالى، ليظهر للناس عجزها، وليشتد توبيخ ولوم عابديها، ولتظهر حسرتهم وألمهم.
٣- يشهد كل رسول على أمته أنه بلغها رسالة ربها فكذبت، ويطلب من المكذبين تقديم الدليل على جحودهم، وتقديم البرهان على أنهم كانوا على حق حين كذبوا الرسل وكفروا بالله فلا يستطيعون، عندئذ يدركون إدراكا جازما أن الرسل كانوا على حق فيما جاءوا به، وأن الله وحده هو الإله الحق.
٤- قال ابن كثير :
﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ ذهبت معبوداتهم فلم ينفعوهم.
﴿ إن قارون كان من قومي موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين( ٧٦ ) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين( ٧٧ ) قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون( ٧٨ ) ﴾.
المفردات :
فبغى عليهم : ظلمهم أو تكبر عليهم.
الكنوز : الأموال المدخرة المحبوسة، من كنزه بمعنى : ادخره، وحبسه عن الناس، ومنه قوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ التوبة : ٣٤ ].
مفاتحه : جمع مفتح " بكسر الميم " وهو المفتاح الذي تفتح به الأغلاق.
لتنوء بالعصبة : العصبة، الجماعة يتعصب بعضها لبعض ويشد أزره، ومعنى ﴿ لتنوء بالعصبة ﴾ : تثقلها، يقال : ناء به الحمل، أي : ثقل عليه.
لا تفرح : لا تفرح بدنياك فرحا يذهلك عن أخراك.
الفرحين : الفرحين والفارحين سواء، والفرح صيغة مبالغة تفيد زيادة الفرح.
تمهيد :
تفيد سورة القصص فضل الله على عباده، وكمال قدرته وجبروته، فهو سبحانه مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وقد ظهرت آثار القدرة في تجريد فرعون من ملكه، وغرقه في اليمّ مع جيشه.
وفي ختام السورة نجد لوحة هادفة، تبين قصة قارون فتذكر غناه وظلمه وتباهيه بالمال، وعدم تواضعه، وعدم شكره لله، ثم خسف الله به وبداره الأرض، والقصة فيها عظة وعبرة، فالمال مال الله وهو نعمة تستحق الشكر، وتستحق إخراج الزكاة وإعطاء الفقراء حقهم، ومن منع الزكاة فإنه يعذب أشد العذاب يوم القيامة، وقد وضع القرآن الكريم والسنة المطهرة منهجا سليما للسلوك المالي المطلوب فيما يأتي :
١- الإسلام احترام الملكية الفردية.
٢- وقد جعل الإسلام الغني موظفا في ماله، فالمال مال الله، والغني يستثمره ويخرج حق الله فيه، بالزكاة والصدقة وصلة الرحم والتكافل الاجتماعي.
٣- شجع القرآن تقارب الطبقات، وحث على عتق الرقبة والوفاء بالنذر، وجعل هناك كفارة مالية لكثير من الأفعال، مثل : كفارة الظهار، واليمين، والفطر في رمضان، والفدية في الحج، والتقرب إلى الله تعالى.
التفسير :
٧٦-﴿ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة.. ﴾
أفادت كتب التفسير أن قارون كان قريبا لموسى، فذكرت روايات أنه كان ابن عمه، وقيل : كان عمه، وقيل : ابن خالته.
وذكر المفسرون أن قارون كان جميل الصورة، واسع الثراء، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة، حسن الصوت، فدخله النفاق كما دخل على السامري.
وقيل : إنه حسد موسى وهارون، حيث قال : موسى يبلغ الرسالة، وهارون يشرح التوراة، وقارون ليس له في الرسالة أدنى نصيب.
والقرآن ليس في حاجة إلى هذه الروايات التي تفتقر إلى قوة السند وصحته، وحسبنا كتاب الله الذي يفيد أن قارون كان من قوم موسى، فهو من بني إسرائيل، ولم يذكر زمن الحادثة، ولم يبين هل كانت أيام إقامة موسى في مصر قبل خروجه مع بني إسرائيل، أم كانت أثناء التيه، أم كانت بعد موسى عليه السلام.
وتفيد روايات أن قارون ساهم في إيذاء موسى، حيث وعد موسى بإخراج الزكاة، وذهب ليخرجها فوجدها مقدارا عظيما جدا، فاحتال على منع الزكاة، واتفق مع امرأة بغى، أن تقول : إن موسى زنى بيّ، وهذا الولد منه، فأنطق الله الوليد، وقال : أنا ابن الراعي.
ونحن نقول : حسبنا كتاب الله في تقديم العظة والعبرة، والقرآن غني عما سواه، ونحن نريد أن نعرف ماذا قال القرآن الكريم، فلنتأمل في معنى الآية الكريمة.
إن قارون كان من بني إسرائيل قوم موسى، فبغى عليهم حيث ظلمهم وتكبر عليهم، أو منع إخراج الزكاة والمعونة للمستحقين، وقد أعطيناه من الأموال التي كنزها وحبسها عن المساهمة في إسعاد الناس والتيسير عليهم، مع كثرة هذه الأموال، حتى إن مفاتيح هذه الخزائن أو الخزائن نفسها، يعجز عن حملها عصبة قوية من الرجال الأشداء، ما بين العشرة والأربعين، وقد أظهر قارون الفرح والتفاخر بكنوزه، إذ قال له أتقياء قومه : لا تفرح البطر والكفران، إن الله لا يحب الفرحين البطرين، الذين يكفرون ولا يشكرون، ويتباهون بالمال ويسخرونه لأهوائهم، ويمنعون نصيب الله منه.
تفيد سورة القصص فضل الله على عباده، وكمال قدرته وجبروته، فهو سبحانه مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وقد ظهرت آثار القدرة في تجريد فرعون من ملكه، وغرقه في اليمّ مع جيشه.
وفي ختام السورة نجد لوحة هادفة، تبين قصة قارون فتذكر غناه وظلمه وتباهيه بالمال، وعدم تواضعه، وعدم شكره لله، ثم خسف الله به وبداره الأرض، والقصة فيها عظة وعبرة، فالمال مال الله وهو نعمة تستحق الشكر، وتستحق إخراج الزكاة وإعطاء الفقراء حقهم، ومن منع الزكاة فإنه يعذب أشد العذاب يوم القيامة، وقد وضع القرآن الكريم والسنة المطهرة منهجا سليما للسلوك المالي المطلوب فيما يأتي :
١- الإسلام احترام الملكية الفردية.
٢- وقد جعل الإسلام الغني موظفا في ماله، فالمال مال الله، والغني يستثمره ويخرج حق الله فيه، بالزكاة والصدقة وصلة الرحم والتكافل الاجتماعي.
٣- شجع القرآن تقارب الطبقات، وحث على عتق الرقبة والوفاء بالنذر، وجعل هناك كفارة مالية لكثير من الأفعال، مثل : كفارة الظهار، واليمين، والفطر في رمضان، والفدية في الحج، والتقرب إلى الله تعالى.
المفردات :
وابتغ : واطلب.
ولا تبغ الفساد : ولا تطلبه.
التفسير :
٧٧-﴿ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ﴾.
يريد الإسلام إنسانا متوازنا، يقصد بعمله وجه الله، فالمال مال الله، والإنسان مستخلف عن الله في إدارته، قال تعالى :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه.. ﴾ [ الحديد : ٧ ].
وقد حرر الإسلام الإنسان من عبادة المال والهوى، والجاه والسلطان، وطلب منه أن يقصد بعمله وجه الله، ويعلم أن متاع الدنيا قليل وأن الآخرة خير وأبقى، ولقد وجه الأتقياء النصيحة إلى قارون قائلين : قدم من المال رصيدا لك في الآخرة، بإخراج الزكاة والصدقة والمساعدة، واقصد بعملك وجه الله، ولك أن تستمتع بمالك بالطرق التي أحلها الله، في المأكل والملبس والمسكن والمتعة الحلال، وكما أحسن الله إليك بالمال، فأحسن إلى الفقراء وعليك بالشكر، وشكر النعمة استخدامها فيما خلقها الله له، أي : قابل الإحسان من الله، بالإحسان إلى عباده، وبالشكر لله والتواضع والرأفة والرحمة بالآخرين، ولا تستغل كنوزك في الفساد والتعالي، وارتكاب الموبقات والشرور، ﴿ إن الله لا يحب المفسدين ﴾ بل يبغضهم وينتقم منهم.
تفيد سورة القصص فضل الله على عباده، وكمال قدرته وجبروته، فهو سبحانه مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وقد ظهرت آثار القدرة في تجريد فرعون من ملكه، وغرقه في اليمّ مع جيشه.
وفي ختام السورة نجد لوحة هادفة، تبين قصة قارون فتذكر غناه وظلمه وتباهيه بالمال، وعدم تواضعه، وعدم شكره لله، ثم خسف الله به وبداره الأرض، والقصة فيها عظة وعبرة، فالمال مال الله وهو نعمة تستحق الشكر، وتستحق إخراج الزكاة وإعطاء الفقراء حقهم، ومن منع الزكاة فإنه يعذب أشد العذاب يوم القيامة، وقد وضع القرآن الكريم والسنة المطهرة منهجا سليما للسلوك المالي المطلوب فيما يأتي :
١- الإسلام احترام الملكية الفردية.
٢- وقد جعل الإسلام الغني موظفا في ماله، فالمال مال الله، والغني يستثمره ويخرج حق الله فيه، بالزكاة والصدقة وصلة الرحم والتكافل الاجتماعي.
٣- شجع القرآن تقارب الطبقات، وحث على عتق الرقبة والوفاء بالنذر، وجعل هناك كفارة مالية لكثير من الأفعال، مثل : كفارة الظهار، واليمين، والفطر في رمضان، والفدية في الحج، والتقرب إلى الله تعالى.
المفردات :
أوتيته : أعطيته.
القرون : جمع قرن، وأصح ما قيل فيه : إنه مائة سنة، ويطلق على أمة هلكت فلم يبق منها أحد، ويطلق على أهل زمان واحد، ومنه قول الشاعر :
إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم | وخلفت في قرن فأنت غريب |
التفسير :
٧٨-﴿ قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾.
أي : قال قارون لمن وجه إليه النصيحة : إنما أوتيت هذا المال لمعرفتي بطرق كسب المال واستثماره، ومهارتي في ذلك واجتهادي، أو لأني أثير عند الله حبيب إليه، فقد كان قارون أكثر الناس نصيبا من التوراة، وأحسنهم صوتا، وكان يلقب بالمنور، وهنا يبين القرآن أن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فقد أهلك الله أمما وأفرادا وقرونا كانوا أكثر مالا وجاها من قارون، وأكثر خبرة بجمع المال وطرق تحصيله، لكنهم أذنبوا وأجرموا وأسرفوا على أنفسهم في الملذات والشهوات، أو منعوا حق الله في المال، فأهلكهم الله، كما أهلك فرعون مع ملكه وغناه، وأهلك عادا وثمود وأصحاب مدين وقوم لوط، فالمذنبون يهلكهم الله عقوبة عادلة، كما عاقب سبأ جزاء إعراضهم عن شكر النعمة، فتهدم سدّ مأرب، وتلفت الزراعة وعم الجفاف، وهلك الكافرون.
من كلام المفسرين
قال الإمام عبد الرحمان بن زيد بن أسلم في تفسير الآية :
﴿ إنما أوتيته على علم عندي.. ﴾.
إنما أوتيته على علم من الله باستحقاقي إياه، فلولا رضاه عني، وعلمه بفضلي ما أعطانيه.
وقيل : إنه علم التوراة، فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها، وقال أبو سليمان الداراني : علم التجارة ووجوه المكاسب، وقيل : علم استخراج الكنوز والدفائن.
وقيل : علم الكيمياء، فكان يحوّل الرصاص والنحاس ذهبا، وردّه العلماء بأن فيه دعوى قلب الحقائق، وذلك لا يكون إلا لله تعالى، ولم يثبت حدوثه منه بطريق صحيح، وما يشاع بين العامة من إمكان ذلك إنما هو من باب الأراجيف التي لم تثبت في الواقع، بل هي من الصبغ والتزييفxxix.
وقريب من الآية قوله تعالى :﴿ فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم.. ﴾ [ الزمر : ٤٩ ].
وقال تعالى :﴿ ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي.. ﴾ [ فصلت : ٥٠ ] أي : هذا أستحقه.
ويقول شوقي أمير الشعراء :
عجبت لمعشر صلّوا وصاموا ظواهر خشية وتقى كذابا
وتلقاهم حيال المال صمّا إذا داعى الزكاة بهم أهابا
لقد منعوا نصيب الله منه كأنّ الله لم يحص النصابا
فخذ لبنيك والأيام ذخرا وأعط الله حصته احتسابا
فلو صادفت أحداث الليالي | وجدت الفقر أقربها انتسابا |
وأن الشر يصدع فاعليه ولم أر خيرا بالشر آبا
وجاء في التفسير المنير للأستاذ د. وهبة الزحيلي ما يأتي :
إن أصول الحضارة الإسلامية أربعة :
١- العمل الصالح ثواب الآخرة.
٢- عمارة الدنيا بإتقان دون أن تستولي على مشاعر الإنسان.
٣- الإحسان إلى الناس، إحسانا ماديا أو معنويا أو خلقيا.
٤- قمع الفساد والعصيان والخراب.
المفردات :
في زينته : فيما تزين به متاع الحياة الدنيا.
التفسير :
٧٩-﴿ فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ﴾.
بعد أن قدمت له النصيحة، كابر واشتد غروره، وخرج في أبهى حلة وأحسن متاع، يستعرض نعم الله عليه، وجمع كل ما عنده من جنود ورجال وجوار، وخيل وبغال، في كسوة ثمينة ومظهر أخّاذ. ليكسر قلوب الفقراء، ويعاند الناصحين.
قال الراغبون في الدنيا وزينتهاxxx : ليت لنا مثل ما أوتي قارون من المال والجنود والرجال، والخيل والبغال، والحشم والخدم ومظاهر الحياة وزينة الدنيا.
﴿ إنه لذو حظ عظيم ﴾
إنه حصل على نصيب وافر من دنياه.
سورة القصص مكية، وآياتها ٨٨ آية، نزلت بعد سورة النمل، وقد نزلت في الفترة المكية الأخيرة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، وقد سميت بسورة القصص لاشتمالها على القصص الذي حكاه موسى لنبي الله شعيب في قوله سبحانه :﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾ [ القصص : ٢٥ ].
قصة موسى
تستغرق قصة موسى حيزا كبيرا من سورة القصص، فمن بداية السورة إلى الآية ٤٨ ؛ نجد حديثا مستفيضا عن موسى عليه السلام.
وفي الآيات [ ٧٥-٨٢ ] نجد حديثا عن قارون، أي أن معظم سورة القصص يتناول قصة موسى ويتناول قصة قارون، والحكمة في ذلك أن هذه السورة نزلت بمكة في مرحلة قاسية، كان المسلمون فيها قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان، فنزلت هذه السورة تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، وتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود، هي قوة الله، وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان، فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى.
ومن ثم يقوم كيان سورة القصص على قصة موسى وفرعون، وتعرض السورة من خلال هذه القصة قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر، وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة، ولا ملجأ له ولا وقاية.
وقد علا فرعون في الأرض، واتخذ أهلها شيعا، واستضعف بني إسرائيل، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وهو على حذر منهم، وهو قابض على أعناقهم، لكن قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته، لا تغني عنه شيئا، بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير المجرد من كل قوة وحيلة، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة، ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السوء، وتعمى عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا، فتدفع به إلى حجره، وتدخل به عليه عرينه، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه.
لقد طمعت آسية أن يكون موسى وليدا لها تتبناه مع زوجها فرعون، فقالت لفرعون :﴿ قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ﴾ [ القصص : ٩ ]
وهكذا دبر الله أن يتربى موسى في بيت فرعون، وأن يؤتى الحذر من مكمنه، ولما حرم الله المراضع على موسى، جاءت أمه كمرضعة له، وأرضعته في بيت فرعون، وصار فرعون يجري عليها كل يوم دينارا من الذهب، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( مثل المؤمن كأم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرتها )i.
موسى في سن الرجولة :
بلغ موسى أشده، واستكمل نيفا وثلاثين عاما، وقد صنعه الله على عينه، فصار يتأمل في هذا الكون، ويبتعد عن حاشية فرعون، ودخل العاصمة في فترة الظهيرة فرأى قبطيا يعمل طباخا في قصر فرعون يتشاجر مع إسرائيلي، فاستغاث به الإسرائيلي ؛ فضرب موسى القبطي بجمع يده فوقع جثة هامدة، وندم موسى على ذلك واستغفر الله وتاب إليه.
وتربص قوم فرعون بموسى ليقتلوه، فانتدبت يد القدرة واحدا منهم يكتم إيمانه عنهم، وجاء لموسى وقال له :﴿ إن الملأ يأتمرون به ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ﴾ [ القصص : ٢٠ ].
خرج موسى هاربا مهاجرا متجها إلى أرض مدين وحيدا فريدا فآواه الله ورعاه، وتعرف هناك على نبي الله شعيب وتزوج بابنته ومكث هناك عشر سنين، ثم عاوده الحنين إلى مصر فجاء إليها عبر سيناء، وعند الشجرة المباركة نودي من قبل الله : أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين، وامتن الله عليه بالرسالة وأيده بالمعجزات.
موسى مع فرعون :
عاد موسى إلى فرعون مرة أخرى يدعوه إلى الإيمان بالله ويقدم له الأدلة العقلية والمعجزات الظاهرة، ولكن فرعون طغى وتجبر وكذب وعصى ؛ فأهلكه الله وأخذه نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
الحلقة الجديدة في القصة :
عنيت سورة القصص بإبراز حلقة ميلاد موسى، وتربيته في بيت فرعون، وهي حلقة جديدة في القصة تكشف عن تحدي القدرة الإلهية للطغيان والظلم، وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ.
لقد ولد موسى في ظروف قاسية في ظاهرها، فصاحبته رعاية الله وعنايته، في رضاعه وفي نشأته وفتوته، وصنعه الله على عينه وهيأه للرسالة، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب ثم قال له كن فيكون.
قارون :
ذكرت سورة القصص قصة موسى في بدايتها وقصة قارون في نهايتها، والهدف واحد، فقصة فرعون تمثل طغيان الملك، وقصة قارون تمثل طغيان المال.
كان قارون من قوم موسى وكان غنيا ذا قدرة ومعرفة، وأوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء، وخرج على قومه في زينته وأبهته ليكسر قلوب الفقراء، ونصحه قومه بالاعتدال وإخراج الزكاة، والإحسان إلى الناس والابتعاد عن الفساد.
فزادته النصيحة تيها وعلوا، وخرج يباهي الناس بماله وكنوزه، ثم تدخلت يد القدرة الإلهية فخسفت به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه.
وهكذا تصير عاقبة الظالمين، كما غرق فرعون في البحر، هلك قارون خسفا في الأرض، ولا تزال بحيرة قارون تذكر الناس بنهاية الظالمين، قال تعالى :﴿ وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين*فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ العنكبوت : ٣٩، ٤٠ ].
أهداف السورة
تهدف سورة القصص إلى إثبات قدرة الله ورعايته للمؤمنين، فهو سبحانه الواحد الأحد الفرد الصمد المتفرد بالحكم والقضاء، قد آزر موسى وحيدا فريدا طريدا، ونجاه من بطش فرعون، وأغرق فرعون وجنوده، كما أهلك قارون وقومه.
وبين القصتين نجد الآيات من [ ٤٤ – ٧٥ ] تعقب على قصة موسى وتبين أين يكون الأمن، وأين تكون المخافة، وتجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير، تجول معهم جولات شتى في مشاهد الكون، وفي مشهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمن، بعد أن تعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين، بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود، وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكرون.
ختام السورة
في ختام السورة نجد الآيات [ ٨٥-٨٨ ] تعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة فاتحا منتصرا، ينشر الهدى ويقيم الحق والعدل، ومن العجيب أن هذا الوعد بالنصر جاءه وهو مخرج من بلده، مطارد من قومه، مهاجر إلى المدينة ولم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة، قريبا من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، ويقول عند فراقه مخاطبا مكة :" والله إنك لمن أحب البلاد إليّ، ومن أحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ".
ويعده الله بالرجوع إلى مكة فيقول :﴿ إن الله فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.. ﴾ [ القصص : ٨٥ ].
ويبين سبحانه : أن كل ما دون الحق فهو عرضة للفناء والزوال، وأن زمام الحكم بيده تعالى، وتحتم السورة بهذه الآية إثباتا للوحدانية ولجلال القدرة الإلهية :﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ﴾ [ القصص : ٨٨ ].
المفردات :
ويلكم : هو في الأصل دعاء بالويل وهو الهلاك، ثم شاع استعماله في الزجر عما لا ينبغي، وهو المراد هنا.
ثواب الله : في الآخرة بالجنة.
ولا يلقاها : ولا يلقى هذه النصيحة، أي : لا يتقبلها ويعمل بها.
إلا الصابرون : على الطاعات، وعن المعاصي.
التفسير :
٨٠-﴿ وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ﴾
أي : قال أهل العلم والنصح والتقوى لهؤلاء المتعلقين بالدنيا، الذين جعلوا الدنيا غايتهم : عجبا لكم أو تبا لكم وخسرا، كيف تتغالون في طلب الدنيا، ويسيل لعابكم عليها، ما هذا الحرص على المظاهر الكاذبة، والدنيا الفانية، وما عند الله تعالى من ثواب وجنة ورضوان لمن آمن بالله وأطاعه، خير مما تتمنون، فإن نعيم الآخرة باق لا يزول، خالص من الأحزان والأكدار، وهو خير مما ترون وتتمنون، وما يتلقى الصبر والرضا والهدوء النفسي إلا من صبر على أداء الطاعات، واجتنب المعاصي، وكان قدوة حسنة في مجد أمته وإعلاء شأنها، ورعاية الفقراء والضعفاء، والإحسان إلى عباد الله، وبذا ينال محبة الخلق ورضوان الخالق.
سورة القصص مكية، وآياتها ٨٨ آية، نزلت بعد سورة النمل، وقد نزلت في الفترة المكية الأخيرة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، وقد سميت بسورة القصص لاشتمالها على القصص الذي حكاه موسى لنبي الله شعيب في قوله سبحانه :﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾ [ القصص : ٢٥ ].
قصة موسى
تستغرق قصة موسى حيزا كبيرا من سورة القصص، فمن بداية السورة إلى الآية ٤٨ ؛ نجد حديثا مستفيضا عن موسى عليه السلام.
وفي الآيات [ ٧٥-٨٢ ] نجد حديثا عن قارون، أي أن معظم سورة القصص يتناول قصة موسى ويتناول قصة قارون، والحكمة في ذلك أن هذه السورة نزلت بمكة في مرحلة قاسية، كان المسلمون فيها قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان، فنزلت هذه السورة تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، وتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود، هي قوة الله، وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان، فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى.
ومن ثم يقوم كيان سورة القصص على قصة موسى وفرعون، وتعرض السورة من خلال هذه القصة قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر، وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة، ولا ملجأ له ولا وقاية.
وقد علا فرعون في الأرض، واتخذ أهلها شيعا، واستضعف بني إسرائيل، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وهو على حذر منهم، وهو قابض على أعناقهم، لكن قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته، لا تغني عنه شيئا، بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير المجرد من كل قوة وحيلة، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة، ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السوء، وتعمى عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا، فتدفع به إلى حجره، وتدخل به عليه عرينه، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه.
لقد طمعت آسية أن يكون موسى وليدا لها تتبناه مع زوجها فرعون، فقالت لفرعون :﴿ قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ﴾ [ القصص : ٩ ]
وهكذا دبر الله أن يتربى موسى في بيت فرعون، وأن يؤتى الحذر من مكمنه، ولما حرم الله المراضع على موسى، جاءت أمه كمرضعة له، وأرضعته في بيت فرعون، وصار فرعون يجري عليها كل يوم دينارا من الذهب، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( مثل المؤمن كأم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرتها )i.
موسى في سن الرجولة :
بلغ موسى أشده، واستكمل نيفا وثلاثين عاما، وقد صنعه الله على عينه، فصار يتأمل في هذا الكون، ويبتعد عن حاشية فرعون، ودخل العاصمة في فترة الظهيرة فرأى قبطيا يعمل طباخا في قصر فرعون يتشاجر مع إسرائيلي، فاستغاث به الإسرائيلي ؛ فضرب موسى القبطي بجمع يده فوقع جثة هامدة، وندم موسى على ذلك واستغفر الله وتاب إليه.
وتربص قوم فرعون بموسى ليقتلوه، فانتدبت يد القدرة واحدا منهم يكتم إيمانه عنهم، وجاء لموسى وقال له :﴿ إن الملأ يأتمرون به ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ﴾ [ القصص : ٢٠ ].
خرج موسى هاربا مهاجرا متجها إلى أرض مدين وحيدا فريدا فآواه الله ورعاه، وتعرف هناك على نبي الله شعيب وتزوج بابنته ومكث هناك عشر سنين، ثم عاوده الحنين إلى مصر فجاء إليها عبر سيناء، وعند الشجرة المباركة نودي من قبل الله : أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين، وامتن الله عليه بالرسالة وأيده بالمعجزات.
موسى مع فرعون :
عاد موسى إلى فرعون مرة أخرى يدعوه إلى الإيمان بالله ويقدم له الأدلة العقلية والمعجزات الظاهرة، ولكن فرعون طغى وتجبر وكذب وعصى ؛ فأهلكه الله وأخذه نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
الحلقة الجديدة في القصة :
عنيت سورة القصص بإبراز حلقة ميلاد موسى، وتربيته في بيت فرعون، وهي حلقة جديدة في القصة تكشف عن تحدي القدرة الإلهية للطغيان والظلم، وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ.
لقد ولد موسى في ظروف قاسية في ظاهرها، فصاحبته رعاية الله وعنايته، في رضاعه وفي نشأته وفتوته، وصنعه الله على عينه وهيأه للرسالة، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب ثم قال له كن فيكون.
قارون :
ذكرت سورة القصص قصة موسى في بدايتها وقصة قارون في نهايتها، والهدف واحد، فقصة فرعون تمثل طغيان الملك، وقصة قارون تمثل طغيان المال.
كان قارون من قوم موسى وكان غنيا ذا قدرة ومعرفة، وأوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء، وخرج على قومه في زينته وأبهته ليكسر قلوب الفقراء، ونصحه قومه بالاعتدال وإخراج الزكاة، والإحسان إلى الناس والابتعاد عن الفساد.
فزادته النصيحة تيها وعلوا، وخرج يباهي الناس بماله وكنوزه، ثم تدخلت يد القدرة الإلهية فخسفت به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه.
وهكذا تصير عاقبة الظالمين، كما غرق فرعون في البحر، هلك قارون خسفا في الأرض، ولا تزال بحيرة قارون تذكر الناس بنهاية الظالمين، قال تعالى :﴿ وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين*فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ العنكبوت : ٣٩، ٤٠ ].
أهداف السورة
تهدف سورة القصص إلى إثبات قدرة الله ورعايته للمؤمنين، فهو سبحانه الواحد الأحد الفرد الصمد المتفرد بالحكم والقضاء، قد آزر موسى وحيدا فريدا طريدا، ونجاه من بطش فرعون، وأغرق فرعون وجنوده، كما أهلك قارون وقومه.
وبين القصتين نجد الآيات من [ ٤٤ – ٧٥ ] تعقب على قصة موسى وتبين أين يكون الأمن، وأين تكون المخافة، وتجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير، تجول معهم جولات شتى في مشاهد الكون، وفي مشهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمن، بعد أن تعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين، بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود، وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكرون.
ختام السورة
في ختام السورة نجد الآيات [ ٨٥-٨٨ ] تعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة فاتحا منتصرا، ينشر الهدى ويقيم الحق والعدل، ومن العجيب أن هذا الوعد بالنصر جاءه وهو مخرج من بلده، مطارد من قومه، مهاجر إلى المدينة ولم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة، قريبا من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، ويقول عند فراقه مخاطبا مكة :" والله إنك لمن أحب البلاد إليّ، ومن أحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ".
ويعده الله بالرجوع إلى مكة فيقول :﴿ إن الله فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.. ﴾ [ القصص : ٨٥ ].
ويبين سبحانه : أن كل ما دون الحق فهو عرضة للفناء والزوال، وأن زمام الحكم بيده تعالى، وتحتم السورة بهذه الآية إثباتا للوحدانية ولجلال القدرة الإلهية :﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ﴾ [ القصص : ٨٨ ].
المفردات :
فخسفنا به وبداره الأرض : أي : بقارون، وخسف : غار في الأرض، والمراد : جعلنا عاليها سافلها، أي : أدخله الله وداره في جوف الأرض.
فئة : جماعة
التفسير :
٨١-﴿ فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ﴾
أصاب قارون العجب والكبر والبطر، وافترى على موسى واستحق غضب السماء، فزلزل الله به وبداره الأرض، فخسف به وبداره، وأصبح هو وداره في حفرة في واد سحيق، وذهب ثروته وزينته ودمّر كل ذلك تدميرا.
وقد روى البخاري في صحيحه، من حديث الزهري، عن سالم، أن أباه حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة )xxxi.
فالرجل يسير وهو معجب بنفسه، مغرور متكبر، يتيه فخرا وتعاليا بثروته أو ماله أو جاهه أو سلطانه أو نفوذه، ناسيا فضل الله عليه.
وذكر ابن كثير في تفسيره أن هذا الحديث يشير إلى قارون.
وقد وردت أحاديث في الصحيح تفيد أنه لا مانع من تمتع المؤمن بزينة الدنيا وجمالها، فإن الله جميل يحب الجمالxxxii، والله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عباده، والممنوع هو الكبر والخيلاء ومنع المال عن صاحبه، وحبس المعروف عن مستحقيه، وأن يتحول الغني إلى أناني مسرف ينفق على نفسه وأسرته، ويكابر ويتعالى، ويمنع الحق عن أهله.
ملحق بتفسير الآية
١- يوجد في محافظة الفيوم بحيرة صغيرة تسمى بركة قارون، ويجوز أن يكون قارون وقومه كانوا يقيمون في هذا المكان، وأنه خرج على قومه في زينته، فخسف الله به وبداره الأرض، وانخفض مستوى الأرض، وتحول إلى بركة تسمى بركة قارون، وهذا مجرد احتمال.
٢- ذكرت كتب التفسير روايات لا سند لها، من ذلك ما روي عن قتادة قال : ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه، على أربعة آلاف دابة، عليهم ثياب حمر، منها ألف بغلة بيضاء، وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال مقاتل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيول، وعليهم الثياب الأرجوانية، ومعه ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحلي والثياب الحمر، يركبن البغال الشهب. اه.
والمرجح أن مرد ذلك إلى الإسرائيليات، وفي كتاب الله ما يغني، فقد خرج في أبهى حلة وزينة، متظاهرا بكل ما عنده عجبا وتيها، قال تعالى :﴿ فخرج على قومه في زينته.. ﴾
عود إلى الآية :
﴿ فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ﴾
إن الخسف مقصود به ضياع ماله وداره ونفسه، وما نراه من تهاوي أسعار البورصة، وأسعار العملات، وانتشار الأزمات الاقتصادية في الشرق حينا، وفي الغرب حينا، ينبغي أن يذكر الناس بأن هناك خسفا للفرد حينا، وخسفا للأمة حينا، وأن هناك خسفا حسيا، وخسفا معنويا.
﴿ فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ﴾
أي : لم يغن عنه حشمه ولا خدمه، ولا جيشه ولا نفسه، ولم تكن له جماعة تعصمه من الخسف، أو تنصره، وما صح ولا استقام أن يكون من الممتنعين من بطش الله، بأي سبب من أسباب الامتناع، فإنه لا بد واقع، وليس له من دافع.
وحريّ بالأمم الإسلامية أن تراقب ربها، وأن تتقي الله في تصرفاتها وأموالها وسلوكها، حتى تجني حصاد السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة، قال تعالى :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴾ [ النحل : ١١٢ ].
سورة القصص مكية، وآياتها ٨٨ آية، نزلت بعد سورة النمل، وقد نزلت في الفترة المكية الأخيرة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، وقد سميت بسورة القصص لاشتمالها على القصص الذي حكاه موسى لنبي الله شعيب في قوله سبحانه :﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾ [ القصص : ٢٥ ].
قصة موسى
تستغرق قصة موسى حيزا كبيرا من سورة القصص، فمن بداية السورة إلى الآية ٤٨ ؛ نجد حديثا مستفيضا عن موسى عليه السلام.
وفي الآيات [ ٧٥-٨٢ ] نجد حديثا عن قارون، أي أن معظم سورة القصص يتناول قصة موسى ويتناول قصة قارون، والحكمة في ذلك أن هذه السورة نزلت بمكة في مرحلة قاسية، كان المسلمون فيها قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان، فنزلت هذه السورة تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، وتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود، هي قوة الله، وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان، فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى.
ومن ثم يقوم كيان سورة القصص على قصة موسى وفرعون، وتعرض السورة من خلال هذه القصة قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر، وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة، ولا ملجأ له ولا وقاية.
وقد علا فرعون في الأرض، واتخذ أهلها شيعا، واستضعف بني إسرائيل، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وهو على حذر منهم، وهو قابض على أعناقهم، لكن قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته، لا تغني عنه شيئا، بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير المجرد من كل قوة وحيلة، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة، ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السوء، وتعمى عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا، فتدفع به إلى حجره، وتدخل به عليه عرينه، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه.
لقد طمعت آسية أن يكون موسى وليدا لها تتبناه مع زوجها فرعون، فقالت لفرعون :﴿ قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ﴾ [ القصص : ٩ ]
وهكذا دبر الله أن يتربى موسى في بيت فرعون، وأن يؤتى الحذر من مكمنه، ولما حرم الله المراضع على موسى، جاءت أمه كمرضعة له، وأرضعته في بيت فرعون، وصار فرعون يجري عليها كل يوم دينارا من الذهب، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( مثل المؤمن كأم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرتها )i.
موسى في سن الرجولة :
بلغ موسى أشده، واستكمل نيفا وثلاثين عاما، وقد صنعه الله على عينه، فصار يتأمل في هذا الكون، ويبتعد عن حاشية فرعون، ودخل العاصمة في فترة الظهيرة فرأى قبطيا يعمل طباخا في قصر فرعون يتشاجر مع إسرائيلي، فاستغاث به الإسرائيلي ؛ فضرب موسى القبطي بجمع يده فوقع جثة هامدة، وندم موسى على ذلك واستغفر الله وتاب إليه.
وتربص قوم فرعون بموسى ليقتلوه، فانتدبت يد القدرة واحدا منهم يكتم إيمانه عنهم، وجاء لموسى وقال له :﴿ إن الملأ يأتمرون به ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ﴾ [ القصص : ٢٠ ].
خرج موسى هاربا مهاجرا متجها إلى أرض مدين وحيدا فريدا فآواه الله ورعاه، وتعرف هناك على نبي الله شعيب وتزوج بابنته ومكث هناك عشر سنين، ثم عاوده الحنين إلى مصر فجاء إليها عبر سيناء، وعند الشجرة المباركة نودي من قبل الله : أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين، وامتن الله عليه بالرسالة وأيده بالمعجزات.
موسى مع فرعون :
عاد موسى إلى فرعون مرة أخرى يدعوه إلى الإيمان بالله ويقدم له الأدلة العقلية والمعجزات الظاهرة، ولكن فرعون طغى وتجبر وكذب وعصى ؛ فأهلكه الله وأخذه نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
الحلقة الجديدة في القصة :
عنيت سورة القصص بإبراز حلقة ميلاد موسى، وتربيته في بيت فرعون، وهي حلقة جديدة في القصة تكشف عن تحدي القدرة الإلهية للطغيان والظلم، وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ.
لقد ولد موسى في ظروف قاسية في ظاهرها، فصاحبته رعاية الله وعنايته، في رضاعه وفي نشأته وفتوته، وصنعه الله على عينه وهيأه للرسالة، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب ثم قال له كن فيكون.
قارون :
ذكرت سورة القصص قصة موسى في بدايتها وقصة قارون في نهايتها، والهدف واحد، فقصة فرعون تمثل طغيان الملك، وقصة قارون تمثل طغيان المال.
كان قارون من قوم موسى وكان غنيا ذا قدرة ومعرفة، وأوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء، وخرج على قومه في زينته وأبهته ليكسر قلوب الفقراء، ونصحه قومه بالاعتدال وإخراج الزكاة، والإحسان إلى الناس والابتعاد عن الفساد.
فزادته النصيحة تيها وعلوا، وخرج يباهي الناس بماله وكنوزه، ثم تدخلت يد القدرة الإلهية فخسفت به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه.
وهكذا تصير عاقبة الظالمين، كما غرق فرعون في البحر، هلك قارون خسفا في الأرض، ولا تزال بحيرة قارون تذكر الناس بنهاية الظالمين، قال تعالى :﴿ وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين*فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ العنكبوت : ٣٩، ٤٠ ].
أهداف السورة
تهدف سورة القصص إلى إثبات قدرة الله ورعايته للمؤمنين، فهو سبحانه الواحد الأحد الفرد الصمد المتفرد بالحكم والقضاء، قد آزر موسى وحيدا فريدا طريدا، ونجاه من بطش فرعون، وأغرق فرعون وجنوده، كما أهلك قارون وقومه.
وبين القصتين نجد الآيات من [ ٤٤ – ٧٥ ] تعقب على قصة موسى وتبين أين يكون الأمن، وأين تكون المخافة، وتجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير، تجول معهم جولات شتى في مشاهد الكون، وفي مشهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمن، بعد أن تعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين، بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود، وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكرون.
ختام السورة
في ختام السورة نجد الآيات [ ٨٥-٨٨ ] تعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة فاتحا منتصرا، ينشر الهدى ويقيم الحق والعدل، ومن العجيب أن هذا الوعد بالنصر جاءه وهو مخرج من بلده، مطارد من قومه، مهاجر إلى المدينة ولم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة، قريبا من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، ويقول عند فراقه مخاطبا مكة :" والله إنك لمن أحب البلاد إليّ، ومن أحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ".
ويعده الله بالرجوع إلى مكة فيقول :﴿ إن الله فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.. ﴾ [ القصص : ٨٥ ].
ويبين سبحانه : أن كل ما دون الحق فهو عرضة للفناء والزوال، وأن زمام الحكم بيده تعالى، وتحتم السورة بهذه الآية إثباتا للوحدانية ولجلال القدرة الإلهية :﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ﴾ [ القصص : ٨٨ ].
المفردات :
ويكأن الله، ألم تر أن الله، أو : عجبا ألم تر أن الله، أو : بل إن الله.
يبسط : يمدّ ويعطي.
ويقدر : يضيق ويقتر بمقتضى مشيئته، لا لكرامة تقتضي البسط، ولا لهوان يوجب القبض.
التفسير :
٨٢-﴿ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ﴾.
صار الذين كانوا معجبين بقارون، وكثرة أمواله ومظاهر زينته، يتعجبون مما أصابه، ويتذكرون أن الله تعالى يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويُعز من يشاء ويذل من يشاء، وليس عطاء المال بدليل على محبة الله للعبد، ولا سلب الدنيا منه بدليل على بغض الله له، فلله تعالى حكمة سامية، قال تعالى :﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ﴾ [ الشورى : ٢٧ ].
وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا :( إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب )xxxiii.
لقد طرق الإيمان قلوب المؤمنين الذين غرّتهم مظاهر العظمة والأبهة في قارون، وتمنوا أن لهم مثل ما لقارون غبطة لا حسدا، وحين شاهدوا نهايته تعجبوا كثيرا لما أصابه، وعجبوا من نهايته، وحمدوا الله على أنه لم يخسف الأرض بهم كما خسف بقارون، لأنهم تمنوا أن لهم مثل ما لقارون وقالوا :﴿ لولا أن من الله علينا لخسف بنا.. ﴾
أي : لولا أن لطف الله بنا وأحسن إلينا، لخسف بنا الأرض كما خسف بقارون، لأنا وددنا أن نكون مثله.
﴿ ويكأنه لا يفلح الكافرون ﴾
عجبا ألم تر أن الله لا يحقق الفوز والنجاح للكافرين به، المكذبين رسله، المنكرين ثواب الله وعقابه في الآخرة، مثل قارون.
المفردات :
علوا : استكبارا وقهرا وغلبة.
فسادا : ظلما للناس كما أراد فرعون وقارون.
العاقبة : المصير المحمود.
للمتقين : المراقبين لله.
تمهيد :
تأتي هذه الخاتمة في أعقاب قصة فرعون وقارون، فتبين أن محل جزاء المؤمنين هو الآخرة، التي جعلها الله للمتواضعين، الذين لا يظلمون الناس ولا يفسدون، ولا يأكلون حقوق الآخرين، ثم وضح مقدار ذلك الجزاء الذي يحصل في الآخرة، فالحسنة تضاعف إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف فأكثر فضلا من الله ورحمة، وجزاء السيئة مثلها لطفا من الله وعدلا.
التفسير :
٨٣-﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ﴾
هذه الجنة والمنزلة العالية نجعلها للمؤمنين المستقيمين الأسوياء الذين يصبرون على البأساء، ويشكرون على النعماء، ويرضون بأسباب القضاء، وإذا أعطاهم الله المال أو الجاه أو السلطان أنفقوا المال في سبيل الله ومرضاته، ولم يستطيلوا به على عباد الله، ولم يتخذوا المال ذريعة للفساد والعدوان والتعالي.
﴿ والعاقبة للمتقين ﴾
أي : العاقبة الحسنة والتمكين في الأرض، والرفعة في الدنيا، والسعادة في الآخرة، لمن اتقى الله وراقب مولاه، ورضى بالحلال وزهد في الحرام، ولم يكن مثل فرعون وقارون.
وتأتي هذه الآية بمثابة التعقيب على قصة قارون، فقد غرّه ماله وتباهى به وتعالى، وضنّ به على الفقراء والمساكين، ثم خسف الله به وبداره الأرض، فكان المال مصدر بؤس وشقاء له في الدنيا والآخرة، أما من اتقى الله في ماله فوصل به رحمه وأنفق منه على المستحقين، ولم يتطاول به على عباد الله فله سعادة الدنيا، والنجاة في الآخرة، ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد )xxxiv.
وروى مسلم، وأبو داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة، فقال :( إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس )xxxv.
وروى أبو هريرة : أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان جميلا، فقال : يا رسول الله، إني رجل حبب إليّ الجمال، وأعطيت منه ما ترى، حتى ما أحبّ أن يفوقني أحد بشراك نعل، أفمن ذلك ؟ قال :( لا، ولكن المتكبر من بطر الحق، وغمط الناس ).
وعن عدي بن حاتم قال : لما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إليّ وسادة، وجلس على الأرض، فقال : أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا، فأسلمxxxvi. أخرجه ابن مردويه.
تأتي هذه الخاتمة في أعقاب قصة فرعون وقارون، فتبين أن محل جزاء المؤمنين هو الآخرة، التي جعلها الله للمتواضعين، الذين لا يظلمون الناس ولا يفسدون، ولا يأكلون حقوق الآخرين، ثم وضح مقدار ذلك الجزاء الذي يحصل في الآخرة، فالحسنة تضاعف إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف فأكثر فضلا من الله ورحمة، وجزاء السيئة مثلها لطفا من الله وعدلا.
٨٤-﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ﴾
من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة، أو الأعمال الحسنة، ومنها كلمة التوحيد " لا إله إلا الله، محمد رسول الله " وعمل بحقها، وهو أداء واجبات الإسلام، والبعد عما يغضب الرحمان، فله خير منها، حيث يكافأ على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
﴿ ومن جاء بالسيئة.. ﴾ بالخصلة السيئة عقيدة أو عملا.
﴿ فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ﴾ دون زيادة، فالجزاء الحق من جنس العمل، قال تعالى :﴿ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ﴾ [ فصلت : ٤٦ ].
وقال تعالى :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ].
وهذا من عدالة الله وسعة فضله، فهو يكافئ على الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، تفضلا ورحمة، أما الذي جاء بالسيئة فيعاقب بمثلها فقط، دون ظلم أو جور.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾ [ النمل : ٩٠ ].
﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين( ٨٥ ) وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين( ٨٦ ) ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين( ٨٧ ) ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون( ٨٨ ) ﴾
المفردات :
فرض : أوجب عليك تبليغه.
لرادك : لراجعك.
إلى معاد : إلى مكان عظيم تعوّدته وهو مكة، أو إلى مكان تعود إليه بعد الخروج منه، من العود، وهو مكة أيضا، وذلك في يوم فتحها سنة ثمان من الهجرة، وهذا من باب المغيبات، لأن السورة مكية، حملت بشرى فتح مكة سنة ثمان من الهجرة.
التفسير :
٨٥-﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ﴾.
تأتي هذه الآيات في ختام سورة القصص، في أعقاب قصة موسى مع فرعون، وقصة قارون وغروره بالمال، وكما نصر الله موسى وأغرق فرعون، تأتي هذه الآيات تبشر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيعود إلى مكة فاتحا منتصرا.
قال الضحاك : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فأنزلت عليه هذه الآية.
فالنبي خارج من مكة، مطارد من أهلها ثاني اثنين، والله ينزل عليه البشرى، بأنه سيعود إلى مكة فاتحا منتصرا، ثم أمره الله أن يفوض الأمر إليه، وأن يجيب الكافرين بما يأتي :
﴿ قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ﴾
الله أعلم بي وبكم، من منا على الهدى، ومن منا على الضلال الواضح، وهذا رد على الكفار حين قالوا : إنك يا محمد في ضلال مبين.
ترجو : تتوقع.
يلقى : ينزل.
الكتاب : القرآن.
ظهيرا : معينا للكافرين بإجابتهم إلى طلبهم.
التفسير :
٨٦-﴿ وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾
ما كنت تأمل أن تكون يا محمد صاحب الرسالة الخاتمة، وأن تكون آخر الرسل، لقد كان اليهود يبشرون بنبي قرب زمانه، وتطلّع عدد من المتحنثين والحنيفيين إلى الرسالة والنبوة، وما كان محمد الأمي يتطلع إلى ذلك، ولكن الله هو الذي اختاره واصطفاه، رحمة منه وفضلا.
وكان قومه يعرضون عليه أن يرجع إلى دين آبائه، فأمره الله ألا يكون معينا للكافرين في كفرهم، والمقصود من ذلك : أن ييأس الكفار من تلبية طلبهم، وتستمر الآيات تشد أزر الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا يصدنك : ولا يمنعنك الكافرون.
التفسير :
٨٧-﴿ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ﴾
ولا تلتفت إلى هؤلاء المشركين المخالفين، ولا تتأثر بهم، ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله المنزلة إليك، وعليك أن تستمر في دعوتك إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، مخلصا لله في عملك.
﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾.
واحذر أن تكون مع المشركين، الذين حاولوا أن يعبدوا إلهك يوما، وأن تعبد إلههم يوما، فعليك أن ترفض الحلول الوسط.
قال الدكتور وهبة الزحيلي في التفسير المنير :
وهذا النهي عن مظاهرة المشركين ونحو ذلك، من باب إلهاب الحماس، وتهييج العاطف، وإثارة الغيرة على استقلال دين التوحيد وعبادة الله. اه.
ويمكن أن يقال : حاشا لله، أن يتطرق الشرك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما كان الخطاب للرسول والمراد أمته، كأن الله وجه الخطاب إلى الأمة في شخص رسولها : ابتعدوا عن الشرك، وعن خيوط الشرك، وعن الأشراك الخداعية الموصلة إلى الشرك، وأخلصوا لله تعالى عبادتكم وتوجهاتكم، فهو سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك، فينبغي أن نقصد بأعمالنا وجه الله تعالى، وحده لا شريك له، وفي ختام السورة تأتي أية تلخص الفكرة فتقول :
هالك : فان.
إلا وجهه : إلا ذاته، فالوجه مجاز عن الذات، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
التفسير :
٨٨-﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ﴾.
إن سورة القصص التي ذكرت قصة موسى، ورعاية الله له حتى أدى رسالته، ثم أغرق الله فرعون ونجى موسى، كما ذكرت قرب الختام قصة قارون ونهايته إلى الخسف والهلاك، تأخذ بيدنا إلى أن الخيوط كلها مرتبطة بيد القدرة الإلهية التي تفعل ما تريد، فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو.. ﴾
لا تعبد مع الله الواحد الأحد إلها آخر، سواء أكان صنما أم وثنا أم جنا أم ملائكة، أم نجما أم حيوانا، لأن هذه آلهة مدّعاة، لا حقيقة لها، وليس هناك إله بحق إلا الله، لا إله إلا هو. ولا معبود بحق سواه، وفي معنى ذلك قوله تعالى :﴿ قل هو الله أحد* الله الصمد*لم يلد ولم يولد*ولم يكن له كفؤا أحد ﴾ [ الإخلاص : ١-٤ ]
﴿ كل شيء هالك إلا وجهه.. ﴾
كل ما تراه في هذه الدنيا يدركه الفناء والموت والهلاك، إلا ذات الله المقدسة، فهو الدائم الباقي، الحي القيوم الذي يميت الخلائق ولا يموت، كما قال سبحانه :﴿ كل من عليها فان*ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ﴾ [ الرحمان : ٢٦، ٢٧ ].
وقال عز شأنه :﴿ كل نفس ذائقة الموت.. ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ].
أي : كل إنسان يموت، وكل حيوان يموت، تلك سنّة الله في هذه الحياة، أي يهلك جيل، لينشأ جيل آخر، حتى تتسع رقعة الأرض للناس، جيلا بعد جيل، والله خالق الأرض، وهو الذي قدّر فيها أرزاقها وأقواتها، وهو الذي خلق الموت والحياة، وأحكم الخلق، وقدّر الأمور، تقدير الحكيم العليم، فهو الإله وحده، وهو غني عن العالمين، والناس فقراء إليه، يخلقهم ويرزقهم ويميتهم ويحييهم.
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أصدق كلمة قالها شاعر، لبيد حين يقول : ألا كل شيء ما خلا الله باطل )xxxvii.
وقال تعالى :﴿ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ﴾ [ الحديد : ٣ ]
فهو سبحانه قبل كل شيء وليس قبله شيء، وهو سبحانه آخر كل شيء وليس بعده شيء، وكل الذوات فانية زائلة، إلا ذاته سبحانه وتعالى، فهو منزه عن الفناء والموت، والنوم ومشابهة الحوادث، ومتصف بكل كمال، ومنزه عن كل نقص، وهو سبحانه حي لا يموت، والإنس والجن يموتون.
﴿ له الحكم.. ﴾ له الأمر والتصرف، والقضاء النافذ في الخلق، وبيده الخلق والأمر.
﴿ وإليه ترجعون ﴾ فيجازيكم بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا.
وبهذا الختام نجد الآية لوحة هادفة في تقرير الألوهية والوحدانية والبقاء لله تعالى، وأن الحكم بيده، فهو سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء، ومصير الخلائق بيده، ليقضي بينهم بالحكم والعدل.
فلا معنى لعبادة إله آخر غير الله، ما دامت خيوط القدرة كلها بيده سبحانه، وما دام هو الأول والآخر، والباقي بعد فناء جميع الموجودات، والمتصرف تصرفا مطلقا في هذا الكون، وإليه المرجع والمآب.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ولله تعالى الفضل والمنة، وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.