تفسير سورة القصص

حومد
تفسير سورة سورة القصص من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

(١) - طَاسِينْ مِيمْ -
وَتُقْرَأُ مُقَطَّعَةً، كُلُّ حَرْفٍ عَلَى حِدَةٍ، الله أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
﴿آيَاتُ﴾ ﴿الكتاب﴾
﴿آيَاتُ﴾ ﴿الكتاب﴾
(٢) - هَذِهِ الآياتُ هيَ آياتُ القُرآنِ الوَاضِحِ الجَلِيِّ، الذي يَكْشِفُ عَنْ أُمورِ الدِّين، وأَخْبَارِ الأَوَّلِينَ، لَمْ تَتَقَوَّلْهُ أَنتَ يَا مُحَمَّدُ، وَلَمْ تَتَخَرَّصْهُ كَمَا زَعَمَ المُشْرِكُونِ.
﴿نَتْلُواْ﴾ ﴿نَّبَإِ﴾
(٣) - إِنَّنا نَذْكُرُ لَكَ مَا كَانَ مِنْ أَمرِ مُوسَى وفِرْعَونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، كَأَنَّكَ شَاهِدٌ حَاضِرٌ، وَلا يَعتَبِرُ بِآياتِ اللهِ إِِلاَّ مَنْ كَانَ مُؤمِناً، وَلَهُ قَلْبٌ وَاعٍ.
﴿طَآئِفَةً﴾ ﴿وَيَسْتَحْيِي﴾
(٤) - لَقَدْ تَكَبَّرَ فِرعَونُ في أَرْضِ مِصْرَ، وَتَجَبَّرَ، وَجَعَلَ أَهْلَهَا فِرَقاً وأَصْنَافاً وأًحزََاباً مَتَعَدِّدَةً (شِيَعاً)، وأَغْرَى بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، لِكَيلاَ يَتَّفِقُوا عَلَى أَمرٍ، وَلاَ يُجْمِعُوا عَلَى رَأْيٍ، وَيَسْتَغِلُّ بَعْضَهُمْ لِلْكَيدِ لِبْعَضٍ، فَلا يَصْعُبُ عَلَيهِ خُضُوعُهُم واسْتِسْلامُهُمْ واستَضْعَفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (طائفةً منهمُ)، وَكَانُوا أَهلَ الإِيمانِ في ذلِكَ الزَّمَانِ، واستَذَلَّهُم، فَأَخَذَ يَسْتَعْمِلُهُمْ في أًَحَطِّ الأًعمَالِ وأَشقِّها، وَيَقتُلُ الذُّكُورَ مِنْ أَوْلادِهِمْ حِينَ يُولَدُونَ، لأَنَّهُ كَانَ يَخَافُ مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَولَوا عَلَى المَرافِقِ العَامَّةِ، وأَنْ يَغْلِبُوا الأَقْباطَ إِذا تَكَاثَرُوا وَتَنَاسَلُوا، وَقَدْ كَانَ فِرعَونُ مِنَ الضَّالِينَ المُفْسِدِينَ.
(وَقيلَ إِنَّهُ كَانَ يَقْتُلُهُمْ خَوْفاً مِنْ أَنْ يُولَدَ غُلاَمٌ مِنْهُمْ يَكُونُ سَبَباً في هَلاَكِهِ، وَزَوَالِ مُلْكِهِ، كَمَا فَسَّر لَهُ بَعْضُ الكَهَنَةِ حُلْماً رآهُ).
عَلاَ في الأرضِ - تَجَبَّرَ وَطَغَى فِي أَرْضِ مِصْرِ.
شِيَعاً - أَصْنَافاً فِي الخِدْمَةِ والتَّسْخِيرِ والإِذْلاَلِ.
يَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ -يَسْتَبِقِي النِّسَاءَ لِلْخِدْمَةِ.
﴿أَئِمَّةً﴾ ﴿الوارثين﴾
(٥) - ولكِنَّ قَضَاءَ اللهِ لاَ مَهْرَبَ مِنْهُ، وَلاَ يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، فَوُلِدَ مُوسَى وَتَرَبَّى عَلَى بَني إِسرائيلَ الذينَ كَانَ يَسْتَضْعِفُهُمْ فِرعَوْنُ في أرْضِ مِصْرَ، فَجَعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وقُدْوَةً للنَّاسِ في زَمَانِهِمْ، وَأَوْرَاثَهُمُ الأَرضَ المُقَدَّسَةَ التي وَعَدَهُمُ اللهُ بالسُّكْنَى فِيها عَلى لِسَانِ إِبراهيِمَ وَيَعقُوبَ.
﴿هَامَانَ﴾
(٦) - وَمَكَّنَ اللهُ لِبني إِسرَائيلَ في الأرضِ المُقَدَّسَةِ وأَنقَذَهُمْ من عَسَفِ فِرعَوْنَ وطُغيَانِهِ، فَخَرَجَ فِرْعَونُ وَهَامَانُ وجُنُودُهُما، يَتبَعُونَ آثَارَ بَني إِسرَائيلَ، لِضْطَرُّوهُمْ إِلى العَودَةِ إِلى أَرْضِ مِصْرَ، فَأَغْرَقَهُمُ اللهُ تَعَالى وَأَذَاقَهُمْ مَا كَانُوا يَحذَرُونَ مِنَ الهَلاكِ، وضَياعِ المُلْكِ عَلى يَدِ وَلَدٍ يُولَدُ مِنْ بَنِي إِسرَائيلَ.
يَحْذَرُونَ - يَخَافُونَ مِنْ ذَهَابِ مُلْكِهِمْ.
(٧) - لَمَّا أَكثرَ فِرعَونَ القَتْلَ في بَني إِسرائيلَ خَافَ الأَقباطُ أَن يَفْنَى بَنُو إِسرائيلَ، فَيُضْطَرُّ القِبطُ، إِلى القِيامِ بِمَا يَقُومُ بهِ بَنُو إِسْرائيلَ مِنَ الأَعمَالِ الشَّاقةِ، فَقَالُوا لِفرعَوْنَ ذَلِكَ، فَأَمرَ بِقْتْلِ الوِلْدَانِ عَاماً، وَتَركِهِمْ عَاماً، فَوُلِدَ هارُونُ في السَّنةِ التي يَتْركُونَ فِيها الذُّكُورَ، وَوُلِدَ مُوسَى في السَّنةِ التي يَقْتُلُونَ فِيها الذُّكُورَ فَخَافَتْ أُمُهُ عَلَيه، وَضَاقَتْ بهِ ذَرْعاً، وَقَدْ أَحَبَّتْهُ حُبّاً شَديداً (فَفَدْ أَلقى اللهُ تَعَالى مَحَبَّتَهُ في قَلْبِ كُلِّ مَنْ رَآهُ كَمَا جَاءَ في حُبّاً شَديداً (فَقَدْ أَلقى اللهُ تَعَالَى مَحَبَّتَهُ في قَلْبِ كُلِّ مَنْ رَآهُ كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى) فَأَلْهَمَهَا اللهُ أَنْ تَضَعَهُ فِي تَابُوتٍ، وَتَقْذِفَهُ فِي المَاءِ حِينَمَا يَدْخُلُ عَلَيها أَحْدٌ تَخَافُهُ. وَرَبَطَتِ التَّابُوتَ بِحَبْلٍ فإِذا ذَهَبَ مَا تَحْذَرُهُ جَذَبَتِ الحَبلَ وأَخْرَجَتْ مُوسَى مِنَ التَّابُوتِ. وذَات يومٍ دَخَلَ عَلَيها مَنْ تَحْذَرُهُ، فَوَضَعَتْ مُوسَى في المَهْدِ، وَنَسِيَتْ رَبطَ الحَبْلِ، فَذَهَبَ بهِ المَاءُ، واحتَمَلَهُ حَتَّى مَرَّ بهِ أَمامَ دارِ فِرعَونَ. وَقَدْ وَعَدَ اللهُ أُمَّ مُوسَى بمَا يُسلِّيها، ويُطْمْئِنُ قَلبَها، وَهُوَ أَنَّهُ سَيَحفَظُهُ لَهَا، وَسَيَرُدُّهُ إِليها لِتكُونَ مُرضِعَتَهُ، وأَنَّهُ سيَجعَلُهُ مُرْسَلاً إِلى فِرْعوْنَ الطَّاغِيَةِ، وسَيَجْعَلُ على يَدَيهِ هَلاَكَ فِرعَونَ، ونَجَاةَ بَني إِسْرائِيلَ مِمَّا هُمْ فيهِ.
﴿آلُ﴾ ﴿َهَامَانَ﴾ ﴿خَاطِئِينَ﴾
(٨) - فَالتَقَطَتْهُ الجَوَارِي، وَحَمَلْنَهُ إِلى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَكَأَنَّهُ لُقَطَةٌ، فَأَوْقَعَ اللهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِها، وَقَدْ قَدَّرَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَتَربَّى مُوسَى في دَارِ فِرْعَوْنَ، وَعَلَى فِراشِهِ، لِيكُونَ عُدُوّاً لفرعَونَ وقَومِهِ، وِلتَحِلَّ بِهِم المُصِيبةُ عللا يديهِ، فَقَد كَانَ فِرعَونُ، وَوَزيرُهُ هَامَانُ، وجُنُودُهُما الذينَ لاَحَقُوا بني إِسْرائيلَ، والذِينَ كَانُوا أَداةَ الظُّلْمِ والإِرْهَابِ في يَدِ فِرْعَونَ، جَميعاً مِنْ مُرتكِبي الخَطَايا.
خَاطِئينَ - مُذنِبينَ، آثِمِينَ.
﴿امرأة﴾ ﴿قُرَّةُ﴾
(٩) - فَلَمّا رَآهُ فِرعَونُ هَمَّ بِقَتلِهِ خَوْفاً مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَني إِسْرائيلَ، فَأَخَذَتِ امرأَتُهُ تَسْتَعْطِفُهُ، فَقَالَتْ لَهُ: لاَ تَقْتُلْهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ قُرَّةَ عَيْن لي وَلَكَ، وَقَدْ يَنْفَعُنا أو نَتَّخِذُهُ وَلَداً وَنَتَبَنّاهُ، لأَنَّها لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ. فَقالَ فِرعَونَ إِنَّهُ قُرَّةُ عَيْنِ لَكِ لاَ لِي. فَكَانَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَدْرُونَ مَا أَرَادَهُ اللهُ مِنِ التِقاطِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الحِكْمَةِ العَظِيمَةِ البَالِغَةِ الدَّالةِ عَلى قَدْرَتِهِ تَعَالَى، وَلُفْهِهِ فِي تَهْيِئَةِ الأَسْبَابِ لِمَا يُرِيدُ (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).
قُرَّةُ عَيْنٍ - مَسَرَّةٌ وَفَرَحٌ.
﴿فَارِغاً﴾
(١٠) - يُخبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا ذَهَبَ وَلَدُهَا مَعَ المَاءِ أَصْبَحَ قَلْبُهَا خَالياً مِنْ كُلِّ أَمر مِنْ أُمُورِ الدُّنيا إِلاّ مِنَ التَّفْكِير فِيهِ، وَكَادَتْ مِنْ شِدَّةِ وَجْدها وحُزْنِهَا أَنْ تُعْلِنَ أَنَّ وَلَدَهَا ذَهَبَ مَعَ المَاءِ وَأن تُخبِرَ بَحَالِها، لولا أَنَّ اللهَ تَعالى ثَبَّتَها، وَصَبَّرَهَا، وَرَبَطَ عَلَى قَلْبِهَا، لِتكُونَ مِنَ المُوقِنينَ المُصَدِّقِينَ بأَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ سَيَرُدُّهُ عَلَيهَا.
فَارِغاً - خَالياً مِنْ كُلِّ مَا سِوَى مُوسَى.
لَتُبْدِي بِهِ - لَتُصَرِّح بأَنَّ ابنَها ذَهَبَ مَعَ المَاءِ لِشِدَّةِ وَجْدِها عَلَيه.
رَبَطْنَا - بِالعِصْمَةِ والصَّبْلاِ والتَّثْبِيتِ.
(١١) - فَقَالَتْ لاْبْنَتَها: قُصِّي أَثَر أَخيكِ، وَتَتَبَّعِي خَبَرَهُ، فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ، فَبَصُرَتْ بهِ عَنْ بُعدٍ بينَ يَدي جَواري آل فِرْعَون، وَهي تَتَجَنَّبُ ظُهُور أَمرِها، وَكَانَتْ تَنْظُر إِليه وَكَأَنَّهَا لاَ تُريدُ ذَلِكَ (عَنْ جُنُبٍ)، وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بِأَنَّها أُخْتُهُ، وَأَنَّها كانَتْ تَقُصًُّهُ وَتَتَعَرَّفُ حَالَهُ.
قُصَّيهِ - اتْبَعِي أَثَرَهُ وَتَعَرِّفي خَبَرَهُ.
عَنْ جُنُبٍ - مِنْ طَرَفٍ خفِيٍّ - أَوْ مِنْ مَكَانٍ بعيد.
﴿نَاصِحُونَ﴾
(١٢) - وَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى في دَارِ آلِ فِرْعَونَ، عَرَضُوا عَليهِ المَراضِعَ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَرْضَعَ مِنْ ثَدْيِ امرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَخَرجُوا بِهِ إِلى السُّوقِ لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ امرَأَةً تَصْلُحُ لإِرضَاعِهِ، فَلَمَّا رَاته أُختُهُ في أيدِيهِمْ عَرَفَتْهُ وَلم تُظْهِرْ ذَلِكَ، وَلَم يَشْعُرُوا بِها، فَقَالَتْ لَهُمْ: هَلْ تُريدُونَ أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلى أََهلِ بَيتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ حَافِظُونَ؟ فَذَهَبُوا مَعَهَا إِلى أَمِّهَا، فَأعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالتَقَمَهُ، فَفرحُوا بذلك، وَبَشَّرُوا امْرَأَةَ فِرْعُونَ، فَاسْتَدعَتْ أُمَّ مُوسَ، وأَحْسَنَتْ إِليها، وَهِيَ لاَ تَعرِفُ أَنَّها أُمُّهُ، ثُمَّ سَلأَلَتْها أَنْ تُقِيمَ عِندَهَا لتُرِضِعَهُ فَأَبتْ عَليها، وَقَالَتْ لَها إِنَّ لَهَا زَوْجاً وَأَولاَداً، فَسَمَحَتْ لَها امرَأَةُ فِرعَونَ بأَنْ تَأْخُذَهُ، إِلى بَيِتِها لِتُرْضِعَهُ، وَأَجْزَلَتْ لَهَا العَطَاءَ.
﴿فَرَدَدْنَاهُ﴾
(١٣) - فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِولَدِهَا رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، قَدْ أَبدَلَهَا اللهُ بِخَوْفِها عَلَيهِ أَمْناً، وَأَقَرَّ عَيْنَها فَلا تَحْزَنُ لِفِرَاقِهِ، ولِتَزْدَادَ عِلْماً بأَنَّ مَا وَعَدَهَا بِهِ رَبُّها، مِنْ رَدِّ وَلَدِها إليها، هُوَ وَعْدُ حَقٍّ، وَاللهُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَلكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْمَلمُونَ حِكْمَةَ اللهِ في أَفْعَالِهِ، وعَوَاقِبَها المَحْمُودَةَ، فَرُبَّمَا وَقَعَ الأَمرُ كَرِيهاً إِلى النُّفُوسِ، وَعَاقَبَتُهُ حَمِيدَةٌ.
﴿آتَيْنَاهُ﴾
(١٤) - وَلَمَّا بَلَغَ مُوسَى رُشْدَهُ، وَبَلَغَ حَدَّ الرّجُولَةِ، واسْتَكْمَلَ قُوتهُ البَدَنِيَّة، آتاهُ الله العِلْمَ والحِكْمَةَ، وَهذا جَزَاءُ المُحْسِنينَ عِنْدَ رَبِّهِم، الذِينَ يُطِيعُونَ أَمْرَهُ.
بَلَغَ أَشُدَّهُ - بَلَغَ مَبْلَغَ الرُّجُولَةِ.
اسْتَوَى -اعتَدَلَ عَقْلُهُ وَكَمُلَ.
﴿فاستغاثه﴾ ﴿الشيطان﴾
(١٥) - وَدَخَلَ مُوسَى مَدِينَةَ مِصْرَ في وَقتٍ كَانَتْ خَاليةً فِيهِ مِنْ أَهْلِهَا (وقِيلَ إِنَّهُ دَخَلَ في مُنْتَصَفِ النَّهَارِ وَقْتَ القَيلُولَةِ، وَقيلَ أيضاً إِنَّهُ دَخَلَ بَعْدَ الغُروبِ بَعدَ أَنِ انْصَرَفَ النَّاسُ مِنْ أعمَالِهِمْ إِلى بُيُوتِهِمْ)، فَوَجَدَ رَجُلَينِ يَقْتَتِلاَنِ وَيَتَضَارَبَانِ أَحَدُهُما إِسْرئِيليٌّ (مِنْ شِيعَتِهِ) والآخَرُ قِبْطِيٌّ (مِنْ عَدوِّهِ) فَاسْتَغَاثَ الإِسْرائيليُّ بمُوسى، فَضَرَبَ مُوسَى القِبْطِيَّ بُجْمعِ يَدِهِ، أَوْ بِعَصاً كَانَتْ في يِدِهِ (فَوَكَزَهُ) فَقَضَى عَليهِ. فَقالَ مُوسَى: هذا الذِي حَدَثَ هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ وتَزْيِينِهِ، وَهُوَ العَدُوُّ المُبِينُ للإِنسَانِ، فَينبَغي الحَذَرُ مِنْهُ.
وَكَزَهُ - ضَرَبَهُ بِجمعْ يَدِهِ فِي صَدْرِهِ.
(١٦) - فَاسْتَغَفَرَ مُوسَى رَبَّهُ، وَقَالَ إِنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِقْتْلِهِ الرَّجُلَ، فَغَفَرَ اللهُ لَهُ ذَنْبَهُ، وَعَفَا عَنْهُ. واللهُ هُوَ الغَفُورُ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، الرَّحيمُ بِهِمْ.
(١٧) - ثُمَّ قَالَ مُوسى: رَبِّ بِما جَعَلْتَ لِي مِنَ الجَاهِ والعِزِّ، وَبِما أَنْعَمْتَ عَلِيَّ بِعفُوِكَ عَنْ قَتْلِ هذِهِ النَّفْسِ، لأَمْتَنِعَنَّ عَنْ مِثْلِ هذا الفِعْلِ، وَلَنْ أَكُونَ عَوْناً لِلمُجْرِمينَ الكَافِرِينَ بِكَ، المُخَالِفينَ لأمْرِك، وَلَنْ أُظَاهِرَهُمْ عَلَى الإِثمِ والعُدْوَانِ.
ظَهيراً لِلمُجْرِمِينَ - مُعِيناً لَهُمْ
﴿خَآئِفاً﴾
(١٨) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى لَمَّا قَتَل القِبْطِيَّ أَصبَحَ خَائِفاً مِنْ مَعَرَّةِ مَا فَعَلَ، يَتَلَفَّتُ وَيَتَوقَّعُ مَا يَكُونُ مِنْ هذا الأمرِ (يَتَرَقَّبُ)، وَصَارَ يَتَحَسَّسُّ الأًَخبارَ، وَيَسْأَلُ عَمَّا يَتَحَدَّثُ بهِ النَّاسُ في مَوْضُوعِ قَتلِ القِبْطِّي، فَمَرَّ في بعَضِ الطُّرُقِ، فإِذا بالرَّجُلِ الإِسْرائيليِّ الذي استَنْصَرَهُ بالأَمسِ عَلَى ذَلِكَ القُبطيِّ، يُقاتِلُ رَجُلاً قِبطِياً آخرَ ويُخَاصِمُه، فلمَّا مَرَّ بهِ مُوسَى اسْتَصْرَخَهُ الإِسْرائيليُّ طَالباً عَوْنَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّكَ لَرجلٌ ظَاهِرٌ الغِواية، كثيرُ الشَّرِّ.
يَتَرَقَّبُ - يَتَوقَّعُ المَكْرُوهَ.
يَسْتَصِرخُهُ - يَسْتَغِيثُ بهِ مِنْ بُعْدٍ.
إنَّكَ لَغَوِيٌّ - ضَال عَنِ الرَّشَدِ.
﴿ياموسى﴾
(١٩) - ثُمَّ عَزَمَ مُوسَى عَلى البَطْشِ بِذَلِكَ القِبْطِيَّ، فَظَنَّ الإسرائيليُّ لِجُبِنِهِ، أَنَّ مُوسَى إِنَّما يُريدُ أنْ يَبْطِشَ بهِ هُوَ، وَذَلِكَ بَعدَما سَمِعَهُ مِنهُ مِنَ التَّقرِيع، فَقَالَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ: يَا مَوسى أَتريدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ ذَلِكَ القِبْطِيَّ يَومَ أِمسِ؟
فَلَمَا سَمِعَ القِبْطِيُّ هذا القَولَ ذَهَبَ بهِ إِلى فِرعَونَ يَشْكُو مُوسَى، فاشْتَدَّ حَنَقُ فِرعَونَ عَلَى مُوسى، وأَرسَلَ الذَّبَاحِينَ إِليهِ لِيقُتُلوهُ.
يَبْطِشَ - يَأْخُذَ بقُوَّةٍ وَعْنْفٍ.
﴿أَقْصَى﴾ ﴿ياموسى﴾ ﴿الناصحين﴾
(٢٠) - وَجَاءَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يكُتُمُ إِيمَانَهُ، يَعْرِفُ مُوسَى، وَقَدْ سَمِعَ مَا دَارَ مِنْ حَديثٍ بَينَ كُبَراءِ الدَّولَةِ (المَلأَ) فِي حضرةِ فِرعَونَ، وأَنَّ فرعَونَ أَرْسَلَ إِلى مُوسَى مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ، فَخَالَفَ الرَّجُلُ الطَّريقَ الذي ذَهَبَ فِيهِ رُسُلُ فِرْعَونَ، وأَسْرَعَ مِنْ طريقٍ آخرَ أَقْرَبَ، فالتَقى بمُوسَى، فقالَ لهُ إِنَّ فِرعَونَ وكُبَراءَ رِجَالِ دَوْلَتِهِ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ قَتلِكَ، جَزَاءَ مَا قَتَلْتَ ذلِكَ القِبْطِيَّ، فاخْرُجْ مِنَ البَلَدِ، وانْجُ بِنَفْسِكَ فَأَنا نَاصِحٌ لَكَ، مُخْلِصٌ في نَصِيحَتِي.
يَسْعَى - يُسرِعُ فِي المَشْيِ.
يَأْتُمِرُونَ بِكَ - يَتَشَاوَرُونَ فِي شَأْنِكَ.
﴿خَآئِفاً﴾ ﴿الظالمين﴾
(٢١) - فَخَرَجَ مُوسَى مِنْ مَدِينةِ فِرْعَونَ وَحْدَهُ، يَتَلَفَّتُ خَوْفَ أَنْ يُدْرِكُوهُ، وَهُوَ لَمْ يَأْلَفْ مِثْلَ تِلْكَ المَشَاقِّ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَجَمَاعَتِهِ (القومِ الظَّالِمينَ)، فَلاَ مَلْجَأَ لِلمْضْطَرِّ إِلاَّ إِليهِ تَعَالَى.
(٢٢) - ولَمَّا سَلَكَ الطَّريقَ المُوصِلَ إِلى مَدْيَنَ (وهيَ بَلْدَةٌ قَريبَةٌ مِنَ العَقْبَةِ) فَرِحَ بِذَلِكَ، وَقَالَ عَسَى أَنْ يَهْدِيني رَبِّي إِلى الطَّريقِ الأقَومِ، فَفَعَلَ اللهُ ذَلِكَ وَهَدَاهُ.
تِلْقَاءَ مَدْيَنَ - نَحْوَ مَدْيَنَ - وَجِهَتهَا.
سَواءَ السَّبِيل - الطَّريقَ الوَسَطَ الذي فيهِ النَّجَاةُ.
(٢٣) - فَلَمَّا وَصَلَ مُوسَى إِلى مَدْيَنَ وَرَدَ مَاءَهَا، وَكَانَ لَهَا بِئْرٌ يَرِدُهَا رُعَاةُ المَاشِيَةِ، فَوَجَدَ جَمَاعَةً منَ النَّاسِ يَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ وَوَجَدَ امْرأَتَينِ تَكَفْكِفَانِ غَنَمَهُمَا أَنْ تَرِدَ مَعَ أُولِئكَ الرّعَاةِ (أَيْ تَذُوَدَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الوُرُودِ (لئلاّ يُؤْذِيَهُمَا أَحدٌ، فَرَقَّ لَهُمَا قَلْبَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ، وَسَأَلهُمَا لِمَاذا لا تَرِدَانِ مَعَ النَّاس؟ فَقَالَتَا: إِنَّهُمَا لاَ تَسْتَطِيعَانِ مُزَاحَمَةَ الرُّعَاةِ، لِذَلِكَ فَإِنَّهُمَا تَنْتَظِرانِ حَتَّى يَخِفَّ الزِّحَامُ عَلَى البِئْرِ، وَيَذْهبَ الرُّعَاةُ بَمَواشِيهِمْ (يُصْدِرَ الرِّعَاءُ)، وَحِينئذٍ تَسْتَطِيعَانِ سَقْيَ أَغْنَامِهِمَا، وَهُمَا لَيْسَ لَهُمَا قَرِيبٌ ذَكَرٌ يَسْتَطِيعُ القِيَامَ بِمهمَّةِ السَّقْيِ، وَأَبُوهُمَا شَيخٌ كَبيرٌ لا يَحْتَمِلُ مِثْلَ هذهِ المَشَقَّةِ، لِذَلِكَ تَقُومَانِ هُمَا بِهَا.
تَذُودَانِ - تَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنْ وُرُودِ المَاءِ.
مَا خَطْبُكُمَا - مَا شَأْنُكُمَا وَمَا مَطْلُوبُكُمَا.
يُصْدِرَ الررِّعَاءُ - يَنءصِرِفَ الرُّعاةُ بِمَوَاشِيهِمْ عَنِ المَاءِ.
(٢٤) - فَتَولَّى مُوسَى السَّقْيَ لَهُمَا، ثُمَّ جَلَسَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ هُنَاكَ يَسْتَرِيحُ، وَقَالَ: رَبِّ إِني لَمُحْتَاجٌ إِلى شَيءٍ تُنْزِلُهُ إِلَيَّ مِنْ خَزَائِن جُودِكَ وَكَرَمِكَ.
(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مُوسى افْتَقَرَ إِلى شِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَصِقَ بَطْنُهُ بِظَهْرِهِ مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ، فَجَاءَهُ الفَرَجُ مِنَ اللهِ تَعَالى).
﴿إِحْدَاهُمَا﴾ ﴿الظالمين﴾
(٢٥) - وَلَمَّا رَجَعَتِ المَرأَتانِ إِلى أَبِيهِمَا بِالغَنَمِ سَرِيعاً عَلَى غَيرِ عَادَتِهِما، سَأَلَهُما عَنْ خَبرِهِما، فَقَصَّتَا عَليهِ مَا فَعَلَهُ مُوسَى عَليه السَّلامُ، فَبَعَثَ إِحدَاهُما لِتَدْعُوَه إِليه. فَجَاءَتْهُ تَمْشِي عَلى اسْتِحياءٍ (أَيْ وهَي مُسْتَحْيِيَةٌ مُتَسَتِّرةٌ) فَقَالَتْ لَهُ مُتَأَدِّبَةً في حَدِيثَها، لِكَيلا يَظُنَّ فِيها السُّوءَ: إِن أَبَاهَا يَدْعُوُ لِيُكَافِئَهُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ لابنَتَيهِ في سَقْي الغَنَمِ، فَسَارَ أَمَامَها، وَهِيَ تَسِيرُ خَلْفَهُ، حَتَّى أَتيا إِلى أَبيها.
وَلَمَّا قَصَّ عَليهِ مُوسَى قِصَّةَ هَرَبِهِ مِنْ فِرْعَونَ، قَالَ الرَّجُلُ (وَقيلَ إِنَّهُ شُعَيْبٌ عَليهِ السَّلامُ) : لاَ تَخَفْ فَقَدْ نَجَوتَ مِنْ فِرْعَونَ وَقَومِهِ الظَّالِمينَ، لأنَّ فِرعَونَ لا سُلْطَانَ لَهُ في هذِهِ الأَرضِ.
﴿إِحْدَاهُمَا﴾ ﴿ياأبت﴾ ﴿استأجره﴾ ﴿استأجرت﴾
(٢٦) - فَقَالَتْ إِحدَى ابنَتَيِ الرَّجُلِ لأَبِيها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ لِرَعيِ الغَنَمِ، فَهُوَ خَيرُ مَنْ يُسْتَأْجَرُ لِمِثْلِ هذِهِ المهمَّةِ فَهوَ قَويٌّ أَمينٌ.
(وقِيلَ إِنَّ أَبَاهَا سَأَلَها: وَكَيفَ عَرَفْتَ أَنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ؟ فَقَالَتْ أَمّا إِنَّهُ قَوِيٌّ فَقَدْ رَفَعَ صَخْرَةً تُغَطِّي فُوَّهَةَ البِئْرِ وَحْدَهُ، وَهِيَ لا يُطِيقُ رَفْعَهَا عَشَرَةُ رِجَالٍ. وأَمَّ إِنَّهُ أَمِينٌ فَقَدْ طَلَبَ أنْ يَتَقَدَّمَني فإِذا اختلَفَتَ الطَّريقُ حَذَفْتُ لَهُ بِحَصَاةٍ يَعْلَمُ بِها كَيفَ الطَّريقُ وذلِكَ لِكَيلا يَسِيرَ وَرَاءَهَا، وَيْنْظُرَ إِلى جِسْمِهَا).
﴿هَاتَيْنِ﴾ ﴿ثَمَانِيَ﴾ ﴿الصَّالِحِينَ﴾
(٢٧) - فَقَالَ الرَّجُلُ لِمُوسَى: إِنَّهُ يُريدُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إِحْدَى انَتَيهِ عَلى أَنْ يَكُونَ مَهْرُها أَنْ يَعْمَلَ مُوسَى لَديهِ، فِي رَعْي الغَنَمِ، مُدَّةَ ثَمانِي سَنَواتٍ، فَإِنْ تَبرَّعَ مُوسَى سَنَتِينِ أُخْرَيَيْنِ فَذَلِكَ إِحسَانٌ مِنْهُ، وإِلاَّ ففِي الثَّمَاني كِفَايَةٌ. ثُمَّ قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنَّهُ لا يُريدُ أَنْ يَشُقَّ عَليهِ بِفَرْضِ أَطْولِ الأَجَلَينِ، وَلا أَن يُؤذِيَهُ، وَلاَ أَنْ يُمَارِيَهُ، وإِنَّهُ سَيَجِدُهُ مِنَ الصَّالِحِين الذينَ يَتَقَيَّدُونَ بِشُرُوطِهِمْ وَعُهُودِهِمْ إِنْ شَاءَ اللهُ.
تَأْجُرَنِي - تَكُونَ لِي أَجِيراً فِي رَعْيِ الأَغْنَامِ.
حِجَجٍ - سِنينَ.
﴿عُدْوَانَ﴾
(٢٨) - فَقَالَ مُوسَى لِصِهْرِهِ: الأَمرُ كَمَا قُلْتَ مِنْ أَنَّكَ اسْتَأْجَرْتَني عَلَى ثَمَاني سِنينَ، فَإِنْ أَتْمَمْتُ عَشْراً مِنَ العَمَلِ فَذَلِكَ تَطَوُّعٌ مِني، وَأَنا مَتى عَمِلْتُ أَقَلَّ الأَجَلَينِ بَرِئَتْ ذِمَّتِي مِنَ العَهْدِ، وَحَقَّقْتُ الشَّرْطَ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ (فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ)، ثُمَّ تَوَكَّلا عَلَى اللهِ، تَأْكِيداً للعَفْدِ.
(وَيَقُولُ ابْنُ عَبَاسٍ: إِنَّ مُوسَى قَضَى عَشْرَ سِنينَ عِنْدَ الرَّجُلِ لأَنَّ رَسُولَ اللهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ.
﴿آنَسَ﴾ ﴿آنَسْتُ﴾ ﴿آتِيكُمْ﴾
(٢٩) - فَلَمَّا أَوْفَى مُوسَى الأَجَلَ المُتَّفَقَ عَلَيهِ، سَارَ بأَهْلِهِ مِنْ مَدْيَنَ باتَّجَاهِ مِصْرَ، لِزِيَارَةِ أَهلِهِ خِفْيَةً مِنْ فِرْعَوْنَ، فَسَلَكَ بِهِم فِي لَيلَةٍ مَطِيرَةٍ حَالِكَةِ الظَّلامِ، شَدِيدَةِ البَرْدِ، فَنَزَلَ مَنْزِلاً، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَوْرَى زَنْدَهُ، لا يَظْهَرُ منْهُ شَرَرٌ، فَتَعَجَّبَ. فَبَينَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ رَاَى نَاراً تُضِيءُ عَنْ بُعدٍ مِنْ جَانِبِ جَبَل الطُّورِ، فَقَالَ لأَهِلِهِ: ابقُوا حَيْثُ أَنْتُمْ (امْكُثُوا) حَتَّى أَذْهَبَ إِلى النَّارِ لَعَلِّي أَسَْلُ مَنْ عَلَيها مِنَ النَّاسِ عَنِ الطَّرِيقِ، أَوْ آتِيكُمْ بِقَبَسٍ مِنَ النَّارِ (جَذْوَةٍ أو قِطْعَةٍ) أَوقِدُ لَكُمْ بِهِ نَاراً تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا.
آنَسَ - أَبْصَرَ بِوُضُوحٍ.
جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ - عُودٍ فيهِ نَارٌ، بِلاَ لَهَبٍ.
تَصْطَلُونَ - تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا مِنَ البَرْدِ.
﴿أَتَاهَا﴾ ﴿شَاطِىءِ﴾ ﴿الوادي﴾ ﴿المباركة﴾ ﴿ياموسى﴾ ﴿العالمين﴾
(٣٠) - فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى النَّارَ التِي أَبْصَرَهَا عَنْ بُعْدٍ نُودِي مِنْ جَانِبِ الوَادي، (مِمَّا يَلِي الجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ، مِنْ نَاحِيَةِ الغَرْبِ، كَمَا جَاءَ في آيةِ أُخرى) - فَلَمَّا اقتَرَبَ مُوسَى وَجَدَ النَّارَ تَشْتَعِلُ في شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ في لِحْفِ جبلٍ، مِمَّا يَلِي الوَادِي، فَوقَفَ مُوسَى بَاهِتاً مُتَحَيِّراً في أَمرِها، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: إِنَّ الذِي يُكَلِّمًكَ هُوَ اللهُ رَبُّكَ وَرَبُّ العَالَمِينَ، الفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ.
﴿رَآهَا﴾ ﴿ياموسى﴾ ﴿الآمنين﴾
(٣١) - ثُمَّ أَمرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى قَائِلاً: أَلْقِ عَصَاكَ التِي هِيَ فِي يَدِكَ اليُمْنَى، فَأَلْقَاهَا فإِذا هِيَ تَهْتَزُّ بِحَرَكَةٍ سَرِيعَةٍ كَأَنَّها جَانٌّ مِنَ الحَيَّاتِ، فَخَافَ مُوسَى، وَوَلَّى مُدْبِراً، وَلَمْ يَلْتَفِتْ (وَلَمْ يُعَقِّبْ)، فَقَالَ لَهُ اللهُ تَعَالى: ارجِعُ إلى المَكَانِ الذِي كُنْتَ تَقِفُ فِيه أولاً، ولا تَخَفْ فَلَنْ يُصِيبَكَ أذىً مِنها فهيَ عَصَاكَ، أردْنا أَنْ نُرِيَكَ فِيها آيةً كُبرَى، لِتَكُونَ عَوْناً لَكَ حِينَما تَذهَبُ إِلى فِرعَونَ، وَتَدعُوهُ إِلى عِبَادَةِ اللهِ
فَرَجَعَ مُوسَى وَوَقَفَ حَيْثُ كَانَ يَقِفُ.
تَهْتَزُّ - تَتَحرَّكُ بِشِدَّةٍ واضْطِرابٍ.
كَأَنَّها جَانٌّ - حَيَّةٌ خَفيفَةٌ في سُرْعَتِهَا وَحَرَكَتِها.
لَم يُعَقَّبْ - لَمْ يَرْجِعْ عَلى عَقِبَيهِ أوْ لَمْ يَلْتَفِتْ.
﴿فَذَانِكَ﴾ ﴿بُرْهَانَانِ﴾ ﴿َمَلَئِهِ﴾ ﴿فَاسِقِينَ﴾
(٣٢) - وَقَالَ اللهُ تَعَالى لِمُوسَى: أَدْخِلْ يَدَكَ في فَتْحَةِ ثَوبِكَ عِنْدَ الصَّدرِ (جَيْبِكَ) فَإِنَّها سَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ تَتَلأْلأُ مِنْ غَيرِ سُوءٍ وَلا مَرَضٍ، فَفَعَلَ فَخَرَجَتْ بَيْضَاءَ، ثُمَّ عَادَ فَأَدْخَلَهَا، فَعَادَتْ إِلى خِلْقَتِهَا الأُولى. ثُمَّ أَمَرَخُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَضُمَّ إِليهِ جَنَاحَهُ (عَضُدَهُ - أَو يَدَهُ) إِذا شَعَرَ بِخَوْفٍ فَيزُولَ الخَوفُ عنْهُ.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِمُوسَى إِنَّهُ جَعَلَ العَصَا حَيَّةً تَسْعَى، وَجَعَلَ يَدَهُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيرِ سُوءٍ إِذا أًَدْخَلَها فِي جَيبهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ آيةً وبُرهَاناً لَهُ مِنْ رَبِّه، عَلى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مَنْ جَرَتْ هَاتَانِ الخَارقَتَانِ عَلَى يَديهِ.
ثُمَّ أَمَرهُ اللهُ تَعَالى بِأَنْ يَتَوجَّهَ بِهَاتَينِ الآيَتَيْنِ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَومِهِ لِيَدْعُوَهُمْ إِلى عِبادَةِ اللهِ تَعَالى، وإِلى الإِيمانِ بهِ، لأَنَّهُمْ قَومٌ ظَالِمُونَ، فَاسِقُونَ، خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ.
(٣٣) - فَقَالَ مُوسَى لِرَبِّهِ: إِنَّهُ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ يَخَافُ إِنْ ذَهَبَ إِليهِمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ بِذَلِكَ الرَّجُلِ.
﴿هَارُونُ﴾
(٣٤) - وَكانَ في لِسَانِ مُوسَى لُثغَةٌ يَجِدُ مَعَها صُعُوبةً في التَّعبيرِ، فَقَالَ لِرَبِّهِ إِنَّ أَخَاهُ هارُونَ أفْصَحُ مِنْهُ لِسَاناً، ورَجا رَبَّهُ أَنْ يُرسِلَهُ مَعَهُ لِيتَولّى التَّعبيرَ عنهُ، نَظَراً لفَصَاحَتِهِ، وَلِيُصَدِّقَهُ ويُؤَيِّدَهُ إِذا كَذَّبهُ فِرعَونُ وَقَوْمُهُ.
رِدْءاً - عَوْناً ومُؤَيِّداً.
﴿سُلْطَاناً﴾ ﴿بِآيَاتِنَآ﴾ ﴿الغالبون﴾
(٣٥) - فَأَجَابَهُ اللهُ تَعَالى إِنَّهُ سَيُقَوِّي أَمْرَهُ وَيُعِزُّ جَانِبَهَ بأَخِيهِ هَارُونَ، فَيَجْعَلُه نَبيّاً كَما سَأَلَ، وَسَيَجْعَلُ لَهُما قُوةً وحُجَّةً قَاهِرَةً (سُلْطَاناً) فلا يَسْتطيعُ فِرعَونُ وَمَلَؤُهُ الاعتِدَاءَ عَلَيهمَا حِينما يُبَلِّغَانِهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ. وَطَمْأَنَهُ تَعَالى إِلى أَنَّهُ وأَخَاهُ وَمَنْ آمَنَ لَهُمَا سَتكُونَ الغَلَبَةُ لَهُمْ عَلَى فِرْعَونَ وَقَوْمِهِ.
سَنَشُدُّ عَضُدَكَ - سَنُقَوِّيكَ ونُعِينُكَ.
سُلْطَاناً - حُجَّةً أَوْ تَسَلُّطاً وَغَلَبَةً.
﴿بِآيَاتِنَا﴾ ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ ﴿آبَآئِنَا﴾
(٣٦) - فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى وَهَارُونَ إِلى فِرْعَونَ وَمَلَئِهِ، وَعَرَضَا عَلَيهِمْ ما آتاهُما اللهُ مِنَ المُعْجِزَاتِ البَاهِرَاتِ، والدَّلاَلاَتِ القَاهِرَاتِ على صِدْقِهِما، لَمْ يَجِدْ فِرْعَونُ وَمَنْ مَعَهُ مَت يَدْحَضُونَ بِهِ بَراهينَ اللهِ وَحُجَجَهُ، فَعَدَلُوا إِلى العِنادِ والمُبَاهَتَةِ استِكْبَاراً مِنْهُم عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ، فَقَالُوا: مَا هذا الذِي جَاءَ بِهِ هذا إٍِلاَّ سِحْرٌ مُفَتَعَلٌ وَمَصْنُوعٌ (مُفْتَرىً) ؛ وَقَالُوا إِنهُم لَمْ يَسْمَعُوا فيما تَنَاقَلُوه عَنْ آبائِهِمِ الأَوَّلِينَ أَنَّ أَحَداً عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُشْرِكْ بهِ شَيئاً.
مُفْتَرىً - يَنْسُبُهُ إِلى اللهِ كَذِباً.
﴿عَاقِبَةُ﴾ ﴿الظالمون﴾
(٣٧) - فَأَجَابَهُمْ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ بقَولِهِ: إِنَّ رَبي يَعْلَمُ أَنِّي جِئْتُ بِالحَقِّ والهُدَى مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ العَاقِبةَ الحَميِدَةَ سَتكُونُ لأَولِيَائِهِ وأَنْبِيَائِهِ والمُؤمِنينَ بِهِ، وأَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لاَ يُفْلِحُونَ أبداً، وَلاَ يُدرِكُونَ طُلْبَتَهُمْ وَبُغْيَتَهُمْ.
﴿ياأيها﴾ ﴿ياهامان﴾ ﴿الكاذبين﴾
(٣٨) - كَانَ فِرعَوْنُ يَدَّعِي الأُلُوهِيَّةَ، وَقَدْ حَمَلَ قَومَهُ عَلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ مُوسَى وَهَارُونُ يَدْعُوَانِهِ إِلى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى، وَيُحَذِّرَانِهِ عِقَابَهُ وَعَذَابَهُ إِنِّ استَمَرَّ في كُفْرِهِ وطُغَيانِهِ، َخَذَ في المَكَابَرَةِ والمُعَانَدَةِ، وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ كِبَارِ رِجَالِ دَولتِهِ: إِنَّهُ لاَ يَعرفُ لقومِهِ إِلهاً غيرَهُ هُوَ. وَقَالَ لِمُوسَى فِي آيةٍ أُخْرى: ﴿لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين﴾ ثُمَّ أَمرَ وَزيرَهُ هَامَانَ بأنْ يُوقِدَ النَّارَ لِيَشْوِيَ الطِّينَ، وَيَجْعَلَ مِنْهُ آجُرّاً لإِشَادَةِ قَصْرٍ شَامِخٍ لَهُ (صَرْحاً)، يَصْعَدُ إليهِ فِرْعَونُ لِيَرى إِلهَ مُوسَى. ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ يَعْتَقِد أَنَّ موسَى مِنَ الكَاذِبينَ فِيما يدِّعِيهِ مِنْ أًَنَّ له إلهاً فِي السَّمَاءِ يَنْصُرُهُ ويُؤَيِّدُهُ، وَهُوَ الذي أَرْسَلَهُ إليهِ. وَكَانَ فِرْعَونُ يَرْمِي مِنْ هذا القَوْلِ إِلى تَخفِيفِ أَثَرِ الآياتِ التي جَاءَ بِها مُوسىَ وَهارُونَ، في نُفُوسِ رَعِيَّتِهِ.
صَرْحاً - قَصْراً أَوْ بِنَاءً عَالياً مكشوفاً.
(٣٩) - وَطَغَى فِرْعَونُ وَمَلَؤُهُ وَجُنُودَهُ في أَرْضِ مِصْرَ، وَتَجَبَّروا، وَأَكْثَروا فِيها الفَسَادَ، واعتَقَدُوا أَنَّهُ لا قِيَامَةَ وَلاَ حَشْرَ وَلاَ مَعَادَ، وَلاَ رَجْعَةَ إِلى اللهِ، وَلا حِسَابَ لَهُمْ عَلى عَمَلِهِم السَّيءِ، واعتِقادِهِم الفَاسِدِ.
﴿فَأَخَذْنَاهُ﴾ ﴿فَنَبَذْنَاهُمْ﴾ ﴿عَاقِبَةُ﴾ ﴿الظالمين﴾
(٤٠) - فَجَمَعَ اللهُ تَعَالَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، وأَغْرَقَهُمْ في البَحْرِ في صَبيحَةِ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أًحَداً. فانظُرْ أَيُّها المُعْتَبِرُ بالآيَاتِ كَيفَ كَانَ أَمرُ هؤلاءِ الذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَهذِهِ هِيَ عَاقِبَةُ الكُفرِ والبَغْيِ والظُّلْمِ.
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليمِّ - ألقَيْنَاهُمْ وأَغْرَقْنَاهُمْ في البَحْرِ.
﴿جَعَلْنَاهُمْ﴾ ﴿أَئِمَّةً﴾ ﴿القيامة﴾
(٤١) - وَجَعَلَ اللهُ فِرْعَونَ وَقَوْمَهُ أَئِمَّةً، يَقْتَدِي بِهِمْ أهلُ العُتُوِّ والكُفْرِ والضَّلاَلِ، فَهُمْ يَبْحَثُونَ عَن الشُّرُورِ والمَعَاصِي، التي تُلقِي بِصَاحِبهِا في النَّارِ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ تَعَالى مَصِيرَ مَنْ يَتْبَعُهُمْ، وَيَقْتَدِي بِهِمْ في الكُفْرِ، وتَكْذِيبِ الرُّسُل مِثْل مَصيرِهِمْ في نَارِ جَهَنَّمَ، وَلا يَجِدُونَ أَحَداً يَنْصُرُهُمْ يومَ القِيَامَةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيِهِمْ خِزْيُ الدُّنيا، مُتَّصِلاً بِذُلِّ الآخِرَةِ.
(٤٢) - وأَلْزَمَ اللهُ تَعَالَى فِرْعَونَ وَقَومَهُ في هذِهِ الدُّنيا خِزْياً وَطَرداً مِنْ رَحْمَتِهِ (لَعْنَةً)، ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالبَوارِ والهَلاَكِ، وسُوء الأُحْدُوثَةِ، وسَيُتْبِعُهُمْ لَعنَةً أُخْرى يَومَ القِيَامَةِ، وَيُذِلُّهُم ويُخْزِيهِمْ خِزْياً دَائماً مُسْتَمِرّاً لا فكَاكَ لَهُمْ مِنْهُ.
لَعْنَةً - طَرْداً أَوْ إِبْعَاداً مِنَ الرَّحْمَةِ.
مِنَ المَقْبُوحِينَ - المُبْعَدِينَ أَوِ المُشَوَّهِينَ في الخِلْقَةِ.
﴿آتَيْنَا﴾ ﴿الكتاب﴾ ﴿بَصَآئِرَ﴾
(٤٣) - وَلَقَدْ أَنزَلَ اللهُ تَعَالى التَّورَاةَ عَلَى مُوسَى بعدَ أَنْ أَهْلَكَ المُكَذِّبينَ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقةِ، لتكونَ نُوراً للقُلُوبِ المُظْلِمَةِ، بَعْدَ أَنْ دَرَسَتْ مَعَالِمُ الشَّريعةِ التي جَاءَهُمْ بِها الأَنبياءُ السَّابِقُونَ، وَسَادَ الفَسَادُ في العَالَمِ، وَفَشَ الشَّرُّ بَينَ النَّاسِ، فَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلى تَشرِيعٍ جَدِيدٍ يُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ عَقَائِدِهِمْ، وأَفْعَالِهِمْ، بِتَقريرِ أُصُولٍ في ذلِكَ التَّشرِيعِ، تَبْقَى أَبَدَ الدَّهْلاِ، وتَرتِيبِ فُروعٍ تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ العُصُورِ، واخْتِلافِ أحوَال النَّاس. وَفِي التَّورَاةِ تَذكِيرٌ بأحوالِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ، لِيَكُونَ ذلِكَ عِبرةً لِلنَّاسِ، لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ بِما نَزَلَ بِهؤُلاءِ، فَيُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ والتَّكذِيبِ.
القُرونَ الأولى - الأُمَمَ المَاضِيَةَ المُكَذِّبَةَ.
بَصَائِرَ للنَّاسِ - أَنْواراً لِقُلُوبِهِمْ تُبْصِرُ بِهَا.
﴿الشاهدين﴾
(٤٤) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالى النَّاسَ إِلى البُرهَانِ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، إِذْ أَخْبَرَ عَنْ أَمورٍ حَدَثتْ في سَالِفِ الأَزْمَانِ لَمْ يَكُن العَرَبُ يَعْرِفُونَها، وقَصَّها الرَّسُولُ الكَريمُ بِتَفَصِيلِهَا وَهُوَ رَجُلٌ أُميٌّ لا يَقْرَأُ وَلا يَكْتُبُ، وأَشَارَ اللهُ تَعالى إِلى هذا الأَمرِ بَعدَ عَدَدٍ مِنَ القصَصِ المُتَعَلِّقَةِ بالأَولِينَ مَعَ أَنبِيائِهِمْ، وَرَدَتْ في القُرآنِ: مِثْلِ قِصَّةِ نُوحٍ، ومَريَمَ، وَيُوسُفَ. وهنا يَقُولُ تَعالى لِنَبيِّهِ: إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لم تَكُنْ في الجَانِبِ الغَربيَّ من الوَادِي حِينَمَا كَلَّمَ اللهُ تَعالى مُوسَى مِنَ الشَّجَرةِ عَلَى شَاطِئِ الوَادِي، وَلمْ تَكُنْ مُشَاهِداً لِشَيءٍ مِمَّا وَقَعَ، لكِنَّ الله أَوْحَاهُ إِليكَ، وَأَخْبَرَكَ بهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً وبُرهَاناً على صِدْقِ نُبُوَّتِكَ.
قَضَيْنا - عَهدْنَا.
﴿تَتْلُو﴾ ﴿آيَاتِنَا﴾
(٤٥) - وَلكِنَّ الله تَعالى خَلَقَ أجيالاً كَثيرةً طَالَ عَليها الزَّمَنُ فَنَسُوا ما أَخَذَهُ اللهُ عَلَيهِمِ مِنَ العُهُودِ والمَواثِيقِ، وَدَرَسَتِ العُلُومُ، وتَشَوَّهَتِ الشَّرائِعُ فَوَجَبَ إرسَالُ مُحَمَّدٍ إِلى النَّاسِ ليُخرِجَهُمْ منَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ، بإِذْنِ رَبِّهِمْ، وَقَدْ أَوْحَى اللهِ إِليهِ بقَصَصِ الأَنْبِياءَ، وبأَخبَارِ الأُمَمِ السَّالِفَةِ التي دَمَّرَهَا الله، ليَكُونَ ذَلِكَ دَلاَلَةً لَهُ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ، فَهُوَ رَجُلٌ أُمِيٌّ لاَ يَقْرلأُ وَلا يَكْتُبُ، وقَومُهُ أُمِّيُّونَ لا يَعرِفُونَ شَيئاً مِنْ هذه القَصَصِ فإِخْبَارُهُ بِها عَلى الشَّكلِ الذِي وَقَعَتْ فيهِ، دَليلٌ على أَنَّه أُوحِيَ إِليهِ بِها مِنَ اللهِ تَعَالى.
ثُمَّ يَقُولُ اللهِ لِنَبِيِّهِ ﷺ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقِيماً بَيْنَ أهلِ مَدْينَ (ثَوِياً) يَتَتَبَّعُ أَخْبَارَهُمْ، وَيَتَعَرَّفُ مِنْهُمْ عَلى أخْبَارِ شُعِيبٍ عليه السَّلامُ، وَقومِهِ، لِيرَوِيَها بالشًَّكْلِ الصَّحيحِ الذِي وَقَعَتْ عَلَيهِ.
ثَاوياً - مُقِيماً.
﴿أَتَاهُم﴾
(٤٦) - وَلِمَ تَكُنْ أَنتَ يا مُحَمَّدُ بِجَانِبِ الطُّورِ لَيلَةَ المُنَاجَاةِ، إِذْ نَادَينا مُوسى، وَلَم تَشْهدَ شَيئاً مِمَّا حَدَث لتَستَطيعَ رَوَايَتَهُ للنَّاسِ رِوايةَ الخَبِيرِ العَالِمِ، ولكِنَّ اللهَ أَوْحَاهُ إِليكَ، وأَخبرَكَ بهِ رَحمَةً منْهُ بِكَ وبِالعَبَادِ، إذ أرسَلَكَ إِلى قَومٍ - هُمُ العَرَبُ - لَمْ يَسْبِقْ أَنْ أَتَاهُمْ قَبلَكَ نَذِيرٌ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بمَا جِئْتَهُمْ بهِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
﴿آيَاتِكَ﴾
(٤٧) - وَلَم نَشَأْ أَنْ نُنْزِلَ عَذَاباً بِقَومِكَ هؤلاءِ، قَبلَ أَنْ نُرِسلَ إليهِمْ رَسُولاً يَدْعُوهُم إِلى الله، وَيُبِيِّنُ لَهُمْ شَرْعَ الله وَأَوامِرَهِ، لِكَيلا يَحتَجُّوا بأَنَّهُم لم يَأْتِيهم رَسُولٌ ولاَ مُنْذِرٌ. وَلِكَيلا يَقُولُوا رَبَّنا لَوْ أَرْسَلَتْ إِلينَا رَسُولاً يُبَيِّنُ لنا لاتَّبَعْنَاهُ، ولآمنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَا رَسُولَك.
﴿تَظَاهَرَا﴾ ﴿كَافِرُونَ﴾
(٤٨) - فَلَمَّا أَرسَلَ اللهُ تَعَالى إِليهِم مُحَمَّداً رَسُولاً، قَالَ هؤلاءِ الكُفَّارُ على وجهِ التَّعَنُّتِ، والعِنَادِ، والكُّفرِ، والإِلحَادِ: هَلاَّ جَاءَ بِمُعْجِزَةٍ مِثَلمَا جَاءَ عَلى يَدي مُوسَى (كالعَصَا واليَدِ...)، وقدْ جَاءَ مُوسى بِكُلِّ هذهِ الآياتِ العَظِيمَةِ إِلى فِرْعَونَ ومَلَئِهِ، فَلَم يُؤْمِنُوا، وكَفَروا واسْتَكْبَرُوا كَمَا كَفَرَ كَثيرٌ مِنَ البَشَرِ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الآياتِ، وقَالُوا لِمُوسَى وَهَارُونَ: إِنَّهُما سَاحِرَانَ تَعَاوَنَا وتَنَاصَرا، وَصَدَّقَ كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ، وأَعلَنُوا كُفْرَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى وَهَارُونَ.
(وَقيلَ بَلِ المَقْصُودُ بِقَولِهِمْ سِحْرانِ تَظَاهَرَا وَتَعَاوَنَا التَّورَاةُ والقُرآنُ، وقِيلَ بَلْ مُوسَى وَمُحَمَّدٌ).
﴿بِكِتَابٍ﴾ ﴿صَادِقِينَ﴾
(٤٩) - كَثيراً مَا يَقْرِنُ اللهُ تَعَلاى ذِكْرَ التَّورَاةِ بِذِكْرِ القُرآنِ، وَهُنَا يَقُول مُخَاطِباً نَبِيَّهُ ﷺ، قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ المًُكَذّبينَ: أئتُونَا بِكتابٍ مُنْزَلٍ مِنْ عندِ اللهِ يَكُونُ أَكثَرَ هِدَايةً مِنَ التَّورَاةِ والقُرآنِ، لأترُكَهُما وأَتَبَعَهُ، هذا إِنْ كُنتُمْ صَادِقينَ فيما تَقُولُونَ مِنْ أَنَّ اللهُ أَنْزَلَ خَيْراً مِنْهُما، وأَكْثَرَ وضُوحاً وتَفْصِيلاً.
﴿هَوَاهُ﴾ ﴿الظالمين﴾
(٥٠) - فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا طَلَبتَهُ مِنْهُمْ مِنَ الإِتيَانِ بكِتَابٍ أَهْدَى مِنَ التَّورَاةِ والقُرآنِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا الحَقَّ فاعْلَمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ، واللهُ تَعَالى لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ، وَلا يُوفِّقُهُمْ إِلى اتِّبَاعِ سَبِيلِ الحَقِّ والرَّشَادِ.
(٥١) - وَلَقدْ فَصَّلَ اللهُ تَعَالَى لَهُمُ الآيَاتِ، وأَنزلَ إِلَيهِمِ القُرآنَ مُتُواصِلاً بَعْضَهُ إِثرَ بَعْضٍ، حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ الحَاجَةُ (وَصَّلْنَا لَهُمُ القَوْلَ) وأَخْبَرَهُمْ بِمَا صنعَ بِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ المُكَذِّبِينَ، وَبِمَا سَيَصْنَعُهُ بِهِمْ إِنِ استَمَرُّوا عَلى كُفْرِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ - لَعلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَيرتَدِعُوا، وَيَعُودُوا إِلى الحَقِّ.
وَصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ - أَنَزلْنَا عَلَيهِمِ القُرآنَ مُتَوَاصِلاً مُتَتَابِعاً.
﴿آتَيْنَاهُمُ﴾ ﴿الكتاب﴾
(٥٢) - والذِينَ آمَنُوا بالتَّورَاةِ والإِنْجِيلِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ثُمًَّ أَدرَكُوا مُحَمَّداً، يُؤِمِنُونَ بالقُرآنِ لأَنَّهُمْ يَجِدُونَ في كُتُبِهِم البُشْرى بِهِ، وانطبَاقَ الأَوصَافِ عليهِ، وإذا تُليَ عَلَيهِمْ هذا القُرآنُ قَالُوا: صَدَّقْنا بِأَنَّهُ أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا حَقّاً وَصِدْقاً.
(وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِنَّ هذِهِ الآيةَ نَزَلَتْ في سَبعِينَ مِنَ القِسِّيسِينَ بَعَثَهُمُ النجَّاشِيُّ فَلَما قَدِمُوا عَلَى الرَّسُولِ ﷺ، قَرأَ عَلَيهِمْ سُورَةَ (يس) فَبَكَوْا وأَسْلَمُوا).
﴿آمَنَّا﴾
(٥٣) - وإِذا تُلِي عَلَيهِم القُرآنُ قَالُوا: آمَنَّا بأَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّنا وَقَدْ أَسْلَمْنا إِلى رَبِّنا، وَكُنّا مُوَحِّدِينَ مُخْلِصِينَ للهِ، مُسْتَجِيبِينَ لَهُ، قَبلَ أَنْ نَسْمَعَ هذا القُرآنَ، لأَنَّنا وَجَدْنا في كُتُبِنا نَعْتَ مَحَمَّدٍ، وَنَعْتَ كِتَابِهِ، لِذَلِكَ آمنَّا بِهِ قَبلَ نُزُولِهِ.
﴿أولئك﴾ ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾ ﴿يَدْرَؤُنَ﴾
(٥٤) - وَالذينَ آمنُوا بالكِتَابِ الأَوَّلِ، ثُمَّ آمنُوا بالقُرآنِ، سَيُؤْتِيهِم اللهُ أَجْرَهُمْ مَرَّتَين، جَزَاءً لهُم عَلَى صَبْرِهِمْ على اتِّباع الحَقِّ، وَعَلَى الإِيمَانِ بِكِتَابِهِمْ أَوَّلاَ، ثُمًَّ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِالقُرآنِ، لأَنَّ اتِّبَاعَ الحَقِّ فيهِ مَشَقَّةٌ على النُّفُوسِ. وَيَتَّصِفُ هؤلاءِ الذينَ آمنُوا بِكِتَابِهِمْ، ثُمَّ آمنُوا بالقُرآنِ بأَنَّهمْ لا يُقَابِلُونَ السِّيِّئَةَ بِمِثْلِهِا، وإنَّما يَعفُونَ ويَصْفَحُونَ، ويُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله مِنَ الرِّزْقِ الحَلالِ، عَلَى خَلْقِ اللهِ، وعَلَى ذَوِي قُرْبَاهُم ويُؤَدُّونَ زَكَاة أَمْوَالِهِم.
يَدْرَؤُونَ - يَدْفَعُونَ.
﴿أَعْمَالُنَا﴾ ﴿أَعْمَالُكُمْ﴾ ﴿سَلاَمٌ﴾ ﴿الجاهلين﴾
(٥٥) - وَهُمْ لا يَخَالِطُونَ أَهلَ اللَّغْوِ واللَّهوِ، والخَوْضِ فِيما لا يَنْفَعُ في دِينٍ ولا دُنْيَا، ولا يُعَاشِرُونَهُمْ بَلْ يُعرِضُونَ عَنهُم، ويَتَجَنَّبُونَ مُجَالَسَتَهُمْ، وإِذا سَفِهَ عَلَيهِمْ أَحَدٌ، وَكَلَّمَهُمْ بِمَا لا يَلِيقُ، أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الكَلاَمِ القَبيحِ، وَلاَ يَصدُرُ عَنْهُمْ إِلا كَلاَمٌ طَيِّبٌ. وَيَقُولُونَ لِمَنْ سَفِهَ عَلَيهِمْ: سَلامٌ عَلَيكُم سَلاَم مُتَارَكَةٍ وَتَوْدِيعٍ، إِنَّنا لا نُرِيدُ اتِّبَاعَ طَريقِ الجَاهِلِينَ السُّفَهَاءِ، وَلاَ نُحِبُّهَا.
(وهذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في وَفْدٍ مِنْ نَصَارَى الحَبَشَةِ الذِين أَسْلَمُوا فَاعتَرَضَهُم كُفَّارُ قَريشٍ، وَشَتَمُوهُم واتَّهمُوهُمْ بِالحُمْقِ، فَرَدُّوا عَلَيهِمْ قَائِلينَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيهِ، وَلَكُمْ مَا أَنتُمْ عَلَيهِ).
(وَقِيلَ أَيضاً إِنَّها نَزَلَتْ في وَفْدٍ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ في اليَمَنِ).
(٥٦) - يَقُولُ اللهُ تَعَالى لِرَسُولِهِ ﷺ: إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ هِدَايَةَ مَنْ أَحْبَبْتَ أَنْتَ هِدَايَتَهُ، وَلَيسَ ذَلكَ إٍليكَ، وَإِنَّما أَنْتَ رَسُولٌ عَلَيكَ البَلاَغُ، واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، واللهُ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدَى، وَبِمَنْ ضَلَّ سَواءَ السَّبيلِ.
(وقيلَ إِنَّ هذِهِ الآيةَ نَزَلَتْ في أَبي طَالِبٍ، فَحِينَما حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ أَتاهُ الرَّسُولُ وَقالَ لَهُ: يا عمَّاهُ قُلْ: لا َ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِها عِنْدَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ، فَقَالَ لَوْلاَ أَنْ تُعيَّرَنِي قُرَيشٌ: يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلا جَزَعَُهُ مِنَ المَوتِ، لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ).
﴿آمِناً﴾ ﴿ثَمَرَاتُ﴾
(٥٧) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا اعتَذَرَ بهِ بَعْضُ المُشْرِكِينَ إِلى النَّبِيِّ ﷺ عَنْ سَببِ عَدَمِ إيمانِهِمْ بِرِسَالَتِهِ، وَكَانَ مِنْ هؤلاء المُعتَذِرِينَ الحَارِثُ بِنُ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَل بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ فَقَدْ جَاءَ النَّبِيَّ ﷺ، وَقَالَ لَهُ: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَلى الحقِّ، ولكِنَّنا نَخَافُ إِنْ اتَّبْنَاكَ، وَخَالَفْنا العَرَبَ، أَنْ يُخرِجُونامِنْ أَرضِنا، ويَغْلِبُونا عَلَى سُلْطَانِنا ونَحنُ قِلَّةٌ. وَيَردُّ الله تَعالى عَلَى هؤلاءِ بقَولِهِ: إِنّ الذِي اعْتَذَرُوا بِهِ بَاطِلٌ، لأنَّ اللهَ جَعَلُهُمْ في بَلَدٍ آمِن، وَحَرمٍ مُعَظَّمٍ آمِنٍ مُنْذُ وُضِعَ. فَكَيفَ يَكُونَ هذا الحَرَمُ آمِناً لَهُمْ وَهُمْ كُفّارٌ، مُشْرِكُونَ، وَلا يَكُونُ آمنا لهُمْ إِذا أَسْلَمُوا واتَّبَعُوا الحَقَّ؟ ثُمَّ يَقُولُ تَعَالى: إِنَّهُ يَسَّرَ وصُُولَ الثَّمَرَاتِ والأَمتِعَةِ والأَرْزَاقِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ إِلى أهلِ الحَرَمِ، وهذا كُلُّهُ بِفَضْلِ اللهِ، وَمنْ عِنَايَتِهِ، ولكِنَّ أَكثَرَ هؤلاءِ جَهَلَةٌ لاَ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ خَيرُهُم وَسَعَادَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا مَا قَالُوا.
نُتَخَطَّفُ - نُنْتَزَعُ بِسْرُعَةٍ.
يُجْبَى إِليهِ - يُجْلَبُ إِليهِ وَيُحْمَلُ إِليهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
﴿مَسَاكِنُهُمْ﴾ ﴿الوارثين﴾
(٥٨) - يُعَرِّضُ الله تَعَالى بأهلِ مَكَّةَ، وَيُنَبِّهُهُمْ إِلى أَنَّهُ قَدْ سَبَق لَهُ أَنْ أَهلَكَ كَثيراً مِنَ المُدُنِ والقُرى، التي طَغَتْ وأَشِرَتْ وكَفَرَت بِنِعْمَةِ اللهِ، فيما أَنْعَمَ بهِ عَلَيها، فَدَمَّرَهَا تَدمِيراً، وَلَم يَتْرُكْ أَحَداً مِنْ أهلِها حياً، وَلَم يَعُدْ يُرى فِيها إِلاّ المَسَاكِنُ الخَرَابُ المَهْجُورَةُ، لَمْ يَسْكُنها أَحدٌ بَعدَهُمْ، إِلاَّ عَابرُو السَّبيلِ لفَتَراتٍ قَصِيرةٍ، وَهُمْ مَارُّون مُجْتَازُونَ بِها، وَآلتْ وِرَاثُتها إِلى اللهِ، لأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَهلِهَا أَحَدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ وَرَاثَتَها.
بَطرَتْ مَعِيشَتها - طَغَتْ وَتَمَرَّدَتْ فِي أَيَّامِ حَيَاتِها.
﴿يَتْلُو﴾ ﴿آيَاتِنَا﴾ ﴿ظَالِمُونَ﴾
(٥٩) - وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالى عَنْ عَدْلِهِ فَيقُولُ: إِنَّهُ لاَ يُهْلِكُ أَحَداً وَهُوَ ظَالِمٌ لَهُ، وَإِنَّما يُهِلكُهُ بعدَ أَنْ تَقُومَ عَليهِ الحُجَّةُ. وإِنَّهُ لاَ يُهلِكُ القُرى حَوْلَ مَكَّةَ بِكُفْرِهِم وَظُلْمِهِم إِلاَّ بَعْدَ أَن يَبْعَثَ فِي أُمِّ القُرَى (مَكَّةَ) رَسُولاً يدْعُوهُم إِلى اللهِ، وَيُبِيِّنُ لهُم سَبيلَ الهدَايَةِ والرَّشَادِ، وَيتلُو عَلَيهمْ آياتِ اللهِ، وإِنَّهُ لا يُهلِكُ هذهِ القُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظَالِمُونَ، قَدْ كَذَّبُوا النَّبِيَّ، وَرَفَضُوا اتِّباعَهُ، وقَبُولَ دَعْوَتِهِ.
(وَفُهِمَ مِنْ هذِهِ الآيةِ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ بُعِثَ إِلى النَّاسِ كَافَّة، وَلَيسَ لأَهلِ مَكَّةَ خَاصَّةً).
﴿فَمَتَاعُ﴾ ﴿الحياة﴾
(٦٠) - كُلُّ مَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا مِنْ زِينَةٍ زَائِفَةٍ، وَزَهَرَةٍ فَانِيَةٍ، وأَموَالٍ وأوْلاَدٍ هُوَ مَتَاعٌ مَحْدُودٌ مُؤقَّتٌ تَافِهٌ بالنِّسْبَةِ إِلى مَا أَعدَّهُ الله في الحَيَاةِ الآخِرَةِ مِنْ نَعيمٍ مُقيمٍ دائِمٍ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنينَ المُخِلصِينَ، فَلا تَصْرِفَنَّكُمْ، أَيُّها العِبَادُ، العَرُوضُ الفَانِيةُ في الحَيَاةِ الدُّنيا، عَنِ النَّعيمِ الخَالِدِ في الحَيَاةِ الآخِرَةِ، وَحَكِّمُوا عُقُولَكُمْ في أُمُورِكُم بَدَلَ أَهَوائِكُم تَفُوزُوا.
(وفِي الحَديثِ: " مَا الحَيَاةُ الدُّنيا فِي الآخِرَة إِلاَّ كَمَا يَغْمِسُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ في اليَمِّ فَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُ "). (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).
﴿وَعَدْنَاهُ﴾ ﴿لاَقِيهِ﴾ ﴿مَّتَّعْنَاهُ﴾ ﴿مَتَاعَ﴾ ﴿الحياة﴾ ﴿القيامة﴾
(٦١) - لاَ يَسْتَوِي مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ باللهِ، مَصَدِّقٌ بمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ المُؤمِنينَ، مِنْ عَظيمِ الأَجرِ والثَّوابِ، عَلَى الإِيمَانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، فَاستَحَقَّ وَعْدَ اللهِ الحَسَنَ بالجَنَّةِ، وَحُسْنَ الثَّوابِ، مَعَ مَنْ كَفَرَ وَكَذَّبَ بِلِقَاءِ اللهِ، وَوَعْدِهِ، وَوَعِيدِهِ، وجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، فَهُوَ يَتَمَتَّعُ بِالحَياةِ الدُّنيا وَزُخْرُفِهَا أَيَّاماً قَلِيلَةً ثُمَّ َيكُونُ يَومَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ لِلْحِسَابِ، المُلاقِينَ لِلْعِقَابِ.
﴿شُرَكَآئِيَ﴾
(٦٢) - واذْكُر أَيُّها الرَّسُولُ حِينَ يُوَبِّخُ اللهُ تَعَالى المُشْرِكِينَ المُضْلِّينَ يَومَ القِيَامَةِ، فَيَسْأَلُهُمْ قَائِلاً: أَيْنَ الآلِهَةُ التِي كُنْتُمْ تَعبُدُونَها فِي الدَّارِ الدُّنيا مِنَ الأَصْنَامِ والأَندَادِ والجِنِّ.. هَلْ يَدْفَعُونَ عَنْكُمُ اليَومَ، أَوْ يَشْفَعُونَ فِيكُمْ؟
﴿أَغْوَيْنَاهُمْ﴾
(٦٣) - ويَقُولُ رُؤَسَاءُ الضَّلاَلَةِ، والدُّعَاةُ إلى الكُفرِ، الذِينَ حَقَّ عَليهْم غَضَبُ اللهِ: رَبَّنا إِنَّ هؤُلاءِ الأَتبَاعَ الذِينَ أَضْلَلْنَاهُمْ كَمَا ضَلَلْنَا، هُمُ الذِين غَوَوْا بِطَوْعِهِمْ واخْتِيَارِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَّا لَهُمْ إِلاَّ الوَسْوَسَةُ والتَّسْوِيلُ، ولمْ نُكرِههّمْ على فِعلِ شيءٍ لا يُريدُونَه، فًَهُم كَانوا مُختَارينَ حِينما تَقَبَّلُوا تلكَ العَقَائِدَ، وأقدَموا على هذِهِ الأعمالِ. وإِنَّنا نَبرأ إِليكَ مِنْهُمُ اليَومَ، ومِمّا اختارُوه فِي الدُّنيا مِنَ الكُفرِ، وهُمْ لمْ يَعْبُدونَا نَحنُ، بلْ عَبدُوا أَهَواءَهُمْ، بلْ عَبدُوا أَهَواءَهُمْ، وأَطَاعُوا شَهَواتِهِمْ.
أَغْوَينَا - دَعَونَاهُمْ إِلى الغَيِّ فَاتَّبَعُونَا.
(٦٤) - وَيُقَالُ في ذلكَ اليَومِ - يومِ القِِيامةِ - لِهؤلاءِ المُشرِكِينَ الذِينًَ كَفُروا بالله في الدُّنيا، وَعَبدُوا مَعَهُ غَيْرَه: ادْعُوا آلِهَتَكُمْ الذِينَ زَعَمْتُم أَنَّهم كَانُوا شُرَكَاءَ للهِ، لُيخَلِّصُوكُم مِمّا أَنتُمْ فيهِ، كَمَا كُنتُم تَرْجُونَ مِنْهُمْ ذلِكَ في الدَّارِ الدُّنيا، فدعوْهُم فَلَم يَرُدُّوا عَلَيهم لِعَجْزِهِمْ عَنِ الإِجابةِ، وأَيقنَ الدَّاعُونَ والمَدعُوُّونَ أَنَّهم صَائِرُونَ إِلى النَّارِ لا مَحَالةَ، فَتَمَنَّوْا لوْ أنَّهُمْ كَانُوا مِنَ المُهتَدِينَ في الدَّارِ الدَّنيا، لِكيلاَ يَصِيرُوا إِلى العَذَابِ الأَليمِ.
(٦٥) - ثُمًَّ يُنَادي اللهُ تَعَالى المُشرِكِينَ وَيَسْأَلُهُم عَمَّا أَجَابُوا بهِ عَلَى دَعْوَةِ المُرسَلِينَ إِليهِمْ، وكَيفَ كَانَ حَالُهُم مَعَهُم حِينما أبلغُوهُم دَعْوَةَ رَبِّهِمْ؟
﴿يَوْمَئِذٍ﴾
(٦٦) - فَلاَ يَجدُونَ مَا يرُدُّونَ بهِ عَلَى السُّؤالِ فيَسكُنُونَ. وَتَخْفَى عَليهِم الحُجَجُ وكُلُّ طُرُقِ العِلْمِ التِي كَانَتْ تُجدِيهِمْ نَفْعاً في الحَيَاة الدُّنيا، فَلا يَسْأَلُ بَعْضُهُم بَعْضاً، لِتَساوِيِهم جَميعاً في عَمَى الأنباء عَليهِمْ، والعَجزِ عنِ الجَوَابِ.
فَعَمِيتْ عَليهِمُ الأَنْبَاءُ - خَفِيَتْ واشْتَبَهَتْ عَلَيهِم الحُجَجُ.
﴿آمَنَ﴾ ﴿صَالِحاً﴾
(٦٧) - وأَما الذي تَابَ، مِنَ المُشرِكينَ، عَمَّا اقتَرَفَهُ مِنَ الشِّرْك والذُّنوبِ والمآثِمِ والمَحَارِمِ، وآمَنَ بِرَبّهِ إِيماناً مُخْلِصَاً، وصَدَّقَ رَسُولَهُ، وَعَمِلَ في الدُّنيا عَمَلاً صالحاً، فإِنَّهُ يَرجُو أَنْ يكُونَ في الآخِرَةِ مِنَ المُفْلِحينَ الفَائزينَ بِرِضوانِ الله.
(وَعَسَى مِنَ اللهَ تَعَالى مُوجِبَةٌ أَيْ إِنَّ ذَلكَ وَاقعٌ بِفَضْلِ اللهِ وَمِنَّتِهِ لاَ مَحَالَةَ).
﴿سُبْحَانَ﴾ ﴿وتعالى﴾
(٦٨) - يُخْبِرُ اللهُ تََالى أَنه المُتَفَرِّدُ بالخَلْقِ والاختيارِ، وأَنَّهُ لا يُنَازِعُهُ في ذَلِكَ مُنَازِعٌ، ولا مُعَقِّبَ عَلى حُكْمِهِ، فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لمْ يشَأْ لمْ يكُنْ فالأمورُ كُلُّها، خيرُهَا وشَرُّها، بيدِهِ فَيختَارُ قَوماً لأَدَاءِ رِسَالتِهِ، وهِدايةِ خَلقِهِ، ويُمَيِّزُ بعضَ الخَلْقِ عَلى بَعْضٍ، ويُفَضِّلُه بمَا شاء، وليسَ للخَلْقِ أن يَخْتَاروا عَلى الله شَيئاً، ولهُ الخِيرَةُ عَليهم، وليسَ للخَلْقِ إلا اتِّبَاعُ ما اصْطَفَاهُ اللهُ، فَتَنَزَّهَ اللهُ تعلى عن شِرْكِهِمْ، وَتَبَارَكَ اسمُهُ وتَقَدَّسَ.
الخِيَرَةُ - الاختِيَارُ.
(٦٩) - واللهُ رَبُّكَ يَا مُحَمَّد هُوَ الذِي يَعْلَمُ مَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ، وَمَا تَنْطَوي عَليه السَّرائِرُ، كَمَا يَعْلَمُ ما تُبدِيهِ الظَّواهِرُ، واختيارُهُ تَعَالى لِمَنِ اختارَهُمْ للإِيمانِ لهُ، مَبنِيُّ عَلَى عِلْمٍ منهُ بسَرائِرِ أمُورِهِم وبَواديها، فَيَختَارُ للخَيْرِ أهلهُ وَيُوفِّقُهُمْ لهُ، وَيُولِّي الشَّرَّ أهلَهُ، وَيُخَلِّهِمْ وَإيَّاهُ.
(وَقَدْ يكُونُ المَعْنى: وَرَبُّكَ يَا مَحَمَّدُ عَليمٌ بمَا تُخفِيهِ صُدُورَ المُشرِكينَ مِنْ عَداوَةٍ لَكَ، وَمَا يُعْلِنُونَهُ بألَسِنَتهمْ مِنَ الاعتِراضِ علَى اختيارِكَ للرّسَالةِ).
مَا تُكِنَّ صُدُورُهُم - مَا تُضْمِرُهُ مِنَ البَاطِِلِ والعَدَاوَةِ.
﴿الآخرة﴾
(٧٠) - وَرَبُّكَ أَيُّها الرَّسُولُ هُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ، وهُوَ المُتَفَرِّدُ بالأُلُوهِيّةِ، فَلاَ مَعبودَ سِوَاهُ، ولا رَبَّ غَيرُهُ، لَهُ الحَمْدُ فِي جَميعِ ما يفعَلُهُ (في الأُولى والآخِرَةِ)، فَهُوَ العَادِلُ، ولهُ الحُكْمُ، ولا مَعَقِّبَ لهُ، لِقَهرِهِ، وغَلَبَتِهِ، وحِكمَتِهِ، ورَحْمَتِهِ، وإِليهِ يَرجعُ الخَلْقُ جَميعاً سَوْمَ القِيامةِ، فَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، مِنْ خَيرٍ أَوْ شَرٍّ، وَلاَ يَخْفَى عَليهِ مِنْهُمْ خَافِيةٌ.
﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ﴿الليل﴾ ﴿القيامة﴾
(٧١) - يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالى عَلَى خَلْقِهِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ اللَّيلِ والنَّهَارِ، لِيَكْسبوا مَعايِشَهُمْ في النَّهارِ، ولِيسْكُنُوا في اللّيلِ، ويَرتَاحُوا. ولوْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ اللَّيْلَ دَائماً عَلَيهِمْ مُتَتَابِعاً (سَرْمَداً) إِلى يَومِ القِيَامَةِ، لأَضَرَّ ذَلكَ بِهِمْ، ولَسَئِمَتْهُ النُّفُوسُ، وَلاَ يَستَطيعُ أَحَدٌ مِنَ الأَندَادِ والأَصْنَامِ، الذِينَ يَدْعُوهم المُشرِكُونَ، أنْ يأتِيَهُمْ بِضياءٍ يُبصِرُونَ فيهِ، وَيَسْتأَنِسُونَ بمَا يَرَوْنَهُ، أفلا يَسمعُونَ هذا الذِي يُقَالُ لَهُمْ وَتَتَدَبَّرُونَهُ؟
أَرَأيْتُمْ - أَخْبِرُوني.
سَرْمَداً - دَائماً مُطَّرداً.
﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ﴿القيامة﴾
(٧٢) - وإِذا أَرادَ اللهُ أَنْ يَجْعَلَ النَّهارَ عَلَى النَّاس دَائماً سَرْمَداً إِلى يومِ القِيَامَةِ، لأضَرَّ ذلكَ بِهِمْ، ولَتَعِبَتِ الأَبدَانُ وَكَلَّتْ مِنْ كَثْرَةِ الحَرَكَةِ والأشْغَالِ، ولا يَستَطِيعُ أحدٌ مِنْ هؤلاءِ الأَنْدَادِ والأَصْنَامِ أَنْ يأتَي بليلٍ يَرْتَاحُ فيهِ النَّاس ويُسكُنُونَ. أفَلا يُبصيِرُ هؤلاءِ بأعيُنِهِمْ تَدبيرَ اللهِ وخَلْقَهُ؟
﴿الليل﴾
(٧٣) - ومِنْ رَحْمَتِه بِكُم أَنَّهُ خَلَق اللَّيلَ مُظْلِماً لِتَسكُنُوا فيهِ، وتَرتَاحُوا وَخَلَقَ النَّهارَ مُضِيئاً، لتَعمَلُوا فيهِ، ولتكسبُوا مَعَايِشَكُم بالعَمَلِ والأَسْفَارِ (لِتَبتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)، وهُوَ تَعَالَى يُذَكِّرُكُمْ بِنِعمَتِهِ وآلائِهِ عَليكُم لَعَلَّكُمْ تَقُومُونَ بِشُكْرِهِ عَليها بأَداءِ العِبَادَاتِ لهُ في الليْلِ والنَّهَارِ، وتُخْلِصُونَ الحَمدَ لَهُ.
﴿شُرَكَآئِيَ﴾
(٧٤) - وَيَومَ القِيَامَةِ يُنَاجدي الرَّبُ تَعَالى المُرِكينَ عَلَى رُؤوسِ الأشْهَادٍِ مُوَبِّخاً ومُقَرِّعاً، فَيَقُولُ لَهم: أَينَ الذِين كُنتُم تَزْعمُونُ في الدَّارِ الدُّنيا أَنَّهُمْ شُرَكَائي، هَلاَّ دَعَوْتُمُوهُمْ لِيُخَلِّصُوكُمْ مِمّا أنتُمْ فيهِ اليَوْمَ؟
﴿بُرْهَانَكُمْ﴾
(٧٥) - وَيومَ القِيامَةِ يَنْزِعُ اللهُ تَعَالى مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَاهِداً عَلَيها، هُوَ نَبيُّها، فَيشْهَدُ عَلَيها بما أَجَابَتهُ بهِ أُمَّتُهُ حينَ دَعَاها إِلى اللهِ، وأَبلَغَها رَسَالاَتِ رَبِّهِ، ويَقُولُ اللهُ تَعَالى لِلمُخَالِفينَ مِنْهُم: هَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ حُجَّةٍ وَبُرهَانٍ على صِحَّةِ ما ادَّعيتُمُوهُ مِنْ أَنَّ للهِ شُرَكَاءَ. وَحِينئذٍ يَعلَمُونَ أَنَّهُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ المَلِكُ الحَقُّ، وَلا حَقَّ غَيرُهُ، فَلا يَنطِقُونَ، ولا يُجِيبُونَ بِشَيءٍ عَنْ سُؤالِ الرَّبِّ العَظيمِ، وَيَتَلاشَى باطِلُهُمْ، وَمَا كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ دُون اللهِ.
﴿قَارُونَ﴾ ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾ ﴿لَتَنُوءُ﴾
(٧٦) - ويَلْفِتُ اللهُ تَعَالى نَظَرَ كُبَراءِ قُريشٍ، الذِين اغتَرُّوا بأَمَوالِهِم، واسْتَطَالُوا بِهَا عَلَى الرَّسُول ﷺ، وَعَلَى المُؤمنينَ، إِلى أنَّ المَالَ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَأَنَّ المَالَ لاَ قِيمَةَ لهُ في مِيزَانِ اللهِ تَعَالى، يَوْمَ الحِسَابِ في الآخِرَةِ، وأَنَّ أمْوالَ هؤلاءِ الكُفَّارِ مِنْ قُريشٍ، لا تُعَدُّ شيئاً مذكُوراً بالنِّسبةِ لِلمَالِ الذي آتاهُ اللهُ قَارُونَ، ثُمَّ خَسَفَ اللهُ بهِ وبدَارِهِ الأَرْضَ لأَنَّهُ بَطِرَ وَأَشِرَ، واسْتَكْبَرَ ولم يَبْتَعِ بهذا المَالِ ثَوابَ اللهِ، وجَزَاءَهُ في الدَّارِ الآخِرَةِ.
وَيَقُولُ تَعَالى إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ بَني إِسرائيلَ (وَقَالَ بعضُ المُفَسِّرينَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ أقرِباءِ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ)، وَقَدْ آتاهُ اللهُ كثيراً منَ المَالِ، حَتَّى إِنَّ مَفَاتَيِحَ خَزَائِنِ أمْوَالِهِ لَيَصْعُبُ عَلَى الجَمَاعَةِ حَمْلُها لِكَثْرَتِهَا، وَثِقلِ وَزْنِها، فَطَغَى وَبَغَى، وَبَطِرَ، وَتَكَّبرَ، فَقَالَ لبهُ قَومُهُ ناصِحِينَ: لا تَبْطَرْ، ولا تَفْرَحْ بمَا أَنتَ فيهِ من النَّعمَةِ والمَالِ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى لاَ يًُحِبُّ البَطرِينَ الأَشِرِينَ، الذين لا يَشكُرونَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وآلائِهِ، وَتَنْسِيهمُ الدُّنيا والآخِرَةَ.
فَبَغَى عَلَيهِمْ - ظَلَمَهُمْ وَتَكَبَّرَ عَلَيهِمْ.
لَتَنُوء بالعُصْبَةِ - لَتُثْقِلُ الجَمَاعَة الكَثَيرَةَ وتَمِيلُ بِهِمْ.
لاَ تفرحْ - لا تَبْطَرْ ولاَ تَأْشَر بِكَثْرةِ المَالِ.
﴿آتَاكَ﴾ ﴿الآخرة﴾
(٧٧) - واسْتَعْمِلْ مَا وَهَبكَ اللهُ مِنَ المَالِ الجَزيلِ، والنَّعمَةِ الطَّائِلَةِ، في طَاعَةِ رَبِّكَ، والتَّقَرُّبِ إليهِ، ولا تَنْسَ حَظَّكَ (نَصِيبَكَ) مِنَ الدُّنيا، ممَّا أَبَاحَهُ اللهُ فيها لِعِبادِهِ، مِنَ المَآكِلِ والمَشَارِبِ والمَلاَبِسِ وغَيرها.. فإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيكَ حَقّاً، وَلِنَفَسِكَ عَليكَ حَقّاً،.. فَآتِ كُلِّ ذي حقٍّ حَقَّهُ. وأحْسِنْ إِلى خَلْقِ اللهِ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ولا يَكنْ هَمُّكَ الإِفسَادَ في الأَرضِ، والإِساءَةَ إلى خَلْقِ اللهِ، إنّ الله لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ.
﴿لاَ يُسْأَلُ﴾
(٧٨) - فَأَجَابَ قَارُونَ نَاصِحِيهِ مِنْ قَومِهِ: إِنَّهُ لا يَفْتَقِرُ إلى مَا يَقُولُونَ، فإِنَّ الله إِنَّما أعطَاهُ هذا المَالَ لِعلمِهِ بأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ، وَلأَنَّهُ يُحِبّهُ. ويَرُدّ اللهُ تَعَالى عَليهِ قائِلاً: إِنَّهُ كَانَ قَبلَ قَارُونَ أُناسٌ كثيرونَ أكثرُ منهُ مالاً، إِلاَّ أَنهُ سُبحَانَهُ لَمْ يُعْطِهِمْ هذا المَالَ عَنْ مَحَبَّةٍ منهُ لهُمْ، وَقَدْ أًَهْلَكَهُمْ بِكُفْرِهِمْ، وَعَدمِ شُكرِهِمْ، وفي الآخِرَةِ لا يَسْأَلُ اللهُ تَعَالى المُجرِمينَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، ومِقْدَارِهَا وَكُنْهِها.. وَلاَ يُعَاتِبُهُمْ عَلَيها، وإِنِّما يُلْقِيهِمْ فِي جَهَّنَم دُونَ سُؤَالٍ.
مِنَ القْرُونِ - مِنَ الأُمَمِ.
لا يُسْأَلُ - سُؤَال اسْتِعلامٍ بلْ سُؤَالَ تَوِبيخٍ.
﴿الحياة﴾ ﴿ياليت﴾ ﴿قَارُونُ﴾
(٧٩) - وَخَرَجَ قَارُونَ ذَاتَ يومٍ عَلَى قَومِهِ، وَهُوَ في زِينَةٍ عَظِيمَةٍ، وتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ، فلما رَآه مَنْ يُريدُ الحَيَاةَ الدُّنيا، وَيمَيلُ إلى زُخُرفِها وزِينَتِها مِنْ قَومِهِ، تَمَنُّوا أَنْ لَوْ كَانُوا يُعطَوْنَ مِثْلِ ما أُعْطِيَ قَارُونُ مِنَ المَالِ، فهوَ ذُو حَظٍّ عظيمٍ وافرٍ في الدُّنيا.
في زِينتِه - في مَظَاهِرِ غِنَاهُ وَتَرَفِهِ.
﴿آمَنَ﴾ ﴿صَالِحاً﴾ ﴿يُلَقَّاهَآ﴾ ﴿الصابرون﴾
(٨٠) - فَلَمَّا سَمِعَ أهلُ العِلْمِ النَّافِع مَقَالَةَ مَنْ تَمَنَّوا أَنْ يكُونَ لَهُمْ مِثلُ مَا أُوتِيَ قَارُونُ من المَالِ، قَالُوا لَهُمْ: الوَيلُ والهَلاَكُ لَكُمْ عَلَى ما تَمَنِّيتُمْ، فَما يدِّخِرُهُ اللهُ مِنْ جَزاءٍ وثَوَابٍ لِعبَادِهِ الصَّالِحينَ في الدَّارِ الآخِرَةِ خيرٌ ممَّا تَرَوْنَهُ، ولا يَفُوزُ بالجَنَّةِ ونَعيمِها فِي الدَّارِ الآخِرَةِ إِلا الصَّابِرُونَ على مَحَبَّتِهِ، الرَاغِبونَ في الدَّار الآخِرَةِ.
وَيْلَكُم - زَجْرٌ لَهُم عَلَى هذا التَّمنِّي - والوَيلُ لُغَةً الهَلاَكُ.
لا يَلَقَّاهَا - لا يُوفَّقُ لِلْعَمَلِ لِلمَثُوبَةِ.
(٨١) - وَبينمَا كَانَ قَارُونَ يَخْتَالُ بِطِراً مُتَفَاخِراً عَلَى قَومِهِ، وَهُوَ في حِلْيَتِهِ وزِينَتهِ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بهِ وبِدَارِهِ الأَرضَ، فَأَصبَحَ هُوَ ودارُهُ وأموَالُهُ وخَزَائِنُهُ لا أثرَ لَهُمْ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ بَطْشِ اللهِ وَعَذَابِهِ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ مَالُهُ ولا جَمْعُهُ وَلا خَدَمُهًُ، وَلَمْ يَدْفَعْ كُلُّ ذَلِكَ عَنْهُ نَقْمَةَ اللهِ وَعَذَابَهُ.
﴿وَيْكَأَنَّ﴾ ﴿وَيْكَأَنَّهُ﴾ ﴿الكافرون﴾
(٨٢) - وَلَمَّا رَأَى الذينَ تَمَنَّوْا مَالَ قَارُونَ وكُنُوزَهُ، مَا حَلَّ بهِ وبِمَالِهِ، قالُوا: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ؟ وَلولا لُطْفُ اللهِ بِنا لأَعْطَانَا مَا سَأَلنا، ثُمَّ فَعَلَ بِنَا كَمَا فَعَلَ بقَارُونَ، فَخَسَفَ بِنَا الأَرضَ، لَقَدْ كَانَ قَارُونُ كَافِراً برَبِّهِ، وَلاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ في النَّجَاةِ مِنْ عَذابِ اللهِ تَعَالى.
يَقْدِرُ - يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لِحِكْمَةٍ.
﴿الآخرة﴾ ﴿العاقبة﴾
(٨٣) - تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ - الجَنَّةُ التي عَلِمْتَ مِمَّا تَقدَّمَ وَصْفَهَا - قَدْ جَعَلَها الله خَالِصَةً لِعِبَادِهِ المُؤمِنينَ المُتَواضِعِينَ، الذينَ لاَ يُريدُونَ اسْتِكْبَاراً على خَلْقِ اللهِ، وَلاَ تَعَاظُماً عَلَيهِمْ، وَلاَ َجَبُّراً، وَلاَ فَسَاداً في الأَرضِ. وَالعَاقِبَةُ المَحْمُودَةُ، وهيَ الجَنَّةُ، جَعَلَها اللهُ لِمَنْ مَلأَتْ خَشْيَةُ اللهِ قَلَبْهُ، واتَّقى عَذَابَه بِفعلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ.
(٨٤) - مَنْ جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ وَلَهُ حَسَناتٌ اكْتَسَبَها في الدُّنيا، ضَاعَفَ الله ثَوابَهُ، فَضْلاً منهُ وكَرماً، ومَنْ جَاءَ بالسَّّيَئَةِ فَلاَ يُجزَى إِلاَّ مِثْلَها، عَدلاً مِنَ اللهِ وَرَحْمَةً.
﴿القرآن﴾ ﴿ضَلاَلٍ﴾
(٨٥) - يُخَاطِبُ الله تَعَالى رَسُولَهُ الكَريمَ فَيَقُولُ: إِنَّ الذي أَوْجَبَ عَلَيكَ العَمَلَ بأحْكَامِ القُرآنِ وفَرَائِضِهِ لَرَادُّكَ إِلى مَكَّةَ ظَافِراً مُنْتِصراً، كَمَا أَخْرَجَكَ مِنْها - وَتَمَّ ذلكَ بَعْدَ الفَتْح -.
(وقيلَ بلْ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: إِنًَّ الذِي أَنزَلَ عَلَيكَ القُرآانَ لَرادُّكَ إِلى مَوْعِدٍ - وهُو يومُ القِيامةِ - لِيَفْصِلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُكَذِّبِيكَ). وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، لَمّا خَرَجَ مُهَاجراً مِنْ مكَّةَ إِلى المَدِينةِ، نَزَلَ بالجُحْفَةِ، فَعَرَفَ طَريقَ مَكَّةَ، واشْتَاقَ إِليها حِينَما تَذَكَّر مَولِدَهُ ومَوْلِدَ وَالِدِهِ فيها. فَنزَلَ عَليهٍِ جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ وقال لَهُ: أتْشْتَاقُ إِلى بلدِكَ ومَولِدِكَ؟ فَقالَ الرَّسُولً ﷺ: نَعَمْ: فَقَالَ لًَهُ جَبْرِيلُ إِنّ اللهَ تَعَالى يَقُولُ لَكَ ﴿إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن...﴾ الآية.
مَعَادٍ - مَكَّةَ ظَاهراً عليها.
﴿ترجوا﴾ ﴿الكتاب﴾ ﴿لِّلْكَافِرِينَ﴾
(٨٦) - ومَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ تَظُنُّ - قَبلَ إِنزَالِ الوَحيِ عَلَيكَ - أَنَّهُ سَيَنزِلُ عَليكَ، فَتَعْلَمُ أَخبارَ المَاضِينَ منْ قَبلِكَ، وَمَا سَيَحدُثُ مِنْ بَعدِكَ، وما فيهِ تَشْرِيعٌ وسَعادَةٌ للبَشَرِ في مَعَاشِهِم ومَعَادِهِمْ، ثُمَّ تَتلُو ذَلكَ عَلى قَومِكَ، وأن الله أَنْزَلَهُ عَليكَ رَحمةً منهُ بِكَ وبالعِبَادِ، فإِذا حَبَاكَ اللهُ بهذِهِ النِّعمَةِ العَظِيمةِ، فَلا تَكُونَنَّ مُعِيناً لِلْكَافِرينَ، وَلكِنْ فَارِقْهُمْ وخَالِفْهُمْ.
ظَهيراً - مُعِيناً.
﴿آيَاتِ﴾
(٨٧) - وَلا يَصْرِفَنَّكَ الكُفَّارُ عَنِ القِيَامِ بإِبلاَغِ آياتِ اللهِ التِي أَنزَلَهَا عَلَيكَ إِلى قَومِكَ، وَلاَ تَتْرُكْ دَعْوةَ المُشْرِكينَ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ لأَنَّكَ إِنْ تَركْتَ دَعْوَتَهُمْ كُنتَ مِمَّنْ يَفْعَلُ فِعلَ المُشرِكِينَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَمُخَالَفَةِ أَمرِهِ.
﴿آخَرَ﴾
(٨٨) - إِنَّ العِبَادَةَ لا تَنبغي إلاّ للهِ وَحْدَه لا شَريكَ لَهُ، فاعْبُدْهُ مُخْلِصاً له الدِّين، ولا تَعبُدْ مَعَ اللهِ أَحَداً غيرَهُ، وَهُوَ وَحْدَهُ البَاقِي الدَّائِمُ، وَكُلُّ شيءٍ في الوُجُودِ، غَير اللهِ، هالكٌ وَفَانٍ، لا إِله إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَهُ الحُكْمُ والمُلْكُ والتَّصَرُّفُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، ولا مُعًَقِّبَ عَلى حُكْمِهِ وإِليهِ يَرجِعُ النَّاسُ يَومَ القِيَامَةِ، فَيَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ خَيرِها وَشَرِّها.
Icon