ﰡ
(١) - اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
(٢) - هَذَا القُرْآنُ (الكِتَابِ) مُنَزِّلٌ مِنَ اللهِ ذِي العِزَّةِ الذِي لاَ يُرَامُ جَنَابُهُ، وَذِي العِلْمِ، الذِي لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ.
غَافِرِ الذَّنْبِ - سَاتِرِ الذَّنْبِ لِلْمُؤْمِنِينَ.
قَابِلْ التَّوْبِ - الذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ المُذْنِبِينَ.
ذِي الطَّوْلِ - ذِي الفَضْلِ والإِنْعَامِ.
(٤) - لاَ يُخَاصِمُ فِي القُرْآنِ بِالطَّعْنِ فِيهِ، وَتَكْذِيبِهِ، وَلاَ يَدْفَعُ الحَقَّ بِالبَاطِلِ بَعْدَ البَيَانِ، وَظُهُورِ البُرْهَانِ، إِلاَّ الجَاحِدُونَ لآيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، المَعْرِضُونَ عَنِ الحَقِّ مَعَ ظُهُورِهِ وَوُضُوحِهِ، فَلاَ يُغْرُرْكَ انْتِقَالُهُمْ فِي البَلاَدِ، وَأَسْفَارُهُمْ فِيهَا لِلتِّجَارَةِ والتَّكَسُّبِ، ثُمَّ عَوْدَتُهُمْ سَالِمِينَ، بَعْدَ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، فَإِنَّ عَاقَبَتُهم الهَلاَكُ.
فَلاَ يَغْرُرْكَ - فَلاَ يَخْدَعَنكَ.
تَقَلُّبُهُمْ - تَنْقُّلُهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ فَهُوَ اسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ.
(٥) - يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ عَمّا يُلاَقِيهِ مِنْ تَكذِيبِ المُكَذِّبِينَ، وَإْعْرَاضِ المُعْرِضِينَ، فَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ الأُمَمَ السَّابِقَةَ كَذَّبَتْ رُسُلَهَا، وَلَمْ يُؤْمِن لَهُمْ إِلاَّ القَلِيلُ، فَلِمُحَمَّدٍ فِي الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. فَقَدْ كَذَّبَ قَوْمُ نُوحٍ، نَبِيَّهُم نُوحاً عَلَيهِ السَّلاَمُ، وَتَحَزَّبَ مِنْ كُلِّ أُمةٍ جَمَاعَةٌ عَلَى رَسُولِهِمْ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَحَرَصَتْ كُلُّ أُمَّةٍ عَلَى الإِسَاءَةِ إِلَى رَسُولِهِمْ وَإِيذَائِهِ، وَخَاصَمُوا رَسُولَهُمْ بِالبَاطِلِ، بِإِيرَادِ حُجَجٍ وَشُبهٍ لاَ حَقِيقَةَ لَهَا، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ، وَاسْتَأْصَلَ شَأفَتَهُمْ، فَكَانَ عِقَاباً أَلِيماً لَهُم.
وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنْ قُرْيِشٍ مِثْلَ ذَلِكَ.
لِيُدْحِضُوا - لِيَبْطِلُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ.
(٦) - وَكَمَا حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ اللهِ عَلَى المُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ، أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فِي الآخِرَةِ لأَنَّ الأَسْبَابَ التي تُوجِبُ عِقَابَ الفَرِيقَينِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الكُفْرُ بِاللهِ، وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ، وَمُعَانَدَةُ الحَقِّ.
حَقَّتْ - وَجَبَتْ وَثَبَتَتْ بِالإِهْلاَكِ.
(٧) - إِنَّ المَلاَئِكَةَ الذِينَ يَحْمِلُونَ عَرْشَ رَبِّهِمْ، وَالمَلاَئِكَةَ الذِينَ هُمْ مِنْ حَوْلِهِ يُنَزِّهُونَ اللهَ تَعَالَى، وَيَحْمَدُونَهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَلاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَيَسْأَلُونَهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لِلمُسِيِئينَ الذِينِ تَابُوا وَأَقْلَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهِمْ مِنْ فَعْلِ الخَيرِ، وَتَرَكِ المُنْكَرِ، وَيَسْأَلُونَهُ تَعَالَى أَنْ يُجَنِّبَ (يَقِي) هَؤُلاَءِ التَّائِبِينَ الْمُنِيبِينَ عَذَابَ النَّارِ.
سَبِيلَكَ - طَرِيقَ الهُدَى - الدِينَ القَوِيمَ.
قِهِمْ - احْفَظْهُمْ وَجَنِّبْهُمْ.
(٨) - وَتُتَابعَ المَلاَئِكَةُ الأَطْهَارُ دُعَاءَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ التَّائِبِينَ، فَيَسْأَلُونَ رَبَّهُم تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَهُم الجَنَّاتِ التِي وَعَدَهُمْ تَعَالَى بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَأَنْ يُدْخِلَ مَعَهُم الجَنَّاتِ الصَّالِحِينَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِيَّاتِهِمْ لِتَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ، فَإِن الاجْتِمَاعَ بِالأَهْلِ والعَشِيرَةِ فِي مَوَاضِعِ السُّرُورُ يَكُونَ أَكْمَلَ لِلْبَهْجَةِ والأُنْسِ، فَأَنْتَ يَا رَبّ الغَالِبُ الذِي لاَ يُقَاوَمُ، الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَفَعْلِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
(٩) - وَاصْرِفْ عَنْهُمْ عَاقِبَةَ مَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ قَبْلَ تَوْبَتِهِمْ (أَوِ اصْرِفْ عَنْهُمْ فِعْلَ السَّيِّئاتِ)، وَمَنْ تَصْرِفْ عَنْهُ عَاقِبَةَ مَا ارْتَكَبَ مِنْ السَّيِّئَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَإِنَّكَ تَكُونَ قَدْ رَحِمْتَهُ، وَنَجَّيْنَهُ مِنْ عَذَابِكَ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ الأَكْبَرُ الذِي لاَ يَعْدِلُهُ فَوْزٌ.
قِهِمُ السَّيِّئَاتِ - احْفَظْهُمْ مِنَ الوُقُوعِ فِي المَعَاصِي، أَوِ اصْرِفْ عَنْهُمْ عَاقِبَةَ مَا اقْتَرَفُوهَ مِنْهَا.
(١٠) - وَحِينَمَا يُلْقَلى الكَافِرُونَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، لِيَذوقُوا العَذَاب الأَلِيمَ، يَمْقُتُونَ أَنْفُسَهَمْ، وَيَكْرَهُونَهَا أَشَدَّ الكُرْهِ، بِسَبَبِ مَا أَسْلَفُوا فِي الدُّنْيا مِنَ عَمِلٍ سَيِّئٍ أَوْصَلَهُمْ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، فَتُنَادِيِهم المَلاَئِكَةُ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّ مَقْتَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حِينَ كَانَ الإِيْمَانُ يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ فَيَكْفرُونَ، كَانَ أَشَدَّ مِنْ مَقْتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتَلَظُّوْنَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
المَقْتُ - الكُرْهُ الشَّدِيدُ والغَضَبُ.
تُؤْمِنُوا - تُذِعْنُوا وَتُقِرُّوا بِالشِّرْكِ.
(١٣) - وَاللهُ تَعَالَى يُظْهِر قُدْرَتَهُ لِخْلْقِهِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ فِي العَالَمَيْن العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ مِنَ الآيَاتِ العَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ خَلْقِهَا، وَقُدْرَةِ مُبْدِعِهَا، وَتَفَرُّدِهِ بالألوهِيةِ، فَيُنَزِّلُ المَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ فَيُخْرِجُ بِهِ الزَّرْعَ والنَّبَاتَ والثِّمَارَ بِأَلْوَانٍ وَطُعُومٍ وَأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَبِقُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ فَاوَتَ بَيْنَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ التِي تُسْقَى كُلَّهَا مِنْ مَاء وَاحِدٍ، وَمَا يَعْتَبِرُ بِهَذِهِ الآيَاتِ، وَيَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى عَظَمَةِ خَالِقَهَا إِلاَّ مَنْ هُوَ بَصِيرٌ مُنِيبٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى.
مَنْ يُنِيبُ - مَنْ يَرْجِعُ إٍِلَى التَّفَكُّرِ فِي الآيَاتِ
﴿الكافرون﴾
(١٥) - فَاللهُ تَعَالَى أَرْفَعُ المَوْجُودَاتِ، وَأَعْظَمُهَا شَأْناً، لأَنَّ كُلَّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّنْ سِوَاهُ، وَهُوَ تَعَالَى ذُو العَرْشِ المُسْتَوي عَلَيْهِ، فَهُوَ مُسْتَوْل عَلَى الأَجْسَامِ والأَرْوَاحِ وَيُلْقِي الوَحْيَ بِقَضَائِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ يَصْطَفِيهِمْ لِحَمْلِ رِسَالَتِهِ، وَليُنْذِرَ بِالعَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ اليَوْمُ الَّذِي تَلْتَقِي فِيهِ الخَلاَئِقُ جَمِيعُهَا.
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ - أَيْ العَلِيُّ الأَعْلَى الَّذِي اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ واخْتَصَّ بِهِ وَارْتَفَعَتْ دَرَجَاتُهُ تَعَالَى ارْتِفَاعاً بَايَنَ بِهِ مَخْلُوقَاتِهِ وارْتَفَعَ بِهِ قَدْرُهُ، وَجَلَّتْ أَوْصَافُهُ وَتَعَالَتْ ذَاتُهُ أَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ إِلاَ بِالعَمَلِ الزَّكِيِّ الطَّاهِرِ المُطَهَّرِ وَهُوَ الإِخْلاصُ الذِي يَرْفَعُ دَرَجَاتِ أصْحَابِهِ، وَيُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ، وَيَجْعَلُهُمْ فَوَقَ خَلْقِهِ.
(١٦) - وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ تَبْرُزُ الخَلاَئِقُ لِلْوَاحِدِ القَهَّارِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى وَتَبَارَكَ مُنَادِياً الخَلاَئِقَ فِي المَحْشَرِ: لِمَنِ المُلْكُ اليَومَ؟ فَلاَ يُجِيبُهُ أَحَدٌ فَيَقُولُ: للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ الذِي قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ بِعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
(١٨) - وَأَنْذِرْ يَا مُحَمَّدُ مُشْرِكِي قَوْمِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ وَعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَهُوَ يَومٌ يَعْظمُ فِيهِ الخَوْفُ، حَتَّى لَيَشْعُرُ كُلُّ آمْرِيءٍ أَنَّ قَلْبَهُ تَعلَّقَ بِحَلقِهِ، فَيُرِيدُ إِرْجَاعَهُ إِلَى مَوْضِعِهِ فَلاَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى ردِّهِ إِلَى مَوْضَعِهِ مِنَ الصَّدْرِ، وَلاَ القَلْبُ بِخَارِجٍ فَيُقْضَى عَلَى المَرْءِ بِالْمَوْتِ.
وَفِي ذَلِكَ لاَ يَكُونَ لِلذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالكَفْرِ والشِّرْكِ قَرِيبٌ يَنْفَعُهُمْ، وَلاَ شَفِيعٌ تَقْبَلُ شَفَاعَتُهُ لَهُمْ.
الآزِفَةُ - اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَسُمِّيت بِذَلِكَ لاقْتِرَابِ مَوْعِدِهَا.
كَاظِمِينَ - بَاكِينَ أَوْ مُمْسِكِينَ عَلَى الغَمِّ الذِي يَمْلأُ صُدُورَهُمْ.
حِمِيمٍ - قَرِيبٍ مُشْفِقٍ.
(١٩) - وَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى إِنَّهُ لَيَعْلَمُ العَيْنَ الخَائِنَةَ التِي تَنْظُُرُ خِلْسَةً إِلَى مَا لا يَحِلُّ لَهَا. وَيَعْلَمُ خَبَايَا الصُّدُورِ مِنَ الضَّمَائِرِ والسَّرَائِرِ، وَمَا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ.
خَائِنَةَ الأَعْيُنِ - النَّظْرَةَ الخَائِنَةَ إِلَى مَا لا يَحِلُّ.
(٢١) - أَوَ لَمْ يَسِرُ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ بِاللهِ، المُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ، الجَاحِدُونَ بِآيَاتِهِ، فِي البَلاَدِ، لَيَرُوا عَاقِبَةَ مَنْ كَانُوا قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ، سَلَكُوا سَبِيلَهُمْ فِي الكُفْرِ، وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْ هَؤُلاَءِ بَطْشاً، وَأَبْقَى فِي الأَرْضِ أَثَراً، فَلَمْ تَنْفَعْهُم قَوَّتُهُمْ، وَلاَ عَظِيمُ مَا خَلَّفُوهُ فِي الأَرْضِ مِنْ آثَارٍ حِينَمَا جَاءَهُمْ أَمَرُ اللهِ، وَأَخَذَهُمْ جَمِيعاً فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَداً بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، وَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مَنْ يَقِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَلاَ مَنْ يَمْنَعُ عَنْهُمْ بَأْسَهُ وَبَطْشَهُ.
وَاقٍ - دَافِعٍ عَنْهُمُ العَذَابَ.
(٢٢) - وَقَدْ أَخَذَهُم اللهُ تَعَالَى وَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَاقٍ وَلاَ نَاصِرٍ، لأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُ رَبِّهِمْ بِالبَرَاهِين والحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، فَكَفَرُوا بِهَا، فَأَهْلَكَهُمْ اللهُ وَأَبَادَهُمْ، وَلَمْ يُتْرُكْ لَهُمْ فِي أَرْضِهِمْ مِنْ بَاقِيةٍ، وَاللهُ تَعَالَى قَوِيٌّ عَزِيزٌ، ذُو بَطْشٍ شَدِيدٍ.
(٢٣) - يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ عَمَّا يُلاَقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ المُكَذِّبِينَ، فَيَذْكرُ لَهُ قَصَصَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ، وَمَا لاَقوهُ مِنْ أَقْوَامِهِمْ، فَكَانَتِ العَاقِبَةُ لَهُمْ، والدِّمَارُ لأَعْدَائِهِمْ وَمُكَذِّبِيهِمْ.
وَبَدأ اللهُ تَعَالَى بِسَرْدِ قِصَّة مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَرْسَلَهُ بِالآَيَاتِ البَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ الدَامِغَاتِ.
(٢٤) - إِلَى فِرْعونَ مَلِكِ مِصْرَ، وَهَامَانَ وَزِيرِهِ، وَقَارُونَ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَغْنَى أَهْلِ زَمَانِهِ (وَجَاءَ فِي آيةٍ أُخْرَى إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى) فَكَذَّبُوا مُوسَى، وَقَالُوا جَمِيعُهُمْ إِِنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، لأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ مُقَارَعَةِ الآيَاتِ التِي جَاءَهُمْ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ.
(٢٥) - فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِالآيَاتِ البَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى، وَعظِيمِ سُلْطَانِهِ وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الذِي أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِمَنْ حَوْلَهُ: اقْتُلُوا الذُّكُورَ مِنْ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَرِسَالَتِهِ، وَاسْتَبْقُوا نِسَاءَهُمْ، زَيَادَةً فِي الإِذْلاَلِ والنَّكَالِ، وَذَلِكَ لِيتَشَاءَمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ المَوْجُودُونَ فِي مِصْرَ مِنْ مَوسَى، إِذْ تَكُونُ المَصَائِبُ قَدْ حَلَّتْ بِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ تَصْدِيقِهِمْ لِمُوسَى بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ. وَكَانَ هَدَفُ فِرْعَونَ وَمَلَئِهِ، مِنْ قَتْلِ الذُّكُورِ أَنْ يَنْقُصَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لئِلا يَغْلَبُوا عَلَى القِبْطِ؛ وَلَكِنَّ مَكْرَهُمْ هَذَا أَفْسَدَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنْفَذَ اللهُ قَدَرَهُ، فَأَنْجَى مُوسَى وَبَني إِسْرَائِيلَ وَأَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ.
اسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ - اسْتَبْقُوا بَنَاتِهِمْ أَحْيَاءً لِلْخدْمَةِ.
ضَلاَلٍ - ضَيَاعٍ وَبَاطِلٍ.
عُذْتُ - اعْتَصَمتُ وَاسْتَجَرْتُ.
(٢٨) - وَتَوَلَّى الدِفَاعَ مُوسَى، لِصَرْفِ فِرْعَونَ عَمَّا اعْتَزَمَهُ مِنْ قَتلِهِ، رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ خَوْفاً مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فَقَالَ لِفِرْعَوْنَ: أَيَنْبَغِي لَكُمْ أَن تَقْتَلُوا رَجُلاً لَمْ يَرْتَكِبُ ذَنْباً سِوَى أَنَّهُ قَالَ: رَبِّي اللهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِدَلاَلاَتٍ وَبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِهِ، وَمِثْلُ هَذَا القَوِلِ لاَ يَسْتَدْعِي قَتْلاً. فَإِذَا كَانَ مُوسَى كَاذِباً فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَأْمُرَكُمْ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى، وَتَرْكِ دِينكُمُ الذِي أَنْتًُمْ عَلَيْهِ، فَإِثْمُ كَذِبِهِ يَعُودُ عَلَيْهِ هُوَ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْ إِثْمِهِ شَيءٌ. وَإِنْ كَانَ صَادِقاً فِيمَا يَقُولُ فلاَ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَقْتلُوهُ لأَنَّكُمْ إِنْ قَتَلْتُمُوهُ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ لِكُفْرِكُمْ، وَلِقَتْلِكُمْ رَسُولَهُ، وَاسْتَوْجَبْتُمْ عِقَابَهُ الذِي أَنْذَرَكُمْ بِهِ مُوسَى، وَلَوْ كَانَ كَاذِباً كَمَا تَزْعُمُونَ لَكَانَ أَمْرُهُ افْتَضَحَ، وَلَمَا هَدَاهُ اللهُ، وَلَمَا أَيْدَهُ بِمُعْجِزَاتِهِ وَآيَاتِهِ، لأَنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ والصَوابِ مَنْ كَانَ كَذَّاباً مُسْرِفاً فِي كَذِبِهِ.
(٢٩) - وَتَابَعَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ وَعْظَهُ لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لِيُثبِّطَهُمْ وَيَصْرِفَهُمْ عَنْ قَتْلِ مُوسَى، فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ بِهَذَا المُلْكِ، وَبِالظُّهُورِ فِي الأَرْضِ بِالكَلِمَةِ النَّافِذَةِ، وَالجَاهِ العَرِيضِ، فَرَاعُوا هِذِهِ النَّعْمَةَ، وَلاَ تُفْسِدُوا أَمْرَكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تُعَرِّضُوا أَنْفُسَكُمْ لِبَأْسِ اللهِ وَعَذَابِهِ بِقَتْلِهِ، فَإِنَّهُ لاَ قِبَلَ لَكُمْ بِذَلِكَ، وَإِذَا جَاءَكُمْ بَأْسُ اللهِ لَمْ يَمْنَعْكُمْ مِنْهُ أَحَدٌ.
وَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ قَوْلَ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: إِنَّهُ لاَ يَقُولُ لَهُمْ، وَلاَ يُشَيرُ عَلَيْهِم إِلاَّ بِمَا يَرَاهُ لِنَفْسِهِ، وَلاَ يَدْعُوهُمْ إِلاَّ إِلَى طَرِيق الحَقِّ والصِّدْقِ والرُّشْدِ.
(أَيْ إِنَّهُ لاَ يُشِيرُ عَلَيْهِمْ بِرَأيٍ سِوى قَتْلِ مُوسَى حَسْماً لِلْفِتْنَةِ، وَإِنَّهُ يَرى هَذَا هُوَ سَبِيلَ الرَّشَادِ).
ظَاهِرينَ - عَالِينَ غَالِبينَ.
بَأْسِ اللهِ - عَذَابِهِ وَنقْمَتِهِ.
مَا أُرِيكُمْ - مَا أُشِيرُ عَلَيْكُمْ.
(٣٠) - وَقَالَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ نَاصِحاً فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ، يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ إِنْ كَذَّبُتم مُوسَى، وَتَعَرَّضْتُمْ لَهُ بِسُوءٍ، أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مِثْلُمَا حَلَّ بِمَنْ تَحَزَّبُوا وَاجْتَمَعُوا عَلَى تَكْذِيبِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الأُمَمِ المَاضِيَةِ.
الأَحْزَابِ - الأُمَمِ المُتَحَزِّبَةِ عَلَى رُسُلِهَا.
دَأَبِ - عَادَةٍ فِي الإِقَامَةِ عَلَى الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ.
(٣٢) - ثُمَّ خَوَّفَهُمْ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي الآخِرَةِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِمْ عَذَابَ يَوْمِ القِيَامَةِ.
يَوْمَ التَّنَادِ - هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ إِذْ يَهْلَعُ النَّاس فَيَنْطلِقُونَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً.
عَاصِمٍ - مَانِعٍ وَدَافِعٍ.
(٣٤) - وَلَقَدْ جَاءَ يُوسُفُ أَسْلاَفَكُمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ بِالآيَاتِ الوَاضِحَاتِ، وَالمُعْجِزَاتِ البَاهِرَاتِ فَارْتَابُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَشَكُّوا فِي صِدْقِهِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، حَتَّى إِذَا مَاتَ قَالُوا: لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً يَدْعُوا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ نِقَمِهِ وَبَأْسِهِ. وَاللهُ تَعَالَى يُضِلُّ مِثْلَ هَذَا الضَّلاَلِ البَيِّنِ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ فِي مَعَاصِيهِ شَاكٌ فِي وَحْدَانِيَّةِ الله.
مُرْتَابٌ - شَاكٌّ فِي دِينِ اللهِ وَوحدَانِيَّتِهِ.
(٣٥) - وَهَؤُلاَءِ المُسْرِفُونَ المُرْتَابُونَ هُمُ الذِينَ يُجَادِلُونَ فِي حُجَجِ اللهِ التِي أَتَتْهُمْ بِهَا رُسُلُهُ لِيَدْحَضُوهَا بِالبَاطِلِ، دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ وَلاَ بُرْهَانٌ عَلَى صِحَّةِ مَا يَقُولُونَ. وَيَسْتَتبْعُ ذَلِكَ الجَدَلُ المَقْتَ الكَبِيرَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ المُؤْمِنِينَ. وَكَمَا طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِ المُسْرِفِينَ الذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ، كَذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَطْبَعُ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ يَسْتَكْبِرُ عَنِ الإِيْمَانِ بِاللهِ، وَعَنْ تَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَيَتَجَبَّرُ فِي الأَرْضِ بِالقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
بِغَيْرِ سُلْطَانٍ - بِغَيْرِ بُرْهَانٍ أَوْ حُجَّةٍ.
كَبُرَ مَقْتاً - عَظُمَ جِدَالُهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةِ بُغْضاً.
(٣٦) - وَلَمَّا سَمِعَ فِرَعَوْنَ المُؤْمِنِ مِنْ أَهْلِهِ الذِي كَانَ يَكْتُمْ إِيْمَانَهُ، قَالَ لِوَزِيرِهِ هَامَانَ مُسْتَهِزئاً: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي قَصْراً مُنِيفاً عَالِياً، لَعَلِّي أَصْعَدُ فَأَبْلغُ طُرُقَ السَّمَاوَاتِ وَأَبْوَابَهَا.
صَرْحاً - قَصْراً مُنِيفاً عَالِياً.
(٣٧) - فَإِذَا وَصَلْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ رَأَيْتُ إِلَهَ مُوسَى، وَإِنِّي لأَظُنُّ مُوسَى كَاذِباً فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّ لَهُ إِلهاً فِي السَّمَاءِ أَرْسَلَهُ إِلَيْنا نَبِيّاً. وَهَكَذَا زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِفِرْعَوْنَ عَمَلَهُ السَّيِئَ هَذَا، فَأَوْغَلَ فِي كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ، وَصَدِّهِ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، بِمِثْلِ هَذِِهِ الشُّبَهِ والتَّمْوِيَهَاتِ، وَلَنْ يَكُونَ كَيْدُ فِرْعَوْنَ واحْتِيَالُهُ فِي بِنَاءِ الصَّرْحِ لِيَصْعَدَ إِلَيهِ، فَيَطِّلِعَ إِلَى إِلهِ مُوسَى إِلاَّ خَسَاراً وَبَاطلاً يَلْحَقُهُ.
كَيْدٌ - احْتِيَالٌ وَتَدْبِيرٌ.
تَبَابٍ - خَسارٍ وَهَلاَكٍ.
(٣٨) - وَقَالَ الرَجُلِ الصَّالِحُ المُؤْمِنُ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِي تَرْشُدُوا، وَتَهْتَدُوا إِلَى دِينِ اللهِ الذِي أَرْسَلَ إِلَيكُمْ مُوسَى رَسُولاً.
(٣٩) - وَيَا قَوْمِ إِنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيم وَتَرَفٍ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ لاَ يَدُومِ، تَتَمَتَّعُونَ بِهِ ثُمَّ تَبْلُغُونَ أَجَلَكُمْ فَيَنْزِلُ بِكُم المَوْتُ، أَمَّا الدَّارُ الآخِرَةُ فَهِيَ دَارُ الاسْتِقَرَارِ والبَقَاءِ التِي لا زَوَالَ لَهَا، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً، وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً، دَخَلَ الجَنَّةَ، وَبَقِيَ فِيهَا خَالِداً أَبَداً.
(٤٠) - فَمَنْ عَمِلَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا عَمَلاً سَيَّئاً، أَوِ اجْتَرَحَ إِثْماً فَإِنَّهُ لاَ يُعَاقَبُ إِلاَّ بِمِقْدَارِ عَمَلِهِ، دُونَ مُضَاعَفَةٍ لِلْعِقَابِ. وَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً، ذَكَراً كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، دَخَلَ الجَنَّةَ، وَتَمَتَّعَ بِمَا فِيهَا مِنْ رِزْقٍ كَرِيمٍ، وَنَعِيمٍِ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ تَحْدِيدٍ.
بِغَيْرِ حِسَابٍ - بِلاَ تَحْدِيدٍ وَلاَ نِهَايَةٍ فِي الرِّزْقِ.
(٤١) - ثُمَّ كَشَفَ هَذَا المُؤْمِنُ عَنْ إِيْمَانِهِ، فَأَعْلَنَهُ لِقَوْمِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي لِمَاذَا أَدْعُوكُمْ أَنَا إِلَى النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ، بِالإِيْمَانِ بِاللهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَتَدْعُونَنِي أَنْتُمْ لأَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِالبِقَاءِ عَلَى الكُفْرِ، والعَمَلِ السَّيِّئِ.
(٤٢) - فَأَنْتُمْ تَدْعُونَنِي إِلَى الكُفِرِ بِاللهِ والإِشْرَاكِ بِهِ مَنْ دُونَهُ، بِغَيْرِ بُرْهَانٍ وَلاَ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا تَدْعُونَنِي إِلَيهِ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ خَالِقِ كُلِّ شَيءٍ، وَقَاهِرِ كُلِّ شَيءٍ، وَهُوَ الغَفَّارُ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ إِذَا اسْتَغْفَرُوهُ وَأَنَابُوا إِلَيهِ.
(٤٣) - لاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَا تَدْعَوَننِي أَنْتُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ مِنَ الأَصْنَامِ والأَوْثَانِ لاَ يُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ يَدْعُوهُ، فَهُوَ لاَ يَضُرُّ وَلاَ يَنْفَعُ، لاَ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ. وإِنَّ مَرَدَّنا جَميعاً في الآخِرَةِ سَيَكُونُ إِلى اللهِ تَعَالَى الوَاحِدِ الأَحَدِ، وَإِنَّ المُسْرِفِينَ المُتَجَاوزِينَ الحَدَّ بِالكُفْرِ والشِّرْكِ سَيَكُونُونَ هُمُ الذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَيُعَذَّبُونَ فِيهَا.
لاَ جَرَمَ - لاَ مَحَالَةَ أَوْ حَقاً أَوْ لاَ شَكَّ.
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ - مُسْتَجَابَةٌ.
(٤٥) - فَحَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى مِمَّا أَرَادُوا بِهِ مِنَ المَكْرِ السَّيءِ، إِذْ أَنْجَاهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الفَائِزينَ، وَأَحَاطَ بِفرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ وَمَلَئِهِ سُوءُ العَذَابِ، فَأَغْرَقَهُمْ فِي اليَمِّ فِي الدُّنْيَا، وََلَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ عِنْدَ اللهِ إِلاَّ العَذَابُ الأَلِيمُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
حَاقَ بِهِمْ - أَحَاطَ أَوْ نَزَلَ بِهِمْ.
(٤٦) - وَتُعْرَضُ أَرْوَاحُهُمْ عَلَى النَّارِ صَبَاحاً وَمَسَاءً مِنْ حِينِ مَوْتِهِمْ إِلَى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَيُقَالُ لَهُمْ يَا آلَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ مَنَازِلكُمْ. وَحِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ وَيَحْشرُ اللهُ الخَلاَئِقَ، يُقَالُ لِخَزَنةِ جَهَنَّمَ: أَدْخِلُوا آل فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ أَلَماً، وَأَعْظَمَهُ نَكَالاً.
(٤٧) - وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ أَهْلُ النَّارِ فِي الحِجَاجِ وَالخِصَامِ، فَيَقُولُ الأَتْبَاعُ لِلْقَادَةِ: إِنَّا أَطَعْنَاكُمْ فِيمَا دَعَوْتُمُونَا إِلَيهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الكُفْرِ والضَّلاَلِ، فَهَلْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا عَنَّا قِسْطاً مِنَ العَذَابِ فَتُخَفِّفُوهُ عَنَّا؟ فَقَدْ كُنَا لَكُمْ أَتْبَاعاً، وَإِنَّمَا دَخَلْنَا النَّارَ بِسَبَبِ إِطَاعَتِنَا لَكُمْ.
مُغْنُونَ عَنَّا - دَافِعُونَ أَوْ حَامِلُونَ عَنَّا.
(٥١) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى، إِنَّهُ سَيَجْعَلُ رُسلَهُ هُمُ الغَالِبِينَ لأَعْدَائِهِمْ وَمُعَانِدِيهِمْ، وَإِنَّهُ سَيَنْصُرُ مَعَهُمُ المُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يَكُونُ بالطُّرُقِ التَّالِيةِ:
- إِمَّا بِجَعْلِهِمْ غَالِبِينَ عَلَى مَنْ كَذَّبَهم، كَمَا فَعَلَ بِدَاوُدَ وَسُلَيمَانَ وَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ.
- وإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ عَادَاهُمْ وَآذَاهُمْ، وَإِهْلاَكِهِ إِيَّاهُمْ، وَإِنْجَائِهِ الرُّسُلَ والمُؤْمِنِينَ، كَمَا فَعَلَ بِنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَمُوسَى وَلُوطٍ.
- وَإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ آذَى الرُّسُلَ بَعْدَ وَفَاةِ الأَنْبِيَاء والرُّسُلِ، بِتَسْلِيطِ بَعْضِ خَلْقِ اللهِ عَلَى المُكَذِّبِينَ المُجْرِمِينَ لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُمْ، كَمَا فَعَلَ مَعَ زَكَرِيا وَيَحْيَى، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ.
وَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ رَسُلَهُ والمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَتِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَذَلِكَ يَنْصُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ اليومُ الذِي يَقُومُ فِيهِ الأشْهَادُ مِنَ المَلاَئِكَةِ والأَنْبِيَاءِ والمُؤْمِنِينَ، بالشَّهَادَةِ عَلَى الأُمَم المُكَذِّبَةِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوهُمْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ.
يَقُومُ الأِشْهَادُ - المَلاَئِكَةُ والرُّسُلُ والمُؤْمِنُونَ.
(٥٢) - وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ العِبَادِ يُؤَدُّونَ شَهَادَاتِهِمْ، فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لاَ يَنْفَعُ أَهْلَ الشِّرْكِ اعْتِذَارُهُمْ لأَنَّ أَعْذَارَهُمْ بَاطِلَةٌ، مَرْدُودَةٌ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ اللَّعْنَةُ والطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَهُمْ سُوءُ العَاقِبَةِ والقَرَار فِي جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ المُسْتَقَرُّ وَالمَأْوَى.
مَعْذِرَتُهُمْ - اعْتِذَارُهُمْ حِينَ يَعْتَذِرُونَ.
(٥٣) - وَلَقَدْ أَعْطَينَا مُوسَى الشَّرَائِعَ والمُعْجِزَاتِ التِي يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ، وَأَنْزَلْنَا عَلَيهِ التَّوْرَاةَ، وَفِيهَا مَا يَهْدِي بِهِ قَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَوَارَثُوهُ خَلَفاً مِنْ سَلَفٍ.
(٥٤) - وَجَعَلْنَا التَّوْرَاةَ هُدًى يَهْتَدِي بَنُو إِسْرَائِيلَ بِأَحْكَامِهَا، وَتَذْكِرَةً لأَوْلِي العُقُولِ السَّلِيمَةِ والأَفْهَامِ المُسْتَقِيمَةِ (لأُوُلي الأَلْبَابِ).
(٥٥) - فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ لأَمْرِ رَبِّكَ، وَبَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَأَيْقِنْ بِأَنَّ اللهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لَكَ، وَنَاصِرُكَ وَمُؤَيِّدُكَ عَلَى مِنْ عَادَاكَ وَعَانَدَكَ، وَكَفَرَ بِرِسَالَتِكَ، وَسَلْ رَبَّكَ المَغْفِرَةِ لِذَنْبِكَ، والصَّفْحَ عَنْكَ، وَصَلِّ فِي طَرَفِيْ النِّهَارِ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً فِي الصِّبَاحِ والمَسَاءِ.
(٥٦) - إِنَّ الذِينَ يُجَادِلُونَكَ لِدَفْعِ الحَقِّ بِالبَاطِلِ، وَيُحَاوِلُونَ رَدَّ الحُجَجِ الصَّحِيحَةِ بِالشُّبَهِ الفاسِدَةِ، بِلاَ بُرْهَانٍ وَلاَ دَلِيلٍ لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى صِحَّةِ مَا يَقُولُونَ، إِنَّما يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِمَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اسْتِكْبَارٍ عِنْ اتِّبَاعِ الحَقِّ، وَاحْتِقَارٍ لِمَنْ جَاءَهُمْ بِهِ، وَلَنْ يَبْلُغُوا مَا يَرْومُونَ وَمَا يُرِيدُونَ وَيُؤمِّلُونَ بِهِ مِنْ إِخْمَادِ الحَقِّ، وَإْعِلاَءِ البَاطِلِ، وَسَيَبْقَى الحَقُّ هُوَ الغَالِبَ دَائِماً، فَالْتَجَئْ إِلَى اللهِ مُسْتَعيذاً بِهِ فِي دَفْعِ كَيْدِ هَؤُلاَءِ المُسْتَكْبِرينَ المُجَادِلِينَ بِالبَاطِلِ، فَهُوَ السَّمِيعُ لِدْعَائِكَ وَاسْتِعَاذَتِكَ، وَلِمَا يَقُولُونَ وَيَأْفِكُونَ، وَهُوَ البَصِيرُ بِحَالِكَ وَحَالِهِمْ.
بِغَيْرِ سُلْطَانٍ - بِغَيْرِ حُجّةٍ أَوْ بُرْهَانٍ.
مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ - مُقْتَضَى الكِبْرِ والتَّعَاظُمِ.
(٥٧) - إِنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ ابْتِدَاءً، مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ سَابِقٍ وُجُودُهَا، أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، لِعِظَمِ الأَجْرَامِ وَالأفْلاَكِ وَالنُّجُومِ والكَوَاكِبِ السَّابِحَِ فِي السَّمَاوَاتِ، وَالتِي لاَ يُمْسِكُهَا وَيَضْبِطُهَا إِلاَّ أَمْرُ اللهِ وَإِرَادَتُهُ، وَكَذِلِكَ الحَالُ بِالنَّسْبَةِ إِلَى الأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَبِحَارِ وَأَشْجَارٍ وَأَنْهَارٍ، وَمَخْلُوقَاتٍ، لاَ يُحْصِي عَدَهَا إِلاَّ اللهُ تَعَالَى، وَمَنْ قَدرَ عَلَى خَلْقِ العَظِيمِ لاَ يُعْجِزُهُ الحَقِيرُ، وَمَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَمَنْ فِيهِمَا ابْتِدَاءً لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ بَعْثَ النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَتَدَبَّرُونَ الحُجَجَ وَالأَدِلَةَ القَائِمَةَ الدَّالَّةَ عَلَى عَظَمَةِ الخَالِقِ، وَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
(٥٨) - وَكَمَا أَنَّهُ لاَ يَسْتَوِي الأَعْمَى الذِي لاَ يُبْصِرُ شَيئاً، مَعَ البَصِيرِ الذِي يَرَى مَا انْتَهَى إِلَيهِ بَصَرُهُ، بَلْ هُنَاكَ بَيْنَهُمَا فَارِقٌ كَبِيرٌ، كَذَلِكَ لاَ يَسْتَوِي المُؤْمِنُونَ الأَبْرَارُ الذِينَ يُطِيعُونَ اللهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ، مَعَ الفُجَّارِ الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، وَاجْتَرَحُوا السَّيئَاتِ، وَعَصَواُ رَبَّهُمْ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِهِ، فَمَا أَقَلَّ تَذَكُّرُكُمْ حُجَجَ اللهِ، وَمَا أَقَلَّ اعْتِبَارَكُمْ وَاتِّعَاظَكُمْ بِهَا، وَلَوْ تَذَكَّرْتُمْ وَاعْتَبَرْتُمْ لَعَرَفْتُمْ خَطَأ مَا أَنْتُمْ فِيهِ.
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ فَإِنَّهُ سَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَهُمْ أَذِلاءُ صَاغِرُونَ.
(٦١) - وَاللهُ الخَالِقُ البَارِئُ الذِي لاَ تَصِحُّ العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ، هُوَ الذِي جَعَلَ اللَّيْلَ لِلسُّكُونِ وَالرَّاحَةِ مِنَ الحَرَكَةِ، وَهُوَ الذِي جَعَلَ النَّهَارَ مُضِيئاً لِيَسْتَطِيعَ النَّاسُ فِيهِ الإِبْصَارَ لِيتَصَرَّفُوا فِيهِ فِي طَلَبِ مَعَاشِهِمْ، وَمُزَاوَلَةِ أَعْمَالِهِمْ فَهُوَ المُتَفَضِّلُ عَلَى النَّاسِ بِالنِّعَمِ التِي لاَ تُحْصَى، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَجْحَدُونَ بِهِذِهِ النِّعَمِ، وَلاَ يَعْتَرِفُونَ بِهَا، وَلاَ يَشْكُرُونَ الخَالِقَ عَلَيْهَا.
مُبْصِراً - مُضِيئاً لِيَسْتَطِيعَ النَّاسُ العَمَلَ فِيهِ.
(٦٢) - وَالذِي فَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَغْدَقَ عَلَيْكُم النِّعَمَ التِي لاَ تُحْصَى، هُوَ اللهُ، وَهُوَ رَبُّكُم الوَاحِدُ الأَحَدُ، وَلاَ إِلهَ غَيْرُهُ، فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ َتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللهِ تَعَالَى، وَتَعْبُدُونَ غَيْرَهُ؟
فًَأَنَّى تُؤْفَكُونَ - فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ.
(٦٣) - كَذَلِكَ يُصْرَفُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا صُرِفَ الذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ عَنِ الحَقِّ، فَعَبَدُوا غَيْرَ اللهِ، وَجَحَدُوا بِآيَاتِهِ، بِلاَ دَلِيلٍ وَلاَ بُرُهَانٍ عَلَى صِحَّةِ مَا يَفْعَلُونَ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الهَوَى والجَهْلِ والتَقْلِيدِ.
يُؤْفَكُ - يُصْرَفُ عَنِ التَّوْحِيدِ والإِيْمَانِ.
(٦٤) - وَاللهُ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ والذِي لاَ تَنْبَغِي العِبَادَةُ لِغَيْرِهِ، هُوَ الذِي جَعَلَ الأَرْضَ لِلنَّاسِ قَراراً يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا، وَيَعِيشُونَ مِنْ خَيْرَاتِهَا، وَيَتَصَرَّفُونَ بِهَا، وَجَعَلَ لَهُم السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً (بِنَاءً)، وَخَلَقَ النَّاسَ فَأَحْسَنَ خَلْقَهُمْ، وَصَوَّرَهُمْ فَأَحْسَنَ تَصْوِيرَهُمْ، فَتَبَارَكَ اللهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، فَهُوَ رَبُّ العَالَمِينَ.
الأَرْضَ قَرَاراً - مُسْتَقَرّاً يَعِيشُونَ فِيهَا.
السَّمَاءَ بِنَاءً - سَقْفاً مَرْفُوعاً مَحْفُوظاً.
(٦٥) - وَاللهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّ العَالَمِينَ أَوَّلاً وَأَبْداً، وَهُوَ الأَوَّلُ والآخِرُ، والظَّاهِرُ والبَاطِنُ، لاَ نَظِيرَ لَهُ وَلاَ عَدِيلَ، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الطَّاعَةَ، مُوَحِّدِينَ، مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، وَقُولُوا: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ نَحْمَدُهُ تَعَالَى وَنُسَبِّحُهُ، فَهُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ.
(٦٦) - وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى نَهَانِي، وَنَهَى خَلْقَهُ جَمِيعاً، فِي القُرْآنِ الذِي أَنْزَلَهُ عَلَيَّ، أَنْ نَعْبُدَ مِنْ دُونِهِ مَا تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ مِنَ أَصْنَامٍ وَأَوْثَانٍ، وَأَمَرَنِي بِأَنْ أَنْقَادَ إِلَيهِ، وَأَنْ أُخْلِصَ لَهُ دِينِي، لأَنَّهُ تَعَالَى رَبُّ العَالَمِينَ جَمِيعاً.
أَنْ أُسْلِمَ - أَنْ أَنْقَادَ وأُخْلِصَ دِينِي
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ - كمَالَ عَقْلِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ.
(٦٩) - أَلاَ تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ، والَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي الحَقِّ بِالبَاطِلِ، كَيْفَ تُصْرَفُ عُقُولُهُمْ عَنْ الهُدَى إِلَى الضَّلاَلَةِ؟
أَنَّى يُصْرَفُونَ - كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الآيَاتِ مَعَ وُضُوحِهَا.
(٧٠) - وَهَؤُلاَءِ المُبْطِلُونَ الذِينَ يُجَادِلُونَ فِي الحَقِّ بِالبَاطِلِ هُمُ الذِينَ كَذَّبُوا بِالقُرْآنِ، وَبِجَمِيعِ مَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا مِنْ إِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ، وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ مَا يَكُونَ عَلَيْهِ مَصِيرُهُمْ فِي الآخِرَةِ.
(٧١) - إِذ تُجْعَلُ الأَغْلاَلُ والسَّلاَسِلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَيُسْحَبُونَ بِهَا يُسْحَبُونَ - يُجَرُّونَ.
الأَغْلاَلُ - القُيُودُ.
سُجِرَ التَّنورُ - أُضْرِمَ فِيهِ النَّارُ.
(٧٤) - وَأَيْنَ المَعْبُودَاتُ التِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ فَادْعُوهُمْ لِيُنْقذُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ البَلاَءِ والعَذَابِ؟ فَيَردُّونَ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ غَابُوا عَنْهُمْ، وَلاَ يَعْرِفُونَ لَهُمْ مَكَاناً، وَلاَ يَرْجُونَ مِنْهُمْ نَفْعاً، ثُمَّ يَجْحَدُونَ عِبَادَتَهُم الأَصْنَامَ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَ آلهَةً أُخْرَى غَيْرَ اللهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ (وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ المَعْنَى هُوَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَدعُونَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا شَيئاً يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الأَرْبَابِ) وَهَكَذَا يُضِلُّ اللهُ الكَافِرِينَ، فَلاَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
تَفرحُونَ - تَبْطَرُونَ.
تَمْرَحُونَ - تَخْتَالُونَ كِبَراً وَبَطَراً.
(٧٦) - فَادْخُلُوا الآنَ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ لِتقِيمُوا فِيهَا خَالدِينِ أَبْداً، وَبِئْسَ جَهَنَّمُ مَنْزِلاً وَمُقَاماً لِلْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى اللهِ فِي الدُّنْيَا.
مِثْوَى المُتَكَبِّرِينَ - مَأْوَاهُمْ وَمَقَامُهُمْ.
(٧٨) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ قَبْلَهُ رُسُلاً إِلَى أَقْوَامِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ اللهُ لَهُ أَخْبَارَهُمْ فِي القُرْآنِ وَهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصِ اللهُ أَخْبَارَهُمْ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ.
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ كُمْ عَدَدُ الأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ مِئَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفاً، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلاَثُمِئَةٍ وَخَمْسَةََ عَشَرَ جَمّاً غَفِيراً "). (رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ).
وَلَمْ يَكُنْ لأِحَدٍ مِنَ الرًّسُلِ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمَهُ بِمُعْجِزَةٍ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ بِذَلِكَ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمُ بِهِ. فَإِذَا نَزَلَ عَذَابُ اللهِ وَنَكَالُهُ بِالمُكَذِّبِينَ قُضِيَ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ. فَيُنَجِّي اللهُ رُسُلَهُ والمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ، وَيُهْلِكُ الكَافِرِينَ الذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللهِ كَذِباً.
(٧٩) - يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الأَنْعَامِ، وَهِيَ الإِبْلُ والبَقَرُ والغَنَمُ والمَاعِزُ، فَيَأْكُلُونَ مِنْ لُحُومِهَا، وَيَرْكَبُونَ عَلَى الإِبلِ مِنْهَا وَيَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُمْ.
(٨٠) - وَلَهُمْ فِيهَا مَنِافِعُ أُخْرَى فَيَسْتَفِيدُونَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا فِي صُنْعِ مَلاَبِسِهِمْ وَأَثَاثِهِمْ وَفُرُشِهِمْ وَخِيَامِهِمْ.. وَيَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْ جُلُودِهَا، وَيَتَبَاهَوْنَ بِهَا وَيَتَفَاخَرُونَ، وَيُسَرُّونَ مِنْ مَنْظَرِهَا حِينَ تَذْهَبُ إِلَى المَرَاعِي صَبَاحاً، وَحِينَ تَرْجعُ مَسَاءً شَبْعَى رَيَّاً كَقَوْلِهِ تَعَالَى. ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ وَيَنْتَقِلُونَ هُمْ وَأَحْمَالُهُمْ وَأَثْقَالُهُمْ عَلَى الإِبِلِ، إِلَى الأَمَاكِنِ البَعِيدَةِ انْتِجَاعاً لِلْكَلأِ، أَوْ سَعْياً وَرَاءَ العَمَلِ والتِّجَارَةِ.
حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ - أَمْراً ذَا بَالٍ تَهْتَمُونَ بِهِ.
(٨١) - وَيُرِيكُمُ اللهُ آيَاتِهِ وَحُجَجَهُ الدَّالَةَ عَلَى وُجُودِهِ، وَوحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَأَيّاً مِنْهَا تُنْكِرُونَ، وَبِأَيِّهَا تَعْتَرِفُونَ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ بَادِيَةٌ لِلْعَيَانِ، لاَ سَبِيلَ إِلَى جُحُودِهَا.
(٨٢) - أَفَلَمْ يَسِرْ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فِي الأَرْضِ فَيَرَوْا فِي البَلاَدِ التِي مَرُّوا بِهَا مَا حَلَّ بِالذِينَ كَذَّبُوا قَبْلَهُمْ رُسُلَ اللهِ مِنَ الأُمَمِ البَائِدَةِ: عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الأَيْكَةِ.. وَكَيْفَ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَأَبَادَ خَضْرَاءَهُمْ، فَلَمْ يُبْقِ لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ، وَكَانَ هَؤُلاَءِ السَّالِفُونَ أَكْثَرَ قَوَّةً مِنْ قُرَيِشٍ، وَأَبْقَى أَثَراً فِي الأَرْضِ، وَأَكْثَرَ عَدَداً.. فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ كُلُّ ذَلِكَ وَلَمْ يُغِنِ عَنْهُمْ شَيئاً مِنْ بَأْسِ اللهِ حِينَمَا جَاءَهُمْ، فَهَلاَّ اعْتَبرَ مُشْرِكُو قُرْيشٍ بِذَلِكَ؟
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ - فَمَا دَفَعَ عَنْهُمْ.
(٨٣) - فَلَمَّا جَاءَ رُسُلُ اللهِ أَقْوَامَهُمْ بِالأَدِلَّةِ الوَاضِحَةِ والحُجَجِ الدَّامِغَةِ، والبَرَاهِينِ الظَّاهِرَةِ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الرُّسُلِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِمَا أَتَوْهُمْ بِهِ، وَاسْتَغْنُوَا عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العَقَائِدِ الزَّائِفَةِ، وَالشَّبَهِ الدَّاحِضَةِ، وَهُمْ يَظُنُّونَهَا عِلْماً نَافِعاً، فَفَرِحُوا بِهَا، فَنَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ، وَأَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهذَا العَذَابُ هُوَ مَا كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ.
مِنَ العِلْمِ - مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مِنَ العَقَائِدِ الزَّائِفَةِ.
حَاقَ بِهِمْ - أَحَاطَ بِهِمْ أَوْ نَزَلَ بِهِمْ.
(٨٤) - فَلَمَّا عَايَنُوا عَذَابَ اللهِ النَازِلَ بِهِمْ قَالُوا: آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَكَفَرْنَا بِتِلْكَ المَعَبُودَاتِ البَاطِلَةِ التِي لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا وَلا لِعَابِديهَا نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً.
رَأَوْا بَأْسَنَا - عَايَنُوا شِدَّةَ عَذَابِنَا.
(٨٥) - فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِيْمَانُهُمْ حِينَمَا عَايَنُوا العَذَابَ، وَمَضَى فِيهِمْ حُكْمُ اللهِ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ فِي الذِينَ سَلَفُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، إِنَّهُ تَعَالَى لاَ يَقْبَلُ مِنَ العِبَادِ التَّوْبَةَ حِينَما يَرَوْنَ عَذَابَ اللهِ وَعِقَابَهُ؛ وَأَمْضَى فِيهِمْ حُكْمَهُ العَادِلَ بِإِبَادَتِهِمْ، وَخَسِرَ الكَافِرُونَ المُبْطِلُونَ خُسْرَاناً مُبِيناً.
خَلَتْ - مَضَتْ.