ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿حم (١)﴾[١] ﴿حم﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف (١)، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بإمالة الحاء محضًا، وقرأ ورش عن نافع: بإمالتها بين اللفظين، واختلف عن أبي عمرو، فروي عنه بين اللفظين، والفتح، والوجهان صحيحان عنه، وقرأ الباقون، وهم: ابن كثير، وأبو جعفر، ويعقوب، وحفص عن عاصم، وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر: بالفتح، وأبو جعفر: يقطع الحروف على أصله، وكذا اختلافهم في بقية الحواميم، وقد تقدم الكلام في الحروف المقطعة في أوائل السور، ويختص هذا المحل بقول آخر: أن هجاء (حُمَّ) بضم الحاء وشد الميم المفتوحة (٢) (٣)؛ كأنه يقول: حتم الأمر (٤)، ووقع، وقال ابن عباس: " (الر) و (حم) و (ن) هي حروف (الرحمن) مقطعة في سور (٥)، وروي أنه
(٢) في "ش": "مفتوحة".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٦٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٧٠ - ٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٣٥).
(٤) في "ت": "حُمَّ الأرض".
(٥) رواه الطبري في "تفسيره" (١٥/ ١٠)، وانظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٣٣)، والتعليق الآتي عند تفسير الآية (١) من سورة الشورى.
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢)﴾.
[٢] ﴿حم﴾ مبتدأ، خبره ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ﴾ والتقدير: أن هذه السورة المسماة بحم تنزيلُ الكتاب من الله.
﴿الْعَزِيزِ﴾ الذي لا مثل له ﴿الْعَلِيمِ﴾ بكل المعلومات.
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)﴾.
[٣] ﴿غَافِرِ﴾ أي: ساتر ﴿الذَّنْبِ﴾ للمؤمنين، والذنب: مأخوذ من الشيء الدنيء الرذل، ومنه ذَنَبُ كل شيء؛ أي: آخره ﴿وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ لهم؛ أي: التوبة، مصدر تاب يتوب توبًا ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ للمشركين.
﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ أي: ذي التطول (١) والمن بكل نعمة، فلا خير إلا منه، فترتب في هذه الآية وعيد بين ضدين، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه، وقال ابن عباس: "الطَّول: السعة والغنى" (٢)، ثم صدع بالتوحيد في قوله:
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ وبالبعث والحشر في قوله: ﴿إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ فيجازي المطيع والعاصي.
(٢) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (١٠/ ٣٢٦٤)، وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ٥٤٦).
[٤] ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ أي: في دفعها بالباطل.
﴿إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بقولهم مرة: إنه سحر، ومرة: إنه قول الكهنة، ومرة: هو أساطير الأولين (١)، ومرة: إنما يعلمه بشر، وأشباه هذا، أما الجدال فيه لحل عقده، واستنباط حقائقه، وتقرير الحق فيه، فمن أعظم الطاعات.
روي أن رسول الله - ﷺ - سمع قومًا يتمارون فقال: "إنما هلكَ مَنْ كان قبلكم بهذا، ضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدِّقُ بعضُه بعضًا، فلا تكذبوا بعضَه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكِلوه إلى عالمه" (٢).
﴿فَلَا يَغْرُرْكَ﴾ يا محمد ﴿تَقَلُّبُهُمْ﴾ تصرُّفهم للتجارة.
﴿فِي الْبِلَادِ﴾ فإنهم إن تمتعوا بزخارف الدنيا، فإنهم يعذبون في الآخرة.
(٢) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٢/ ١٨٥)، وعبد الرزاق في "المصنف" (٢٠٣٦٧)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (٢٩٩٥)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٢٢٥٨)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
[٥] لأنهم كذبوك كما ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ نوحًا ﴿وَالْأَحْزَابُ﴾ الذين تحزبوا على أنبيائهم، وكفروا بهم ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ من بعد قوم نوح.
﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ﴾ كافرة ﴿بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ أي: ليقتلوه.
﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ﴾ بالشرك، والباطل: ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة، إما لانعدام الأهلية، أو لانعدام الحِلِّية (١)؛ كبيع الخمر وبيع الصبي.
﴿لِيُدْحِضُوا﴾ ليزيلوا ﴿بِهِ الْحَقَّ﴾ الإسلام.
﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ بالإهلاك ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ فإنكم تمرون على آثارهم، وهذا تهديد لكفار مكة. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (فَأَخَذْتُهُمْ) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (٢)، وقرأ يعقوب: (عِقَابِي) بإثبات الياء، والباقون بحذفها (٣).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٤١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٣٦).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٣٦).
[٦] ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أي: العذاب ﴿عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قومك، كما حقت على الأمم المكذبة.
﴿أَنَّهُمْ﴾ أي: بأنهم ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ سكانها. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (كَلِمَاتُ رَبِّكَ) بألف بعد الميم على الجمع، والباقون: بغير ألف على التوحيد، وهي للجنس (١).
﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧)﴾.
[٧] ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ من الحافين به، وهم الكَرُوبيُّون سادة الملائكة. قال ابن عباس: "حملةُ العرش ما بين كعبِ أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرةُ خمس مئة عام، وهم خشوع، لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفًا من أهل السماء [السابعة، وكل أهل سماء أشدُّ خوفًا من أهل السماء] (٢) التي دونها".
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
روي أن حملة العرش ثمانية، فأربعة منهم يقولون: [سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حكمك بعد علمك، وأربعة منهم يقولون] (١): سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك (٢)، وكأنهم يرون ذنوب بني آدم.
وروي أن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة يطوفون ويحمدون مسبحين بحمد ربهم (٣) ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ تعالى أنه واحد (٤) لا شريك له.
﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ يقولون:
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ أي: وسعتْ رحمتُك وعلمك كل شيء، ونصبه على التمييز.
﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ دينَ الإسلام.
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (١٩/ ٢٦١)، عن شهر بن حوشب.
ورواه أبو الشيخ في "العظمة" (٣/ ٩٥٤)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (٣/ ٥٥)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٣٦٤)، عن هارون بن رئاب.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٣٦).
(٤) "واحد" زيادة من "ت".
قال مطرف: أنصحُ عباد الله للمؤمنين الملائكةُ، وأغشُّ الخلقِ للمؤمنين هم الشياطين، وتلا هذه الآية (٢).
﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨)﴾.
[٨] ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ﴾ إياها.
﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ عطف على (هم) في (وَأَدْخِلْهُمْ)؛ أي: أدخل معهم هؤلاء؛ ليتم سرورهم.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾ الذي لا يمتنع عليه مقدور ﴿الْحَكِيمُ﴾ فيما يفعله.
﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ ادفعْ عنهم العقوبات يوم القيامة، والمعنى:
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٢١/ ٣٥٨)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (٢/ ٢٠٨)، وانظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٣٦)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٧/ ٢٧٦).
﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيمًا لا ينقطع.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠)﴾ [غافر: ١٠].
[١٠] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ﴾ عند دخولِ النار ورؤيتِهم أعمالَهم الخبيثةَ ومقتِهم أنفسَهم.
﴿لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ المعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: لمقتُ الله أنفسَكم حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون أشدُّ مما تمقتونها اليوم وأنتم في النار.
﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١)﴾.
[١١] ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ﴾ أي: إماتتين: الأولى: أن خلقوا في أصلاب آبائهم مواتًا، والثانية: عند انقضاء آجالهم.
﴿وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ إحياءتين: الأولى: الخروج من البطن، والثانية: البعث يوم القيامة.
﴿فَهَلْ﴾ لنا (١).
﴿إِلَى خُرُوجٍ﴾ من النار والرجوع إلى الدنيا لنطيع ربنا (٢).
﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾ طريق.
﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿ذَلِكُمْ﴾ تعليل في المعنى؛ أي: الذي أنتم فيه من العذاب.
﴿بِأَنَّهُ﴾ أي: بسبب أنكم ﴿إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ﴾ بالتوحيد ﴿كَفَرْتُمْ﴾ وقلتم: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص: ٥].
﴿وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ﴾ معبودكم ﴿تُؤْمِنُوا﴾ تصدقوا ذلك المشرك.
﴿فَالْحُكْمُ﴾ اليوم بعذابكم وتخليدكم في النار ﴿لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ لا لتلك التي كنتم تشركونها معه في الألوهية، والْعَلِيُّ الْكَبِيرُ صفتا مدح من صفاته تعالى.
﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ الدالةَ على وحدانيته.
(٢) "ربنا" زيادة من "ت".
﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ﴾ يتعظ ﴿إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ يرجع عن الشرك.
﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ من الشرك.
﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ إخلاصَكم.
﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ أي: رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة.
﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ خالقُه.
﴿يُلْقِي الرُّوحَ﴾ ينزل الوحي، سماه روحًا؛ لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾ من قضائه ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ الأنبياء.
﴿لِيُنْذِرَ﴾ قراءة العامة: بالغيب؛ أي: لينذر النبي بالوحي، وقرأ روح عن يعقوب من رواية زيد: (لِتُنْذِرَ) بالخطاب (١)؛ أي: لتنذر أنت يا محمد.
﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ هو يوم القيامة؛ لأن الخلائق تلتقي فيه. قرأ نافع، وأبو جعفر بخلاف عن الثاني وعن قالون راوي الأول: (التَّلاَقِي)
﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ﴾ خارجون من قبورهم في بَراز من الأرض، ينظرُهم البصر، لا تسترهم أَكَمَةٌ ولا غيرها، ونصب (يَوْمَ) على البدل من الأول، فهو نصب لمفعول ﴿لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ﴾ في الدارين ﴿مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ من أعمالهم وأحوالهم، فبعد فناء الخلق يقول تعالى:
﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ فلم يُجَبْ، فيجيب نفسه تعالى بقوله:
﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ الذي قهر الخلق بالموت.
﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ يُجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٣٨ - ٣٩).
﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ يحاسبهم في وقت واحد، فلا يشغله حساب عن حساب.
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾ خَوِّفْهم ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾ القيامة، سميت به؛ لأزفها؛ أي: قربها، نظيره: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ [النجم: ٥٧]؛ أي: قربت القيامة.
﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾ وذلك أنها تزول عن أماكنها من الخوف حتى تصير إلى الحناجر ﴿كَاظِمِينَ﴾ مكروبين.
﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ﴾ قريب ينفعهم ﴿وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ فيشفع لهم.
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ﴾ أي: خافية ﴿الْأَعْيُنِ﴾ هي استراقُ النظر إلى محرم؛ كفعل أهل الريب ﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ تضمره القلوب.
﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾ يحكم بالعدل.
﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ صفتان بَيَّنَ عُرُوَّ الأصنام عنهما، وهي عبارة عن الإدراك على إطلاقه.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ كعاد وثمود.
﴿كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ﴾ قرأ ابن عامر: (أَشَدَّ مِنْكُمْ) بالكاف، وكذا هو في المصحف الشامي، والباقون: بالهاء، وكذا هو في مصاحفهم (١).
﴿قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ المعنى: ألم يعتبروا بمن قبلهم؟ كانوا أشد منهم بأسًا وأجسادًا، وأحصن قصورًا، فكفروا.
﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ فأهلكهم.
﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ يدفع عنهم العذاب. قرأ ابن كثير: (وَاقِي)
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ فكذبوهم.
﴿فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ﴾ متمكن مما يريده.
﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وهذا كله وعيد لقريش.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣)﴾.
[٢٣] ثم ابتدأ تعالى قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون وملئه، وهي قصة فيها للنبي - ﷺ - تسلية وأسوة، وفيها لقريش وعيد ومثال يخافون منه أن يحل بهم ما حل بأولئك من النقمة، وفيها وعد للمؤمنين بالنصر والظفر، فقال تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾ وهي المعجزات.
﴿وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ برهان ظاهر.
﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ﴾ في أمر العصا.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ﴾ أي: أعيدوا القتل الذي كان أولًا عند مولد موسى عليه السلام.
﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ عبارة وجيزة تعطي قوتها أن هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله تعالى على قتل أحد من بني إسرائيل، ولا نجحت لهم فيه سعاية، بل أضل الله سعيهم وكيدهم.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ لقومه: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ لأنهم كانوا يكفونه عن قتله ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ الذي يزعم أنه أرسله، هل يمنعه من القتل؟
﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ يغير ما أنتم عليه ﴿أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ فساد دينكم ودنياكم بما يحدث عليكم (١) بسبب إيمانكم من قتل وغيره. قرأ ابن كثير: (ذَرُونيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها، [وقرأ
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٦٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٤١ - ٤٢).
[٢٧] ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ لما سمع قولَ فرعون: ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ لجهله. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: (عُذتُّ) بإدغام الذال في التاء، والباقون: بالإظهار، بخلاف عن أبي جعفر (١).
﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ وهو ابن عمه، واسمه خربيل، وقيل غيره، وهو الذي حكى الله عنه: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى﴾ [القصص: ٢٠]، وكان قد آمن بموسى وهو ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ حكى ابن عطية في "تفسيره" (٢) عن أبيه: أنه سمع أبا الفضل ابن الجوهري على المنبر يقول وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة، فأطرق قليلًا، ثم رفع رأسه فقال:
(٢) في "المحرر الوجيز" (٤/ ٥٥٥).
عَنِ المرءِ لاتسألْ وسَلْ عن قرينهِ | فكلُّ قرينِ بالمقارنِ يقتدي |
﴿أَتَقْتُلُونَ﴾ ظلمًا بلا دليل ﴿رَجُلًا أَنْ﴾ أي: لأن.
﴿يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: بما يدل على صدقه، ثم فصل شأن موسى بقوله:
﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ أي: ضرر كذبه. قرأ أبو عمرو: (وَإِنْ يَك كَّاذِبًا) بإدغام الكاف في الكاف، وقرأ الباقون: بالإظهار (١)؛ لنقصان الحرفين بعدها (٢) من الكلمة مع قلة حروفها.
﴿وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ به من العذاب عاجلًا، وبذلك المقدار تهلكون.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ على الله.
(٢) "بعدها" زيادة من "ت".
[٢٩] ثم استعطفهم بقوله: ﴿يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: غالبين في أرض مصر.
﴿فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ﴾ يمنعنا من عذابه.
﴿إِنْ جَاءَنَا﴾ إذا قتلتم أولياءه.
فثَمَّ ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾ إضرابًا عن مجادلة المؤمن انقطاعًا لقومه:
﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ أي: ما أشير عليكم إلا بما أشير به على نفسي، وهو قتل موسى.
﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ﴾ أدعوكم ﴿إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ طريقَ الفلاح.
﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ﴾ أي: أيام ﴿الْأَحْزَابِ﴾ لأنه كان لكل حزب يوم. وتقدم اختلاف القراء في فتح الياء وإسكانها من (إِنِّي أَخَافُ).
﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿مِثْلَ دَأْبِ﴾ عطف بيان لـ (مثل) قيل: أي: مثل عادة.
﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ لأنه عادل، فلا يهلكهم قبل ثبوت الحجة عليهم، وهذا أبلغ من قوله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦]؛ لأنه نفى إرادة ظلمٍ ما. قرأ أبو عمرو: (يُرِيد ظُّلْمًا) بإدغام الدال في الظاء (١).
﴿وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ يومَ ينادي الناس بعضُهم بعضًا في القيامة، وهو يوم الأعراف، فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وبالعكس، وينادى: ألا إن فلانَ بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، [وأن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا] (٢)، وينادى حين يُذبح الموت: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت. قرأ ابن عامر: (يَوْمَ التَّنَادِّ) بتشديد الدال؛ أي: يوم التنافر، وذلك أنهم هربوا، فندوا في الأرض كما تندُّ الإبل إذا شردت عن أربابها، قاله البغوي (٣).
(٢) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٣) في "تفسيره" (٤/ ٤٢)، والقراءة عنده وعند ابن جني في "المحتسب" (٢/ ٢٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٤٤) ذكرت عن ابن عباس.
[٣٣] ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ منصرفين عن موقف الحساب إلى النار، وقيل: هاربين من النار إذا لفحهم زفيرها.
﴿مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: من عذابه ﴿مِنْ عَاصِمٍ﴾ مانع.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ وتقدم اختلاف القراء في الوقف على الياء من (التَّنَادِي) و (هَادِي).
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ﴾ وهو ابن يعقوب -عليهما السلام-، بعث إلى القبط ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل موسى -عليه السلام- ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالدلالات على صدقه، وهو قوله: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف: ٣٩].
﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾ من الدين.
﴿حَتَّى إِذَا هَلَكَ﴾ مات ﴿قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾ أي: أقمتم على كفركم، وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة، فلم تزالوا كافرين بيوسف وغيره.
﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)﴾.
[٣٥] ثم أنحى لهم على قوم صفتُهم موجودة في قوم فرعون، فكأنه أرادهم، فزال عن مخاطبتهم حسنَ أدب واستجلابًا، فقال: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ بالإبطال لها والرد ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ﴾ برهان.
﴿أَتَاهُمْ كَبُرَ﴾ جدالُهم ﴿مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ﴾ يختم ويحجب عن الهدى ﴿عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ قرأ أبو عمرو، وابن عامر بخلاف عنه: (قَلْبٍ) بالتنوين (مُتكبِّرٍ) صفته، نسب الكبر إلى القلب، والمراد: صاحبُه، وقرأ الباقون: بغير تنوين بإضافة (قَلْبِ) إلى (مُتكبَّرٍ) (١)، ومتى تكبر القلب، تكبر صاحبه، وبالعكس.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ لوزيره: ﴿يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا﴾ بناء ظاهرًا عاليًا لا يخفى على الناظر وإن بعد، وأصلُه من التصريح، وهو الإظهار.
﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾ طرقَها وأبوابها ﴿فَأَطَّلِعَ﴾ قرأ حفصٌ عن عاصم: (فَأَطَّلِعَ) بنصب العين على جواب (لعل)، لأنها هنا بمعنى التمني، وقرأ الباقون: برفعها عطفًا على (أَبْلُغُ) (٢)، المعنى: لعلي أبلغ ما يوصلني إلى السماء، فأطلع ﴿إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ لأنظر ما هو.
﴿وَإِنِّي لأَظُنُّهُ﴾ يعني: موسى ﴿كَاذِبًا﴾ في أن له إلهًا غيري، قال فرعون ذلك تمويهًا، وتقدم ذكر قصة الصرح في سورة القصص.
﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ﴾ قرأ الكوفيون، ويعقوب: (وَصُدَّ) بضم الصاد مجهولًا نسقًا على قوله (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ) (٣)، قال ابن
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٤٦). وذكر البغوي أن قراءة (فأطلعَ) بالنصب، هي قراءة حميد الأعرج أيضًا.
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٣٣)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٤٧).
﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ﴾ في إبطال آيات موسى.
﴿إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ هلاك وخسران.
﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ طريق الهدى. قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون عن نافع: (اتّبِعُوني) بإثبات الياء وصلًا، وقرأ ابن كثير ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (٢).
﴿يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾ تُمتعون بها يسيرًا، ثم تزول.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٢)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٤٧ - ٤٨).
﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ وهو النار إن لم يتب.
﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ والصالح: الطاعات.
﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ رزقًا واسعًا بلا تبعة.
قرأ نافع، وابن عامر (١)، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (يَدْخُلُونَ) بفتح الياء وضم الخاء، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الخاء (٢).
﴿وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ﴾ من النار بالتوحيد. قرأ الكوفيون، ويعقوب، وابن ذكوان عن ابن عامر: (مَا لِي) بإسكان الياء،
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٧١)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٤٨ - ٤٩).
﴿تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢)﴾.
[٤٢] ثم فسر فقال: ﴿تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ بربوبيته.
﴿وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ﴾ في انتقامه ممن كفر.
﴿الْغَفَّارِ﴾ لذنوب أهل التوحيد. قرأ نافع، وأبو جعفر: (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ) بالمد (٣).
﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿لَا جَرَمَ﴾ قرأ حمزة: (لاَ جَرَمَ) بالمد بحيث لا يبلغ
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٤٩).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٤٩).
﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ﴾ إلى نفسه قط بالعبادة.
﴿فِي الدُّنْيَا﴾ لعجزه.
﴿وَلَا فِي الْآخِرَةِ﴾ ينتفع بها.
﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ﴾ فيجازي كلًّا بما يستحقه.
﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ﴾ المشركين ﴿هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ ملازموها.
﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿فَسَتَذْكُرُونَ﴾ إذا نزل بكم العذاب ﴿مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ من النصيحة، فثَمَّ توعدوه لمخالفته دينَهم، فقال:
﴿وَأُفَوِّضُ﴾ أردُّ ﴿أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾ معتمدًا عليه. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (أَمْرِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ يعلم المحق من المبطل.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٥٠).
[٤٥] ثم خرج المؤمن من بينهم، فقصدوا قتله.
﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ به، فنجا مع موسى.
﴿وَحَاقَ﴾ نزل ﴿بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ الغرقُ في الدنيا، والنار في الآخرة.
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦)﴾.
[٤٦] وذلك قوله: ﴿النَّارُ﴾ وهي رفع على البدل من (سُوءُ الْعَذَابِ).
﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ أي: يُحرقون بها نحو: عُرض القوم على السيف؛ أي: قتلوا به.
﴿غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ صباحًا ومساءً.
قال ابن مسعود: "أرواحُ آلِ فرعونَ في أجوافِ طيرٍ سود يُعرضون على النار كلَّ يوم مرتين حتى تقوم الساعة" (١).
ثم أخبر عن مستقرهم يوم القيامة فقال:
﴿أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ فيعاد عليهم الإحراق مرة بعد مرة دائمًا.
﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ﴾ أي: اذكر يا محمد لقومك وقتَ تخاصمهم.
﴿فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ﴾ في القدر والمنزلة في الدنيا.
﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ وهم أشراف الكفار وكبراؤهم، ولم يصفهم بالكبر إلا من حيث استكبروا، لا أنهم في أنفسهم كبراء ولو كانوا كذلك في أنفسهم، لكانت صفتهم الكبير أو نحوه مما يوجب الصفة لهم.
﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾ جمعٌ واحدُه تابع؛ أي: كنا نطيعكم في الدنيا.
﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ﴾ دافعون ﴿عَنَّا نَصِيبًا﴾ جزءًا ﴿مِنَ النَّارِ﴾؟
[٤٨] ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ﴾ تنوينُه عوضٌ من المضاف إليه؛ أي: نحن وأنتم جميعًا ﴿فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ فأدخل المؤمن الجنة، والكافر النار.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ﴾ حين اشتدت عليهم.
﴿لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾ شافعين لنا ﴿يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا﴾ أي: قدر يوم ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي: شيئًا منه.
﴿قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿قَالُوا﴾ أي: الخزنة؛ توبيخًا: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قرأ أبو عمرو: (رُسْلُكُمْ) (رُسْلنا) حيث وقع بإسكان السين، والباقون: بضمها (١).
﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ هلاك؛ لأنه لا ينفعهم.
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ على أعدائهم.
﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بثبوت حجتهم.
﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ جمع شاهد، وهم الحفظة، يقومون يوم القيامة، فيشهدون للرسل بالبلاغ، وعلى الكفار بالتكذيب.
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ﴾ قرأ نافع والكوفيون: (يَنْفَعُ) بالياء على التذكير؛ لأن المعذرة والعذر واحد، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث؛ لتأنيث المعذرة (١)، المعنى: لو اعتذروا، لم يقبل عذرهم.
﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ البعدُ من الرحمة.
﴿وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ الآخرة، وهو شدة عذابها.
[٥٣] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى﴾ النبوة والحكمة، والتوراة تعم جميع ذلك.
﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ من بعد موسى.
﴿الْكِتَابَ﴾ وهي عبارة عن أن طوائف بني إسرائيل قرنًا بعد قرن تصير فيهم التوراة إمامًا، فكان بعضهم يرثها عن (١) بعض.
﴿هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿هُدًى وَذِكْرَى﴾ إرشادًا وتذكرة.
﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ دون الأعمار الذين لا يعقلون.
﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمد على أذاهم.
﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ بنصر أوليائه وقهر أعدائه، فكما نصر موسى وأبقى التوراة في إسرائيل، فكذلك ينصرك ويبقي آثارك في أتباعك.
﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ ليُستن بك ﴿وَسَبِّحْ﴾ صلِّ (٢).
(٢) "صلِّ" زيادة من "ت".
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)﴾.
[٥٦] ونزل في اليهود لما قالوا للنبي - ﷺ -: إن صاحبنا المسيح ابن داود -يعنون: الدجال- يخرج في آخر الزمان، فيبلغ سلطانه البر والبحر، ويسير معه الأنهار، ويرد الملك إلينا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ﴾ (١) برهان ﴿أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ﴾ ما في قلوبهم ﴿إِلَّا كِبْرٌ﴾ أي: تكبر وتعاظُم ﴿مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ لأن الله مُذِلُّهم، فليسوا بمدركي مقتضاه.
﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ فالتجئ إليه من فتنة الدجال.
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ لأقوالكم وأفعالكم.
وتقدم ذكر ما ورد في الدجال في آخر تفسير سورة الكهف.
[٥٧] ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ابتداءً.
﴿أَكْبَرُ﴾ أعظمُ في الصدور.
﴿مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ مرة ثانية، وهي الإعادة.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ الكفار.
﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك، ولا توحيده تعالى، وهو توبيخ للكفار.
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى﴾ هو الجاهل ﴿وَالْبَصِيرُ﴾ هو العالم ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ وهم المحسنون ﴿وَلَا الْمُسِيءُ﴾ اسم جنس يعم المسيئين، و (لا) زائدة؛ لأنه في مقابلة المؤمنين.
﴿قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ أي: تذكرًا (ما) قليلًا يتذكرون، والضمير للناس أو للكفار. قرأ الكوفيون: (تَتَذَكَّرُونَ) بتاءين على الخطاب، وقرأ الباقون: بالغيب (١)؛ لأن أول الآيات وآخرها خبر عن قوم.
[٥٩] ﴿إِنَّ السَّاعَةَ﴾ القيامة.
﴿لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ لا شك في مجيئها] (١).
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ لا يصدقون بها.
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي﴾ اعبدوني. قرأ ابن كثير: (ادْعُونِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢)، وأبو عمرو يدغم اللام في الراء، وكذلك في قوله (وَقَال رَّجُلٌ) وشبهه حيث وقع (٣) ﴿أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ أُثِبْكم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ صاغرين. قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وأبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (سَيُدْخَلُونَ) بضم الياء وفتح الخاء مجهولًا، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الخاء معلومًا (٤)، وقيل: الدعاء هو الذكر والسؤال.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٧٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٥٤).
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٥٤).
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٧٢)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٥١ - ٥٢)، =
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا﴾ لتستقروا ﴿فِيهِ﴾ بأن خلقه باردًا مظلمًا؛ ليؤدي إلى ضعف المحركات وهدوء الحواس.
﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ يبصر فيه، وإسناد البصر إليه مجازي.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ وتنكيره الفضل يؤذن بكثرة فضله تعالى، وشياعه في كل فضل.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ لجهلهم بالمنعم، وفي تكرير (الناس) توبيخ لهم.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ الذي لا يشارك.
(١) رواه الترمذي (٣٣٧٣)، كتاب: الدعوات، باب: (٢)، وابن ماجه (٣٨٢٧)، كتاب: الدعاء، باب: فضل الدعاء.
﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كما أُفِكْتُم عن الحق مع قيام الدلائل، كذلك.
﴿يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ ولم يتأملوها.
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ سقفًا كالقبة.
﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ قال ابن عباس: "خلق ابن آدم قائمًا معتدلًا، يأكل ويتناول بيده، وغيرُ ابن آدم يتناول بفيه" (١).
﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ اللذائذ غير رزق البهائم.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فإن كل ما سواه مربوب.
[٦٥] ﴿هُوَ الْحَيُّ﴾ الذي لا يموت.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إذ لا موجود يساويه.
﴿فَادْعُوهُ﴾ فاعبدوه ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ من الشرك.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هو إخبار، وفيه إضمار الأمر، مجازه: فادعوه واحْمدوه.
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ولما طلب الكفار منه - ﷺ - عبادة الأوثان، نزل: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ (١) تعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ﴾ دلائل التوحيد ﴿مِنْ رَبِّي﴾ وإن كان منهيًّا عن عبادتها أبدًا عقلًا، فهو مع البينات آكد، ويجوز أنه نهي له - ﷺ -، والمراد غيره، يوضحه:
﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ لأنه كان مسلمًا.
[٦٧] ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾ أي: أطفالًا، وتعلق (لِتَبْلُغُوا) بمحذوف تقديره: يُبقيكم.
﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ تكامُلَ قوتكم، وكذلك.
﴿ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر: (شِيُوخًا) بكسر الشين، والباقون: بضمها (١).
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ﴾ من قبل الأَشُدّ، ومن قبل أن يصير شيخًا، يفعل ذلك بكم لتعيشوا.
﴿وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى﴾ وقتًا محددًا، وهو وقت الموت.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ دلائل التوحيد، فتؤمنون.
﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ أراده.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني: القرآن، يقولون: ليس من عند الله ﴿أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ عن التصديق به؟!
﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ﴾ القرآن.
﴿وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا﴾ من سائر الكتب.
﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ (إِذْ) ظرف زمان ماض بمعنى الاستقبال؛ لأن مستقبل فعله تعالى كالماضي في تحققه لـ (يعلمون) ﴿وَالسَّلَاسِلُ﴾ عطف على (الأَغْلالُ)، فالخبر: (في أعناقهم).
﴿يُسْحَبُونَ﴾ بها.
[٧٢] ﴿فِي الْحَمِيمِ﴾ أي: يُجرون بالسلاسل (١)، ويجرونها في جهنم ﴿ثُمَّ فِي النَّارِ﴾ بعد جر السلاسل ﴿يُسْجَرُونَ﴾ يوقدون، فيصيرون سجار جهنم (٢).
* * *
﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ﴾ بعد الإحراق تبكيتًا: ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾.
* * *
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ وهي الأصنام ﴿قَالُوا ضَلُّوا﴾ غابوا ﴿عَنَّا﴾ فلم نرهم، وذلك قبل أن يقرن بهم آلهتهم.
﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا﴾ أي: تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئًا ينفع ويضر.
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كما أضل هؤلاء.
﴿يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ حتى لا يهتدوا.
* * *
(٢) في "ت": "النار".
[٧٥] ﴿ذَلِكُمْ﴾ العذاب الّذي نزل بكم.
﴿بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ تبطرون وتتكبرون.
﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ وهو الشرك والطغيان.
﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ تتوسعون في الفرح وتختالون.
* * *
﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾ السبعة المقسومة لكم.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ حال مقدرة أي: مقدرين الخلود فيها.
﴿فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ ولم يقل: فبئس مدخل؛ للإعلام أن الغرض من الدخول الإقامة.
* * *
﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بنصرك ﴿حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب وهو القتل والأسر ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل حلول العذاب بهم.
﴿فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة، فنعذبهم أشد العذاب. قرأ يعقوب:
* * *
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾ خبرَهم في القرآن.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ لم نذكر لك خبرهم.
روي أن عدد الأنبياء مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا (٢).
وروي أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر النَّاس (٣).
(٢) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٥/ ٢٦٥)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٧٨٧١)، من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، قال الهيثمي في "المجمع" (١/ ١٥٩): ومداره على علي بن يزيد، وهو ضعيف. ورواه ابن حبّان في "صحيحه" (٣٦١)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل، وفيه أن عددهم: "مئة ألف وعشرون ألفًا".
(٣) رواه أبو يعلى في "المسند" (٤١٣٢). من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. قال الهيثمي في "المجمع" (٨/ ٢١٠): فيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف جدًّا. وانظر: "تفسير ابن كثير" (١/ ٥٨٧).
وتقدم في سورة البقرة أسماء الأنبياء الذين ذكروا في القرآن بأسمائهم، والذين أشير إليهم.
﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ﴾ منهم ﴿أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ﴾ تُقترح عليه.
﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فإنهم عبيد مربوبون.
﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ بنزول العذاب على الكفار ﴿قُضِيَ﴾ بين الرسل عليهم السّلام ومكذبيهم ﴿بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ﴾ ثَمَّ ﴿الْمُبْطِلُونَ﴾ المعاندون بعد ظهور الآيات المغنية عما يقترحون. واختلاف القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَمْرُ اللهِ) كاختلافهم فيهما من ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ﴾ في سورة الحجِّ [الآية: ٦٥].
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ﴾ هي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام ﴿لِتَرْكَبُوا مِنْهَا﴾ بعضًا؛ كالإبل ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ كالغنم والبقر، فـ (منها) الأولى للتبعيض؛ لأنّ المركوب ليس من الأنعام، بل من
* * *
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها.
﴿وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ﴾ تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد.
﴿وَعَلَيْهَا﴾ أي: على الإبل في البرّ (١) ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾ في البحر ﴿تُحْمَلُونَ﴾ نظيره قوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الإسراء: ٧٠].
* * *
﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ دلائلَ قدرته ﴿فَأَيَّ﴾ أي: أيَّ آيةٍ من.
﴿آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار.
* * *
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم السالفة.
﴿وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ من المصانع والقصور.
﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ﴾ لم ينفعهم ﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ حين جاءهم عذاب الله، و (ما) الأولى نافية، والثّانية موصولة.
* * *
﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ وهو قولهم: نحن أعلم، لن نبعث، ولن نعذب، سمي ذلك علمًا على ما يزعمونه على طريق التهكم.
﴿وَحَاقَ﴾ نزل ﴿بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: جزاء استهزائهم.
* * *
﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ شدةَ عذابنا ﴿قَالُوا﴾ بألسنتهم دون قلوبهم:
﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ أي: تبرأنا ممّا كنا نعدل بالله.
* * *
[٨٥] ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ (١) لامتناع قبوله حينئذ.
﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ ونصب (سُنَّتَ) مصدر مؤكد؛ أي: سن الله ذلك سنة ماضية في العباد أن الإيمان وقت نزول العذاب لا ينفع، و (سنت) رسمت بالتاء في خمسة مواضع، وقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي (٢).
﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ اسم مكان استعير للزمان؛ فإن قوله: (هُنَالِكَ) إشارة إلى أوقات العذاب؛ أي: ظهر خسرانهم، وحضر جزاء كفرهم، والله أعلم.
* * *
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٥٩).