ﰡ
«١» مكية «٢». وآيها: خمس- أو ثمان- وثمانون آية «٣»، ومناسبتها لما قبلها قوله: غافِرِ الذَّنْبِ... إلخ، فإنها فذلكة لما تقدم من أحوال المحشر لأن منهم من غفرت ذنوبه، وقبلت توبته، فسيق إلى الجنة، وتطاولت عليه النّعم، ومنهم من شددّ عقابه، وردت عليه محاسنه، فسيق إلى النّار، قال تعالى:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)يقول الحق جلّ جلاله: حم أي: يا محمد. فاقتصر على بعض الحروف، ستراً عن الوشاة، كعادة العُشاق في ذكر محبوبهم، يرموزن إليه ببعض حروفه. وقال ابن عطية: سأل أعرابي النبي ﷺ عن «حم» ما هو؟
فقال: «بدء أسماء وفواتح سور» «٤» وفي حديث: «إذا بُيتّم فقولوا: حم لا يُنصرون» قال أبو عبيد: كأن المعنى: اللهم لا ينصرون. قلت: لا يبعد أن يكون توسل بحبيب الله على هزم الأعداء. وعن ابن عباس: (أنه اسم الله الأعظم).
هـ. وكأنه مختصر من «حي قيوم».
تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي: هذا تنزيل القرآن مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي: العزيز بسلطانه، الغالب على أمره، العليم بمَن صدّق به وكذّب. وهو تهديد للمشركين، وبشارة للمؤمنين. والتعرُّض لوصفي العزة والعلم للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب لظهوره عزِه وعز مَن تمسّك به، ولاشتماله على علوم الأولين والآخرين.
(٢) قال السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٦٤٣) : أخرج ابن الضريس، والنّحاس والبيهقي فى الدلائل، عن ابن عباس- رضي الله عنهما، قال: «أنزلت الحواميم السبع بمكة».
(٣) قال الداني فى «البيان فى عد آي القرآن» ص ٢١٨: «وهى ثمانون وثنتان فى البصري، وأربع فى المدنيين والمكي، وخمس فى الكوفي، وست فى الشامي». هذا ولم أقف على من قال أنها ثمان وثمانون آية.
(٤) ذكره فى المحرر الوجيز (٤/ ٥٤٥) والبحر المحيط (٧/ ٤٢٩).
والتَّوب: مصدر، كالتوبة. ويقال: تاب وثاب وآب، أي: رجع، فإن قلتَ: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً، والموصوف معرفة، وهو الله؟ قلتُ: أما غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ فمعرفتان لأنه لم يُرِدْ بهما حدوث الفعلين حتّى يكون في تقدير الانفصال، فتكون إضافتهما غير حقيقة، وإنما أُريد ثُبوت ذلك ودوامه. وأما شَدِيدِ الْعِقابِ فهو في تقدير: شديد عقابُه، فيكون نكرة، فقيل: هو بدل، وقيل: كلّها أبدال غير أوصاف. وإدخال الواو في قابِلِ التَّوْبِ لنكتة، وهي: إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين قبول توبته، فتُكتب له طاعة، وبين جعلها ماحية للذنوب، كأن لم يُذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول. وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات النعمة دليل سبقها ورجحانها، «أنَّ رَحمَتِي سبقَت غَضَبي» «٢».
قال القشيري: سُنَّةُ اللهِ تعالى: إذا خَوَّف العبادَ باسْمٍ، أو لفظٍ، تدارَكَ قلوبَهم بأن يُبشِّرهم باسْمَين أو وَصْفيْن. هـ. رُوي: أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأسٍ شديد، من أهل الشام، فقيل له: تابَع هذا الشراب، فقال لكاتبه: اكتب: من عمر إلى فلان، سلام الله عليك، وأنا أحمد إليك اللهَ، الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم... إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر مَن عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة، جعل يقرؤها، ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذّرني من عقابه، فلم يبرح يردّدها حتى بكى. ثمّ نزع، فأحسن النزوع، وحسنت توبته. فلما بلغ عمر رضي الله عنه أمرُه، قال: «هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ فسدّدوه، وادعو له الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه» «٣» أي:
بالدعاء عليه هـ.
لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: فيجب الإقبال الكلي عليه، وهو: إما استئناف، أو: صفة لذي الطَّوْل، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع، فيُجازي كُلاًّ من العاصي والمطيع. قال القشيري: إذا كان إلى الله المصير فقد طاب المسير.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي: ما يُخاصم فيها بالطعن فيها، واستعمال المقدمات الباطلة لإدحاض الحق المشتملة عليه، إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، وأما الذين آمنوا فلا يخطر ببالهم شائبة شُبهة منها، فضلاً عن الطعن فيها،
(٢) جزء من حديث صحيح، أخرجه البخاري فى (التوحيد، باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ح ٧٥٥٤) ومسلم فى (التوبة، باب فى سعة رحمة الله تعالى، رقم ٤٧٥١، ح ١٥) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٣) رواه أبو نعيم فى الحلية (٤/ ٩٧).
قال الطيبي: وأما اتصال قوله: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ... الآية بما قبله، فهو أنه لَمَّا قال تعالى: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ من الإله المعبود، الموصوف بصفات العلم الكامل، والعز الغالب، الجامع بين غفران الذنب وقبول التوبة، المتفرّد بالعقاب، الذي لا يقدّر كنهه، وبالإفضال الذي لا يبلغ قدره، قال: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي: ما يجادل في مثل هذا الكتاب، المشتمل على الآيات البينات، المنزل من مثل ذلك الموصوف بنعوت الكمال، إلا أمثال هؤلاء الكفرة المغرورين، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ فإنه استدراج، فلا يَغْرُر مثلك في منصب الرسالة تقلُبُ أولئك تقلبَ الأنعام، المنعَّمين في هذا الحطم. وآيات الله: مظهر أقيم مقام المُضمر للتعظيم والتفخيم. هـ.
والفاء لترتيب النهي عن الاغترار على ما قبله من التسجيل عليهم بالكفر، الذي لا شيء أمقت منه عند الله، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة، فإنَّ مَن تحقق ذلك لا يكاد يغتر بما لَهُم من الحظوظ الفانية، والزخارف الدنيوية، فإنهم مأخوذون عما قليل، كما أُخذ من قبلهم. ولذلك ذكرهم بقوله: كَذَّبَتْ... الخ.
الإشارة: «حم» أي: بحلمي ومجدي تجليت في كلامي، المنزل على حبي، وهو تنزيل الكتاب من الله العزيز، المُعزّ لأوليائه، العليم بما كان وما يكون منهم، فلا يمنعه عِلمُه عما سَلَفَ من قضائه. غافرُ الذنب لمَن أَصَرَّ واجْتَرَم، وقابلُ التوب لمَن تاب واحتشم، شديد العقاب لمَن جَحَدَ وكفر، ذي الطول لمَن توجه ووصل، ويقال: غافر الذنب للغافلين، وقابل التَّوب للمتوجهين، شديد العقاب للمنكرين، ذي الطول للعارفين الواصلين. لاَ إله إِلاَّ هُوَ، فلا موجود معه، إليه المصير بالسير في ميادين النفوس، حتى يحصل الوصول إلى حضرة القدوس. ما يُجادل في آيات الله، وهم أولياء الله، الدالون على الله، إلا أهلُ الكفر بوجود الخصوصية. قال القشيري: إذا ظهر البرهانُ، واتَّضح البيانُ استسلمَت الألبابُ الصاحيةُ للاستجابة والإيمان. وأمَّا أهلُ الكفر فلهم على الجحود إصرارٌ، وشُؤْمُ شِرْكهم يحولُ بينهم وبين الإنصاف، وكذلك مَن لا يحترم أولياء الله، يُصرُّون على إنكارهم تخصيصَ الله عباده بالآيات، ويعترضون عليهم بقلوبهم، فيُجادلون في جَحْدِ الكرامات، وسيفتضحون، ولكنهم لا يُميزون بين رجحانهم ونقصانهم. هـ.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥ الى ٦]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ نوحاً، وَالْأَحْزابُ أي: الذين تحزّبوا على الرسل، وناصبوهم العداوة، مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد قوم نوح، كعاد، وثمود، وقوم لوط، وأضرابهم، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من تلك الأمم الماضية بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا منه، فيُصيبوا ما أرادوا من تعذيب أو قتل.
والأخذ: الأسر. وَجادَلُوا بِالْباطِلِ الذي لا أصل له، ولا حقيقة لوجوده، لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ليُبطلوا به الحق الذي جاءت به من الإيمان وغيره، فَأَخَذْتُهُمْ بسبب ذلك أخذاً وبيلاً، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ الذي عاقبتهم به، فإنَّ آثار ديارهم عرضة للناظرين، وسآخذ هؤلاء أيضا لاتحادهم فى السيرة، واشتراكهم في الجريرة، كما ينبئ عنه قوله:
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي: كما وجب حُكم الله تعالى وقضاؤه بالتعذيب على أولئك الأمم المكذِّبة، المجترئة على رسلهم، المجادلة بالباطل لإدحاض الحق، وجب أيضاً عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بك، وتحزّبوا عليك، وهَمُّوا بما لم ينالوا، كما ينبئ عنه إضافة اسم الرب إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم فإن ذلك للإشعار بأنَّ وجوب كلمة العذاب من أحكام التربية، التي من جملتها: نصرته صلّى الله عليه وسلم، وتعذيب أعدائه، وذلك إنما يتحقق بكون الموصول عبارة عن كفار قومه، لا عن الأمم المهلكة.
وقوله تعالى: أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ في حيز النصب، بحذف لام التعليل، أي: لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها، الذي هو عذاب النار، وملازمتها أبداً، لكونهم كفاراً معاندين، متحزِّبين على الرسول صلّى الله عليه وسلم، كدأب مَن قبلهم مِن الأمم المهلَكة، وقيل: إنه في محل رفع، على أنه بدل من «كلمة ربك» والمعنى: ومثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النار، أي: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال وجب تعذيبهم في الآخرة بعذاب النار، ومحل الكاف من (كذلك) على التقديرين: النصب، على أنه نعت لمصدر محذوف.
الإشارة: الأولياء على قَدم الرسل، فكل ما لحق الرسل من الإيذاء يلحق الأولياء، فقد كُذِّبت، وتحزَّب عليهم أهلُ عصرهم، وهمُّوا بأخذهم، وجادلوا بالباطل ليُدحضوا نورَ الله بأفواههم، والله مُتمُّ نوره، فأخذهم الله بالخذلان والبُعد، والخلود في نار القطيعة والحجاب، والعياذ بالله.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧ الى ٩]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
قلت: (الذين) : مبتدأ، و (يُسبّحون) : خبره، والجملة: استئناف مسوق لتسلية الرّسول صلّى الله عليه وسلم ببيان أن «أشرف» «١» الملائكة- عليهم السلام- مثابرون على ولاية مَن معه من المؤمنين، ونصرتهم، واستدعاء ما يُسعدهم في الدارين.
يقول الحق جلّ جلاله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ على عواتقهم- وهم محمولون أيضاً بلطائف القدرة، وَمَنْ حَوْلَهُ أي: الحافِّين حوله، وهم الكروبيّون، سادات الملائكة، وأعلى طبقاتهم. قال ابن عباس:
حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام «٢»، وقيل: أرجلهم في الأرض السفلى، ورؤوسهم خرقت العرش، وهم خشوعٌ، لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفاً من سائر الملائكة «٣».
وقال أيضاً: لمَّا خلق الله حملة العرش، قال لهم: احملوا عرشى قلم يطيقوا، فخلق الله مع كل ملك من أعوانهم مثل جنود مَن في السموات ومَن في الأرض مِن الخلق، فقال لهم: احملوا عرشي، فلم يطيقوا، فخلق مع كل واحد منهم مثل جنود سبع سنوات وسبع أرضين، وما في الأرض من عدد الحصى والثرى، فقال: احملوا عرشي، فلم يطيقوا، فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقالوها، فاستقلوا عرش ربنا، أي: لَمَّا حملوه بالله أطاقوه،
(٢) عزاه فى الدر المنثور (٥/ ٦٤٨) لعبد ابن حميد، وابن مردويه، والبيهقي فى الأسماء والصفات.
(٣) عزاه فى الدر المنثور (٥/ ٦٤٨) لعبد بن حميد، عن ميسرة.
وقال وهب بن منبه: حول العرش سْبعون ألف صفٍ من الملائكة، صف خلف صف، يدورون حول العرش، يطوفون به، يُقبل هؤلاء، ويُدبر هؤلاء، فإذا استقبل بعضهم بعضاً، هلّل هؤلاء، وكبَّر هؤلاء، ومِن ورائهم سبعون ألف صف قيام، أيديهم إلى أعناقهم، قد وضعوها على عواقتهم، فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم، رفعوا أصواتهم، فقالوا: سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلَّك، أنت الله لا إله غيرك، أنت الأكبر، الخلقُ كلهم راجون رحمتك، ومِن وراء هؤلاء مائة ألف صفٍ من الملائكة، قد وضعوا اليمنى على اليسرى، ليس منهم أحد إلا يُسبح الله- تعالى- بتسبيح لا يُسبحه الآخر، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام، واحتجب الله عزّ وجل- بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش- بسبعين حجاباً من ظُلمة، وسبعين حجاباً من نور، وسبعين حجاباً من دُرٍّ أبيض، وسبعين حجاباً من ياقوتٍ أحمر، وسبعين حجاباً من زمُردٍ أخضر، وسبعين حجاباً من ثلجٍ، وسبعين حجاباً من ماءٍ، إلى مَا لا يَعْلَمُهُ إِلا الله تعالى هـ «٢».
قلت: لمّا أظهر الله العرشَ تجلّى بنورٍ جبروتي رحموتي، استوى به على العرش، كما يتجلّى يوم القيامة لفصل القضاء، ثم ضرب الحُجُب بين هذا التجلي الخاص وبين الملائكة الحافِّين، ولا يلزم عليه حصر ولا تجسيم إذ تجليات الذات العالية لا تنحصر، وليست هذه الحُجُب بين الذات الكلية وبين الخلق إذ لا حجاب بينها وبين سائر المخلوقات إلا حجاب القهر والوهم.
واخْتُلف في هيئة العرش، فقيل: إنه مستدير، والكون كله في جوفه كخردلة في الهواء، حتى قيل: هو الفلك التاسع، وقيل: هو منبسط كهيئة السرير، وله سواري وأعمدة، وهو ظاهر الأخبار النبوية. رَوى جعفرُ الصادق عن أبيه عن جده، أنه قال: إن بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية من خفقان الطير المسرعة قياس ألف عام، وإن ملَكاً يقال له: حزقائيل، له ثمانية عشر ألف جناح، ما بين الجناح والجناح خمسمائة عام، فأوحى الله إليه: أن طِرْ، فطار مقدار عشرين ألف سنة، فلم ينل رأسُه قائمةً من قوائم العرش، ثم طار مقدار ثلاثين ألف سنة فلم ينلها، فأوحى الله إليه: لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ ساق عرشي. هـ. مختصراً.
وفي حديث آخر: «إنَّ بين القائمة والقائمة من قوائم العرش ستين ألف صحراء، في كل صحراء ستون ألف عالم، في كل عالم قدر الثقلين». ومع هذا كله يسعه قلب العارف حتى يكون في زاوية منه لأنه محدود، وعظمة
(٢) انظر تفسير البغوي (٧/ ١٤٠- ١٤١) وزاد المسير (٧/ ٢٠٨). [.....]
ثم أخبر تعالى عن حملة العرش ومن حوله بقوله: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي: ينزهونه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل، ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ إيماناً يناسب حالهم. وفائدة ذكره مع علمنا بأن حملة العرش ومَنْ حوله الذين يُسبِّحون بحمد ربهم مؤمنون إظهار لشرف الإيمان وفضيلته، وإبراز لشرف أهله، والترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في بعض المواضع بالصلاح. وفيه تنبيه على أن الملائكة لم يحصل لهم العيان، وإنما وًصفوا بالإيمان بالغيب، وهم طبقات: منهم العارفون أهل العيان، ومنهم أهل الإيمان.
ثم قال تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: ويستغفرون لمَن شاركهم في حالهم من الإيمان، وفيه دليل على أنَّ الإشراك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة، وإن تباعدت الأماكن، وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم، من تسبيحهم، وتحميدهم، وإيمانهم، إيذان بكمال اعتنائهم به، وإشعار بوقوعه عند الله- تعالى- موقع القبول.
رَبَّنا أي: يقولون: ربنا، إمّا بيان لاستغفارهم، أو حال، وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أي: وسعت رحمتُك وعلمك كلَّ شيء، فأزيل الكلام عن أصله، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم، ونُصبا على التمييز، مبالغةً في وصفه- تعالى- بالرحمة والعلم، وفي عمومهما، وتقديم الرحمة لأنها السابقة والمقصودة هنا، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا أي: للذين علمتَ منهم التوبة، ليُناسب ذكر الرحمة، وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أي:
طريق الهُدى التي دعوت إليها. والفاء لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي: احفظهم منه، وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد.
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ إياها، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي:
صلاحاً مصححاً لدخول الجنة في الجملة، وإن كانوا دون صلاح أصولهم، و (مَن) : عُطف على ضمير (وعدتهم)، أي: وأَدْخل معهم هؤلاء ليتم سرورهم، ويتضاعف ابتهاجهم. قال سعيد بن جبير: (يدخل الرجل الجنة، فيقول:
أين أبي؟ أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي؟ فيقال له: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: كنتُ أعمل لي ولهم، فيقال:
أَدخلوهم الجنة) «٢». وسبق الوعد بالإدخال والإلحاق لا يستدعي حصول الموعود بلا توسُّط شفاعة واستغفار، وعليه بنى قول مَن قال: فائدة الاستغفار للمنيب الكرامة والثواب. انظر أبا السعود.
«ليس له إسناد معرووف عن النبي صلى الله عليه وسلم». والحديث وجدته بنحوه عند الديلمي فى الفردوس (٣/ ١٧٤ ح ٤٤٦٦) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه لفظه: «لا يسعنى شىء ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع إذا ألبسته لبسة أحبائى... » الحديث.
(٢) أخرجه ابن جرير (٢٤/ ٤٥).
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي: جزاء السيئات، وهو العذاب، أو: المعاصي في الدنيا، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أي: ومَن تقه عقاب السيئات يومئذ فقد رحمته، أو: ومَن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة، وكأنهم طلبوا لهم السبب بعد ما طلبوا المسبّب، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الإشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته، أو: إليها وإلى الوقاية، أي: ذلك التوقي هو الفوزُ العظيم الذي لا مطمع وراءه لطامع.
الإشارة: العرش وحملته، والحافُّون به محمولون بلطائف القدرة لا حاملون في الحقيقة، بل لا وجود لهم مع الحق، وإنما هم شعاع من أنوار الذات الأقدس وتجلِّ من تجلياتها.
وقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، قال الورتجبي: يُسبّحون الله بما يجدونه من القدس والتنزيه، حمداً لأفضالِه، وبأنه منزّه عن النظير والشبيه، ويؤمنون به في كل لحظة، بما يرون منه من كشوف صفات الأوليات، وأنوار حقائق الذات، التي تطمس في كل لمحة مسالك رسوم العقليات، وهم يُقرون كل لحظة بجهلهم عن كنه معرفة وجوده، ثم بيّن أنهم أهل الرأفة، والرحمة، والشفقة على أوليائه، لأنهم إخوانهم في نسب المعرفة والمحبة.
انظر تمامه.
والحاصل: أنهم مع تجلّي أنوار ذاته، قاصرون عن كنهه، وحقيقة ذاته، وغايتهم الإيمان به. قاله في الحاشية.
قلت: والتحقيق أن المقربين منهم تحصل لهم المعرفة العيانية، والرؤية للذات في مظاهر التجليات، كما تحصل لخواص الأولياء في الدنيا، ولكن معرفة الآدمي أكمل لاعتدال حقيقته وشريعته، لمَّا اعتدل فيه الضدان، وأما معرفة الملائكة فتكون مائلة لجهة الشكر والهيمان للطافة أجسامهم، فمثلهم كالمرآة بلا طلاء خلفها، وأمّا ما ورد في بعض الأخبار: أن جبريل لم يرَ الله قط قبل يوم القيامة، فلا يصح إلا أن يُحمل على أنه لم يره من غير مظهر، وهذا لا يمكن له ولا لغيره، وأما رؤيتهم الله يوم القيامة فهم كسائر المؤمنين، يرونه على قدر تفاوتهم في المراتب والقُرب.
قال إمام أهل السنة، أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه، في كتاب «الإبانة في أصول الديانة» : أفضل اللذات لأهل الجنة رؤية الله تعالى، ثم رؤية نبيه صلّى الله عليه وسلم، فلذلك لم يحرم الله أنبياءه المرسَلين، وملائكته المقرّبين، وجماعة المؤمنين، والصدّيقين النظرَ إلى وجهه تعالى. هـ. وفي الآية حث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب، والاستغفار لهم، وهو من شأن الأبدال، أهل الرّحمة لعباد الله، اقتداءً بالملأ الأعلى.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٠ الى ١٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ يوم القيامة، من قِبل الخزنة- وهم في النار:
لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم اليوم، وإهانته لكم، أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ في الدنيا، حيث حرمتموها الإيمان وعرضتموها للهوان، إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ من قِبَل الرسل فَتَكْفُرُونَ، والحاصل: أنهم مقتوا أنفسهم في الدنيا، وأهانوها، حيث لم يؤمنوا، فإذا دخلوا النار حصل لهم من المقت والغضب من الله أشد وأعظم من ذلك، ف «إذا» : ظرف للمقت الثاني، لا الأول، على المشهور.
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي: إماتتين وإحياءتين، أو: موتتين وحياتين. قال ابن عباس:
كانوا أمواتاً في الأصلاب، ثم أحياهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بُد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، وهذا كقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ... الآية «١». قال السدي: أُميتوا في الدنيا، ثم أُحْيوا في قبورهم للسؤال، ثم أُميتوا في قبورهم، ثم أُحيوا في الآخرة.
والحاصل: أنهم أجابوا: بأن الأنبياء دعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وكانوا يعتقدون ما يعتقده الدهرية:
ألاَّ حياة بعد الموت، فلم يلتفتوا إلى دعوتهم، وداموا على الإنكار، فلمّا رأوا الأمر عياناً، اعترفوا. ووجه مطابقة قوله: قالُوا رَبَّنا... الخ لما قبله: الإقرار بما كانوا منكرين له من البعث، الذي أوجب لهم المقت والعذاب طمعاً في الإرضاء له بذلك ليتخلصوا من العذاب، ولذلك قالوا: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، لمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّر عليهم، عَلِموا أن الله قادر على الإعادة، كما هو قادر على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار
ذلِكُمْ أي: ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب، وألاَّ سبيل إلى الخروج، بِأَنَّهُ أي: بسبب أن الشأن إِذا دُعِيَ اللَّهُ في الدنيا، أي: عُبد وَحْدَهُ منفرداً كَفَرْتُمْ بتوحيده، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بالإشراك وتُسارعوا فيه، أي: كنتم في الدنيا تكفرون بالإيمان، وتُسارعون إلى الشرك. قيل: والتعبير بالاستقبال، إشارة إِلى أنهم لو رُدوا لعادوا، وحيث كان حالكم كذلك، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يقضي إلا بما تقتضيه حكمته، الْعَلِيِّ شأنه، فلا يُردّ قضاؤه، أو: فالحكم بعذابكم وتخليدكم في النار لله لا لتلك الأصنام التي عبدتموها معه، الْكَبِيرِ: العظيم سلطانه، فلا يُحدّ جزاؤه. وقيل: إنَّ الحرورية «١» أَخذوا قولهم: لا حكم إلا لله، من هذه الآية. قال علىّ رضي الله عنه لَمَّا سمع مقالتهم: كلمة حق أُريد بها باطل. هـ.
الإشارة: إنّ الذي كفروا بطريق الخصوص، وأنكروا وجود التربية، حتى ماتوا محجوبين عن الله، وبُعثوا كذلك، يُنادون يوم القيامة بلسان الحال: لمقتُ الله لكم اليوم- حيث سقطتم عن درجات المقربين- أكبرُ من مقتكم أنفسكم، حيث حرمتموها معرفة العيان ومقام الإحسان، حين كنتم تُدْعون إلى تربية الإيمان، وتحقيق الإيقان، على ألسنة شيوخ التربية، فتكفرون وتقولون: انقطعت التربية منذ زمان، ثم يطلبون الخروج من عالم الآخرة إلى عالم الدنيا، ليحصلوا المعرفة التي فاتتهم، فيقال لهم: هيهات، قد فات الإبّان «٢»، «الصيفَ ضيعتِ اللبن» «٣».
فامكثوا في حجابكم، ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده، وأن لا موجود سواه، كفرتم بإنكاركم سبيله، وهي طريق التجريد والتربية، وإن يُشرك به بالتعمُّق في الأسباب، والمكث فيها، تؤمنوا. والحاصل: أنهم كانوا يُنكرون طريق التجريد، ويؤمنون بطريق الأسباب، فالحُكم لله العلي الكبير، فيرفع مَن يشاء، ويضع مَن يشاء بعلوه وكبير شأنه.
(٢) إبان كل شىء: وقته وحينه الذي يكون فيه. انظر اللسان (ابن ١/ ١٢).
(٣) هذا مثل. والتاء من «ضيعت» مكسورة فى كل حال، إذا خوطب به المذكر والمؤنث والاثنان والجمع، لأن المثل فى الأصل خوطبت به امرأة، وهى دختنوس بنت لقيط بن زرارة، كانت تحت عمرو بن عمرو بن عدس، وكان شيخا كبيرا، ففركته (كرهته) فطلقها، ثم تزوجها فتى جميل الوجه، وأجدبت، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة، فقال عمرو: «فى الصيف ضيعت اللبن»، فلما رجع الرّسول، وقال لها ما قال عمرو، ضربت يدها على منكب زوجها، وقالت: «هذا ومذقه خير» تعنى أن هذا الزوج مع عدم اللبن خير من عمرو، فذهبت كلماتهما مثلا. انظر مجمع الأمثال للميدانى (٢/ ٤٣٤).
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٣ الى ١٧]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
يقول الحق جلّ جلاله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على كبريائه، وكمال قدرته، من الرياح، والسحاب، والرعد، والبرق، والصواعق، وغير ذلك، لتستدلوا على ذلك، وتعملوا بموجبها، فتُوحدوه تعالى، وتخصُّوه بالعبادة، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً مطراً لأنه سبب الرزق. وأفرده بالذكر مع كونه مِن جملة الآيات لتفرُّده بكونه من آثار رحمته، وجلائل نِعَمه الموجبة للشكر إذ به قوام الحيوانات بأسرها. وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على تجدُّد الإراءة والتنزيل، واستمرارهما. وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ
أي: وما يتعظ ويعتبر بهذه الآيات الباهرة، ويعمل بمقتضاها إلا مَن يتوب ويرجع عن غيّه إلى الله تعالى، فيتفكّر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة، ونِعَمه الشاملة. وأما المعاند فلا يتعظ ولا يعتبر لسفح الران على قلبه.
وإذا كان الأمر كما ذكرنا، من اختصاص التذكير بمَن ينيب، فَادْعُوا اللَّهَ، أو: تقول: لمَّا ذكر أحوال المشركين، وأراد أن يشفع بأضدادهم، جعل قوله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ.. الخ، توطئة لقوله: فَادْعُوا اللَّهَ أي:
اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك الجلي والخفي، بموجب إنابتكم إليه تعالى وإيمانكم، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وإن غاظ ذلك أعداءكم، ممن لم يتب مثلكم، فإن الله يُكرم مثواكم، ويرفع درجاتكم، فإنه رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي: رافع درجات أوليائه المؤمنين، الداعين إليه، المخلصين في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالعز والنصر، وفي الآخرة بالقُرب والاختصاص، أو: رفيع السموات التي هي مصاعد الملائكة، ومهابطها، للسفارة بين
ذُو الْعَرْشِ أي: مالكه، وهما خبران آخران عن هُوَ الَّذِي... الخ، إيذاناً بعلو شأنه، وعِظم سلطانه، الموجبين لتخصيص العبادة به، وإخلاص الدين له بطريق الاستشهاد بهما عليهما فإنَّ ارتفاع الدرجات والاستيلاء على العرش- مع كون العرش محيطاً بأكناف العالم العلوي والسفلي، وهو تحت ملكوته وقبضة قهره مما يقضي بكون علو شأنه وعظيم سلطانه- في غايةٍ لا غاية ورائها. قاله أبو السعود.
ثم ذكر سبب رفع الدرجات بقوله: يُلْقِي الرُّوحَ أي: ينزل الوحي، الجاري من القلوب بمنزلة الروح من الأجسام، وكأنه لَمَّا ذكر رزق الأجسام أتبعه برزق الأرواح، الذي هو العلم بالله، وطريقُه الوحي. والتعبير بالمضارع، قال الطيبي: يفيد استمرار الوحى من لدن آدم إلى زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم اتصاله إلى قيام يوم التنادي، بإقامة مَن يقوم بالدعوة، على ما روى أبو داود، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: «إِنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ لهذه الأمة عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سنَة مَن يُجَدِّدُ لها دِينَها» «١» ومعنى التجديد: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُنَّة، والأمر بمقتضاهما. هـ.
قلت: وقد زرت شيخنا البوزيدى رضي الله عنه مرة، فلما وقع بصره عليّ، قال: واللهِ، حتى يُحْيي الله بك الدين المحمدي. وكتب لي شيخ الجماعة، وقطب دائرة التربية، مولاى العربي الدرقاوى رضي الله عنه، فقال في آخر كتابه:
وأرجو من الله ألا تموت حتى تكون داعياً إلى الله، تُذكّر أهل المشرق والمغرب. أو ما هذا معناه، وقد وقع ذلك، والحمد لله.
وقوله: مِنْ أَمْرِهِ أي: من قضائه، أو: بأمره، فيجوز أن يكون حالاً من الروح، أو متعلقاً ب (يُلقِي) أي:
يُلقِي الروح حال كونه ناشئاً، أو: مبتدئاً من أمره، أو: يُلقي الوحي بسبب أمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهو الذي اصطفاه لرسالته، وتبليغ أحكامه إلى عباده، لِيُنْذِرَ أي: الله، أو: المُلْقَى عليه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قراءة يعقوب بالخطاب، أي: لتخوُّف يَوْمَ التَّلاقِ يوم القيامة لأنه يتلاقى فيه أهل السموات وأهل الأرض، والأولون والآخرون، و (يوم) : ظرف للمفعول الثاني، أي: ليُنذر الناسَ العذابَ يوم التلاق، أو: مفعول ثان ليُنذر، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار.
بارزة نفوسهم لا يحجبها غواش الأبدان، أو: بارزة أعمالهم وسرائرهم، لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ من أعمالهم وأحوالهم، الجلية والخفية، السابقة واللاحقة، وهو استئناف لبيان بُروزهم، وإزاحة لِما كان يتوهمه المتوهمون في الدنيا من الاستتار توهماً باطلاً، فإذا برزوا وحُشروا، نادى الحق- جلّ جلاله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فلا يجيبه أحد، ثم يعود ثلاثاً، فيجيب نفسه بنفسه بقوله: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي: الذي قهر العباد بالموت.
رُوي أنَّ الله تعالى يجمع الخلائق في صعيد واحد، في أرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة، لم يُعصَ الله عليها قط، فأول ما يُتكلم به أن يُنادي مناد: لِمن المُلكُ اليوم؟ فيجيب نفسه: «لله الواحد القهّار». وقيل: المجيب أهلُ المحشر، ورُوي أيضاً: أن هذا القول يقوله الحق تعالى عند فناء الخلق وقبل البعث، ولعله يقال مرتين.
قال تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرّة والفاجرة، بِما كَسَبَتْ من خير أو شر، وهذا من تتمة الجواب، أو: حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقب السؤال والجواب، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص ثواب أو زيادة عذاب، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه لا يشغله شأن عن شأن، فكما أنه يرزقهم دفعة، يُحاسبهم دفعة، فيحاسب الخلق قاطبة في أقرب زمان، كما نُقل عن ابن عباس: أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقِلْ «١» أهلُ الجنة إلا فيها، وأهل النار إلا فيها. هـ.
قلت: المراد بالحساب: إظهار ما يستحق كل واحد من النعيم أو العذاب، وأما ما ورد من طول المكث في المحشر على الكفار والفجّار فإنما ذلك تعذيب بعد فراغ المحاسبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: هو الذي يُريكم آياته الدالة على توحيده، ويُنزل لكم من سماء الغيوب علماً، تتقوّت به قلوبكم وأرواحكم، فتغيبون في مشاهدة المدلول عن الدليل، وما يتذكّر بهذا ويهتدِ إليه إلا مَن يُنيب، ويصحب أهل الإنابة.
فادعوا الله، أي: اعبدوه وادعوا إلى عبادته وإخلاص العمل، ولو كره الجاحدون، فإنَّ الله رفيع درجاتِ الداعين إليه مع المقربين، في مقعد صدق عند ذي العرش المجيد. قال القشيري: يرفع درجات المطيعين بظواهرهم في الجنة، ودرجات العارفين بقلوبهم في الدنيا، فيرفع درجتهم عن النظر إلى الكونين، والمساكنة إليهما، وأما المحبُّون فيرفع درجتهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعقبى شيئاً غير رضا محبوبهم. هـ.
هـ. والمراد بالروح: مطلق الوحي، ليُنذر الداعي يومَ التلاقي، فيحصل اللقاء السرمدي مع الحبيب للمقربين، ويحصل الافتراق والبُعد للغافلين، حين تبرز الخلائق بين يدَي الله، لا دعوى لأحد يومئذ، فيقول الحق تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
قال القشيري: لا يتقيّد مُلْكُه بيومٍ، ولا يختصُّ بوقتٍ، ولكنَّ دَعَاوَى الخلقِ- اليوم- لا أصلَ لها، ترتفع غداً، وتنقطع تلك الأوهام. هـ. ومثله في الإحياء، وأنه إذا كشف الغطاء شهد الأمر كذلك، كما كان كل يوم، لا في خصوص ذلك اليوم. فإذا حصل للعبد مقام الفناء، لم يرَ في الدارين إلا الله، فيقول: لمَن المُلكُ اليوم؟ فيجيب: لله الواحدِ القهّار. اليوم تُجزَى كل نفس بما كسبتْ من التقريب أو الإبعاد. قال القشيري: يجازيهم على أعمالهم الجنانَ، وعلى أحوالهم الرضوان، وعلى أنفاسهم- أي: على حفظ أنفاسهم- القُرب، وعلى محبتهم الرؤية، ويجازي المذنبين على توبتهم الغفران، وعلى بكائهم الضياء والشفاء. هـ. لا ظُلم اليوم، بل كل واحد يرتفع على قدر سعيه اليوم.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قال القشيري: وسريعُ الحساب مع أوليائه في الحال، يُطالبهم بالنقير والقطمير. هـ. قلت: يدقق عليهم الحساب في الحال، ويرفع مقدارهم في المآل. وبالله التوفيق.
ثم حذّر من هول ذلك اليوم، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أي: القيامة، سُميت بها لأزوفها، أي: قُربها. فالأُزوف والازدلاف هو القرب، غير أن فيه إشعاراً بضيق الوقت، أو الخطة الأزفة، وهي مشارفة أهل النار لدخولها، ثم أبدل من يوم الآزفة قوله: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ أي: التراقي، يعني: ترتفع قلوبُهم عن مقارّها، فتلتصق
قلوبهم، أو: من ضميرها في الظرف، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي: قريب مشفق وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي: ولا شفيع تُقبل شفاعته، فالمراد: نفي الشفاعة والطاعة، كقول الشاعر:
وَلاَ تَرَى الضّبَّ فيها يَنْجَحِرْ «١» يريد به: نفي الضب وانجحاره. وكقول الآخر:
عَلَى لاحِبٍ لا يُهتدَى بِمَنَارِه «٢» وإن احتمل اللفظ نفي الطاعة دون الشفاعة. فعن الحسن البصري: «والله ما يكون لهم شفيع ألْبتة». ووضع «الظالمين» موضع الضمير للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم به.
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي: النظرة الخائنة، كاستراق النظر إلى ما لا يحلّ. قيل: فيه تقديم وتأخير، أي:
الأعين الخائنة، وقيل: مصدر، كالعافية، أي: خيانة الأعين. قال ابن عباس رضي الله عنه: هو الرجل يكون جالساً مع القوم، فتمر المرأة، فيسارقهم النظر إليها «٣». هـ. وقال ابن عطية: متصل بقوله: سَرِيعُ الْحِسابِ، فيحاسب على خيانة الأعين، وقالت فرقة: متصل بقوله: لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وهذا حسن، يُقويه تناسب المعنيَيْن، ويُبعده بعدُ الآية من الآية، وكثرة الحائل. والحاصل: أنه متصل بما تقدّم من ذكر الله ووصفه، واعترض في أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ الآية. قاله المحشى. وَيعلم ما تُخْفِي الصُّدُورُ أي: ما تُكنّه من خيانة وأمانة. وقيل: هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوةٍ مسارقة، ثم يتفكّر بقلبه في جمالها، ولا يعلم بنظرته وفكرته مَن حَضرَه، والله يعلم ذلك كله.
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي: ومَن هذه صفاتُه لا يقضي إلا بالعدل، فيُجازي كُلاًّ بما يستحقه إذ لا يخفى عليه خفيّ ولا جليّ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ يعبدونهم مِنْ دُونِهِ من الآلهة لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ، وهذا
(٢) هذا صدر بيت عجزه: [إذا سافه النّباطىّ جرجرا]. وهو من قصيدة لامرئ القيس فى ديوانه (٦٦). وصدر البيت فى لسان العرب (لحف ٥/ ٤٠٠٩). واللحب: الطريق الواسع، من لحبه: إذا وطئه ومرّ فيه، والمنار: ما يعلم به الطريق.
والشاهد فى البيت: نفى الاهتداء بالمنار، والمقصود: نفى المنار، فلا منار ولا هداية.
(٣) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٦٥٣) لسعيد بن منصور، وابن أبى شيبة وابن النّذر وابن أبى حاتم.
الإشارة: قال القشيري: قيامةُ الكل مؤجَّلة، وقيامةُ المحبين مُعَجَّلة، في كلِّ نَفَسٍ من العتاب والعذاب، والبعَاد والاقتراب، ما لم يكن في حساب، وشهادة الأعضاء بالدمع تشهد، وخفَقَانُ القلب ينطق، والنحولُ يُخْبِرُ، واللونُ يفضح، والعبد يستر، ولكن البلاء يُظهر، قال:
يَا مَن تَغَيَّرُ صُورَتِي لَمَّا بَدا | لِجَمِيعِ ما ظَنوا بنا تحقيق هـ. «١» |
يَا قُرَّةَ العَيْن:
سَلْ عَيني هَلْ اكْتَحَلَتْ | بِمَنْظَرٍ حَسَنٍ مُذْ غِبْتَ عَنْ عَيْنِي؟ |
وعَيْني إِذا اسْتَحْسَنَتْ غَيْرَكُمْ | أَمَرْتُ الدَّمعَ بِتأدِيبها «٢» |
وناطر في سِوَى مَعْنَاكَ حُقَّ لُه | يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِهِ بالدَّمْعِ وهْوَ دَمُ |
والسَّمْعُ إِنْ حَالَ فِيهِ ما يُحَدِّثهُ | سِوَى حدَيثِك، أَمْسَى وَقْرُه الصَّمَمُ |
«كَذَبَ مَن ادَّعَى محبتي، فإذا جَنَّهُ الليل نام عني» ومن خائنة أعين العارفين: أن يكون لهم خير، أي: استحسان يقع لقلوبهم مما تقع عليه أعينهم، ينظرون ولكن لا يُبصرون- أي: ينظرون إلى المستحسنات، ولكن لا يقفون
(٢) فى القشيري: [أمرت السهاد بتعذيبها]. والبيت منسوب إلى سلم الخاسر، كما فى نهاية الأرب (٢/ ٥٦) وفيه:
تقول وفى قولها حشمة | أتبكي بعين ترانى بها |
فقلت إذ استحسنت غيركم | أمرت الدموع بتأديبها با أديبها |
عَينِي لِغَيرِ جَمَالِكُمُ لاَ تَنْظُرُ | وسِوَاكمُ فِي خَاطِري لاَ يَخْطُر |
ثم أمر بالتفكر- الذي هو طريق النّجاة من كل ضرر- فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)
قلت: (هم أشد) : ضمير فصل، وحقه أن يقع بين معرفتين، إلا أنَّ (أشد) لَمَّا ضارع المعرفة في كونه لا يدخله الألف واللام أجرى مجراها.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي أقطار الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ أي: مآل مَن قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم، كعاد، وثمود، وأضرابهم، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي: قدرة وتمكُّناً من التصرف، وَآثاراً فِي الْأَرْضِ وأشد تأثيراً في الأرض، ببناء القلاع الحصينة،
(٢) فى القشيري: [بعزل]، وهو أنسب.
ذلِكَ الأخذ بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الدالة على صدقهم، أو: بالأحكام الظاهرة الجلية، فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ، متمكن مما يريد غاية التمكُّن، قادر على كل شيء، شَدِيدُ الْعِقابِ لا يُؤبَه عند عقابه بعقاب.
الإشارة: قال القشيري: أَوَلَمْ يسيروا بنفوسهم في أقطار الأرض، ويطوفوا مشارقَها ومغاربَها، فيعتبروا بها، فيذهبوا فيها؟ ويسيروا بقلوبهم في الملكوت بجَوَلان الفكر، فيشهدوا أنوار التجلي، فيستبصروا بها؟ ويسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية، فيُستهلكوا في سلطان الحقائق، ويتخلَّصُوا من جميع المخلوقات قاصيها ودانيها؟
ثم قال: قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، إِنْ بغى من أهل السلوك، قاصدٌ لهم يصل إلى مقصوده، فَلْيَعلم أنَّ موجِبَ حجبته اعتراضٌ خَامَرَ قلبَه على بعض شيوخه، في بعض أوقاته، فإِنَّ الشيوخَ بمحلِّ السفير للمريدين. وفي الخبر: «الشيخ في أهله كالنبيِّ في أمته» «١». هـ.
ثم سلّى نبيه بقصة موسى عليه السلام، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
أرسل إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ، فَقالُوا فيما أظهره، أو: فيما ادّعاه من الرسالة: هو ساحِرٌ كَذَّابٌ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا وهو الوحي والرسالة، قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي:
صبيانهم الذكور، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ للخدمة، أي: أَعيدوا عليهم القتل الذي كنتم تفعلونه أولاً، وكان فرعون قد كفَّ عن قتل الولدان لئلا تعطل خدمته، فلما بُعث عليه السلام، وأحسَّ بأنه قد وقع ما توقع، أعاده عليهم غيظاً، وحُمقاً، وزعماً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرته. وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع وبطلان، فإنهم باشروا قتلهم أولاً، فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار مَن خافوه، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني، فلم يعلم أن كيده ضائع في الكَرّتين، واللام: إما للعهد المتقدم، والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر، والإشعار بعلة الحكم، أو: للجنس، وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً. والجملة: اعتراض جيء بها في تضاعيف ما حكى عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد الذي لا طائل تحته.
وَقالَ فِرْعَوْنُ لملئه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى، وكان ملَؤه إذا همَّ بقتله كفّوه، وقالوا: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك، وما هو إلا ساحر، وإذا قتلتَه أدخلتَ شبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر من دهاء اللعين ونكارته أنه قد استيقن أنه نبيّ، وأن ما جاء به آيات باهرة، وما هو بسحر، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجَل بالهلاك، وكان قوله تمويهاً على قومه، وإيهاماً أنهم هم الكافُّون عن قتله، ولو لاهم لقتله، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من الفزع الهائل. وقوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ تجلُّد منه وإظهار لعدم المبالاة بدعائه، ولكنه أخوف ما يخافه.
وَقالَ مُوسى لَمَّا سَمِعَ ما أجراه من الحديث في قتله لقومه: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ، صدّر عليه السلام كلامَه بإنَّ تأكيداً له، وإظهاراً لمزية الاعتناء بمضمونه، وفرط الرغبة.
وخصّ اسم الرّب المنبئ عن الحفظ والتربية إذ بهما يقع الحفظ.
وفي قوله: وَرَبِّكُمْ حث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا بالله عياذتَه، ويعتصموا بالتوكل اعتصامَه، ولم يُسمّ فرعون، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة لتعميم الاستعاذة، والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله تعالى، وهو التكبُّر. قال ابن عرفة: أشار إلى أن كفره لم يكن لأجل أن موسى لم يأتِ بدليل ولا معجزة، ولم يكن أيضاً لخفاء تلك المعجزة، وعدم ظهورها، بل كان لجحود التعنُّت والتكبُّر، والإباية عن الانحطاط من سلطنة الملك إلى رتبة الاتِّباع. هـ. وقال: لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبُّر والتكذيب بالجزاء، وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القوة والجرأة على الله وعباده، والعياذ بالله.
الإشارة: قال القشيري: كان موسى عليه السلام أكرم خَلْقِه في وقته، وكان فرعون أخَسّ خَلْقِه في وقته إذ لم يقل أحد: ما علمتُ لكم من إله غيري، فأرسل أخصَّ عباده إلى أخسّ عباده. ثم إن فرعون سعى في قتل موسى، واستعان على ذلك بخَيْله ورَجْله، ولكن كما قال تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ، وإذا حَفَرَ أحدٌ لِوَليِّ الله حُفرةً، ما وقع فيها غيرُ حافِرها، كذلك أجرى الحقُّ سُنَّتَه. هـ.
ثم ذكر موعظة مؤمن آل فرعون لقومه، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩)يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ، قيل: كان قبطياً، ابن عَم لفرعون، آمن بموسى سرّاً، وقيل: كان إسرائيليّاً موحّداً، وهو المراد بقوله: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى «١»، قال ابن عباس: اسمه حزقيل. وقال ابن إسحاق: جَبرل، وقيل: سمعان. وقيل: حبيب «٢». ومِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: صفة ثانية لرجل، أو:
صلة ليكتم، أي: يَكْتُمُ إِيمانَهُ من فرعون وملائه: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أي: أتقصدون قتله كراهةَ أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وحده، من غير روية ولا تأمُّل في أمره؟ وهذا إنكار منه عليهم، كأنه قال: أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء- وهي قتل نفس محرمة- من غير حجة، غير قوله الحق، وإقراره بالتوحيد؟ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي:
والحال أنه جاءكم بالمعجزات الظاهرة، التي شاهدتموها وعاهدتموها من ربكم، يعني أنه لم يكتفِ ببينة واحدة، بل جاء ببينات كثيرة مِنْ عند رَبِّكُمْ، أضافه إليهم، استنزالاً لهم عن رتبة المكابرة، واستدراجاً للاعتراف.
ثم أخذهم بالاحتجاج فقال: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، لا يتخطى وبال كذبه إلى غيره، فيحتاج في دفعه إلى قتله، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ من العذاب، احتج عليهم بطريق التقسيم لأنه لا يخلو، إما أن يكون كاذباً أو صادقاً، فإن كان كاذباً فوبال كذبه عليه، وإن كان صادقاً يُصبكم قطعاً بعضُ ما يعدكم من العذاب، ولم يقل: كل الذي يعدكم، مع أنه وعد من نبيٍّ صادق، مداراة لهم وسلوكاً لطريق الإنصاف، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له، فكأنه قال: إن لم يصبكم الجميعُ يصبكم البعض، وليس فيه نفي لإصابة الكل، فكأنه قال: أقلّ ما فيه أن يصيبكم بعض ما يعدكم، وهو العذاب العاجل، وفي ذلك هلاككم، وكان وعَدَهم عذاب الدنيا والآخرة. وتفسير البضع بالكلّ مزيّف. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، هذا احتجاج آخر ذو وجهين أحدهما: أنه لو كان مُسرفاً كذاباً لَمَا هداه الله إلى النبوة، ولما عضده بتلك البينات، وثانيهما: إن كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة إلى قتله. وقيل: أوهم أنه يريد بالمُسرف موسى، وهو يعني به فرعون، ويحتمل أن يكون من كلام الله- تعالى- اعتراضاً بين أجزاء وعظه، إخباراً بما سبق لهم من الشقاء، فلا ينفع فيهم الوعظ.
(٢) انظر هذه الأقوال فى تفسير القرطبي (٧/ ٥٩٢١) والبغوي (٧/ ١٤٦).
قالَ فِرْعَوْنُ بعد ما سمع نصحه لقومه: ما أُرِيكُمْ أي: ما أُشير عليكم إِلَّا ما أَرى وأستصوبه من قتل موسى، يعني: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب، وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي: الصواب، ولا أعلنكم إلا ما أعلم، ولا أُسِرُّ عنكم شيئاً خلاف ما أُظهِر، يعني: أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب اللعين، فقد كان مضمراً للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام، ولكنه كان يتجلَّد، ولولا استشعاره للخوف لم يستشر أحداً في قتله، وقد كان سفَّاكاً جبّاراً، فما منعه إلا خوف الهلاك إن مدّ يده إليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: قد نصح وأبلغ مؤمنٌ آل فرعون، واحتجَّ عليهم، فلم ينجعْ فيهم قوله، وأعاد عليهم نصحه فلم يسمعوا، وكان كما قيل:
وَكَمْ سُقْتُ في آثاركم من نصيحة | وَقَدْ يَستفيدُ البغْضَةَ الْمُسْتَنْصِحُ «١» |
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط وشعيب، لم يُلْبَسْ أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دَمَار، فاقتصر على الواحد من الجمع. ودأب هؤلاء: دؤوبهم في عملهم من الكفر، والتكذيب، وسائر المعاصي، حتى دمَّرهم اللهُ. ولا بد من حذف مضاف، أي: مثل جزاء دأبهم- وهو الهلاك. و (مثل) الثاني:
عطف بيان لمثل الأولى. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ فلا يُعاقبهم بغير ذنب، أو: يزيد على ما يستحقونه من العذاب، يعني أن تدميرهم كان عدلاً لأنهم استحقوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «١» حيث جعل المنفي إرادة الظلم مُنْكَراً، وإذا بعُد عن إرادة ظلم ما لعباده كان عن الظلم أبعد وأبعد. وتفسير المعتزلة:
بأنه لا يريدُ لهم أن يظلموا، بعيد لأن أهل اللغة قالوا: إذا قال الرجل لآخر: لا أريد ظلماً لك، معناه: لا أريد أن أظلمك، وهذا تخويفٌ بعذاب الدنيا. ثم خوَّفهم من عذاب الآخرة بقوله:
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ أي: يوم القيامة لأنه ينادي فيه بعضُهم بعضاً للاستغاثة، ويتصايحون بالويل والثبور، وينادي أصحابُ النار أصحابَ الجنةِ، وأصحابُ الأعراف رجالاً يعرفونهم، وعن الضحاك: إذا سمعوا زفير النار نَدُّوا هرباً، فلا يأتون قُطراً من الأقطار، إلا وجدوا ملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى مكانهم، فبينهما هم يموج بعضهم في بعض، إذ سمعوا منادياً: أقبلوا إلى الحسابِ. أو: ينادي مناد عند الميزان: ألا إن فلاناً بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ألاَ إِن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً. قال ابن عطية:
المراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة، وذلك كثير. هـ.
ثم أبدل من يوم التناد: قوله: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أي: منصرفين عن القوم إلى النار، أو: فارِّين منها غير معاجزين، ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعصمكم من عذابه، ولمَّا أيس من قبولهم قال: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى طريق النجاة.
الإشارة: ينبغي للواعظ والمُذكِّر إذا ذكَّر العصاة أن يُخوفهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، كما فعل مؤمن آل فرعون، أما عذاب الدنيا فما يلحق العاصي من الذُل والهوان عند الله، وعند عباده، وما يلحقه إن طال عمره من المسخ وأرذل العمر، فإِنَّ المعاصي في زمن الشباب تجر الوبال إلى زمن الهرم، كما أن الطاعة في حال الشباب
ثم وبّخهم بما تعودوا من تكذيب الرّسل، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
قلت: (الذين يُجادلون) : بدل مِن (مَن هو)، وإنما جمع لأنه لم يرد مسرفاً واحداً، بل كل مسرف.
يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً لقول المؤمن: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ، هو ابن يعقوب، وقيل: يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، أقام فيهم نبيّاً عشرين سنة «١»، وقال وهب: فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمَّر إلى زمنه، وقيل: هو فرعون آخر لأن كل مَن ملك مصر يُقال له فرعون، وهذا أظهر. وقول الجلال المحلي:
هو يوسف بن يعقوب في قولٍ، عمّر إلى زمنه، سهو. وإنما قيل ذلك في فرعون لا في يوسف.
قلت: والتحقيق: أنه وبّخهم بما فعل أسلافهم لأنهم على مِنوالهم، راضون بما فعلوا، فالمراد بيوسف، هو الصِّدِّيق، فما زالوا مترددين في رسالته حتى مات، واستمر خلفهم على ذلك إلى زمن موسى، وقوله تعالى: مِنْ قَبْلُ أي: من قبل موسى، أي: جاءكم يوسف بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة، كتعبير الرؤيا، ودلائل التوحيد، كقوله: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ... «٢» الآية، وملكه أموالهم ورقابهم فى زمن المسغبة، وغير ذلك مما دلّ على رسالته. فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ بالموت قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا، حكماً، من عند أنفسكم، من غير برهان، أي: أقمتم على كفركم، وظننتم أن لا يجدّد عليكم إيجاب الحجة.
(٢) من الآية ٣٩ من سورة يوسف.
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي: مثل ذلك الإضلال الفظيع يُضل الله مَن هو مسرف في عصيانه، شاكّ في دينه، لم يتفكّر فيما شهدت البينات بصحته لِغلبة الوهم، والانهماك في التقليد.
ثم فسّره فقال: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بالرد والإبطال بِغَيْرِ سُلْطانٍ بغير حجة واضحة، تصلح للتمسُّك بها في الجملة، أَتاهُمْ: صفة لسلطان، أي: بغير برهان جاءهم بصحة ذلك، كَبُرَ مَقْتاً أي: عَظُمَ بُغضاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا، وفيه ضرب من التعجُّب والاستعظام. وفي «كبُر» ضمير يعود على «مَنْ» وتذكيره باعتبار اللفظ. كَذلِكَ أي: مثل ذلك الطبع الفظيع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فيصدر منه أمثال ما ذكر من الإسراف، والارتياب، والمجادلة بالباطل. ومَن قرأ بالتنوين «٢» فوصف لقلب، وإنما وصف بالتكبُّر والتجبُّر لأنه منبعهما، كما تقول: سَمِعَتِ الأذن، كقوله: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «٣» وإن كان الإثم للجملة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يُقال لأهل كل عصر: ولقد جاءكم فلان- لوليِّ تقدم قلبهم- بالآيات الدالة على صحة ولايته، فما زلتم، أي: ما زال أسلافكم من أهل عصره- في شك منه، حتى إذا مات ظهرت ولايته، وأقررتم بها، وقلتم: لن يبعث الله من بعده وليّاً، وهذه عادة العامة، يُقرون الأموات من الأولياء، ويُنكرون الأحياء. وهي نزعة أهل الكفر والضلال، كذلك يُضل الله من هو مسرف مرتاب، كالذين يُخاصمون في ثبوت الخصوصية عند أربابها، من غير برهان، وهو شأن المنكرين، كذلك يطبعُ الله على كل قلب متكبر جبار.
ثم ذكر عتو فرعون وطغيانه، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)
(٢) قرأ أبو عمر (قلب) بالتنوين فى الباء على قطع «قلب» عن الإضافة، وجعل التكبر والجبروت صفته، وقرأ الباقون بغير تنوين بإضافة «قلب» إلى ما بعده. واختلف عن ابن عامر. انظر الإتحاف (٢/ ٤٣٧).
(٣) من الآية ٣٨٣ من سورة البَقَرَة.
يقال: صَرِح الشيءُ: إذا ظهر. لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أي: الطرق. ثم أبدل منها تفخيماً لشأنها، وإظهاراً أنه يقصد أمراً عظيماً:
أَسْبابَ السَّماواتِ أي: طرُقها وأبوابها، وما يُؤدّي إليها، وكل ما أدّاك إلى الشيء فهو سبب إليه، فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أي: فأنظر إليه وأتحقق وجوده، قرأه حفص بالنصب، جواب التمني، والباقي بالرفع، عطفاً على «أبلغ». قال البيضاوي: ولعله أراد أن يبني له صرحاً في موضع عال، يرصد منه أحوال الكواكب، التي هي أسباب سماوية، تدلّ على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدلّ على إرسال الله تعالى إياه، أو أن يرى فساد قوله عليه السلام فإنّ إخباره عن إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود للسماء، وهو مما لا يقوى عليه الإنسان، وما ذلك إلا لجهله بالله وكيفية استنبائه. هـ.
قلت: والظاهر أنه كان مجسّماً، يعتقد أن الله في السماء، وأن اطلاعه إليه إنما كان ليرى هل ثَم إله، وإن قوله:
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً أي: في ادّعاء إله غيري، بدليل قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «١» مع أنَّ هذا كله إنما هو تمويه منه على قومه، وجرأة على الله، لا حقيقة له.
قال تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك التزيين المفرط، والصدّ البليغ، زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ فانهمك فيه انهماكاً لا يرعوي عنه بحال، وَصُدَّ «٢» عَنِ السَّبِيلِ أي: سبيل الرّشاد، وقرأ الكوفيون ويعقوب «وصُدّ» بالبناء للمفعول، فالفاعل في الحقيقة فيهما هو الله، بتوسط الشيطان في عالم الحكمة، ومَن قرأ «صَدّ» بالبناء للفاعل، فالفاعل: فرعون، إما صدّ الناس عن طريق الحق بأمثال هذه التمويهات، أو: اتصف بالصدّ. وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي: خسران وهلاك.
الإشارة: ما ظهر على فرعون هو من طغيان النفس وعتوها، فإنَّ النفس إذا اتصلت بها العوافي، وساعدتها أقدار الجمال في الظاهر، ادَّعت الربوبية، فإنَّ فرعون قيل: إنه عاش أربعمائة سنة، لم يتوجع فيها قط، فادّعى الربوبية، ولذا قال بعض الصوفية: في النفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حين قال: أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى، فكان
(٢) قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: (وصدّ) بضم الصاد. وقرأ الباقون بالفتح. انظر الحجة للفارسى (٦/ ١١٢).
ثم ذكر بقية وعظ المؤمن، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِي آمَنَ أي: مؤمن آل فرعون: يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ فيما دللتكم عليه، أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أي: طريقاً يُوصل صاحبَه إلى المقصود. والرشاد: ضد الغيّ، وفيه تعريضٌ بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغيّ والضلال.
يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي: تمتُّع يسير لسرعة زوالها، فالإخلاد إليها أصل الشر، ومنبع الفتن، ومنه يتشعّب فنون ما يؤدي إلى سخط الله. أَجْمل له أولاً، ثم فَسَّر، فاستفتح بذم الدنيا، وتصغير شأنها، ثم ثنَّى بتعظيم الآخرة، وبيَّن أنها هي الموطن والمستقر بقوله: وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ لخلودها، ودوامها، ودوام ما فيها. قال ابن عرفة: التمتُّع بالدنيا مانع من الزهد، وكون الآخرة دار مستقر يقتضي وجود الحرص على أسباب الحصول فيها. هـ.
ثم ذكر الأعمال التي تُبعد عنها أو تُقرب إليها، فقال: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً في الدنيا فَلا يُجْزى في الآخرة إِلَّا مِثْلَها عدلاً من الله تعالى. قال القشيري: له مثلها في المقدار، لا في الصفة لأن الأولى سيئة، والمكافأة حسنة ليست بسيئة. هـ. وقال ابن عرفة: في توفيه مماثلة العذاب الأبدي على كفر ساعة تتصور المماثلة، إما باعتبار نيته الكفر دواماً، وإما بأن يقال: ليس المراد المماثلة عقلاً، بل المماثلة شرعاً. وفي الإحياء: قال الحسن:
إنما خُلِّد أهل الجنة في الجنة، وأهل النار، في النار، بالنية، وهو- والله أعلم- مقتبس من قوله تعالى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ «١» هـ. قاله المحشى.
الإشارة: قال الورتجبي: سبيل الرشاد: طريق المعرفة، ومعرفة الله تعالى: موافقته ومتابعة أنبيائه وأوليائه، ولا تحصل الموافقة إلا بترك مراد النفس، ولذلك قال: يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ. قال محمد بن علي الترمذي: لم تزل الدنيا مذمومة في الأمم السابقة، عند العقلاء منهم، وطالبوها مهانين عند الحكماء الماضية، وما قام داع في أمة إلا حذَّر متابعةَ الدنيا وجمعها والحب لها، ألا ترى مؤمن آل فرعون كيف قال: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ، كأنهم قالوا: وما سبيل الرشاد؟ قال: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ
أي: لن تصل إلى سبيل الرشاد وفي قلبك محبة الدنيا وطلب لها. هـ.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً عن المؤمن: وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ إلى السلامة من النار، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ بسلوك أسبابها. كرر نداءهم إيقاظاً لهم عن سِنة الغفلة، واعتناءً بالمنادَى به، ومبالغة في توبيخهم، وفيه أنهم قومه، وأنه من آل فرعون، وجيء بالواو في النداء الثالث، دون الثاني لأن الثاني
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ هو بدل من تَدْعُونَنِي الأول، وفيه تعليل، والدعاء يتعدّى باللام وبإلى، كالهداية، وَأُشْرِكَ بِهِ وتدعونني لأُشرك به ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي: بربوبيته، والمراد بنفي العلم: نفي المعلوم، كأنه قال: وأُشرك به شيئاً ليس بإله، وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلهاً؟ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ أي: إلى الله الجامع لصفات الألوهية، من كمال القدرة والغلبة، وما يتوقف عليه من العلم والإرادة إذ بالقدرة يتمكن من المجازاة بالتعذيب، أو الإحسان بالغفران.
لا جَرَمَ لا شك، أو: حقاً، وقال البصريون: «لا» نفي رد لِما دعوه إليه، و «جَرَم» : فعل، بمعنى: حقّ، و «أن» مع «ما» في حيزه فاعل، أي: حق ووجب أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ أي: وجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها، والظاهر: أن «جَرَمَ» من الجرم، وأراد به هنا الكذب، أي: لا كذب في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة.. الخ، فقد يضمن الفعل معنى المصدر، وتدخل «لا» النافية للجنس عليه، والمعنى: أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، ومن حق المعبود بالحق أن يدعوَ العباد إلى طاعته، وما تدعونني إليه لا يدعو هو إلى عبادته، ولا يدّعي الربوبية، أو: معناه: ليس له استجابة دعوة في الدنيا والآخرة، أو: دعوة مستجابة. جعلت الدعوة التي لا استجابة لها، ولا منفعة، كلا دعوة. وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي: رجوعنا إليه بالموت، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ في الضلال والطغيان، كالإشراك وسفك الدماء، هُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي: مُلاَزِمُوها.
فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ من النصائح عند نزول العذاب، وَأُفَوِّضُ أُسلّم أَمْرِي إِلَى اللَّهِ، قاله لَمّا توعّدوه. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيَحْرُسُ مَن يلوذ به من المكاره.
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا شدائد مكرهم، وما هَمُّوا به من إلحاق أنواع العذاب لِمَن خالفه، وقيل: إنه خرج من عندهم هارباً إلى جبل، فبعث قريباً من ألفٍ في طلبه، فمنهم مَن أكلته السباع، ومَنْ رجع منهم صَلَبه فرعونُ. وقيل: لَمَّا وصلوا إليه ليأخذوه، وجدوه يُصلّي، والوحوش حوله، فرجعوا رُعباً، فقتلهم. وقال مقاتل: لمّا قال المؤمن هذه الكلمات، قصدوا قتله، فوقاه الله من مكرهم، أي: بعد تفويض أمره إلى الله، فقيل: إنه نجا مع موسى في البحر. هـ. وَحاقَ نزل بِآلِ فِرْعَوْنَ أي: بفرعون وقومه. وعدم التصريح به، للاستغناء بذكرهم عن ذكره، ضرورة أنه أولى منهم بذلك، وسُوءُ الْعَذابِ الغرق والقتل والنار.
خبر، وعَرْضهم عليها: إحراقهم، يقال: عرض الإِمَام الأسارى على السيف: إذا قتلهم به. وذلك لأرواحهم، كما روى ابنُ مسعود: أن أرواحهم في أجواف طير سُود، تُعرض على النار- أي: تحرق بها- بكرة وعشياً، إلى يوم القيامة «١». وتخصيص الوقتين إما لأنهم يُعذّبون في غيرهما بجنسٍ آخر، أو: يخفف عنهم، أو: يكون غدوّاً وعشياً عبارة عن الدوام.
هذا في الدنيا في عالم البرزخ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقال للخزنة: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ، من الإدخال الرباعي، ومَن قرأ: ادخُلوا «٢»، ثلاثيّاً، فعلى حذف النداء، أي: ادخلوا يا آل فرعون أَشَدَّ الْعَذابِ أي: عذاب جهنم، فإنه أشدّ مما كانوا فيه. أو: أشد عذاب النار فإنّ عذابها ألوان، بعضه أشد من بعض، وهذه الآية دليل على عذاب القبر في البرزخ، وهو ثابت في الأحاديث الصحاح.
الإشارة: النجاة التي دعاهم إليها: هي الزهد في الدنيا، وفي التمتُّع بها مع الاشتغال بالله. والنار التي دعوه إليها: هي الاشتغال بمتعة الدنيا مع الغفلة عن الله. لا جَرَمَ أنَّ ما دعوه إليه لا منفعة له في الدارين، بل ضرره أقربُ من نفعه. وقوله تعالى: وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ قال الورتجبي: [مرد المحبين] «٣» إلى مشاهدته، ومرد العارفين إلى الوصلة، ومرد الكل إلى قضيات الأزلية.
قال حمدون القصّار: لا أعلم في القرآن أرجى من قوله: وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ، فقد حكي عن بعض السلف أنه قال: الكريمُ إذا قدر عفا، وإنما يكون مرد العبد إلى ربه إذا أتاه على أمد الإفلاس والفقر، لا أن يرى لنفسه مقاماً في إحدى الدارين، وهو أن يكون في الدنيا خاشعاً لمَن يذله، ولا يلتفت إليه، هارباً ممن يكرمه ويبره، ويكون في الآخرة طالباً لفضل الله، مشفقاً من حسناته أكثر من إشفاق الكفار عن كفرهم. هـ. قلت: هذا مقام العباد والزهّاد، وأما العارفون فلا يرون إلا الله، فيلقون الله بالله، غائبون عن إحسانهم وإساءتهم.
وقوله تعالى: فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ هكذا يقول الواعظ إن لم ينفع وعظه، ويُفوض أمره وأمرهم إلى الله فإنَّ الله بصيرٌ بهم. وقال بعضهم: وأُفوضُ أمري في الدنيا والآخرة إلى الله، فهو بصير بعجزي وضعفي عن
(٢) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر (ادخلوا) بهمزة وصل، وضم الخاء، وقرأ الباقون بقطع الهمزة المفتوحة، وكسر الخاء، أمر للخزنة. انظر الإتحاف (٢/ ٤٣٨).
(٣) ما بين المعقوفتين غير موجود فى الأصول، وأثبته من عرائس البيان للشيرازى.
التفويض قبل النزول، والرضا بعده بالمجاهدة، والتسليم بلا مجاهدة.
وقوله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا هذه نتيجة التفويض، فكُلّ من فوض أمره إلى الله فيما ينزل به، وقاه الله جميع المكاره، وكُلَّ ما يخشى إن قطع عن قلبه التعلُّق بغير الله، كما هو حقيقة التفويض. قال القشيري: أشدُّ العذاب على الكفار: يأسُهم عن الخروج، وأما العصاة من المؤمنين فأشدُّ عذابهم: إذا علموا أن هذا يومُ لقاءِ المؤمنين. هـ. أي: وهم قد حرموا ذلك.
ثم ذكر احتجاج الكفار فى النّار، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ أي: واذكر لقومك وقت تخاصم الكفار في النار، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ منهم لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم رؤساؤهم: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، وهو جمع تابع، كخادم وخدَم، أو: ذوي تَبَع، على أنه مصدر، أو: وصف به للمبالغة، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ أي: فهل أنتم دافعون، أو: حاملون عنا جزءاً من النار؟ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها، التنوين عوض عن المضاف، أي: كلنا فيها، لا يُغني أحد عن أحد. وقرىء (كُلاًّ) بالنصب «١» على التأكيد، وهو ضعيف لخلوه من
قال ابن عرفة: في الآية لف ونشر، فقوله تعالى: إِنَّا كُلٌّ فِيها راجع لقوله: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي: إنا قد حصلنا جميعاً في النار، فَجُوزي كلّ على قدر علمه، أنتم على ضلالكم، ونحن على إضلالنا إياكم. وقوله: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ راجع لقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا وبهذا المعنى يتقرر الجواب. هـ.
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ للقُوّام بتعذيب أهلها، وإنما لم يقل: لخزنتها لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً، ويحتمل أنّ جهنم هي أبعدُ النار قعراً، من قوله: بئر جَهنام، أي: بعيدة القعر، وفيها أعتى الكفرة وأطغاهم، أو: لكون الملائكة الموكّلين بعذاب أهلها أقدر على الشفاعة لمزيد قربهم من الله، فلهذا تعمّدوهم بطلب الدعوة، فقالوا لهم: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً أي: مقدارَ يوم من الدنيا مِنَ الْعَذابِ واقتصارهم في الاستدعاء على ما ذكر في تخفيف قدر يسير من العذاب في مقدار قصير من الزمان، دون رفعه رأساً، أو:
تخفيف منه في زمان مديد لأن ذلك عندهم ليس في حيز الإمكان، أو لا يكاد يدخل تحت أمانيهم.
قالُوا أي: الخزنة، توبيخاً لهم، بعد مدة طويلة: أَوَلَمْ تَكُ أي: القصة تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات، يتلون عليكم آيات ربكم ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا؟ أرادوا بذلك إلزامهم الحجة، وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء، وتعطيل أسباب الإجابة، قالُوا أي: إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم، فإنَّ الدعاء لمَن يفعل ذلك مما يستحيل صدوره منا. زاد البيضاوي: إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم، وبحث معه أبو السعود بأنه يُوهم أن المانع هو عدم الإذن، وأنَّ الإذن في حيز الإمكان، ولا تجوز الشفاعة في كافر. انظره.
قال تعالى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع وبطلان، لا يُجابون فيه لأنهم دعوا في غير وقته، ويحتمل أن يكون من كلام الخزنة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الآية تجر ذيلها على كلّ مَن له جاه، فدعا إلى سوء، بمقاله أو حاله، فتبعه العامة على ذلك، فيتحاجُّون يوم القيامة، فيقول المستضعفون: إنا كنا لكم تبعا. ف كل مَن أمر بسوء، وفُعِل، عُوقب الآمر والمأمور، وكل مَن فعل فعلاً خارجاً عن السُنَّة، كالرغبة في الدنيا، والتكاثر منها، فتبعه العامة على ذلك، عُوتب الجميع، وبالله التوفيق.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالحجّة والظفر، والانتقام لهم من الكفرة، بالاستئصال، والقتل، والسبي، وغير ذلك من العقوبات. ولا يقدح في ذلك ما يتفق لهم من صورة الغلبة، امتحاناً إذ الحكم للغالب، وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا.. «١» الآية، وقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «٢». والنصر في الدنيا إما بالسيف، في حق مَن أمر بالجهاد، أو: بالحجة والإهلاك فيمن لم يؤمر به، وبذلك يندفع قول مَن زعم تخصيص الآية أو تعميمها، وإخراجَ زكريا ويحيى من الرسالة، وإنْ ثبت لهما النبوة لقتلهما، وأن الآية، إنما تضمنت نصر الرسل دون الأنبياء، فإنه خلاف لما صرّح به الجمهور من ثبوت الرسالة ليحيى، ففي كلام ابن جزي هنا نظر. قاله المحشي.
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي: وننصرهم يوم القيامة، عبَّر عنه بذلك للإشعار بكيفية النصرة، وأنها تكون حين يجتمع الأولون والآخرون، ويحضره الأشهاد من الملائكة وغيرهم، فيشهدون للأنبياء بالتبليغ، وعلى الكفرة بالتكذيب. قال النسفي: الأشهاد جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، يريد: الأنبياء والحفظة، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب، والحفظة يشهدون على بني آدم. هـ.
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ: هو بدل من يَوْمَ يَقُومُ أي: لا يقبل عذرهم، ومَن قرأ بالتأنيث «٣» فباعتبار لفظ المعذرة، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي: البُعد من الرحمة، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي: سوء دار الآخرة، وهو عذابها.
الأشارة: كما نُصرت الرسل بعد الامتحان، نُصرت الأولياء بعد الامتحان والامتكان. قال الشاذلي رضي الله عنه:
اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا.. إلخ. وهم داخلون في قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا،
(٢) من الآية ٢١ من سورة المجادلة.
(٣) قرأ يَوْمَ لا يَنْفَعُ بالتذكير نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وقرأ الباقون يوم لا تنفع بالتاء. انظر الحجة للفارسى (٦/ ١١٥).
ثم وعد نبيه بالنصر، كما نصر موسى وغيره، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدي به من المعجزات، أو الشرائع والصُحف. وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي: تركنا فيهم التوراة، يرثه بعضهم من بعض، أو: جنس الكتاب، فيصدق بالتوراة والإنجيل والزبور لأنَّ المنزَّل عليه منهم. قال الطيبي: فيه إشارة إلى أن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي، الناطق بالحكمة والموعظة. هـ. حال كون الكتاب هُدىً وَذِكْرى أي: هادياً ومُذكِّراً، أو: إرشاداً وتذكرة لِأُولِي الْأَلْبابِ لأولي العقول الصافية، العالِمين بما فيه، العاملين به.
(٢) من الآية ٢٥٧ من سورة البقرة.
«١»، حَقٌّ لا يحتمل الاختلاف بحال. قال الطيبي: الآية تشير إلى نصره على أعدائه، كموسى، وأنه يظهر دينه على الدين كله، ويورث كتابه ليعتصموا به، فيكون لهم هُدًى وذكرى، وعزّاً وشرفاً. هـ. أي:
ولذلك قدّم ذكر موسى على بشارته بالنصر ليتم التشبيه.
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، تشريعاً لأمتك فإِنَّ الاستغفار يمحو الذنوب التي تعوق عن النصر، أو: تداركاً لِمَا فرط منك من ترك الأَوْلَى في بعض الأحايين، فإِنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين. والحاصل: أنَّ كل مقام له ذنب يليق به، وهو التقصير في القيام به على ما يليق به، فالنبى صلّى الله عليه وسلم كُلف بدوام الشهود ولو في حال التعليم، فإذا غاب عن الحق لحظة بشغل البال بالتعليم، كان في حقه نقصاً يُوجب الاستغفار. ثم قال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أي: دُم على التسبيح ملتبساً بحمده، أي: قل: سبحان الله وبحمده، أو: صَلّ في هذين الوقتين، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وعشيّاً، وقيل: هما صلاة العصر والفجر، خصصهما لشرفهما.
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ ويجحدونها بِغَيْرِ سُلْطانٍ برهان أَتاهُمْ من جهته تعالى، بل عناداً وحسداً. وتعليق المجادلة بذلك، مع استحالة إتيانه للإيذان بأن التكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى برهان، وهذا عام لكل مجادل، محق أو مبطل، وإن نزل في مشركي مكة. وقوله: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ:
خبر «إِنْ»، أي: ما في قلوبهم إلا تكبُّر عن الحق، وتعاظم عنه، وهو إرادةُ التقدم والرئاسة، وألا يكون أحدٌ فوقهم، فلذلك عادوك، ودفعوا آياتك، خيفة أن تتقدمهم، ويكونوا تحت قهرك لأن النبوة تحتها كُل ملك ورئاسة، أو: إرادة أن تكون لهم النبوة دونك، حسداً وبغياً، كقولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «٢»، لَوْ كانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونا إِلَيْهِ «٣».
ثم وصف كِبْرَهم بقوله: ما هُمْ بِبالِغِيهِ أي: ما هم ببالغي موجب ذلك الكبر ومقتضاه، وهو ما أرادوه من التقدُّم والرئاسة، وقيل: نزلت في اليهود، وهم المجادلون، كانوا يقولون: لست صاحبنا المذكور في التوراة، بل هو المسيح بن داود، يعنون الدجال، يخرج في آخر الزمان، فيبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من
(٢) الآية ٣١ من سورة الزخرف.
(٣) من الآية ١١ من سورة الأحقاف. [.....]
الإشارة: فاصبر أيها المتوجه إلى الله، إن وعد الله بالفتح حق إن صبرت، وكابدت ولم تملّ، واستغفر لذنبك، وتطهرْ من عيبك، لتدخل حضرة ربك. قال الورتجبي: «واستغفر لذنبك» أي: لما جرى على قلبك من الأحكام البشرية، وأيضاً: استغفر لرؤية وجودك في وجود الحق، فإنَّ كون الحادث في وجود القديم ذنب في إفراد القدم من الحدوث. انظر تمامه.
وقوله تعالى: وَسَبِّحْ.. الخ، فيه الحث على التوجُّه إلى الله في هذين الوقتين، فإن العبرة بالافتتاح والاختتام، فمَن فتح يومه بخير، وختمه بخير، حكم على بينهما. وقال في أهل الإنكار:
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ | الآية، فاستعذ بالله منهم، وغِبْ عنهم بإقبالك على مولاك. وبالله التوفيق. |
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩)
يقول الحق جلّ جلاله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، فمَن قدر على اختراع هذه الأجرام مع عظمها كان على اختراع الإنسان بعد موته وبعثه مع مهانته أقدر، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك لأنهم لا يتفكرون لغلبة الغفلة عليهم، وعمى بصيرتهم.
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي: الغافل والمستبصر، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ولا يستوي المحسن والمسيء، فلا بد أن تكون لهم حال أخرى، يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت، وهي فيما بعد البعث، فيرتفع المستبصر المحسن في أعلى عليين، ويسقط الغافل المسيء في أسفل سافلين. وزيادة
وقرىء بالغيبة، والخطاب، على الالتفات. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها لا شك في مجيئها لوضوح دلائلها، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يُصدقون بوقوعها لقصور نظرهم على ظواهر ما يحسُّون.
الإشارة: التفكُّر في العوالم العلوية والسُفلية، يُوجب في القلب عظمة الحق جلّ جلاله، وباهر قدرته وحكمته، وإتيان البعث لا محالة لنفوذ القدرة في الجميع. وكونُ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان، إنما هو باعتبار الجرم الحسي، وأما باعتبار المعنى فالإنسان أعظم لاشتماله على العوالم كلها، كما قال في المباحث:
اعْقِل فَاَنْتَ نُسْخَةُ الوُجُود | ِلله ما أعلاَك مِن مَوْجُود |
أَلَيْس فِيك العرشُ والكرسِيُّ | والعَالَمُ العُلْويُّ والسُّفْلِيُّ؟ |
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٠]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أي: اعبدوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي: أثبكم، ويدل على هذا قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ صاغرين أذلاء، أو: اسألوني أعطكم، على ما أريد، في الوقت الذي أريد. قال القشيري: والحكمة في أنه أمر بالسؤال قبل الإجابة، وبالاستغفار قبل المغفرة، أنه حكم في اللوح أن يعطيك ذلك الشيء الذي تسأله وإن لم تسأل، ولكن أمر بالسؤال، حتى إذا وجدته تظن أنك وجده بدعائك، فتفرح به. قلت: السؤال سبب، والأسباب غطى بها سر قدرته تعالى. ثم قال:
ويقال: إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما مِن مؤمنٍ يدعو الله، ويسأله شيئاً، إلا أعطاه إياه، إما في الدنيا، وإما في الآخرة. حيث يقال له: هذا ما طلَبْتَه في الدنيا، وقد ادخرتُه لك إلى هذا اليوم، حتى يَتَمنى العبدُ أنه لم يُعطَ شيئاً في الدنيا. هـ.
«وحَدوني أغفر لكم»، فسَّر الدعاء بالعبادة، والعبادة بالتوحيد.
الإشارة: اختلف الصوفية أيّ الحالين أفضل؟ هل الدعاء والابتهال، أو السكوت والرضا؟ والمختار أن ينظر العبد ما يتجلى فى قلبه، فإن انشرح للدعاء فهو في حقه أفضل، وإن انقبض عنه، فالسكوت أولى، والغالب على أهل التحقيق من العارفين، الغنى بالله، والاكتفاء بعلمه، كحال الخليل عليه السلام، فإنهم إبراهيميون.
قال الورتجبي: أي: ادعوني في زمن الدعاء الذي جعلته خاصّاً لإجابة الدعوة، فادعوني في تلك الأوقات، أستجب لكم فإنَّ وقوع الإجابة فيها حقيقة بلا شك، ومَن لم يعرف أوقات الدعاء، فدعاؤه ترك أدب فإن الدعاء في وقت الاستغفار من قلة معرفة المقامات، فإن السلطان إذا كان غضبان لا يُسأل منه، وإذا كان مستبشراً فيكون زمانه زمن العطاء والكرم. - قلت: هذا في حق الخصوص، الفاهمين عن الله، وأما العموم، فما يناسبهم إلا دوام الدعاء في الرخاء والشدة، قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا «٣» ثم قال عن الورّاق: ادعوني على حد الاضطرار والالتجاء، حيث لا يكون لكم مرجع إلى [سواي] «٤»، استجب لكم. هـ.
ثم برهن على توحيده، وأنه لا يصح الرّجوع إلا إليه، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)
(٢) أخرج هذه الرّواية الترمذي فى (الموضع السابق حديث ٣٣٧١) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) من الآية ٤٣ من سورة الأنعام.
(٤) فى الأصول [سواه] والمثبت هو الذي فى عرائس البيان.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى النَّاسِ، حيث تفضَّل عليهم بهذه النعم الجسيمة، وإنما لم يقل:
المتفضل لأن المراد تكثير الفضل، وأنه فضله لا يوازيه فضل، فالتنكير للتعظيم. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لجهلهم بالمنعم، وإغفالهم مواضع النعم. وتكرير الناس، ولم يقل: أكثرهم لتخصيص الكفران بهم، وأنهم هم الذين من شأنهم الكفران، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ «١».
ذلِكُمُ اللَّهُ أي: ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية، من خلق الليل والنهار هو الله رَبُّكُمْ لا ربّاً غيره، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة، أي: الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية، وإيجاد الأشياء، والوحدانية، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: فكيف، ومِن أيّ وجه تُصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان؟! كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي: مثل ذلك الإفك العجيب، الذي لا وجه له، ولا مصحح له أصلاً، يُؤفك كلُّ مَن جحد بآياته تعالى من غير تروٍّ ولا تأمُّل.
ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان، فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً مستقراً تستقرون عليها بأقدامكم ومساكنكم، وَالسَّماءَ بِناءً سقفاً فوقكم، كالدنيا بيت سقفه السماء،
هو المستحق للربوبية، فَتَبارَكَ اللَّهُ أي: تعالى بذاته وصفاته رَبُّ الْعالَمِينَ أي: مالكهم ومربيهم، والكل تحت قدرته مفتقر إليه في إيجاده وإمداده إذ لو انقطع إمداده لا نهدّ الوجود.
هُوَ الْحَيُّ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ إذْ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله، فَادْعُوهُ فاعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة من الشرك والرياء، وقولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. عن ابن عباس رضي الله عنه: مَن قال «لا إله إلا الله»، فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين «١».
الإشارة: الله هو الذي جعل ليل القبض لتسْكنوا فيه عند الله، ونهار البسط لتُبصروا نعم الله، فتشكروا لتبتغوا زيادة فضله، وجعل أرض النفوس قراراً لقيام وظائف العبودية، وسماء الأرواح مرقى لشهود عظمة الربوبية. قال القشيري: سكونُ الناس بالليل- أي: الحسي- على أقسام: فأهل الغفلة يسكنون مع غفلتهم، وأهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم، فشتّان بين سكون غفلةٍ، وسكونِ وصلة، وقومٌ يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم، وقومٌ إلى حلاوة أعمالهم، [وبسطهم، واستقبالهم] «٢»، وقومٌ يعدِمون القرار في ليلهم ونهارهم- أي: لا يسكنون إلى شيء- أولئك أصحابُ الاشتياق، أبداً في الإحراق هـ.
وقوله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ أي: صَوَّر أشباحكم، فأحسن صورتها، حيث بهَّجها بأنوار معرفته. قال الورتجبي:
فأحْسن صُوَرَكم بأن ألبستكم أنوار جلالي وجمالي، واتخاذِكم بنفسي، ونفخت من روحي فيكم، الذي أحسن الهياكل مِن حسنه، ومِن عكْس جماله، فإنه مرآة نوري الجلي للأشباح. هـ. قال القشيري: خَلَقَ العرشَ والكرسي والسمواتِ والأرض، وجميع المخلوقات، ولم يقل في شيء منها: فأحسن صورها، بل قاله لمّا خلق هذا الإنسان، وليس الحَسَنَ ما يستحسنه الناسُ، ولكن الحسنُ ما يستحسنه الحبيبُ، وأنشدوا:
مَا حَطَّكَ الْوَاشُونَ عَن رُتبةٍ | عنْدِي، ولاَ ضَرَّكَ مُغْتَابُ |
كأَنَّهم أَثْنَوْا ولَمْ يَعْلَمُوا | عَلَيْكَ عندى بالّذى عابوا «٣» |
(٢) فى القشيري: [لبسطهم واستقلالهم].
(٣) البيتان لأبى نواس. انظر ديوانه (١/ ١٠٩) ونهاية الأرب (٢/ ٢٤١) وينسبان أيضا إلى العباس بن الأحنف، كما جاء فى ديوانه (ص ٦١).
قوله تعالى: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لذيذ المشاهدة، وأنس الوصلة. وقوله تعالى: هُوَ الْحَيُّ الحياة عند المتكلمين لا تتعلق بشيء، وعند الصوفية تتعلق بالأشياء إذ لا قيام لها إلا بأسرار معاني ذاته، ومَن تحققت حياته من الأولياء بحياة الله، بحيث كان له نور يمشي به في الناس، كان كل مَن لقيه حييت روحه بمعرفة الله، ولذلك يضم الشيخُ المريدَ إليه، إن رآه لم ينهض حاله، ليسري حاله فيه، يأخذون ذلك من ضم جبريل للنبي- عليهما السلام. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان صلّى الله عليه وسلم بين أظهر المشركين نهى عن أن يتصف بصفاتهم، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ أي: تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ولم يكن عَبَدَها قط، لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي من الحُجَج العقلية، والآيات التنزيلية.
قال الطيبي: معرفة الله تعالى ووحدانيته معلومتان بالعقل، وقد ترد الأدلة العقلية في مضمون السمعية، أما وجوب عبادة الله، وتحريم عبادة الأصنام، فحُكْمٌ شرعي لقوله: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أي: حَرُم عليّ، وهذا إنما يتحقق بعد البعثة، خلافاً للمعتزلة في الإيجاب قبل الشرع، للتحسين والتقبيح، والمعنى: أن قضية التقليد تُوجب ما أنتم
(٢) من الآية ٣٩ من سورة الرّعد.
يَآ أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ | «١» إلخ كلامه، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ أن أنقاد وأُخلص ديني لِرَبِّ الْعالَمِينَ. |
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ عبارة تجري في الأدراج المذكورة، فمِن الناس مَن يموت قبل أن يُخرج طفلاً، وآخرون قبل الأشدّ، وآخرون قبل الشيخوخة. وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي: وفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مُسمى، أي: ليبلغ كل واحد منكم أجلاً مسمى لا يتعداه، وهو أجل موته، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولكي تعقلوا ما في ذلك من العِبَر، والحجج، وفنون الحِكَم فإنَّ ذلك التدريج البديع يقضي بالقدر السابق، ونفوذ القدرة القاهرة لبُعد ذلك التفاوت، والاختلاف العظيم، عن الطبيعة والعلة، وإنما موجب ذلك سبق الاختيار والمشيئة الأزلية، ولذلك عقّبه بقوله:
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ دفعاً لما قد يُتوهم- من كونه لم يذكر الفاعل في قوله: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ- أن ذلك من فساد مزاجه، أو قتل غيره قبل أجله، فرفع ذلك الإبهام بقوله: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لا غيره، أي: يحيي الأموات، ويميت الأحياء، أو: يفعل الإحياء والإماتة، فَإِذا قَضى أَمْراً أي: أراد أمراً من الأمور، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من غير توقُّف على شيء من الأشياء أصلاً، وهو تمثيل لتأثير قدرته تعالى في الأشياء عند تعلُّق إرادته بها، وتصوير سرعة ترتُّب المكونات على تكوينه، من غير أن يكون هناك أمر ولا مأمور.
الإشارة: إذا دخل المريد مقامَ التجريد، طالباً لأسرار التوحيد والتفريد، وطلبه العامة بالرجوع للأسباب قبل التمكين، يقول:
(إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله | ) الآية. والبينات التي جاءته من ربه، هو اليقين |
(٢) ضم شين «شيوخا» نافع، وأبو عمرو، وهشام، وحفص، وأبو جعفر، وقرأ الباقون بكسر الشين. انظر الإتحاف (٢/ ٤٣٩). [.....]
تَرَكْتُ لِلنَّاسِ دِينَهُم ودُنْيَاهُم | شُغلاً بِذِكرك يَا دِينِي وَدُنْيَاي |
وفيما ذكر الحق تعالى من أطوار البشر، شواهد ظاهرة، دالة على إثبات البعث، وإنكار ذلك والجدال فيه، جهالة، كما قال تعالى:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ، كرر الحق تعالى الجدال في هذه السورة ثلاث مرات، فإما أن يكون في ثلاث طوائف: الأول في قوم فرعون، والثاني في اليهود، والثالث في المشركين، وإما للتأكيد، أي: انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آيات الله الواضحة، الموجبة للإيمان بها، الزاجرة عن الجدال فيها، أَنَّى يُصْرَفُونَ أي: كيف يُصرفون عنها، مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية.
وهذا تعجيب من أحوالهم الركيكة، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن، أو بسائر الكتب والشرائع، كما أبانه بقوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي: بالقرآن، أو: بجنس الكتب السماوية، وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب، أو: لوحى، أو: الشرائع، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلوا من الجدال والتكذيب، عند مشاهدتهم لأنواع العقوبات.
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ أي: سوف يعلمون حين تكون الأغلال في أعناقهم. و «إذ» : ظرف للماضي، والمراد به هنا: الاستقبال لأن الأمور المستقبلة لَمّا كانت محققة الوقوع، مقطوعاً بها، عبّر بما كان ووجد. وَفى أعناقهم أيضاً السَّلاسِلُ. وفي تفسير ابن عرفة: ولا يجوز مثل ذلك في العقوبات الدنيوية، وقياسه على العقوبات الأخروية خطأ، وفاعله مخطئ غاية الخطأ، ولم يذكر الأئمة في اعتقال المحبوس للقتل إلا أنه يجعل القيد من الحديد في رِجْلِه، خيفة أن يهرب، وأما عنقه فلا يُجعل فيه شيء. هـ. يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ أي:
يُجرّون في الماء الحارّ، وهو استئناف بياني، كأن قائلاً قال: فماذا يكون حالهم بعد ذلك؟ فقال: يُسحبون في الحميم، ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ويُحرقون، من: سَجَر التنّور: إذا ملأه بالوقود، والمراد: أنهم يُعذبون بأنواع العذاب، ويُنقلون من لون إلى لون.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي: غابوا، وهذا قبل أن يُقرن بهم آلهتهم، أو: ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي: تبيّن لنا أنهم لم يكونوا شيئاً. أو: يكون إنكاراً منهم، كقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «١». وهذا كله مستقبل عبّر عنه بالماضي
ذلِكُمْ الإضلال بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ أي: تبطرون وتتكبرون بِغَيْرِ الْحَقِّ، بل بالشرك والطغيان، وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تفخرون وتختالون، أو: تتكبرون وتعجبون. والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ. فيقال لهم: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي: أبوابها السبعة المقسومة عليكم خالِدِينَ فِيها مقدّراً خلودكم فيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحق، والمخصوص محذوف، أي: جهنّم.
الإشارة: الأولياء العارفون أهل التربية الكاملة، آية من آيات الله في كل زمان، فيقال في حق مَن يُخاصم في وجودهم، ويتنكّب عن صحبتهم: الذين يجادلون في آيات الله أنَّى يُصرفون؟ وهم الذين كذَّبوا بأسرار الكتاب، وعلوم باطنه، وبما أرسل به خلفاء الرسل، ممن يغوص على تلك الأسرار، فسوف يعلمون حين تخاطبهم أغلال الوساوس والخواطر، وسلاسل العلائق والشواغل، فيقبضهم عن النهوض إلى قضاء الشهود والعيان، وجولان الفكرة في أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، يُسحبون في حرّ التدبير والاختيار، ثم في نار القطيعة يُسْجَرون، ثم قيل لهم إذا ماتوا: أين ما كنتم تُشركون في المحبة والميل من دون الله؟ قالوا: ضلُّوا عنا، وغاب عنهم كل ما تمتعوا به من الحظوظ والشهوات، فيقال لهم: ذلكم بما كنتم تنبسطون في الدنيا في أنواع المآكل، والمشارب، والملابس، والمناكح، وبما كنتم تفتخرون على الناس، فيخلدون في الحجاب، إلا في وقت مخصوص. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالصبر وانتظار الفتح، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)
ثم سلاّه بمَن قبله، فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ فأُوذوا وصبروا حتى جاءهم نصرنا، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ في القرآن، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، قيل: عدد الأنبياء- عليهم السلام- مائة ألف وأربعمائة وعشرون ألفاً، والمذكور قصصهم في القرآن أفراد معدودة. قال الطيبي: والصحيح ما روينا عن أحمد بن حنبل، عن أبي ذر، قلت: يا رسول الله، كم عدد الأنبياء؟ قال: «مِائَةُ أَلْفٍ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّاً غفيراً» «١». هـ. وقد تكلم في الحديث بالضعف والصحة والوضع، وقيل: عدتهم ثمانية آلاف، أربعة آلاف نبي من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس. وعن عليّ- كرّم الله وجهه: «إن الله تعالى بَعَثَ نبيّاً أسود، فهو ممن لم تُذكر قصته في القرآن» «٢». فقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أي: في القرآن، فلا ينافي إخباره بمطلق العدد على ما في حديث أبي ذر.
وَما كانَ أي: ما صحّ، ولما استقام لِرَسُولٍ منهم أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ مما اقترح عليه قومه، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. فإنَّ المعجزات على تشعُّب فنونها، عطايا من الله تعالى، قسمها بينهم على حسب المشيئة، المبنية على الحِكَم البالغة، وهذا جواب اقتراح قريش على رسول الله الآيات عناداً، يعني: إنَّا قد أرسلنا كثيراً من الرسل، وما استقام لأحد منهم أن يأتي بآية إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ومشيئته، فمَن لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إِلاَّ أن يشاء الله، ويأذن في الإتيان بها؟ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بهلاكهم، أو: بقيام الساعة، قُضِيَ بِالْحَقِّ أي: بإنجاء المُحق وإثابته، وإهلاك المبطل وتعذيبه، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أي: المعاندون المقترحون للآيات، أو: المتمسكون بالباطل، فيدخل المقترحون المعاندون دخولاً أوليا.
(٢) أخرجه الطبري (٢٤/ ٨٧) والطبراني فى الأوسط (ح/ ٩٣١٩)، زاد ابن حجر فى الكافي (رقم ٣٤٤) عزوه لابن مردويه.
ثم ذكّرهم بالنعم الحسية، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ خلق لَكُمُ الْأَنْعامَ الإبل لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي: لتركبوا بعضها، وتأكلوا بعضها، وليس المراد: أن الركوب والأكل مختص ببعض معين منها، بحيث لا يجوز تعلُّقه بالآخر، بل على أن بعضاً منها صالح لكل منهما. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ أُخر غير الركوب، كألبانها وأوبارها وجلودها، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً أي: ما تحتاجون إليه من حمل أثقالكم من بلد إلى بلد، فِي صُدُورِكُمْ في قلوبكم، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي: وعليها في البر، وعلى الفُلك في البحر تُحملون، ولعل المراد به: حمل النساء والولدان عليها بالهودج، وهو السر في فصله عن الركوب. والجمع بينها وبين الفلك في الحمل لِمَا بينهما من المناسبة، حتى سُميت الإبل: سفائن البر.
وقيل: المراد بالأنعام: الأزواج الثمانية، على أن المعنى: لتركبوا بعضها، وهي الإبل، وتأكلوا بعضها، وهي الغنم والبقر، فذكر ما هُوَ الأهم من كلٍّ، والمنافع تعم الكل، وبلوغ الحاجة تعم الإبل والبقر. وقال الثعلبي: التقدير:
لتركبوا منها بعضاً، ومنها تأكلون، فحذف «بعضاً» للعلم به.
يُرِيكُمْ آياتِهِ
دلائله الدالة على قدرته ووفور رحمته، أَيَّ آياتِ اللَّهِ
أي: فأيّ آية من تلك الآيات الباهرةنْكِرُونَ
؟ فإن كُلاًّ منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكارها من له عقل فى الجملة. وإضافة آية إلى الإسم الجليل لتربية المهابة، وتهويل إنكارها، و «آيات» نصب بتنكرون، وتذكير «أيّ» مع
الإشارة: ما أعظم قدرك أيها الإنسان إن اتقيت الله، وعرفت نعمه، فقد سلّطك على ما في الكون بأسره، الحيوانات تخدمك وتنتفع بها، أكْلاً، وركوباً، وملبساً، وحملاً، والبحر يحملك، والأرض تُقلك، والسماء تُظلك، وما قنع لك بالدنيا حتى ادخر لك الآخرة، التي هي دار الدوام، فإن شكرت هذه النعم فأنت أعز ما في الوجود، وإن كفرتها فأنت أهون ما في الوجود. وبالله التوفيق.
ولا تعرف حقائق النّعم إلا بالتفكر، ولذلك أمر به إثر ذكرها، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٨٢ الى ٨٥]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي: أقعدوا فلم يسيروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المهْلَكة، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عدداً وَأَشَدَّ قُوَّةً فى الأبدان والأموال، وَأشد آثاراً فِي الْأَرْضِ أي: تركوا آثاراً كثيرة بعدهم، من الأبنية، والقبور، والمصانع، فكانوا أشدّ منهم، وقيل: هي آثار أقدامهم في الأرض لِعظم أجرامهم، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: لم يغن عنهم ذلك شيئاً حين نزل بهم العذاب، أو: أيُّ شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم؟ على أنَّ «ما» استفهام.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة، فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ يريد علمهم بأمور الدنيا، ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «١»،
ورأى بعضُ الصالحين النبيَّ ﷺ فسأله عن ابن سيرين، فقال له: «إِنه أراد أن يصل إلى الله بلا واسطة، فانقطع عن الله» وعلى فرض وقوفهم بالتجريد والرياضة على انكشاف حضرة القدس، فلا يظفرون بالعبودية، ولا بالفناء في توحيد الربوبية، والتخلُّص من لَوَث وجودهم، والشأن أن تكون عين الاسم، لا أن تعرف الاسم والعين، إنما تقتبس من مشكاة مهبط الوحي، وانصباب أنوار الغيب إنما تفيض بواسطة درة الوجود، نبينا صلّى الله عليه وسلم، ومظهر سر العيان الأحدي الأحمدي، فافهم. قاله شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي.
قال تعالى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: نزل بهم عقوبة استخفافهم بالحق، وتعظيمهم واغتباطهم بالباطل. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا شدة عذابنا، ومنه: بِعَذابٍ بَئِيسٍ «١»، قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام.
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي: فلم يستقم، ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند مجيء العذاب لأن النافع هو الإيمان الاختياري، لا الاضطراري، سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي: سنَّ اللهُ ذلك سُنَّة ماضية في عباده، ألاَّ يُقبل الإيمان إلا قبل نزول العذاب. وهو من المصادر المؤكدة، نحو: وعد الله، ونحوه.
وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي: وقت رؤيتهم البأس. فهنالك: مكان استعير للزمان، والكافرون خاسرون في كل أوان، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب.
وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات: أن فَما أَغْنى عَنْهُمْ نتيجة قوله: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وفَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ كالبيان والتفسير لقوله: فَما أَغْنى عَنْهُمْ، كقولك: رُزِق زيد المال، فمَنَع المعروف، فلم يحسن إلى الفقراء. وفَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا تابع لقوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ، كأنه قال: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا. وكذلك: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ [تابع لإيمانهم] «٢» لمّا رأوا بأس الله، والله تعالى أعلم.
(٢) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول، وأثبته من تفسير النّسفى.
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.