تفسير سورة غافر

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة غافر من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة المؤمن
«١» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من تحقّق بها شرف من الحقّ مناله، وصفت عنده أحواله، وخلع على نفسه رداء الأفضال، وألبس قلبه جلال الإقبال، وأفرد روحه بروح لطف الجمال، واستخلص سرّه بكشف وصف الجلال.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١)
أي حمّ أمر كائن «٢».
ويقال «الحاء» إشارة إلى حلمه، «والميم» إشارة إلى مجده أي: بحلمي ومجدى لا أخلّد في النار من آمن بي.
ويقال هذه الحروف (مفاتح أسمائه) «٣».
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢)
(١) تسمى سورة غافر، وسورة الطّمول، وسورة المؤمن لقوله تعالى فيها: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ» (السيوطي:
الإتقان ح ١ ص ٥٤).
(٢) أي قضى ووقع، قال كعب بن مالك:
فلمّا تلاقيناهم ودارت بنا الرّحى... وليس لأمر حمّه الله مدفع
أو تكون بمعنى قرب كما قال الشاعر
قد حمّ يوى فسرّ قوم... قوم بهم غفلة ونوم
[.....]
(٣) ما بين القوسين سقط من ص، وهي موجودة في م.
عن أنس أن أعرابيا سأل النبي (ص) ما حم؟ فإنا لا نعرفها في لساننا، فقال النبي (ص) :«بده أسماء وفواتح سور».
«الْعَزِيزِ» : المعزّ لأوليائه، «الْعَلِيمِ» بما كان ويكون منهم، فلا يمنعه علمه بما سلف منهم عن قضائه.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٣]
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)
كتاب معنون بقبول توبته لعباده علم أنّ العاصي منكسر القلب فأزال عنه الانكسار بأن قدّم نصيبه، فقدّم اسمه على قبول التوبة. فسكّن نفوسهم وقلوبهم باسمين يوجبان الرجاء وهما قوله: «غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ».
ثم عقبهما بقوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» ثم لم يرض حتى قال بعدئذ «ذِي الطَّوْلِ».
فيقابل قوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» قوله: «ذِي الطَّوْلِ».
(ويقال: غافر الذنب لمن أصرّ واجترم، وقابل التوب لمن أقرّ وندم، شديد العقاب لمن جحد وعند، ذى الطول لمن عرف ووحد) «١».
ويقال غافر الذنب للظالمين، وقابل التوب للمقتصدين، شديد العقاب للمشركين، ذى الطول للسابقين.
ويقال: سنّة الله أنه إذا خوّف العباد باسم أو لفظ تدارك قلوبهم بأن يبشّرهم باسمين أو بوصفين «٢».
«إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» : وإذا كان إليه المصير فقد طاب إليه المسير.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٤]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤).
(١) ما بين القوسين بأجمعه ساقط من ص وموجود في م.
(٢) وهذه آية كرمه سبحانه.
إذا ظهر البرهان واتّضح البيان استسلمت الألباب الصاحية للاستجابة والإيمان.
فأمّا أهل الكفر فلهم على الجمود إصرار، وشؤم شركهم يحول بينهم وبين الإنصاف... وكذلك من لا يحترمون أولياء الله، ويصرّون على إنكارهم، ويعترضون عليهم بقلوبهم، ويجادلون في جحد الكرامات، وما يخصّ الله به عباده من الآيات... فهؤلاء لا يميزون بين رجحانهم ونقصانهم، وسيفتضحون كثيرا.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥)
كذلك من انقرض من الكفار كان تكذيب الرّسل دأبهم، ولكنّ الله- سبحانه- انتقم منهم، وعلى كفرهم اخترمهم.
والمنكر لهذا الطريق «١» يدين بإنكاره، ويتقرّب إلى الله به، ويعد وقيعته في أولياء الله من جملة إحسانه وخيراته، ولكن الله- سبحانه- يعذبهم في العاجل بتخليتهم فيما هم فيه، وصدّ قلوبهم عن هذه المعاني، وحرمانهم منها.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦]
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)
إذا انختم على عبد حكم الله بشقاوته فلا تنفعه كثرة ما يورد عليه من النّصح..
والله على أمره غالب.. ومن أسرته يد الشقاوة فلا يخلّصه من مخالها جهد ولا سعاية.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٧]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧)
(١) يقصد الطريق الصوفي.
حملة العرش من حول العرش من خواص الملائكة «١»، مأمورون بالتسبيح لله، ثم بالاستغفار للعاصين- لأنّ الاستغفار للذنب والتوبة إنما تحصل من الذنب- ويجتهدون في الدعاء لهم على نحو ما في هذه الآية وما بعدها فيدعون لهم بالنجاة، ثم برفع الدرجات، ويحيلون الأمر في كل ذلك على رحمة الله.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٩]
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
«وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ» : فلئن سلّط عليك أراذل من خلقه- وهم الشياطين- فلقد قيّض بالشفاعة أفاضل من خلقه ومن الملائكة المقرّبين قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠)
أشدّ العقوبات التي يوصلها الحقّ إليهم آثار سخطه وغضبه، وأجلّ النّعم
(١) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله (ص) :«أذن لى أن أحدّث عن مسلك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» ذكره البيهقي، وقال: هو أعظم المخلوقات.
التي يغروهم بها آثار رضاه عنهم. فإذا عرف الكافر في الآخرة أنّ ربّه عليه غضبان فلا شىء أصعب على قلبه من ذلك لأنه علم أنه لا بكاء ينفعه، ولا عناء يزيل عنه ما هو فيه ويدفعه، ولا يسمع له تضرّع، ولا ترجى له حيلة.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١١]
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١)
الإماتة الأولى إماتتهم في الدنيا ثم في القبر يحييهم، ثم يميتهم فهى الإماتة الثانية.
والإحياء الأول في القبر والثاني عند النشر «١».
«فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا» : أقروا بذنوبهم- ولكن في وقت لا ينفعهم الإقرار.
«فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» مما نحن فيه من العقوبة، وإنما يقولون ذلك حين لا ينفعهم الندم والإقرار. فيقال لهم:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٢]
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
- أي تصدّقوا المشركين لكفرهم. [وهؤلاء إماتتهم محصورة، فأمّا أهل المحبة فلهم في كلّ وقت حياة وموت، قال قائلهم:
أموت إذا فقدتك ثم أحيا فكم أحيا عليك وكم أموت!
فإنّ الحقّ- سبحانه- يردّد أبدا الخواصّ من عباده بين الفناء والبقاء،
(١) هذا الرأى يذهب إليه السّدّى أيضا، وإنما إحياؤهم في القبور للمسألة، ومن هذا استدل العلماء على سؤال القبر.
واستدل من الآية كذلك على إحياء الأجساد، لأن الروح- عند من يقصر أحكام الآخرة على الأرواح- لا تموت ولا تتغير ولا تفسد، فلو كان الثواب والعقاب للروح- دون الجسد- فما معنى الإحياء والإماتة؟
ويذهب ابن عباس وابن مسعود وقتادة والضحاك إلى أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، ثم أحياهم. ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا، ثم أحياهم البعث والقيامة، فهاتان حياتان وموتتان.
والحياة والموت، والمحو والإثبات] «١».
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٣]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣)
يريهم آيات فضله فيما يلاطفهم، ويريهم آيات قهره فيما يكاشفهم، ويريهم آيات عفوه إذا تنصّلوا «٢»، وآيات جوده إذا توسّلوا، وآيات جلاله إذا هابوا فغابوا، وآيات جماله إذا آبوا واستجابوا. «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» لأبدانكم وهو توفيق المجاهدات، ولقلوبكم وهو تحقيق المشاهدات، (ولأسراركم وهو فنون المواصلات والزيادات) «٣».
«وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» : يرجع من العادة إلى العبادة، ومن الشّكّ إلى اليقين، ومن الخلق إلى الحقّ، ومن الجهل إلى العلم، ومن النّكرة إلى العرفان.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٤]
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)
شرط الدعاء تقديم المعرفة لتعرف من الذي تدعوه، ثم تدعو بما تحتاج إليه ممّا لا بدّ لك منه، ثم تنظر هل أعطاك ما تطلب وأنت لا تدرى؟ والواجب ألا تطلب شيئا تكون فيه مخالفة لأمره، وأن تتباعد عن سؤالك الأشياء الدّنيّة والدنيوية، وأن ترضى بما يختاره لك مولاك. ومن الإخلاص في الدعاء ألا ترى الإجابة إلّا منه، وألا ترى لنفسك استحقاقا إلا بفضله، وأن تعلم أنه إن بقيت في سؤالك عن مطلوبك- الذي هو حظّك- لا تبق عن عبادة ربّك- التي هي حقّه فإنّ الدعاء مخّ العبادة، ومن الإخلاص في الدعاء أن
(١) فالموت بالقبض والفناء والمحو، والحياة بالبسط والبقاء والإثبات. ونحسب أن الكلام الموجود بين القوسين الكبيرين يتصل بالآية السابقة نظرا لتلاؤم تقليب الأحوال مع الإماتة والإحياء وكنا نريد أن نضعه في مكانه حسبما رأينا لولا أنه موضوع هنا في م وص. ويبدو أن القشيري اعتبر الآيتين كيانا عضويا واحدا، فجاءت الإشارة منها جميعا.
(٢) أي تنصلوا من ذنوبهم.
(٣) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.
تكون في حال الاضطرار لما لا يكون ابتداؤه جرما لك، وتكون ضرورتك لسراية جنايتك.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٥]
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥)
رافع الدرجات للعصاة بالنجاة «١»، وللمطيعين بالمثوبات، وللأصفياء والأولياء بالكرامات، ولذوى الحاجات بالكفايات، وللعارفين بتنقيبهم عن جميع أنواع الإرادات.
ويقال درجات المطيعين بظواهرهم في الجنة، ودرجات العارفين بقلوبهم في الدنيا فيرفع درجاتهم عن النظر إلى الكونين دون المساكنة إلهما. وأمّا المحبون فيرفع درجاتهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعقبى شيئا غير رضاء محبوبهم «٢».
«ذُو الْعَرْشِ» : ذو الملك الرفيع. ويقال العرش الذي هو قبلة الدعاء، خلقه أرفع المخلوقات وأعظمها جثة «٣».
«يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» روح بها ضياء أبدانهم- وهو سلطان عقولهم، وروح بهاء ضياء قلوبهم- وهو شفاء علومهم، وروح بها ضياء أرواحهم
(١) واضح أن القشيري لا يكاد يترك فرصة دون أن يفتح أبواب الأمل أمام العصاة حتى لا يقنطوا من رحمة الله.. وهذا نابع من سياحته الصوفية الأصيلة.
(٢) هنا نلاحظ أن القشيري جعل المحب أعلى درجة من العارف- مع أن العرفان الذي غايته التوحيد- هو أعلى مراتب الطريق الصوفي. ولكن نظرا لأن الحب والفناء والمعرفة كلها من الحب وإلى الحب فكثيرا ما نجد كتاب التصوف كالقشيرى والغزالي وغيرهما لا يتقيدون تقيدا حرفيا بهذا الترتيب الذي يفيد في الدراسة فقط، وقد تناولنا هذه النقطة بالتفصيل في كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى ط دار المعارف» فى مقدمة باب «المذاقات».
(٣) نلاحظ أن القشيري هنا يصف (العرش) مرة بأنه الملك أو قبلة الدعاء ثم يعود فيقول (.... وأعظمها جثة) بمعنى أن يجرد العرش مرة من المادية ثم يعود ليخلع عليه النسبة المادية، فإذا كان ذلك بقصد مخاطبة الناس على قدر فهومهم- كما قلنا من قبل فهذا جائز.. ولكن الواقع أن القشيري يعبر عن شىء من الاضطراب الذي أصاب الأشاعرة إزاء المتشابهات، وهو أمر تحدثنا عنه بالتفصيل في كتابنا (لإمام القشيري- تصوفه وأدبه)... ولعل خير ما انتهى إليه الرازي قوله «حاصل مذهب السلف أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله منها شىء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله، ولا يجوز الخوض في تفسيرها» (أساس التقديس للرازى ط الكردي ص ٢٢٣) :
- والذي هو للرّوح روح- بقاؤهم بالله.
ويقال: روح هو روح إلهام، وروح هو روح إعلام، وروح هو روح إكرام.
ويقال: روح النبوة، وروح الرسالة، وروح الولاية، وروح المعرفة.
ويقال: روح بها بقاء الخلق، وروح بها ضياء الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٦]
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)
يعلم الحاصل الموجود، ويعلم المعدوم المفقود، والذي كان والذي يكون، والذي لا يكون مما علم أنه لا يجوز أن يكون، والذي جاز أن يكون أن لو كان كيف كان يكون.
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ لا يتقيد ملكه بيوم، ولا يختصّ ملكه بوقت، ولكنّ دعاوى الخلق- اليوم- لا أصل لها إذ غدا تنقطع تلك الدعاوى وترتفع تلك الأوهام.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٧]
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
يجازيهم على أعمالهم بالجنان، وعلى أحوالهم بالرضوان، وعلى أنفاسهم بالقربة، وعلى محبتهم بالرؤية.
ويجازى المذنبين على توبتهم بالغفران، وعلى بكائهم بالضياء والشفاء.
«لا ظُلْمَ الْيَوْمَ» : أي أنه يستحيل تقدير الظلم منه، وكل ما يفعل فله أن يفعله. «وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» مع عباده لا يشغله شأن عن شأن، وسريع الحساب مع أوليائه في الحال يطالبهم بالصغير والكبير، والنقير والقطمير.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٨]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨)
قيامه الكلّ مؤجلّة، وقيامة المحبين معجّلة فلهم في كلّ نفس قيامة من العقاب والعذاب والثواب، والبعاد والاقتراب، وما لم يكن لهم في حساب «١»، وتشهد عليهم الأعضاء فالدمع يشهد، وخفقان القلب ينطق، والنحول يخبر، واللون يفصح... والعبد يستر ولكن البلاء يظهر:
يا من تغيّر صورتى لمّا بدا... لجميع ما ظنّوا بنا تصديقا «٢»
وأنشدوا:
لى في محبته شهود أربع... وشهود كلّ قضية اثنان
ذوبان جسمى وارتعاد مفاصلى... وخفوق قلبى واعتقال لسانى
وقلوبهم- إذا أزف الرحيل بلغت الحناجر، وعيونهم شرقت بدموعها إذا نودى بالرحيل وشدّت الرواحل.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ١٩]
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)
فحائنة أعين المحبين استحسانهم شيئا، ولهذا قالوا:
يا قرّة العين: سل عينى هل اكتحلت... بمنظر حسن مذ غبت عن بصرى؟
ولذلك قالوا:
فعينى إذا استحسنت غيركم... أمرت السّهاد بتعذيبها
(١) أي وما لم يخطر لهم ببال.
(٢) معنى الشاهد الشعرى فيما نظن: يا أيها الذي تتغير صورتى عند تجليه عليّ، فينكشف أمرى رغم محاولتى ستر حالى، وبذا تصدق ظنون العاذلين واللائمين. [.....]
ومن خائنة أعينهم أن تأخذهم السّنة والسّبات في أوقات المناجاة وقد جاء في قصة داود عليه السلام: كذب من ادّعى محبتى، فإذا جنّة الليل نام عنّى! ومن خائنة أعين العارفين أن يكون لهم خبر بقلوبهم عمّا تقع عليه عيونهم.
ومن خائنة أعين الموحّدين أن تخرج منها قطرة دمع تأسّفا على مخلوق يفوت في الدنيا والآخرة، ولا على أنفسهم.
ومن خائنة أعين المحبين النظر إلى غير المحبوب بأى وجه كان، ففى الخبر: «حبّك الشىء يعمى ويضم».
«وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» : فالحقّ به خبير «١».
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٠]
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)
يقضى للأجانب بالبعاد، ولأهل الوصال بالوداد، ويقضى يوم القدوم بعزل عمال الصدود، وإذا ذبح الموت غدا بين الجنة والنار على صورة كبش أملح فلا غرابة أن يذبح الفراق على رأس سكّة «٢» الأحباب في صورة شخص منكر ويصلب على جذوع العبرة لينظر إليه أهل الحضرة.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢١]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١)
(١) كان عبد الله بن أبى سرح يكتب الوحى لرسول الله (ص) ثم ارتد ولحق بالمشركين فأمر رسول الله (ص) بقتله يوم فتح مكة.
ويروى أنه لما جىء به إلى الرسول (ص) بعد ما اطمأن أهل مكة، وطلب عثمان رضى الله عنه له الأمان صمت الرسول طويلا ثم قال: «نعم»، فلما انصرف قال الرسول (ص) لمن حوله: «ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» فقال رجل من الأنصار: فهلا أو مأت إلى يا رسول الله؟ فقال: إن النبي لا تكون له خائنة أعين»
(٢) السكة الطريق المستوي.
أو لم يسيروا في أقطار الأرض بنفوسهم، ويطوفوا مشارقها ومغاربها ليعتبروا بها فيزهدوا فيها؟ أو لم يسيروا بقلوبهم في الملكوت بجولان الفكر ليشهدوا أنوار التجلّى فيستبصروا بها؟
أو لم يسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية ليستهلكوا في سلطان الحقائق، وليتخّلصوا من جميع المخلوقات قاصيها ودانيها؟.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٢]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)
إن بنى من أهل السلوك قاصد لم يصل إلى مقصوده فليعلم أنّ موجب حجبه اعتراض خامر قلبه على بعض شيوخه في بعض أوقاته فإنّ الشيوخ بمحلّ السفراء للمريدين. وفي الخبر:
«الشيخ في قومه كالنبىّ في أمته» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤)
أكرم خلقه في وقته كان موسى عليه السلام، وأخسّ خلقه وأذلّهم في حكمه وأشدّهم كفرا كان فرعون فما قال أحد غيره: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» «٢».
فبعث الله- أخصّ عباده إلى أخسّ عباده، فقابله بالتكذيب، ونسبه إلى السّحر،
(١) يقول السهروردي في عوارفه: «وأخلاق المشايخ مهذبة بحسن الاقتداء برسول الله (ص) وهم أحق الناس بإحياء سنته في كل ما أمر وندب وأنكر وأوجب (ص ٢٩٣) عوارف المعارف، وفي موضع آخر يقول: «فليعلم المريد أن الشيخ عنده تذكرة من الله ورسوله وأن الذي يعتمده مع الشيخ عوض ما لو كان في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام. ص ٢٨٥.
(٢) آية ٣٨ سورة القصص.
وأنّبه بكل أنواع التأنيب. ثم لم يعجّل الله عقوبته، وأمهله إلى أن أوصل إليه شقوته- إنه سبحانه حليم بعباده.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٥]
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥)
عزم على إهلاكه وإهلاك قومه، واستعان على ذلك بجنده وخيله ورجله، ولكن كان كما قال الله: «وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ»، لأنه إذا حفر أحد لوليّ من أولياء الله تعالى حفرة ما وقع فيها غير حافرها... بذلك أجرى الحقّ سنّته.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
«وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» أي ليستعن بربه، وإنى أخاف أن يبدّل دينكم، وأخاف أن يفسد فى الأرض، وكان المفسد هو فرعون، وهو كما قيل في المثل: «رمتنى بدائها وانسلّت».
ولكن كادله له الكيد، والكائد لا يتخلص من كيده.
فاستعاذ موسى بربه، وانتدب في الردّ عليهم مؤمن بالله وبموسى كان يكتم إيمانه عن فرعون وقومه:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٨]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)
- م (٢٠) لطائف الإشارات- ج ٣-
نصحهم واحتجّ عليهم فلم ينجع فيهم نصح ولا قول. وكم كرّر ذلك المؤمن من آل فرعون القول وأعاد لهم النّصح! فلم يستمعوا له، وكان كما قيل:
وكم سقت في آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المتنصّح
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤)
بيّن أنّ تكذيبهم كتكذيب آبائهم وأسلافهم من قبل، وكما أهلك أولئك قديما كذلك يفعل بهؤلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)
السبب ما يتوصّل به إلى الشيء أي لعلّى أصل إلى السماء فأطّلع إلى إله موسى. ولو لم يكن من المضاهاة بين من قال إن المعبود في السماء وبين الكافر إلا هذا لكفى به خزيا لمذهبهم «١».
وقد غلط فرعون حين توهّم أنّ المعبود في السماء، ولو كان في السماء لكان فرعون مصيبا فى طلبه من السماء.
قوله جل ذكره: «وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ».
أخبر أنّ اعتقاده بأنّ المعبود في السماء خطأ، وأنّه بذلك مصدود عن سبيل الله.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩)
(١) هنا يغمز القشيري بالمشبهة غمزة قاسية (انظر ص ٣٤٥ من هذا المجلد).
أصرّ على دعائه لهم وأصرّوا على جحودهم وعنودهم.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٤٠]
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠)
«فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» : فى المقدار لا في الصفة لأن الأولى سيئة، والمكافأة من الله عليها حسنة وليست بسئة.
«وَهُوَ مُؤْمِنٌ» يعنى في الحال «١»، لأنّ من لا يكون مؤمنا في الحال لا يكون منه العمل الصالح، «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» : أي رزقا مؤبّدا مخّلدا، لا يخرجون من الجنة ولا ممّا هم عليه من المآل.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٤١]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١)
وهذا كلّه من قول مؤمن آل فرعون، يقوله على جهة الاحتجاج لقومه، ويلزمهم الحجة به.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٤٢]
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢)
تدعوننى لأكفر بالله وأشرك به من غير علم لى بصحة قولكم، وأنا أدعوكم إلى الله وإلى ما أوضحه بالبرهان، وأقيم عليه البيان.
(١) فى الحال هنا معناها في هذه الحياة الدنيا.

[سورة غافر (٤٠) : آية ٤٣]

لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣)
لا جرم أنّ ما تدعوننى إليه باطل فليس لتلك الأصنام حياة ولا علم ولا قدرة، وهي لا تنفع ولا تضرّ. ولقد علمنا- بقول الذين ظهر صدقهم بالمعجزات- كذبكم فيما تقولون.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٤٤]
فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤)
أفوض أمرى إلى الله، وأتوكل عليه، ولا أخاف منكم، ولا من كيدكم.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
والآية تدلّ على عذاب القبر «١».
ويقال إنّ أرواح الكفار في حواصل طير سود تعرض على النار غدوا وعشيا إلى يوم القيامة حيث تدخل النار «٢».
«أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» : أي يا آل فرعون أدخلوا أشدّ العذاب، فنصبه على النداء المضاف. ويقرأ «أَدْخِلُوا» على الأمر «٣».
(١) بدليل قوله تعالى فيما بعد عن عذاب الآخرة: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» وممن استنتج هذه النتيجة مجاهد وعكرمه ومقاتل ومحمد بن كعب.
(٢) أي هذا دأبها في الدنيا تذهب في الغداة أفواجا بيضا صغارا ثم تعود في العشاء سودا قد احترقت رياشها (الأوزاعى- والنص عند القرطبي ح ١٥ ص ٣١٩)
(٣) فيكون الأمر عندئذ لملائكة العذاب.
«أَشَدَّ الْعَذابِ» : أي أصعبه، وأصعب عذاب للكفار في النار يأسهم من الخروج عنها.
أمّا العصاة من المؤمنين فأشدّ عذابهم في النار إذا علموا أن هذا يوم لقاء المؤمنين، فإذا عرفوا ذلك فذلك اليوم أشدّ أيام عذابهم.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨)
يقول الضعفاء للذين استكبروا: أنتم أضللتمونا، ويقول لهم المستكبرون: أنتم وافقتمونا باختياركم «١» فمحاجة بعضهم لبعض تزيد في غيظ قلوبهم، فكما يعذّبون بنفوسهم يعذبون بضيق صدورهم وببغض بعضهم لبعض.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠)
وهذه أيضا من أمارات الأجنبية، فهم يدخلون واسطة بينهم وبين ربّهم «٢». ثم إن الله ينزع الرحمة عن قلوب الملائكة كى لا يستشفعوا لهم.
(١) لإحظ هنا كيف يحرص القشيري على إبراز عنصر الاختيار لدى الإنسان، مع معرفتنا السابقة بأنه ينادى بأن الله خالق كل شىء حتى أكساب العباد، وقد حاول أن يوفق بين الاتجاهين فقال: يجرى هذا من العبد فعلا ومن الله حكما.
(٢) من ذلك نفهم أن القشيري لا يرى بالواسطة عند الدعاء، بل ينبغى أن تدعو الله مباشرة.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥١]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١)
ننصرهم بالآيات وفنون التعريفات حتى يعرفوا ويشهدوا أن الظّفر وضدّه من الله، والخير والشرّ من الله.
ويقال ننصرهم على أعدائهم بكيد خفّى ولطف غير مرئيّ، من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون ننصرهم في الدنيا بالمعرفة «١» وباليقين بأنّ الكائنات من الله، وننصرهم فى الآخرة بأن يشهدوا ذلك، ويعرفوا- بالاضطرار «٢» - أنّ التأثير من الله، وغاية النصرة أن يقتل الناصر عدوّ من ينصره، فإذا أراد حتفه «٣» تحقّق بأن لا عدوّ على الحقيقة، وأنّ الخلق أشباح تجرى عليهم أحكام القدرة فالوليّ لا عدوّ له، ولا صديق له إلا الله، قال تعالى: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» «٤».
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٢]
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
دليل الخطاب أن المؤمنين ينفعهم تنصّلهم، ولهم من الله الرحمة، ولهم حسن الدار، وما بقي من هذه الدنيا إلا اليسير قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤)
مضى طرف من البيان في قصة موسى.
(١) فى ص (بالمغفرة) والملاثم للسياق (بالمعرفة واليقين) كما جاء في م.
(٢) أي تكون معرفة ضرورية، ونحن نعلم من مذهب القشيري أن المعرفة في الابتداء كسبية (من العبد) وفي الانتهاء ضرورية (من الرب).
(٣) فى ص (حققه) والملائم للسياق أنه يريه (حتف) عدوه. [.....]
(٤) آية ٢٥٧ سورة البقرة.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٥]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)
الصبر في انتظار الموعود من الحقّ على حسب الإيمان والتصديق فمن كان تصديقه ويقينه أتمّ وأقوى كان صبره أتمّ وأوفى.
«إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» : وهو- سبحانه- يعطى وإن توهّم العبد أنه يبطى.
ويقال الصبر على قسمين: صبر على العافية، وصبر على البلاء، والصبر على العافية أشدّ من الصبر على البلاء، فصبر الرجال على العافية وهو أتمّ الصبر «١».
«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ». وفي هذا دليل على أنه كانت له ذنوب، ولم يكن جميع استغفاره لأمته لأنه قال في موضع آخر «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» «٢» وهنا لم يذكر ذلك. ويمكن حمل الذّنب على ما كان قبل النبوة إذ يجوز أن يكون العبد قد تاب من الزّلّة ثم يجب عليه الاستغفار منها كلما ذكرها، فإن تجديد التوبة يجب كما يجب أصل التوبة «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٦]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)
«بِغَيْرِ سُلْطانٍ» : أي بغير حجة.
«إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ» أي ليس في صدورهم إلا كبر يمنعهم عن الانقياد للحق، ويبقون به عن الله، ولا يصلون إلى مرادهم.
(١) لأن قوة الإنسان قد تنسيه ذكر المنعم فيصبر عنه- وهذا جفاء، ولكن ضعف الإنسان في البلاء يدعوه إلى الصبر في الله، قال قائلهم:
والصبر عنك فمذموم عواقبه والصبر في سائر الأشياء محمود
(٢) آية ١٩ سورة محمد.
(٣) تفيد هذه الآراء عند بحث قضية كلامية هى: عصمة الأنبياء.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٧]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
أي خلق السماوات والأرض أكبر من بعثهم وخلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا رميما فالقوم كانوا يقرّون بخلق السماوات والأرض، وينكرون أمر البعث.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٨]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨)
أراد به: ما يستوى المؤمن والكافر، ولا المربوط بشهوته كالمبسوط بصفوته، ولا المجذوب بقربته كالمحجوب بعقوبته، ولا المرقى إلى مشاهدته كالمبقّى في شاهده، ولا المجدود «١» بسعادته كالمردود لشقاوته.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٥٩]
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩)
إنّ ميقات الحساب لكائن وإن وقعت المدة في أوانه «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٠]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠)
معناه: أدعونى أستجب لكم إن شئت لأنه قال في آية أخرى: «فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» «٣».
(١) جدّ فهو مجدود أي كان له حظ.
(٢) أي إن وقت الحساب لكائن مهما طالت المدة بيننا وبين وقت حصوله.
(٣) آية ٤١ سورة الأنعام.
ويقال ادعوني بشرط الدعاء، وشرط الدعاء الأكل من الحلال إذ يقال الدعاء مفتاحه الحاجة، وأسبابه اللقمة الحلال.
ويقال كلّ من دعاه استجاب له إمّا بما يشاء له، أو بشىء آخر هو خير له منه.
ويقال الكافر ليس يدعوه لأنه إنما يدعو من له شريك، وهو لا شريك له.
ويقال: إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما من مؤمن يدعو الله ويسأله شيئا.
إلا أعطاه في الدنيا، فأما في الآخرة فيقول له: هذا ما طلبته في الدنيا، وقد ادخرته لك لهذا اليوم حتى ليتمنى العبد أنه ليته لم يعط شيئا في الدنيا قط.
ويقال أدعونى بالطاعات استجب لكم بالثواب والدرجات.
ويقال أدعونى بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة. ويقال ادعوني بالتنصل أستجب لكم بالتفضّل. ويقال ادعوني بحسب الطاقة أستحب لكم بكشف الفاقة ويقال ادعوني بالسؤال أستجب لكم بالنّوال والأفضال.
«إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي..» أي يستكبرون عن دعائى، سيدخلون جهنم صاغرين.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)
... الآيات سكون الناس في الليل على أقسام: أهل الغفلة يسكنون إلى غفلتهم، وأهل المحة يسكنون بحكم وصلتهم، وشتّان بين سكون غفلة وسكون وصلة! قوم يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم، وقوم يسكنون إلى حلاوة أعمالهم لبسطهم واستقلالهم، وقوم يعدمون القرار في ليلهم ونهارهم وأولئك أصحاب الاشقاق...
أبدا في الاحتراق.
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» الذي جعل سكونكم معه، وانزعاجكم له، واشتياقكم إليه، ومحبتكم فيه، وانقطاعكم إليه.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٤]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤)
«صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» : خلق العرش والكرسيّ والسماوات والأرضين وجميع المخلوقات ولم يقل هذا الخطاب، وإنما قال لنا: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» وليس الحسن ما يستحسنه الناس بل الحسن ما يستحسنه الحبيب:
ما حطك الواشون عن رتبة عندى ولا ضرّك مغتاب
كأنهم أثنوا- ولم يعلموا- عليك عندى بالذي عابوا لم يقل للشموس في علائها، ولا للأقمار في ضيائها: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ».
ولمّا انتهى إلينا قال ذلك، وقال: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» «١» ويقال إن الواشين قبّحوا صورتكم عندنا «٢»، بل الملائكة كتبوا في صحائفكم قبيح ما ارتكبتم.. ومولاكم أحسن صوركم، بأن محا من ديوانكم الزّلّات، وأثبت بدلا منها الحسنات، قال تعالى: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ» «٣»، وقال:
«فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» «٤».
قوله جل ذكره: «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ».
ليس الطيب ما تستطيبه النفس إنما الطيب ما يستطيبه القلب، فالخبز
(١) آية ٤ سورة التين.
(٢) ربما يقصد القشيري بذلك إبليس الذي استعلى بكونه مخلوقا من نار على آدم المخلوق من الطين.
(٣) آية ٣٩ سورة الرعد.
(٤) آية ٧٠ سورة الفرقان.
القفار أطيب للفقير الشاكر من الحلواء للغنىّ المتسخّط.
ورزق النفوس الطعام والشراب، ورزق القلوب لذاذات الطاعات.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٥]
هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)
«هُوَ الْحَيُّ» : الذي لا يموت، ولا فضله يفوت، فادعوه بلسان القوت، وذلك عليه لا يفوت.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٦]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦)
قل- يا محمد- إنى نهيت عن عبادة ما تدعون من دون الله أي أمرت بالتبرّى عمّا عبدتم، والإعراض عمّا به اشتغلتم، والاستسلام للذى خلقنى، وبالنبوة استخصّني.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
فمن تربة إلى قطرة ومن قطرة إلى علقة.. ثم من بطون أمهاتكم إلى ظهوركم في دنياكم.. ثم من حال كونكم طفلا ثم شابا ثم شيخا..
وهو الذي يحيى ويميت، ثم يبعث في أخرى الدارين.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩)
فى آيات الله يتبلّدون فلا حجة يوردون، ولا عذاب عن أنفسهم يردّون، سيعلمون حين لا ينفعهم علمهم، ويعتذرون حين لا يسمع عذرهم، وذلك عند ما:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧١ الى ٧٦]
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥)
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)
.. الآيات.
يسحبون في النار والأغلال في أعناقهم، ثم يذاقون ألوان العذاب.. فإذا أقرّوا بكفرهم وذنوبهم يقال لهم: أدخلوا أبواب جهم خالدين فيها، فبئس مثواهم ومصيرهم، وساء ذهابهم ومسيرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٧٧]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧)
كن بقلبك فارغا عنهم، وانظر من بعد إلى ما يفعل بهم، واستيقن بأنه لا بقاء لجولة باطلهم.. فإن لقيت بعض ما نتوعدهم به وإلّا فلا تك في ريب من مقاساتهم ذلك بعد. ثم أكّد تسليته إياه وتجديد تصبيره وتعريفه بقوله:
[سورة غافر (٤٠) : آية ٧٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)
قصصنا عليك قصص بعضهم، ولم نخبرك عن قصص الآخرين.
ولم يكن في وسع أحد الإتيان بمعجزة إلا إذا أظهرنا نحن عليه ما أردنا إذا ما أردنا. فكذلك إن طالبوك بآية فقد أظهرنا عليك من الآيات ما أزحنا به العذر، وأوضحنا صحّة الأمر.. وما اقترحوه... فإن شئنا أظهرنا، وإن شئنا تركنا.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
ذكّرهم عظيم إنعامه بتسخير الأنعام فقال جعلها لكم لتنتفعوا بها بالركوب والحمل والعمل، ولتستقوا ألبانها، ولتأكلوا لحومها وشحومها، ولتنتفعوا بأصوافها وأوبارها وأشعارها، ولتقطعوا مسافة بعيدة عليها... فعلى الأنعام وفي الفلك تنتقلون من صقع إلى صقع.. وأنا الذي يسّرت لكم هذا، وأنا الذي ألهمتكم الانتفاع به فثقوا في ذلك واعرفوه.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٨٢ الى ٨٥]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
.. الآيات أمرهم بالاعتبار بمن كانوا قبلهم كانوا أشدّ قوة وأكثر أموالا وأطول أعمارا، فانجرّوا في حبال آمالهم، فوقعوا في وهدة غرورهم، وما بقي الحقّ
317
عن مراده فيهم، واغتروا بسلامتهم في مدّة ما أرخينا لهم عنان إمهالهم، ثم فاجأناهم بالعقوبة، فلم يعجزوا لله في مراده منهم.
فلمّا رأوا شدّة البأس، ووقعوا في مذلّة الخيبة واليأس تمنّوا أن لو أعيدوا إلى الدنيا من الرأس.. فقابلهم الله بالخيبة «١»
وخرطهم في سلك من أبادهم من أهل الشّرك والسّخط.
(١) لأن التوبة لا تكون بعد حصول العلم الضروري ورؤية العذاب، فإن أوانها يكون قد انقضى.
318
Icon