تفسير سورة غافر

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة غافر من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة المؤمن وهي مكية إلا آية قوله إن الذين يجادلون حروفها أربعة آلاف وتسعمائة وسبعون كلمها ألف ومائتان غير كلمة آياتها خمس وثمانون ).

(سورة المؤمن
وهي مكية إلا آية قوله إن الذين يجادلون حروفها أربعة آلاف وتسعمائة وسبعون كلمها الف ومائتان غير كلمة آياتها خمس وثمانون).
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١ الى ٢٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)
19
القراآت:
حم وما بعده بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب وذلك طبعا لا اختلافا لمعان مذكورة في «ص». كلمات ربك على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر لتنذر بالتاء الفوقانية على أن الضمير للروح، وقد تؤنث، أو على خطاب الرسول: يعقوب غير رويس التلاقي بالياء في الحالين: ابن كثير ويعقوب وأفق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل. والذين تدعون على الخطاب: نافع وهشام غير الرازي وابن مجاهد والنقاش وابن ذكوان أشد منكم ابن عامر. الباقون مِنْهُمْ.
الوقوف:
حم ط كوفي الْعَلِيمِ هـ لا الطَّوْلِ ط إِلَّا هُوَ ط الْمَصِيرُ هـ الْبِلادِ هـ مِنْ بَعْدِهِمْ ص لعطف الجملتين المتفقتين فَأَخَذْتُهُمْ ط للإبتداء بالتهديد عِقابِ هـ النَّارِ م لئلا يتوهم أن ما بعده صفة أصحاب النار آمَنُوا ج لحق القول المحذوف الْجَحِيمِ هـ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ط الْحَكِيمُ هـ وقد يوصل للعطف السَّيِّئاتِ ط رَحِمْتَهُ ط الْعَظِيمُ هـ فَتَكْفُرُونَ هـ سَبِيلٍ هـ كَفَرْتُمْ ج للابتداء بالشرط مع العطف تُؤْمِنُوا ط الْكَبِيرِ هـ رِزْقاً ط يُنِيبُ هـ الْكافِرُونَ هـ ذُو الْعَرْشِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال التَّلاقِ هـ لا بارِزُونَ ج لاحتمال الاستئناف وتعلقه بالظرف شَيْءٌ ط الْيَوْمَ ط فصلا بين السؤال والجواب الْقَهَّارِ هـ كَسَبَتْ ط الْيَوْمَ ط الْحِسابِ هـ كاظِمِينَ ط يُطاعُ هـ ط الصُّدُورُ هـ بِالْحَقِّ ط بِشَيْءٍ ط الْبَصِيرُ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط واقٍ هـ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ط الْعِقابِ هـ.
التفسير:
حم اسم الله الأعظم. وقيل: حم ما هو كائن أي قدّر.
وروي أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما حم؟ فقال: أسماء وفواتح سور.
وقد تقدم القول في حواميم في مقدمات الكتاب وفي أول «البقرة». ومن جملة تلك التقادير أن يقال: السورة المسماة بحم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وقد مر نظيره في أول «الزمر». ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد فقال غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ قالت المعتزلة: معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بالتوبة إن كان كبيرا، أو طاعة
20
أعظم منه ثوابا إن كان صغيرا. وقال الأشعري: إنه قد يعفو عن الكبائر بدون التوبة لئلا يلزم التكرار بقوله قابِلِ التَّوْبِ وليفيد المدح المطلق ويؤيده إدخال الواو بين هذين الوصفين فقط كأنه قيل: الجامع بين المغفرة إن كانت بدون توبة وبين القبول إن كانت بتوبة فقد جمع للمذنب بين رحمتين بحسب الحالتين. وقيل: غافر الذنب الصغير وقابل التوب عن الكبير، أو غافر الذنب بإسقاط العقاب وقابل التوب بإيجاب الثواب. ثم إن قبول التوبة واجب على الله أم لا؟ فيه بحث أيضا للفريقين. فالمعتزلة أوجبوه، والأشعري يقول: إنه على سبيل التفضيل وإلا لم بتمدّح به. والظاهر أن التوب مصدر. وقيل: جمع توبة أي ما ذنب تاب منه العبد إلا قبل توبته. وقد ذكر أهل الإعراب هاهنا سؤالا وهو أن غافر الذنب وقابل التوب يمكن بوجيههما بأنهما معرفتان كما سبق في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٣] وهو أنهما بمعنى الماضي أو الاستمرار فيصح وقوعهما صفتين لله إلا أن قوله شَدِيدِ الْعِقابِ لا يمكن فيه هذا الوجه لأنه في معنى شديد عقابه. فإن قلنا إنه صفة لزم وقوع النكرة صفة للمعرفة، وإن قلنا إنه بدل لزم نبوّ ظاهر للزوم بدل واحد فيما بين صفات كثيرة. وأجيب على تقدير أن لا يكون الكل أبدالا بأن الألف واللام من شديد محذوف لمناسبة ما قبله مع الأمن من اللبس ومن جهالة الموصوف، أو تعمد تنكيره من بين الصفات للإبهام والدلالة على فرط الشدة. وجوزوا أن تكون هذه النكتة سببا لجعله بدلا من بين سائر أخواته. هذا ما قاله صاحب الكشاف. وعندي أنه لا مانع من جعل شَدِيدِ الْعِقابِ أيضا للاستمرار والدوام حتى يصير إضافة حقيقة. قوله ذِي الطَّوْلِ أي ذي الفضل بسبب ترك العقاب وقد مر في قوله وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [النساء:
٢٥] وإنما أورد هذا الوصف بعد وصفه نفسه بشدة العقاب ليعلم أن خاتمة أمره مبنية على التفضل كما أن فاتحته مبنية على الغفران وقبول التوبة وقد تقع عقوبة في الوسط أعاذنا الله منها، إلا أنه لا يبقى مؤمن في النار خالدا ببركة قوله لا إله إلا الله وهو المبدأ وسبب علمه أنه إليه المصير وهو المعاد. وفيه أن من آمن بالمبدأ والمعاد فإن أخل في الوسط ببعض التكاليف كان مرجوا أن يغفر الله له ويقبل توبته. ثم بين أحوال من لا يقبل هذه التقريرات ولا يخضع لها فقال ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا والجدال في آياته نسبتها إلى الشعر تارة وإلى السحر أخرى إلى غير ذلك من المطاعن وفضول الكلام. فأما البحث عنها لاستنباط حقائقها والوقوف على دقائقها وحل مشكلاتها فنوع من الجهاد في سبيل الله، ولمكان الفرق بين هذين الجدالين
قال ﷺ «إن جدالا في القرآن كفر» «١»
فنكر الجدال
(١) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٢٥٨، ٤٧٨، ٤٩٤)
21
ليشمل أحد نوعيه فقط وهو الجدال بالباطل كما يجيء في قوله وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ثم عقب الكلام بقوله فَلا يَغْرُرْكَ ليعلم أن جدالهم الصادر عن البطر والأشر والجاه والخدم لا اعتبار به وكذا تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ للتجارات والمكاسب فإن قريشا كانت أصحاب أموال متجرين إلى الشام واليمن مترفين بأموالهم مستكبرين عن قبول الحق لذلك. ثم مثل حالهم بحال الأمم السالفة الذين تحزبوا على الرسل وكادوا يقتلونهم فأهلكهم الله ودمرهم ونجى الرسل. ثم بين بقوله وَكَذلِكَ حَقَّتْ أنهم في الآخرة أيضا معذبون. وقوله أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم في الآخرة من أصحاب النار. وجوّز جار الله أن يكون أَنَّهُمْ في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل. وقوله الَّذِينَ كَفَرُوا قريش أي كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء لأن العلة الجامعة وهي أنهم أصحاب النار واحدة في الفريقين. ومن قرأ كلمات على الجمع أراد بها علم الله السابق أو معلوماته التي لا نهاية لها، أو الآيات الواردة في وعيد الكفار.
وحين بين أن الكفار بالغوا في إظهار عداوة المؤمنين حكى أن أشرف طبقات أكثر المخلوقات وهم حملة العرش، والحافون حوله يبالغون في محبتهم ونصرتهم كأنه قيل:
إن كان هؤلاء الأراذل يعادونهم فلا تبال بهم ولا تقم لهم وزنا فإن الأشراف يحابونهم.
روى صاحب الكشاف أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم.
وروي عن النبي ﷺ «لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع وهو طائر صغير شبه العصفور»
وروى أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة.
وقيل: خلق الله العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام، وعدد حملة العرش يوم القيامة ثمانية لقوله عز وجل وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقّة: ١٧] أما في غير ذلك الوقت فلا يعلم به إلا الله. أما الذين حول العرش فقيل: سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وهذه الآثار كلها منقولة من كتاب
22
الكشاف. سؤال: ما فائدة قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون؟ أجاب في الكشاف بأن فائدته التنبيه على شرف الإيمان والترغيب فيه. وأيضا فيه تكذيب المجسمة فإن الأمر لو كان على زعمهم لكانت الملائكة يشاهدونه فلا يوصفون بالإيمان به لأنه لا يوصف بالإيمان إلا الغائب، فعلم أن إيمانهم كإيمان أهل الأرض والكل سواء في أن إيمانهم بطريق النظر والاستدلال. واستحسن هذا الكلام الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتى ترحم عليه وقال: لو لم يكن في كتابه إلا هذه النكتة لكفى به فخرا وشرفا. وأنا أقول: لا نسلم أن الإيمان لا يكون إلا بالغائب وإلا لم يكن الإيمان بالنبي وقت تحديه بالقرآن. وإن شئت فتأمل قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فلو لم يكن إيمان بالشهادة لم يكن لقوله بِالْغَيْبِ فائدة. على أنه يحتمل أن يشاهد الرب وينكر كونه إلها، ويمكن أن يكون محمول الشيء محجوبا عن ذلك الشيء فمن أين يلزم تكذيب المجسمة؟ وقال بعضهم في الجواب: أراد أنهم يسبحون تسبيح تلفظ لا تسبيح دلالة.
وزعم فخر الدين أن في الآية دلالة أخرى على إبطال قول أهل التجسيم إن الإله على العرش فإنه لو كان كما زعموا وحامل الشيء حامل لكل ما على ذلك الشيء لزم أن تكون الملائكة حاملين لإله العالم حافظين له، والحافظ أولى بالإلهية من المحفوظ. قلت: لا شك أن هذه مغالطة فإن جاز الحمل لأجل العظمة وإظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم في المسألة كيف يلزم منه ذلك؟ وهل يزعم عاقل أن الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه؟ وإنما ذكرت ما ذكرت لكونه واردا على كلام الإمامين مع وفور فضلهما وبعد غورهما، لا لأني مائل في المسألة على ما يزعم الخصم إلى غير معتقدهما. قال جار الله: وقد روعي التناسب في قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم، وفيه أنهم بعد التعظيم لأمر الله يقبلون على الشفقة على خلق الله ولا سيما المؤمنين لأن الإيمان جامع لا أجمع منه يجذب السماوي إلى الأرضي، والروحاني إلى العنصري. احتج كثير من العلماء بالآية على أفضلية الملك قالوا: لأنها تدل على أنه لا معصية للملائكة وإلا لزم بحكم «ابدأ بنفسك» أن يستغفروا أوّلا لأنفسهم قال الله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: ١٩] وقال نوح رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً [نوح: ٢٨] قلت: لا نزاع بالنسبة إليهم وإلى غير المعصومين من البشر وإنما النزاع بينهم وبين المعصومين فلا دليل في الآية، ولا يلزم من طلب الاستغفار لأحد. لو سلم أن قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا عام أن يكون المستغفر له عاصيا على أنه قد خص الاستغفار في قوله
23
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وهذا فيه بحث يجيء. وفي قولهم رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً ولو بإعطاء الوجود وَعِلْماً وقد مر في «الأنعام» إشارة إلى أن الحمد والثناء ينبغي أن يكون مقدما على الدعاء. وفي لفظ رَبَّنا خاصية قوية في تقديم الدعاء كما ذكرنا في آخر «آل عمران» كأن الداعي يقول: كنت نفيا صرفا وعدما محض فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعا إليك، ولا ريب أن ذكر الله أول كل شيء بمنزلة الإكسير الأعظم للنحاس من حيث إنه يقوّي جوهر الروح ويكسبه إشراقا وصفاء. وفي تقديم الرحمة على العلم فائدة هي أن مطلوب الملائكة في هذا المقام هو أن يرحم المؤمنين فكأنهم قالوا: ارحم من علمت منه التوبة واتباع الدين. قالت علماء المعتزلة: الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون، طلب مزيد الكرامة والثواب فهو بمنزلة الشفاعة، وإذا ثبت شفاعة الملائكة لأهل الطاعة فكذلك شفاعة الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
وقال علماء السنة: إن مراد الملائكة فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا عن الكفر وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ الإيمان وهذا لا ينافي كون المستغفر لهم مذنبين ومما يؤيد ما قلنا أن الاستغفار طلب المغفرة والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العذاب، أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفارا. قال أهل التحقيق: هذا الاستغفار من الملائكة يجري مجرى الاعتذار من قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠] أما قوله وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فتصريح بالمطلوب بعد الرمز لأن دلالة المغفرة على الوقاية من العذاب كالضمنية.
وحين طلبوا لأجلهم إسقاط العذاب ضمنا وصريحا طلبوا إيصال الثواب إليهم بقولهم رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ قال علماء السنة: كل أهل الإيمان موعودون بالجنة وإن كانوا من أهل الكبائر غاية ذلك أنهم يعذبون بالنار مدّة إن لم يكن عفوا وشفاعة ثم يخرجون إلى الجنة. قال الفراء والزجاج: قوله وَمَنْ صَلَحَ يجوز أن يكون معطوفا على الضمير في وَأَدْخِلْهُمْ فيكون دعاء من الملائكة بإدخال هؤلاء الأصناف الجنة تكميلا لأنس الأولين وتتميما لابتهاجهم وإشفاقا على هؤلاء أيضا. ويجوز أن يكون عطفا على الضمير في وَعَدْتَهُمْ لأنه تعالى قال في سورة الرعد أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الآية: ٢٣] وعلى هذا لا يشمل دعاء الملائكة هؤلاء الأصناف اللهم إلا ضمنا. قال أهل السنة: المراد بمن صلح أهل الإيمان منهم وإن كانوا ذوي كبائر. ثم ختم الآية بقوله إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لأنه إن لم يكن غالبا على الكل لم يصح منه وقوع المطلوب كما يراد، وإن لم يكن حكيما أمكن منه وضع الشيء في غير موضعه. ثم قالوا وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ فقيل:
24
يعني العقوبات أو عذاب السيئات على حذف المضاف. واعترض بأنهم قالوا مرة وقهم عذاب الجحيم فيلزم التكرار. وأجيب بأن الأوّل دعاء للأصول وهذه لفروعهم وهم الأصناف الثلاثة، أو الأول مخصوص بعذاب النار وهذا شامل لعذاب الموقف وعذاب الحساب وعذاب السؤال، أو المراد بالسيئات العقائد الفاسدة والأعمال الضارة، وعلى هذا يكون يَوْمَئِذٍ في قوله وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ إشارة إلى الدنيا. وقوله فَقَدْ رَحِمْتَهُ يجوز أن يكون في الدنيا وفي الآخرة. قال في الكشاف: السيئات هى الصغائر والكبائر المتوب عنها، والوقاية منها التكفير أو قبول التوبة. ثم إنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفرة المجالدين في آياته وأنهم سيعترفون يوم القيامة بما كانوا ينكرونه في الدنيا من البعث، وذلك إذا عاينوا النشأة وتذكروا النشأة الأولى فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ أي يوم القيامة.
وفي الآية حذف وفيها تقديم وتأخير. أما الحذف فالتقدير لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة. وأما التقديم والتأخير فهو أن قوله إِذْ تُدْعَوْنَ منصوب بالمقت الأول. وفي المقت وجوه: الأول كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون، وذلك أشد من مقتكم أنفسكم اليوم في النار إذ أوقعتكم فيها باتباعكم هواهنّ وفيه توبيخ. ولا ريب أن سخط الله وبغضه الشديد لا نسبة له إلى سخط غيره ولهذا أوردهم النار. الثاني عن الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا بلسان خزنة جهنم لمقت الله وهو قريب من الأول.
الثالث قال محمد بن كعب: إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلى قوله وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: ٢٢] وفي هذه الحالة مقتوا أنفسهم. فلعل المعنى. لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ومن لعنه إياه. وأما قول الكفرة في الجواب رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ أي إماتتين اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا إحياءتين اثْنَتَيْنِ فللعلماء في تعيين كل من الاثنتين خلاف. أما في الكشاف فذهب إلى أن الإماتتين إحداهما خلقهم أوّلا أمواتا ثم نطفة ثم علقة إلخ كما في الآية الأخرى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: ٢٨] ونسب هذا القول إلى ابن عباس ووجهه بأنه كقولك للحفار:
ضيق فم الركية ووسع أسفلها وليس ثم نقل من كبر إلى صغر أو بالعكس، وإنما أردت الإنشاء على هذه الصفة. والسبب في صحته أن كلا النعتين جائز على المصنوع الواحد وللصانع أن يختار أحدهما. قلت: ومما يؤيد قوله أنه بدأ بالإماتة وإلا كان الأظهر أن يبدأ بالإحياء. قال: والإماتة الثانية هي التي في الدنيا والإحياءة الأولى هي التي في الدنيا، والثانية هي التي بعد البعث. وأورد على هذا القول أنه يلزم أن لا تكون الإحياءة في القبر
25
والإماتة فيه مذكورتين في القرآن بل تكونان منفيتين مع ورودهما في الحديث. أجاب بعضهم بأن حياة القبر والإماتة ممنوعة لأنه تعالى لم يذكرها، والأحاديث الواردة فيها آحاد، ولأن الذي افترسه السبع لو أعيد حيا لزم نقصان شيء من السبع وليس بمحسوس، ولأن الذي مات لو تركناه ظاهره بحيث يراه كل أحد لم يحس منه حياة وتجويز ذلك مع عدم الرؤية سفسطة وفتح لباب الجهالات. وزيف هذا الجواب أهل الاعتبار بأن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدمه، والأحاديث في ذلك الباب صحيحة مقبولة. وإذا كان الإنسان جوهرا نورانيا مشرقا مدبرا للبدن في كل طور على حد معلوم كما ورد في الشريعة الحقة زالت سائر الإشكالات، ولا يلزم قياس ما بعد الموت على ما قبله وللشرع في إخفاء هذه الأمور عن نظر المكلفين حكم ظاهرة حققناها لك مرات. وقال بعضهم: في الجواب هذا كلام الكفار فلا يكون حجة. وضعف بأنه لو لم يكن صادقا لأنكر الله عليهم. وقيل: إن مقصودهم تعديد أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة: الموتة الأولى، والحياة في القبر، والموتة الثانية، والحياة في القيامة. فأما الحياة في الدنيا فإنها وقت ترفههم وتنعمهم فلهذا السبب لم يذكروها. وقيل: أهملوا ذكر حياة القبر لقصر مدتها أو لأنهم لم يموتوا بعد ذلك بل يبقون أحياء في الشقاوة حتى اتصل بها حياة القيامة وكانوا من جملة المستثنين في قوله فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: ٦٨] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال متكلفة ولا سيما الأخير فإن قوله الَّذِينَ كَفَرُوا عام. ولو فرض أنه مخصوص بكفار معهودين فتخصيصهم بالحياة في القبر حتى يكونوا من المستثنين بعيد جدا. وقد يدور في الخلد أن هذا النداء يحتمل أن يكون في القبر، وعلى هذا لا يبقى إشكال لأن الإماتة والإحياء التي بعد ذلك تخرج من غير تكلف وثبت سؤال القبر كما جاء في الحديث والله تعالى أعلم بمراده. وقوله فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أي إلى نوع من الخروج والرد من القبر إلى الدنيا خروج سريع أو بطيء من سبيل قط أم اليأس الكلي واقع، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وكان الجواب الصريح أن يقال: لا أو نعم إلا أنه سبحانه رمز إلى عدم الخروج بقوله ذلِكُمْ أي ذلكم اليأس وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم في وقت التمكن من التوحيد أوان التكليف فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي وكما يناسب عظمته وكبرياءه. قيل: إن تحكيم الحرورية وهو قولهم «لا حكم إلا لله» مأخوذ من هذه الآية. ثم أراد أن يذكر طرفا من دلائل وحدانيته وكماله فقال هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ من الريح والسحاب والرعد والبرق وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء هو سبب الرزق وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي ما يعتبر إلا الذي أناب إلى الله وأعرض
26
عن الشرك لينفتح عليه أبواب الأنوار والمكاشفات. ثم قال للمنيبين فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ قال جار الله: قوله رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ ثلاثة أخبار لقوله هو مترتبة على الأول وهو قوله الَّذِي يُرِيكُمْ أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا أوسطها معرفة. ثم إن الرفيع إما أن يكون بمعنى الرافع أو بمعنى المرتفع، وعلى الأول فإما أن يراد رافع درجات الخلق في العلم والأخلاق الفاضلة كما قال يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: ١١] وكذا في الرزق والأجل بل جعل للملائكة مقامات معينة وللأجسام البسيطة العلوية والسفلية درجات معينة كما يشهد به علم الهيئة، وقد أشرنا إلى ذلك في أثناء هذا الكتاب. أو يراد رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة. وأما على الثاني
فلا ريب أنه سبحانه أشرف الموجودات وأجلها رتبة من جهة استغنائه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه، وافتقار كل ما سواه إليه في الوجود وفي توابع الوجود.
واعلم أن كمال كبرياء الله لا يصل إليه عقول البشر فالطريق في تعريفه أن يؤيد المعقول بنحو من المحسوس، فلهذا عقب الله تعالى هذه الصفة بصفتين أخريين، وذلك أن ما سوى الله إما جسمانيات وإما روحانيات. أما الجسمانيات فأعظمها العرش فأشار بقوله ذُو الْعَرْشِ إلى استيلائه على كلية عالم الأجسام، وأما الروحانيات فأشار إلى كونها تحت تسخيره بقوله يُلْقِي الرُّوحَ أي الوحي مِنْ أَمْرِهِ أي من عالم أمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وقد مر نظيره في الآية في أول سورة النحل. وقيل: من أمره حال ثم بين الغرض من الإلقاء بقوله لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ووجه التسمية ظاهر لتلاقي الأجساد والأرواح فيه، أو لتلاقي أهل السماء والأرض كما قال عز من قائل وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: ٢٥] ولأن كل واحد يلاقي جزاء عمله. وقال ميمون بن مهران: يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم، فربما ظلم رجل رجلا وانفصل عنه ولم يمكن التلاقي أو استضعف المظلوم ففي يوم القيامة لا بد أن يتلاقيا. وقوله يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ بدل من الأول. ومعنى البروز ما مر في آخر سورة إبراهيم في قوله وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [الآية: ٤٨] وقوله لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ تأكيد لذلك وهذا، وإن كان عاما في جميع الأحوال وشاملا للدنيا والآخرة إلا أنه خصص بالآخرة لأنهم في الدنيا كانوا يظنون أن بعض الأعمال تخفى على الله عند الاستتار بالحجب كما قال وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ فهو نظير قوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٣] ثم أكد تفرّده في ذلك اليوم بالحكم والقضاء بقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ولا ريب
27
أن الكلام مشتمل على جواب وسؤال وليس في لفظ الآية ما يدل على تعيين السائل ولا المجيب. فقال جم من المفسرين ومن أرباب القلوب: إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض يقول الرب تعالى: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد. فهو سبحانه يجيب عن نفسه فيقول: لله الواحد القهار. وأما الذين ألغوا صرف المعقول من أهل الأصول فقد أنكروا هذا القول إنكارا شديدا لأنه تعالى بين أن هذا النداء في يوم التلاقي والبروز يوم تجزى كل نفس بما كسبت، وكل هذا ينافي في كون الخلق هالكين وقتئذ، ولأن التكلم من غير سامع ولا مجيب عبث إلا أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء لكن المفروض فناء كل المخلوقين، فأما أن يكون حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به وذلك أن ينادي مناد فيقول: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار، يقوله المؤمن تلذذا والكافر هوانا وتحسرا على أن فاتتهم هذه المعرفة في الدنيا فإن الملك كان له من الأزل إلى الأبد. وفائدة تخصيص هذا النداء يوم القيامة كما عرفت في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٣] يحكى أن نصر بن أحمد لما دخل نيسابور وضع التاج على رأسه ودخل عليه الناس فخطر بباله شيء فقال: هل فيكم من يقرأ آية؟ فقرأ رجل روّاس رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ فلما بلغ قوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ نزل الأمير عن سريره ورفع التاج عن رأسه وسجد لله تعالى وقال: لك الملك لا لي. فلما توفي الروّاس رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وقال لي إنك عظمت ملكي في عين عبدي فلان يوم قرأت تلك الآية فغفرت لك وله. ومما يدل على تفرده سبحانه قوله لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فإن كل واحد من الأسماء الثلاثة ينبىء عن غاية الجلال والعظمة كما مر مرارا، وباقي الآية أيضا مما سلف تفسيره مرات. ثم وصف يوم القيامة بأنواع أخر من الصفات الهائلة فقال وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ وهي فاعلة من أزف الأمر أزوفا إذا دنا، ولا ريب أن القيامة قريبة وإن استبعد الناس مداها لأن كل ما هو كائن فهو قريب. قال جار الله: يجوز أن يريد بيوم الآزفة وقت لحظة الآزفة وهي مشارفتهم دخول النار فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا.
وقال أبو مسلم: يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل لأنه تعالى ذكر يوم القيامة في قوله يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ فناسب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم، ولأنه تعالى وصف يوم الموت بنحو هذه الصفة في مواضع أخر قال فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: ٨٣] كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [القيامة: ٢٦] ولا ريب أن الرجل عند معاينة
28
أمارات الموت يعظم خوفه، فلو جعلنا كون القلوب لدى الحناجر كناية عن شدّة الخوف جاز، ولو حملناه على ظاهره فلا بأس. وقوله كاظِمِينَ أي مكروبين. والكاظم الساكت حال امتلائه غما وغيظا قال عز من قائل وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران: ١٣٤] وانتصابه على أنه حال عن أصحاب القلوب كأنه قيل: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها، أو عن القلوب. وجمع جمع السلامة بناء على أن الكظم من أفعال العقلاء كقوله فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: ٤] أو عن ضمير المفعول في وَأَنْذِرْهُمْ أي وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم فيكون حالا مقدّره. وفي قوله ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ بحث بين الأشاعرة والمعتزلة حيث حمله الأوّلون على أهل الشرك، والآخرون على معنى أعم حتى يشمل أصحاب الكبائر. وقد مرّ مرارا ولا سيما في قوله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [آل عمران: ١٩٢] ومعنى قوله يُطاعُ يجاب أي لا شفاعة ولا إجابة كقوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر وذلك أنه لا يشفع أحد في ذلك اليوم إلا بإذن الله، فإن أذن له أجيب وإلا فلا يوجد شيء من الأمرين. والفائدة في ذكر هذه الصفة أن يعلم أن الغرض من الشفيع منتف في حقهم وإن فرض شفيع على ما يزعم أهل الشرك من أن الأصنام يشفعون لهم. وقوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ خبر آخر لقوله هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ إلا أنه فصل بالتعليل وهو قوله لِيُنْذِرَ وذكر وصف القيامة استطرادا، قال جار الله: هي صفة للنظرة أو مصدر بمعنى الخيانة كالعافية، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب. قال:
ولا يحسن أن تكون الخائنة صفة للأعين مضافة إليها نحو «جرد قطيفة» أي يعلم العين الخائنة لأن قوله وَما تُخْفِي الصُّدُورُ لا يساعد عليه. قلت: يعني أن عطف العرض على الجوهر والمعنى على العين غير مناسب. وقيل: هي قول الإنسان رأيت ولم ير وما رأيت ورأى. ومضمرات الصدور أي القلوب فيها لأنها فيها. قيل: هي ما يستره الإنسان من أمانة وخيانة. وقيل: الوسوسة. وقال ابن عباس: ما تخفي الصدور بعد النظر إليها أيزني بها أم لا. أقول: والحاصل أنه تعالى أراد أن يصف نفسه بكمال العلم فإن المجازاة تتوقف على ذلك. ففي قوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ إشارة إلى أنه عالم بجميع أفعال الجوارح، وفي قوله وَما تُخْفِي الصُّدُورُ دلالة على أنه عالم بجميع أفعال القلوب. وإذا علمت هذه الصفة وقد عرفت من الأصناف السابقة كمال قدرته واستغنائه لم يبق شك فى حقيّة قضائه فلذلك قال وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ثم وبخهم على عبادة من لا قضاء له ولا سمع ولا بصر
29
ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ
بقوله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ إلخ. ثم وعظهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة وقد مر نظير الآية في مواضع. وإنما قال في هذه السورة ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ وفي «التغابن» ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ [الآية: ٦] موافقة لضمير الفصل في قوله كانُوا هُمْ أَشَدَّ.
التأويل:
الحاء والميم حرفان من وسط اسم الرحمن ومن وسط اسم محمد ففي ذلك إشارة إلى سر بينه وبين حبيبه ﷺ لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل غافِرِ الذَّنْبِ للظالم وَقابِلِ التَّوْبِ للمقتصد شَدِيدِ الْعِقابِ للكافر ذِي الطَّوْلِ للسابق وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي عن موجباتها كالرياء واتباع الهوى لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم حين حكم عليكم بالبعد والحرمان أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ لو كنتم تمقتونها في الدنيا فإنها أعدى عدوّكم. ومقتها منعها من هواها، ولا ريب أن عذاب البعد الأبديّ أشدّ من رياضة أيام معدودة قلائل. ذُو الْعَرْشِ عرش القلوب استوى عليها بجميع الصفات وهم العلماء بالله المستغرقون في بحر معرفته.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٣ الى ٥٠]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠)
30
القراآت:
ذروني بفتح الياء: ابن كثير إني أخاف بفتح الياء: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. أو بصيغة الترديد: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب. الباقون: بواو العطف. يُظْهِرَ بضم الياء وكسر الهاء من الإظهار الفساد بالنصب: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل وحفص. الآخرون:
بفتحهما ورفع الفساد عُذْتُ مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وإسماعيل وهشام التنادى بالياء في الحالين: ابن كثير ويعقوب وأفق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل قلب متكبر بالتنوين فيهما عل الوصف: أبو عمرو وقتيبة وابن ذكوان.
الباقون: على الإضافة. لعلي أبلغ الأسباب بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر فَأَطَّلِعَ بالنصب: حفص. اتبعوني بالياء في الحالين: سهل
31
وابن كثير ويعقوب وأفق أبو عمرو ويزيد والأصفهاني عن ورش وإسماعيل وأبو نشيط عن قالون في الوصل. ما لي بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع أمري إلى الله بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو تَقُومُ بتاء التأنيث: الرازي عن هشام أَدْخِلُوا من الإدخال: أبو جعفر ونافع ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص. وعلى هذه القراءة الخطاب للزبانية. وانتصب آلَ وأَشَدَّ على أنهما مفعول بهما. وعلى القراءة الأخرى هو لآل فرعون، وانتصب آلَ على النداء لا على أنه مفعول به.
الوقوف:
مُبِينٍ هـ لا كَذَّابٌ هـ نِساءَهُمْ ط ضَلالٍ هـ رَبَّهُ ج لاحتمال اللام مؤمن قف قد قيل: بناء على أن الجار يتعلق بالفعل بعده والوصل أصح لأنه كان من القبط، ولو فرض أنه لم يكن منهم فالجملة وصف له من ربكم ج لانتهاء الاستفهام إلى الابتداء بالشرط كَذِبُهُ ج للعطف والشرط يَعِدُكُمْ ط كَذَّابٌ هـ فِي الْأَرْضِ ز لابتداء الاستفهام والوجه الوصل لأن المقصود الوعظ به جاءَنا ط الرَّشادِ هـ الْأَحْزابِ هـ لا لأن ما بعده بدل بَعْدِهِمْ ط لِلْعِبادِ هـ التَّنادِ هـ ط لأجل البدل مُدْبِرِينَ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا مِنْ عاصِمٍ ج لاحتمال كون ما بعده ابتداء إخبار من الله سبحانه وكونه من كلام المؤمن مِنْ هادٍ هـ جاءَكُمْ بِهِ ط رَسُولًا ط مُرْتابٌ هـ ج لاحتمال البدل فإن «من» في معنى الجمع أو الاستئناف أي هم الذين أو أعني أنهم آمَنُوا ط جَبَّارٍ هـ الْأَسْبابَ هـ لا كاذِباً ط السَّبِيلِ ط تَبابٍ هـ الرَّشادِ ج لأن النداء يبدأ به مع أنه تكرار للأول مَتاعٌ ز للفصل بين تنافي الدارين مع اتفاق الجملتين الْقَرارِ هـ مِثْلَها ج لعطف جملتي الشرط حِسابٍ هـ النَّارِ هـ ج لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار ولاحتمال ابتداء استفهام آخر الْغَفَّارِ هـ النَّارِ هـ لَكُمْ ط إِلَى اللَّهِ ط بِالْعِبادِ هـ الْعَذابِ هـ ج لاحتمال البدل والابتداء وَعَشِيًّا ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف السَّاعَةُ قف لحق القول المحذوف أي يقال لهم أو للزبانية الْعَذابِ هـ مِنَ النَّارِ هـ الْعِبادِ هـ مِنَ الْعَذابِ هـ بِالْبَيِّناتِ ط بَلى ط فَادْعُوا ج لاحتمال أن ما بعده من قول الخزنة أو ابتداء إخبار من الله تعال ضَلالٍ هـ.
التفسير:
لما وبخ الكفار بعدم السير في الأرض للنظر والاعتبار أو بعدم النظر في أحوال الماضين مع السير في الأقطار وقد وصف الماضين بكثرة العدد والآثار الباقية، أراد أن يصرح بقصة واحدة من قصصهم تسلية للنبي ﷺ وزيادة توبيخ وتذكير لهم. وكان في قصة موسى وفرعون من العجائب ما فيها، فلا جرم أوردها هاهنا مع فوائد زائدة على ما في
32
المواضع الأخر منها: ذكر مؤمن من آل فرعون وما وعظ ونصح به قومه. ولأن القصة قد تكررت مرارا فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالمقام. قوله بِالْحَقِّ أي بالمعجزات الظاهرة. وقوله اقْتُلُوا يريد به إعادة القتل كما مر في «الأعراف» في قوله سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ [الآية: ١٢٧] قوله إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع واضمحلال. فإن كان اللام في الْكافِرِينَ للجنس فظاهر لأن وبال كيدهم يعود بالآخرة عليهم حين يهلكون ويدخلون النار، وإن كان للعهد وهم فرعون وقومه فأظهر كما قص عليك من حديث إغراقهم واستيلاء موسى وقومه على ديارهم. قوله ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ظاهره مشعر بأن قومه كانوا يمنعونه من قتله وفيه احتمالات: الأول لعله كان فيهم من يعتقد نبوّة موسى فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون. الثاني قال الحسن: إن أصحابه قالوا لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا: إنه كان محقا وعجزوا عن جوابه فقتله. الثالث: لعل مراد أمرائه أن يكون فرعون مشغول القلب بأمر موسى حتى إنهم يكونون في أمن وسعة. قال جار الله: إن فرعون كان فيه خب وجريرة وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء فكيف لا يقصد قتل من أحس بأن في وجوده هدم ملكه وتغيير ما هو عليه من عبادة أصنامه كما قال إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ الآية. ولكنه كان قد استيقن أنه نبي وكان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك. قال:
وقوله وَلْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه من دعوة ربه. وقال غيره: هو على سبيل الاستهزاء يعني إن أقتله فليقل لربه الذي يدّعي وجوده حتى يخلصه. ومعنى تبديل الدين تغيير عبادة الأصنام كما مر في «الأعراف» في قوله وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الآية: ١٢٧] والفساد التهارج والتنازع واختلاف الآراء والأهواء، أراد أنه يحدث لا محالة من إبقائه فساد الدين والدنيا جميعا، أو أحد الأمرين على القراءتين. ثم حكى ما ذكره موسى في دفع شر فرعون وهو العوذ بالله. وفي تصدير الجملة بان دلالة على أن الطريق المعتبر في دفع الآفات الاستغاثة والاستعاذة برب الأرض والسموات. وفي قوله بِرَبِّي إشارة إلى أن الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني سيعصمني من شر هذا المارد الجاني. وفي قوله وَرَبِّكُمْ احتراز عن أن يظن ظانّ أنه يريد به فرعون لأنه رباه في صغره أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء: ١٨] وفيه بعث لقوم موسى على أن يقتدوا به في الاستعاذة فإن اجتماع النفوس له تأثير قوي. وفي قوله مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي متكبر عن قبول الحق على سبيل العموم فائدتان: إحداهما شمول الدعاء فيدخل فيه فرعون بالتبعية. والثانية أن فرعون رباه في الصغر فلعله راعى حسن الأدب في عدم تعيينه. وأما وصف المتكبر بقوله
33
لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ فلأن الموجب لإيذاء الناس أمران: أحدهما قسوة القلب. والثاني عدم اعتقاد بالجزاء والحساب. ولا ريب أنه إذا اجتمع الأمران كان الخطب أفظع لاجتماع المقتضى وارتفاع المانع. ثم شرع في قصة مؤمن آل فرعون. والأصح أنه كان قبطيا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرا واسمه سمعان أو حبيب أو خربيل. وقيل: كان إسرائيليا.
وزيف بأن المؤمنين من بني إسرائيل لو يعتلوا ولم يعزوا لقوله اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فما الوجه في تخصيصه؟ ولقائل أن يقول: الوجه تخصيصه بالوعظ والنصيحة إلا أن قوله: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وقوله يا قَوْمِ على رأس كل نصيحة يغلب على الظن أنه يتنصح لقومه. ومعنى أَنْ يَقُولَ لأجل قوله أو وقت أن يقول كأنه قال منكرا عليهم أترتكبون الفعلة الشنعاء وهي قتل نفس محرمة أي نفس كانت لأجل كلمة حقة وهي قوله رَبِّيَ اللَّهُ والدليل على حقيقتها إظهار الخوارق والمعجزات. وفي قوله مِنْ رَبِّكُمْ استدراج لهم إلى الاعتراف بالله. ثم احتج عليهم بالتقسيم العقلي أنه لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا. على الأول يعود وبال كذبه عليه، وعلى الثاني أصابكم ما يتوعدكم به من العقاب. واعترض على الشق الأوّل بأن الكاذب يجب دفع شره بإمالته إلى الحق أو بقتله، ولهذا أجمع العلماء على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى دينه يجب قتله. وعلى الشق الثاني بأنه أوعدهم بأشياء والنبي صادق في مقالته لا محالة فلم قال يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ولم يقل «كل الذي» ؟ والجواب عن الأوّل أنه إنما ردّد بين الأمرين بناء على أن أمره مشكوك فيما بينهم، والزمان زمان الفترة والحيرة، فأين هذا من زماننا الذي وضح الحق فيه وضوح الفجر الصادق بل ظهور الشمس في ضحوة النهار؟ وعن الثاني أنه من كلام المنصف كأنه قال: إن لم يصبكم كل ما أوعد فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، أو أراد عذاب الدنيا وكان موسى أوعدهم عذاب الدنيا والآخرة جميعا. وعن أبي عبيدة: أن البعض هاهنا بمعنى الكل وأنشد قول لبيد:
ترّاك أمكنه إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وخطأه جار الله وكثير من أهل العربية وقالوا: إنه أراد ببعض النفوس فقط. ثم أكد حقية أمر موسى بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ وقد هداه الله إلى المعجزات الباهرة فهو إذن ليس بمتجاوز عن حدّ الاعتدال ولا بكذاب. وقيل: إنه كلام مستأنف من الله عز وجل، وفيه تعريض بأن فرعون مسرف في عزمه على قاتل موسى كذاب في ادّعاء الإلهية فلا يهديه الله إلى شيء من خيرات الدارين ويزيل ملكه ويدفع شره،
34
وقد يلوح من هذه النصيحة وما يتلوها من المواعظ أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه إلى أن قصدوا قتل موسى وعند ذلك أظهر الإيمان وترك التقية مجاهدا في سبيل الله بلسانه. ثم ذكرهم نعمة الله عليهم وخوّفهم زوالها بقوله يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي غالبين على أرض مصر ومن فيها من بني إسرائيل والقبط فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ من يخلصنا من عذابه إِنْ جاءَنا وذلك لشؤم تكذيب نبيه قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قبله وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وصلاح الدين والدنيا، أو ما أعلمكم من الصواب ولا أسر خلاف ما أظهر. قال جار الله: وقد كذب فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى ولكنه كان يتجلد. وحكى أبو الليث أن الرشاد اسم من أسماء أصنامه. قوله مِثْلَ دَأْبِ قال جار الله صاحب الكشاف: لا بد من حذف مضاف أي مثل جزاء دأبهم وهو عادتهم المستمرة في الكفر والتكذيب. ثم قال: إنه عطف بيان للأوّل لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح. ولو قلت أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بين لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أوّل المضافات. قلت: لا بأس من جعله بدلا كما مرّ. وقوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أبلغ من قوله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:
٤٦] لأن نفي الإرادة آكد من نفي الفعل ولتنكير الظلم في سياق النفي. وفيه أن تدميرهم كان عدلا وقسطا. وقيل: معناه أنه لا يريد لهم أن يظلموا فدمرهم لكونهم ظالمين. وحين خوّفهم عذاب الدنيا خوّفهم عذاب الآخرة أيضا فقال وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ أما اليوم فيمكن انتصابه على الظرفية كأنه أخبر عن خوفه في ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب، والأولى أن يكون مفعولا به أي أحذركم عذاب ذلك اليوم. وفي تسمية يوم القيامة يوم التناد وجوه منها: أن أهل الجنة ينادون أهل النار وبالعكس كما مر في سورة الأعراف. ومنها أنه من قوله يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: ٧١] ومنها أن بعض الظالمين ينادي بعضا بالويل والثبور قائلين يا ويلنا. ومنهما أنهم ينادون إلى المحشر.
ومنهما أنه ينادي المؤمن هاؤم اقرؤا كتابيه والكافر يا ليتني لم أوت كتابيه. ومنها أنه يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح وينادي في أهل القيامة لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا على فرح، وأهل النار حزنا على حزن. وقال أبو علي الفارسي: التناد مخفف من التنادّ مشددا وأصله من ندّ إذا هرب نظيره يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ [عبس: ٣٤] إلخ. ويؤيده قراءة ابن عباس مشددا وتفسيره بأنهم يندون كما تند الإبل. وقوله بعد ذلك يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أنهم إذا سمعوا زفير النار ندّوا هاربين فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. وقال قتادة: معنى تولون
35
مدبرين انصرافهم عن موقف الحساب إلى النار. ثم أكد التهديد بقوله ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ الآية. ثم ذكر مثالا لمن لا يهديه الله بعد إضلاله وهو قوله وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ وفيه أقوال ثلاثة أحدها: أنه يوسف بن يعقوب، وفرعون موسى هو فرعون يوسف، والبينات إشارة إلى ما
روي أنه مات لفرعون فرس قيمته ألوف فدعا يوسف فأحياه الله. وأيضا كسفت الشمس فدعا يوسف فكشفها الله
، ومعجزاته في باب تعبير الرؤيا مشهورة، فآمن فرعون ثم عاد إلى الكفر بعد ما مات يوسف. والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف ابن يعقوب، أقام فيهم عشرين سنة قاله ابن عباس. والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف إليهم رسولا من الجن اسمه يوسف وأورده أقضى القضاة أيضا وفيه بعد. قال المفسرون في قوله لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ليس إشارة إلى أنهم صدّقوا يوسف لقوله فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ وإنما الغرض بيان أن تكذيبهم لموسى مضموم إلى تكذيب يوسف ولهذا ختم الآية بقوله كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ قلت: هذا إنما يصح إذا لم يكن فرعون يوسف قد آمن به لكنه مروّي كما قلنا اللهم إلا أن يقال: لولا شكه في أمره لما كفر بعد موته قال جار الله: فاعل كبر ضمير عائد إلى من هو مسرف لأنه موحد اللفظ وإن كان مجموع المعنى. وجوّز أن يكون الَّذِينَ يُجادِلُونَ مبتدأ على تقدير حذف المضاف أي جدال الذين يجادلون كبر. وجوّز آخرون أن يكون التقدير الذين يجادلون كبر جدالهم على حذف الفاعل للقرينة. وفي قوله وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا إشارة إلى أن شهادة المؤمنين عند الله بمكان حتى قرنها إلى شهادة نفسه. والمقصود التعجب والاستعظام لجدالهم وخروجه عن حدّ أشكاله من الكبائر، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه مركزهما ومنبعهما، أو باعتبار صاحبه. ومن قرأ بالإضافة فظاهر إلا أنه قيل: فيه قلب والأصل على قلب كل متكبر كما يقال: فلان يصوم كل يوم جمعة أي يوم كل جمعة. ثم أخبر الله سبحانه عن بناء فرعون ليطلع على السماء وقد تقدّم ذكره في سورة القصص. قال أهل اللغة: الصرح مشتق من التصريح الإظهار، وأسباب السموات طرقها كما مر في أوّل «ص» فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ [الآية: ١٠] فائدة بناء الكلام على الإبدال هي فائدة الإجمال ثم التفصيل والإبهام ثم التوضيح من تشويق السامع وغيره. من قرأ فَأَطَّلِعَ بالرفع فعلى العطف أي لعلي أبلغ فأطلع. ومن قرأ بالنصب فعلى تشبيه الترجي بالتمني. والتباب الخسران والهلاك كما مر في قوله وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١] استدل كثير من المشبهة بالآية على أن الله في السماء قالوا: إن بديهة فرعون قد شهدت بأنه في ذلك الصوب وأنه سمع من موسى أنه يصف الله بذلك وإلا لما رام بناء الصرح. والجواب أن بديهة فرعون لا حجة فيها، وسماعه ذلك من موسى ممنوع. وقد يطعن بعض اليهود بل كلهم في الآية بأن
36
تواريخ بني إسرائيل تدل على أن هامان لم يكن موجودا في زمان موسى وفرعون وإنما ولد بعدهما بزمان طويل، ولو كان مثل هذا الشخص موجودا في عصرهما لنقل لتوفرت الدواعي على نقله. والجواب أن الطعن بتاريخ اليهود المنقطع الوسط لكثرة زمان الفترة أولى من الطعن في القرآن المعجز المتواتر أولا ووسطا وآخرا.
ثم عاد سبحانه إلى حكاية قول المؤمن وأنه أجمل النصيحة أوّلا بقوله اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ ثم استأنف مفصلا قائلا إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ يتمتع به أياما قلائل ثم يترك عند الموت إن لم يزل نعيمها قبل ذلك وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ المنزل الذي يستقر فيه. ثم بين أنه كيف تحصل المجازاة في الآخرة وفيه إشارة إلى أن جانب الرحمة أرجح. ومعنى الرزق بغير حساب أنه لا نهاية لذلك الثواب، أو أنه يعطى بعد الجزاء شيئا زائدا على سبيل التفضل غير مندرج تحت الحساب. ثم صرح بأنهم يدعونه إلى النار وهو يدعوهم إلى الخلاص عنها وفسر هذه الجملة بقوله تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ الآية. ليعلم أن الشرك بالله أعظم موجبات النار والتوحيد ضدّه. وفي قوله ما لِي أَدْعُوكُمْ من غير أن يقول «ما لكم» مع أن الإنكار يتوجه في الحقيقة إلى دعائهم لا إلى المجموع ولا إلى دعائه سلوك لطريق الإنصاف. ووجه تخصيص العزيز الغفار بالمقام أنه غالب على من أشرك به غفور لمن تاب عن كفره. قوله لا جَرَمَ لا ردّ لكلامهم، وجرم بمعنى كسب أو وجب أو لا بد وقد سبق في «هود» و «النحل». ومعنى لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ أنه لا يقدر في الدنيا على أن يدعو الناس إلى نفسه لأنه جماد، ولا في الآخرة لأنه إذا أنطقه الله فيها تبرأ من عابديه.
ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ليس له استجابة دعوة كقوله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ [الرعد: ١٤] عن قتادة:
المسرفين هم المشركون. ومجاهد: السفاكون للدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم. وقيل: الذين جاوزوا في المعصية حدّ الاعتدال كما بالدوام والإصرار وكيفا بالشناعة وخلع العذار فَسَتَذْكُرُونَ أي في الدنيا عند حلول العذاب أو في الآخرة عند دخول النار وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ قاله لأنهم توعدوه. وفيه وفي قوله فَوَقاهُ اللَّهُ دليل واضح على أنه أظهر الإيمان وقت هذه النصائح. قال مقاتل: لما تمم هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه. قوله وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ معناه أنه رجع وبال مكرهم عليهم فأغرقوا ثم أدخلوا نارا. ولا يلزم منه أن يكونوا قد هموا بإيصال مثل هذا السوء إليه، ولئن سلّم أن الجزاء يلزم فيه المماثلة لعل فرعون قد همّ
37
ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﰿ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ
بإغراقه أو بإحراقه كما فعل نمرود. قوله يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي يحرقون بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به. وقوله غُدُوًّا وَعَشِيًّا إما للدوام كما مر في صفة أهل الجنة وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: ٦٢] وإما لأنه اكتفى في القبر بإيصال العذاب إليهم في هذين الوقتين. وفي سائر الأوقات إما أن يبقى أثر ذلك وألمه عليهم، وإما أن يكون فترة وإما أن يعذبوا بنوع آخر من العذاب الله أعلم بحالهم. وفي الآية دلالة ظاهرة على إثبات عذاب القبر لأن تعذيب يوم القيامة يجيء في قوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بعرض النار عرض النصائح عليهم في الدنيا لأن سماع الحق مرّ طعمه؟ قلنا: عدول عن الظاهر من غير دليل. ولما انجر الكلام إلى شرح أحوال أهل النار عقبة بذكر المناظرات التي تجري فيها بين الرؤساء والأتباع والمعنى: اذكر يا محمد وقت تحاجهم وقد مر نظير ذلك مرارا. وفي قولهم إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي قضى لكل فريق بما يستحقه إشارة إلى الإقناط الكليّ، ولهذا رجعوا عن محاجة المتبوعين إلى الالتماس من خزنة النار أن يدعوا الله بتخفيف العذاب عنهم زمانا. قال المفسرون:
إنما لم يقل لخزنتها لأن جهنم اسم قعر النار فكأن لخزنتها قربا من الله وهم أعظم درجة من سائر الخزنة فلذلك خصوهم بالخطاب. أما قول الخزنة لهم ف ادْعُوا ودعاء الكافر لا يسمع، فالمراد به التوبيخ والتنبيه على اليأس كأنهم قالوا: الشفاعة مشروطة بشيئين: كون المشفوع له مؤمنا والشافع مأذونا له فيها، والأمر إن هاهنا مفقودان على أن الحجة قد لزمتهم والبينة ألجأتهم. ثم أكدوا ذلك بقولهم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي لا أثر له البتة.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥١ الى ٨٥]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠)
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥)
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠)
وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
38
القراآت
لا يَنْفَعُ على التذكير: نافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم تَتَذَكَّرُونَ بتاء الخطاب: عاصم وحمزة وعلي وخلف. ادْعُونِي أَسْتَجِبْ بفتح الياء: ابن كثير.
سيدخلون من الإدخال مجهولا: ابن كثير ويزيد وعباس ورويس وحماد وأبو بكر غير الشموني شيوخا بكسر الشين: ابن كثير وابن عامر وحمزة وعلي وهبيرة والأعشى ويحيى وحماد.
الوقوف
الْأَشْهادُ هـ لا لأن يَوْمَ بدل من الأول الدَّارِ هـ الْكِتابَ هـ لا الْأَلْبابِ هـ وَالْإِبْكارِ هـ أَتاهُمْ لا ن ما بعده خبر «إن» ما هُمْ بِبالِغِيهِ ج لاختلاف الجملتين بِاللَّهِ ط الْبَصِيرُ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَلَا الْمُسِيءُ ط يتذكرون هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ط داخِرِينَ هـ مُبْصِراً ط لا يَشْكُرُونَ هـ شَيْءٍ لا لئلا يوهم أن ما بعده صفة شيء وخطؤه ظاهر إِلَّا هُوَ ز لابتداء الاستفهام ورجحان الوصل لفاء التعقيب ولتمام مقصود الكلام يؤفكون هـ يَجْحَدُونَ هـ الطَّيِّباتِ ط الْعالَمِينَ هـ الدِّينَ هـ الْعالَمِينَ هـ شُيُوخاً ج لاختلاف الجملتين تَعْقِلُونَ هـ وَيُمِيتُ ج لأجل الفاء مع الشرط فَيَكُونُ هـ فِي آياتِ اللَّهِ ط لانتهاء الاستفهام وابتداء آخر يُصْرَفُونَ هـ ج لاحتمال كون الَّذِينَ بدلا من الضمير في يُصْرَفُونَ رُسُلَنا قف إن لم تقف على يُصْرَفُونَ. يَعْلَمُونَ هـ لا لتعلق الظرف وَالسَّلاسِلُ ط لأن ما بعده مستأنف. وقيل: وَالسَّلاسِلُ مبتدأ والعائد محذوف أي والسلاسل يجرون بها في الحميم يُسْجَرُونَ هـ ج للآية مع العطف مِنْ دُونِ اللَّهِ ط شَيْئاً ط الْكافِرِينَ هـ تَمْرَحُونَ هـ خالِدِينَ فِيها ج الْمُتَكَبِّرِينَ هـ حَقٌّ هـ للشرط مع الفاء يُرْجَعُونَ هـ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ط بِإِذْنِ اللَّهِ ج الْمُبْطِلُونَ هـ تَأْكُلُونَ هـ ز للآية مع العطف وشدّة اتصال المعنى تُحْمَلُونَ هـ ط لأن ما بعده مستأنف ولا وجه للعطف. نْكِرُونَ
هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط للفصل بين الاستخبار والأخبار يَكْسِبُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ مُشْرِكِينَ هـ بَأْسَنا الثاني ط فِي عِبادِهِ ج لأن الفعل المعطوف عليه مضمر وهو سن الْكافِرُونَ هـ.
التفسير:
هذا من تمام قصة موسى وعود إلى مقام انجر الكلام منه وذلك أنه لما قيل فَوَقاهُ اللَّهُ وكان المؤمن من أمة موسى علم منه ومما سلف مرارا أن موسى وسائر قومه قد نجوا وغلبوا على فرعون وقومه فلا جرم صرح بذلك فقال إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا الآية.
ونصرتهم في الدنيا بإظهار كلمة الحق وحصول الذكر الجميل واقتداء الناس بسيرتهم إلى مدة ما شاء الله، وقد ينصرون بعد موتهم كما أن يحيى بن زكريا لما قتل به سبعون
40
ألفا. وأما نصرهم في الآخرة فمن رفع الدرجات والتعظيم على رؤوس الأشهاد من الحفظة والأنبياء والمؤمنين وقد مر باقي تفسير الأشهاد في أوائل «هود». ثم بين أن يوم القيامة لا اعتذار فيه لأهل الظلم والغواية وإن فرض اعتذار فلا يقبل وسوء الدار عذاب الآخرة. ثم أخبر عن إعطاء موسى التوراة وإيراثها قومه بعده. والمراد بكون الكتاب هدى أنه دليل في نفسه، وبكونه ذكرى أن يكون مذكرا للشيء المنسيّ. وحين فرغ من قصة موسى وما تعلق بها خاطب نبيه ﷺ مسليا له بقوله فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالنصر وإعلاء كلمة الحق حَقٌّ كما قص عليك من حال موسى وغيره. ثم أمره باستغفار لذنبه وقد سبق البحث في مثله مرارا. والعشيّ والإبكار صلاتا العصر والفجر أو المراد الدوام. قوله إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ عود إلى ما انجر الكلام إليه من أول السورة إلى هاهنا. وفيه بيان السبب الباعث لكفار قريش على هذا الجدال وهو الكبر والحسد وحب الرياسة، وأن يكون الناس تحت تصرفهم وتسخيرهم لا أن يكونوا تحت تصرف غيرهم فإن النبي ﷺ لا بد أن تكون الأمة تحت أمره ونهيه وذلك تخيل فاسد لأن الغلبة لدين الإسلام ولهذا قال ما هُمْ بِبالِغِيهِ ثم أمره أن يستعيذ في دفع شرورهم بالله السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم فيجازيهم على حسب ذلك. ثم إنهم كانوا أكثر ما يجادلون في أمر البعث فاحتج الله تعالى عليهم بقوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ومن قدر على الأصعب في نظر المخالف وقياسه كان على الأسهل أقدر، فظاهر أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا برهان بل لمجرد الحسد والكبير بل لا يعرفون ما البرهان وكيف طريق النظر والاستدلال ولهذا قال وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
ثم نيه على الفرق بين الجدال المستند على العناد والتقليد وبين الجدال المستند إلى الحجة والدليل قائلا وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وحين بين التفاوت بين الجاهل والعالم أراد أن يبين التفاوت بين المحسن والمسيء ثم قال قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ وفيه مزيد توبيخ وتقريع، وفيه أن هذا التفاوت مما يعثر عليه المكلف بأدنى تأمل لو لم يكن معاندا مصرا. ثم صرح بوجود القيامة قائلا إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أدخل اللام في الخبر بخلاف ما في «طه» لأن المخاطبين هاهنا شاكون بخلاف المخاطب هناك وهو موسى، وهذه الآية كالنتيجة لما قبلها. ومعنى لا يُؤْمِنُونَ لا يصدّقون بالبعث. ثم إنه كان من المعلوم أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بالطاعة فلا جرم أشار إليها بقوله وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أكثر المفسرين على أن الدعاء هاهنا بمعنى العبادة، والاستجابة بمعنى الإنابة بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن
41
كقوله إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً [النساء: ١١٧]
روى النعمان بن بشير أن رسول الله ﷺ قال «الدعاء العبادة» وقرأ هذه الآية.
وجوّز آخرون أن يكون الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، ويراد بعبادتي دعائي لأن الدعاء باب من العبادة يصدّقه قول ابن عباس: أفضل العبادة الدعاء. وقد مرّ تحقيق الدعاء في سورة البقرة في قوله أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الآية: ١٨٦] وقد فسره ابن عباس بمعنى آخر قال: وحدوني أغفر لكم. وفي الدعاء. قال جار الله: وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد. ومعنى داخِرِينَ صاغرين. وقال أهل التحقيق: كل من دعا الله وفي قلبه مثقال ذرة من المال والجاه وغير ذلك فدعاؤه لساني لا قلبي ولهذا قد لا يستجاب لأنه اعتمد على غير الله. وفيه بشارة هي أن دعاء المؤمن وقت حلول أجله يكون مستجابا البتة لانقطاع تعلقه وقتئذ عما سوى الله.
ثم إنه تعالى ذكر نعمته على الخلائق بوجود الليل والنهار وقد مر نظير الآية مرارا ولا سيما في أواخر «يونس» وأواسط «البقرة». وكرر ذكر الناس نعيا عليهم وتخصيصا لكفران النعمة بهم من بين سائر المخلوقات. وأما وجه النظم فكأنه يقول: إني أنعمت عليك بهذه النعم الجليلة قبل السؤال فكيف لا أنعم عليك بما هو أقل منه بعد السؤال؟ ففيه تحريض على الدعاء. وأيضا الاشتغال بالدعاء مسبوق بمعرفة المدعوّ فلذلك ذكر في عدّة آيات دلائل باهرة من الآفاق والأنفس على وحدانيته واتصافه بنعوت الكمال. قوله ذلِكُمُ اللَّهُ إلى قوله إِلَّا هُوَ قد مر في «الأنعام». قوله كَذلِكَ يُؤْفَكُ أي كل من حجد بآيات الله ولم يكن طالبا للحق فإنه مصروف عن الحق كما صرفوا. قوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ كقوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: ٧٠] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: ٤] قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إما استئناف مدح من الله تعالى لنفسه، وإما بتقدير القول أي فادعوه مخلصين قائلين الحمد لله. قوله لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ شامل لأدلة العقل والنقل جميعا. قوله ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ متعلق بمحذوف أي ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك لتكونوا. وأما قوله وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى فمتعلق بفعل آخر تقديره ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى هو الموت أو القيامة، ورجاء منكم أن تعقلوا ما في ذلك من العبر.
وحيث انجر الكلام إلى ذكر الأجل وصف نفسه بأن الإحياء والإماتة منه، ثم أشار بقوله فَإِذا قَضى إلخ إلى نفاذ قدرته في الكائنات من غير افتقار في شيء ما إلى آلة وعدّة. وأشار إلى أن الإحياء والإماتة ليسا من الأشياء التدريجية ولكنهما من الأمور الدفعية المتوقفة على أمر كن فقط، وذلك أن الحياة تحصل بتعلق النفس الناطقة بالبدن، والموت يحدث من قطع ذلك التعلق، وكل من الأمرين يحصل في آن واحد. ويمكن أن
42
يكون فيه إشارة إلى خلق الإنسان الأوّل وهو آدم كقوله خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٥٩] ثم عاد إلى ذم المجادلين وذكر وعيدهم قائلا أَلَمْ تَرَ الآية والكتاب القرآن. وما أرسل به الرسل سائر الكتب. وقوله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ليس كقول القائل: سوف أصوم أمس. بناء على أن سوف للاستقبال وإذ للمضي، لأن «إذ» هاهنا بمعنى «إذا» إلا أنه ورد على عادة أخبار الله نحو وَسِيقَ [الزمر:
٧٣] وَنادى [الأعراف: ٤٨] وقال المبرد: إذ صارت زمانا قبل سوف لأن العلم وقع منهم بعد ثبوت الأغلال. والمعنى علموا من الأغلال الذي كانوا أو عدوه من بعد أن حق بالوجود. ومعنى يُسْجَرُونَ قال جار الله: هو من سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم وهم مسجورون بها مملوءة أجوافهم منها. والحاصل أنهم يعذبون مرة بالماء الشديد الحرارة ومرة بالنار. وقال مقاتل: في الحميم يعني في حر النار ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ على سبيل التوبيخ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «ما» موصولة مبتدأ و «أين» خبرها. ومعنى ضَلُّوا غابوا وضاعوا ولم يصل إلينا ما كنا نرجوه من النفع والشفاعة، وأكدوا هذا المعنى بقوله بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً يعتدّ به كما تقول: حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء أي ليس عنده خير. ومن جوّز الكذب على الكفار لم يحتج إلى هذا التأويل وقال: إنهم أنكروا عبادة الأصنام. ثم قال كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ قالت الأشاعرة: أي عن الحجة والإيمان. وقالت المعتزلة: عن طريق الجنة بالخذلان. وقال في الكشاف:
أي مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر. واعترض عليه بأنهم مقرونون بآلهتهم في النار لقوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: ٩٨] والجواب أن كون الجميع في النار لا ينافي غيبة أحدهما عن الآخر. وأجاب في الكشاف باختلاف الزمان وبتفسير الضلال بعدم النفع.
ذلِكُمْ العذاب بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح أي النشاط بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك وعبادة الصنم. ويجوز أن يكون القول محذوفا أي يقال لهم ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكل طائفة مقدّرين الخلود فيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يعني الذين مر ذكرهم في قولهم إن في صدوركم إلّا كبر والمخصوص بالذم محذوف وهو مثواكم أو جهنم. قال جار الله: إنما لم يقل «فبئس مدخل المتكبرين» حتى يكون مناسبا لقوله ادْخُلُوا كقولك: زر بيت الله فنعم المزار. لأن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء. وحين زيف طريقة المجادلين مرة بعد مرة أمر رسوله بالصبر على إيذائهم وإيحاشهم إلى إنجاز الوعد بالنصرة قال فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من عذاب الدنيا فذاك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ هذا التقدير ذكره جار الله، وقد مر في «يونس» مثله.
43
وأقول: لا بأس أن يعطف قوله أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ على نُرِيَنَّكَ ويكون الرجوع إلى الله جزاء لهما جميعا ومعناه: إنا نجازيهم على أعمالهم يوم القيامة سواء عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا. ثم سلاه بحال الأنبياء السابقة ليقتدي بهم في الصبر والتماسك فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا الآية. ذهب بعض المفسرين إلى أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا.
وقيل: ثمانية آلاف، نصف ذلك من بني إسرائيل والباقي من سائر الناس. ولعل الأصح أن عددهم لا يعلمه الا الله لقوله تعالى أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ [إبراهيم: ٩] لكن الإيمان بالجميع واجب.
عن علي رضى الله عنه: بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته.
ثم إن قريشا كانوا يقترحون آيات تعنتا كما مر في أواخر «سبحان» وأول «الفرقان» وغيرهما فلا جرم قال الله تعالى وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بعذاب الدنيا أو بالقيامة. وقال ابن بحر:
أمر الله الآية التي اقترحوها وذلك أنه يقع الاضطرار عندها وَخَسِرَ هُنالِكَ أي في ذلك الوقت استعير المكان للزمان الْمُبْطِلُونَ وهم أهل الأديان الباطلة. ثم عاد إلى نوع آخر من دلائل التوحيد قائلا اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا قال جار الله: ظاهر النظم يقتضي إدخال لام الغرض في القرائن الأربع أو خلو الكل عنها فيقال: لتركبوا ولتأكلوا ولتصلوا إلى منافع ولتبلغوا. أو يقال: منها تركبون ومنها تأكلون وتصلون وتبلغون إلا أنه ورد على ما ورد لأن الركوب قد يجب كما في الحج والغزو، وكذلك السفر من بلد إلى بلد لهجرة أو طلب علم لا أقل من الندب فصح أن يكونا غرضين. وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا تتعلق به إرادته كثير تعلق شرعا. وإنما قال عَلَى الْفُلْكِ ولم يقل «وفي الفلك» مع صحته إذ هي كالوعاء إزدواجا لقوله عَلَيْها
[المؤمنون: ٢٢] والحمل محمول على الظاهر. وقيل: هو من قول العرب: حملت فلانا على الفرس إذا وهب له فرسا. ثم وبخهم بقوله يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ.
ثم حرضهم وزاد توبيخهم بقوله أَفَلَمْ يَسِيرُوا الآية. وقد سبق. وقوله فَما أَغْنى عَنْهُمْ «ما» نافية أو استفهامية ومحلها النصب. وقوله ما كانُوا مصدرية أو موصولة أي كسبهم أو الذي كسبوا. قوله فَرِحُوا لا يخلو إما أن يكون الضمير عائدا إلى الكفار أو إلى الرسل. وعلى الأول فيه وجوه منها: أنه تهكم بعلمهم الذي يزعمون كقولهم وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الكهف: ٣٦] اإذا كنا ترابا وعظاما اانا لفي خلق جديد [ق: ٤] ومنها أنه أراد بذلك شبهات الدهرية وبعض الفلاسفة كقولهم وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤] وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وحقروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم
44
كما يحكى عن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام فقيل له: لو هاجرت إليه؟ فقال: نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا. ويروى أن جالينوس قال لعيسى عليه السلام:
بعثت لغيرنا. ومنها أن يراد علمهم بظاهر المعاش كقوله يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: ٧] وذلك مبلغهم من العلم فرحوا به وأعرضوا عن علم الديانات. وعلى الثاني يكون معناه أن الرسل لما رأوا جهل قومهم وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم. ووجه آخر وهو أن يكون ضمير فَرِحُوا للكفار وضمير عِنْدَهُمْ للرسل أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء. ثم بين أن إيمان البأس وهو حالة عيان العذاب أو أمارات نزول سلطان الموت غير نافع وقد مر مرارا. ومعنى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ لم يصح ولم يستقم لأن الإلجاء ينافي التكليف. وترادف الفاءات في قوله فَما أَغْنى فَلَمَّا جاءَتْهُمْ فَلَمَّا رَأَوْا فَلَمْ يَكُ لترتيب الأخبار ولتعاقب المعاني من غير تراخ. وقال جار الله: فما أغنى نتيجة قوله كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وقوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ جار مجرى البيان والتفسير لقوله فلما أغنى وقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا تابع لقوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ كأنه قال: فكفروا كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا آمنوا وكذلك فَلَمْ يَكُ تابع لإيمانهم بعد البأس. قال أهل البرهان: وإنما قال هاهنا وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ وفيما قبل الْمُبْطِلُونَ لأنه قال هناك قُضِيَ بِالْحَقِّ ونقيض الحق الباطل، وهاهنا ذكر أن إيمان البأس غير مجد ونقيضه الكفر والله أعلم.
45
Icon