ﰡ
(مكية حروفها ألف وستة وخمسون آياتها اثنتان وخمسون وكلمها أربعمائة وثمانون)
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١ الى ٥٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩)
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤)
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
القراآت
وَما أَدْراكَ بالإمالة حيث كان: حمزة وخلف والخراز عن هبيرة،
الوقوف:
الْحَاقَّةُ هـ لا لأن ما بعده خبرها مَا الْحَاقَّةُ هـ لا لاحتمال الواو بعده الحال والاستئناف الْحَاقَّةُ هـ م بِالْقارِعَةِ هـ بِالطَّاغِيَةِ هـ ط عاتِيَةٍ ط أَيَّامٍ لا لأن حُسُوماً صفة الثمانية صَرْعى لا لأن ما بعده صفة خاوِيَةٍ هـ ج للاستفهام مع الفاء باقِيَةٍ ط بِالْخاطِئَةِ هـ رابِيَةً هـ الْجارِيَةِ هـ ج واعِيَةٌ
هـ واحِدَةٌ هـ لا واحِدَةً هـ ط الْواقِعَةُ هـ لا للعطف واهِيَةٌ هـ لا لذلك رجاءها ط لاختلاف النظم ثَمانِيَةٌ ط خافِيَةٌ هـ كِتابِيَهْ هـ ج حِسابِيَهْ هـ ج راضِيَةٍ هـ لا عالِيَةٍ هـ لا دانِيَةٌ هـ الْخالِيَةِ هـ كِتابِيَهْ هـ ج حِسابِيَهْ هـ ج الْقاضِيَةَ هـ ج مالِيَهْ هـ كلها جائزات وتفصيلا بين الندامات مع اتحاد المقولات سُلْطانِيَهْ هـ فَغُلُّوهُ ط للعطف صَلُّوهُ هـ لا لذلك فَاسْلُكُوهُ هـ ط الْعَظِيمِ هـ لا الْمِسْكِينِ هـ ط حَمِيمٌ هـ غِسْلِينٍ هـ لا الْخاطِؤُنَ هـ تُبْصِرُونَ هـ لا وَما لا تُبْصِرُونَ هـ لا كَرِيمٍ هـ لا شاعِرٍ ط تُؤْمِنُونَ هـ كاهِنٍ ط تَذَكَّرُونَ هـ أي هو تنزيل الْعالَمِينَ هـ بِالْيَمِينِ هـ لا الْوَتِينَ هـ والوصل أجوز لدخول الفاء واتحاد الكلام حاجِزِينَ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ مُكَذِّبِينَ هـ لا الْكافِرِينَ هـ الْيَقِينِ هـ الْعَظِيمِ هـ
التفسير:
الْحَاقَّةُ وهي القيامة بالاتفاق إلا أنهم اختلفوا في سبب التسمية فقال أبو مسلم: هي الفاعلة من حقت كلمة ربك أي الساعة واجبة الوقوع لا ريب في مجيئها، وقريب منه قول الليث أنها النازلة التي حقت فلا كاذبة لها. وقيل: إنها التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من قولك لا أحق هذا أي لا أعرف حقيقته، جعل الفعل لها وهو لأهلها. وقيل: هي التي يوجد فيها حواق الأمور وهي الواجبة الحصول من الثواب والعقاب وغيرهما من أحوال القيامة. وهذا الوجه والذي تقدمه يشتركان في الإسناد المجازي إلا أن الفاعل في الأول بمعنى المفعول والثاني على أصله، وقريب منه قول
عتت على خزانها كما
جاء في الحديث «ما أرسل الله من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال إلا يوم نوح ويوم عاد، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان والريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل.»
وقيل: العاتية من عتا النبت أي بلغ منتهاه وجف قال تعالى وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم: ٨] أي ريح بالغة منتهاها في الشدة والقوة
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً. ولا ريب أن عذاب الآخرة أشد وكان عقابهم ينمو ويزيد إلى حد ليس فوقه عذاب. قال الواحدي: الوجه في قوله رَسُولَ رَبِّهِمْ أن يكون رسول الأمم الماضية كلهم أعني موسى ولوطا وغيرهما من رسل من تقدم فرعون كقوله نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الشعراء: ١٦] ولو جعل عبارة عن موسى عليه السلام لزم التخصيص من غير مخصص. ثم ذكر قصة بعض من تقدم فرعون فقال إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ وطغيان الماء كعتو الريح وقد سبق في عدة سور. ومعنى حَمَلْناكُمْ حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم فِي الْجارِيَةِ في السفينة وهي سفينة نوح لِنَجْعَلَها
قال الفراء: أي الجارية لأنها المذكور.
والأظهر عوده إلى الواقعة والحالة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين فإنها هي التذكرة والعبرة ولقوله وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
من شأنها حفظ كل ما تسمع لتعمل به. قال أهل اللغة:
والشر أخبث ما أوعيت من زاد قال جار الله: إنما قيل أُذُنٌ واعِيَةٌ
على التوحيد والتنكير للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت فهي عند الله بمكان وما سواها لا يلتفت إليه وإن ملأ العالم.
عن النبي ﷺ أنه قال لعلي رضي الله عنه عند نزول هذه الآية: سألت الله يجعلها أذنك يا علي. قال علي رضي الله عنه: فما نسيت شيئا بعد ذلك وما كان لي أن أنسى.
وحين فرغ من بيان القدرة والحكمة عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو حديث الحاقة، والنفخة الواحدة عن ابن عباس أنها الأولى التي عندها خراب العالم، وفي رواية عنه أنها الثانية لقوله بعد ذلك يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ والعرض عند الثانية. ولناصر الرواية الأولى أن يقول: اليوم اسم للحين الواسع الذي يقع فيه النفخات والصعقة والنشور والوقوف والحساب كما تقول «جئته عام كذا» وإنما جئت في وقت واحد من أوقاتها. قوله واحِدَةٌ صفة مؤكدة قوله وَحُمِلَتِ أي رفعت من جهاتها بريح شديدة أو بملك أو بقدرة الله من غير واسطة. والضمير في فَدُكَّتا لجماعتي الأرض والجبال والمراد أن هاتين الجملتين يضرب بعضها ببعض حتى يندك ويرجع كثيبا مهيلا منثورا. والدك أبلغ من الدق.
وقيل: فبسطتا بسطة واحدة فصارتا قاعا صفصفا من قولك «اندك السنام» إذا افترش «وبعير أدك» «وناقة دكاء». قوله فَيَوْمَئِذٍ جواب فَإِذا نُفِخَ والواقعة النازلة وهي القيامة واهِيَةٌ مسترخية بعد أن كانت مستمسكة وَالْمَلَكُ جنس ولهذا كان أعم من الملائكة لشموله الواحد والاثنين دونها. والأرجاء الجوانب جمع رجا مقصورا. والمعنى أن السماء إذا انشقت عدلت الملائكة عن مواضع الشق إلى جوانب السماء.
سؤال: الملائكة يموتون في الصعقة الأولى فكيف يقفون على أرجاء السماء؟ الجواب أنهم يقفون لحظة ثم يموتون أو هم المستثنون بقوله إلا ما شاء الله، والضمير في فَوْقَهُمْ عائد إلى الملك على المعنى لأن التقدير الخلق الذي يقال له الملك، والمقصود التمييز بينهم وبين الملائكة الذين هم حملة العرش، وقال مقاتل: الضمير للحملة أي فوق رؤسهم والإضمار قبل الذكر جائز لأنه بعده حكما كقوله «في بيته يؤتى الحكم» وعن الحسن: لا أدري ثمانية أشخاص أو ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف. وعن الضحاك: ثمانية صفوف ولا يعلم عددهم إلا الله. قال المفسرون: الحمل على الأشخاص أولى لأن هذا أقل ما يصدق
روي عن رسول الله ﷺ «اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى»
وروي «ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤسهم وهم مطرقون يسبحون»
وقيل: بعضهم على صورة الإنسان، وبعضهم على صورة الأسد، وبعضهم على صورة الثور، وبعضهم على صورة النسر.
وروي «ثمانية أملاك في خلق الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما» «١»
وعن شهر بن حوشب: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.
وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك. ولولا هذه الروايات لجاز أن يكون الثمانية من الروح أو من خلق آخر. قالت المشبهة: لو لم يكن الله على العرش لم يكن لحمله فائدة وأكدوا شبهتهم بقوله يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ للمحاسبة والمساءلة فلو لم يكن الإله حاضرا لم يكن للعرض معنى. وأجيب بأن الدليل على أن حمل الإله محال ثابت فلا بد من التأويل وهو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفونه فخلق لنفسه بيتا يزورونه ليس ليسكن فيه، وجعل في ذلك البيت حجرا هو يمينه في الأرض إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم، وجعل على العباد حفظة لا لأن النسيان يجوز عليه بل لأنه المتعارف. فكذلك لما كان من شأن الملك إذا أراد محاسبة عماله أن يجلس لهم على سرير ويقف الأعوان حواليه صور الله تعالى تلك الصورة المهيبة لا لأنّه يقعد على السرير.
روي أن في القيامة ثلاث عرضات. فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب.
قوله لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلا وقيل: أراد لا يخفى منكم يوم القيامة ما كان مخفيا في الدنيا على غير الله وذلك ليتكامل سرور المؤمنين ويعظم توبيخ المذنبين. ثم أخذ في تفصيل عرض الكتب. «وهاء» صوت بصوت به فيفهم منه «خذ» وله لغات واستعمالات مذكورة في اللغة منها ما ورد به الكتاب الكريم وهو «هاء» مثل باع للواحد المذكور «وهاؤما» بضم الهمزة وإلحاق الميم بعدها ألف للتثنية. هاؤُمُ بضم الهمزة بعده ميم ساكنة لجمع المذكر. «هاء» بالكسر للمؤنثة «هاؤن» لجمعها كِتابِيَهْ مفعول هاؤُمُ عند الكوفيين واقْرَؤُا عند البصريين لأنه أقرب أصله هاؤم كتابي اقرأوا كتابي فحذف لدلالة الثاني عليه. قال البصريون: ولو كان العامل الأول لقيل اقرأه إذ المختار إضمار المفعول ليكون دليلا على المحذوف. وأجاب الكوفيون بأن
رواه أبو داود في السنّة باب ١٨. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣ أحمد في مسنده (١/ ٢٠٦) بلفظ «.... ما بين أظلافها إلى ركبها كما بين السماء والأرض... ».
وفي قوله إِنِّي ظَنَنْتُ وجوه كما مر في قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: ٤٦] ومما يختص بالمقام قول بعضهم أنه أراد الظن في الدنيا لأن أهل الدنيا لا يوقنون بنيل الدرجات، وفي هذا الوجه نظر لأنهم كانوا غير قاطعين بالجنة إلا أنهم يجب أن يقطعوا بالحساب والجزاء.
وعن أبي هريرة أنه ﷺ قال إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى بكتابه فتكتب حسناته في ظهر كفه وتكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له: اقلب كفك فيرى حسناته فيفرح
ثم يقول هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ عند النظر الأولى أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ على سبيل الشدة، وأما الآن فقد فرج الله عني ذلك الغم، وأما في حق الأشقياء فيكون ذلك على الضد مما ذكرنا. ثم بين عاقبة أمره قائلا فَهُوَ فِي عِيشَةٍ فعلة من العيش للنوع راضِيَةٍ منسوبة إلى الرضا كالدارع والنابل للمنسوب إلى الدرع والنبل، وهذا من النسبة بالصيغة كما أن قولك «بصري» أو «هاشمي» من النسبة بالحروف، ويجوز أن يكون من الإسناد المجازي كقولك «نهاره صائم» جعل الصوم للنهار وهو لصاحبه كذلك هاهنا جعل الرضا للعيشة وهو لصاحبها فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ درجاتها لأنها فوق السموات على تفاوت الطبقات أو في جنة رفيعة المباني والقصور والأشجار قُطُوفُها دانِيَةٌ ثمارها قريبة التناول. والقطوف جمع قطف بالكسر وهو المقطوف كالطحن بمعنى المطحون.
يروى أن ثمارها يقرب تناولها للقائم والجالس والمضطجع وإن أحب أن تدنو دنت كُلُوا على إرادة القول وهَنِيئاً مصدر أو صفة كما مر في «الطور». جمع الخطاب في كُلُوا مع أنه وحد الضمير في قوله أُوتِيَ وغيره حملا على لفظ من ثم على معناه. والغرض من هذا الأمر التوقير والعرض لا التكليف. ومن قال بالإباحة ليس بتكليف فلا إشكال.
وقوله بِما أَسْلَفْتُمْ كقوله في «الطور» بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الآية: ١٩] والإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالافتراض ومنه يقال «أسلف في كذا» إذا قدم فيه ماله. والمعنى بسبب ما عملتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا الماضية. وعن مجاهد والكلبي: هي أيام الصيام فيكون الأكل والشرب في الجنة بدل الإمساك عنهما في الدنيا. ثم أخذ في قصة الأشقياء. وإنما تمنى أنه لم يدر أي شيء حسابه لأنه كله عليه لا يعود منه إليه سوى الضر. والضمير في يا لَيْتَها عائد إلى الموتة الأولى يدل عليها سياق الكلام. ولعل
وقال مقاتل: إنما يقول هذا حين شهدت عليه الجوارح بالشرك. يحكى عن عضد الدولة أنه قال قصيدة مطلعها هذا البيت:
ليس شرب الكأس إلا في المطر... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى... ناعمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها... ملك الأملاك غلاب القدر
يروى بضم القاف جمع القدرة وبفتحها وهو ما قدر الله على عباده وقضى. ولا ريب أن المصراع الأخير فيه سوء الأدب والجراءة على الله من وجهين: أحدهما أنه سمى نفسه ملك الأملاك ولا يصلح هذا الاسم إلا لله سبحانه ولهذا
جاء في الحديث «أفظع الأسماء عند الله رجل تسمى ملك الأملاك» «١»
ويقال لها بالفارسية شاهنشاه والثاني أنه زعم الغلبة على القدر وهذا أيضا من أوصاف الله جل وعلا لا يصلح لغيره. وإن زعم أنه قال ذلك بالنسبة إلى ملوك دونه فذلك قيد لا يدل عليه الإطلاق فسوء الأدب باق فمن هاهنا روي أن الله تعالى ابتلاه عقيب ذلك بالجهل وفساد الذهن وخور القوى، وكان لا ينطلق لسانه إلا بتلاوة ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ خُذُوهُ على إرادة القول أي يقال لهم خذوه أيها الخزنة يروى أنهم مائة ألف ملك تجمع يده إلى عنقه. والتصلية في الجحيم وهي النار العظمى، إشارة إلى أنه كان سلطانا يتعظم على الناس. والسلسلة حلق منتظمة كل حلقة
رواه البخاري في كتاب الأدب باب ١١٤. مسلم في كتاب الأدب حديث ٢٠، ٢١. أبو داود في كتاب الأدب باب ٦٢. الترمذي في كتاب الأدب باب ٦٥. أحمد في مسنده (٢/ ٢٤٤، ٣١٥) بلفظ «أخنع الأسماء... ».
وقوله سَبْعُونَ ذِراعاً يجوز أن يكون محمولا على الظاهر وأن يراد المبالغة على عادة العرب. وتقديم الجحيم على التصلية والسلسلة على السلك للحصر أي لا تصلوه إلا في الجحيم ولا تسلكوه إلا في هذه السلسلة الطويلة لأنها إذا طالت كانت الكلفة أشد.
قالوا: كل ذراع سبعون باعا أبعد مما بين مكة والكوفة. قال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هو قال ابن عباس: تدخل السلسلة في دبره وتخرج من حلقه ثم يجمع بين ناصيته وقدميه قال الكلبي: كما يسلك الخيط في اللؤلؤ يجعل في عنقه سلوكها. عن بعضهم أن جمعا من الكفار يقرن في هذه السلسلة الطويلة ليكون العذاب عليهم أشد وإنما لم يقل فاسلكوا السلسلة فيه لأنه أراد أن السلسلة تكون ملتفة على جسده بحيث لا يقدر على حركة. وقيل:
هو كقولهم «أدخلت القلنسوة في رأسي» او «الخاتم في أصبعي». ومعنى «ثم» التراخي في الرتبة. ثم ذكر سبب هذا الوعيد الشديد وهو عدم الإيمان بالله العظيم وعدم بذل المال للمساكين ولعل الأول إشارة إلى فساد القوة النظرية، والثاني إلى فساد القوة العملية. قال جار الله: وعطف حرمان المساكين على الكفر تغليظ، وفي ذكر الحض دون الفعل تغليظ دون تغليظ ليعلم أن ترك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل؟ وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلا نخلع نصفها الآخر إلا بالإطعام. والطعام اسم بمعنى الإطعام كالعطاء اسم بمعنى الإعطاء.
وفي الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع. والحميم القريب النافع وقوله هاهُنا إشارة إلى مكان عذابهم أو إلى مقام الوصول إلى هذا الحد من العذاب. يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين فقال: لا أدري. وقال الكلبي: هو ما يسأل من أهل النار. فغسلين من الغسالة والطعام ما يهيأ للأكل. ويجوز أن يكون إطلاق الطعام عليه من باب التهكم أو مثل عقابك السيف. قال ابن عباس: الخاطئون في الآية هم المشركون. ثم عظم شأن القرآن بالإقسام بكل الأشياء لأنها إما مبصر أو غير مبصر. وقيل: الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة. والأكثرون على أن الرسول الكريم هاهنا هو محمد ﷺ لأنه ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن، والقوم ما كانوا يصفون جبرائيل بالشعر والكهانة وإنما يصفون محمدا ﷺ وأما في سورة التكوير فالأكثرون على أنه جبرائيل عليه السلام لأن الأوصاف التي بعده تناسبه كما يجيء. وفي ذكر الرسول إشارة إلى أن هذا القرآن ليس قوله من تلقاء نفسه وإنما هو قوله المؤدي عن الله
وقال مقاتل: اليمين الحق كقوله إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات: ٢٨] أي من قبل الحق. والمعنى منعناه بواسطة إقامة الحجة وقضينا له من يعارضه فيه فيظهر للناس كذبه فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ أي عن الرسول أو عن القتل، والخطاب للناس وأحد في معنى الجمع لأنه في سياق النفي فلذلك قال حاجِزِينَ أي مانعين. وحين بين أن القرآن تنزيل من عند الله بواسطة جبرائيل على محمد الذي صفته أنه ليس بشاعر ولا كذاب، بين أن