ﰡ
مكية، وآياتها ٥٢ [نزلت بعد الملك] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨)
الْحَاقَّةُ الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء، التي هي آتية لا ريب فيها. أو التي فيها حواق الأمور من الحساب والثواب والعقاب. أو التي تحق فيها الأمور، أى: تعرف على الحقيقة، من قولك لا أحق هذا، أى: لا أعرف حقيقته. جعل الفعل لها وهو لأهلها وارتفاعها على الابتداء وخبرها مَا الْحَاقَّةُ والأصل: الحاقة ما هي، أى أىّ شيء هي تفخيما لشأنها وتعظيما لهو لها، فوضع الظاهر موضع المضمر، لأنه أهول لها وَما أَدْراكَ وأىّ شيء أعلمك ما الحاقة، يعنى: أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها، على أنه من العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد ولا وهمه، وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك، وما في موضع الرفع على الابتداء. وأَدْراكَ معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام. بِالْقارِعَةِ التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال، والسماء بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار. ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع. في الحاقة: زيادة في وصف شدتها، ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب، تذكيرا لأهل مكة وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم بِالطَّاغِيَةِ بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة. واختلف فيها،
وقيل: الطاغية مصدر كالعافية، أى: بطغيانهم، وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله بِرِيحٍ صَرْصَرٍ والصرصر: الشديدة الصوت لها صرصرة. وقيل: الباردة من الصر، كأنها التي كرر فيها البرد وكثر: فهي تحرق لشدة بردها عاتِيَةٍ شديدة العصف والعتوّ استعارة.
أو عتت على عاد، فما قدروا على ردّها بحيلة، من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء في حفرة، فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم. وقيل: عتت على خزانها، فخرجت بلا كيل ولا وزن: وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أرسل الله سفينة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح، فإنّ الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه السبيل، ثم قرأ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ «١» ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها. الحسوم: لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشهود وقعود. أو مصدرا كالشكور والكفور، فإن كان جمعا فمعنى قوله حُسُوماً نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة.
أو متتابعة هبوب الرياح: ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء، كرة بعد أخرى حتى ينحسم. وإن كان مصدرا: فإما أن ينتصب بفعله مضمرا، أى: تحسم حسوما، بمعنى تستأصل استئصالا. أو يكون صفة كقولك: ذات حسوم.
أو يكون مفعولا له، أى: سخرها عليهم للاستئصال. وقال عبد العزيز ابن زرارة الكلابي:
ففرّق بين بينهم زمان | تتابع فيه أعوام حسوم «٢» |
وقيل: هي أيام العجز، وهي آخر الشتاء وأسماؤها: الصن والصنبر، والوبر. والآمر،
(٢). لعبد العزيز بن زرارة الكلابي، وأصل الكلام: ففرق بينهم زمان، فبينهم ظرف للتفريق، إلا أنه أراد المبالغة بجعل التفريق بين أجزاء هذا الظرف أيضا، فقال: ففرق بين بينهم زمان، وإذا فرق بين الظرف فقد فرق بين أصحابه بالضرورة، فهو من باب الكناية. ويمكن أن بين الثاني كناية عن الوصلة التي بينهم، ولعل أصله: ففرق بين ذات بينهم، وبين سبب تفريق الزمان بينهم بوصفه بأنه تتابع فيه أعوام حسوم، من الحسم:
وهو القطع، والكي بالنار مرة بعد أخرى حتى ينقطع الدم. وظاهر كلام الجوهري أنه مفرد، لأنه قال: أيام حسوم، أى: مستأصلة. والحسوم: الشؤم. ويجوز أنه جمع حاسم كراكع وركوع، وساجد وسجود، أى: حاسمات وقاطعات لأبواب الخيرات.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠)
وَمَنْ قَبْلَهُ يريد: ومن عنده من تباعه. وقرئ: ومن قبله، أى: ومن تقدمه. وتعضد الأولى قراءة عبد الله وأبى: ومن معه. وقراءة أبى موسى: ومن تلقاءه وَالْمُؤْتَفِكاتُ قرى قوم لوط بِالْخاطِئَةِ بالخطإ، أو بالفعلة، أو الأفعال ذات الخطإ العظيم رابِيَةً شديدة زائدة في الشدة، كما زادت قبائحهم في القبح. يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١١ الى ١٢]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢)
حَمَلْناكُمْ حملنا آباءكم فِي الْجارِيَةِ في سفينة، لأنهم إذا كانوا من نسل المحمولين الناجين، كان حمل آبائهم منة عليهم، وكأنهم هم المحمولون، لأن نجاتهم سبب ولادتهم لِنَجْعَلَها
الضمير للفعلة: وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة تَذْكِرَةً
عظة وعبرة أُذُنٌ واعِيَةٌ
من شأنها أن تعى وتحفظ ما سمعت به ولا تضيعه بترك العمل، وكل ما حفظته في نفسك فقد وعيته «٢» وما حفظته في غير نفسك فقد أوعيته كقولك: وعيت الشيء في الظرف. وعن النبي ﷺ أنه قال لعلىّ رضى الله عنه عند نزول هذه الآية «سألت الله أن يجعلها أذنك يا علىّ» قال علىّ رضى الله عنه: فما نسيت شيئا بعد وما كان لي أن أنسى «٣». فإن قلت: لم قيل: أذن واعية، على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم بالة وإن ملئوا ما بين الخافقين. وقرئ: وتعيها بسكون العين للتخفيف: شبه تعى بكبد.
(٢). قال محمود: «يقال وعيته أى حفظته في نفسك... الخ» قال أحمد: هو مثل قوله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وقد ذكر أن فائدة التنكير والتوحيد فيه الاشعار قلة الناظرين.
(٣). أخرجه سعيد بن منصور والطبري من رواية مكحول به مرسلا بتمامه نحوه. وأخرجه الثعلبي من طريق أبى حمزة الثمالي حدثني عبد الله بن حسن قال: حين نزلت فذكره بلفظ المصنف.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٣ الى ١٨]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨)
أسند الفعل إلى المصدر، وحسن تذكيره للفصل. وقرأ أبو السمال نفخة واحدة بالنصب مسندا للفعل إلى الجار والمجرور. فإن قلت: هما نفختان، فلم قيل: واحدة «١» ؟ قلت معناه أنها لا تثنى في وقتها. فإن قلت: فأى النفختين هي؟ قلت الأولى لأن عندها فساد العالم، وهكذا الرواية عن ابن عباس. وقد روى عنه أنها الثانية. فإن قلت: أما قال بعد يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ والعرض إنما هو عند النفخة الثانية؟ قلت: جعل اليوم اسما للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والوقوف والحساب، فلذلك قيل يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ كما تقول:
جئته عام كذا، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته وَحُمِلَتِ ورفعت من جهاتها بريح بلغت من قوّة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال. أو بخلق من الملائكة. أو بقدرة الله من غير سبب. وقرئ: وحملت، بحذف المحمل وهو أحد الثلاثة فَدُكَّتا فدكت الجملتان:
جملة الأرضين وجملة الجبال، فضرب بعضها ببعض حتى تندقّ وترجع كثيبا مهيلا وهباء منبثا. والدك أبلغ من الدق. وقيل: فبسطتا بسطة واحدة، فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، من قولك: اندكّ السنام إذا انفرش. وبعير أدك وناقة دكاء. ومنه: الدكان فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ فحينئذ نزلت النازلة وهي القيامة واهِيَةٌ مسترخية ساقطة القوّة جدّا بعد ما كانت محكمة مستمسكة. يريد: والخلق الذي يقال له الملك، وردّ إليه الضمير مجموعا في قوله فَوْقَهُمْ على المعنى: فإن قلت: ما الفرق بين قوله وَالْمَلَكُ، وبين أن يقال والملائكة؟
قلت: الملك أعمّ من الملائكة، ألا ترى أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد، أعم من قولك: ما من ملائكة عَلى أَرْجائِها على جوانبها: الواحد رجا مقصور، يعنى: أنها تنشق، وهي مسكن الملائكة، فينضوون «٢» إلى أطرافها وما حولها من حافاتها «٣» ثَمانِيَةٌ أى: ثمانية
(٢). قوله «فينضوون إلى أطرافها» في الصحاح ضويت إليه: أويت إليه وانضممت. (ع)
(٣). قال محمود: «أى على حافتها لأنها تنشق تنضوى الملائكة الذين هي سكانها إلى أذيالها... الخ» قال أحمد: كلاهما معرف تعريف الجنس، فالواحد والجمع سواء في العموم.
سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. وعن الحسن: الله أعلم كم هم، أثمانية أم ثمانية آلاف؟ وعن الضحاك: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله. ويجوز أن تكون الثمانية من الروح، أو من خلق آخر، فهو القادر على كل خلق، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. العرض: عبارة عن المحاسبة والمساءلة.
شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله. وروى أنّ في يوم القيامة ثلاثة عرضات، فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله خافِيَةٌ سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا بستر الله عليكم.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)
فَأَمَّا تفصيل للعرض. ها: صوت يصوت به فيفهم منه معنى «خذ» كأف وحس، وما أشبه ذلك «٢». وكِتابِيَهْ منصوب بهاؤم عند الكوفيين، وعند البصريين باقرءوا، لأنه أقرب العاملين. وأصله: هاؤم كتابي اقرؤا كتابي، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه.
ونظيره آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً قالوا: ولو كان العامل الأوّل لقيل: اقرؤه وأفرغه. والهاء للسكت في كِتابِيَهْ، وكذلك في حِسابِيَهْ ومالِيَهْ وسُلْطانِيَهْ وحق هذه الهاءات أن
رواه أبو يعلى وغيره وقد تقدم.
(٢). قوله «كأف وحس، وما أشبه ذلك» يفهم من كل منهما معنى التضجر والتألم، كما يفيده الصحاح. (ع)
وقيل: لا بأس بالوصل والإسقاط. وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغير هاء. وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعا لاتباع المصحف ظَنَنْتُ علمت. وإنما أجرى الظن مجرى العلم، لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام. ويقال: أظن ظنا كاليقين أنّ الأمر كيت وكيت راضِيَةٍ منسوبة إلى الرضا، كالدارع والنابل. والنسبة نسبتان:
نسبة بالحرف، ونسبة بالصيغة. أو جعل الفعل لها مجازا وهو لصاحبها عالِيَةٍ مرتفعة المكان في السماء. أو رفيعة الدرجات. أو رفيعة المبانى والقصور والأشجار دانِيَةٌ ينالها القاعد والنائم. يقال لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً «٢» أكلا وشربا هنيئا. أو هنيتم هنيئا على المصدر بِما أَسْلَفْتُمْ بما قدمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية من أيام الدنيا.
وعن مجاهد: أيام الصيام، أى: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله.
وروى. يقول الله عز وجل: يا أوليائى طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩)
الضمير في يا لَيْتَها للموتة: يقول: يا ليت الموتة التي متها كانَتِ الْقاضِيَةَ أى القاطعة
(٢). قوله «كلوا واشربوا هنيئا» في الصحاح: هنؤ الطعام وهنيء، أى: صار هنيئا. وهنأنى الطعام يهنئني ويهنؤنى، ولا نظير له في المهموز هنأ وهناء. وهنئت الطعام، أى: تهنأت به، وكلوه هنيئا مريئا. (ع)
أنها نزلت في الأسود بن عبد الأشد. وعن فناخسرة الملقب بالعضد، أنه لما قال:
عضد الدّولة وابن ركنها | ملك الأملاك غلّاب القدر «١» |
ومعناه: بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٧]
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧)
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثم لا تصلوه إلا الجحيم، وهي النار العظمى، لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس. يقال: صلى النار وصلاه النار. سلكه في السلسلة: أن تلوى على جسده حتى تلتف
ليس شرب الكأس إلا في المطر | وغناء من جوار في سحر |
غانيات سالبات النهى | ناعمات في تضاعيف الوتر |
مبردات الكأس من مطلعها | ساقيات الكأس من فاق البشر |
عضد الدولة وابن ركنها | ملك الأملاك غلاب القدر |
محسنات لأصواتهن في أثناء صوت الوتر، وهو الخيط المشدود في آلة اللهو. والراح: الخمر. وعضد الدولة:
بدل من الموصول المفعول بساقيات. والعضد في الأصل: استعارة للممدوح لأن به قوتها. كالعضد للإنسان.
والركن كذلك استعارة لأبيه يجامع التقوية أيضا، وهو أقرب من تشبيه الدولة بالإنسان تارة وبالبناء أخرى، على طريق المكنية، ولكنهما الآن لقبان للممدوح وأبيه، وذكر الضمير وإعادته على الدولة مع أنها جزء العلم في المحلين للمح الأصل كالاستعارة. والقدر: ما قدره الله وقضاه. وفي وصف ممدوحه بأنه غلاب القدر من فجور النساء ما لا يخفى، ولذلك روى أنه جن وحبس لسانه حتى مات: وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أغيظ الناس رجلا على الله يوم القيامة وأخبثهم: رجل تسمى ملك الأملاك، ولا ملك إلا الله».
ما له يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بذلك. وفي قوله وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين، أحدهما: عطفه على الكفر، وجعله قرينة له. والثاني: ذكر الحض دون الفعل، ليعلم أنّ تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بتارك الفعل، وما أحسن قول القائل:
إذا نزل الأضياف كان عذوّرا | على الحىّ حتّى تستقلّ مراجله «١» |
تركنا فتى قد أيقن الجوع أنه | إذا ما ثوى في أرحل القوم قاتله |
فتى قد قد السيف لا متضائل | ولا رهل لباته وأباجله |
إذا نزل الأضياف كان عذورا | على الحي حتى تستقل مراجله |
(٢). قوله «وتشاكس عليهم» في الصحاح: رجل شكس، أى: صعب الخلق. (ع) [.....]
ما الخاطون؟ إنما هو الخاطئون، ما الصابون؟ إنما هو الصابئون: ويجوز أن يراد: الذين يتخطون الحق إلى الباطل، ويتعدّون حدود الله.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٣]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣)
هو إقسام بالأشياء كلها على الشمول والإحاطة، لأنها لا تخرج من قسمين: مبصر وغير مبصر. وقيل: الدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجنّ، والخلق والخالق، والنعم الظاهرة والباطنة، إن هذا القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أى يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ ولا كاهن كما تدعون والقلة في معنى العدم. أى: لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتة. والمعنى: ما أكفركم وما أغفلكم تَنْزِيلٌ هو تنزيل، بيانا لأنه قول رسول نزل عليه مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وقرأ أبو السمال: تنزيلا، أى: نزل تنزيلا. وقيل «الرسول الكريم» جبريل عليه السلام، وقوله وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ دليل على أنه محمد ﷺ لأنّ المعنى على إثبات أنه رسول، لا شاعر ولا كاهن.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٤٤ الى ٥٢]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
ولو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام، فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول: وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته.
وخص اليمين عن اليسار لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه.
ومعنى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لأخذنا بيمينه، كما أن قوله لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ لقطعنا وتينه، وهذا بين. والوتين: نياط القلب وهو حبل الوريد: إذا قطع مات صاحبه. وقرئ: ولو تقول على البناء للمفعول. قيل حاجِزِينَ في وصف أحد، لأنه في معنى الجماعة، وهو اسم يقع في النفي العام مستويا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. ومنه قوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ والضمير في عنه للقتل، أى: لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه. أو لرسول الله، أى: لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه، والخطاب للناس، وكذلك في قوله تعالى وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وهو إيعاد على التكذيب. وقيل الخطاب للمسلمين. والمعنى: أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن وَإِنَّهُ الضمير للقرآن لَحَسْرَةٌ على الكافرين به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين به. أو للتكذيب، وأن القرآن اليقين حق اليقين، كقولك: هو العالم حق العالم، وجدّ العالم. والمعنى:
لعين اليقين، ومحض اليقين فَسَبِّحْ الله بذكر اسمه العظيم وهو قوله: سبحان الله، واعبده شكرا على ما أهلك له من إيحائه إليك.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حسابا يسيرا» «٢».
(٢). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.