ﰡ
مكية، وآيها إحدى وخمسون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَاقَّةُ (١) من أسماء يوم القيامة، أي: الساعة الثابتة التي لا ريب في ثبوتها، أو التي فيها ثوابت الأمور من الحساب والجزاء على الإسناد المجازي، وكذا إن فسِّرت بما يحق فيها من الأمور، وتعرف على الحقيقة.(مَا الْحَاقَّةُ (٢) ما حقيقتها؟. الجملة خبر الأول، والأصل ما هي؟ تعظيم وتهويل لها. وفي وضع المظهر مقام المضمر زيادة ومبالغة. وأكِّد ذلك بقوله:
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) أي؛ لم تحط علماً بكنهها، وكل شيء قدّرته في نفسك، فهي أفظع من ذلك. و " ما " الاستفهامية علق عنها الفعل. ولما هوّل أمرها بما لا مزيد عليه، أردفه بذكر المكذبين بها وما حلّ بهم، وادخر لهم في الآخرة؛ تحذيراً لأهل مكة.
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤) من أسمائها؛ لأنها تقرع الناس بالإفزاع والأهوال، والجبال بالدّكّ، والسماء بالانفطار، والأرض بالزلزال. وهذا تهويل آخر، حيث لم يعبّر عنها بالضمير، ولا بالمظهر المذكور.
(وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ... (٦) لأنَّ الآية من قبيل الجمع والتفريق، والحدث لا يناسب العين. (صَرْصَرٍ) شديدة الصوت، لها صرصرة في هبوبها، أو من الصّر وهو: البرد، كأنها التي كرّر فيها البرد. (عَاتِيَةٍ) على قوم عادٍ، فلم يقروا على دفعها، وعن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - عتت على خزّانها، فخرجت بغير حساب.
(سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ... (٧) سلّطها. (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ) استئناف لبيان الكمية بعد الكيف؛ ليتكامل الهول. (حُسُومًا) حاسمات كل خير، جمع حاسمٍ، كشهود جمع شاهدٍ. والحسم: إزالة أثر الشيء، ومنه الحسم للكي المستأصل للداء، أو متابعة هبوب الريح حتى استأصلتهم، كأن كلّ هبَّة كيَّة. ويجوز أن يكون مصدر الفعل مقدراً، أي: يحسم حسوماً، أي. يفرق بينهم تفريقاً شديداً لا اجتماع بعده، لكمال النحوسة. (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا) في مهابِّها ((صَرْعَى) ملقى على الأرض كالأخشاب اليابسة. قيل: كانت من صبيحة الأربعاء إلى غروب الأربعاء وسميت أيام العجوز؛ لأنَّ عجوزاً توارت في سربٍ فوجدها الريح في اليوم الثامن. وقيل: أيام العجز، وهي آخر الشتاء. وأسماؤها: الضّن، والضّبر والآمر، والمؤتمر، والمعلّل، ومطفئ الجمر. (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) أصول نخلٍ متآكلة الأجواف.
(وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ... (٩) قبل فرعون. وقرأ أبو عمرو والكسائي: قِبله بكسر القاف أي: أتباعه، والأول أبلغ وأشمل، إذ ذكر فرعون دلّ على أتباعه. (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) قرى قوم لوط، والإسناد مجاز (بِالْخَاطِئَةِ) بالخطأ، أو بالفعلة ذات الخطأ، أو بالأفعال الخاطئة. مجاز في الحكم.
(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ... (١٠) كلّ منهم رسوله (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً) شديدة لعظم جرمهم. من ربا الشيء: زاد.
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ... (١١) على الخزان يوم الطوفان، أو جاوز الحدّ. (حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) في السفينة. وذكرها باسم الجارية؛ تصوير لإظهار القدرة، إذ لم يكين لها مجرٍ ولا نوتي، بل كان باسم اللَّه مجراها ومرساها.
(لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً... (١٢) تلك الفعلة موعظة. (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) من شأنها الوعي يقال: وعيته إذا حفظته في نفسك، وأوعيته إذا حفظته في وعاءٍ آخر. والتنكر؛ للدلالة على قلة الأذن الموصوفة، وإن واحدة منها إذا وجدت كانت بمثابة السواد الأعظم. وقرأ نافع: بسكون الذال. وعن علي - رضي الله عنه - أنَّ رسول اللَّه - ﷺ - قال: " سألت اللَّه أن يجعل أذنك واعية قال: فما نسيت بعد ذلك شيئاً، وما كان لي أن أنسى ".
(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) وهي النفخة الأولى نفخة الفزع، ويعقبها نفخة الصعق، وبعدها نفخة القيام وابتداء خراب العالم.
(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) قامت القيامة.
(وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (١٦) مسترخية.
(وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا... (١٧) حبس الملك على أطرافها. جمع رجا مقصور. (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) فإنَّ الحملة اليوم أربعة، فإذا كان ذلك اليوم امتدّوا بأربعة أخرى. وقيل: ثمانية صفوف، لا يعلم عددهم إلا اللَّه. وروى أبو داود في سننه أنَّ رسول اللَّه - ﷺ - قال: " أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه سبعمائة عام ". وإذا نطق القرآن بأمر ممكن ووافقه الحديث، فلا وجه للتأويل والعدول عن الظاهر.
(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ... (١٨) العرض إنما يكون بعد النفخة الأخيرة، والكلام في النفخة الأولى، لأنَّ اليوم أريد به الزمان المتسع. روى الترمذي عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: عرضتان جدال ومعاذير، والثالثة تطير فيها الصحف ".
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ... (١٩) تفصيل للعرض، روى البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول اللَّه - ﷺ - قال: " يدني اللَّه المؤمن يوم القيامة، فيقرره بذنوبه حتى إذا رأي أنه قد هلك يقول له: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر فـ (يَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ". (فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) بقوله لكل من رآه فرحاً. و " هاؤم " جمع " هاء " بألف بعده همزة، تصرف تصريف الكاف، ومعناه: خذ، اسم فعل. تنازع " هاؤم " و " اقرؤوا " فأعمل الثاني؛ لقربه على ما اختاره البصريون، وإلا لقيل: اقرؤوه.
(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) أيقنت، وإنما عبّر عئه بالظن؛ دلالة على أن هواجس النفس وخطراتها مما لا تنفك عنه العلوم النظرية لا يقدح في الاعتقاد.
(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٢١) ذات رضاً، كلابن وتامر، فإن النسبة كما تكون في الحرف تكون بالصيغة، أو راض صاحبها، على المجاز في الإسناد.
(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) فوق السماء السابع، سقفها عرش الرحمن، أو عالية قصورها وأشجارها، بدل من عيشة، أو خبر بعد خبر.
(كُلُوا وَاشْرَبُوا... (٢٤) على تقدير القول (هَنِيئًا) أكلاً وشرباً هنيئاً، أو هنئتم هنيئاً. (بِمَا أَسْلَفْتُمْ) من الأعمال (فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) الماضية في الدنيا.
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦) لما يرى من سوء الحال. (يَا لَيْتَهَا... (٢٧) الموتة الأولى (كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) القاطعة فلم أُبعث بعدها، أو (يَا لَيْتَهَا) دامت. يرى من الشدة ما يعدّ مرارة الموت حلاوة عندها. (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) شيئاً من الأشياء، أو أيّ شيءٍ أغنى، على أنَّ " ما " استفهامية إنكاراً.
(هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩) ملكي وتسلطي على الأموال والحشم. قرأ حمزة في الوصل بدون " الهاء " في الموضعين، وهذا هو الأصل؛ لأنها هاء السكت ولا سكت في الوصل، ومن أثبتها أجرى الوصل مجرى الوقف اتباعاً للرسم.
(خُذُوهُ... (٣٠) أمرٌ من اللَّه للخزنة. (فَغُلُّوهُ) اجعلوه في الغلِّ.
(ثُمَّ الْجَحِيمَ... (٣١) وهي النار العظمى. (صَلُّوهُ) لا غيرها. يقال: صليته النار: أدخلته إياها.
(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا... (٣٢) المراد منه الكثرة كقوله: (إِنْ تَسْتَغفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً). (فَاسْلُكُوهُ) أي: لا تسلكوه إلا في السلسلة الموصوفة. ومعنى سلكه فيها: أن تُلفّ عليه مع ذلك الطول المفرط؛ مبالغة في التضييق عليه. و " ثم " في الموضعين للتفاوت بين ما دخله وما تقدّمه.
(وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فيه مبالغتان. ذكره قرين الكفر، وترك الحض دون منع الطعام؛ ليعلم من باب الأولى، وفيه إشارة إلى أنَّ شرَّ الخصال بعد الكفر البخل وقسوة القلب.
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) قريب يحميه، وقد فرَّ كل امرئ من أخيه وأبيه.
(وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) غسالة أهل النار من دم وصديد. فعلين من الغسل.
(لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧) العامدون للإثم. من الخِطأ بكسر الخاء، ومن الخَطأ بقتحها ضدّ العمد الذي ذكره الفقهاء.
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) أي: بجميع الكائنات التي هي آثار الصنع. و " لا " مزيدة. أو لا أقسم بهذه الأشياء لظهور الأمر.
(إِنَّهُ... (٤٠) إن القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) مبلغ عن اللَّه. (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ... (٤١) كما تزعمون. (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) لفرط عنادكم.
(وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) القلة في الموضعين بمعنى العدم. ولما كان عدم التباس القرآن بالشعر بيّناً؛ جعل الفاصلة عدم الإيمان عناداً، بخلاف الكهانة، فإنها تتوقف
(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) رفع لتوهم أن يكون كلام الرسول حقيقة، لإسناد القول إليه. والمراد بالرسول: محمد لا جبرائيل عليهما السلام، إذ لم ينسبوا إليه شعراً ولا كهانة. ويجوز أن يكون جبرائيل - عليه السلام -، كأنه قيل: إنه لَقول جبرائيل الرسول الكريم، وليس من تلقاء محمد كما تزعمون أنه شاعر أو كاهن. والأول أوجه.
(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) أي: لو نسب إلينا قولاً لم نقله، من التقوّل وهو: نسبة القول إلى من لم يقله تكلّفاً. وتسمى الأقوال المنقولة: أقاويل تحقيراً كالأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة. (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) أي: بيمينه.
(ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) كما يفعله الملوك بمن يكذب عليهم، وصوّر القتل في أشنع صورة، وهو أن يأخذ الجلاد بيمين المصبور ليرى السيف في يده، بخلاف ما إذا أخذه بيساره. والوتين: نياط القلب، وفي ذكره؛ إشارة إلى محلّ الجناية، كاليد للسارق، فإن اللسان ترجمان لا مؤاخذة عليه.
(فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) عن القتل أو المقتول. أحد استعمل جمعاً، والخطاب للناس كلّهم. (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) لأنّهم المنتفعون به.
(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) لما نقوله من تزكية الرسول، وكون القرآن ليس بشعر ولا كهانة.
(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) أي: إنّه اليقين حقِّ اليقين. وحاصله: عين اليقين كقولك: عين الشيء ونفسه.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢) أي: نزه بذكر اسمه العظيم الدال على تقدّسه عن إمكان التقول عليه، وشكراً لما أولاك وأوحى إليك.
تَمَّت، والحمد لمن آلاؤه جلَّت، والصلاة على من به الرسالة تَمَّت.