مكية، وهي اثنتان وخمسون آية، ومائتان وستة وخمسون كلمة، وألف وأربعة وستون حرفا.
ﰡ
«الحاقة» مبتدأ، و «ما» مبتدأ ثانٍ، و «الحاقة» خبره، والجملة خبر الأول؛ لأن معناها «ما هي» واللفظُ استفهام، ومعناها التفخيم والتعظيم لشأنها.
قال ابن الخطيب: وُضِعَ الظاهرُ موضع المضمرِ؛ لأنه أهولُ لها، ومثله ﴿القارعة مَا القارعة﴾ [القارعة: ١، ٢] وقد تقدَّم تحريرُ هذا في «الواقعةِ».
و «الحاقَّة» فيها وجهان:
أحدهما: انه وصف اسم فاعل بمعنى أنها تبدي حقائق الأشياء.
وقيل: إن الأمر يحق فيها فهي من باب «ليل نائم، ونهار صائم» قاله الطبري.
وقيل: سميت حاقة؛ لأنها تكون من غير شكٍّ لأنها حقَّت فلا كاذبة لها.
وقيل: سميت القيامة بذلك؛ لأنها أحقت لأقوامٍ الجنَّة، وأحقَّت لأقوامٍ النَّار.
وقيل: من حق الشيء: ثبت فهي ثابتة كائنة.
وقيل: لأنها تحق كل محاق في دين الله أي: تغلبه، من حاققته، فحققته أحقه أي: غلبته.
وقال الكسائيُّ والمؤرج: الحاقَّةُ: يوم الحقِّ.
والثاني: أنه مصدر ك «العاقبة» و «العافية».
قوله «ما الحَاقَّةُ» في موضع نصب على إسقاط الخافض، لأن «أدرى» بالهمزة يتعدى لاثنين، للأول: بنفسه، والثني: ب «الباء»، قال تعالى: ﴿وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ [يونس: ١٦]، فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة لها كانت في موضع المفعولِ الثاني، ودون الهمزة تتعدى لواحدٍ ب «الباء» نحو: «دريت بكذا» أو يكون بمعنى «علم» فيتعدّى لاثنين.
فصل في معنى «ما أدراك».
معنى «ما أدراك»، أي شيء أعلمك ما ذاك اليوم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان عالماً بالقيامة، ولكن لا علم له بكونها وصفتها، فقيل ذلك تفخيماً لشأنها، كأنك لست تعلمُها، ولم تعاينها.
وقال يحيى بن سلام: بلغني أنَّ كل شيء في القرآن «ومَا أدْراكَ» فقد أدراه وعلمه، وكل شيء قال: «ومَا يُدْريكَ» فهو مما لم يعلمهُ.
وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: «وما أدْراكَ» فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه: «وما يُدريْكَ»، فإنه لم يخبر به.
قوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة﴾.
«القارعةُ» القيامة، سميت بذلك [لأنها] تقرعُ قلوب العبادِ بالمخافةِ.
وقيل: لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال: أصابتهم قوارعُ الدهرِ، أي: أهواله وشدائده وقوارضُ لسانه؛ جمع قارضة، وهي الكلمة المؤذيةُ، وقوارعُ القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسانُ إذا قُرعَ من الجن والإنس نحو آية «الكرسي» كأنَّه يقرع الشيطان.
وقال المبرِّد: القارعة مأخوذةٌ من القرعة من رفع قومٍ وحطِّ آخرين.
وقوارعُ القيامة: انشقاقُ السماءِ، وانفطارها، والأرض والجبال بالدكِّ والنسف، والنجوم بالطَّمس والانكدار.
وإنما قال: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة﴾، ولم يقل: بها ليدل على أنَّ معنى القرع حاصل في الحاقَّةِ، فيكون ذلك زيادة على وصف شدتها، ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك
وقيل: عنى بالقارعةِ: العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيُّهم يخوفهم بذلك، فيكذبونه وثمودُ قوم صالح، وكانت منازلهم ب «الحجر» فيما بين «الشام» و «الحجاز».
قال ابن إسحاق: هو وادي «القرى»، وكانوا عرباً، وأما عادٌ فقوم هود، وكانت منازلهم ب «الأحقاف»، و «الأحقاف» : الرمل بين «عمان» إلى «حَضْرمَوْتَ» و «اليمن» كله، وكانوا عرباً ذوي بسطةٍ في الخلق وقد تقدم ذلك في «الأحقاف».
قوله: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية﴾. هذه قراءةُ العامةِ.
وقرأ زيدُ بن عليٍّ: «فَهَلكُوا» مبنياً للفاعل.
وقوله: «بالطاغية» فيه إضمار أي: بالفعلة الطَّاغية.
وقال قتادةُ: بالصَّيحةِ الطاغية المتجاوزةِ للحدِّ، أي: لحد الصيحاتِ من الهولِ، كما قال: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر﴾ [القمر: ٣١].
و «الطغيانُ» : مجاوزة الحدِّ، ومنه ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ﴾ [الحاقة: ١١]، أي: جاوز الحدَّ.
وقال ابن زيدٍ: بالرجل الطَّاغية، وهو عاقرُ الناقةِ، و «الهاء» فيه للمبالغة على هذه الأوجه صفة.
والمعنى: أهلكوا بما أقدم عليه طاغيهم من عقر الناقة وكان واحداً، وإنما هلك الجميعُ؛ لأنهم رضوا بفعله، ومالئوه.
وقيل له: طاغية كما يقال: فلان راويةٌ وداهيةٌ وعلامةٌ ونسابةٌ.
ويحتمل أن يقال: بسبب الفِرقةِ الطاغيةِ، وهم: التسعة رهطٍ، الذين كانوا يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، وأحدهم عاقرُ الناقة.
وقال الكلبيُّ: «بالطَّاغيةِ» : بالصَّاعقةِ.
وقال مجاهدٌ: بالذُّنوبِ.
قال ابن الخطيب: وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، قال: وقد طعنوا فيه بوجهين:
الأول: قال الزجاجُ: إنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيءِ الذي وقع به العذابُ، وهو قوله تعالى: ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تحصل المناسبةُ.
والثاني: قال القاضي: لو كان المرادُ ما قالوه لكان من حق الكلام أن يقال: أهْلِكُوا لها ولأجلِها.
ف «الباء» للسببية على الأقوال إلاَّ على قولِ قتادة، فإنها فيه للاستعانة ك «عملتُ بالقدوم».
قوله: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾. أي: باردة تحرق ببردها كإحراق النار مأخوذٌ من الصَّرصر وهو البردُ. قاله الضحاك.
وقيل: إنَّها لشديدةُ الصوتِ.
وقال مجاهد: إنَّها لشديدة السُّمومِ، و «عَاتِية» عتت على خُزَّانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدة هبوبها غضبت لغضبِ اللَّهِ.
وقال عطاء عن ابن عباسٍ: عتت على عادٍ فقهرتهم، فلم يقدروا على ردِّها بحيلة من استناد إلى جبل، بل كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم.
وروى سفيانُ الثوريُّ عن موسى بن المسيِّب عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا أرسَلَ اللَّهُ من نسمةٍ من ريْحٍ بمِكْيالٍ ولا قطرة من مَاءٍ إلاَّ بمكيَالٍ إلا يَوْمَ عادٍ ويَوْمَ قوْم نُوحٍ فإنَّ المَاءَ يوْمَ قوْمِ نُوحٍ طَغَى على الخزان فلمْ يكُنْ لهُمْ عليهِ سبيلٌ»، [ ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية﴾ الآية والرِّياح لمّا كَانَ يَوْمُ عادٍ غشَتْ على الخزائنِ ولمْ يكُنْ لهُمْ عليْهَا سبيلٌ]، ثم قرأ: ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾.
قوله: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ﴾، أي: أرسلها وسلَّطها عليهم، والتسخيرُ استعمال الشيء بالاقتدار.
وقال الزجاج: أقامها عليهم.
والجملة من قوله: «سخَّرها» يجوز أن تكون صفة ل «رِيْح»، وأن تكون حالاً منها لتخصيصها بالصفة، أو من الضمير في «عاتية»، وأن تكون مستأنفةً.
قال ابنُ الخطيب: وعندي أنَّ فيه لطيفة، وذلك أن في الناس من قال: إن تلك الرياحَ إنما اشتدت؛ لاتصال فلكي نجومي اقتضى ذلك، فقوله: «سخَّرهَا» فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب، وأن ذلك إنَّما حصل بتقدير الله وقدرته، فإنه لولا هذه الدقيقةُ لمَا حصل منه التخويفُ، والتحذيرُ عن العقابِ.
وقوله: ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ﴾ الفائدة فيه أنه - تعالى - لو لم يذكر ذلك لما كان مقدارُ زمان ذلك العذاب معلوماً، فلما قال: ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً﴾ احتمل أن يكون متفرقاً في هذه المدةِ، فأزال هذا الظنَّ بقوله: «حُسُوماً» أي: مُتتابِعَةٌ مُتواليةٌ.
فصل في تعيين الأيام المذكورة في الآية
قال وهبٌ: هي الأيامُ التي تسميها العرب أيام العجوزِ، ذاتُ بردٍ ورياحٍ شديدةٍ.
وقيل: سمِّيت عجوزاً لأنها في عجزِ الشتاءِ.
وقيل: لأن عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً، فتبعتها الريح فقتلتها في اليومِ الثامنِ من نزول العذاب، وانقطع العذابُ.
قوله: «حُسُوْماً». فيه أوجهٌ:
أحدها: أن ينتصب نعتاً لما قبلها.
الثاني: أن ينتصب على الحالِ، أي: ذات حُسُوم.
وقرأ السدِّي: «حَسُوماً» - بالفتح - حالاً من الريح، أي: سخرها عليهم مستأصلة.
الثالث: أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها، أي: تحسمهم حُسوماً.
الرابع: أن يكون مفعولاً له.
وإن كان مصدراً فإما أن ينتصب بفعله مضمراً، أي: تحسمهم حُسوماً بمعنى استأصل استئصالاً، أو تكون صفة كقولك: ذات حسومٍ، أو يكون مفعولاً له، أي: سخرها عليهم للاستئصال.
قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي الشاعر: [الوافر]
٤٨٣٩ - فَفرَّقَ بَيْنَ بيْنِهمُ زمانٌ | تَتَابعَ فيهِ أعْوَامٌ حُسُومُ |
ومنه الحسام.
قال الشاعر: [المتقارب]
٤٨٤٠ - فأرْسلْتُ رِيحاً دَبُوراً عَقِيماً | فَدارَتْ عَليْهِمْ فكَانَتْ حُسُومَا |
قال ابنُ زيدٍ: حَسَمتْهُمْ فلم تُبْقِ منهم أحداً، وعنه أيضاً: أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها؛ لأنها بدأ طلوع الشمس أول يوم، وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم.
واختلف في أولها: فقال السدِّي: غداة يوم الأحدِ.
وقال الربيع بن أنس: غداة يوم الجمعة وقال يحيى بن سلام: غداة يوم الأربعاء، وهو يوم النحس المستمر.
٤٨٤١ - كُسِعَ الشِّتاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْرِ... أيَّامِ شَهْلتِنَا مع الشَّهْرِ
فإذَا انْقَضَتْ أيَّامُهَا ومضَتْ... صِنٌّ وصِنَّبرٌ مَعَ الوَبْرِ
وبآمِرٍ وأخِيهٍ مُؤتَمِرٍ... ومُعَلِّلٍ وبِمُطفِىء الجَمْرِ
ذهَبَ الشِّتاءُ مُولِّياً عَجِلاً... وأتَتْكَ واقِدَةٌ من النَّجْرِ
وقال آخر: [الكامل]
٤٨٤٢ -... - كُسِيَ الشِّتاءُ بِسبْعَةٍ غُبْرِ
بالصِّنِّ والصِّنَّبْرٍ والوبْرِ... وبآمرٍ وأخِيهِ مُؤتَمِرٍ
ومُجَلِّلٍ وبِمُطْفِىء الجَمْرِ... قوله: ﴿فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى﴾ أي: في تلك الليالي والأيَّام «صرعى» جمع صريع، وهي حال نحو: «قتيل وقتلى، وجريح وجرحى».
والضمير في «فيها» للأيام والليالي كما تقدم، أو للبيوت أو للريح، والأول أظهرُ لقُربهِ؛ ولأنه مذكور.
قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ﴾. أي: أصول نخلٍ، و «كأنهم أعجازُ» حال من القوم، أو مستأنفة.
وقرأ أبو نهيك: «أعْجُز» على وزن «أفْعُل» نحو: «ضَبْع وأضْبُع».
وقرىء: «نخيل» حكاه الأخفشُ.
وقد تقدَّم أن اسم الجنس يذكَّر ويؤنَّثُ، واختير هنا تأنيثُه للفواصلِ، كما اختير تذكيره لها في سورة «القمر».
وقال أبو الطُّفيل: أصول نخل خاوية، أي: بالية.
وقيل: خاليةُ الأجوافِ لا شيء فيها.
قال القرطبيُّ: وقد قال تعالى في سورة «القمر» :﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] فيحتمل أنَّهم شُبِّهُوا بالنخل التي صُرعت من أصلها وهو أخبار عن عظم أجسامهم، ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع، أي: أنَّ الريح قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية، أي: أن الرِّيح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف.
وقال يحيى بن سلام: إنما قال: الخاوية، لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية.
قوله: ﴿فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾.
أدغم اللام في التاء أبو عمرو وحده، وتقدم في «الملك».
و «مِنْ بَاقِيَة» مفعوله، و «مِنْ» مزيدة، والهاء في «بَاقِية» قيل: للمبالغة، فيكون المراد ب «الباقية» : البقاءُ، ك «الطاغية» بمعنى الطُّغيان، أي: من باقٍ.
والأحسنُ أن يكون صفةً لفرقةٍ، أو طائفةٍ، أو نفس، أو بقية ونحو ذلك.
وقيل: فاعلة بمعنى المصدر ك «العافية» و «العاقبة».
قال المفسرون: والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً.
قال ابن جريجٍ: كانوا سبعَ ليالٍ وثمانية أيَّام أحياء في عذابِ الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامنِ ماتوا فاحتملتهم الريحُ، فألقتهم في البحر، فذلك قوله: ﴿فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾ وقوله: ﴿فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥].
فصل في معنى «ما أدراك ».
معنى «ما أدراك »، أي شيء أعلمك ما ذاك اليوم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالقيامة، ولكن لا علم له بكونها وصفتها، فقيل ذلك تفخيماً لشأنها، كأنك لست تعلمُها، ولم تعاينها.
وقال يحيى بن سلام : بلغني أنَّ كل شيء في القرآن «ومَا أدْراكَ » فقد أدراه وعلمه، وكل شيء قال :«ومَا يُدْريكَ » فهو مما لم يعلمهُ.
وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه :«وما أدْراكَ » فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه :«وما يُدريْكَ »، فإنه لم يخبر به.
«القارعةُ » القيامة، سميت بذلك [ لأنها ] تقرعُ قلوب العبادِ بالمخافةِ.
وقيل : لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال : أصابتهم قوارعُ الدهرِ، أي : أهواله وشدائده وقوارضُ لسانه ؛ جمع قارضة، وهي الكلمة المؤذيةُ، وقوارعُ القرآن : الآيات التي يقرؤها الإنسانُ إذا قُرعَ من الجن والإنس نحو آية «الكرسي » كأنَّه يقرع الشيطان.
وقال المبرِّد : القارعة مأخوذةٌ من القرعة من رفع قومٍ وحطِّ آخرين.
وقوارعُ القيامة : انشقاقُ السماءِ، وانفطارها، والأرض والجبال بالدكِّ والنسف، والنجوم بالطَّمس والانكدار.
وإنما قال :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة ﴾، ولم يقل : بها ليدل على أنَّ معنى القرع حاصل في الحاقَّةِ، فيكون ذلك زيادة على وصف شدتها، ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك بذكر من كذب بها، وما حل بهم بسبب التكذيبِ تذكيراً لأهل «مكةَ » وتخويفاً لهم من عاقبةِ تكذيبهم.
وقيل : عنى بالقارعةِ : العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيُّهم يخوفهم بذلك، فيكذبونه وثمودُ قوم صالح، وكانت منازلهم ب «الحجر » فيما بين «الشام » و «الحجاز ».
قال ابن إسحاق : هو وادي «القرى »، وكانوا عرباً، وأما عادٌ فقوم هود، وكانت منازلهم ب «الأحقاف »، و «الأحقاف » : الرمل بين «عمان » إلى «حَضْرمَوْتَ » و «اليمن » كله، وكانوا عرباً ذوي بسطةٍ في الخلق وقد تقدم ذلك في «الأحقاف ».
وقرأ زيدُ١ بن عليٍّ :«فَهَلكُوا » مبنياً للفاعل.
وقوله :«بالطاغية » فيه إضمار أي : بالفعلة الطَّاغية.
وقال قتادةُ : بالصَّيحةِ الطاغية المتجاوزةِ٢ للحدِّ، أي : لحد الصيحاتِ من الهولِ، كما قال :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر ﴾ [ القمر : ٣١ ].
و «الطغيانُ » : مجاوزة الحدِّ، ومنه ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء حَمَلْنَاكُمْ ﴾[ الحاقة : ١١ ]، أي : جاوز الحدَّ.
وقال ابن زيدٍ : بالرجل الطَّاغية، وهو عاقرُ الناقةِ٣، و «الهاء » فيه للمبالغة على هذه الأوجه صفة.
والمعنى : أهلكوا بما أقدم عليه طاغيهم من عقر الناقة وكان واحداً، وإنما هلك الجميعُ ؛ لأنهم رضوا بفعله، ومالئوه.
وقيل له : طاغية كما يقال : فلان راويةٌ وداهيةٌ وعلامةٌ ونسابةٌ.
ويحتمل أن يقال : بسبب الفِرقةِ الطاغيةِ، وهم : التسعة رهطٍ، الذين كانوا يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، وأحدهم عاقرُ الناقة.
وقال الكلبيُّ :«بالطَّاغيةِ » : بالصَّاعقةِ٤.
وقال مجاهدٌ : بالذُّنوبِ٥.
وقال الحسنُ : بالطُّغيانِ٦ فهي مصدرٌ ك «العاقبة » و «الكاذبة »، أي : أهلكُوا بطغيانهم وكفرهم، وبوضحه :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾[ الشمس : ١١ ].
قال ابن الخطيب٧ : وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، قال : وقد طعنوا فيه بوجهين :
الأول : قال الزجاجُ : إنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيءِ الذي وقع به العذابُ، وهو قوله تعالى :﴿ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تحصل المناسبةُ.
والثاني : قال القاضي : لو كان المرادُ ما قالوه لكان من حق الكلام أن يقال : أهْلِكُوا لها ولأجلِها.
ف «الباء » للسببية على الأقوال إلاَّ على قولِ قتادة، فإنها فيه للاستعانة ك «عملتُ بالقدوم ».
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٠٧..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٦٨)..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٦٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وعبد بن حميد..
٦ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٧٦) والقرطبي (١٨/١٦٨)..
٧ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٩١..
وقيل : إنَّها لشديدةُ الصوتِ.
وقال مجاهد : إنَّها لشديدة السُّمومِ٢، و «عَاتِية » عتت على خُزَّانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدة هبوبها غضبت لغضبِ اللَّهِ.
وقال عطاء عن ابن عباسٍ : عتت على عادٍ فقهرتهم، فلم يقدروا على ردِّها بحيلة من استناد إلى جبل، بل كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم٣.
وروى سفيانُ الثوريُّ عن موسى بن المسيِّب عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَا أرسَلَ اللَّهُ من نسمةٍ من ريْحٍ بمِكْيالٍ ولا قطرة من مَاءٍ إلاَّ بمكيَالٍ إلا يَوْمَ عادٍ ويَوْمَ قوْم نُوحٍ فإنَّ المَاءَ يوْمَ قوْمِ نُوحٍ طَغَى على الخزان فلمْ يكُنْ لهُمْ عليهِ سبيلٌ »، [ ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية ﴾ الآية والرِّياح لمّا كَانَ يَوْمُ عادٍ غشَتْ على الخزائنِ ولمْ يكُنْ لهُمْ عليْهَا سبيلٌ ]، ثم قرأ :﴿ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾٤.
وقيل : إنَّ هذا ليس من العتو الذي هو عصيانٌ، إنَّما هو بلوغُ الشيء وانتهاؤه، ومنه قولهم : عتا النَّبْتُ، أي : بلغ منتهاه وجفَّ، قال تعالى :﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً ﴾[ مريم : ٨ ]، أي : بالغة منتهاها في القوّة والشدّة.
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٩٢..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٠٧) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠٥) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد.
وقد روي عن ابن عباس مرفوعا ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠٥) وعزاه إلى أبي الشيخ في "العظمة" والدارقطني في "الأفراد" وابن مردويه وابن عساكر.
وأخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٠٨) عن علي بن أبي طالب موقوفا..
وقال الزجاج : أقامها عليهم.
والجملة من قوله :«سخَّرها » يجوز أن تكون صفة ل «رِيْح »، وأن تكون حالاً منها لتخصيصها بالصفة، أو من الضمير في «عاتية »، وأن تكون مستأنفةً.
قال ابنُ الخطيب١ : وعندي أنَّ فيه لطيفة، وذلك أن في الناس من قال : إن تلك الرياحَ إنما اشتدت ؛ لاتصال فلكي نجومي اقتضى ذلك، فقوله :«سخَّرهَا » فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب، وأن ذلك إنَّما حصل بتقدير الله وقدرته، فإنه لولا هذه الدقيقةُ لمَا حصل منه التخويفُ، والتحذيرُ عن العقابِ.
وقوله :﴿ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ﴾ الفائدة فيه أنه - تعالى - لو لم يذكر ذلك لما كان مقدارُ زمان ذلك العذاب معلوماً، فلما قال :﴿ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ﴾ احتمل أن يكون متفرقاً في هذه المدةِ، فأزال هذا الظنَّ بقوله :«حُسُوماً » أي : مُتتابِعَةٌ مُتواليةٌ.
فصل في تعيين الأيام المذكورة في الآية
قال وهبٌ : هي الأيامُ التي تسميها العرب أيام العجوزِ، ذاتُ بردٍ ورياحٍ شديدةٍ.
وقيل : سمِّيت عجوزاً لأنها في عجزِ الشتاءِ.
وقيل : لأن عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً، فتبعتها الريح فقتلتها في اليومِ الثامنِ من نزول العذاب، وانقطع العذابُ.
قوله :«حُسُوْماً ». فيه أوجهٌ :
أحدها : أن ينتصب نعتاً لما قبلها.
الثاني : أن ينتصب على الحالِ، أي : ذات حُسُوم.
وقرأ السدِّي٢ :«حَسُوماً » - بالفتح - حالاً من الريح، أي : سخرها عليهم مستأصلة.
الثالث : أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها، أي : تحسمهم حُسوماً.
الرابع : أن يكون مفعولاً له.
ويتضح ذلك بقول الزمخشريِّ :«الحُسُوْم » : لا يخلو من أن يكون جمع «حاسم » ك «شاهد » و «شهود »، أو مصدراً «كالشَّكور »، «والكفُور »، فإن كانت جمعاً، فمعنى قوله :«حُسُوْماً » أي : نحساتٌ حسمتْ كلَّ خيرٍ، واستأصلت كُلَّ بركةٍ، أو متتابعة هبوب الريح ما خفضت ساعة تمثيلاً لتتابعها بتتابُعِ فعل الحاسمِ في إعادة الكيِّ على الدَّاء كرَّة بعد أخرى حتى ينحسمَ.
وإن كان مصدراً فإما أن ينتصب بفعله مضمراً، أي : تحسمهم حُسوماً بمعنى استأصل استئصالاً، أو تكون صفة كقولك : ذات حسومٍ، أو يكون مفعولاً له، أي : سخرها عليهم للاستئصال.
قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي الشاعر :[ الوافر ]
٤٨٣٩ - فَفرَّقَ بَيْنَ بيْنِهمُ زمانٌ***تَتَابعَ فيهِ أعْوَامٌ حُسُومُ٣
انتهى. وقال المبرِّدُ : الحُسومُ : الفصلُ، حسمتُ الشَّيء من الشيء فصلتهُ منه.
ومنه الحسام.
قال الشاعر :[ المتقارب ]
٤٨٤٠ - فأرْسلْتُ رِيحاً دَبُوراً عَقِيماً***فَدارَتْ عَليْهِمْ فكَانَتْ حُسُومَا٤
وقال الليثُ : هي الشُّؤمُ، يقال : هذه ليالي الحسوم، أي : تحسم الخير عن أهلها : لقوله تعالى :﴿ في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ﴾[ فصلت : ١٦ ]، وهذان القولان يرجعان إلى القول الأول ؛ لأن الفصل قطعٌ وكذلك الشُّؤم لأنه يقطع الخير.
قال ابنُ زيدٍ : حَسَمتْهُمْ فلم تُبْقِ منهم أحداً٥، وعنه أيضاً : أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها ؛ لأنها بدأت طلوع الشمس أول يوم، وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم٦.
واختلف في أولها : فقال السدِّي : غداة يوم الأحدِ٧.
وقال الربيع بن أنس : غداة يوم الجمعة٨ وقال يحيى بن سلام : غداة يوم الأربعاء٩، وهو يوم النحس المستمر.
قيل : كان آخر أربعاء في السَّنة، وآخرها يوم الأربعاء، وهي في «آذار » من أشهر السريانيين، ولها أسماء مشهورة، قال فيها ابن أحمر :[ الكامل ]
٤٨٤١ - كُسِعَ الشِّتاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْر***أيَّامِ شَهْلتِنَا مع الشَّهْرِ
فإذَا انْقَضَتْ أيَّامُهَا ومضَتْ***صِنٌّ وصِنَّبرٌ مَعَ الوَبْرِ
وبآمِرٍ وأخِيهٍ مُؤتَمِرٍ***ومُعَلِّلٍ وبمطفئ الجَمْرِ
ذهَبَ الشِّتاءُ مُولِّياً عَجِلاً***وأتَتْكَ واقِدَةٌ من النَّجْرِ١٠
وقال آخر :[ الكامل ]
٤٨٤٢ - كُسِيَ الشِّتاءُ بِسبْعَةٍ غُبْرِ***بالصِّنِّ والصِّنَّبْرٍ والوبْرِ
وبآمرٍ وأخِيهِ مُؤتَمِر***ٍومُجَلِّلٍ وبمطفئ الجَمْرِ١١
قوله :﴿ فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى ﴾ أي : في تلك الليالي والأيَّام «صرعى » جمع صريع، وهي حال نحو :«قتيل وقتلى، وجريح وجرحى ».
والضمير في «فيها » للأيام والليالي كما تقدم، أو للبيوت أو للريح، والأول أظهرُ لقُربهِ ؛ ولأنه مذكور.
قوله :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ ﴾. أي : أصول نخلٍ، و «كأنهم أعجازُ » حال من القوم، أو مستأنفة.
وقرأ أبو نهيك١٢ :«أعْجُز » على وزن «أفْعُل » نحو :«ضَبْع وأضْبُع ».
وقرئ :«نخيل »١٣ حكاه الأخفشُ.
وقد تقدَّم أن اسم الجنس يذكَّر ويؤنَّثُ، واختير هنا تأنيثُه للفواصلِ، كما اختير تذكيره لها في سورة «القمر ».
وقال أبو الطُّفيل : أصول نخل خاوية، أي : بالية.
وقيل : خاليةُ الأجوافِ لا شيء فيها.
قال القرطبيُّ١٤ : وقد قال تعالى في سورة «القمر » :﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ [ القمر : ٢٠ ] فيحتمل أنَّهم شُبِّهُوا بالنخل التي صُرعت من أصلها وهو إخبار عن عظم أجسامهم، ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع، أي : أنَّ الريح قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية، أي : أن الرِّيح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف.
وقال ابن شجرة : كانت الريحُ تدخل في أفواههم فتخرجُ ما في أجوافهم من الحشوِ من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية.
وقال يحيى بن سلام : إنما قال : الخاوية، لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية.
٢ ينظر: الكشاف ٤/٥٩٩، والبحر المحيط ٨/٣١٦..
٣ البيت لعبد العزيز بن زرارة الكلبي. ينظر الكشاف ٤/٥٩٩، والبحر ٨/٣١٤، والقرطبي ١٨/١٦٩، والدر المصون ٦/٣٦٢..
٤ ينظر البحر المحيط ٨/١٣٤، والدر المصون ٦/٣٦٢..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٠٩)..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٦٩)..
٧ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٧٧) والقرطبي (١٨/١٦٩)..
٨ ينظر المصدر السابق..
٩ ينظر المصدر السابق..
١٠ ينظر القرطبي ١٨/١٦٩..
١١ تقدما..
١٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٣١٦، والدر المصون ٦/٣٦٢..
١٣ ينظر: الكشاف ٤/٦٠٠، والبحر المحيط ٨/٣١٦، والدر المصون ٦/٣٦٢..
١٤ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٦٩..
أدغم اللام في التاء أبو عمرو وحده، وتقدم في «الملك ».
و «مِنْ بَاقِيَة » مفعوله، و «مِنْ » مزيدة، والهاء في «بَاقِية » قيل : للمبالغة، فيكون المراد ب «الباقية » : البقاءُ، ك «الطاغية » بمعنى الطُّغيان، أي : من باقٍ.
والأحسنُ أن يكون صفةً لفرقةٍ، أو طائفةٍ، أو نفس، أو بقية ونحو ذلك.
وقيل : فاعلة بمعنى المصدر ك «العافية » و «العاقبة ».
قال المفسرون : والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً.
قال ابن جريجٍ : كانوا سبعَ ليالٍ وثمانية أيَّام أحياء في عذابِ الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامنِ ماتوا فاحتملتهم الريحُ، فألقتهم في البحر، فذلك قوله :﴿ فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ﴾ وقوله :﴿ فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٢٥ ].
قرأ أبو عمرو والكسائيُّ: بكسر القاف، وفتح الباء، أي: ومن هو في جهته، ويؤيده قراءةُ أبي موسى: «ومن تلقاه».
والباقون: بالفتحِ والسكونِ على أنه ظرف، أي: ومن تقدمه.
والقراءة الأولى اختارها أبو عبيدة، وأبو حاتم اعتباراً بقراءة أبيّ، وعبد الله.
قوله: ﴿والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ﴾.
«المؤتفكات» : أهل قرى لوط.
وقراءة العامة: بالألف.
وقرأ الحسن والجحدريُّ: «والمُؤتَفكةُ» على التوحيد.
قال قتادةُ: إنما سُمِّيتْ قرى لوط «مُؤتفِكَات» لأنَّها ائتفكت بهم، أي: انقلبت.
وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظيِّ قال: خمس قريات: «صبعة، وصعرة وعمرة، ودوما، وسدوم»، وهي القرية العظمى.
وقوله: «بالخاطئة». إما أن تكون صفة، أي: بالفعلة، أو الفعلات الخاطئة، وهي المعصية والكفر.
وقال مجاهد: بالخطايا كانوا يفعلونها.
وقال الجرجاني: بالخطأ العظيمِ، فيكون مصدراً ك «العاقبة» و «الكاذبة».
قوله: ﴿فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ إن عاد الضمير إلى فرعون، ومن قبله، فرسول ربِّهم موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وإن كان عائداً إلى أهلِ المؤتفكاتِ، فرسولُ ربِّهم لوط عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قال الواحديُّ: والوجه أن يقال: المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله: «فَعَصَوْا» فيكون كقوله: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٦]
قال القرطبي: وقيل: «رسول» بمعنى رسالة، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول، كقوله: [الطويل]
٤٨٤٣ - لَقَدْ كَذَبَ الواشُونَ ما بُحْتُ عِندهُمْ | بِسِرِّ ولا أرْسلتُهُمْ بِرسُولِ |
والمعنى: أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القُبحِ على أفعال سائرِ الكفار.
وقيل: إن عقوبة آل فرعون في الدنيا متعلقة بعذاب الآخرة، لقوله: ﴿أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ [نوح: ٢٥] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدُّنيا، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو. ثم ذكر قصة قومِ نوح، وهي قوله:
﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية﴾، أي: ارتفع وعلا.
وقال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: طَغَى على خُزَّانه من الملائكة غضباً لربِّه، فلم يقدروا على حبسه.
قال المفسرون: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً.
وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: طغى الماءُ زمن نوحٍ على خزانه، فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج، وليس من الماء قطرة تنزل قبله، ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم، وقد تقدم مرفوعاً أوَّل السورةِ، والمقصود من ذكر قصص هذه الأممِ، وذكر ما حل بهم من العذاب، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسولِ، ثم منَّ عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله: «حَمَلْناكُم» أي: حملنا آباءكم، وأنتم في أصلابهم، «فِي الجَاريَةِ» أي: في السفن الجاريةِ، والمحمولُ في الجارية إنَّما هو نوحٌ وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك.
والجارية من أسماء السفينة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام﴾ [الرحمن: ٢٤]، وغلب استعمالُ الجاريةِ في السفينة؛ كقوله في بعض الألغاز: [البسيط]
٤٨٤٤ - رَأيْتُ جَاريَةٌ في بَطْنِ جَارِيَةٍ | فِي بَطْنِهَا رجُلٌ في بطْنهِ جَمَلُ |
قال ابن جريجِ: كانت ألواحُهَا على الجوديِّ، والمعنى: أبقيتُ لكم الخشباتِ حتى تذكروا ما حلَّ بقوم نوحٍ، وأنجى الله أباكم، وكم من سفينةٍ هلكت وصارت تراباً، ولم يبق منها شيءٌ، وهذا قولُ الفرَّاءِ.
قال ابنُ الخطيبِ: وهذا ضعيفٌ، بل الصوابُ ما قاله الزجاج: أن الضمير في قوله: «
قوله: «وتَعِيهَا» العامة: على كسر العين وتخفيف التاء، وهو مضارع «وَعَى» منصوب عطفاً على «لنجْعَلهَا».
وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون عنه وقنبل، قال القرطبي: وحميد والأعرج بإسكانها تشبيهاً له ب «رحم، وشهد» وإن لم يكن منه، ولكن صار في اللفظ بمنزلة الفعل الحلقي العين.
قال ابن الخطيب: وروى عن ابن كثيرٍ إسكان العين، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلةٍ واحدةٍ، فحذف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من «فَخْذ وكَبْد وكَتْف»، وإنما فعل ذلك؛ لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل، فأشبه ما هو من نفس الكلمة، وصار كقول من قال: وَهْو وَهْي، ومثل ذلك ﴿وَيَتَّقْهِ﴾ [النور: ٥٢] في قراءة من سكَّن القاف.
وروي عن حمزة: إخفاء الكسرة.
وروي عن عاصم وحمزة: بتشديد «الياء».
وهو غلط عليهما، وإنما سمعهما الراوي يثبتان حركة الياء، فظنَّها شدة.
وقيل: أجريا الوصل مجرى الوقف فضعِّف الحرفُ، وهذا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وروي عن حمزة أيضاً، وموسى بن عبد الله العبسي: «وتعِيهَا» بسكون «الياء».
وفيه وجهان: الاستئناف، والعطف على المنصوب، وإنما سكنا «الياء» استثقالاً للحركة على حرف العلة، كقراءة:
﴿تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩].
فصل في «وعى»
قال الزَّجَّاجُ: يقال: وعيتُ كذا، أي: حفظتُه في نفسي، أعيه وعْياً ووعيتُ العلمَ، ووعيتُ ما قلته كله بمعنى، وأوعيت المتاع في الوعاء.
قال الزجاجُ: يقال لكل ما حفظته في غير نفسك: أوعيتُه - بالألف - ولما حفظته في نفسك: وعيته، بغير ألف.
«روي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال عند نزول هذه الآية:» سَألْتُ اللَّه أنْ يَجْعلهَا أذنَكَ يا عليُّ «، قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» فما نَسِيتُ شيئاً بعد ذلك «».
فإن قيل: لِمَ قال: «أذُنٌ واعِيَةٌ» على التوحيد والتنكير؟.
فالجوابُ: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلةٌ، ولتوبيخ الناس بقلة من يَعِي منهم، والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعيت وعقلتْ عن الله، فهي السَّواد الأعظم عند الله، وأن سواها لا يلتفت إليهم، وإن امتلأ العالمُ منهم.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: ٣٧].
قال قتادة: الأذُنُ الواعيةُ أذنٌ عقلتْ عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ.
قوله: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾.
لما حكى هذه القصص الثلاثة ونبَّه بها على ثبوت القدرة والحكمة للصانع، فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة، ويثبت القدرة إمكان وقوع الحشر، ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة، فذكر أولاً مقدماتها، فقال: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾.
قوله: «واحدةٌ» تأكيد، و «نَفْخَةٌ» مصدر قام مقام الفاعل.
وقال ابنُ عطية: «لما نُعِتَ صحَّ رفعهُ» انتهى.
ولو لم يُنعتْ لصحَّ رفعه؛ لأنه مصدر مختص لدلالته على الوحدة، والممنوع عند البصريين إنما هو إقامة المبهمِ، نحو: «ضَرَبَ».
والعامةُ على الرفع فيهما.
وقرأ أبو السّمال: بنصبهما، كأنه أقام الجارَّ مقام الفاعلِ، فترك المصدر على
فصل في النفخة الأولى
قال ابن عباس: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلا يبقى أحد إلا مات.
قال ابن الخطيب: لأن عندها يحصل خرابُ العالمِ.
فإن قيل: لم قال بعد ذلك ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ﴾ والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية؟.
قلت: جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النَّفختان، والصَّعقة والنشور، والوقوف، والحساب، فكذلك ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ﴾ كقوله: «جئتُه عام كذا» وإنَّما كان مجيئُك في وقتٍ واحدٍ من أوقاته.
وقيل: إنَّ هذه النَّفخة هي الأخيرةُ.
وقال: ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾، أي: لا تثنَّى.
قال الأخفشُ: ووقع الفعلُ على النَّفخة، إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع، فقيل: نفخة.
قوله: ﴿وَحُمِلَتِ الأرض﴾، قرأ العامة: بتخفيف «الميم».
أي: وحملتها الريحُ، أو الملائكةُ، أو القدرةُ، أي: رفعتْ من أماكنها، «فَدُكَّتا»، أي: فُتَّتَا وكسِّرتا، ﴿دَكَّةً وَاحِدةً﴾ أي: الأرض والجبالُ؛ لأن المراد الشيئان المتقدمان، كقوله: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩].
ولا يجوزُ في «دكَّةً» إلا النصبُ؛ لارتفاع الضمير في «دُكَّتَا».
وقال الفرَّاءُ: لم يقلْ: «فَدُكِكْنَ» ؛ لأنه جعل الجبال كلها كالجملةِ الواحدة [والأرض كالجملة الواحدة] ومثله: ﴿أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً﴾ [الأنبياء: ٣٠]، ولم يقل: «كُنَّ».
وهذا الدَّكُّ، كالزلزلةِ لقوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة: ١].
وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنَّها تحمل الأرض والجبال، أو بملك من الملائكة، أو بقدرة الله، «فَدُكَّتَا»، أي: جملة الأرض، وجملة الجبال تضرب بعضها في بعض حتى تندق وتصير ﴿كَثِيباً مَّهِيلاً﴾ [المزمل: ١٤]، و ﴿هَبَآءً مُّنبَثّاً﴾ [الواقعة: ٦].
وقرأ ابن عامرٍ في رواية، والأعمش، وابن أبي عبلة وابن مقسم: «وحُمِّلت» - بتشديد الميم -.
فجاز أن يكون التشديد للتكثير، فلم يكسب الفعل مفعولاً آخر.
وجاز أن يكون للتعدية فيكسبه مفعولاً آخر، فيحتمل أن يكون الثاني محذوفاً، والأول هو القائمُ مقام الفاعلِ تقديره: وحُمِّلت الأرض والجبال ريحاً تفتتها، لقوله: ﴿فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ [طه: ١٠٥].
وقيل: التقدير: حملنا ملائكة، ويحتمل أن يكون الأول هو المحذوف، والثاني هو القائم مقام الفاعل.
قوله: «فيَومئذٍ» منصوب ب «وقعت»، و «وقَعَتِ الواقِعَةُ» لا بُدَّ فيه من تأويلٍ، وهو أن تكون «الوَاقعةُ» صارت علماً بالغلبةِ على القيامة، أو الواقعة العظيمة، وإلاَّ فقام القائمُ لا يجوز، إذ لا فائدة فيه، وتقدم هذا في قوله: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الواقعة﴾ [الواقعة: ١]
والتنوين في «يومئذٍ» للعوضِ من الجملة، تقديره: يومئذٍ نُفِخَ في الصُّوْرِ.
فصل في معنى الآية
المعنى قامت القيامة الكبرى ﴿وانشقت السمآء﴾ أي: انصدعت وتفطرت.
وقيل: انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً﴾ [الفرقان: ٢٥] ﴿فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾، أي: ضعيفة مسترخيةٌ ساقطةٌ ﴿كالعهن المنفوش﴾ [القارعة: ٥] بعد ما كانت محكمةً.
يقال: وهى البناء يَهِي وهْياً، فهو واهٍ إذا ضعف جدّاً.
ويقال: كلامٌ واهٍ أي: ضعيف.
فقيل: إنَّها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهْي، ويكون ذلك لنزولِ الملائكةِ.
وقيل: لهولِ يوم القيامةِ.
وقال ابن شجرة: «واهية» أي: متخرقة، مأخوذ من قولهم: وهى السِّقاءُ، إذا انخرق.
٤٨٤٥ - خَلِّ سَبيلَ مَنْ وهَى سِقاؤهُ | ومَنْ هُرِيقَ بالفَلاةِ مَاؤهُ |
﴿والملك على أَرْجَآئِهَآ﴾. لم يردْ به ملكاً واحداً، بل المراد الجنس والجمع. «على أرجائها» «الأرجاء» في اللغة: النواحي والأقطار بلغة «هُذَيْل»، واحدها: «رجا» مقصور وتثنيته «رجوان»، مثل «عصا، وعصوان»، قال الشاعر: [الوافر]
٤٨٤٦ - فَلاَ يُرْمَى بِيَ الرَّجوانِ أنَّي | أقَلُّ القَوْمِ مَنْ يُغْنِي مَكانِي |
٤٨٤٧ - كَأنْ لَمْ تَرَي قَبْلِي أسِيراً مُقَيَّداً | ولا رَجُلاً يُرْمَى بِهِ الرَّجوانِ |
فصل في تفسير الآية
قاب ابن عباس: على أطرافها حين تنشق.
قال الماورديُّ: ولعله قول مجاهد وقتادة، وحكاه الثعلبي عن الضحاك، قال: على أطرافها مما لم تنشقّ منها.
وقال سعيد بن جبيرٍ: المعنى والملك على حافات الدنيا، أي: ينزلون إلى الأرض، ويحرسون أطرافها.
وقال: إذا صارت السماءُ قطعاً، تقف الملائكةُ على تلك القطعِ التي ليست مُتشققة في أنفسها.
فإن قيل: الملائكةُ يمُوتُونَ في الصَّعقةِ الأولى، لقوله تعالى: ﴿فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾ [الزمر: ٦٨] فكيف يقال: إنهم يقفون على أرجاء السماء؟.
الأول: أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء، ثم يموتون.
والثاني: المراد الذين استثناهم في قوله: ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ [الزمر: ٦٨] [النمل: ٨٧].
فإن قيل: إنَّ الناس إذا رأوا جهنَّم هالتهم، فندُّوا كما تندُّ الإبلُ، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلاَّ رأوا ملائكة، فيرجعون من حيثُ جاءوا.
وقيل: ﴿على أَرْجَآئِهَآ﴾ ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النَّارِ من السَّوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة، وهذا كلُّه راجعٌ إلى قول ابن جبير، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً﴾ [الفرقان: ٢٥].
قوله: ﴿على أَرْجَآئِهَآ﴾، خبر المبتدأ، والضمير للسماء، وقيل: للأرضِ، على ما تقدم.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما الفرق بين قوله: «والمَلَكُ» وبين أن يقال: «والمَلائِكَةُ» ؟
قلت: الملكُ أعمُّ من الملائكةِ، ألا ترى إلى قولك: «ما من ملك إلاَّ وهو ساجدٌ» أعم من قولك: «ما مِنْ ملائكةٍ» انتهى.
قال أبو حيَّان: ولا يظهر أنَّ الملك أعمُّ من الملائكةِ، لأن المفرد المحلَّى بالألف واللام، قُصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلَّى، ولذلك صح الاستثناءُ منه، فقصاراه أن يكون كالجمع المُحَلَّى بهما، وأما دعواه أنه أعم منه، بقوله: «ألا ترى» إلى آخره، فليس دليلاً على دعواه؛ لأن «مِنْ ملكٍ» نكرةٌ مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها «مِن» المخلصة للاستغراق، فشملت كل ملكٍ فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفرد فيه، فانتفى كل فردٍ فرد، بخلاف «مِنْ ملائِكةِ»، فإن «مِنْ» دخلت على جمع منكَّر، فعمّ في كل جمع جمع من الملائكةِ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ من الملائكة، لو قلت: «ما في الدار من رجال» جاز أن يكون فيها واحدٌ، لأن النفي إنما انسحب على جمع، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفردُ، والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه «مِنْ» وإنَّما جِيءَ به مفرداً؛ لأنه أخفُّ، ولأن قوله: ﴿على أَرْجَآئِهَآ﴾ يدلُّ على الجمع؛ لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون «على أرجائِهَا» في وقتٍ واحدٍ بل أوقات، والمراد - والله أعلم - أن الملائكة على أرجائها إلاَّ أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات.
وقال شهاب الدين: إنَّ الزمخشريَّ منزعهُ في هذا ما تقدم عنه في أواخر سورة «
وأما قول أبي حيان: «ما مِنْ رجالٍ» أن النفي منسحبٌ على رُتَب الجمع، ففيه خلاف، والتحقيق ما ذكره.
قوله: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾.
الضمير في «فَوقَهُمْ» يجوز أن يعود على «الملائكة» بمعنى كما تقدم، وأن يعود على الحاملين الثمانية.
وقيل: إنَّ حملة العرشِ فوقَ الملائكةِ الذينَ في السماء على أرجائها.
وقيل: يعود على جميع العالم، أي: أن الملائكة تحمل عرش الله فوق العالم كلِّه.
فصل في هؤلاء الثمانية
قال ابن عباس: ثمانية صنوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله.
وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاكٍ.
وعن الحسن: الله أعلمُ كم هم ثمانية، أم ثمانية آلاف، أو ثمانية صفوف. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنَّ حَمَلةَ العَرْشِ اليَوْم أربعةُ أوعالٍ، فإذَا كان يومُ القيامةِ أيدهُم اللَّهُ بأربَعة آخرين، فكانُوا ثَمانيَةً» خرَّجَهُ الماورديُّ مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ورواه العباسُ بنُ عبد المطّلب عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «هُمْ ثَمانِيَةُ أملاكٍ على صورةِ الأوعالِ، لكلِّ ملكٍ منهُم أربعةُ أوجهٍ: وجهُ رجُلٍ، ووجهُ أسدٍ، ووجهُ ثورٍ، ووجهُ نسْرٍ، وكلُّ وجهٍ مِنْهَا يسألُ اللَّهَ الرِّزقَ لذلك الجِنْسِ».
فإن قيل: إذا لم يكنْ فيهم صورةُ وعلٍ، فكيف سُمُّوا أوعالاً؟.
فالجواب: أنَّ وجْهَ الثَّور إذا كانت له قرون الوعْلِ أشبه الوعْلَ.
وفي الخبرِ: «أنَّ فَوْقَ السَّماءِ السَّابعةِ ثمانيةَ أوْعالٍ بينَ أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ مثلُ ما بَيْنَ
وفي حديث مرفوع: «أنَّ حَمَلَةَ العرْشِ ثَمَانيَةُ أمْلاكٍ؛ على صُوَرِ الأوعالِ، ما بين أظْلافهَا إلى رُكَبِهَا مسِيْرةُ سبعِينَ عاماً للطَّائرِ المُسْرعِ».
ورُوي أنَّ أرجلهنَّ في السَّماءِ السَّابعةِ.
فصل في إضافة العرش إلى الله
إضافة العرش إلى الله - تعالى - كإضافة البيت إليه، وليس البيتُ للسكنِ، فكذلك العرشُ، ومعنى «فوقهم» أي: فوق رءوسهم.
قال ابنُ الخطيب: قالت المشبِّهةُ: لو لم يكن اللَّهُ في العرشِ لكان حملُ العرش عبثاً لا فائدة فيه، لا سيما قد أكَّد ذلك بقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ﴾، والعرش إنَّما يكونُ لو كان الإلهُ حاضراً في العرش.
وأجاب: بأنه لا يمكن أن يكون المراد أنَّ الله - تعالى - جالس في العرش؛ لأن كل من كان حاملاً للعرش؛ كان حاملاً لكل ما كان في العرش فلو كان الإلهُ على العرش لزم أن يكون الملائكة حاملين لله تعالى، وذلك محالٌ؛ لأنه يقتضي احتياج الله إليهم، وأن يكونوا أعظم قدراً من الله، وكل ذلك كفرٌ، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل، فنقول: السببُ في هذا الكلام هو أنه - تعالى - خاطبهم بما يتعارفونه، فخلق لنفسه بيتاً يزورونه ليس أنه يسكنه - تعالى الله عن ذلك - وجعل في ركن البيت حجراً، هو يمينه في الأرض إذْ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم، وجعل على العبادِ حفظةً لا لأن النسيان يجوزُ عليه سبحانه، وكذلك أنَّ الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس على سريره، ووقفت الأعوانُ حوله، فسمى الله يوم القيامة عرشاً، وحفَّت به الملائكة لا لأنه يقعد عليه، أو يحتاجُ إليه، بل كما قلنا في البيت والطَّواف.
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ﴾ هو جواب «إذَا» من قوله: «فَإذَا نُفِخَ». قاله أبو حيَّان.
وفيه نظرٌ، بل جوابها ما تقدم من قوله: «وقَعَتِ الواقِعَةُ» و «تُعْرضُونَ» على هذا مستأنفة.
قوله: ﴿لاَ تخفى﴾.
واختاره أبو عبيد؛ لأنه قد حال بين الفعل والاسم المؤنث الجار والمجرور.
والأخوان: على أصلهما في إمالة الألف.
وقرأ الباقون: «لا تَخْفَى» بالتاء من فوق للتأنيث اللفظي والفتح وهو الأصل، واختاره أبو حاتم.
فصل في العرض على الله
قال القرطبيُّ: هذا هو العرضُ على الله، ودليله: ﴿وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً﴾ [الكهف: ٤٨] وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً، بل ذلك العرضُ عبارةٌ عن المحاسبة والمساءلة وتقدير الأعمال عليهم للمجازاة.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يُعْرَضُ النَّاسُ يوم القِيامةِ ثلاثَ عَرضَاتٍ، فأما عَرْضتانِ فَجِدالٌ، ومعَاذِيرٌ وأما الثَّالثةُ فعند ذلك تَطِيْرُ الصُّحُفُ في الأيْدِي فآخِذٌ بيَمِينِهِ وآخِذٌ بِشمالهِ».
وقوله: ﴿لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾.
قال ابن شجرة: أي: هو عالم بكل شيء من أعمالكم، ف «خَافِيَة» على هذا بمعنى «خفيَّة» كانوا يخفونها من أعمالهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ [غافر: ١٦].
قال ابن الخطيب: فيكون الغرضُ المبالغة في التهديدِ، يعني: «تُعرَضُون على من لا يخفى عليه شيء».
وقيل: لا يخفى عليه إنسان لا يحاسب.
وقيل: لا يتسر منكم عورة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يُحْشرُ النَّاسُ حُفاةً عُراةً».
قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾، وهذا دليلٌ على النجاة.
قال ابن عباسٍ: أول من يُعْطَى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمرُ بن الخطاب، وله شعاعٌ كشعاع الشمس، وقيل له: فأين أبو بكر، فقال: هيهات، زفَّته الملائكةُ إلى الجنَّة.
قال القرطبي: وقد ذكرناه مرفوعاً من حديث زيد بن ثابت بلفظه، ومعناه في كتاب «التذكرة».
قوله: «هَاؤمَ»، أي: خذوا ﴿اقرؤا كِتَابيَهْ﴾ يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائلِ الفرح.
قال الشاعر: [الوافر]
٤٨٤٨ - إذَا مَا رايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ | لقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ |
٤٨٤٩ - أبِينِي أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي | فأفْرَحُ أمْ صيَّدْتِنِي بِشمَالِكِ |
وقال مقاتلُ: «هَلُمَّ».
وقيل: خذوا، ومنه الحديث في الربا: «إلا هَاء وهَاءَ»، أي: يقول كل واحد لصاحبه: خُذْ، وهذا هو المشهورُ.
وفي الحديث: «أنَّه نَاداهُ أعرَابِيٌّ بصَوْتٍ عَالٍ، فأجَابَهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» هَاؤمُ «يطول صوته.».
وقيل: معناها «اقصدوا».
وزعم هؤلاء أنها مركبة من هاء التنبيه، وأموا، من الأم، وهو القصدُ، فصيره التخفيف والاستعمال إلى «هاؤم».
وقيل: «الميمُ» ضميرُ جماعةِ الذكور.
وزعم القتيبي: أنَّ «الهمزة» بدلٌ من «الكاف».
فإن عنى أنها تحلُّ محلَّها فصحيح، وإن عنى البدل الصناعي فليس بصحيح.
فقوله: «هاؤم» يطلب مفعولاً يتعدى إليه بنفسه إن كان بمعنى: «خُذْ» أو «اقْصِد إليّ» إن كان بمعنى: «تَعَالَوْا»، و «اقرأوا» يطلبه أيضاً، فقد تنازعا في: «كِتَابِيَه» وأعمل الثاني للحذف من الأول.
وقد تقدم تحقيق هذا في سورة «الكهف».
وفيها لغاتٌ: وذلك أنها تكون فعلاً صريحاً، وتكون اسم فعل، ومعناها في الحالين: «خذ» فإن كانت اسم فعلٍ، وهي المذكورة في الآية الكريمة، ففيها لغتان: المدّ والقصر تقول: «هَا درهماً يا زيدُ، وهاء درهماً»، ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ، ويتصل بهما كافُ الخطاب، اتصالها بإسم الإشارة، فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي ضميره، نحو: «هَاكَ، هَاكِ، هاءَكَ» إلى آخره.
وتخلف كافُ الخطابِ همزة «هاءَ» مصرفة تصرف كاف الخطاب، فتقول: «هَاءَ يا زيدُ، هاءِ يا هندُ، هاؤم، هاؤن» وهي لغةُ القرآن.
وإذا كانت فعلاً صريحاً؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاثة لغاتٍ:
إحداها: أن يكون مثل «عَاطَى يُعَاطِي»، فيقال: «هاء يا زيدُ، هائِي يا هندُ، هائيَا يا زيدان أو يا هنداتُ، هاءوا يا زيدون، هائين يا هنداتُ».
الثانية: أن تكون مثل: «هَبْ» فيقال: «هَأ، هِىء، هَاءَا، هِئُوا، هِئْنَ»، مثل: «هَبْ، هِبِي، هِبَا، هِبُوا، هِبْنَ».
الثالثة: أن تكون مثل: «خَفْ» أمراً من الخوف، فيقال: «هَأْ، هَائِي، هَاءَا، هَاءُوا، هَأنَ»، مثل: «خَفْ، خَافِي، خَافَا، خَافُوا، خفْنَ».
قوله: «كتابيه». منصوب ب «هاؤم» عند الكوفيين، وعند البصريين ب «اقرأوا» ؛ لأنه أقربُ العاملين، والأصل «كتابي» فأدخل «الهاء» لتبين فتحة «الياءِ» و «الهاء» في «كتابيه»
وكذلك في «مَاليَه» و «سلطانيه» و ﴿مَا هِيَهْ﴾ [القارعة: ١٠] في القارعة، عند القُرَّاء كلهم إلا حمزة، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث وصلاً، وأثبتها وقفاً؛ لأنها في الوقف يحتاج إليها؛ لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه، وفي الوصل يستغنى عنها.
فإن قيل: فَلِمَ لم يفعل ذلك في «كتابيه» و «حسابيه» ؟.
فالجواب: أنه جمع بين اللغتين، هذا في القراءات السبعِ.
وقرأ ابن محيصن: بحذفها في الكلم كلِّها وصلاً ووقفاً إلا في «القارعة»، فإنه لم يتحقق عنه فيها نقل.
وقرأ الأعمشُ، وابن أبي إسحاق: بحذفها فيهن وصلاً، وإثباتها وقفاً.
وابن محيصن: يسكنُ الهاء في الكلم المذكورة بغيرها.
والحق أنها قراءةٌ صحيحةٌ، أعني ثبوت هاء السكتِ وصلاً؛ لثبوتها في خط المصحف الكريم، ولا يلتفت إلى قول الزهراوي إن إثباتها في الوصل لحن لا أعلم أحداً يجيزه. وقد تقدم الكلام على هاء السكت في البقرة والأنعام.
قوله: ﴿إنِّي ظَنَنتُ﴾.
قال ابن عباس: أي: أيقنتُ وعلمتُ.
وقيل: ظننتُ أن يؤاخذني الله بسيئاتي إن عذبني فقد تفضَّل علي بعفوه، ولم يؤاخذني بها.
قال الضحاك: كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك.
وقال مجاهد: ظَنُّ الآخرة يقين وظَنُّ الدنيا شَكٌّ.
وقال الحسن في هذه الآية: إنّ المؤمن من أحسن الظَّن بربّه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء الظن بربه، فأساء العمل.
قوله: ﴿رَّاضِيَةٍ﴾، فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على المجاز جعلت العيشة راضية؛ لمحلها في مستحقيها، وأنها لا حال أكمل من حالها، والمعنى في عيش يرضاه لا مكروه فيه.
الثاني: أنه على النَّسب، أي: ذات رضا، نحو: «لابنٌ وتامرٌ» لصاحب اللَّبن والتَّمْرِ والمعنى: ذات رضا يرضى بها صاحبها.
الثالث: قال أبو عبيدة والفراء: إنه مما جاء فيه «فاعل» بمعنى مفعول نحو: ﴿مَّآءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق: ٦]، أي: مدفوق، كما جاء مفعول بمعنى فاعل، كقوله: ﴿حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإسراء: ٤٥]، أي: ساتراً.
فصل في تنعم أهل الجنة.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّهُم يَعِيشون فلا يَمُوتُون أبداً، ويصحُّونَ فلا يَمْرضُونَ أبداً، وينعَمُونَ فلا يَرَوْنَ بأساً أبَداً ويَشِبُّونَ فلا يَهْرمُونَ أبداً».
قوله: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾، أي: عظيمةٌ في النفوس، ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾، القطوف جمع: قطف، وهو فعل بمعنى مفعول، ك «الدِّعْي» و «الذِّبْح»، وهو ما يَجتنِيهِ الجاني من الثِّمار، و «دَانِيَةٌ»، أي: قريبة التناولِ يتناولها القائم، والقاعد، والمضطجع.
والقِطْف - بكسر القاف - وهو ما يقطفُ من الثِّمار، والقَطْفِ - بالفتح - المصدر، والقِطَاف - بالفتح والكسر - وقت القطف.
﴿كُلُواْ﴾، أي: يقال لهم: كلوا واشربوا، وهذا أمر امتنان، لا أمرُ تكليف.
وقوله: «هنيئاً» قد تقدم في أول النساء وجوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوفٍ، أي: «أكْلاً هنيئاً وشُرْباً هنيئاً»، وأن ينتصب على المصدر بعامل من لفظه مقدر، أي: «هَنِئْتُم بذلك هَنِيئاً». و «الباء» في «بما أسْلفتُمْ» سببية، و «ما» مصدرية أو اسمية، ومعنى «هَنِيئاً»، لا تكدير فيه ولا تنغيص، «بما أسْلَفْتُم» قدمتم من الأعمال ﴿فِي الأيام الخالية﴾، أي: في الدنيا.
قالت المعتزلةُ: وهذا يدل على أنَّ العمل يوجبُ الثوابَ، وأن الفعل للعبدِ، وقال: «كُلُوا» بعد قوله: ﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ لقوله: ﴿فأما من أوتي كتابه﴾، و «من» تتضمنُ معنى الجمعِ.
فصل فيمن نزلت فيه الآية
ذكر الضحاكُ: أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
وقال مقاتل: والآية التي قبلها في أخيه الأسود بن عبد الأسد في قول ابن عبَّاس والضحاك.
قال الثعلبي: ويكون هذا الرجل، وأخوه سبب نزول هذه الآيات، ويعم المعنى جميع أهل الشقاوةِ، والسعادة، بدليل قوله تعالى: ﴿كُلُواْ واشربوا﴾.
وقيل: إنَّ المراد بذلك كل من كان متبوعاً في الخير والشر يدعو إليه، ويأمر به.
قوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله يخجل منها ويقول: ﴿ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ ثُم يتمنَّى الموت، ويقول: ﴿ياليتها كَانَتِ القاضية﴾.
فالضَّميرُ في «لَيْتهَا» قيل: يعود إلى الموتةِ الأولى، وإن لم تكن مذكورة، إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة.
و «القَاضِيَة» : القاطعةُ من الحياة، قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة﴾ [الجمعة: ١٠]، ويقال: قُضِيَ على فلان، إذا مات، والمعنى: يا ليتها الموتة التي كانت القاطعة لأمري، ولم أبْعَثْ بعدها، ولم ألقَ ما وصلت إليه.
قال قتادة: يتمنى الموت، ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشرٌّ من الموت ما يطلب منه الموت؛ قال الشاعر: [الطويل]
٤٨٥٠ - وشَرٌّ مِنَ الموْتِ الذي إنْ لَقيتُهُ | تَمَنَّيتُ مِنْهُ المَوْتَ، والمَوْتُ أعْظَمُ |
قوله: ﴿مَآ أغنى عَنِّي﴾، يجوزُ أن يكون نفياً، وأن يكون استفهام توبيخٍ لنفسه، أي: أيُّ شيءٍ أغنى عني ما كان لي من اليسار.
﴿هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ قال ابن عباس: هلكتْ عنِّي حُجَّتِي، والسلطانُ: الحجةُ التي كنتُ أحتجُّ بها، وهو قول مجاهدٍ وعكرمة والسُّدي والضَّحاك.
وقال ابن زيد: يعني مُلكي وتسلّطي على الناس، وبقيت ذليلاً فقيراً، وكان مُطاعاً في أصحابه.
وإن كان عائداً إلى أهلِ المؤتفكاتِ، فرسولُ ربِّهم لوط عليه الصلاة والسلام.
قال الواحديُّ : والوجه أن يقال : المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله :«فَعَصَوْا » فيكون كقوله :﴿ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين ﴾.
قال القرطبي١ : وقيل :«رسول » بمعنى رسالة، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول، كقوله :[ الطويل ]
٤٨٤٣ - لَقَدْ كَذَبَ الواشُونَ ما بُحْتُ عِندهُمْ***بِسِرِّ ولا أرْسلتُهُمْ بِرسُولِ٢
قوله :﴿ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ﴾، أي : عالية زائدة على الأخذات، وعلى عذاب الأمم، يقال : ربا الشيء يربوا إذا زاد، ومنه الرِّبا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطي.
والمعنى : أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القُبحِ على أفعال سائرِ الكفار.
وقيل : إن عقوبة آل فرعون في الدنيا متعلقة بعذاب الآخرة، لقوله :﴿ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ﴾[ نوح : ٢٥ ] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدُّنيا، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو.
٢ تقدم..
﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية ﴾، أي : ارتفع وعلا.
وقال عليٌّ رضي الله عنه : طَغَى على خُزَّانه من الملائكة غضباً لربِّه، فلم يقدروا على حبسه١.
قال المفسرون : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً.
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه : طغى الماءُ زمن نوحٍ على خزانه، فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج، وليس من الماء قطرة تنزل قبله، ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم٢، وقد تقدم مرفوعاً أوَّل السورةِ، والمقصود من ذكر قصص هذه الأممِ، وذكر ما حل بهم من العذاب، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسولِ، ثم منَّ عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله :«حَمَلْناكُم » أي : حملنا آباءكم، وأنتم في أصلابهم، «فِي الجَاريَةِ » أي : في السفن الجاريةِ، والمحمولُ في الجارية إنَّما هو نوحٌ وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك.
والجارية من أسماء السفينة، ومنه قوله تعالى :﴿ وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام ﴾[ الرحمن : ٢٤ ]، وغلب استعمالُ الجاريةِ في السفينة ؛ كقوله في بعض الألغاز :[ البسيط ]
٤٨٤٤ - رَأيْتُ جَاريَةٌ في بَطْنِ جَارِيَةٍ***فِي بَطْنِهَا رجُلٌ في بطْنهِ جَمَلُ٣
٢ تقدم تخريج هذا الأثر..
٣ ينظر البحر المحيط ٨/٣١٦، والدر المصون ٦/٣٦٣.
قال ابن جريجِ : كانت ألواحُهَا على الجوديِّ، والمعنى : أبقيتُ لكم الخشباتِ حتى تذكروا ما حلَّ بقوم نوحٍ، وأنجى الله أباكم، وكم من سفينةٍ هلكت وصارت تراباً، ولم يبق منها شيءٌ، وهذا قولُ الفرَّاءِ.
قال ابنُ الخطيبِ١ : وهذا ضعيفٌ، بل الصوابُ ما قاله الزجاج : أن الضمير في قوله :«لنجعلها » يعود إلى «الواقِعَة » التي هي معلومةٌ، وإن كانت هنا غير مذكورةٍ، والتقدير : لنجعل نجاةَ المؤمنين وإغراق الكافرين عظةً، وعبرةً، ويدل على صحته قوله :﴿ وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ فالضمير في قوله :«وتَعِيهَا » لا يمكن عوده إلى السفينة، فكذا الضمير الأول.
قوله :«وتَعِيهَا » العامة : على كسر العين وتخفيف التاء، وهو مضارع «وَعَى » منصوب عطفاً على «لنجْعَلهَا ».
وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون٢ عنه وقنبل، قال القرطبي٣ : وحميد والأعرج بإسكانها تشبيهاً له ب «رحم، وشهد » وإن لم يكن منه، ولكن صار في اللفظ بمنزلة الفعل الحلقي العين.
قال ابن الخطيب٤ : وروى عن ابن كثيرٍ إسكان العين، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلةٍ واحدةٍ، فحذف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من «فَخْذ وكَبْد وكَتْف »، وإنما فعل ذلك ؛ لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل، فأشبه ما هو من نفس الكلمة، وصار كقول من قال : وَهْو وَهْي، ومثل ذلك ﴿ وَيَتَّقْهِ ﴾[ النور : ٥٢ ] في قراءة من سكَّن القاف.
وروي عن حمزة : إخفاء٥ الكسرة.
وروي عن عاصم وحمزة٦ : بتشديد «الياء ».
وهو غلط عليهما، وإنما سمعهما الراوي يثبتان حركة الياء، فظنَّها شدة.
وقيل : أجريا الوصل مجرى الوقف فضعِّف الحرفُ، وهذا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وروي عن حمزة أيضاً، وموسى٧ بن عبد الله العبسي :«وتعِيهَا » بسكون «الياء ».
وفيه وجهان : الاستئناف، والعطف على المنصوب، وإنما سكنا «الياء » استثقالاً للحركة على حرف العلة، كقراءة :﴿ تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾[ المائدة : ٨٩ ].
فصل في «وعى »
قال الزَّجَّاجُ : يقال : وعيتُ كذا، أي : حفظتُه في نفسي، أعيه وعْياً ووعيتُ العلمَ، ووعيتُ ما قلته كله بمعنى، وأوعيت المتاع في الوعاء.
قال الزجاجُ : يقال لكل ما حفظته في غير نفسك : أوعيتُه - بالألف - ولما حفظته في نفسك : وعيته، بغير ألف.
قال ابن الخطيب٨ : واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قومٍ من الغرقِ في السَّفينة، وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم، ونفاذ مشيئته، ونهاية حكمته، ورحمته، وشدة قهره.
«روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية :" سَألْتُ اللَّه أنْ يَجْعلهَا أذنَكَ يا عليُّ "، قال علي رضي الله عنه :" فما نَسِيتُ شيئاً بعد ذلك " ٩.
فإن قيل : لِمَ قال :«أذُنٌ واعِيَةٌ » على التوحيد والتنكير ؟.
فالجوابُ : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلةٌ، ولتوبيخ الناس بقلة من يَعِي منهم، والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعيت وعقلتْ عن الله، فهي السَّواد الأعظم عند الله، وأن سواها لا يلتفت إليهم، وإن امتلأ العالمُ منهم.
ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾[ ق : ٣٧ ].
قال قتادة : الأذُنُ الواعيةُ أذنٌ عقلتْ عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل١٠.
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/١٣٧، والدر المصون ٦/٨٣٦٣..
٣ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٧١..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٩٤..
٥ ينظر: البحر المحيط ٨/١٣٧، والدر المصون ٦/٣٦٣..
٦ ينظر السابق..
٧ ينظر السابق..
٨ ينظر: الفخر الرازي ٣/٩٤..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢١٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠٧) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق شهر بن حوشب عن مكحول به..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢١٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/١٣) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد..
لما حكى هذه القصص الثلاثة ونبَّه بها على ثبوت القدرة والحكمة للصانع، فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة، ويثبت القدرة إمكان وقوع الحشر، ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة، فذكر أولاً مقدماتها، فقال :﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾.
قوله :«واحدةٌ » تأكيد، و «نَفْخَةٌ » مصدر قام مقام الفاعل.
وقال ابنُ عطية :«لما نُعِتَ صحَّ رفعهُ » انتهى.
ولو لم يُنعتْ لصحَّ رفعه ؛ لأنه مصدر مختص لدلالته على الوحدة، والممنوع عند البصريين إنما هو إقامة المبهمِ، نحو :«ضَرَبَ ».
والعامةُ على الرفع فيهما.
وقرأ أبو السّمال : بنصبهما١، كأنه أقام الجارَّ مقام الفاعلِ، فترك المصدر على أصله، ولم يؤنث الفعل وهو :«نُفِخَ » ؛ لأن التأنيث مجازي وحسَّنه الفصل انتهى.
فصل في النفخة الأولى
قال ابن عباس : هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلا يبقى أحد إلا مات٢.
قال ابن الخطيب٣ : لأن عندها يحصل خرابُ العالمِ.
فإن قيل : لم قال بعد ذلك ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ﴾ والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية ؟.
قلت : جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النَّفختان، والصَّعقة والنشور، والوقوف، والحساب، فكذلك ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ﴾ كقوله :«جئتُه عام كذا » وإنَّما كان مجيئُك في وقتٍ واحدٍ من أوقاته.
وقيل : إنَّ هذه النَّفخة هي الأخيرةُ.
وقال :﴿ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾، أي : لا تثنَّى.
قال الأخفشُ : ووقع الفعلُ على النَّفخة، إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع، فقيل : نفخة.
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٧١)..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٣/٩٥..
أي : وحملتها الريحُ، أو الملائكةُ، أو القدرةُ، أي : رفعتْ من أماكنها، «فَدُكَّتا »، أي : فُتَّتَا وكسِّرتا، ﴿ دَكَّةً وَاحِدةً ﴾ أي : الأرض والجبالُ ؛ لأن المراد الشيئان المتقدمان، كقوله :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾[ الحجرات : ٩ ].
ولا يجوزُ في «دكَّةً » إلا النصبُ ؛ لارتفاع الضمير في «دُكَّتَا »١.
وقال الفرَّاءُ : لم يقلْ :«فَدُكِكْنَ » ؛ لأنه جعل الجبال كلها كالجملةِ الواحدة [ والأرض كالجملة الواحدة ] ومثله :﴿ أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً ﴾[ الأنبياء : ٣٠ ]، ولم يقل :«كُنَّ ».
وهذا الدَّكُّ، كالزلزلةِ لقوله تعالى :﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا ﴾[ الزلزلة : ١ ].
وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنَّها تحمل الأرض والجبال، أو بملك من الملائكة، أو بقدرة الله، «فَدُكَّتَا »، أي : جملة الأرض، وجملة الجبال تضرب بعضها في بعض حتى تندق وتصير ﴿ كَثِيباً مَّهِيلاً ﴾[ المزمل : ١٤ ]، و ﴿ هَبَاءً مُّنبَثّاً ﴾[ الواقعة : ٦ ].
والدَّكُّ أبلغُ من الدَّق وقيل :«دُكَّتا » أي : بُسطتا بسطةً واحدةً، ومنه اندكَّ سنامُ البعير، إذا انفرش في ظهره.
وقرأ ابن عامرٍ٢ في رواية، والأعمش، وابن أبي عبلة وابن مقسم :«وحُمِّلت » - بتشديد الميم -.
فجاز أن يكون التشديد للتكثير، فلم يكسب الفعل مفعولاً آخر.
وجاز أن يكون للتعدية فيكسبه مفعولاً آخر، فيحتمل أن يكون الثاني محذوفاً، والأول هو القائمُ مقام الفاعلِ تقديره : وحُمِّلت الأرض والجبال ريحاً تفتتها، لقوله :﴿ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ﴾[ طه : ١٠٥ ].
وقيل : التقدير : حملنا ملائكة، ويحتمل أن يكون الأول هو المحذوف، والثاني هو القائم مقام الفاعل.
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٣١٧، والدر المصون ٦/٣٦٣..
والتنوين في «يومئذٍ » للعوضِ من الجملة، تقديره : يومئذٍ نُفِخَ في الصُّوْرِ.
فصل في معنى الآية
المعنى قامت القيامة الكبرى ﴿ وانشقت السماء ﴾ أي : انصدعت وتفطرت.
وقيل : انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾[ الفرقان : ٢٥ ] ﴿ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾، أي : ضعيفة مسترخيةٌ ساقطةٌ ﴿ كالعهن المنفوش ﴾ [ القارعة : ٥ ] بعد ما كانت محكمةً.
يقال : وهى البناء يَهِي وهْياً، فهو واهٍ إذا ضعف جدّاً.
ويقال : كلامٌ واهٍ أي : ضعيف.
فقيل : إنَّها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهْي، ويكون ذلك لنزولِ الملائكةِ.
وقيل : لهولِ يوم القيامةِ.
وقال ابن شجرة :«واهية » أي : متخرقة، مأخوذ من قولهم : وهى السِّقاءُ١، إذا انخرق.
ومن أمثالهم :[ الرجز ]
٤٨٤٥ - خَلِّ سَبيلَ مَنْ وهَى سِقاؤهُ***ومَنْ هُرِيقَ بالفَلاةِ مَاؤهُ٢
أي : من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه.
٢ ينظر القرطبي ١٨/١٧٢، والبحر ٨/١٣٤، والدر المصون ٦/٣٦٤، وروح المعاني ٢٩/٥٥..
٤٨٤٦ - فَلاَ يُرْمَى بِيَ الرَّجوانِ أنَّي***أقَلُّ القَوْمِ مَنْ يُغْنِي مَكانِي١
وقال آخر :[ الطويل ]
٤٨٤٧ - كَأنْ لَمْ تَرَي قَبْلِي أسِيراً مُقَيَّداً*** ولا رَجُلاً يُرْمَى بِهِ الرَّجوانِ٢
و «رجاء » هذا يكتب بالألف عكس «رَجَا » ؛ لأنه من ذوات الواو، ويقال :«رجا »، ورجوانِ، والجمع :«الأرجاء »، ويقال ذلك لحرفي البئر وحرف القبر وما أشبهه.
فصل في تفسير الآية
قال ابن عباس : على أطرافها حين تنشق٣.
قال الماورديُّ : ولعله قول مجاهد وقتادة، وحكاه الثعلبي عن الضحاك، قال : على أطرافها مما لم تنشقّ منها٤.
وقال سعيد بن جبيرٍ : المعنى والملك على حافات الدنيا٥، أي : ينزلون إلى الأرض، ويحرسون أطرافها.
وقال : إذا صارت السماءُ قطعاً، تقف الملائكةُ على تلك القطعِ التي ليست مُتشققة في أنفسها.
فإن قيل : الملائكةُ يمُوتُونَ في الصَّعقةِ الأولى، لقوله تعالى :﴿ فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض ﴾[ الزمر : ٦٨ ] فكيف يقال : إنهم يقفون على أرجاء السماء ؟.
فالجوابُ من وجهين٦ :
الأول : أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء، ثم يموتون.
والثاني : المراد الذين استثناهم في قوله :﴿ إِلاَّ مَن شَاءَ الله ﴾.
فإن قيل : إنَّ الناس إذا رأوا جهنَّم هالتهم، فندُّوا كما تندُّ الإبلُ، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلاَّ رأوا ملائكة، فيرجعون من حيثُ جاءوا.
وقيل :﴿ على أَرْجَائِهَا ﴾ ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النَّارِ من السَّوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة، وهذا كلُّه راجعٌ إلى قول ابن جبير، ويدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾[ الفرقان : ٢٥ ].
قوله :﴿ على أَرْجَائِهَا ﴾، خبر المبتدأ، والضمير للسماء، وقيل : للأرضِ، على ما تقدم.
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما الفرق بين قوله :«والمَلَكُ » وبين أن يقال :«والمَلائِكَةُ » ؟
قلت : الملكُ أعمُّ من الملائكةِ، ألا ترى إلى قولك :«ما من ملك إلاَّ وهو ساجدٌ » أعم من قولك :«ما مِنْ ملائكةٍ » انتهى.
قال أبو حيَّان٧ : ولا يظهر أنَّ الملك أعمُّ من الملائكةِ، لأن المفرد المحلَّى بالألف واللام، قُصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلَّى، ولذلك صح الاستثناءُ منه، فقصاراه أن يكون كالجمع المُحَلَّى بهما، وأما دعواه أنه أعم منه، بقوله :«ألا ترى » إلى آخره، فليس دليلاً على دعواه ؛ لأن «مِنْ ملكٍ » نكرةٌ مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها «مِن » المخلصة للاستغراق، فشملت كل ملكٍ فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفرد فيه، فانتفى كل فردٍ فرد، بخلاف «مِنْ ملائِكةِ »، فإن «مِنْ » دخلت على جمع منكَّر، فعمّ في كل جمع جمع من الملائكةِ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ من الملائكة، لو قلت :«ما في الدار من رجال » جاز أن يكون فيها واحدٌ، لأن النفي إنما انسحب على جمع، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفردُ، والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه «مِنْ » وإنَّما جِيءَ به مفرداً ؛ لأنه أخفُّ، ولأن قوله :﴿ على أَرْجَائِهَا ﴾ يدلُّ على الجمع ؛ لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون «على أرجائِهَا » في وقتٍ واحدٍ بل أوقات، والمراد - والله أعلم - أن الملائكة على أرجائها إلاَّ أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات.
وقال شهاب الدين : إنَّ الزمخشريَّ منزعهُ في هذا ما تقدم عنه في أواخر سورة «البقرة » عند قوله :﴿ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾[ البقرة : ٢٨٥ ] فليرجع ثمَّة.
وأما قول أبي حيان :«ما مِنْ رجالٍ » أن النفي منسحبٌ على رُتَب الجمع، ففيه خلاف، والتحقيق ما ذكره.
قوله :﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾.
الضمير في «فَوقَهُمْ » يجوز أن يعود على «الملائكة » بمعنى كما تقدم، وأن يعود على الحاملين الثمانية.
وقيل : إنَّ حملة العرشِ فوقَ الملائكةِ الذينَ في السماء على أرجائها.
وقيل : يعود على جميع العالم، أي : أن الملائكة تحمل عرش الله فوق العالم كلِّه.
فصل في هؤلاء الثمانية
قال ابن عباس : ثمانية صنوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله٨.
وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاكٍ٩.
وعن الحسن : الله أعلمُ كم هم ثمانية، أم ثمانية آلاف، أو ثمانية صفوف١٠. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أَنَّ حَمَلةَ العَرْشِ اليَوْم أربعةُ أوعالٍ، فإذَا كان يومُ القيامةِ أيدهُم اللَّهُ بأربَعة آخرين، فكانُوا ثَمانيَةً » خرَّجَهُ الماورديُّ مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم١١. ورواه العباسُ بنُ عبد المطّلب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال :«هُمْ ثَمانِيَةُ أملاكٍ على صورةِ الأوعالِ، لكلِّ ملكٍ منهُم أربعةُ أوجهٍ : وجهُ رجُلٍ، ووجهُ أسدٍ، ووجهُ ثورٍ، ووجهُ نسْرٍ، وكلُّ وجهٍ مِنْهَا يسألُ اللَّهَ الرِّزقَ لذلك الجِنْسِ »١٢.
فإن قيل : إذا لم يكنْ فيهم صورةُ وعلٍ، فكيف سُمُّوا أوعالاً ؟.
فالجواب : أنَّ وجْهَ الثَّور إذا كانت له قرون الوعْلِ أشبه الوعْلَ.
وفي الخبرِ :«أنَّ فَوْقَ السَّماءِ السَّابعةِ ثمانيةَ أوْعالٍ بينَ أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ مثلُ ما بَيْنَ سماءٍ إلى سماءٍ، وفوقَ ظُهورهِنَّ العَرْشُ »١٣ ذكره القشيريُّ، وخرَّجهُ الترمذيُّ من حديث العباس بن عبد المُطلبِ.
وفي حديث مرفوع :«أنَّ حَمَلَةَ العرْشِ ثَمَانيَةُ أمْلاكٍ ؛ على صُوَرِ الأوعالِ، ما بين أظْلافهَا إلى رُكَبِهَا مسِيْرةُ سبعِينَ عاماً للطَّائرِ المُسْرعِ ».
ورُوي أنَّ أرجلهنَّ في السَّماءِ١٤ السَّابعةِ١٥.
فصل في إضافة العرش إلى الله
إضافة العرش إلى الله - تعالى - كإضافة البيت إليه، وليس البيتُ للسكنِ، فكذلك العرشُ، ومعنى «فوقهم » أي : فوق رءوسهم.
٢ ينظر اللسان (رجا) والبحر ٨/٣١٤، والدر المصون ٦/٣٦٤..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠٨) وعزاه إلى عبد بن حميد وعبد الرزاق..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠٨) وعزاه إلى ابن المنذر..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢١٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠٨) وعزاه إلى عبد بن حميد..
٦ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٩٦..
٧ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٢٣..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢١٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٢٦) عن ابن زيد..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٧٣) عن الحسن..
١١ تقدم تخريجه..
١٢ أخرجه أبو يعلى (١٢/٧٤) رقم (٦٧١٢) والحاكم (٢/٥٠٠). وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠٨) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية وابن المنذر وابن خزيمة وابن مردويه والخطيب في "تالي التلخيص" عن العباس بن عبد المطلب..
١٣ أخرجه أبو داود (٢٧٢٤) والترمذي (٢/٣٣٢) وابن خزيمة في "التوحيد" (ص٦٨) وابن ماجه (١٩٣) وابن أبي عاصم في "السنة" (١/٢٥٣-٢٥٤) من حديث العباس بن عبد المطلب..
١٤ في أ: الأرض..
١٥ تقدم تخريجه..
وأجاب : بأنه لا يمكن أن يكون المراد أنَّ الله - تعالى - جالس في العرش ؛ لأن كل من كان حاملاً للعرش ؛ كان حاملاً لكل ما كان في العرش فلو كان الإلهُ على العرش لزم أن يكون الملائكة حاملين لله تعالى، وذلك محالٌ ؛ لأنه يقتضي احتياج الله إليهم، وأن يكونوا أعظم قدراً من الله، وكل ذلك كفرٌ، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل، فنقول : السببُ في هذا الكلام هو أنه - تعالى - خاطبهم بما يتعارفونه، فخلق لنفسه بيتاً يزورونه ليس أنه يسكنه - تعالى الله عن ذلك - وجعل في ركن البيت حجراً، هو يمينه في الأرض إذْ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم، وجعل على العبادِ حفظةً لا لأن النسيان يجوزُ عليه سبحانه، وكذلك أنَّ الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس على سريره، ووقفت الأعوانُ حوله، فسمى الله يوم القيامة عرشاً، وحفَّت به الملائكة لا لأنه يقعد عليه، أو يحتاجُ إليه، بل كما قلنا في البيت والطَّواف.
قوله :﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ﴾ هو جواب «إذَا » من قوله :«فَإذَا نُفِخَ ». قاله أبو حيَّان٢.
وفيه نظرٌ، بل جوابها ما تقدم من قوله :«وقَعَتِ الواقِعَةُ » و «تُعْرضُونَ » على هذا مستأنفة.
قوله :﴿ لاَ تخفى ﴾.
قرأ الأخوان٣ : بالياء من تحت ؛ لأن التأنيث مجازي، كقوله :﴿ وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة ﴾[ هود : ٦٧ ].
واختاره أبو عبيد ؛ لأنه قد حال بين الفعل والاسم المؤنث الجار والمجرور.
والأخوان : على أصلهما في إمالة الألف.
وقرأ الباقون :«لا تَخْفَى » بالتاء من فوق للتأنيث اللفظي والفتح وهو الأصل، واختاره أبو حاتم.
فصل في العرض على الله
قال القرطبيُّ٤ : هذا هو العرضُ على الله، ودليله :﴿ وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً ﴾[ الكهف : ٤٨ ] وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً، بل ذلك العرضُ عبارةٌ عن المحاسبة والمساءلة وتقدير الأعمال عليهم للمجازاة.
قال صلى الله عليه وسلم :«يُعْرَضُ النَّاسُ يوم القِيامةِ ثلاثَ عَرضَاتٍ، فأما عَرْضتانِ فَجِدالٌ، ومعَاذِيرٌ وأما الثَّالثةُ فعند ذلك تَطِيْرُ الصُّحُفُ في الأيْدِي فآخِذٌ بيَمِينِهِ وآخِذٌ بِشمالهِ »٥.
وقوله :﴿ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾.
قال ابن شجرة : أي : هو عالم بكل شيء من أعمالكم، ف «خَافِيَة » على هذا بمعنى «خفيَّة » كانوا يخفونها من أعمالهم، ونظيره قوله تعالى :﴿ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ ﴾[ غافر : ١٦ ].
قال ابن الخطيب٦ : فيكون الغرضُ المبالغة في التهديدِ، يعني :«تُعرَضُون على من لا يخفى عليه شيء ».
وقيل : لا يخفى عليه إنسان لا يحاسب.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : لا يَخْفَى المُؤمِنُ من الكافر، ولا البَرُّ من الفاجرِ.
وقيل : لا يتسر منكم عورة، لقوله عليه الصلاة والسلام :«يُحْشرُ النَّاسُ حُفاةً عُراةً ».
٢ البحر المحيط ٨/٣٢٤..
٣ ينظر: السبعة ٦٤٨، والحجة ٦/١٣٥، وإعراب القراءات ٢/٣٨٦، وحجة القراءات ٧١٨..
٤ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٧٤..
٥ أخرجه أحمد (٤/٤١٤) وابن ماجه (٢/١٤٣٠) من طريق الحسن عن أبي موسى.
قال البوصيري في "الزوائد" (٣/١٣٥): هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع الحسن لم يسمع من أبي موسى قاله علي بن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة.
ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" بإسناده ومتنه.
وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي (٢٤٢٥) من طريق الحسن عنه.
وقال الترمذي: ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن علي الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال: ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي موسى.
ولتفصيل سماع الحسن من أبي هريرة وأبي موسى ينظر "جامع التحصيل" (ص١٦٢-١٦٤) للحافظ العلائي..
٦ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٩٧..
قال ابن عباسٍ : أول من يُعْطَى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمرُ بن الخطاب، وله شعاعٌ كشعاع الشمس، وقيل له : فأين أبو بكر، فقال : هيهات، زفَّته الملائكةُ إلى الجنَّة١.
قال القرطبي٢ : وقد ذكرناه مرفوعاً من حديث زيد بن ثابت بلفظه، ومعناه في كتاب «التذكرة ».
قوله :«هَاؤمَ »، أي : خذوا ﴿ اقرؤا كِتَابيَهْ ﴾ يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته ؛ لأن اليمين عند العرب من دلائلِ الفرح.
قال الشاعر :[ الوافر ]
٤٨٤٨ - إذَا مَا رايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ***لقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ٣
وقال :[ الطويل ]
٤٨٤٩ - أبِينِي أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي*** فأفْرَحُ أمْ صيَّدْتِنِي بِشمَالِكِ٤
وقال ابن زيدٍ : معنى :«هَاؤمُ » : تعالوا٥، فتتعدى ب «إلى ».
وقال مقاتلُ :«هَلُمَّ »٦.
وقيل : خذوا، ومنه الحديث في الربا :«إلا هَاء وهَاءَ »، أي : يقول كل واحد لصاحبه : خُذْ، وهذا هو المشهورُ.
وقيل : هي كلمةٌ وضعت لإجابة الدَّاعي عند الفرح، والنَّشاط.
وفي الحديث :«أنَّه نَاداهُ أعرَابِيٌّ بصَوْتٍ عَالٍ، فأجَابَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم " هَاؤمُ " يطول صوته ».
وقيل : معناها «اقصدوا ».
وزعم هؤلاء أنها مركبة من هاء التنبيه، وأموا، من الأم، وهو القصدُ، فصيره التخفيف والاستعمال إلى «هاؤم ».
وقيل :«الميمُ » ضميرُ جماعةِ الذكور.
وزعم القتيبي : أنَّ «الهمزة » بدلٌ من «الكاف ».
فإن عنى أنها تحلُّ محلَّها فصحيح، وإن عنى البدل الصناعي فليس بصحيح.
فقوله :«هاؤم » يطلب مفعولاً يتعدى إليه بنفسه إن كان بمعنى :«خُذْ » أو «اقْصِد إليّ » إن كان بمعنى :«تَعَالَوْا »، و «اقرأوا » يطلبه أيضاً، فقد تنازعا في :«كِتَابِيَه » وأعمل الثاني للحذف من الأول.
وقد تقدم تحقيق هذا في سورة «الكهف ».
وفيها لغاتٌ : وذلك أنها تكون فعلاً صريحاً، وتكون اسم فعل، ومعناها في الحالين :«خذ » فإن كانت اسم فعلٍ، وهي المذكورة في الآية الكريمة، ففيها لغتان : المدّ والقصر تقول :«هَا درهماً يا زيدُ، وهاء درهماً »، ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ، ويتصل بهما كافُ الخطاب، اتصالها باسم الإشارة، فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي ضميره، نحو :«هَاكَ، هَاكِ، هاءَكَ » إلى آخره.
وتخلف كافُ الخطابِ همزة «هاءَ » مصرفة تصرف كاف الخطاب، فتقول :«هَاءَ يا زيدُ، هاءِ يا هندُ، هاؤما، هاؤم، هاؤن » وهي لغةُ القرآن.
وإذا كانت فعلاً صريحاً ؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاثة لغاتٍ :
إحداها : أن يكون مثل «عَاطَى يُعَاطِي »، فيقال :«هاء يا زيدُ، هائِي يا هندُ، هائيَا يا زيدان أو يا هنداتُ، هاءوا يا زيدون، هائين يا هنداتُ ».
الثانية : أن تكون مثل :«هَبْ » فيقال :«هَأ، هِىء، هَاءَا، هِئُوا، هِئْنَ »، مثل :«هَبْ، هِبِي، هِبَا، هِبُوا، هِبْنَ ».
الثالثة : أن تكون مثل :«خَفْ » أمراً من الخوف، فيقال :«هَأْ، هَائِي، هَاءَا، هَاءُوا، هَأنَ »، مثل :«خَفْ، خَافِي، خَافَا، خَافُوا، خفْنَ ».
قوله :«كتابيه ». منصوب ب «هاؤم » عند الكوفيين، وعند البصريين ب «اقرأوا » ؛ لأنه أقربُ العاملين، والأصل «كتابي » فأدخل «الهاء » لتبين فتحة «الياءِ » و «الهاء » في «كتابيه » و «حسابيه » و «سلطانيه » و «ماليه » للسكتِ، وكان حقُّها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف، أو وصل بنية الوقف في «كتابيه » و «حسابيه » اتفاقاً، فأثبت «الهاء ».
وكذلك في «مَاليَه » و «سلطانيه » و ﴿ مَا هِيَهْ ﴾[ القارعة : ١٠ ] في القارعة، عند القُرَّاء كلهم إلا حمزة، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث وصلاً، وأثبتها وقفاً ؛ لأنها في الوقف يحتاج إليها ؛ لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه، وفي الوصل يستغنى عنها.
فإن قيل : فَلِمَ لم يفعل ذلك في «كتابيه » و «حسابيه » ؟.
فالجواب : أنه جمع بين اللغتين، هذا في القراءات السبعِ٧.
وقرأ ابن محيصن٨ : بحذفها في الكلم كلِّها وصلاً ووقفاً إلا في «القارعة »، فإنه لم يتحقق عنه فيها نقل.
وقرأ الأعمشُ، وابن أبي إسحاق٩ : بحذفها فيهن وصلاً، وإثباتها وقفاً.
وابن محيصن : يسكنُ الهاء في الكلم المذكورة بغيرها.
والحق أنها قراءةٌ صحيحةٌ، أعني ثبوت هاء السكتِ وصلاً ؛ لثبوتها في خط المصحف الكريم، ولا يلتفت إلى قول الزهراوي إن إثباتها في الوصل لحن لا أعلم أحداً يجيزه. وقد تقدم الكلام على هاء السكت في البقرة والأنعام.
وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (١/٣٢٠) وتبعه السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (١/١٥٦) وابن عراق في "تنزيه الشريعة" (١/٣٤٦).
وقال ابن عراق: وفيه عمر بن إبراهيم بن خالد الكردي وهو المتهم به..
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٧٤..
٣ ينظر: القرطبي ١٨/١٧٨..
٤ ينظر القرطبي ١٨/١٧٤..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٢٧) وذكره القرطبي (١٨/١٧٥)..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٧٥)..
٧ ينظر: الدر المصون ٦/٣٦٦..
٨ ينظر: الكشاف ٤/٦٠٣، والمحرر الوجيز ٥/٣٦٠، والبحر المحيط ٨/٣١٩..
٩ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٦٠، والبحر المحيط ٨/٣١٩، والدر المصون ٦/٣٦٦..
قال ابن عباس : أي : أيقنتُ وعلمتُ١.
وقيل : ظننتُ أن يؤاخذني الله بسيئاتي إن عذبني فقد تفضَّل علي بعفوه، ولم يؤاخذني بها.
قال الضحاك : كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك.
وقال مجاهد : ظَنُّ الآخرة يقين وظَنُّ الدنيا شَكٌّ٢.
وقال الحسن في هذه الآية : إنّ المؤمن من أحسن الظَّن بربّه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء الظن بربه، فأساء العمل٣.
وقوله :﴿ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾، أي : في الآخرة، ولم أنكرْ البعث، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب ؛ لأنه تيقّن أن الله يحاسبه، فعمل للآخرة.
٢ أخرجه الطبري (١٢/١٢٧) عن قتادة بمعناه وذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٨٣) والقرطبي (١٨/١٧٥) عن مجاهد..
٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٨٣) والقرطبي (١٨/١٧٥)..
أحدها : أنه على المجاز جعلت العيشة راضية ؛ لمحلها في مستحقيها، وأنها لا حال أكمل من حالها، والمعنى في عيش يرضاه لا مكروه فيه.
الثاني : أنه على النَّسب، أي : ذات رضا، نحو :«لابنٌ وتامرٌ » لصاحب اللَّبن والتَّمْرِ والمعنى : ذات رضا يرضى بها صاحبها.
الثالث : قال أبو عبيدة والفراء : إنه مما جاء فيه «فاعل » بمعنى مفعول نحو :﴿ مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾[ الطارق : ٦ ]، أي : مدفوق، كما جاء مفعول بمعنى فاعل، كقوله :﴿ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾[ الإسراء : ٤٥ ]، أي : ساتراً.
فصل في تنعم أهل الجنة.
قال عليه الصلاة والسلام :«إنَّهُم يَعِيشون فلا يَمُوتُون أبداً، ويصحُّونَ فلا يَمْرضُونَ أبداً، وينعَمُونَ فلا يَرَوْنَ بأساً أبَداً ويَشِبُّونَ فلا يَهْرمُونَ أبداً »١.
والقِطْف - بكسر القاف - وهو ما يقطفُ من الثِّمار، والقَطْفِ - بالفتح - المصدر، والقِطَاف - بالفتح والكسر - وقت القطف.
وقوله :«هنيئاً » قد تقدم في أول النساء وجوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوفٍ، أي :«أكْلاً هنيئاً وشُرْباً هنيئاً »، وأن ينتصب على المصدر بعامل من لفظه مقدر، أي :«هَنِئْتُم بذلك هَنِيئاً ». و «الباء » في «بما أسْلفتُمْ » سببية، و «ما » مصدرية أو اسمية، ومعنى «هَنِيئاً »، لا تكدير فيه ولا تنغيص، «بما أسْلَفْتُم » قدمتم من الأعمال ﴿ فِي الأيام الخالية ﴾، أي : في الدنيا.
قالت المعتزلةُ : وهذا يدل على أنَّ العمل يوجبُ الثوابَ، وأن الفعل للعبدِ، وقال :«كُلُوا » بعد قوله :﴿ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾
فصل فيمن نزلت فيه الآية
ذكر الضحاكُ : أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي١.
وقال مقاتل : والآية التي قبلها في أخيه الأسود بن عبد الأسد في قول ابن عبَّاس والضحاك٢.
قال الثعلبي : ويكون هذا الرجل، وأخوه سبب نزول هذه الآيات، ويعم المعنى جميع أهل الشقاوةِ، والسعادة، بدليل قوله تعالى :﴿ كُلُواْ واشربوا ﴾.
وقيل : إنَّ المراد بذلك كل من كان متبوعاً في الخير والشر يدعو إليه، ويأمر به.
قوله :﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يا ليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾ لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله يخجل منها ويقول :﴿ يا ليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾
٢ ينظر المصدر السابق..
فصل فيمن نزلت فيه الآية
ذكر الضحاكُ : أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي١.
وقال مقاتل : والآية التي قبلها في أخيه الأسود بن عبد الأسد في قول ابن عبَّاس والضحاك٢.
قال الثعلبي : ويكون هذا الرجل، وأخوه سبب نزول هذه الآيات، ويعم المعنى جميع أهل الشقاوةِ، والسعادة، بدليل قوله تعالى :﴿ كُلُواْ واشربوا ﴾.
وقيل : إنَّ المراد بذلك كل من كان متبوعاً في الخير والشر يدعو إليه، ويأمر به.
قوله :﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يا ليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾ لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله يخجل منها ويقول :﴿ يا ليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾
٢ ينظر المصدر السابق..
فالضَّميرُ في «لَيْتهَا » قيل : يعود إلى الموتةِ الأولى، وإن لم تكن مذكورة، إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة.
و «القَاضِيَة » : القاطعةُ من الحياة، قال تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة ﴾ [ الجمعة : ١٠ ]، ويقال : قُضِيَ على فلان، إذا مات، والمعنى : يا ليتها الموتة التي كانت القاطعة لأمري، ولم أبْعَثْ بعدها، ولم ألقَ ما وصلت إليه.
قال قتادة : يتمنى الموت، ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشرٌّ من الموت ما يطلب منه الموت ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٤٨٥٠ - وشَرٌّ مِنَ الموْتِ الذي إنْ لَقيتُهُ***تَمَنَّيتُ مِنْهُ المَوْتَ، والمَوْتُ أعْظَمُ١
وقيل : يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليَّ.
وقال مقاتل : ضلت عني حجّتي حين شهدت عليه الجوارح٢.
وقال ابن زيد : يعني مُلكي وتسلّطي على الناس، وبقيت ذليلاً فقيراً٣، وكان مُطاعاً في أصحابه.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤١١) عن مجاهد وعكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٣٨٨) عن مقاتل..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٧٦)..
﴿ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ﴾، أي: اجعلوه يصلى الجحيمَ، وهي النارُ العظمى؛ لأنه كان يتعاظمُ في الدنيا.
وتقديمُ المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم.
ولذلك قال الزمخشريُّ: «ثُمَّ لا تصلوه إلا الجَحيم» قال أبو حيان: «وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحُذاقِ النُّحاةِ»، وقد تقدمت هذه المسألةُ متقنة، وأنَّ كلام النحاة لا يأبى ما قاله.
قوله: ﴿ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً﴾، في محل جر صفة ل «سِلْسِلَة» و «في سِلْسِلة» متعلق ب «اسْلُكُوه»، و «الفاء» لا تمنع من ذلك.
و «الذِّراع» مؤنث، ولذلك يجمع على «أفْعُل» وسقطت «التاء» من عدده.
قال الشاعر: [الرجز]
٤٨٥١ - أرْمِي عَليْهَا وهْيَ فَرْعٌ أجْمَعُ | وهْيَ ثَلاثُ أذْرُعٍ وإصْبَعُ |
وقيل: المراد حقيقة العدد.
وقال نوف البكالي: سبعون ذراعاً، كل ذراع سبعون باعاً، كل باع كما بينك وبين «مكّة» وكان في رحبة «الكوفة».
وقال الحسنُ: الله أعلم أي ذراعٍ.
وزعم بعضهم أنَّ في قوله: «فِي سِلْسلَةٍ» «فاسْلُكوهُ» قلباً، قال: لأنه نُقِلَ في التفسير أنَّ السلسلة تدخل من فيه، وتخرج من دبره، فهي المسلوكُ فيه لا هو المسلوكُ فيها، والظاهر أنَّه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه روي أنها لطولها، تجعل في عنقه، وتلتوي عليه، حتى تحيط به من جميع جهاته، فهو المسلوكُ فيها لإحاطتها به.
وقال الزمخشريُّ: والمعنى في تقديم السِّلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التًّصلية، أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسة، وثم للدلالة على التفاوتِ لما بين الغلِّ والتصليةِ بالجحيم وما بينها، وبين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدة.
وناعه أبو حيان في إفادة تقديم الاختصاص كعادته، وجوابه ما تقدم.
ونازعه أيضاً في أن «ثُمَّ» للدلالةِ على تراخي الرُّتْبةِ.
وقال مكيٌّ: التراخي الزماني بأن يُصلى بعد أن يسلك، ويسلك بعد أن يُؤخذ ويغلي بمهله بين هذه الأشياء. انتهى.
وفيه نظرٌ من حيثُ إن التوعد بتوالي العذاب آكد، وأقطع من التوعد بتغريقه.
قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين﴾.
«الحضُّ» : الحثُّ على الفعل والحرص على وقوعه، ومنه حروفُ التحضيض المبوب لها في النحو؛ لأنَّه يطلب بها وقوع الفعل وإيجاده، فبيَّن تعالى أنه عذِّب على تركِ الإطعامِ، وعلى الأمر بالبخلِ كما عذِّب بسبب الكُفْرِ.
قال ابن الخطيب: وفي الآية دليلُ على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بالفروع.
كان أبو الدرداء يحض امرأته على الإطعام ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع نصفها الثاني بالإطعام.
وقيل: المراد قول الكفار: ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ﴾ [يس: ٤٧].
قوله: ﴿فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ﴾ في خبر «ليس» وجهان:
أحدهما: «له».
والثاني: هاهنا، وأيهما كان خبراً تعلق به الآخر، أو كان حالاً من «حميم»، ولا يجوز أن يكون «اليوم» خبراً ألبتة؛ لأنه زمان والمخبر عنه جثة.
ومنع المهدوي أن يكون «هاهُنَا» خبراً، ولم يذكر المانع.
وقد ذكره القرطبي فقال: «لأنه يصير المعنى: ليس هاهنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك؛ لأن ثمَّ طعاماً غيره». انتهى وفي هذا نظر؛ لأنا لا نسلم أولاً أن ثمَّ طعاماً غيره، فإن أورد قوله: ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ﴾ [الغاشية: ٦] فهذا طعام آخر غير الغسلين.
فالجواب: أن بعضهم ذهب إلى أن الغسلين هو الضريع بعينه، فسمَّاه في آية «غسليناً» وفي أخرى «ضريعاً».
ولئن سلمنا أنهما طعامان، فالحصر باعتبار الآكلين، يعني: أنَّ هذا الآكل انحصر طعامه في الغسلين، فلا ينافي أن يكون في النار طعام آخر.
وإذا قلنا: إن «له» الخبر، وأن «اليوم»، و «هاهنا» متعلقان بما تعلق هو به، فلا إشكال، وكذلك إذا جعلنا «هاهنا» هو الخبر، وعلقنا به الجار والظرف، ولا يضرّ كون العامل معنوياً للاتساع في الظروف وحروف الجر.
وقوله: ﴿إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ﴾، صفة ل «طعام»، دخل الحصر على الصفة، كقولك: «ليس عندي إلا رجلٌ من بني تميم».
والمراد ب «الحميم» : الصديق، فعلى هذا الصفة مختصة بالطَّعام، أي: ليس له صديق ينفعه، ولا طعام إلا من كذا.
وقيل: التقدير: ليس له حميم إلاَّ من غسلين ولا طعام. قاله أبو البقاء.
فجعل «مِنْ غسْلِين» صفة ل «الحميم»، كأنه أراد الشَّيء الذي يحم به البدن من صديد النَّار.
فعلى هذا يكون ﴿إلاَّ من غسلين﴾ صفة ل «حميم» ول «طعام»، والمرادُ بالحميم: ما يشرب، أي: ليس له طعام، ولا شراب إلا غسليناً.
أما إذا أريد بالحميم: الصديد فلا يتأتَّى ذلك.
وعلى هذا الذي ذكرنا، فيه سؤالٌ، وهو أن يقال: بأي شيء تعلَّق الجارُّ والظرفان؟ والجواب: إنَّها تتعلق بما تعلق به الخبرُ، أو يجعل «له» أو «هاهنا» حالاً من «حميم» ويتعلق «اليوم» بما تعلق به الحال، ولا يجوز أن يكون «اليوم» حالاً من «حميم»، و «له» و «هاهنا» متعلقان بما تعلق به الحال؛ لأنه ظرف زمان، وصاحبُ الحال جثة، وهذا موضعٌ حسنٌ مفيدٌ.
و «الغِسْلين» :«فِعْلين» من الغُسَالة، فنُونُه وياؤه زائدتان.
قال أهل اللغة: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت.
قال المفسرون: هو صديدُ أهل النَّارِ.
وقيل: شجر يأكلونه.
وعن ابن عباس: لا أدري ما الغِسْلينُ.
وسمي طعاماً؛ لقيامه مقامه فسمي طعاماً؛ كقوله: [الوافر]
٤٨٥٢ -............................ تَحِيَّةُ بَينِهمْ ضَرْبٌ وجِيعُ
قوله: ﴿لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون﴾. صفة ل «غسلين».
والعامةُ: يهمزون «الخاطئون»، وهم اسم فاعل من «خَطَأ يَخْطأ» إذا فعل غير الصواب متعمداً، والمخطىءُ من يفعله غير متعمد.
وقرأ الحسنُ والزهريُ والعتكي وطلحة: «الخَاطِيُون» بياء مضمومة بدل الهمزة.
وقرأ ناقع في رواية وشيبة: بطاء مضمومة دون همزة.
وفيها وجهان:
والثاني: أنه اسم فاعل من «خَطَا يَخْطُوا» إذا اتبع خطوات غيره، فيكون من قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ [البقرة: ١٦٨]، قاله الزمخشريُّ.
وقد تقدم أول الكتاب أن نافعاً يقرأ: «الصَّابيون» بدون همز، وكلام الناس فيها.
وعن ابن عباس: ما الخاطُون، كلنا نخطُو.
وروى عنه أبو الأسود الدؤليُّ: ما الخاطُون إنما هو الخاطئون، وما الصَّابون إنما هو الصَّابئون، ويجوز أن يراد الذين يتخطون الحقَّ إلى الباطل ويتحدون حدود الله.
وتقديمُ المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم.
ولذلك قال الزمخشريُّ :«ثُمَّ لا تصلوه إلا الجَحيم » قال أبو حيان١ :«وليس ما قاله مذهباً لسيبويه٢ ولا لحُذاقِ النُّحاةِ »، وقد تقدمت هذه المسألةُ متقنة، وأنَّ كلام النحاة لا يأبى ما قاله.
قوله :﴿ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً ﴾، في محل جر صفة ل «سِلْسِلَة »
٢ ينظر: الكتاب ١/٤١..
و «الذِّراع » مؤنث، ولذلك يجمع على «أفْعُل » وسقطت «التاء » من عدده.
قال الشاعر :[ الرجز ]
٤٨٥١ - أرْمِي عَليْهَا وهْيَ فَرْعٌ أجْمَعُ***وهْيَ ثَلاثُ أذْرُعٍ وإصْبَعُ١
وذكر السبعين دون غيرها من العدد، قيل : المرادُ به التكثير، كقوله :﴿ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ﴾[ التوبة : ١٠ ].
وقيل : المراد حقيقة العدد.
قال ابن عباسٍ : سبعون ذراعاً بذراع الملكِ٢.
وقال نوف البكالي : سبعون ذراعاً، كل ذراع سبعون باعاً، كل باع كما بينك وبين «مكّة » وكان في رحبة «الكوفة »٣.
وقال الحسنُ : الله أعلم أي ذراعٍ٤.
وزعم بعضهم أنَّ في قوله :«فِي سِلْسلَةٍ » «فاسْلُكوهُ » قلباً، قال : لأنه نُقِلَ في التفسير أنَّ السلسلة تدخل من فيه، وتخرج من دبره، فهي المسلوكُ فيه لا هو المسلوكُ فيها، والظاهر أنَّه لا يحتاج إلى ذلك ؛ لأنه روي أنها لطولها، تجعل في عنقه، وتلتوي عليه، حتى تحيط به من جميع جهاته، فهو المسلوكُ فيها لإحاطتها به.
وقال الزمخشريُّ : والمعنى في تقديم السِّلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التًّصلية، أي : لا تسلكوه إلا في هذه السلسة، وثم للدلالة على التفاوتِ لما بين الغلِّ والتصليةِ بالجحيم وما بينها، وبين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدة.
ونازعه أبو حيان في إفادة تقديم الاختصاص كعادته، وجوابه ما تقدم٥.
ونازعه أيضاً في أن «ثُمَّ » للدلالةِ على تراخي الرُّتْبةِ.
وقال مكيٌّ : التراخي الزماني بأن يُصلى بعد أن يسلك، ويسلك بعد أن يُؤخذ ويغلي بمهله بين هذه الأشياء. انتهى.
وفيه نظرٌ من حيثُ إن التوعد بتوالي العذاب آكد، وأقطع من التوعد بتغريقه.
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٢٠٠١٢)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٢٢٠١٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/١٤٢) وعزاه إلى ابن المبارك وهناد في "الزهد" وعبد بن حميد وابن المنذر..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٣٨٩)..
٥ ينظر: الدر المصون ٦/٣٦٧..
«الحضُّ » : الحثُّ على الفعل والحرص على وقوعه، ومنه حروفُ التحضيض المبوب لها في النحو ؛ لأنَّه يطلب بها وقوع الفعل وإيجاده، فبيَّن تعالى أنه عذِّب على تركِ الإطعامِ، وعلى الأمر بالبخلِ كما عذِّب بسبب الكُفْرِ.
قال ابن الخطيب١ : وفي الآية دليلُ على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بالفروع.
كان أبو الدرداء يحض امرأته على الإطعام ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع نصفها الثاني بالإطعام.
وقيل : المراد قول الكفار :﴿ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ الله أَطْعَمَهُ ﴾[ يس : ٤٧ ].
وأصل «طعام » أن يكون منصوباً بالمصدر المقدر، والطعام عبارةٌ عن العين، وأضيف للمسكين للملابسةِ التي بينهما، ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام، فموضع «المسكين » نصب، والتقدير : على إطعام المطعم المسكين، فحذف الفاعل، وأضيف المصدر إلى المفعول.
«الحضُّ » : الحثُّ على الفعل والحرص على وقوعه، ومنه حروفُ التحضيض المبوب لها في النحو ؛ لأنَّه يطلب بها وقوع الفعل وإيجاده، فبيَّن تعالى أنه عذِّب على تركِ الإطعامِ، وعلى الأمر بالبخلِ كما عذِّب بسبب الكُفْرِ.
قال ابن الخطيب١ : وفي الآية دليلُ على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بالفروع.
كان أبو الدرداء يحض امرأته على الإطعام ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع نصفها الثاني بالإطعام.
وقيل : المراد قول الكفار :﴿ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ الله أَطْعَمَهُ ﴾[ يس : ٤٧ ].
وأصل «طعام » أن يكون منصوباً بالمصدر المقدر، والطعام عبارةٌ عن العين، وأضيف للمسكين للملابسةِ التي بينهما، ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام، فموضع «المسكين » نصب، والتقدير : على إطعام المطعم المسكين، فحذف الفاعل، وأضيف المصدر إلى المفعول.
أحدهما :«له ».
والثاني : هاهنا، وأيهما كان خبراً تعلق به الآخر، أو كان حالاً من «حميم »، ولا يجوز أن يكون «اليوم » خبراً ألبتة ؛ لأنه زمان والمخبر عنه جثة.
ومنع المهدوي أن يكون «هاهُنَا » خبراً، ولم يذكر المانع.
فالجواب : أن بعضهم ذهب إلى أن الغسلين هو الضريع بعينه، فسمَّاه في آية «غسليناً » وفي أخرى «ضريعاً ».
ولئن سلمنا أنهما طعامان، فالحصر باعتبار الآكلين، يعني : أنَّ هذا الآكل انحصر طعامه في الغسلين، فلا ينافي أن يكون في النار طعام آخر.
وإذا قلنا : إن «له » الخبر، وأن «اليوم »، و «هاهنا » متعلقان بما تعلق هو به، فلا إشكال، وكذلك إذا جعلنا «هاهنا » هو الخبر، وعلقنا به الجار والظرف، ولا يضرّ كون العامل معنوياً للاتساع في الظروف وحروف الجر.
وقوله :﴿ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ﴾، صفة ل «طعام »، دخل الحصر على الصفة، كقولك :«ليس عندي إلا رجلٌ من بني تميم ».
والمراد ب «الحميم » : الصديق، فعلى هذا الصفة مختصة بالطَّعام، أي : ليس له صديق ينفعه، ولا طعام إلا من كذا.
وقيل : التقدير : ليس له حميم إلاَّ من غسلين ولا طعام. قاله أبو البقاء.
فجعل «مِنْ غسْلِين » صفة ل «الحميم »، كأنه أراد الشَّيء الذي يحم به البدن من صديد النَّار.
وقيل : من الطعام والشَّراب ؛ لأن الجميع يطعم، بدليل قوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني ﴾[ البقرة : ٢٤٩ ].
فعلى هذا يكون ﴿ إلاَّ من غسلين ﴾ صفة ل «حميم » ول «طعام »، والمرادُ بالحميم : ما يشرب، أي : ليس له طعام، ولا شراب إلا غسليناً.
أما إذا أريد بالحميم : الصديد فلا يتأتَّى ذلك.
وعلى هذا الذي ذكرنا، فيه سؤالٌ، وهو أن يقال : بأي شيء تعلَّق الجارُّ والظرفان ؟ والجواب : إنَّها تتعلق بما تعلق به الخبرُ، أو يجعل «له » أو «هاهنا » حالاً من «حميم » ويتعلق «اليوم » بما تعلق به الحال، ولا يجوز أن يكون «اليوم » حالاً من «حميم »، و «له » و «هاهنا » متعلقان بما تعلق به الحال ؛ لأنه ظرف زمان، وصاحبُ الحال جثة، وهذا موضعٌ حسنٌ مفيدٌ.
و «الغِسْلين » :«فِعْلين » من الغُسَالة، فنُونُه وياؤه زائدتان.
قال أهل اللغة : هو ما يجري من الجراح إذا غسلت.
قال المفسرون : هو صديدُ أهل النَّارِ.
وقيل : شجر يأكلونه.
وعن ابن عباس : لا أدري ما الغِسْلينُ٢.
وسمي طعاماً ؛ لقيامه مقامه فسمي طعاماً ؛ كقوله :[ الوافر ]
٤٨٥٢ -. . . *** تَحِيَّةُ بَينِهمْ ضَرْبٌ وجِيعُ٣
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤٢٦) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي القاسم الزجاجي النحوي في "أماليه"..
٣ تقدم..
والعامةُ : يهمزون «الخاطئون »، وهم اسم فاعل من «خَطَأ يَخْطأ » إذا فعل غير الصواب متعمداً، والمخطئ من يفعله غير متعمد.
وقرأ الحسنُ١ والزهريُ والعتكي وطلحة :«الخَاطِيُون » بياء مضمومة بدل الهمزة.
وقرأ نافع٢ في رواية وشيبة : بطاء مضمومة دون همزة.
وفيها وجهان :
أحدهما : أنه كقراءة الجماعةِ إلا أنه خفف بالحذف.
والثاني : أنه اسم فاعل من «خَطَا يَخْطُوا » إذا اتبع خطوات غيره، فيكون من قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ﴾[ البقرة : ١٦٨ ]، قاله الزمخشريُّ.
وقد تقدم أول الكتاب أن نافعاً يقرأ :«الصَّابيون » بدون همز، وكلام الناس فيها.
وعن ابن عباس : ما الخاطُون، كلنا نخطُو.
وروى عنه أبو الأسود الدؤليُّ : ما الخاطُون إنما هو الخاطئون، وما الصَّابون إنما هو الصَّابئون٣، ويجوز أن يراد الذين يتخطون الحقَّ إلى الباطل ويتحدون حدود الله.
٢ ينظر السابق..
٣ أخرجه الحاكم في "المستدرك" (٢/٥٠١) من طريق أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر عن ابن عباس.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..
قد تقدم مثله في آخر الواقعة، إلا أنه قيل هاهنا: إن «لا» نافية لفعل القسم، وكأنه قيل: لا احتياجَ أن أقسمُ على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مستغنٍ عن القسم، ولو قيل به في الواقعة لكان حسناً.
واعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلالة على إمكان القيامةِ، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال السُّعداءِ، وأحوال الأشقياء، ختم الكلام بتعظيم القرآنِ، فقال: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ﴾.
وقيل: المراد: أقسم، و «لا» صلةٌ، والمعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون، فعمَّ جميع الأشياء على الشمول؛ لأنها لا تخرجُ عن قسمين: مبْصر وغير مبصر، فقيل: الخالقُ والخلقُ، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجنُّ، والنعم الظاهرة، والباطنة.
وإن لم تكن «لا» زائدة، فالتقدير: لا أقسم على أنَّ هذا القرآن قول رسولٍ كريم - يعني «جبريل»، قاله الحسن والكلبي ومقاتل - لأنه يستغنى عن القسم لوضوحه.
وقال مقاتل: سببُ نزولِ هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إنَّ محمداً ساحرٌ.
وقال أبو جهل: شاعر وليس القرآن من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال عقبة: كاهن، فقال الله تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ﴾ أي: أقسم.
«إنه» يعني القرآن ﴿لقول رسول كريم﴾ يعني جبريل. قاله الحسن والكلبي ومقاتل، لقوله: ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ﴾ [التكوير: ١٩، ٢٠].
وقال الكلبي أيضاً والقتبي: الرسول هنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾، وليس القرآن من قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما هو من قول الله - عَزَّ وَجَلَّ - ونسب القول إلى الرسولِ، لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك.
فإن قيل: كيف يكونُ كلاماً لله تعالى، ولجبريل، ولمحمد عليهما الصلاة والسلام؟
فالجواب: أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسةٍ، فالله سبحانه أظهره في اللوح المحفوظ، وجبريلُ بلغه لمحمدٍ - عليهما الصلاة والسلام - ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلغه للأمة.
قوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ﴾ هو جوابُ القسمِ، وقوله: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ﴾ معطوف على الجواب، فهو جواب. أقسم على شيئين: أحدهما: مثبت، والآخر: منفي، وهو من البلاغة الرائعة.
قوله: ﴿قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ﴾، ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾.
انتصب «قليلاً» في الموضعين نعتاً لمصدر، أو زمان محذوف، أي: إيماناً أو زماناً قليلاً، والنَّاصبُ: «يؤمنون» و «تذكرون» و «ما» مزيدةٌ للتوكيدِ.
وقال ابن عطية: ونصب «قليلاً» بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه: «تؤمنون»، و «ما» يحتملُ أن تكون نافية، فينتفى إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية، وتتصف بالقلة، فهو الإيمان اللغوي؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو حقّ وصواب.
قال أبو حيَّان: أما قوله: «قليلاً نصب بفعل» إلى آخره، فلا يصح؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه «تؤمنون» إما أن تكون «ما» نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه «تؤمنون» المنفي ب «ما» يكون منفياً، فيكونُ التقدير: ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون، والفعل المَنْفِي ب «ما» لا يجوز حذفه، ولا حذف ما، لا يجوز «زيداً ما أضربُه» على تقدير: «ما أضْربُ زيداً ما أضربه»، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ ب «قليلاً» على الفاعلية، أي: قليلاً إيمانكم، ويبقى «قليلاً» لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء؛ فيكون مبتدأ لا خبر له، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ.
وقال الزمخشريُّ: «والقّلةُ في معنى العدم، أي: لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة».
قال أبو حيَّان: ولا يُرادُ ب «قليلاً» هنا النفي المحض كما زعم، وذلك لا يكون إلاَّ في «أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ»، وفي «قل» نحو «قَلَّ رجلٌ ذلك إلا زيدٌ» وقد يستعمل في «قليلة»، و «قليلة» إذا كانا مرفوعين، نحو ما جوزوا في قول الشاعر: [الطويل]
٤٨٥٣ -........................... قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغامُهَا
أما إذا كان منصوباً نحو: «قليلاً ضربت، أو قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدرية، فإن ذلك لا يجوزُ؛ لأنه في «قليلاً ضربت» منصوب ب «ضربت»، ولم تستعمل العرب «قليلاً»، إذا انتصب بالفعل نفياً، بل مقابلاً لكثير، وأما في «قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدريةٌ، فتحتاج إلى رفع «قليل» ؛ لأن «ما» المصدرية في موضع رفع على الابتداء.
انتهى ما رد به عليه.
قال شهاب الدين: «وهذا مجرد دعوى».
وقرأ ابنُ كثيرٍ وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان: «يؤمنون، يذكرون» بالغيبة حملاً على «الخاطئون» والباقون: بالخطاب، حملاً على «بما تبصرون».
وأبيّ: وتتذكرون «بتاءين».
فصل في القرآن الكريم
قوله: ﴿وما هو بقول شاعرٍ﴾ ؛ لأنه مباينٌ لصنوفِ الشعر كلِّها، ﴿ولا بقول كاهنٍ﴾ ؛ لأنه ورد بسبِّ الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئاً على من سبِّهم.
وقوله: ﴿قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ﴾، المراد بالقليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله.
وقال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله تعالى، والمعنى لا يؤمنون أصلاً، والعربُ يقولون: قلّ ما تأتينا، يريدون لا تأتينا.
قوله: ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾، هذه قراءةُ العامة، أعني الرَّفع على إضمار مبتدأ، أي: هو تنزيلٌ وتقدم مثله.
وأبو السِّمال: «تنزيلاً» بالنصب على إضمار فعل، أي: نزل تنزيلاً.
قال القرطبي: وهو عطفٌ على قوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ أي: إنه لقول رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين.
قد تقدم مثله في آخر الواقعة، إلا أنه قيل هاهنا : إن «لا » نافية لفعل القسم، وكأنه قيل : لا احتياجَ أن أقسمُ على هذا ؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مستغنٍ عن القسم، ولو قيل به في الواقعة لكان حسناً.
واعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلالة على إمكان القيامةِ، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال السُّعداءِ، وأحوال الأشقياء، ختم الكلام بتعظيم القرآنِ، فقال :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ﴾.
وقيل : المراد : أقسم، و «لا » صلةٌ، والمعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون، فعمَّ جميع الأشياء على الشمول ؛ لأنها لا تخرجُ عن قسمين : مبْصر وغير مبصر، فقيل : الخالقُ والخلقُ، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجنُّ، والنعم الظاهرة، والباطنة.
وإن لم تكن «لا » زائدة، فالتقدير : لا أقسم على أنَّ هذا القرآن قول رسولٍ كريم - يعني «جبريل »، قاله الحسن والكلبي ومقاتل - لأنه يستغنى عن القسم لوضوحه.
وقال مقاتل : سببُ نزولِ هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إنَّ محمداً ساحرٌ.
وقال أبو جهل : شاعر وليس القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عقبة : كاهن، فقال الله تعالى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ ﴾ أي : أقسم١.
وإن قيل :«لا » نافية للقسم، فجوابه كجواب القسم.
«إنه » يعني القرآن ﴿ لقول رسول كريم ﴾ يعني جبريل. قاله الحسن والكلبي ومقاتل، لقوله :﴿ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ ﴾[ التكوير : ١٩، ٢٠ ].
وقال الكلبي أيضاً والقتبي : الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم لقوله :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ﴾، وليس القرآن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول الله - عز وجل - ونسب القول إلى الرسولِ، لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا : هذا قول مالك.
فإن قيل : كيف يكونُ كلاماً لله تعالى، ولجبريل، ولمحمد عليهما الصلاة والسلام ؟
فالجواب : أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسةٍ، فالله سبحانه أظهره في اللوح المحفوظ، وجبريلُ بلغه لمحمدٍ - عليهما الصلاة والسلام - ومحمد صلى الله عليه وسلم بلغه للأمة.
وقوله :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ ﴾ معطوف على الجواب، فهو جواب. أقسم على شيئين : أحدهما : مثبت، والآخر : منفي، وهو من البلاغة الرائعة.
قوله :﴿ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ ﴾، ﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾.
انتصب «قليلاً» في الموضعين نعتاً لمصدر، أو زمان محذوف، أي : إيماناً أو زماناً قليلاً، والنَّاصبُ :«يؤمنون» و «تذكرون» و «ما» مزيدةٌ للتوكيدِ.
وقال ابن عطية : ونصب «قليلاً» بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه :«تؤمنون»، و «ما» يحتملُ أن تكون نافية، فينتفي إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية، وتتصف بالقلة، فهو الإيمان اللغوي ؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو حقّ وصواب.
قال أبو حيَّان١ : أما قوله :«قليلاً نصب بفعل» إلى آخره، فلا يصح ؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه «تؤمنون» إما أن تكون «ما» نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه «تؤمنون» المنفي ب «ما» يكون منفياً، فيكونُ التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون، والفعل المَنْفِي ب «ما» لا يجوز حذفه، ولا حذف ما، لا يجوز «زيداً ما أضربُه» على تقدير :«ما أضْربُ زيداً ما أضربه»، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ ب «قليلاً» على الفاعلية، أي : قليلاً إيمانكم، ويبقى «قليلاً» لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء ؛ فيكون مبتدأ لا خبر له، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ.
قال شهابُ الدين٢ : لا يُريد ابن عطية بدلالةِ «تؤمنون» على الفعل المحذوف الدلالة في باب الاشتغال، حتى يكون العامل الظاهر مفسراً للعامل المضمر، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله :«زيداً ما أضربه» أي :«ما أضرب زيداً ما أضربُه» وأما الردُّ الثاني فظاهرٌ، وقد تقدم لابن عطية هذا القولُ في أول سورة «الأعراف» فَليُلتَفَتْ إليه.
وقال الزمخشريُّ :«والقّلةُ في معنى العدم، أي : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة».
قال أبو حيَّان٣ : ولا يُرادُ ب «قليلاً» هنا النفي المحض كما زعم، وذلك لا يكون إلاَّ في «أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ»، وفي «قل» نحو «قَلَّ رجلٌ يقول ذلك إلا زيدٌ» وقد يستعمل في «قليلة»، و «قليلة» إذا كانا مرفوعين، نحو ما جوزوا في قول الشاعر :[ الطويل ]
٤٨٥٣ -... *** قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغامُهَا٤
أما إذا كان منصوباً نحو :«قليلاً ضربت، أو قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدرية، فإن ذلك لا يجوزُ ؛ لأنه في «قليلاً ضربت» منصوب ب «ضربت»، ولم تستعمل العرب «قليلاً»، إذا انتصب بالفعل نفياً، بل مقابلاً لكثير، وأما في «قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدريةٌ، فتحتاج إلى رفع «قليل» ؛ لأن «ما» المصدرية في موضع رفع على الابتداء. انتهى ما رد به عليه.
قال شهاب الدين٥ :«وهذا مجرد دعوى».
وقرأ ابنُ كثيرٍ٦ وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان :«يؤمنون، يذكرون» بالغيبة حملاً على «الخاطئون» والباقون : بالخطاب، حملاً على «بما تبصرون».
وأبيّ٧ : وتتذكرون «بتاءين».
فصل في القرآن الكريم
قوله :﴿ وما هو بقول شاعرٍ ﴾ ؛ لأنه مباينٌ لصنوفِ الشعر كلِّها، ﴿ ولا بقول كاهنٍ ﴾ ؛ لأنه ورد بسبِّ الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئاً على من سبِّهم.
وقوله :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ ﴾ معطوف على الجواب، فهو جواب. أقسم على شيئين : أحدهما : مثبت، والآخر : منفي، وهو من البلاغة الرائعة.
قوله :﴿ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ ﴾، ﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾.
انتصب «قليلاً» في الموضعين نعتاً لمصدر، أو زمان محذوف، أي : إيماناً أو زماناً قليلاً، والنَّاصبُ :«يؤمنون» و «تذكرون» و «ما» مزيدةٌ للتوكيدِ.
وقال ابن عطية : ونصب «قليلاً» بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه :«تؤمنون»، و «ما» يحتملُ أن تكون نافية، فينتفي إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية، وتتصف بالقلة، فهو الإيمان اللغوي ؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو حقّ وصواب.
قال أبو حيَّان١ : أما قوله :«قليلاً نصب بفعل» إلى آخره، فلا يصح ؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه «تؤمنون» إما أن تكون «ما» نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه «تؤمنون» المنفي ب «ما» يكون منفياً، فيكونُ التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون، والفعل المَنْفِي ب «ما» لا يجوز حذفه، ولا حذف ما، لا يجوز «زيداً ما أضربُه» على تقدير :«ما أضْربُ زيداً ما أضربه»، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ ب «قليلاً» على الفاعلية، أي : قليلاً إيمانكم، ويبقى «قليلاً» لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء ؛ فيكون مبتدأ لا خبر له، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ.
قال شهابُ الدين٢ : لا يُريد ابن عطية بدلالةِ «تؤمنون» على الفعل المحذوف الدلالة في باب الاشتغال، حتى يكون العامل الظاهر مفسراً للعامل المضمر، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله :«زيداً ما أضربه» أي :«ما أضرب زيداً ما أضربُه» وأما الردُّ الثاني فظاهرٌ، وقد تقدم لابن عطية هذا القولُ في أول سورة «الأعراف» فَليُلتَفَتْ إليه.
وقال الزمخشريُّ :«والقّلةُ في معنى العدم، أي : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة».
قال أبو حيَّان٣ : ولا يُرادُ ب «قليلاً» هنا النفي المحض كما زعم، وذلك لا يكون إلاَّ في «أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ»، وفي «قل» نحو «قَلَّ رجلٌ يقول ذلك إلا زيدٌ» وقد يستعمل في «قليلة»، و «قليلة» إذا كانا مرفوعين، نحو ما جوزوا في قول الشاعر :[ الطويل ]
٤٨٥٣ -... *** قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغامُهَا٤
أما إذا كان منصوباً نحو :«قليلاً ضربت، أو قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدرية، فإن ذلك لا يجوزُ ؛ لأنه في «قليلاً ضربت» منصوب ب «ضربت»، ولم تستعمل العرب «قليلاً»، إذا انتصب بالفعل نفياً، بل مقابلاً لكثير، وأما في «قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدريةٌ، فتحتاج إلى رفع «قليل» ؛ لأن «ما» المصدرية في موضع رفع على الابتداء. انتهى ما رد به عليه.
قال شهاب الدين٥ :«وهذا مجرد دعوى».
وقرأ ابنُ كثيرٍ٦ وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان :«يؤمنون، يذكرون» بالغيبة حملاً على «الخاطئون» والباقون : بالخطاب، حملاً على «بما تبصرون».
وأبيّ٧ : وتتذكرون «بتاءين».
وقوله :﴿ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ ﴾، المراد بالقليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا : الله.
وقيل : إنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً، ولا يتممون الاستدلال، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾[ المدثر : ١٨ ] إلا أنه في آخرِ الأمرِ قال :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾[ المدثر : ٢٤ ].
وقال مقاتل : يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله تعالى١، والمعنى لا يؤمنون أصلاً، والعربُ يقولون : قلّ ما تأتينا، يريدون لا تأتينا.
قوله :﴿ وما هو بقول شاعرٍ ﴾ ؛ لأنه مباينٌ لصنوفِ الشعر كلِّها، ﴿ ولا بقول كاهنٍ ﴾ ؛ لأنه ورد بسبِّ الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئاً على من سبِّهم.
وقوله :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ ﴾ معطوف على الجواب، فهو جواب. أقسم على شيئين : أحدهما : مثبت، والآخر : منفي، وهو من البلاغة الرائعة.
قوله :﴿ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ ﴾، ﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾.
انتصب «قليلاً» في الموضعين نعتاً لمصدر، أو زمان محذوف، أي : إيماناً أو زماناً قليلاً، والنَّاصبُ :«يؤمنون» و «تذكرون» و «ما» مزيدةٌ للتوكيدِ.
وقال ابن عطية : ونصب «قليلاً» بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه :«تؤمنون»، و «ما» يحتملُ أن تكون نافية، فينتفي إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية، وتتصف بالقلة، فهو الإيمان اللغوي ؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو حقّ وصواب.
قال أبو حيَّان١ : أما قوله :«قليلاً نصب بفعل» إلى آخره، فلا يصح ؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه «تؤمنون» إما أن تكون «ما» نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه «تؤمنون» المنفي ب «ما» يكون منفياً، فيكونُ التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون، والفعل المَنْفِي ب «ما» لا يجوز حذفه، ولا حذف ما، لا يجوز «زيداً ما أضربُه» على تقدير :«ما أضْربُ زيداً ما أضربه»، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ ب «قليلاً» على الفاعلية، أي : قليلاً إيمانكم، ويبقى «قليلاً» لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء ؛ فيكون مبتدأ لا خبر له، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ.
قال شهابُ الدين٢ : لا يُريد ابن عطية بدلالةِ «تؤمنون» على الفعل المحذوف الدلالة في باب الاشتغال، حتى يكون العامل الظاهر مفسراً للعامل المضمر، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله :«زيداً ما أضربه» أي :«ما أضرب زيداً ما أضربُه» وأما الردُّ الثاني فظاهرٌ، وقد تقدم لابن عطية هذا القولُ في أول سورة «الأعراف» فَليُلتَفَتْ إليه.
وقال الزمخشريُّ :«والقّلةُ في معنى العدم، أي : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة».
قال أبو حيَّان٣ : ولا يُرادُ ب «قليلاً» هنا النفي المحض كما زعم، وذلك لا يكون إلاَّ في «أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ»، وفي «قل» نحو «قَلَّ رجلٌ يقول ذلك إلا زيدٌ» وقد يستعمل في «قليلة»، و «قليلة» إذا كانا مرفوعين، نحو ما جوزوا في قول الشاعر :[ الطويل ]
٤٨٥٣ -... *** قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغامُهَا٤
أما إذا كان منصوباً نحو :«قليلاً ضربت، أو قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدرية، فإن ذلك لا يجوزُ ؛ لأنه في «قليلاً ضربت» منصوب ب «ضربت»، ولم تستعمل العرب «قليلاً»، إذا انتصب بالفعل نفياً، بل مقابلاً لكثير، وأما في «قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدريةٌ، فتحتاج إلى رفع «قليل» ؛ لأن «ما» المصدرية في موضع رفع على الابتداء. انتهى ما رد به عليه.
قال شهاب الدين٥ :«وهذا مجرد دعوى».
وقرأ ابنُ كثيرٍ٦ وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان :«يؤمنون، يذكرون» بالغيبة حملاً على «الخاطئون» والباقون : بالخطاب، حملاً على «بما تبصرون».
وأبيّ٧ : وتتذكرون «بتاءين».
وقوله :﴿ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ ﴾، المراد بالقليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا : الله.
وقيل : إنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً، ولا يتممون الاستدلال، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾[ المدثر : ١٨ ] إلا أنه في آخرِ الأمرِ قال :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾[ المدثر : ٢٤ ].
وقال مقاتل : يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله تعالى١، والمعنى لا يؤمنون أصلاً، والعربُ يقولون : قلّ ما تأتينا، يريدون لا تأتينا.
وأبو السِّمال١ :«تنزيلاً » بالنصب على إضمار فعل، أي : نزل تنزيلاً.
قال القرطبي٢ : وهو عطفٌ على قوله :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ أي : إنه لقول رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين.
٢ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٧٨..
قال الزمخشريُّ: «التقوُّلُ، افتعالُ القولِ؛ لأن فيه تكلُّفاً من المفتعل».
وقرأ بعضهم: «تُقُوِّلَ» مبنياً للمفعول.
فإن كان هذا القارىءُ رفع ب «بَعْضَ الأقاويل» فذاك، وإلا فالقائم مقام الفاعل الجار، وهذا عند من يرى قيام غير المفعول به مع وجوده.
وقرأ ذكوانُ وابنه محمد: «يَقُولُ» مضارع «قَالَ».
و «الأقاويل» جمعُ: «أقوال»، و «أقوال» جمع: «قول»، فهو نظير: «أبَاييت» جمع: «أبياتٍ» جمع «بيتٍ».
وقال الزمخشريُّ: وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك: «الأعاجيب» و «الأضاحيك»، كأنها جمع «أفعولة» من القول.
قال القتبي: وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد.
ومنه قول الشماخ: [الوافر]
٤٨٥٤ - إذَا ما رايةٌ رُفِعتْ لمَجْدٍ | تلقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ |
ويجوز أن تكون الباءُ مزيدةً، والمعنى: لأخذنا يمينه، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه، ويضرب بالسَّيف، في جيده موجهة، وهو أشد عليه.
قال الحسن: لقطعْنَا يدهُ اليمنى.
وقال نفطويه: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف.
وقال السدِّي ومقاتل: والمعنى: انتقمنا منه بالحقِّ؛ واليمين على هذا بمعنى الحق، كقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين﴾ [الصافات: ٢٨] أي: من قبل الحق.
قوله: ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين﴾. وهو العِرْق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قُطعَ مات صاحبُه.
قاب أبو زيد: وجمعه الوُتْن، وثلاثة أوتِنَة، والموتُون الذي قُطِعَ وتينُه.
وقال الكلبي: هو عِرْق بين العلباء والحُلْقوم، وهما علباوان، وإن بينهما العِرْق.
والعِلْباء: عصب العنق.
وقيل: عرق غليظ تصادفه شفرة النَّاحر.
قال الشماخُ: [الوافر]
٤٨٥٥ - إذَا بلَّغَتنِي وحَملْتِ رحْلِي | عرَابَةُ فاشْرقِي بِدمِ الوتِينِ |
وقال عكرمة: إنَّ الوتينَ إذا قُطعَ لا إن جَاعَ عرف ولا إن شَبعَ عرف.
قال ابن قتيبة: ولم يرد أنا نقطعه بعينه، بل المراد أنه لو كذب لأمتناه فكان كمن قُطِعَ وتينه.
ونظيرهُ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا زَالَتْ أكْلَةُ خيْبَر تُعاودُنِي، فهذا أوَانُ انقِطَاعِ أبْهَرِي» «والأبَهَرُ» : عِرْقٌ متصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبُه، فكأنه قال: هذا أوانُ يقتلني السُّم، وحينئذ صرتُ كمن انقطع أبهره.
قوله: ﴿فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾.
في «حاجزين» وجهان:
أحدهما: أنه نعت ل «أحد» على اللفظ، وإنما جمع المعنى، لأن «أحداً» يعُمُّ في سياق النفي كسائر النكراتِ الواقعة في سياق النَّفْي، قاله الزمخشري والحوفيُّ.
وعلى هذا فيكون «مِنْكُم» خبراً للمبتدأ، والمبتدأ في «أحد» زيدت فيه «مِنْ» لوجود شرطها.
وضعفه أبو حيَّان: بأن النفي يتسلَّط على كينونته «منكم»، والمعنى إنما هو على نفي الحجز عما يراد به.
والثاني: أن يكون خبراً ل «ما» الحجازية، و «من أحد» اسمها، وإنما جُمِع الخبرُ لما تقدم و «منكم» على هذا حالٌ، لأنه في الأصل صفة ل «أحد» أو يتعلق ب «حاجزين» ولا يضر ذلك لكون معمول الخبر جاراً، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع، لا يجوز: «ما طعامك زيداً آكلاً»، أو متعلق بمحذوف على سبيل البيان، و «عنه» يتعلق ب «حاجزين» على القولين، والضمير للمقتول، أو للقتل المدلول عليه بقوله: «لأخذْنَا، لقطعنا».
قال القرطبيُّ: المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه لقوله تعالى ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥] هذا جمع لأن «بين» لا تقع إلا على اثنين فما زاد، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَمْ تحلَّ الغَنائِمُ لأحدٍ سُودِ الرُّءوسِ قَبْلكُمْ».
لفظه واحد، ومعناه الجمع، و «من» زائدة.
والحَجْز: المنع، و «حَاجزيْنَ» يجوز أن يكون صفة ل «أحد»، على المعنى كما
قوله: ﴿وَإِنَّهُ﴾. يعني: القرآن ﴿لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾، أي: الخائفين الذين يخشون الله، ونظيره ﴿فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].
وقيل: المراد محيمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: هو تذكرة ورحمة ونجاة.
﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ﴾.
قال الربيع: بالقرآن، ﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ﴾ يعني: القرآن ﴿عَلَى الكافرين﴾ إمَّا يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين به، أو حين لم يقدروا على معارضته حين تحدَّاهم أن يأتوا بسورة مثله.
والحسرة: الندامة.
وقيل: «إنه لحسرة» يعني: التكذيب به، لدلالة مكذبين على المصدر دلالة «السَّفيه» فيه في قوله: [الوافر]
٤٨٥٦ - إذَا نُهِيَ السَّفيهُ جَرَى إليْهِ | وخَالفَ، والسَّفيهُ إلى خِلافِ |
فصل فيمن استدل بالآية على أن الكفر ليس من الله
قال ابنُ الخطيب: وللمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية، على أنَّ الكُفر ليس من الله؛ لأنه وصف القرآن بأنه تذكرةٌ للمتقين، ولم يقل: إنه ضلالٌ للمكذبين؛ بل نسب الضَّلال إليهم بقوله: ﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ﴾.
والجوابُ: ما تقدم.
قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين﴾ يعني: القرآن العظيم، تنزيل من الله - عَزَّ وَجَلَّ - فهو كحق اليقينِ.
وقيل: حقًّا يقيناً لا بطلان فيه، ويقيناً لا ريب فيه، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخرة للتأكيد، قاله ابن الخطيب.
وقال القرطبيُّ: قال ابنُ عبَّاسٍ: إنما هو كقولك: عينُ اليقينِ ومحضُ اليقينِ، ولو كان اليقينَ نعتاً لم يجز أن يضاف إليه، كما لا تقول: هذا رجل الظريف.
وقوله: ﴿فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم﴾.
قال ابن عبَّاس: أي: فَصَلِّ لربِّك وقيل: نزِّه اللَّه عن السوءِ والنقائصِ، إما شُكْراً على ما جعلك أهْلاً لإيحائه إليك، وإمَّا تنزيهاً له عن الرضا بأن يُنسبَ إليه الكذبُ من الوَحْي.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ الحَاقَّةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - حِسَاباً يَسِيراً».
وعن فُضالةَ بنِ شريك، عن أبي الزاهرية قال: سمعته يقول: «مَنْ قَرَأ إحدى عَشْرَةَ آيةً من سُورةِ الحاقَّةِ، أجِير من فِتْنَةِ الدَّجَّالِ؛ ومنْ قَرَأها، كَانَ لَهُ نُوراً مِنْ فَوْقِ رَأسِهِ إلى قَدَمَيْهِ».
قال القتبي : وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد.
ومنه قول الشماخ :[ الوافر ]
٤٨٥٤ - إذَا ما رايةٌ رُفِعتْ لمَجْدٍ***تلقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ١
قال أبو جعفر الطبري٢ : هذا الكلام مخرج مخرج الإذلال، على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب.
ويجوز أن تكون الباءُ مزيدةً، والمعنى : لأخذنا يمينه، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه، ويضرب بالسَّيف، في جيده موجهة، وهو أشد عليه.
قال الحسن : لقطعْنَا يدهُ اليمنى٣.
وقال نفطويه : المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف.
وقال السدِّي ومقاتل : والمعنى : انتقمنا منه بالحقِّ ؛ واليمين على هذا بمعنى الحق، كقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين ﴾[ الصافات : ٢٨ ] أي : من قبل الحق٤.
٢ ينظر: تفسير الطبري ١٢/٢٢٣..
٣ ذكره الماوردي (٦/٨٦) والقرطبي (١٨/١٧٩)..
٤ ينظر المصدر السابق..
قاب أبو زيد : وجمعه الوُتْن، وثلاثة أوتِنَة، والموتُون الذي قُطِعَ وتينُه.
وقال الكلبي : هو عِرْق بين العلباء والحُلْقوم، وهما علباوان، وإن بينهما العِرْق١.
والعِلْباء : عصب العنق.
وقيل : عرق غليظ تصادفه شفرة النَّاحر.
قال الشماخُ :[ الوافر ]
٤٨٥٥ - إذَا بلَّغَتنِي وحَملْتِ رحْلِي***عرَابَةُ فاشْرقِي بِدمِ الوتِينِ٢
وقال مجاهد : هو حبل القلب الذي في الظهر، وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه.
وقال محمدُ بن كعب : إنه القلبُ ومراقه، وما يليه٣.
وقال عكرمة : إنَّ الوتينَ إذا قُطعَ لا إن جَاعَ عرف ولا إن شَبعَ عرف٤.
قال ابن قتيبة : ولم يرد أنا نقطعه بعينه، بل المراد أنه لو كذب لأمتناه فكان كمن قُطِعَ وتينه.
ونظيرهُ قوله صلى الله عليه وسلم :«مَا زَالَتْ أكْلَةُ خيْبَر تُعاودُنِي، فهذا أوَانُ انقِطَاعِ أبْهَرِي » «والأبَهَرُ » : عِرْقٌ متصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبُه، فكأنه قال : هذا أوانُ يقتلني السُّم، وحينئذ صرتُ كمن انقطع أبهره.
٢ ينظر ديوانه (٩٢)، وشرح المفصل ٢/١٣، والقرطبي ١٨/١٧٩، والبحر ٨/١٣٥، والدر المصون ٦/٣٧٠..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤١٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
في «حاجزين » وجهان :
أحدهما : أنه نعت ل «أحد » على اللفظ، وإنما جمع المعنى، لأن «أحداً » يعُمُّ في سياق النفي كسائر النكراتِ الواقعة في سياق النَّفْي، قاله الزمخشري والحوفيُّ.
وعلى هذا فيكون «مِنْكُم » خبراً للمبتدأ، والمبتدأ في «أحد » زيدت فيه «مِنْ » لوجود شرطها.
وضعفه أبو حيَّان١ : بأن النفي يتسلَّط على كينونته «منكم »، والمعنى إنما هو على نفي الحجز عما يراد به.
والثاني : أن يكون خبراً ل «ما » الحجازية، و «من أحد » اسمها، وإنما جُمِع الخبرُ لما تقدم و «منكم » على هذا حالٌ، لأنه في الأصل صفة ل «أحد » أو يتعلق ب «حاجزين » ولا يضر ذلك لكون معمول الخبر جاراً، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع، لا يجوز :«ما طعامك زيداً آكلاً »، أو متعلق بمحذوف على سبيل البيان، و «عنه » يتعلق ب «حاجزين » على القولين، والضمير للمقتول، أو للقتل المدلول عليه بقوله :«لأخذْنَا، لقطعنا ».
قال القرطبيُّ٢ : المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه لقوله تعالى ﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾[ البقرة : ٢٨٥ ] هذا جمع لأن «بين » لا تقع إلا على اثنين فما زاد، قال عليه الصلاة والسلام :«لَمْ تحلَّ الغَنائِمُ لأحدٍ سُودِ الرُّءوسِ قَبْلكُمْ ».
لفظه واحد، ومعناه الجمع، و «من » زائدة.
والحَجْز : المنع، و «حَاجزيْنَ » يجوز أن يكون صفة ل «أحد »، على المعنى كما تقدم، فيكون في موضع جر، والخبر «منكم »، ويجوز أن يكون منصوباً، على أنه خبر، و «منكم » ملغى، ويكون متعلقاً ب «حاجزين »، ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا، كما لم يمتنع الفصل به في «إنَّ فيك زيداً راغبٌ ».
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٨٠..
وقيل : المراد محمد صلى الله عليه وسلم أي : هو تذكرة ورحمة ونجاة.
قال الربيع : بالقرآن، ﴿ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ ﴾ يعني : القرآن ﴿ عَلَى الكافرين ﴾ إمَّا يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين به، أو حين لم يقدروا على معارضته حين تحدَّاهم أن يأتوا بسورة مثله.
والحسرة : الندامة.
وقيل :«إنه لحسرة » يعني : التكذيب به، لدلالة مكذبين على المصدر دلالة «السَّفيه » فيه في قوله :[ الوافر ]
٤٨٥٦ - إذَا نُهِيَ السَّفيهُ جَرَى إليْهِ***وخَالفَ، والسَّفيهُ إلى خِلافِ١
أي : إلى السَّفهِ.
فصل فيمن استدل بالآية على أن الكفر ليس من الله
قال ابنُ الخطيب٢ : وللمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية، على أنَّ الكُفر ليس من الله ؛ لأنه وصف القرآن بأنه تذكرةٌ للمتقين، ولم يقل : إنه ضلالٌ للمكذبين ؛ بل نسب الضَّلال إليهم بقوله :﴿ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ ﴾.
والجوابُ : ما تقدم.
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٠٦..
قال الربيع : بالقرآن، ﴿ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ ﴾ يعني : القرآن ﴿ عَلَى الكافرين ﴾ إمَّا يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين به، أو حين لم يقدروا على معارضته حين تحدَّاهم أن يأتوا بسورة مثله.
والحسرة : الندامة.
وقيل :«إنه لحسرة » يعني : التكذيب به، لدلالة مكذبين على المصدر دلالة «السَّفيه » فيه في قوله :[ الوافر ]
٤٨٥٦ - إذَا نُهِيَ السَّفيهُ جَرَى إليْهِ***وخَالفَ، والسَّفيهُ إلى خِلافِ١
أي : إلى السَّفهِ.
فصل فيمن استدل بالآية على أن الكفر ليس من الله
قال ابنُ الخطيب٢ : وللمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية، على أنَّ الكُفر ليس من الله ؛ لأنه وصف القرآن بأنه تذكرةٌ للمتقين، ولم يقل : إنه ضلالٌ للمكذبين ؛ بل نسب الضَّلال إليهم بقوله :﴿ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ ﴾.
والجوابُ : ما تقدم.
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٠٦..
وقيل : حقًّا يقيناً لا بطلان فيه، ويقيناً لا ريب فيه، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخرة للتأكيد، قاله ابن الخطيب.
وقال القرطبيُّ١ : قال ابنُ عبَّاسٍ : إنما هو كقولك : عينُ اليقينِ ومحضُ اليقينِ، ولو كان اليقينَ نعتاً لم يجز أن يضاف إليه، كما لا تقول : هذا رجل الظريف.
وقيل : أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين.
قال ابن عبَّاس : أي : فَصَلِّ لربِّك وقيل : نزِّه اللَّه عن السوءِ والنقائصِ، إما شُكْراً على ما جعلك أهْلاً لإيحائه إليك، وإمَّا تنزيهاً له عن الرضا بأن يُنسبَ إليه الكذبُ من الوَحْي.