ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ. كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (٨) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (١٢).قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ).
قد ذكرنا أن يوم القيامة سمي بأسماء النوازل التي تكون من البلايا والشدائد؛ ليقع بها التخويف والتهويل، وليس في تبيين وقته ولا في ذكر عينه ترهيب ولا ترغيب، فذكر ذلك اليوم بالأسباب التي هي أسباب الزجر والردع؛ فقوله: (الْحَاقَّةُ) أي: حقت لكل عامل عمله، وتحق لكل ذي حق حقه، فإن كان من أهل النار استوجبها، وإن كان من أهل الجنة دخلها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحاقة هي النار التي لا ترتفع أبدًا، وهو ما ينزل بالخلق من الجزاء وأنواع ما وعدوا به يوم القيامة.
وقيل: هي الواجبة مثل قوله: (وَحَاقَ بِهِمْ)، أي: وجب، ونزل بهم.
والأصل أن القيامة سميت بالأحوال التي يبتلى الخلق بها فيها؛ من نحو: القارعة، والواقعة، والتناد، والطامة، والصاخة، ونحو ذلك مما جاء في القرآن، أخذت أسماؤها من أحوال ما يبتلى الخلق بها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا الْحَاقَّةُ (٢).
فهو على تعظيم أمر ذلك اليوم أيضًا، كما يقال: فلان ما فلان؛ إذا وصف بالغاية في القوة والسخاوة، ونحوه.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) أي فهو على تعظيم أمر ذلك اليوم، أيضًا أو (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ)، أي: لم تكن تدري ما ذلك اليوم؟ فأدراك اللَّه تعالى؛ لأنه لم يكن خبر القيامة
يقول : سيصيبكم بتكذيبكم محمدا صلى الله عليه وسلم في ما يخبركم من الأنباء عن الله تعالى كما أصاب ١ ثمودا وعادا بتكذيبهم رسلهم، لينتهوا عن تكذيبه.
أو يخبرهم أن ثمودا وعادا كذبوا رسلهم حتى صاروا إلى الهلاك فندموا ٢ على ما سبق من تكذيبهم، فستندمون أيضا إن دمتم على تكذيبكم محمدا صلى الله عليه وسلم في ما يأتيكم من الأنباء بعد/٥٩٠ب/موتكم.
ثم ذكر لهم نبأ عاد وثمود وما ٣ كانوا مكذبين بتلك الأنباء لئلا يبقى لهم يوم القيامة حجة، فيقولوا :﴿ إنا كنا عن هذا غافلين ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] ولأنهم لو بحثوا عن علم ذلك لكانت هذه الآيات والأنباء تحقق لهم ذلك. فقد وقعت هذه الآيات موقع الحجاج، لولا إغفالهم وإعراضهم عنها، فانقطع عذرهم، ولزمتهم الحجة لأن ٤ تركوا الإيمان بها.
ثم قوله عز وجل ﴿ الحاقة ﴾ ﴿ ما الحاقة ﴾ ؟ ﴿ وما أدراك ما الحاقة ﴾ ؟ وقوله تعالى :﴿ القارعة ﴾ ﴿ ما القارعة ﴾ ؟ ﴿ وما أدراك ما القارعة ﴾ ؟ [ القارعة١و٢و٣ ] يحتمل أن يكون هذا مخاطبة كل مكذب بالبعث، لا مخاطبة الرسول كقوله تعالى :﴿ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ﴾ ؟ [ الانفطار : ٦ ] الذي إنه خطاب لمن يغتر بالدنيا لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعالى، وجائز أن يكون يخاطب به رسوله عليه السلام، فإن صرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتضى معنى غير ما يقتضيه لو أريد بالخطاب المكذبون.
والأصل أن قول القائل : فلان وما فلان ؟ يوجب اجتذاب الأسماع، ويستدعي السامع للبحث في الشاهد، لأنه إنما يذكر فلان بهذا لأعجوبة فيه أو لعظم أمره فيستبحث عن ذلك ليوقعه على تلك الأعجوبة التي فيه.
فإن كان الخطاب للمكذبين دعاهم ذلك إلى تعرف ما فيه من الأعجوبة والتعظيم. وفي قوله :﴿ وما أدراك ما الحاقة ﴾ مبالغة في التعجب، وإذا نظروا فيه، وفهموه، دعاهم ذلك إلى الإيمان به، فصارت الآية في موضع الإغراء واجتذاب الأسماع. .
وإن كان الخطاب في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأويله أن المكذبين يؤذونه، ويمكرون به، فيتأذّى بهم، ويشتد ذلك عليه، فذكر ما ينزل بهم من العذاب، ويحق عليهم، فيكون فيه بعض التسلي عما أصابه [ من ]٥ الأذى من ناحيتهم، أو ذكره، أن العذاب يحق عليهم، فلا يحزن بصنيعهم، بل يحمله ذلك على الشفقة عليهم والرحمة لهم.
وقيل : إن كان الخطاب في المكذبين ففيه تخويف لأهل مكة وتهويل أنهم إن كذبوا رسولهم في ما يخبرهم من أمر البعث نزل بهم من العذاب ما نزل بعاد وثمود بتكذيبهم الرسل، وقد عرف أهل مكة ما نزل بأولئك.
وإن كان الخطاب في رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي ذكر نبإ عاد وثمود ما يدعوه إلى الصبر على أذاهم، ويكون، له بعض التسلي [ بأنه يخبره ]٦ أنك لست بأول رسول كذب، بل شركك الرسل من قبل، وابتلوا بالتكذيب.
٢ في الأصل و م: قومه..
٣ في الأصل و م: حيث..
أو يخبرهم أن ثمود وعادًا كذبوا رسلهم حتى صاروا إلى الهلاك، وندموا على ما سبق من تكذيبهم، فستندمون أيضًا إن دمتم على تكذيبكم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يأتيكم من الأنباء بعد موتكم، ثم ذكرهم نبأ عاد وثمود وإن كانوا مكذبين بتلك الأنباء؛ لئلا يبقى لهم يوم القيامة حجة فيقولوا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، ولأنهم لو بحثوا عن علم ذلك، لكانت هذه الآيات والأنباء تحقق لهم ذلك، فقد وقعت هذه الآيات موقع الحجاج، لولا إغفالهم وإعراضهم عنها، فانقطع عذرهم، ولزمتهم الحجة وإن تركوا الإيمان بها.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ)، وقوله: (الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)، يحتمل أن يكون هذا مخاطبة كل مكذب بالبعث لا مخاطبة الرسول؛ كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)، إنه خطاب لمن يغتر بالدنيا لا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وجائز أن يكون يخاطب به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإن صرف الخطاب إلى الرسول - عليه السلام - اقتضى معنى غير ما يقتضيه لو أريد بالخطاب المكذبون، والأصل أن قول
وإِن كان الخطاب في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتأويله: أن المكذبين يؤذونه ويمكرون به فيتأذى بهم، ويشتد ذلك عليه، فذكر ما ينزل بهم من العذاب ويحق عليهم؛ فيكون فيه بعض التسلي عما أصابه من الأذى من ناحيتهم، أو ذكره أن العذاب يحق عليهم فلا يحزن بصنيعهم، بل يحمله ذلك على الشفقة عليهم والرحمة لهم.
وقيل: إن كان الخطاب في المكذبين، ففيه تخويف لأهل مكة وتهويل أنهم إن كذبوا رسولهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يخبرهم من أمر البعث، نزل بهم من العذاب ما نزل بعاد وثمود بتكذيبهم الرسل، وقد عرف أهل مكة ما نزل بأُولَئِكَ.
وإِن كان الخطاب في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ففي ذكر نبأ عاد وثمود ما يدعوه إلى الصبر على أذاهم، ويكون له بعض التسلي؛ لأنه يخبر أنك لست بأول رسول كذب، بل شركتك الرسل من قبل وابتلوا بالتكذيب، ثم بين ما نزل بعاد وثمود بالتكذيب بالقارعة، وهو قوله: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) والطاغية والعاتية والرابية يمكن أن يجعل هذا كله صفة للعذاب الذي نزل بهم.
وجائز أن يكون صفة الأحوال التي سبقت منهم وما كانوا عليه، فإن كان هذا صفة العذاب، فالطغيان عبارة عن الشدة، والطاغي: هو العاتي، الشديد لا يراقب ولا يتقي، فوصف العذاب الذي أرسله عليهم أنه لم يُبْقِ منهم أحدًا، بل استأصلهم وأهلكهم بجملتهم.
وقيل: ذلك العذاب هو الصاعقة.
وقيل: الصيحة، وسمي: طاغية: ولم يقل: طاغي؛ لهذا.
وقيل: (بِالطَّاغِيَةِ) أي: بطغيانهم وذنوبهم الذي سلف منهم؛ كقوله تعالى: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ).
ويحتمل أن يكون هذا صفة لأحوالهم التي كانوا عليها من شدة التمرد والعتوّ ومن طغيانهم التكذيب بالحاقة والقارعة، ففيه تخويف لأهل مكة أن سيهلكهم اللَّه - تعالى - إن لم ينتهوا عن التكذيب كما أهلك أُولَئِكَ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦).
قال الحسن: الريح الصرصر هي الصيحة، وهي التي لها صوت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي الريح الباردة الشديدة البرد؛ كقوله: (رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ...)، والصر: البارد، والصرصر المكرر منه، فوصفها لدوامها وتكررها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (عَاتِيَةٍ) فتأويلها على ما ذكرنا في الطاغية.
وذكر الكلبي وغيره: أنها سميت: عاتية؛ لأنها عتت على الخزان فلم يطيقوها، وهذا لا يستقيم؛ لأنه لا يجوز أن يوكل الخزان على حفظها، ثم لا يمكنون من الحفظ حتى تعتوا عليهم، إلا أن يقال بأنهم لم يوكلوا بحفظها في ذلك الوقت، فأما إذا وكلوا بحفظها، ثم لا يُجعل لهم إلى حفظها سبيل، فهذا مستحيل، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧).
قوله: (سَخَّرَهَا) قيل: أرسلها.
وقيل: أدامها عليهم.
وقيل: التسخير: التذليل، أي: ذللها؛ فصيّرها بحيث لا تمتنع عن المرور عليهم في الوجه الذي جعلها عليهم، وأطاعته في الوجه الذي أرسلها، وإنما أرسل الريح على أبدانهم خاصة، لم تهلك شيئًا من مساكنهم؛ كقوله (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا
ثم قوله: (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) فيه تبيين أن الأيام لم تكن على عدد الليالي، ولو كانا على عدد واحد، لكان في ذكر أحد العددين ذكر العدد الآخر؛ لأن تسمية الليالي تسمية للأيام، وتسمية الأيام تسمية الليالي؛ ألا ترى إلى قوله في قصة زكريا: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا)، وقال في موضع آخر: (ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُسُومًا)، قيل: متتابعة دائمة.
وقيل: قطعًا، قطعًا من الحسم، يقال: حسمت الريح كل شيء مرت به حسمًا، أي: قطعته.
وقيل: مشئومات حيث انقطعت بركتها عنهم.
وقوله تعالى: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى).
أي: أنك لو أدركتهم وشهدتهم وعاينتهم، لرأيتهم صرعى.
(كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ترى الأعضاء المتفرقة، كل قطعة منها كأنها عجز نخلة؛ إذ كانوا هم أعظم في أنفسهم من أعجاز النخل، فيصرف تأويله إلى الأعضاء المتباينة.
ثم ذكر النخل هاهنا بالتأنيث، فقال: (أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)، ووصف في سورة (اقتربت) بصفة التذكير فقال: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)؛ لأن النخل يذكر ويؤنث؛ كذا قاله الزجاج.
وقيل: النخل يذكر على كل حال، لكن قوله: (خَاوِيَةٍ) صفة الأعجاز لا صفة النخل، والأعجاز جماعة، والجماعة مؤنثة، والنخل واحد فيذكر، وليس كذلك؛ لأن الخاوية صفة النخل، ألا ترى عند الوصل يذكر بالخفض لا بالرفع.
ولأن النخل اسم جمع، يقال: نخلة ونخل؛ كما يقال: شجرة وشجر، وثمرة وثمر، ونحو ذلك.
إنما أرسل الريح على أبدانهم خاصة، لم١ تهلك شيئا من مساكنهم كقوله تعالى :﴿ تدمّر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ﴾ [ الأحقاف : ٢٥ ] والريح إذا عملت على الأبدان [ فهي على البنيان ]٢ أكثر. لكن الله تعالى لم يأمرها بذلك، والله أعلم.
ثم قوله تعالى :﴿ سبع ليال وثمانية أيام حسوما ﴾ فيه تبيين أن الأيام لم تكن على عدد الليالي، ولو كانتا٣ على عدد واحد لكان في ذكر أحد العددين ذكر العدد الآخر، لأن تسمية الليالي تسمية الأيام، وتسمية الأيام تسمية الليالي. .
ألا ترى أنه قال في قصة زكرياء :﴿ آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾ [ آل عمران : ٤١ ] وقال في موضع آخر :﴿ آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ﴾ ؟ [ مريم : ١٠ ] والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ حسوما ﴾ قيل : متتابعة دائما، وقيل : قطعا قطعا من الحسم، يقال
حسمت الريح كل شيء مرت به حسما، أي قطعته، وقيل : مشؤومات حين٤ انقطعت بركتها عنهم.
وقوله تعالى ﴿ فترى القوم فيها صرعى ﴾ أي إنك لو أدركتهم، وشهدتهم، وعاينتهم. لرأيتهم ﴿ صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ﴾ وقال بعضهم : ألا ترى الأعضاء المتفرقة : كل قطعة منها كأنها عجز نخلة ؟ إذا كانوا هم أعظم في أنفسهم من أعجاز النخل [ فيصرف تأويله ]٥ إلى الأعضاء المتباينة.
ثم ذكر النخل هنا بالتأنيث، فقال :﴿ كأنهم أعجاز نخل خاوية ﴾ ووصفه٦ في سورة ﴿ اقتربت الساعة ﴾ بصفة التذكير، فقال :﴿ كأنهم أعجاز نخل منقعر ﴾ [ القمر : ٢٠ ] لأن النخل يذكر، ويؤنث. كذا قاله الزجاج.
وقيل : النخل يذكر على كل حال. لكن قوله :﴿ خاوية ﴾ صفة للأعجاز لا صفة النخل، والأعجاز جماعة، والجماعة مؤنثة، والنخل واحد، فيذكر. وليس كذلك، لأن الخاوية صفة النخل.
ألا ترى عند الوصل يذكر بالخفض لا بالرفع ؟ ولأن النخل اسم جمع، يقال : نخلة ونخل كما يقال : شجرة وشجر، وثمرة وثمر، ونحو ذلك.
وقوله تعالى :﴿ خاوية ﴾ قال بعضهم : أي بالية، وقيل : خاوية ٧ أي ساقطة كقوله تعالى :﴿ وهي خاوية على عروشها ﴾ [ البقرة : ٢٥٩ ] أي ساقطة على قوائمها. . وقيل : أي خالية، فوصفها بالخلاء لأنها اقتلعت من أصلها حتى خلا ذلك المكان منها. وأعجاز النخل أصوله.
٢ من م، في الأصل: فهو على الاليتيان..
٣ في الأصل و م: كانا..
٤ في الأصل و م: حيث..
٥ من م، في الأصل: فيضرب تأويل..
٦ في الأصل: وصف، في م: ووصف..
٧ في الأصل و م: الخاوية.
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: بالية.
وقيل: الخاوية، أي: ساقطة؛ كقوله - تعالى -: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) أي: ساقطة على قوائمها.
وقيل: أي: خالية، فوصفها بالخلاء لأنها أقلعت من أصلها حتى خلا ذلك المكان عنها، وأعجاز النخل: أصوله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (٨).
فيه أنه لم يبق لهم نسل يذكرون بهم، بل أهلكوا بأجمعهم، وانقطع نسلهم، وانقطع عنهم الذكر إلا بالسوء، وإلا كان يرى لهم باقية، ففيه أنهم استؤصلوا وعم العذاب الكبير والصغير، يخوف أهل مكة بما يخبرهم عما فعل بأُولَئِكَ، وفيه إخبار أنهم عذبوا بعذاب لا رحمة فيه، وهكذا سنة اللَّه - تعالى - في مكذبي الرسل من قبل، وجعل تعذيب هذه الأمة أن يجاهدوا ويقاتلوا، فتعذيب هذه الأمة تعذيب فيه رحمة؛ لأن الصغار منهم لا يقاتلون، والنساء لا يقاتلن، بل يسبين رجاء أن يسلمن؛ فعلى هذا يخرج قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، واللَّه أعلم.
ويشبه أن يكون هذا جواب قولهم: إن محمدًا صرور، أي: ليس له ولد يُبقي نسله وذكره، فأخبر - تعالى - أن كثرة الأولاد لا تغني من اللَّه شيئًا؛ إذ قد كانت لهم أهالٍ وأولاد فأهلكوا عن آخرهم، وانقطع التناسل منهم؛ ليعلموا أنه يبقى ذكر لمن أطاع اللَّه - تعالى - ورسوله، كان ثَمَّ أولاد، أو لم يكن، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ... (٩).
قرئ بكسر القاف وفتح الباء، وقرئ بنصب القاف وجزم الباء.
فتأويل القراءة الأولى: أي: جاء فرعون ومن معه من جنده وأتباعه، أو من قبله: من كان من أهل القرى التي بغرب المصر، وقد روي في الشاذ في بعض الحروف: (وجاء فرعون ومن دونه).
وجائز أن يكونوا من أتباع فرعون.
وجائز ألا يكونوا.
وتأويل القراءة الثانية: أي: جاء فرعون ومن كان متقدمًا عليه من الأمم الماضية.
قيل: قريات لوط، ائتفكت على أهلها، أي: انقلبت عليهم؛ بما عصت رسلها.
وقيل: المؤتفك: الذي يأتفك من الصدق إلى الكذب، ومن الحق إلى الباطل، ومن العدل إلى الجور، فمن قرأه: (وَمَنْ قِبَلَهُ) بخفض القاف، كان قوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) واقعا كله على العصيان لموسى - عليه السلام - والمراد من المؤتفكات: كل من ائتفك من الحق إلى الباطل، دون أهل قريات لوط؛ لأنهم كانوا قبل زمان موسى بكثير.
ومن قرأه: (وَمَنْ قَبْلَهُ) بنصب القاف، كان قوله: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) واقعًا على رسول كل فريق، كأنه قال: عصى كل أمة رسولها، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد من المؤتفكات قوم لوط، عليه السلام.
ثم قوله: (بِالْخَاطِئَةِ)، أي: بالخطايا والشرك.
وذكر أبو معاذ عن مجاهد في تفسير الخاطئة الشرك والكفر، وأنكر ذلك، واحتج بأن اللَّه - تعالى - لم يذكر من قوم لوط - عليه السلام - كفرًا وشركًا في كتابه، إنما ذكر ركونهم للفاحشة وبها أهلكوا؛ إذ لم ينزعوا ولم يتوبوا.
قال: ولو كانوا مشركين، لم يقل لهم لوط: (قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)، أراد بذلك الإنكاح والكافر لا يصح منه نكاح المسلمة.
وليس كما زعم، بل كانوا أهل شرك وكفر باللَّه تعالى؛ ألا ترى إلى قوله فيما حكى عن قوم لوط من قولهم: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، فإخراج الرسل من أماكنها من صنيع أهل الكفر.
وقال في موضع آخر: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ)، فطابت أنفسهم بإخراج لوط - عليه السلام - من قراهم، ومن فعل ذلك، لم يشك في كفره.
وقال في قصة لوط أيضًا: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، فثبت أنهم كانوا كفارًا.
فتأويل القراءة الأولى :{ أي جاء فرعون ومن معه من جنده وأتباعه، وقبله من كان من أهل القرى التي بقرب القرى. وقد روي في الشاذ في بعض الحروف : وجاء فرعون ومن دونه١. وجائز [ أن يكونوا ]٢ من أتباع فرعون، وجائر ألا يكونوا ]٣.
وتأويل القراءة الثانية : أي جاء فرعون ومن كان مقدما عليه من الأمم الماضية. .
وقوله تعالى :﴿ والمؤتفكات بالخاطئة ﴾ قيل : قريات لوط ائتفكت على أهلها أي انقلبت عليهم بما عصت رسلها، وقيل : المؤتفك الذي يأتفك من الصدق إلى الكذب ومن الحق إلى الباطل ومن العدل إلى الجور.
فمن قرأ : ومن قبله بحفض القاف، كان قوله. جاء فرعون ومن قبله :﴿ والمؤتفكات بالخاطئة ﴾ ﴿ فعصوا رسول ربهم ﴾ واقعا كله على العصيان لموسى عليه السلام والمراد منه ﴿ والمؤتفكات ﴾ كل من ائتفك من الحق إلى الباطل دون أهل قريات لوط لأنهم كانوا كانوا قبل زمان موسى بكثير.
ومن قرأ : ومن قبله بنصب القاف، كان قوله :﴿ فعصوا رسول ربهم ﴾ واقعا على رسول كل فريف، كأنه قال : أي عصت كل أمة رسولها. وعلى هذا يجوز أن يكون المراد من ﴿ والمؤتفكات ﴾ قوم لوط.
ثم قوله تعالى :﴿ بالخاطئة ﴾ أي بالخطايا والشرك. وذكر أبو معاذ عن مجاهد في تفسير الخاطئة الشرك والكفر، وأنكر ذلك، واحتج بأن الله تعالى لم يذكر من قوم لوط كفرا وشركا في كتابه إنما ذكر ركونهم إلى الفاحشة، وبها أهلكوا، إذ ٤ لم ينزعوا، ولم يتوبوا.
قال : ولو كانوا مشركين لم يقل لهم لوط. ﴿ هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ﴾ [ هود : ٧٨ ]أراد بذلك الإنكاح، والكافر لا يصح له نكاح المسلمة.
وليس كما زعم، بل كانوا أهل شرك وكفر بالله تعالى. ألا ترى إلى قوله في ما حكى عن قوم لوط من قولهم٥ ﴿ لئن لم تنته يا لوط لتكونن من الخرجين ﴾ ؟ [ الشعراء : ١٦٧ ] فإخراج الرسل من أماكنها من صنيع أهل الكفر، وقولهم٦ في موضع آخر :﴿ أخرجوا آل لوط من قريتكم ﴾ [ النمل : ٥٦ ] فطابت أنفسهم بإخراج لوط عليه السلام من قراهم. ومن فعل هذا لم يشك في كفره.
وقال في قصة لوط أيضا :﴿ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين ﴾ ﴿ فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ﴾ [ الذاريات : ٣٥و٣٦ ] فثبت أنهم كانوا كفارا.
ثم لقائل أن يقول في قوله ﴿ وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ﴾ ﴿ فعصوا رسول ربهم ﴾ أخبر أنه جاء فرعون إلى موسى، وعصاه : كيف ذكر مجيء فرعون إلى موسى، ولم يوجد منه المجيء إلى الرسول، بل الرسول هو الذي جاءه، فعصاه فرعون، لا أن فرعون أتاه، فاستقبله بالعصيان ؟ قيل :[ فيه وجهان :
أحدهما٧ ] أن كل من أتى آخر، وجاءه، فقد أتاه الآخر، ومن قرب [ إلى آخر فقد قرّب ] ٨الآخر إليه، لأن المجيء فعل مشترك، لأنه اسم الالتقاء، وإنما يقع الالتقاء بهما جميعا، ليس بأحدهما، فلذلك استقام من إضافة المجيء إلى فرعون.
وعلى هذا تأويل قوله تعالى :﴿ وأزلفت الجنة للمتقين ﴾ أي قربت، وأهلها الذين يقربون على الحقيقة، ولكنهم إذا قربوا إليها، فقد قربت هي إليهم، فأضيف إلى التقريب. .
لهذه العبارة يمكن أن يتأول قوله تعالى :﴿ وجاء ربك والملك صفا صفا ﴾ [ الفجر : ٢٢ ] وقوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ] أي أتاه الخلق لا أن يكون هو الذي يأتيهم لأنه قال :﴿ ويوم يرجعون إليه ﴾ [ النور : ٦٤ ] وقال :﴿ وإلى الله المصير ﴾ [ آل عمران : ٢٨و. . ]
وقال٩ :﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ [ البقرة : ٢١٠ و. . ] فأخبر أن الخلق هم الذين يأتونه، ويرجعون إليه، ولكن ينسب ١٠ المجيء والإتيان إلى الله تعالى، لأنهم إذا أتوه فكأنه قد أتاهم من الوجه الذي ذكرنا دون أن يكون فيه إثبات الانتقال إلى الله تعالى. .
والثاني : أن اسم المجيء، وإن أطلق، واستعمل في المجيء إلى مكان، فقد يستعمل أيضا في الموضع الذي ليس فيه حركة ولا انتقال، قال الله تعالى :﴿ وقل جاء الحق ﴾ ومعناه : ظهر الحق، ليس أن الحق كان في موضع، فانتقل عنه إلى غيره، فأمكن أن يكون قوله :﴿ وجاء فرعون ﴾ أي كذب بما أنزل على موسى عليه السلام وجائز أن يكون قوله :﴿ وجاء فرعون ﴾ بالخاطئة، فيكون المجيء مصروفا إلى الخطايا، وهذا التأويل أملك بظاهر الآية لأنه قال :﴿ وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ﴾ أي جاؤوا بالخطايا.
٢ في م: يكون..
٣ من، في الأصل: ألا يكون..
٤ ي الأصل و م: إذا..
٥ في الأصل و م قوله..
٦ في الأصل و م: وقال..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٩ في الأصل وم: و..
١٠ في الأصل وم: يسبب..
قيل: إن كل من أتى آخر وجاءه، فقد أتاه الآخر، ومن قرب إلى الآخر، فقد قرب الآخر إليه؛ لأن المجيء فعل مشترك؛ لأنه اسم الالتقاء، وإنَّمَا يقع الالتقاء بهما جميعًا ليس بأحدهما؛ فلذلك استقام إضافة المجيء إلى فرعون، وعلى هذا تأويل قوله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ)، أي: قربت للمتقين، وأهلها هم الذي يقربون إليها في الحقيقة، ولكنهم إذا قربوا إليها، فقد قربت هي إليهم، فأضيف إليها التقريب لهذا؛ فعلى هذه العبارة يمكن أن يتأول قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ)، أي: أتاه الخلق، لا أن يكون هو الذي يأتيهم؛ لأنه قال: (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ)، وقال: (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)، (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، فأخبر أن الخلق هم الذين يأتونه، ويرجعون إليه، ولكن نسب المجيء والإتيان إلى اللَّه تعالى؛ لأنهم إذا أتوه فكأنه قد أتاهم من الوجه الذي ذكرنا دون أن يكون فيه إثبات الانتقال في اللَّه تعالى.
والثاني: أن اسم المجيء وإن أطلق واستعمل في المجيء إلى مكان من مكان، فقد يستعمل أيضًا في الموضع الذي ليس فيه حركة ولا انتقال؛ قال اللَّه تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ)، ومعناه: ظهر الحق، ليس أن الحق كان في موضع فانتقل عنه إلى غيره؛ فأمكن أن يكون قوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ) أي: كذب بما أنزل على موسى، عليه السلام.
وجائز أن يكون قوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ) أي: جاء بالخاطئة؛ فيكون المجيء مصروفًا إلى الخطايا، وهذا التأويل أملك بظاهر الآية؛ لأنه قال: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ)، أي: جاءوا بالخطايا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (١٠).
أي: عالية؛ حيث علت أبدانهم.
وجائز أن يكون المراد منه: أن عقوبتهم ربت على الأخذ أي: زادت على الأخذ؛
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: طغى على الخزان؛ لأن الخُزَّان يطلقون القطر بالكيل والوزن والقدر المعلوم، ثم ذكر في موضع آخر: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) أي: منصب؛ فيكون تأويله: أن اللَّه - تعالى - لم يمكنهم من حفظ القطر في ذلك الوقت؛ فطغى عليهم لهذا المعنى، وإلا لو لزموا حفظه في ذلك الوقت، لكان الماء لا يطغى عليهم، على ما ذكرنا: أنه لا يجوز أن يؤمروا بحفظه ولا يملكون حفظه.
وجائز أن يكون قوله: (طَغَا)، أي: طغى على الذين أهلكوا من مكذبي نوح - عليه السلام - وقد وصفنا تأويل الطاغي، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ).
قد ذكر أنه حملنا، ولم نكن نحن يومئذ فنُحْمَل، والخطاب للذين كانوا في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإنما كان لأن بنجاة أُولَئِكَ المحمولين نجاة ذريتهم، وبهلاك أُولَئِكَ فناء ذريتهم؛ فكأنه قد حملهم بحمل أُولَئِكَ؛ لما حصلت لهم النجاة بحملهم.
أو أضاف إليهم؛ لأنه قدر كونهم من آبائهم؛ فكانوا حملوا تقديرًا، وهو كقوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)، ومعناه: أنزلنا عليكم ما قدرنا كون اللباس منه، وهو المطر، فإذا أنزل المطر الذي قدر كون اللباس منه، فكأنه أنزل اللباس، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، ونحن لم نخلق من التراب، ولكن لما قدر خلقنا من التراب الذي أصلنا منه فكأنا خلقنا منه؛ فعلى ذلك وإن لم نكن محمولين في السفينة، فقد حمل أصلنا؛ لنكون نحن من ذلك الأصل، فكأنا قد حملنا فيها؛ إذ
أو ذكر ذلك منّة منه على الأبناء بصنيعه بالآباء؛ ليعلم أن على الأبناء شكر ما أحسن إلى آبائهم وأجدادهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (١٢) فوجه التذكرة فيه: أن أهل مكة أبوا إجابة الرسول، وقالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، فذكرهم أنهم، أولاد من حملوا مع نوح - عليه السلام - في السفينة، وهم إنما استوجبوا النجاة، وشرفوا في الدارين جميعًا باتباعهم الرسل، فما لكم لا تتبعونهم في تصديق الرسل دون أن تتبعوا المكذبين للرسل، أو يذكرهم كذبهم في قولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ)، بل قد وجدتم آباءكم على خلاف ما أنتم عليه، وقد تعلمون أن آباءكم هم الذين اتبعوا نوحًا فنجوا، وهم المؤمنون دون الكفرة.
ووجه آخر: أنه ذكرهم أحوال المكذبين، وإلى ماذا آل أمرهم من الغرق والهلاك؛ فيكون فيه تخويف من كذب من أهل مكة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فصارت تلك الجارية وهي السفينة موعظة وتذكرة تذكرهم عواقب المصدقين بالرسل والمكذبين لهم.
أو ذكرهم عظيم نعمه على آبائهم الذين حملوا في السفينة؛ ليستأدي منهم شكر ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كم من سفينة قد هلكت منذ ذلك الوقت وهي قائمة في موضع كذا عبرة وتذكرة.
ثم التذكرة تخرج على وجهين:
أحدهما: أن يراد بها الآية والعبرة؛ أي: جعلنا لكم ذلك؛ لتعتبروا، وتكون آية لكم على وحدانية اللَّه - تعالى - وقدرته؛ كقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ).
والثاني: أي: جعلنا تلك الأنباء تذكرة لكم؛ أي: جعلناها قرآنا تقرءونها وتذكرونها إلى آخر الأبد؛ فتشكرون اللَّه - تعالى - على ما صنع إليكم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) يقال: وعى الشيء: إذا حفظه، وأوعاه: إذا حفظه بإناء أو غيره؛ أي: تحفظها أذن واعية؛ بمعنى: حافظة؛ فأضاف الوعي والحفظ إلى الأذن، والأذن لا تعي؛ بل تسمع، ثم يعيه القلب، ولكن نسب الوعي إلى
وجائز أن يكون اللَّه - تعالى - يجعل للقلوب آذانًا بها تعي، وأبصارًا بها تبصر؛ فيضيف الوعي إلى آذان القلوب، ليس إلى آذان الرءوس، واللَّه أعلم.
وقيل: (أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) أي: عقلت عن اللَّه تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتابه، وهي أذن المؤمن، فأما أذن الكافر؛ فإنها تسمع وتقذف ولا تعي؛ لما لم يحصل لهم الانتفاع به؛ ألا ترى أنه وصف آذانهم بالصمم؛ لما لم ينتفعوا بالمسموع، وكذلك قال: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، جعل تركهم الانتفاع به نبذًا؛ فعلى ذلك جعل الانتفاع به وعيًا، وكذلك المتعارف في الخلق أنهم إذا أرادوا الانتفاع بعلم أو شيء، اجتهدوا في وعيهما وحفظهما.
* * *
قوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) فكأنهم سألوا: متى تكون الواقعة والحاقة والقارعة؟ فأخبر عن ذلك بقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ)، فجوابهم في قوله: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) ثم قد بيّنا أن الأسئلة كلها خرجت على بيان الوقت، واللَّه - تعالى - لم يبين لهم وقت كونه، وإنَّمَا أجاب عن الأحوال التي تكون في ذلك الوقت؛ لما لا فائدة لهم في تبيين وقته، ولا حاجة إلى معرفته، وإنَّمَا الفائدة في تبيين أحواله؛ لما يقع بها الترغيب والترهيب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) فجائز أن يكون على حقيقة النفخ.
واحتمل أن يكون على قدر نفخة واحدة؛ فتكون فائدته ذكر سهولة أمر البعث على اللَّه - تعالى - لأن قدر النفخة مما يسهل على المرء في الشاهد، ولا يتعذر.
وجائز أن يكون ذكر النفخ؛ لما أن الروح تدخل في أجسادهم، وتنتشر فيها، وذلك
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي الصُّورِ) قيل: الصور: هو القرن ينفخ فيه النفخة الأولى؛ فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه، ثم ينفخ فيه مرة فإذا هم قيام ينظرون.
ومنهم من يقول: أي: نفخ الروح في صور الخلق؛ لكن جمع الصورة: الصور، بنصب الواو؛ فلا يحتمل أن يكون المراد منه: جمع الصورة، لكنه يجوز أن يكون اللَّه - تعالى - جعل نفخ الصور سببًا لإفنائهم وإحيائهم، لا أنه يعجزه شيء عن الإفناء والإحياء ما لم ينفخ في الصور، لكنه جعله سببًا لنوع الحكمة والمصلحة أو لمحنة ذلك الملك والابتلاء؛ على ما عرف من أنواع المحن في الملائكة من إنزال المطر، وتسيير السحاب، وجعلهم الموكلين على أعمال بني آدم، وغير ذلك.
وقوله: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤) كسرتا كسرة واحدة.
وقيل: هدمتا هدمة واحدة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: زلزلتا زلزلة واحدة؛ فكأنه يقول - واللَّه أعلم -: تتزلزل الأرض، فتقذف ما في بطنها من الفضول، وتخرج ما فيها من الجواهر التي ليست منها بتلك الدكة، وتخرج أصول الجبال منها، ثم يجعله اللَّه - تعالى - كثيبًا مهيلًا مثل الرمل، ثم يُعْمِل عليه الريح فيجعله هباء منثورًا، وتراه من لينه كالعهن المنفوش، ثم يسير مثل السحاب، فيقع في شعاب الأرض والأودية والأماكن المختلفة؛ فتصير الأرض كما قال - تعالى -: (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧)، وهكذا الريح إذا عملت على شيء وتقع عليه، تفرقه في النواحي، وتسوي به الشقوق، وتبسطه على وجه الأرض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ) ليس أنها تحمل من مكان إلى مكان، ولكن تدخل هذه في هذه، وتضرب هذه على هذه بالدكة؛ فتصير كأنها حملت لذلك، وإذا كان
وقيل: في آيات أخر بيان آخر: بيان تقديم فناء الجبال قبل الأرض بقوله: (يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا. فَيَذَرُهَا)، أي: يذر الأرض (قَاعًا صَفْصَفًا)، وغيرها من الآيات؛ مما يدل على تقديم فناء الجبال قبلها، فإما أن يكون معنى تبديل الأرض تغييرها عن الحالة التي هي عليها اليوم من انهدام البنيان، واستواء الأودية، وإزالة الجبال؛ على ما جاء في الأخبار، فسمي لذلك: تبديلًا؛ كما يقال لمن تغير عن الحالة الحسنة إلى غيرها: تبدلت، يراد: أي: تغيرت عن حالتك؛ فعلى ذلك معنى الآية؛ أي: تكسر الجبال، وتتغير حالة الأرض في دفعة واحدة.
أو يكون في الآية إخبار عن شدة الفزع في ذلك اليوم أن يدكه دكة واحدة؛ تفني الجبال والأرض، وإن كان إفناء الجبال قبل إفناء الأرض، ليس أنهما يفنيان جميعًا بدفعة واحدة، لكن بالدكة الواحدة تهلك الجبال والأرض؛ فيكون المراد بيان شدة اليوم وهوله؛ لا بيان ترتيب فناء البعض على البعض، واللَّه أعلم.
وقوله - تعالى -: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) وهو الحساب والجزاء؛ كقوله: (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ)، وأدخلت الهاء في أسماء القيامة تعظيمًا لشأنها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (١٦) قَالَ بَعْضُهُمْ: تفرقت، وهكذا الشيء إذا انشق تفرق وتباين، وبه يظهر الشق.
ويحتمل أن يكون الشق كناية عن اللين؛ أي: تلين بعد صعوبتها، دليله:
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) أي: ضعيفة بعدما كانت تنسب إلى الصلابة، ويدل على ذلك قوله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)، وإنما يطوى الشيء في الشاهد بعدما يلين في نفسه.
وجائز أن تنشق السماء لنزول أهلها، فلا يبقى فيها إلا الملائكة الذين على أطرافها، ثم تنضم فتبين للطي، واللَّه أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فهي يومئذ واهية ﴾ أي ضعيفة بعدما كانت تنسب إلى الصلابة. ويدل على ذلك قوله :﴿ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ] وإنما يطوى الشيء في الشاهد بعد ما كان يلين في نفسه.
وجائز أن تنشق السماء ليزول أهلها، فلا يبقى فيها إلا الملائكة الذين على أطرافها، ثم تنضم، فيتبين الطي، والله أعلم.
وجائز أن يكون ذكر انشقاقها وانفطارها وانفتاحها تهويلا للخلق من الوجه الذي ذكرنا في ما قبل.
وجائز أن يكون للسماوات أبواب ٢، فتفتح أبوابها، فيكون انشقاقها وانفطارها فتح أبوابها.
وجائز أن يكون الشق ليس فتح الأبواب لأنه ذكر هذا في موضع التهويل، وليس في فتح أبوابها كثير تهويل.
وقوله تعالى :﴿ فهي يومئذ واهية ﴾ أي ضعيفة مسترخية، وقيل : الوهي الخرق، وهو يحتمل لأنها إذا انشقت انخرقت.
٢ في الأصل وم: أبوابا..
وجائِز أن تكون للسماوات أبواب فتفتح أبوابها؛ فيكون انشقاقها وانفطارها فتح أبوابها.
وجائز أن يكون الشق ليس فتح الأبواب؛ لأنه ذكر هذا في موضع التهويل، وليس في فتح أبوابها كثير تهويل.
وقوله: (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) أي: ضعيفة مسترخية.
وقيل: الوهي: الخرق، وهو يحتمل؛ لأنها إذا انشقت انخرقت.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (١٧) الأرجاء: النواحي والأطراف، وهي أطراف السماوات ونواحيها، وواحد الأرجاء: رجا، مقصور.
والملك أريد به الملائكة، أخبر أنهم على أطراف السماوات ونواحيها، فيحتمل أنهم وكلوا وامتحنوا بها وبحفظها بعد الشق؛ لئلا تسقط على أهل الأرض.
وجائز أن يجعل أطرافها وجوانبها لبعض الملائكة، فتفتح أبواب السماء فتنزل الملائكة الذين كان مسكنهم عندها إلى الأرض، كما قال - تعالى -: (وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)، ويبقى الملائكة الذين كان مسكنهم في أرجائها ينتظرون أمر ربهم.
ثم الملك ليس يحتاج إلى مكان يقر فيه وإن جعلت السماء مسكنًا لهم؛ لأن الملائكة ينزلون من السماء إلى الأرض، ويقرون على الهواء من غير أن يكون في الهواء مقر.
والثالث: يبين أنها لا تتفرق كل التفرق، ولكن وسطها ينشق لما ذكرنا، والباقي بحاله.
ويحتمل: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) على ما يمرّ به في السماء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) فيحتمل أن يكون الملائكة في النفخة الأولى يصعقون إلا الثمانية الذين يحملون العرش كما قال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)، فيكون هَؤُلَاءِ الثمانية
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (ثَمَانِيَةٌ) جائز أن يكون أراد به ثمانية أملاك.
وجائز أن يكون أراد به ثمانية أصناف من الملائكة، كما ذكر في التفسير.
وجائز أن يكون هَؤُلَاءِ الثمانية يهلكون ثم يحيون قبل أن يحيا سائر الخلق، فيحملون عرش ربنا على أكتافهم، فإذا بعث اللَّه - تعالى - الخلائق رأوا العرش على أكتافهم، والعرش هو سرير الملك.
وجائز أن يكون ذلك من نور، كما ذكر في الخبر: " أن عين الشمس إذا أرادت أن تطلع فإن جبريل - عليه السلام - يأتي العرش، فيأخذ كفًّا من ضيائه، ثم يلبس الشمس كما يلبس أحدكم قميصه، وإذا أراد القمر أن يطلع أخذ جبريل - عليه السلام - كفًّا من نور العرش، فيلبس القمر كما يلبس أحدكم قميصه "، فجائز أن يكون العرش من الضياء والنور.
ثم أجل الأشياء وأعظمها في أعين الخلق الضياء والنور، وإليهما ينتهي الرغب؛ فيكون في ذكر العرش ذكر عظيم عرش الرب وملكه جل جلاله.
ثم إن كل ملك في الشاهد يتخذ لنفسه عرشًا، يتفاوت ذلك على مقدار ملكهم وسلطانهم لا ليجعل ذلك مسكنًا لنفسه، فإذا لم يتوهم من الخلق أنهم يتخذون ذلك لمقاعدهم ومجالسهم فلأن لا يتوهم ذلك من اللَّه أولى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨) أي: تعرضون على أعمالكم فلا تخفى عليكم خافية، أي: يظهر لكم في ذلك اليوم، ويصير بارزًا في ذلك اليوم، كما قال - تعالى -: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)، أي: تظهر لهم سرائرهم حتى يعرفوها، ولا يخفى عليهم شيء منها.
وجائِز أن يكون قوله: (لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) أي: على اللَّه - تعالى - ولكن كل من ادعى إخفاء شيء من أمره على اللَّه - تعالى - وظن أن اللَّه - تعالى - لا يطلع عليه، فسيعلم في ذلك اليوم أنه لا تخفى عليه خافية، وهو كقوله - تعالى - (لِمَنِ الْمُلْكُ
ثم روي في الخبر " أن العرضات ثلاث: عرضتان فيهما خصومات ومعاذير " أي: يختصمون ويتنازعون، فإذا ظهر ذلك جعلوا يعتذرون، ويسألون ربهم العفو والصفح عن ذنوبهم وخصومهم، و " العرضة الثالثة عند تطاير الصحف ".
ومعنى قوله: (تُعْرَضُونَ) أي: يعرض الخلق بعضهم على بعض حتى لا يخفى على أحد خصمه.
أو تعرض أعمالهم حتى يذكر كل أحد صنيعه، وكل خصم خصومته؛ فكأنهم قد نسوا ذلك من كثرة الفزع وشدة الأهوال، لكن اللَّه - تعالى - يطلعهم على ذلك حتى يذكروا ذلك، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) ظاهر ما جرى به الخطاب في القرآن يوجب أن يُرحم المؤمنون جميعًا فلا يعذبون في الآخرة، ويعذب الكافرون ولا يرحمون؛ لأنه قسم الخلق يوم القيامة صنفين: فجعل صنفًا منهم أهل اليمين، وصنفًا أهل الشمال، ثم وصف كل واحد من الصنفين بأعلام ثلاثة: فذكر مرة أنه يخف ميزانهم بقوله: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)، وذكر مرة أن وجوههم تسود، وذكر مرة أنهم يعطون كتابهم بشمالهم؛ فهذه الأعلام ذكرها في أحد الصنفين، وذكر في الصنف الثاني، ووصفهم بأعلام ثلاثة: ببياض الوجوه، وبثقل الميزان، وبإعطاء الكتاب بأيمانهم.
ثم فيما فيه سواد الوجوه ذكر فيه: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)، وكذلك حين ذكر خفة الميزان ذكر في آخره ما يبين أن الذين خفت موازينهم هم الكفرة؛ لأنه قال: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
وجائز أن تكفر سيئاته بالحسنات التي توجد منه؛ لأن المحاسن جعلت سببًا لتكفير المساوى؛ قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، وإذا كفرت سيئاته في الدنيا، لم يعذب بها في الآخرة.
وجائز أن يكون اللَّه - تعالى - يعذبهم بقدر ذنوبهم، ثم يعفو عنهم بحسناتهم التي سبقت منهم من الإيمان، وغير ذلك، فكل مؤمن -في الحقيقة- آخره الجنة، ويثقل ميزانه، ويبيض وجهه، ويعطى كتايه بيمينه.
ثم يجوز أن يكون الذي يعاقب بذنوبه من أهل الإيمان يعاقب به قبل أن يعطى كتابه بيمينه، وقبل أن يبيض وجهه ويثقل ميزانه، وقبل أن يبيض وجهه، لم يكن مسود الوجه، ولكن على ما عليه في الدنيا.
ثم متى عفي عنه؟ في الخبر " أن الناس يعرضون يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان ففيهما خصومات ومعاذير، وأما العرضة الثالثة فتطاير الصحف في الأيدي "، فيجوز أن يكون تعذيبه قبل العرضة الثالثة، ثم يعطى كتابه في العرضة الثالثة بيمينه؛ فتظهر له أعلام السعادة إذ ذاك، فإذا ثبت أن الوعيد المطلق إنما جاء في أهل الكفر، لم
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (هَآؤُمُ) أي: تعالوا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: " ها " بمعنى: هاكم؛ أي: خذوا، فأبدلت الهمزة مكان الكاف، فظاهر الآية أن المعطى له الكتاب؛ يقول هذا؛ يدعو الخلق إلى نحوه، أو يناولهم الكتاب؛ استبشارًا وحبورًا، فيبشرهم بعفو اللَّه - تعالى - عنه ورحمته عليه.
ولكن أهل التأويل صرفوا التأويل إلى المعطي، فقالوا بأن المعطي هو الذي يقول هذا؛ فكأن الذي كتب الكتاب في الدنيا من الملك هو الذي يعطي الكتاب إلى المكتوب عليه، ويقول: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) أي: خذوا اقرءوا، ما كتبت لكم وعليكم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) فإن حملته على حقيقة الظن، فهو يخرج على ثلاثة أوجه.
أحدها: أي: إني ظننت في الدنيا أني ألاقي (حِسَابِيَهْ)، أي: الحساب الشديد فيما سبق من سيئاتي، وأؤاخذ بها، وأجازى عليها، وظننت الساعة ألا أنجو من ذنوبي؛ لفزع هذا اليوم، فوجدت سيئاتي قد غفرت، وخطاياي كفرت عني؛ فيكون قوله منه هذا شكرًا لله - تعالى - وإظهارًا لمنته.
والثاني: أي: إني تركت في دار الدنيا إذا عرضت لي الحوادث من الزلات والهفوات، ظننت أني ألاقي اللَّه - تعالى - بها، فأمسكت عنها، وانزجرت عن إتيانها؛ فيكون إخبارًا عن بيان سبب نيل ذلك.
والثالث: أني تفكرت في أمري؛ فظننت أن مثلي لا يترك سدى هملاً؛ فأدى ظني إلى اليقين، فآمنت وصدقت الرسل، فإنما نجوت بأول ظني وفكرتي.
ومنهم من صرف الظن إلى اليقين والعلم، فقال: معنى قوله: (ظَنَنْتُ) أي: أيقنت، وعلمت.
والأصل: أن كل يقين حدث في الأمور المستترة والعلوم الخفية فإنما يتولد ذلك على ظن يسبق، فيحمله ذلك الظن على النظر فيه والبحث عن حاله حتى يفضي به إلى الوقوف
أو نقول بأن الأمور التي سبيل دركها الاجتهاد، لا يخلو شيء منها من اعتراض وساوس وخواطر فيها، فتلك الوساوس والخواطر تفضي بصاحبها إلى الظنون فاستجازوا إطلاق الظن فيها؛ لما لا تخلو عنه، واستجازوا إطلاق اليقين لما غلب عليها دلالات اليقين والإحاطة؛ ألا ترى أن من تهدد بالوعيد الشديد، أو بالقتل على أن يكفر باللَّه - تعالى - أبيح له أن يجري كلمة الكفر على لسانه، وجعل كالموقن بإحلال العذاب من المكره، لو امتنع عن الإجابة إلى ما دعاه وإن لم يتيقن بأنه يفعل به لا محالة ما أوعد به؛ لأنه يجوز ألا يمكن من ذلك، ويجوز ألا يبقى إلى ذلك الوقت، ثم وسع له فعل ذلك بأكبر الرأي وغلبة الظن، وحل ذلك محل الإحاطة واليقين؛ فعلى ذلك هاهنا لما غلب دلالات اليقين والصدق، جاز إطلاق لفظة اليقين عليه، فأما الأشياء التي تدرك بالحواس والمشاهدات، فلا سبيل إلى تسمية مثله ظنًّا؛ لما لا يحتمل اعتراض الشبه فيها، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَاضِيَةٍ) بمعنى: مرضية معناه، أن نفسه في حياة ترضى بها؛ كقوله: (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ)، أي: مدفوق، ومثله في الكلام كثير.
ويجوز أن يكون المراد: نفس الجنة قد رضيت بأهلها، وأظهرت رضاها بهم، كما وصفت الجحيم بالسخط والتغيظ على أهلها، فجائز مثله في الجنة رضاء واستبشارًا، أي: على معنى أن الجنة تظهر لهم من أنواع الكرامات والخيرات ما لو كان ذلك من ذي العقل يكون ذلك دليل الرضاء، كما يضاف الغرور إلى الدنيا، وهي أنها تظهر من نفسها ما لو كان ذلك ممن يملك التغرير، يكون ذلك غرورًا من نفسها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: مرتفعة، على ما يستحب في الدنيا من الجنان في ربوة من الأرض مرتفعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجنة: اسم لروضة ذات أشجار؛ فكأنه يصف أشجارها بالارتفاع والطول والمنظر، وذلك أشهى إلى أربابها، وهذا كما قال: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) من غير ذكر الأشجار؛ لأن ذكر الجنة اقتضى ذكر الأشجار.
والثالث: يكون معنى العالية، أي: عظيمة القدر والخطر مرتفعة، وقد يوصف الشيء الرفع بالعلو، واللَّه أعلم.
ثم قوله - تعالى -: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣) أي: في القطوف متدانية من أهلها لمن يريد قطفها، وبعيدة لمن لا يريد قطفها.
وقيل: (دَانِيَةٌ) ينالها القاعد كما ينالها القائم.
وقيل: ثمارها دانية، أي: لا يرد أيديهم منها بعد ولا شوك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤) تأويله أن يقال لهم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) إنما جعلتم أيامكم الخالية سلفًا في أيام الآخرة، وسلف الرجل لآخر هو أن يعطيه قرضًا؛ ليأخذ مثله وقت الحاجة إليه، أو يسلم الرجل رأس ماله في الأشياء التي يأمل منها الربح، فكأنه بما يشري نفسه يجعلها سلفًا ورأس مال، ليأخذ ربح ما باع في الآخرة، فذلك هو الإسلاف.
وقال بعضهم : الجنة اسم لروضة ذات أشجار، فكأنه يصف أشجارها بالارتفاع والطول والمنظر، وذلك أشهى إلى أربابها وهذا ما قال :﴿ قطوفها دانية ﴾ [ الآية ٢٣ ] من غير ذكر الشجار، لأن ذكر الجنة اقتضى ذكر الأشجار.
[ وقال بعضهم ]١ : يكون معنى العالية عظمة القدر والخطر : مرتفعة. وقد يوصف الشيء الرفيع بالعلو /٥٩٣-أ/ والله اعلم
وذكر عن وكيع أنه قال : بلغنا أن الذين أسلفوا الصوم أي أنهم صاموا في الدنيا، وتركوا الطعام والشراب، فأثابهم الله في الآخرة فقال ٣ ﴿ كلوا واشربوا هنيئا ﴾.
٢ من نسخة الحرم المكي وم، في الأصل: لرجل.
٣ في الأصل وم: فقلوا.
وذكر عن وكيع أنه قال: بلغنا أن المراد الذين أسلفوا الصوم؛ أي: أنهم صاموا في الدنيا وتركوا الطعام والشراب، فأثابهم اللَّه في الآخرة فقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا).
* * *
قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) والإيتاء بالشمال أحد أعلام الشقاء، فتمنى ألا يؤتى بما فيه علم شقائه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦) يقول هذا في الوقت الذي قرأ ورأى فيه خلاف ما كان يظن في الدنيا ويحسب؛ لأنه كان يحسب أنه في الدنيا أحسن صنعًا من الذين آمنوا، وأقرب منزلة إلى اللَّه - تعالى - كما قال: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، فظهر له بقراءته الكتاب أنه لم يكن على ما حسب؛ بل قد أساء صنيعه؛ فود عند ذلك ألا يعرف ما حسابه؛ لئلا تظهر مساوئه.
ويحتمل أنه يتمنى أنه ترك ميتًا ولم يُحي حتى كان لا يرى الحساب ولا يعرفه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧) أي: ياليت الميتة الأولى (كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)، أي: يا ليت الميتة الأولى كانت دائمة عليَّ.
وقال بعض أهل التأويل: يا ليت النفخة الآخرة كانت تقضي بالموت والهلاك، لم تكن محيية باعثة، واللَّه أعلم.
وقال قتادة: تمنوا الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليهم منه، ثم الموت عليهم مقضي، وليس بقاضٍ، فحقه أن يقول: يا ليتها كانت مقضية؛ ولكن هذه
ويحتمل أنه يتمنى أنه ترك ميتا، ولم يحي حتى كان لا يرى الحساب، ولا يعرفه.
٢ ساقطة من الأصل وم.
وقال قتادة : تمنوا الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليهم منه، ثم الموت عليهم مقضيّ، وليس بقاض، فحقه أن يقول : يا ليتها كانت مقضية. ولكن هذه اللفظة يذكرها الناس في كل مكروه من الأمور.
ألا ترى أن الناس يدعون الله تعالى بأن يصرف عنهم قضاء السوء ؟ وليس بقضاء الله، بل هو مقضيه، فخرج القول على ما تعارفوا. وهذا كان يقال : الصلاة أمر الله، وليست هي بأمره، ولكن تأويله أنها بأمره ما تقام، فسمي أيضا قضاء الله، وهو في الحقيقة مقضيه، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) فالأصل أن الكفرة كانوا يفتخرون بكثرة أموالهم، فيقولون: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، فيزعمون أن اللَّه - تعالى - بما آتاهم من الأموال يدفعون عن أنفسهم العذاب بأموالهم إن حل بهم، فيتبين لهم في ذلك الوقت أنها لا تغني عنهم شيئًا، فيقول كل واحد منهم: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ).
وقوله - تعالى -: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩) ذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة، فالأصل: أن الكافر كان يحتج في الدنيا لنفسه بحجج باطلة، فمرة يقول: (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، ويقول مرة: (مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، ومرة يقول: هذا سحر، ومرة يقول: هو مجنون، وغير ذلك، فيعبر بقوله: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) أي: هلكت تلك الحجج التي كنا نتشبث بها، واضمحلت، وظننا أنها حجج.
ومنهم من يقول: السلطان: هو القدر والشرف؛ أي: ذهب ذلك كله.
وقيل: أي: هلك عني تكبّري وسلطاني على الأنبياء - عليهم السلام - في الدنيا وترك الاكتراث إليهم.
وجائز أن يكون أراد به: أن السلطان الذي كان لي على نفسي في الدنيا قد انقطع؛ لأنه كان يملك استعمالها في مرضات اللَّه - تعالى - فيقول: قد انقطع ذلك السلطان؛ لأني لا أملك استعمالها فيما أستوجب به مرضاة اللَّه؛ لأنه يسلم فلا يقبل منه إسلامه.
ثم يجوز أن تكون الهاءات في هذه الخطابات على معنى الإشارات إلى الأنفس، أو على تأكيد الأمر والمبالغة: كالنسابة، أو كأنهم ينادون أنفسهم بذلك، وقد تدخل الهاء في النداء؛ كقوله يا ربّاه، ويا سيّداه.
والأصل أن كل كافر كان يحتج في الدنيا لنفسه بحجج باطلة : فمرة يقول :﴿ ما أنت إلا بشر مثلنا ﴾ [ الشعراء : ١٥٤ و ١٨٦ ]، ويقول مرة :﴿ ما هذا إلا أساطير الأولين ﴾ [ الأحقاف : ١٧ ] ومرة يقول :﴿ هذا سحر ﴾ [ النمل : ١٣ و. . ] ومرة يقول :﴿ مجنون ﴾ [ الدخان : ١٤ ] وغير ذلك فيصير يقول :﴿ هلك عني سلطانيه ﴾ أي هلكت تلك الحجج التي كنا نتشبث بها، واضمحلت، وظننا أنها حجج.
ومنهم من يقول : السلطان هو القدر والشرف، أي ذهب ذلك كله. وقيل : أي هلك عني تكبري وسلطاني على الأشياء في الدنيا وترك الاكتراث إليهم.
وجائز أن يكون أراد به أن السلطان الذي كان لي على نفسي في الدنيا قد انقطع لأنه كان يملك استعماله ١ في أمر مرضاة الله، فيقول : قد انقطع ذلك السلطان لأني لا أملك استعماله ٢ في ما أستوجب به مرضاة الرب، لأنه يسلم، فلا يقبل منه إسلامه.
ثم يجوز أن تكون الهاءات في هذه الخطابات ٣على معنى الإشارات إلى الأنفس أو على تأكيد الأمر والمبالغة كالمتشابه، أو كأنهم ينادون أنفسهم بذلك. وقد تدخل الهاء في النداء كقوله : يا رباه، ويا سيداه. وجائز أن يكون [ للوقف وإتمام ]٤ الكلام، وأهل النحو يسمونها٥ هاء الاستراحة.
٢ في الأصل وم: استعمالها..
٣ من نسخة الحرم المكي، في الأصل: الخطيئات..
٤ في الأصل: الوقت واحمام، في م: الوقت واتمام..
٥ في الأصل وم: يسمونه..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) وقال في موضع آخر (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ)، وهو السوق على العنف، وقال في موضع آخر: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)، فكأنهم - واللَّه أعلم - يغلون، وبدأ بالأمر بالإغلال؛ لأن الناس في الدنيا يجتهدون كل الجهد في منع العذاب بأيديهم، فأخبر أن أيديهم تغل في الآخرة؛ فلا يتهيأ لهم دفع ما يحل بهم من العذاب؛ فيكون ذلك أشد في العذاب عليهم، ويكون حالهم كما قال اللَّه - تعالى -: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فتغل يداه؛ كي يتقي النار بوجهه، ثم يدخلون في السلاسل فيجرون ويسحبون ويساقون على وجوههم على اختلاف أحوال القيامة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) أي: أدخلوه، يقال: لحم مصلي: أي مشوي؛ فجائز أن يؤمر بأن يشوى في الجحيم.
وقوله: (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢) فذكر أولًا: أنهم يغلون، ثم يصلون الجحيم، ثم يسلسلون إذ ذاك، وحق مثله أن يسلسل، ثم يمد إلى الجهنم، ولكنّه يشبه أن يكونوا أولًا يحشرون، ثم يساقون إلى نار جهنم بقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)، وإذا وردوها هموا أن يفروا منها، فيسلسلون إذ ذاك، ويسحبون في النار حينئذ؛ فلا يتهيأ لهم الهرب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) ففيه بيان السبب الذي لأجله استوجبوا هذا العقاب، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون باللَّه العظيم.
ثم قوله: (لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) جائز أن يكون لا يؤمن بوحدانية اللَّه، أو لا يؤمن بإرسال الرسل، أو كان لا يؤمن بالبعث، وإلا فهم يؤمنون باللَّه، ولكن من لم يكن مؤمنًا بالرسل والبعث فهو غير مؤمن في الحقيقة؛ لأن الإله الحق هو الذي أرسل الرسل، ويقدر على البعث، والكافر لا يثبت له قدرة البعث، ولا يراه أرسل الرسل، فصار لا يؤمن بالله العظيم في الحقيقة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) إخبار أنه كان لا يؤمن بالبعث؛ لأن الناس ليسوا يطلبون من المساكين الجزاء لما يطعمونهم، وإنما يطعمونهم لوجه الله
ولكن يشبه أن يكونوا أولا يحشرون، ثم يساقون إلى نار جهنم بقوله :﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ﴾ [ الزمر ٧١ ] أو إذا وردوها هموا أن يفروا منها، فيسلسلون إذ ذاك، ويسحبون في النار حينئذ، فلا يتهيأ لهم الهرب.
ثم قوله تعالى :﴿ لا يؤمن بالله ﴾ جائز أن يكون لا يؤمن بوحدانيته، أو لا يؤمن بإرسال الرسل، أو كان لا يؤمن بالبعث. وإلا فهم لا يؤمنون بالله، ولكن من لم يكن مؤمنا بالرسل والبعث فهو غير مؤمن في الحقيقة، لأن الإله الحق هو الذي أرسل الرسل، ويقدر على البعث، والكافر لا يثبت له قدرة البعث، ولا يراه ١ أرسل الرسل، فصار لا يؤمن بالله العظيم في الحقيقة.
والكافر غير مؤمن بالجزاء ليحمله ذلك على الإطعام، وليس هو بكسب، يرغب فيه، من مكاسب الدنيا، فكأنه يقول : إن الذي أفضى به إلى النار تركه الإيمان بالله تعالى أو بالبعث.
ويجوز أن يكون قوله :﴿ ولا يحض على طعام المسكين ﴾ إثبات السخرية من الذي ترك [ حض أهله على الإطعام ]٢ كقوله :﴿ أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ﴾[ يس ٤٧ ] يقول : كيف نطعمه ٣، ومن بيده خزائن السماوات والأرض، لا يطعمه ؟ فلو كان أهلا للإطعام لكان الأولى بأن٤ يطعمه الله تعالى.
٢ في الأصل وم: المحض على أهله بالإطعام.
٣ في الأصل وم: أطعمه..
٤ في الأصل وم: من..
ويجوز أن يكون قوله: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) إثبات السخرية من الذي ترك الحض على أهله بالإطعام؛ كقوله: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ)، يقول: كيف أطعمه ومن بيده خزائن السماوات والأرض لا يطعمه؟! فلو كان أهلًا للإطعام لكان الأولى من يطعمه هو اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) أي: قريب يرجو منه، وهو كقوله: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، فليس له قريب يرجوه، أو ينفعه ذلك الحميم، وقد كان له في الدنيا حميم ينتفع به ويرجو منه.
وقوله: (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) وقال في موضع آخر: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)، وقال في موضع آخر: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ)، والزقوم غير الضريع؛ فهذا - واللَّه أعلم - يدل أن في جهنم دركات، فأهل دركة منها لا يجدون غير الغسلين، وأهل دركة منها يجدون غير ذلك، وأهل دركة منها طعامهم الزقوم، ليس لهم غيره، وإلا لو لم يحمل الأمر على هذا، أوجب ما ذكرناه اختلافًا، فيخرج أن يكون من عند اللَّه بقوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
ثم يجوز أن يكون قدر لأهل كل دركة ما توجبه الحكمة أن يكون ذلك طعامهم؛ فعلى ما كانوا يفتخرون في هذه الدنيا بالأطعمة على من دونهم، ويهينون من لم يكن عنده ذلك الطعام، جعل اللَّه - تعالى - لهم من ذلك الوجه طعامًا في الجحيم يهانون به.
وقال الحسن: إن القرآن كله كسورة واحدة، والسورة كأنها آية واحدة، فكأنه جمع بين هذه الأشياء كلها في آية واحدة فقال: (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)، (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)، و (مِنْ زَقُّومٍ) وإذا حمل على ما ذكر ارتفع توهم التناقض، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) فجائز أن يكون هذا اسمًا لشيء من الأشياء التي يعذب بها أهل النار، لم يطلع اللَّه - تعالى - الخلق على علم ذلك ومعرفته في الدنيا،
فهذا، والله أعلم، أن في جهنم دركات، فأهل دركة منها، لا يجدون غير الغسلين، وأهل دركة منها، طعامهم الزقوم، ليس لهم غيره، وإلا لو لم يحمل الأمر على [ هذا ] ١ لوجب ما ذكرناه اختلافا، فيخرج أن يكون من عند الله بقوله تعالى :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ [ النساء ٨٢ ].
ثم يجوز أن يكون قدر كل أهل دركة ما توجبه الحكمة أن يكون طعامهم. فعلى ما كانوا يفتخرون في هذه الدنيا بالأطعمة على من دونهم، ويهينون من لم يكن عنده ذلك الطعام، جعل الله تعالى لهم من ذلك الوجه طعاما في الجحيم، يهانون به.
وقال الحسن : إن القرآن كله كسورة واحدة، والسورة كأنها آية واحدة، فكأنه جمع بين هذه الأشياء كلها في آية واحدة، فليس لهم طعام إلا من غسلين، وليس لهم طعام إلا من ضريع ومن زقوم. وإذا حمل على ما ذكر ارتفع توهم التناقض، والله اعلم.
وقوله تعالى :﴿ إلا من غسلين ﴾ جائز أن يكون هذا ٢اسما لشيء من الأشياء التي يعذب بها أهل النار، لم يطلع الله تعالى الخلق على علم ذلك ومعرفته، وقد ذكر أسامي في الآخرة، ليس للخلق بمعرفتها عهد.
ألا ترى أن الزقوم ليس باسم لشيء يستقبح، ويستفظع في الدنيا، ثم جعله الله تعالى اسما لشيء المستبشع الكريه في الآخرة، وقال ﴿ عينا فيها تسمى سلسبيلا ﴾ [ الإنسان : ١٨ ] والسلسبيل غير معروف في ما بين أهل اللسان ؟.
وقال بعضهم : الغسلين ما يسيل من جلود أهل النار إذا عذبوا، وذلك هم الصديد والقيح.
وجائز أن يكون إذا اشتد حرهم استغاثوا إلى الله تعالى، وطلبوا منه يرجون أن يرفع عنهم الحر، فيصب عليهم ما يزيد في عذابهم، فيسمى ما يزول عنهم غسلينا، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: هذه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغسلين: ما يسيل من جلود أهل النار إذا عذبوا، وذلك هو الصديد والقيح.
وجائز أن يكون إذا اشتد حرهم استغاثوا إلى اللَّه - تعالى - وطلبوا منه ما يرجون أن يرفع عنهم الحر، فيصب عليهم ما يزيد في عذابهم؛ فيسمى ما يزول عنهم: غسلينا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧) فهم الذين قال: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) لا يجوز أن تكون السلسلة تفضل عن أبدانهم فتأخذ فضل مكان من جهنم؛ لأنه - تعالى - وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولو كانت تلك السلسلة آخذة فضل مكان، لكان لا يقع الامتلاء بالجنة والناس أجمعين فقط، فيؤدي إلى خلف الوعد، واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يخلف الميعاد، ولكن إن كانت تلك السلسلة أطول من أبدانهم فهي تدار على أهلها؛ ليقع لهم بها فضل تضييق وغم، فأمّا أن تفضل عن أبدانهم فلا يحتمل.
وذكر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا؛ فإنه أهون -أو قال: أيسر- عليكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر يوم القيامة؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) ".
وعن الحسن أنه قال: " إن المؤمن قوام نفسه، يحاسب نفسه لله - تعالى - وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة؛ لأن المؤمن يفجؤه الشيء فيقول: واللَّه إني لأستهينك وإنك لمن حاجتي، ولكن واللَّه ما لي من صلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء؛ فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردت هذا، ما لي ولهذا، والله ما أعذر، واللَّه لا أعود لهذا إن شاء اللَّه - تعالى - إن المؤمنين قوم أوثقهم العذاب،
فمحاسبة النفس: أن ينظر في كل فعل يريد أن يقدم عليه إلى عاقبته، فإن كان رشدًا أمضاه وأنفذه، وإن كان غيًّا انتهى عنه، كما قال النبي - عليه السلام -: " إذا أردت أمرًا فدبّر عاقبته، فإن كان رشدًا فأمضه، وإن كان غيًّا فانته عنه ".
وقال في خبر آخر: " إن المؤمن وقَّاف وزان "، ووزنه: ما ذكر في الخبر الأول من النظر في العواقب، فإذا نظر في العاقبة، ورأى الرشد في إنفاذه، فقد وزنه، وإذا رأى خلاف الرشد، انتهى عنه، ولم يقدم عليه، فذلك وقفه، فهذا الذي ذكرنا محاسبة المرء نفسه فيما يروم من الأمور.
ومحاسبة نفسه في الأفعال التي ارتكبها وأمضاها أن ينظر: فإن كان ارتكب محرمًا، تاب عنه، واستغفر لله - تعالى - لعله بفضله يمن عليه بالمغفرة، وإن كان ذلك فعلًا مرضيًا حمد اللَّه - تعالى - وسأله التوفيق بمثله؛ فهذه هي محاسبة العبد لنفسه فيما ارتكب من الأفعال.
* * *
قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ): قد وصفنا أن تأويل قوله: (فَلَا أُقْسِمُ) أي: فلا أقسم بما تبصرون من خلق السماوات والأرضين وأنفسكم، وما لا تبصرون في أنفسكم من الأسماع، والأبصار، والقلوب، والعقول.
أو ما تبصرون من الخلائق ممن حضركم، وما لا تبصرون من الخلائق ممن غاب عنكم، فيكون القسم بما نبصر وما لا نبصر قسم بالخلائق أجمع؛ لأن جملة الخلائق على هذين الوجهين، فصنف منهم يرى، وصنف لا يرى، وقد ذكرنا أن القسم من اللَّه - عز وجل - لتأكيد ما يقصد إليه مما يعرف بالتدبر والتأمل.
فيكون القسم بما نبصر وما لا نبصر قسما١ بالخلائق أجمع، لأن جملة الخلائق على هذين الوجهين : فصنف يرى، وصنف لا يرى. وقد ذكرنا أن القسم من الله عز وجل لتأكيد ما يقصد إليه مما يعرف بالتدبر والتأمل.
ثم الأصل أن الكلام والقول لا يسمعان، وإنَّمَا المسموع منهما الصوت الذي يعرف الكلام والقول به، ويدل عليه، لا أن يكون كلامه في الحقيقة صوته، فينسب أيضًا هذا القرآن إلى كلام اللَّه - تعالى - لما يدل على كلامه، لا أن يكون المسموع -في الحقيقة- هو كلامه وجائز أن يكون تأويل قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)، أي: إن الذي سمعتموه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أتاكم به لقول تلقاه من عند اللَّه الرسولُ الكريم، فيذكرهم هذا ليؤمنهم من تخليط يقع فيه من الشياطين وغيرهم من الأعداء.
ثم جائز أن يكون الرسول الكريم هو جبريل - عليه السلام - كما قال - تعالى - في سُورَةِ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ): (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ).
ويحتمل أن يكون الرسول الكريم هو محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والأشبه أن يكون هو المراد؛ لأنهم كانوا ينكرون رسالته، ولم يكونوا يقولون في جبريل - عليه السلام - شيئًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) أي: إن هذا القرآن لقول رسول كريم، ليس بقول شاعر، ولا بقول كاهن.
ثم قوله: [(قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)] يحتمل أن يكون تأويله: فبقليل ما تؤمنون، وبقليل ما تذكرون مما جاءكم به الرسول، فالقليل الذي آمنوا به وتذكروا فيه هو الذي كان راجعًا إلى منافعهم، فأما الذي كان عليهم فهم لم يؤمنوا به ولا تذكروا فيه، وإذا كان تأويله ما ذكرنا، فانتصاب القليل؛ لانتزاع حرف الخافض، وفي الحقيقة انتصابه
ثم قوله تعالى :﴿ قليلا ما تذكرون ﴾ وقوله ١ :﴿ قليلا ما تؤمنون ﴾ يحتمل أن يكون تأويله : فبقليل ما تؤمنون، وبقليل ما تذكرون مما جاءكم به الرسول.
والقليل الذي آمنوا به، وتذكروا فيه، هو الذي كان راجعا إلى منافعهم.
فأما الذي كان عليهم فهم لم يؤمنوا به، ولا تذكروا فيه.
وإذا كان تأويله ما ذكرنا فانتصاب القليل لا ينزع حرف الخافض، وفي الحقيقة انتصابه لكونه مصدرا، وهو المفعول المطلق.
وجائز أن يكون أضاف القليل إلى قوم الكاهن والشاعر ٢، وتأويله أن الأمر٣ لو كان على ما يزعمون بأنه قول كاهن وقول شاعر٤ فما بالكم لا تصدقون بالقليل منه ؟ وتعلمون أن الشاعر٥، وإن كان الغالب عليه الكذب في ما يأتي، فقد يصدق في القليل منه ؟ وكذلك الكاهن، فما بالكم لا تصدقون بالقليل منه ؟ وأنتم تعلمون أنه صادق.
فإن كان على هذا فهو في موضع إيجاب الحق عليهم أن يصدقوه ٦، وإن كان على التأويل الأول ففيه إضمار أنهم يؤمنون إلا بالقليل منه والله أعلم.
٢ في الأصل وم: والساحر..
٣ في الأصل وم: الأمور..
٤ في الأصل وم: ساحر..
٥ في الأصل وم: الساحر..
٦ من م، في الأصل: يصدقون..
ثم قوله تعالى :﴿ قليلا ما تذكرون ﴾ وقوله ١ :﴿ قليلا ما تؤمنون ﴾ يحتمل أن يكون تأويله : فبقليل ما تؤمنون، وبقليل ما تذكرون مما جاءكم به الرسول.
والقليل الذي آمنوا به، وتذكروا فيه، هو الذي كان راجعا إلى منافعهم.
فأما الذي كان عليهم فهم لم يؤمنوا به، ولا تذكروا فيه.
وإذا كان تأويله ما ذكرنا فانتصاب القليل لا ينزع حرف الخافض، وفي الحقيقة انتصابه لكونه مصدرا، وهو المفعول المطلق.
وجائز أن يكون أضاف القليل إلى قوم الكاهن والشاعر ٢، وتأويله أن الأمر٣ لو كان على ما يزعمون بأنه قول كاهن وقول شاعر٤ فما بالكم لا تصدقون بالقليل منه ؟ وتعلمون أن الشاعر٥، وإن كان الغالب عليه الكذب في ما يأتي، فقد يصدق في القليل منه ؟ وكذلك الكاهن، فما بالكم لا تصدقون بالقليل منه ؟ وأنتم تعلمون أنه صادق.
فإن كان على هذا فهو في موضع إيجاب الحق عليهم أن يصدقوه ٦، وإن كان على التأويل الأول ففيه إضمار أنهم يؤمنون إلا بالقليل منه والله أعلم.
٢ في الأصل وم: والساحر..
٣ في الأصل وم: الأمور..
٤ في الأصل وم: ساحر..
٥ في الأصل وم: الساحر..
٦ من م، في الأصل: يصدقون..
وجائز أن يكون أضاف القليل إلى قول: الكاهن والساحر، وتأويله: أن الأمور لو كانت على ما تزعمون بأنه قول كاهن وقول ساحر، فما بالكم لا تصدقون بالقليل منه، وقد تعلمون أن الساحر وإن كان الغالب عليه الكذب فيما يأتي، فقد يصدق في القليل منه، وكذلك الكاهن، فما لكم لا تصدقون بالقليل منه، وأنتم تعلمون أنه صادق، فإن كان على هذا فهو في موضع إيجاب الحق عليهم أن يصدقوه.
وإن كان على التأويل الأول، ففيه إضمار أنهم لا يؤمنون إلا بالقليل منه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) فالتنزيل في الحقيقة لا يحتمل أن يسمع؛ لأنه إخبار عن فعله، وإنما الذي يسمع منه هو المنزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أضاف إلى نفسه التنزيل؛ ليعلم أن هذه الأخبار، وهي قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنْزِيلٌ) خرجت على المجاز، ليس على التحقيق؛ لأن التنزيل هو إنزاله، فسمي: تنزيلًا؛ لأنه هو الذي كلفه الإنزال، لا أن يكون هو الذي تولى الإنزال، وإن كان هو خالقه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) فهذا عطف على ما تقدم من قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ)، وعليه وقوع القسم، وهو موضعه؛ فكأنه يقول: إن الذي تلقاه من عند رسول كريم، وما هو بقول تلقاه من كاهن أو ساحر، ولا بقول تقوله علينا، ولو تقول، لأخذنا منه باليمين.
ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن الذي يسمعون منه رسول كريم، وليس بشاعر، ولا كاهن، ولا متقول؛ لأنهم كانوا مرة ينسبونه إلى الكهانة، ومرة إلى السحر، ومرة أنه تقوله على اللَّه، ولو تقول (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) يبين أن عذاب اللَّه بأخص عباده أسرع وقوعًا إذا هم خالفوا، وزلوا - منه بأعدائه؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) فبين أنه لو وجد منه شيء مما قالوا فيه، لأخذه على المكان؛ ألا ترى إلى آدم - عليه السلام - وما حل به عندما ابتلي بالزلة والخلاف، وكذلك يونس - عليه السلام - وما عوتب على أثر الزلة؛ وهذا لأن عذاب الأولياء يخرج مخرج التنبيه، والتذكير، والاستدعاء إلى ما كانوا عليه من الطاعة، والانقياد قبل ارتكابهم الزلة، ولا كذلك عذاب الأعداء، فأخر عذابهم إلى اليوم الذي يدوم عليهم فيه العذاب.
ويحتمل وجها آخر، وهو أن الذي يسمعون منه رسول كريم، وليس بشاعر ولا كاهن ولا متقول، لأنهم كانوا مرة ينسبونه إلى الكهانة ومرة إلى السحر ومرة أنه تقوّله على الله ﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل ﴾ ﴿ لأخذنا منه باليمين ﴾ يبين أن عذاب الله بأخص عباده أسرع وقوعا، إذ هم خالفوه، وزلوا، منه بأعدائه.
ألا ترى إلى قوله عز وجل :﴿ لأخذنا منه باليمين ﴾ فتتبين أنه لو وجد منه شيء مما قالوا لأخذه٢ على المكان ؟
ألا ترى إلى آدم عليه السلام وما حل به عندما ابتلي بالزلة والخلاف ؟ وكذلك يونس عليه السلام وما عوقب به على إثر الزلة ؟ وهذا لأن عذاب الأولياء يخرج مخرج التنبيه والتذكير والاستدعاء إلى ما كانوا عليه من الطاعة والانقياد قبل ارتكابهم الزلة، ولا كذلك عذاب الأعداء [ إذ أخر ]٣ عذابهم إلى اليوم الذي يدوم عليهم فيه العذاب.
وفيه وجه آخر، وهو أن الذي سمعتموه٤ منه لو كان سحرا أو شعرا أو كهانة أو تقولا٥ لكان لا يمهله الله تعالى، بل يؤاخذه على [ ما كان منه ]٦ من غير عجز ٧ كما قال :﴿ فما منكم من أحد عنه حاجزين ﴾ [ الآية ٤٧ ] فإمهاله دل على أن الأمر ليس كما قالوا، بل هو ﴿ تنزيل من رب العالمين ﴾ [ الآية : ٤٣ ].
٢ من م، في الأصل: لأخذناه..
٣ في الأصل وم: فأخر..
٤ في الأصل وم: سمعتم.
٥ في الأصل وم: تقولة.
٦ في الأصل وم: المكان..
٧ في الأصل وم: ان عجزوا..
وقوله تعالى :﴿ باليمين ﴾ أي بالقوة، أي لا يعجزنا ١ منه شيء، ولا يفوتنا عذابه كقوله تعالى :﴿ وما هم بمعجزين ﴾ [ الزمر : ٥١ ] وكقوله تعالى :﴿ وما نحن بمسبوقين ﴾ [ الواقعة ٦٠ والمعارج : ٤١ ] أي لا يعجزنا ما عنده من الشرف والقوة من أن نؤاخذه، وننزل عليه النقمة.
وجائز أن يكون اليمين صلة القول لا على تحقيق اليد، فذكر اليمين لأن التأديب في الشاهد والأخذ، يقع بها، وهو كقوله تعالى :﴿ ذلك بما قدمت يداك ﴾ [ الحج : ١٠ ] فأضاف التقدم إلى اليد لا على تحقيق اليد، إذ يجوز ألا يكون ليديه بما قدم صنع، لكن لما كان التقديم في الشاهد يقع بالأيدي. فذكرت اليدان على ذلك لا على تحقيق الفعل بهما. فكذلك يجوز أن تكون اليمين ذكرت لما بها يقع الأخذ والتأديب في الشاهد، وإن لم يكن هنالك يمين والله أعلم.
واليمين القوة، وسميت اليمين يمينا لأن قدرة الرجل تكون فيها، وسمي ملك الرقاب ملك اليمين لأن ملك اليمين يكتسب بالقهر والغلبة، وإنما يصل المرء إلى القهر والغلبة بالقوة، فسمي ملك يمين لهذا، لا أن يراد بذكر اليمين تحقيق اليمين، إذ اليد لا تملك شيئا حتى يضاف إليها، فكذلك في ما أضيف من اليمين إلى الله تعالى، فالمراد منه القوة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) فأخذ اللَّه - تعالى -: عذابه وعقوبته؛ كقوله - تعالى -: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً).
وقوله: (بِالْيَمِينِ) أي: بالقوة؛ أي: لا يعجزنا عنه شيء، ولا يفوتنا عذابه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ)، وهو كقوله - تعالى -: (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)، أي: لا يعجزنا ما عنده من الشرف والقوة من أن نؤاخذه، وننزل عليه النقمة.
وجائز أن يكون اليمين صلة القول، لا على تحقيق اليد، فذكر اليمين؛ لأن التأديب في الشاهد والأخذ يقع بها، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ)، فأضاف التقديم إلى اليد، لا على تحقيق اليد؛ إذ يجوز ألا يكون ليديه بما قدم صنع، لكن لما كان التقديم في الشاهد يقع بالأيدي، فذكرت اليدان على ذلك، لا على تحقيق الفعل بهما، فكذلك يجوز أن تكون اليمين ذكرت؛ لما بها يقع الأخذ والتأديب في الشاهد، وإن لم يكن هناك يمين، واللَّه أعلم.
واليمين: القوة، وسمّيت اليمين: يمينًا؛ لأن قدرة الرجل تكون فيها، وسمي ملك الرقاب: ملك يمين؛ لأن ملك اليمين يكتسب بالقهر والغلبة، وإنَّمَا يصل المرء إلى القهر والغلبة بالقوة؛ فسمي: ملك يمين لهذا، لا أن يراد بذكر اليمين تحقيق اليمين؛ إذ اليد لا تملك شيئًا حتى يضاف إليها، فكذلك فيما أضيف من اليمين إِلى اللَّه - تعالى - فالمراد منه القوة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) قيل: الوتين: عرق في القلب.
وقيل: حبل في القلب.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْهُ بِالْيَمِينِ) فجائز أن يكون قوله: (مِنْهُ) زيادة في الكلام، وحقه الإسقاط، ويكون معناه: لأخذناه باليمين.
وجائز أن يكون معناه: لأخذنا من تقوله وسحره وكهانته باليمين، فإن كان على هذا فحقه الإثبات، وليس بصلة زائدة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧)، ففي هذا يأس منه لأُولَئِكَ الكفرة؛ لأنهم كانوا يطمعون من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اتباعهم وموافقتهم على ملتهم؛ فأخبر أنه لو أجابهم لقطع منه وتينه، وأخذه أخذًا لا يملكون منع ذلك عنه، ولا دفعه، ولم يكن أحد ينصره عند ذلك أو يحجزه عنا، وهو كقوله - تعالى - (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ...) إلى قوله: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) فالمتقون: الموحّدون، فسمَّاهم مرة: متقين، ومرة: صابرين شاكرين؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، وهو تذكرة؛ لأنه يذكرهم الوعد والوعيد، وما يتقى وما يؤتى، وغير ذلك، فهو تذكرة، يعني: القرآن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) أي: بآياتي ورسلي، ثم نمهلكم، فهو صلة قوله: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ) فبيَّن أنه مع كذبهم بآياته ورسله يمهلهم، ولا يعجل عليهم بالعقوبة، ولو وجد التقول من الرسول، لكان يستأصله، ويقطع وتينه، فهو على ما ذكرنا: أن عذابه على خواص عباده أسرع وقوعًا إذا خالفوا منه بأعدائه.
وجائز أن يكون قوله: (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) هم المنافقون؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بألسنتهم، ويخالفونه ويكذبونه بقلوبهم؛ فيكون هذا التأويل
، فهو صلة قوله :﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل ﴾ [ الآية : ٤٤ فبين أنه مع كذبهم بآياته ورسله يمهلهم، ولا يعجل عليهم بالعقوبة، ولو وجد التقول من الرسول لكان يستأصله، ويقطع وتينه.
فهو على ما ذكرنا أن عذابه على خواص عباده أسرع وقوعا، إذا خالفوا، منه بأعدائه.
وجائز أن يكون [ قوله عز وجل ] ٢﴿ وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ﴾ هم المنافقون لأنهم كانوا يظهرون /٥٩٤-ب/الموافقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، ويخالفونه، ويكذبونه، بقلوبهم، فيكون هذا التأويل راجعا إلى أهل النفاق.
والتأويل الأول إلى أهل الكفر الذين أظهروا التكذيب.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) أي: العذاب حسرة عليهم يوم القيامة؛ لأنه شافع مشفع لمن اتبعه وعمل بما فيه، وما حل، مصدق لمن نبذه وراء ظهره ولم يعمل به، فهو حسرة عليهم؛ لأنه يخاصمهم، فيخصمهم ويشهد عليهم، فيصدق في شهادته.
أو يذكرون يوم القيامة معاملتهم بالقرآن، فيندمون عليه، ويزيدهم حسرة؛ لأنهم كانوا إذا تلي عليهم القرآن في الدنيا ازدادوا عند تلاوته ضلالًا وكفرًا، وازدادوا به رجسًا إلى رجسهم، كما قال اللَّه تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، وهو ليس بسبب لازدياد الرجس، ولكنهم كانوا يحدثون زيادة تكذيب وضلال عند التلاوة؛ فأضيفت الزيادة إلى القرآن؛ إذ كان القرآن هو الذي يحملهم على زيادة التكذيب؛ فهذه المعاملة تزيدهم حسرة يوم القيامة؛ فأضيفت إلى القرآن؛ إذ كان القرآن هو الذي عنده وقعوا فيه، كما أضيف الرجس إليه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) والأصل: أن الحق اسم لما يحمد عليه، فحقه أن ينظر فيما تستعمل هذه اللفظة، فيصرفها إلى أحمد الوجوه، فإذا استعملت في الإخبار أريد بها الصدق؛ نحو أن يقال: " هذا خبر حق "؛ أي: صدق، وإذا استعملت في الحكم أريد بها: العدل، وإذا استعملت في الأقوال والأفعال، أريد بها: الإصابة؛ فقوله: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي: صدق ويقين أنه من رب العالمين، فهو صلة قوله - عز وجل -: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢) قيل: صَلِّ.
وقيل: اذكره بالاسم الذي إذا سميت كان تسبيحًا، أي تنزيهًا عن كل ما قالت فيه الملاحدة، وما نسبت إليه مما لا يليق به، واللَّه الهادي وعليه التكلان.
* * *
فإذا استعملت في الأخبار أريد بها الصدق نحو أن يقال : هذا خبر حق أي صدق. وإذا استعملت في الحكم أريد بها العدل. وإذا استعملت في الأقوال والأفعال أريد بها الإضافة.
فقوله تعالى :﴿ وإنه لحق اليقين ﴾ أي صدق، ويقين أنه من رب العالمين. فهو صلة قوله عز وجل ﴿ تنزيل من رب العالمين ﴾ [ الآية ٤٣ ].