ﰡ
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤)...﴾ إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما أثبت أن القرآن تنزيل من رب العالمين، وليس بشعر ولا كهانة... أكد هذا بأن محمدًا لا يستطيع أن يفتعله؛ إذ لو فعل ذلك لأبطلنا حجته وأمتنا دعوته، أو سلبناه قوة البيان فلا يتكلم بهذا الكذب، أو قتلناه فلم يستطع نشر الأكاذيب، وقد جرت سنتنا بأن كل متكلف للقول لا يقبل قوله، ولا يصغي السامعون إلى كلامه، كما قال: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾. ولا يستطيع أحد بعدئذٍ أن يدافع عنه.
ثم ذكر أن القرآن عظة لمن يتقي الله ويخشي عذابه، وأنه حسرة على الكافرين حينما يرون ثواب المؤمنين، وإنه لحق لا ريب فيه. ثم أمر رسوله بأن يقدس ربه ويشكره على ما آتاه من النعم، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١)﴾... إلخ، قال مقاتل: سبب نزول هذه الآيات: أنّ الوليد بن المغيرة قال: إنّ محمدًا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن. فنزلت الآيات ردًّا عليهم.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الْحَاقَّةُ (١)﴾ هي من أسماء القيامة من حق الشيء إذا ثبت ووجب، أي: الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء. سمّيت الساعة حاقّة لوجوب مجيئها وثبوت وقوعها. وهو مبتدأ،
٢ - و ﴿مَا﴾ مبتدأ ثان ﴿الْحَاقَّةُ (٢)﴾ خبر للمبتدأ الثاني، والجملة خبر للمبتدأ الأول، والرابط تكرير المبتدأ بلفظه، هذا ما ذكروه في إعراب هذه الجملة ونظائرها؛ أي: الحاقة أي شيء هي في حالها وصفتها تفخيمًا لشأنها وتعظيمًا لهولها.
ومقتضى التحقيق: أن تكون ﴿ما﴾ الاستفهامية خبرًا لما بعدها، فإن مناط الفائدة بيان أن الحاقة أمر بديع وخطب فظيع، كما يفيده كون ﴿ما﴾ خبرًا، لا بيان
٣ - ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾؛ أي: وأيُّ شيء أعلمك يا محمد ﴿مَا الْحَاقَّةُ (٣)﴾؛ أي: جواب أي شي هي، فلا علم لك بحقيقتها؛ إذ بلغت من الشدة والهول أن لا يبلغها علم المخلوقين. وقوله: ﴿مَا﴾ مبتدأ، وجملة ﴿أَدْرَاكَ﴾ خبرها، وجملة ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ معطوفة على جملة ﴿مَا الْحَاقَّةُ (٢)﴾، و ﴿مَا الْحَاقَّةُ (٢)﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في موضع المفعول الثاني لـ ﴿أَدْرَاكَ﴾؛ والجملة (١) الكبرى تأكيد لهول الساعة وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علم المخلوقات على معنى، أن عظم شأنها ومدى هولها، وشدَّتها بحيث لا يكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه، وكيفما قدرت حالها، فهي أعظم من ذلك وأعظم، فلا يتسنى الإعلام. قال بعضهم: إنّ النبي - ﷺ - وإن كان عالمًا بوقوعها ولكن لم يكن عالمًا بكمال كيفيتها. ويحتمل أن يقال ذلك للنبي - ﷺ - إسماعًا لغيره.
قال المراغي (٢): وهذا أسلوب من الكلام يفيد التفخيم والمبالغة في الغرض الذي يساق له الكلام، فكأنه قيل: أي شيء هي في حالها وصفتها، فإن ﴿ما﴾ يسأل بها عن الصفة والحال لا عن الحقيقة. ثم زاد سبحانه في تفظيع شأنها وتفخيم أمرها وتهويل حالها، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣)﴾؛ أي: أي شي أعلمك ما هي، فهي خارجة عن دائرة علم المخلوقات لعظم شأنها، ومدى هولها وشدتها، فلا تبلغها دراية أحد، ولا وهمه، فكيفما قدرت حالها فهي فوق ذلك وأعظم؟. قال سفيان بن عيينة: كل ما في القرآن قال فيه: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾، فإنه - ﷺ - أُخبر به، وكل شيء قال فيه: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾، فإنه لم يخبر به.
قال الواحدي (٣): الحاقة هي القيامة في قول كل المفسرين، وسمّيت بذلك؛ لأنّها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع والوجود.
قال الكسائي والمؤرخ: الحاقة يوم الحقّ. وقيل: سميت بذلك؛ لأن كل إنسان فيها حقيق بأن يجزى بعمله، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها أحقت لقوم النار
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
٤ - ثم ذكر بعض الأمم التي كذبت بها، وما حاق بها من العذاب، فقال: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾؛ أي: قوم صالح، من الثمد، وهو الماء القليل الذي لا مادة له؛ لأنهم نازلون عليه. ﴿وَعَادٌ﴾؛ أي: قوم هود، وهي قبيلة أيضًا، وتمنع كما في "القاموس" ﴿بِالْقَارِعَةِ﴾؛ أي: بالقيامة، وهي من (١) جملة أسماء الساعة أيضًا. سميت بذلك؛ لأنها تقرع الناس؛ أي تضربهم بفنون الأفزاع والأهوال؛ أي: تصيبهم بها كأنها تقرعهم بها والسماء بالانشقاق والانفطار والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار. ووضعت موضع ضمير الحاقة للدلالة على معنى القرع فيها زيادة في وصف شدتها، فإن في القارعة ما ليس في الحاقة من الوصف، يقال: أصابتهم قوارع الدهر؛ أي: أهواله وشدائده، قيل: منها قوارع القرآن للآيات التي تقرأ حين الفزع من الجن والإنس، لقرع قلوب المؤذين بذكر جلال الله والاستمداد من رحمته وحمايته، مثل: آية الكرسيّ ونحوها.
وفي الآية: تخويف لأهل مكة من عاقبة تكذيبهم بالبعث والحشر، وهذه الجملة مستأنفة لبيان بعض أحوال الحاقّة.
٥ - ثم فصل ما نزل بكل أمة من العذاب، فقال:
١ - ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ﴾ وكانوا عربًا، منازلهم بالحجر بين الشام والحجاز يراها حجاج الشام ذهابًا وايابًا. ﴿فَأُهْلِكُوا﴾؛ أي: أهلكهم الله سبحانه لتكذيبهم. فأخبر عن الفعل؛ لأنه المراد دون الفاعل؛ لأنه معلوم.
وقرأ الجمهور ﴿فَأُهْلِكُوا﴾ رباعيًا مبنيًا للمفعول. وقرأ زيد بن عليّ ﴿فهلكوا﴾ ثلاثيًا مبنيًا للفاعل، ذكره في البحر. ﴿بِالطَّاغِيَةِ﴾؛ أي: بالصيحة التي جاوزت عن حد سائر الصيحات في الشدّة، فرجفت منها الأرض والقلوب، وتزلزلت. فاندفع ما يقال من التعارض بين قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾، وبين قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ والقصة واحدة.
٢ - ٦ ﴿وَأَمَّا عَادٌ﴾ وكانت منازلهم بالأحقاف، وهي الرمل بين عمان إلى
روي (١): أنه ما يخرج من الريح شيء إلا بقدر معلوم، ولما اشتد غضب الله على قوم عاد أصابتهم ريح خارجة عن ضبط الخزّان، ولذلك سمّيت ﴿عَاتِيَةٍ﴾. أو المعنى: ﴿عَاتِيَةٍ﴾ على عاد فلم يقدروا على ردّها بحيلة من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة، فإنها كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم.
٧ - ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ﴾ التسخير: سوق الشيء إلى الغرض المختصّ به قهرًا، والمسخر هو المقيض للفعل. والمعنى: سلط الله تلك الريح الموصوفة على قوم عاد بقدرته القاهرة كما شاء.
والظاهر: أن هذه الجملة صفة أخرى لـ ﴿ريح﴾، ويجوز أن تكون حالًا منها لتخصّصها بالصفة. وقيل: هي مستأنفة لدفع ما يتوهم من كونها باتصالات فلكيّة مع أنه لو كان كذلك.. لكان بتسبّبه وتقديره، فلا يخرج من تسخيره تعالى. ﴿سَبْعَ لَيَالٍ﴾ منصوب على الظرفية لقوله: ﴿سَخَّرَهَا﴾، وذكر اسم العدد لكون المعدود مؤنثًّا؛ لأن الليالي جمع ليلة، وهي مؤنثة، وتجمع الليلة على الليالي بزيادة الياء على غير القياس، فيحذف ياؤها حالة التنكير بالإعلال، مثل: الأهالي والأهال في
والحاصل: أن تلك الرياح فيها ثلاث حيثيات:
الأولى: تتابع هبوبها.
والثانية: كونها قاطعة لكل خير ومستأصلة لكل بركة أتت عليها.
والثالثة: كونها قاطعة دابرهم، فسميت حسمًا بمعنى حاسمات إما تشبيهًا لها بمن يحسم الداء في تتابع الفعل؛ وإما لأن الحسم في اللغة: القطع والاستئصال وسمي السيف حساما لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته. وقرأ الجمهور ﴿حُسُومًا﴾ بضم الحاء. وقرأ السدّي: ﴿حَسُوْمًا﴾ بفتحها، ومنه قول الشاعر:
فَأَرْسَلْتِ رِيْحًا دَبُوْرًا عَقِيْمَا | فَدَارَتْ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ حَسُوْمَا |
وتلك الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز. وإنمّا سميت عجوزًا لأن عجوزًا من عاد توارت في سرب؛ أي: في بيت في الأرض، فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها. وقيل: هي أيام العجز، وهي آخر الشتاء ذات برد ورياح
كَسَعَ الشِّتَاءُ بِسَبْعَةِ غَبَر | أَيَّامَ شَهْلَتِنا من الشّهرِ |
فَإذا انْقَضَتْ أَيَّامُ شَهْلَتِنَا | بِالصِنّ والصّنْبَرِ والوَبَرِ |
وَبَآمِرِ وَأَخِيْهِ مؤتمر | ومعللٍ وبمطفىء الجمرِ |
ذهبَ الشتاءُ مُوليًا هَربا | وأتَتْك موقدةٌ من الحرِ |
يقول الفقير: وسرّ العدد أن عمر الدنيا بالنسبة إلى الإنس سبعة أيام من أيام الآخرة، وفي اليوم الثامن تقع القيامة ويعم الهلاك.
﴿فَتَرَى﴾ يا محمد أو يا من شأنه أن يرى ويبصر لو كنت حاضرًا وقتئذٍ ﴿الْقَوْمَ﴾؛ أي: قوم عاد، فاللام للعهد. ﴿فِيهَا﴾ أي: في محال هبوب تلك الريح أو في تلك الليالي والأيام، ورجحه أبو حيان للقرب وصراحة الذكر. ﴿صَرْعَى﴾؛ أي: موتى. جمع صريع كقتلى وقتيل، حال من القوم؛ لأنّ الرؤية بصرية. والصريع
٨ - وقال ابن جريج: كانوا في سبعة أيام في عذاب ثم في الثامن ماتوا، وألقتهم الريح في البحر، فذلك قوله: ﴿فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (٨)﴾ والاستفهام (٢) لإنكار الرؤية. والباقية اسم كالبقية لا وصف والتاء للنقل إلى الاسميّة، و ﴿مِنْ﴾ زائدة، و ﴿بَاقِيَةٍ﴾ مفعول ترى. أي: ما ترى منهم بقية من صغارهم وكبارهم وذكررهم وإناثهم غير المؤمنين. ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف بمعنى نفس باقية أو مصدرًا بمعنى البقاء كالكاذبة والطاغية. والبقاء: ثبات الشيء على الحالة الأولى، وهو يضاد الفناء.
ومعنى الآية: فترى قوم عاد في تلك السبع الليالي والثمانية الأيّام المتتابعة صرعى هالكين، كأنهم أصول نخل متأكلة الأجواف لم يبق منهم ولا من نسلهم أحد. وجاء في آية أخرى: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾.
٣ - ٩ ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ﴾؛ أي: فرعون موسى. أفرده بالذكر لغاية علوّه واستكباره.
(٢) روح البيان.
وقرأ أبو رجاء (١) وطلحة، والجحدري، والحسن بخلاف عنه، وعاصم في رواية أبان، والنحويّان: أبو عمرو والكسائي، ويعقوب ﴿ومِنْ قِبَله﴾ بكسر القاف وفتح الباء بمعنى: ومن معه من القبط من أهل مصر. وقرأ باقي السبعة، وأبو جعفر، وشيبة، والسلمي ﴿وَمَنْ قَبْلَهُ﴾ بفتح القاف وسكون الباء؛ أي: ومن تقدمه من القرون الماضية والأمم الخالية. واختار (٢) أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لقراءة ابن مسعود وأبي ﴿ومن معه﴾، وقراءة أبي موسى الأشعري ﴿ومن يَلقَاه﴾.
﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾؛ أي: وجاءت المؤتفكات؛ أي: أهل قرى قوم لوط؛ لأنّها عطفت على ما قبلها من فرعون. ومن قبله من (٣) ائتفكت البلدة بأهلها؛ أي: انقلبت، والله تعالى قلب قرى قوم لوط عليهم، فهي المنقلبات بالخسف. وهي خمس قريات: صعبه، وسعده، وعمرة، ودوما، وسدوم وهي أعظم القرى. ثم هذا من قبيل التخصيص بعد التعميم للتتميم؛ لأنَّ قوم لوط أتوا بفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين. وقرأ الجمهور ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ بالجمع. وقرأ الحسن والجحدري ﴿والمؤتفكة﴾ بالإفراد، واللام للجنس، فهي في معنى الجمع.
والمعنى: وجاءت المؤتفكات ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾؛ أي: بالفعلة الخاطئة، أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم التي من جملتها تكذيب البعث والقيامة. فالخاطئة على هذين صفة لمحذوف، ويكون الكلام من المجاز العقليّ كشعر شاعر، قاله مجاهد. أو بالخطأ فيكون الخاطئة مصدرًا جاء على وزن فاعله كالعاقبة والكاذبة، قاله الجرجاني. والباء للملابسة أو التعدية، وهو الأظهر. والمراد أنّ هؤلاء الأمم المذكورة جاؤوا بالخاطئة؛ أي: بالشرك وأنواع المعاصي.
١٠ - ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: فعصت كل أمة رسولها المرسل إليها حين نهاهم عما كانوا يتعاطونه من القبائح. فالرسول هنا بمعنى الجمع؛ لأن فعولًا وفعيلًا يستوي فيهما المذكر والمؤنث والواحد والجمع، فهو من مقابلة الجمع بالجمع
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
﴿فَأَخَذَهُمْ﴾ الله تعالى بالعقوبة، أي: أخذ كل قوم منهم ﴿أَخْذَةً رَابِيَةً﴾؛ أي: زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفّار، أو على القدر المعروف عند الناس لما زادت معاصيهم في القبح على معاصي سائرة الكفرة. والمعنى: فعاقبهم عقوبة شديدة أغرق من كذّب نوحًا، وهم كل أهل الأرض غير من ركب معه في السفينة، وحمل مدائن قوم لوط بعد أن نتقها من الأرض على متن الريح بواسطة من أمره بذلك من الملائكة، ثم قلبها وأتبعها بالحجارة، وخسف بها وغمرها بالماء المنتن الذي ليس في الأرض ما يشبهه. وأغرق فرعون وجنوده أيضًا في بحر القلزم أو في النيل، وهكذا عاقب كل أمة عاصية بحسب أعمالهم القبيحة، وجازاهم جزاء وفاقًا. وفي كل ذلك تخويف لقريش، وتحذير لهم عن التكذيب، وفيه عبرة موقظة لأولي الألباب.
والمعنى: وجاء فرعون ومن تقدمه من الأمم التي كفرت بآيات الله كقوم نوح وعاد وثمود، والقرى التي ائتفكت بأهلها، وصار عاليها سافلها بسبب خطيئتها ومعصيتها. ثم بين هذه الخطيئة بقوله: ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: فعصى هؤلاء الذين تقدم ذكرهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم، ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ وأذاقهم وبال أمرهم بعقوبة زائدة على عقوبة سائر الكفّار، كما زادت قبائحهم على قبائح غيرهم. ونحو الآية قوله: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾.
١١ - ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ المعهود وقت الطوفان؛ أي: جاوز حدّه المعتاد حتى ارتفع على كل شيء خمس مئة ذراع، وقال بعضهم: ارتفع على أرفع جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعًا. أو جاوز حذه في المعاملة مع خزّانه من الملائكة بحيث لم يقدروا على ضبطه. وذلك الطغيان ومجاوزة الحدّ بسبب إصرار قوم نوح على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه فيما أوحي إليه من الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة، فانتقم الله منهم بالإغراق. ﴿حَمَلْنَاكُمْ﴾ أيّها الناس، أي: حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم، فكأنّكم محمولون بأشخاصكم. وفيه تنبيه على المنّة في الحمل؛ لأنّ نجاة آبائهم سبب ولادتهم. ﴿فِي الْجَارِيَةِ﴾ يعني: في سفينة نوح؛ لأنّ من شأنها أن تجري على الماء. والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان، لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة ﴿في﴾، فإنها ليست بعلّة
١٢ - ﴿لِنَجْعَلَهَا﴾؛ أي: لنجعل الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين ﴿لَكُمْ﴾ أيتها الأمة المحمدية ﴿تَذْكِرَةً﴾؛ أي: عبرةً ودلالةً على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته. فضمير ﴿لِنَجْعَلَهَا﴾ إلى الفعلة والقصة بدلالة ما بعد الآية من الوعي، وقد أدرك السفينة أوائل هذه الأمّة، وكان ألواحها على الجوديّ أو لنجعل هذه الأمور المذكورة لكم يا أمة محمد عبرةً وعظةً، تستدلّون بها على عظيم قدرة الله وبديع صنعه.
﴿وَتَعِيَهَا﴾؛ أي: وتعي هذه القصة، وتحفظها ﴿أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾؛ أي: أذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره والتفكر فيه، ولا تضيعه بترك العمل به. والوعي: أن تحفظ العلم، يقال: وعيت ما قلته؛ أي: حفظت، ومنه قوله - ﷺ -: "لا خير في العيش إلّا لعالم ناطق ومستمع واع" والإيعاء: أن تحفظه في غير نفسك من وعاء، يقال: أوعيت المتاع في الوعاء، ومنه قوله - ﷺ - لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: "لا توعي فيوعي الله عليك أرضخي ما استطعت" قال الشاعر:
الْخَيْرُ يَبْقَى وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ | وَالشَّرُّ أَخْبَثُ مَا أَوْعَيْتَ مِنْ زَادِ |
قال في "الكشاف": الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالي بهم وإن ملَؤُوا ما بين الخافقين. وفي الحديث: "أفلح من جعل الله له قلبًا واعيًا". وروي: أنَّ النبي - ﷺ - قال لعلي: "إني دعوت الله أن يجعلها أذنك يا علي". قال علي كرم الله وجهه: فما سمعت شيئًا
والمعنى (١): لنجعل نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين عظة وعبرة لكم لدلالتها على كمال قدرة الصانع وحكمته وسعة رحمته، وتفهمها أذن حافظة سامعة عن الله، فتنتفع بما سمعت من كتابه، ولا تضيع العمل بما فيه، وتبلغها إلى من يأتي بعد.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَتَعِيَهَا﴾ بكسر العين وفتح الياء مخفّفة. وقرأ طلحة بن مصرف، وحميد، والأعرج، وأبو عمرو في رواية هارون، وخارجة، وقنبل بخلاف عنه بإسكان العين وفتح الياء مخفّفة. وقرأ حمزة بإخفاء الحركة ووجه الإسكان التشبيه في الفعل بما كان على وزن فعل في الاسم والفعل، نحو: كبد وفخذ وعلم وسمع. وتعي ليس على وزن فعل، بل هو مضارع وعي فصار إلى فعل، وأصله: يفعل حذفت واوه. وروي عن عاصم عصمة وحمزة الأرزق ﴿وتعيها﴾ بتشديد الياء. قيل: وهو خطأ، وينبغي أن يتأوّل على أنه أريد شدة بيان الياء احترازًا ممن سكنها لا إدغام حرف في حرف، ولا ينبغي أن يجعل ذلك من باب التضعيف في الوقف، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف. وإن كان قد ذهب إلى ذلك بعضهم. وروي عن حمزة وعن موسى بن عبد الله العنسي ﴿وَتَعِيَهَا﴾ بإسكان الياء. فاحتمل الاستئناف، وهو الظاهر، واحتمل أن يكون مثل قراءة ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ بسكون الياء.
١٣ - ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣)﴾ وهذا شروع (٣) في بيان الحاقّة وكيفية وقوعها بعد بيان عظم شأنها بإهلاك مكذّبيها. والنفخ: إرسال الريح من الفم. والصور: قرن من نور أوسع من السماوات، ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله، فيحدث صوت عظيم، فإذا سمع الناس ذلك الصوت يصيحون، ثمّ يموتون إلّا من شاء الله تعالى. والمصدر المبهم هو الذي يكون لمجرد التأكيد، وإن كان لا يقام مقام الفاعل فلا يقال: ضرب ضرب؛ إذ لا يفيد أمرًا زائدًا على مدلول الفعل، إلّا أنه حسن إسناد الفعل في الآية إلى المصدر وهو النفخة لكونها نفخًا مقيدًا بالوحدة
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
والمراد بها هاهنا: النفخة الأولى التي لا يبقى عندها حيوان إلّا مات، ويكون عندها خراب العالم لما دل عليه الحمل والدك الآتيان. وفي "الكشاف": فإن قلت: هما نفختان فلم قيل واحدة؟
قلت: معناه: أنها لا تثنى في وقتها انتهى. يعني. أنَّ حدوث الأمر العظيم بالنفخة، وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة، لا من حيث إنه نفخ. فنبه على ذلك بقوله: "واحدة".
وقرأ الجمهور (١): ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ بالرفع فيهما على أنَّ ﴿نَفْخَةٌ﴾ مرتفعة على النيابة، و ﴿وَاحِدَةٌ﴾ تأكيد لها. وحسن تذكير الفعل لوقوع الفصل؛ ولأن تأنيث النفخ مجازي. وقرأ أبو السمال بنصبهما على أن النائب هو الجار والمجرور، قال الزجاج: ﴿فِي الصُّورِ﴾ يقوم مقام ما لم يسم فاعله.
١٤ - ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾؛ أي: قلعت ورفعت من أماكنها بمجرد القدرة الإلهية أو بالريح العاصفة، فإن الريح من قوة عصفها تحمل الأرض والجبال كما حملت أرض وجود قوم عاد وجبال جمالهم مع هوادجها أو بواسطة الملائكة. وقرأ الجمهور ﴿وَحُمِلَتِ﴾ بتخفيف الميم، وابن أبي عبلة، وابن مقسم والأعمش، وابن عامر في رواية يحيى بتشديدها للتكثير أو للتعدية.
﴿فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾؛ أي: فكسرتا كسرة واحدة لا زيادة عليها، أو فضربت (٢) الجملتان جملة الأرضين وجملة الجبال إثر رفعها بعضها ببعض ضربة واحدة بلا احتياج إلى تكرار الضرب وتثنية الدك حتى تندق وترجع كثيبًا مهيلًا وهباء منبثًا. قال الفراء: ولم يقل: فدككن مع كونه مقتضى الظاهر لإسناد الفعل إلى الأرض والجبال، وهي أمور متعددة، لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كذلك، فثنى الضمير نظيره.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ حيث لم يقل: كن. وقيل: ﴿دكتا﴾: بسطتا بسطةً واحدةً، ومنه: اندكّ سنام البعير إذا انفرش على ظهره.
(٢) روح البيان.
١٦ - ﴿وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ﴾؛ أي: تشققت وانفرجت لنزول الملائكة لأمر عظيم أراده الله تعالى كما قال في آية أخرى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥)﴾. أو بسبب شدّة ذلك اليوم، وهو معطوف على ﴿وَقَعَتِ﴾. ﴿فَهيَ﴾؛ أي السماء ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي: يوم إذ انشقت ﴿وَاهِيَةٌ﴾ أي: ضعيفة مسترخية ساقطة القوة جدًّا كالغزل المنقوض بعدما كانت محكمة مستمسكة، وإن كانت قابلة للخرق والالتئام.
ومعنى الآيات: فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التي عندها خراب العالم، ورفعت الأرض والجبال مِنْ أماكنها، ولا ندري كيف رفعت؛ لأنّ ذلك من أنباء الغيب، فقد يكون ذلك بريح يبلغ من قوة عصفها أن تحملهما أو أنَّ ملكًا يحملهما أو بقدرة الله من غير سبب ظاهر، أو بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب، فتنفصل الجبال؛ وترتفع من شدّة المصادمة، وترتفع الأرض من حيّزها، فضرب بعضهما ببعض ضربة واحدة حتى تقطعت أوصالها وصارتا كثيبًا مهيلًا وهباء منبثًا، لا يتميز شيء من أجزائهما عن الآخر، فحينئذٍ تقوم القيامة وتتصدع السماء؛ لأنها يومئذٍ ضعيفة المنة كالعهن المنفوش بعد أن كانت شديدة الأسر عظيمة القوة.
١٧ - ﴿وَالْمَلَكُ﴾؛ أي: والملائكة ﴿عَلَى أَرْجَائِهَا﴾؛ أي: على جوانب السماء ينظرون إلى أهل الأرض، ولا ندري كيف ذلك، ولا الحكمة فيه؛ فناع تفصيل ذلك ونؤمن به، كما جاء في الكتاب ولا نزيد عليه.
ومعنى ﴿وَالْمَلَكُ﴾؛ أي: الخلق المعروف بالملك، وهو أعم من الملائكة، ألا ترى إلى قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد أعم من قولك: من ملائكة.
قال الزمخشري: فإن قلت (١): ما الفرق بين قولك: والملك وبين أن يقال:
قلت: الملك أعم من الملائكة ألا ترى أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد أعم من قولك: ما من ملائكة انتهى. ولا يظهر (١) أن الملك أعم من الملائكة؛ لأن المفرد المحلى بالألف واللام الجنسية قصاراه أن يراد به الجمع المحلى بهما، ولذلك صح الاستثناء منه، فقصاراه أن يكون كالجمع المحلى بهما. وأما دعواه أنه أعم منه بقوله: ألا ترى إلخ، فليس دليلًا على دعواه؛ لأن (من ملك) نكرة مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها (من) المخلصة للاستغراق، فشملت كل ملك، فاندرج تحتها الجمع لوجود الفرد فيه، فانتفى كل فرد فرد بخلاف من ملائكة فإن (من) دخلت على جمع منكر فعم كل جمع جمع من الملائكة، ولا يلزم من ذلك انتفاء كل فرد فرد من الملائكة. لو قلت: ما في الدار من رجال جاز أن يكون فيها واحد؛ لأن النفي إنما انسحب على جمع ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفرد. والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه ﴿مِنْ﴾، فيكون أعم من جمع دخلت عليه ﴿مِنْ﴾، وإنما جيء به مفردًا؛ لأنه أخف، ولأن قوله: ﴿عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ يدل على الجمع لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد بل في أوقات. والمراد - والله تعالى أعلم - أن الملائكة على أرجائها، لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات.
أي: جنس (٢) الملك على أطرافها وجوانبها، وهي جمع رجا مقصور وتثنيته رجوان مثل: قفا وقفوان.
والمعنى: أنها لما تشققت السماء وهي مساكنهم لجؤوا إلى أطرافها. قال الضحاك: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت، وتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب فينزلون إلى الأرض، ويحيطون بالأرض ومن عليها. وقال سعيد بن جبير: المعنى: والملك على حافات الدنيا؛ أي: ينزلون إلى الأرض، وقيل: إذا صارت السماء قطعًا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها. قالوا: وقوفهم لحظة على أرجائها وموتهم بعدها، فإن الملائكة يموتون عند النفخة الأولى لا ينافي التعقيب المدلول عليه بالفاء في قوله: ﴿فَهِيَ﴾.
(٢) المراغي.
وفي "الشوكاني": أي يحمله (٢) فوق رؤوسهم يوم القيامة ثمانية أملاك. وقيل: ثمانية صفوف من الملائكة، لا يعلم عددهم إلّا الله عز وجل. وقيل: ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة، قاله الكلبي وغيره انتهى.
١٨ - ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ العامل فيه قوله: ﴿تُعْرَضُونَ﴾ على الله؛ أي: (٣) تسألون وتحاسبون. عبّر عنه بذلك تشبيهًا له بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحوا اطم، يقال: عرض الجند إذا أمرهم عليه ونظر ما حالهم. والخطاب عامّ للكلّ على التغليب؛ أي: يومئذٍ يعرض العباد على الله لحسابهم، ومثله قوله: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا﴾. وليس ذلك العرض عليه سبحانه ليعلم به ما لم يكن عالمًا به، وإنما هو عرض الاختبار والتوبيخ بالأعمال.
روي: أن في يوم القيامة ثلاث عرضات. فاما عرضتان فاعتذار واحتاج وتوبيخ، وأمّا الثالثة ففيها تنشر الكتب، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك بشماله. أخرجه أحمد والترمذي بلفظ آخر. وهذا العرض، وإن كان بعد النفخة الثانية لكن لما كان اليوم اسمًا لزمان متسع يقع فيه النفختان والصعقة والنشور والحساب
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وجملة قوله: ﴿لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ في محل نصب على الحال من ضمير ﴿تُعْرَضُونَ﴾، و ﴿مِنْكُمْ﴾ كان في الأصل صفة لـ ﴿خَافِيَةٌ﴾ فقدم للفاصلة، فتحول حالًا.
والمعنى: تعرضون على الله حال كونكم غير خاف عليه تعالى فعلة خفيّة منكم تخفونها عن غيركم؛ أي: سر من أسراركم؛ لأنّ العرض لإفشاء الحال والمبالغة في العدل، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩)﴾. فقوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ يعلق بما قبله وبما بعده على التجاذب. قال في "الكشاف": ﴿خَافِيَةٌ﴾؛ أي؛ سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا بستر الله عليكم، والسر والسريرة هو الذي يكتم ويخفى، فتظهر يوم القيامة أحوال المؤمنين، فيتكامل بذلك سرورهم وتظهر أحوال غيرهم فيحصل الحزن والافتضاح. ففي الآية زجر عظيم عن المعصية لتأديتها إلى الافتضاح على رؤوس الخلائق، فقلب الإنسان ينبغي أن يكون بحال لو وضع في طبق وأدير على الناس لما وجد فيه ما يورث الخجالة، وهو صفة أهل الإخلاص والنصيحة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لَا تَخْفَى﴾ بتاء التأنيث. وقرأ عليّ، وابن وثّاب، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وابن مقسم عن عاصم، وابن سعدان بالياء.
والمعنى (٢): فيومئذٍ تحاسبون وتسألون لا يخفى على الله شيء من أمورك، فانه تعالى عليم بكل شيء لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، كما جاء في آية أخرى ﴿لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾. وفي هذا تهديد شديد، وزجر عظيم، ومبالغة لا تخفى، وفضيحة للكافرين، وسرور للمؤمنين بظهور ما كان خفيًّا عليهم من أعمالهم، وبذلك يتكامل حبورهم وسرورهم. وفي هذا العرض إقامة للحجة، ومبالغة في إظهار العدل.
أخرج الإِمام أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن ماجة، وابن مردويه
(٢) المراغي.
١٩ - ولما ذكر سبحانه العرض ذكر ما يكون فيه، فقال: ﴿فَأَمَّا﴾ تفصيل لأحكام العرض ﴿مَنْ﴾ موصولة ﴿أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾؛ أي: أعطي مكتوبه الذي كتبت الحفظة فيه تفاصيل أعماله. ﴿بِيَمِينِهِ﴾ تعظيمًا له؛ لأنّ اليمين يتيمن بها أخذًا وعطاء. والباء بمعنى في أو للإلصاق، وهو الأوجه، والمراد بهم الأبرار، فإن المقربين لا كتاب لهم، ولا حساب لهم لمكانتهم من الله سبحانه وتعالى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - ﷺ - قال: "أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس، قيل له: فأين أبو بكر؟ فقال: هيهات زفته الملائكة إلى الجنة". يقول الفقير: لعل هذا مكافأة له حين أخذ سيفه بيده، وخرج من دار الأرقم وهو يظهر الإِسلام على ملاء من قريش، فبسيفه ظهر الإِسلام رضي الله عنه. دل الحديث على أن رتبة أبي بكر فوق رتبة غيره؛ لأن الصديقية تلي النبوة كما في حديث: "أثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيدان" وكان عليه رسول الله - ﷺ - وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فتحرك الجبل، فقال له ذلك.
﴿فَيَقُولُ﴾ فرحًا وسرورًا، فإنه لما أوتي كتابه بيمينه.. علم أنه من الناجين من النار، ومن الفائزين بالجنة، فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله. ﴿هَاؤُمُ﴾؛ أي: خذوا يا أهل بيتي وقرابتي وأصحابي كتابي، وتناولوه و ﴿اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ و"هاء" اسم فعل أمر بمعنى خذ، يقال: هاء يا رجل بفتح الهمزة وهاء يا امرأة بكسرها، هاؤما يا رجلان أو امرأتان، وهاؤم يا رجال وهاؤنّ يا نسوة بمعنى: خذ خذا خذوا خذي خذا خذن. وقد يكون فعلًا صريحًا لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها، وفيه ثلاث لغات كما هو معروف في علم الإعراب. ومفعوله هنا محذوف دل عليه مفعول ﴿اقْرَءُوا﴾ و ﴿كتابي﴾ مفعول ﴿اقْرَءُوا﴾؛ لأنّه أقرب العاملين،
مبحث هاء السكت
والهاء في ﴿كِتَابِيَهْ﴾ للوقف والاستراحة والسكت، تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، كما هو الأصل في هاء السكت؛ لأنّها إنّما جيء بها حفظًا للحركة؛ أي: لتحفظ حركة الموقوف عليه، إذ لولا الهاء لسقطت الحركة في الوقف، فتثبت حال الوقف، إذ لا حاجة إليها في حال الوصل، فلذلك كان حقَّها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل. إلَّا أن القراء السبعة اتفقوا في كل المواضع على إثباتها وقفًا ووصلًا إجراء للوصل مجرى الوقف، واتباعًا لرسم الإِمام، فإنها ثابتة في المصحف في كل المواضع. وهي ﴿كِتَابِيَهْ﴾ و ﴿حِسَابِيَهْ﴾، و ﴿مَالِيَهْ﴾، و ﴿سُلْطَانِيَهْ﴾، و ﴿مَا هِيَهْ﴾ في القارعة. وما كان ثابتًا فيه لا بد أن يكون مثبتًا في اللفظ، إلا أن حمزة أسقط الهاء من ثلاث كلم وصلًا، وهي: ﴿مَالِيَهْ﴾ و ﴿سُلْطَانِيَهْ﴾ و ﴿مَا هِيَهْ﴾، وأثبتها وقفًا على الأصل، ولم يعمل بالأصل في ﴿كِتَابِيَهْ﴾ و ﴿حِسَابِيَهْ﴾، وأثبتها في الحالين جمعًا بين اللغتين. وتبين من هذا التقرير أن المستحب إيثار الوقف إتباعًا للوصل، وأن إثباتها وصلًا أنما هو لاتباع المصحف.
قال في "القاموس": هاء السكت هي اللاحقة لبيان حركة أو حرف نحو: ﴿مَا هِيَهْ﴾، وها هناه، وأصلها أن يوقف عليها، وربما وصلت بنية الوقف انتهى. وهذه الهاء لا تكون إلا ساكنة، وتحريكها لحن؛ أي: خطأ؛ لأنه لا يجوز الوقف على المتحرك. وهاء (١) السكت في القرآن في سبعة مواضع: في ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾، وفي ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾، وفي ﴿كِتَابِيَهْ﴾ وفي ﴿حِسَابِيَهْ﴾، وفي ﴿مَالِيَهْ﴾، وفي ﴿سُلْطَانِيَهْ﴾، وفي ﴿مَا هِيَهْ﴾. وأما الهاء التي في ﴿الْقَاضِيَةَ﴾، وفي ﴿هَاوِيَة﴾، وفي ﴿خَاوِيَة﴾ و ﴿ثَمَانِيَةً﴾ و ﴿عَالِيَةٍ﴾ و ﴿دَانِيَةٌ﴾، وأمثالها فللتأنيث فيوقف عليهن بالهاء يوصلن بالتاء.
٢٠ - ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ﴾؛ أي: علمت وأيقنت ﴿أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾؛ أي: حساب أعمالي.
منها: هذا الموضع.
ومنها: قوله تعالى حكاية: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ وهم المؤمنون بالآخرة.
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾؛ أي: علم وأيقن بالعلامة القوية، وقوله: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾. ولعل التعبير عن العلم بالظن للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد، وما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالبًا. يعني: أن الظن استعير للعلم الاستدلالي؛ لأنه لا يخلو عن الخطرات والوساوس عند الذهول عما قاد إليه من الدليل للإشعار المذكور. وفي "الكشاف": وإنما أجري الظن مجرى العلم؛ لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام، ويقال: أظن ظنًا كاليقين أن الأمر كيت وكيت.
وقرأ الجمهور (١): ﴿كِتَابِيَهْ﴾ و ﴿حِسَابِيَهْ﴾ في موضعيهما، و ﴿مَالِيَهْ﴾ و ﴿سُلْطَانِيَهْ﴾ وفي القارعة و ﴿مَا هِيَة﴾ بإثبات هاء السكت وقفًا ووصلًا لمراعاة خط المصحف. وقرأ ابن محيصن بحذفها وصلًا ووقفًا وإسكان الياء، وذلك ﴿كتابي﴾ و ﴿حسابي﴾ و ﴿مالي﴾ و ﴿سلطاني﴾، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في ﴿مَا هِيَة﴾ في القارعة وقرأ ابن أبي إسحاق والأعمش بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف. وطرحها حمزة في ﴿مالي﴾ و ﴿سلطاني﴾ و ﴿ما هي﴾ في الوصل لا في الوقف وفتح الياء فيهن. وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علته ليس كما قال، بل ذلك منقول نقل التواتر، فوجب قبوله.
ومعنى الآية (٢): أي فأما من أعطي كتابه بيمينه فيقول: تعالوا يا أصحابي اقرؤوا كتابي فرحًا به؛ لأنه لما أوتيه باليمين علم أنه من الناجين الفائزين بالنعيم؛
(٢) المراغي.
٢١ - ثم بين عاقبة أمره، فقال: ﴿فَهُوَ﴾؛ أي: من أوتي كتابه بيمينه ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾؛ أي: في عيشة وحياة مرضية لا مكروهة، أو في عيشة ذات رضي يرضاها صاحبها؛ أي: من يعيش فيها. وفي "التأويلات النجمية": ﴿رَاضِيَةٍ﴾: هنيئة مريئة صافية عن شوائب الكدر طاهرة عن نوائب الحذر.
وقوله: ﴿فِي عِيشَةٍ﴾؛ أي: في نوع فخيم من العيش. والعيش (١) بالفتح وكذا العيشة والمعاش والمعيش: الحياة المختصة بالحيوان، وهو أخص من الحياة؛ لأن الحياة تقال في الحيوان وفي البازي وفي الملك، ويشتق منه المعيشة لما يتعيش منه. ﴿رَاضِيَةٍ﴾؛ أي: ذات رضي يرضاها صاحبها على معنى النسبة بالصيغة، فإن النسبة نسبتان نسبة بالحرف كمكي ومدني، ونسبة بالصيغة كلابن وتامر بمعنى ذي لبن وذي تمر. ويجوز أن يجعل الفعل لها، وهو لصاحبها، فيكون من قبيل الإسناد المجازي. ومآل الوجهين كون العيشة مرضية.
وكون العيشة مرضية لاشتمالها على أمور ثلاثة:
الأول: كونها منفعة صافية عن الشوائب.
والثماني: كونها دائمة لا يترقب زوالها وانقطاعها.
والثالث: كونها بحيث يقصد بها تعظيم من رضي بها وإكرامه، وإلا يكون استهزاء واستدراجًا. وعيشة من أعطيَ كتابه بيمينه جامعة لهذه الأمور الثلاثة، فتكون مرضيًّا كمال الرضا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعيشون فلا يموتون،
والمعنى: فهو يعيش عيشة مرضية خالية مما يكدرها مع دوامها، وما فيها من إجلال وتعظيم.
٢٢ - ثم فصل ذلك بقوله: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢)﴾؛ أي: مرتفعة المكان؛ لأنها في السماء كما أن النار سافلة؛ لأنها تحت الأرض. أو مرتفعة الدرجات أو الأبنية والأشجار، فيكون عالية من الصفات الجارية على غير من هي له، وهو بدل من ﴿عِيشَةٍ﴾ بإعادة الجار. ويجوز كونه متعلقًا بـ ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾؛ أي: يعيش عيشًا مرضيًّا في جنة عالية.
٢٣ - ﴿قُطُوفُهَا﴾؛ أي: ثمرات تلك الجنة، جمع قطف بالكسر، وهو ما يقطف ويجتنى بسرعة، والقطف بالفتح مصدر. قال سعدي المفتي: اعتبار السرعة في مفهوم القطف محل خلاف، قال ابن الشيخ: معنى السرعة قطع الكل بمرّة. وفي "القاموس": القطف بالكسر: العنقود، واسم للثمار المقطوفة انتهى. فلا حاجة إلى أن يقال: غلب هنا في جميع ما يجتني من الثمر عنبًا كان أو غيره. ﴿دَانِيَةٌ﴾؛ أي: قريبة من مريدها وآخذها، ينالها القائم والقاعد والمضطجع من غير تعب ولا كدّ. وقيل معناه: لا يتأخّر إدراكها انتهى. وإذا أراد أن تدنو إلى فيه دنت بخلاف ثمار الدنيا، فإن في قطفها وتحصيلها تعبًا ومشقة غالبًا، وكذا لا تؤكل إلا بمزاولة اليد. يقول الفقير: أشجار الجنة على صورة الإنسان. يعني: أن أصل الإنسان رأسه، وهي في طرف العلو، ورجله فرعه مع أنها في طرف السفل، فكذلك أصول أشجار الجنة في طرف العلو، وأغصانها متدلية إلى جانب السفل، ولذا لا يرون تعبًا في القطف على أن نعيم الجنة تابع لإرادة المتنعم به، فيصرف فيه كيف يشاء من غير مشقّة.
٢٤ - وقوله: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ مقول لقول مضمر، والجمع بعد قوله: ﴿فَهُوَ﴾ باعتبار المعنى، والأمر أمر امتنان وإباحة لا أمر تكليف ضرورة أنَّ الآخرة ليست بدار تكليف. وجمع بين الأكل والشرب؛ لأن أحدهما شقيق الآخر فلا ينفك عنه، ولذا لم يذكر هنا الملابس، وإن ذكرت في موضع آخر. والمعنى؛ أي: يقال لمن أوتي كتابه بيمينه: كلوا من طعام الجنة وثمارها واشربوا من شرابها مطلقًا. ﴿هَنِيئًا﴾؛ أي: أكلًا وشربًا هنيئًا؛ أي: سائغًا لا تنغيص فيه في الحلقوم، وجعل الهنيء صفة لهما؛ لأن المصدر يتناول المثنى أيضًا، من هنؤ الطعام والشراب؛
والمعنى: أي ويقول لهم ربهم جل ثناؤه: كلوا يا معشر من رضيت عنه فأدخلته جنتي من ثمارها وطيب ما فيها من الأطعمة، واشربوا من أشربتها أكلًا وشربًا هنيئًا، لا تتأذون بما تأكلون وما تشربون جزاء من الله وثوابًا على ما قدمتم في دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعتي.
٢٥ - ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ﴾ وأعطي ﴿كِتَابَهُ﴾؛ أي: كتاب أعماله ﴿بشِمَالِه﴾ تحقيرًا له؛ لأنّ الشمال يتشاءم بها بأن تلوى يساره إلى خلف ظهره، فيأخذه بها، ويرى ما فيه من قبائح الأعمال. ﴿فَيَقُولُ﴾ تحزّنًا وتحسرًّا وخوفًا مما فيه من السيئات، وهو من قبيل الألم الروحانيّ الذي هو أشدّ من الألم الجسمانيّ. ﴿يا﴾ هؤلاء يا معشر المحشر ﴿لَيْتَنِي﴾ من التمني بالمحال؛ أي: أتمنّى أنّي ﴿لَمْ أُوتَ﴾ مضارع مبني للمتكلم المجهول من الإيتاء بمعنى لم أعط. ﴿كِتَابِيَهْ﴾؛ أي: كتابي هذا الذي جمع جميع سيئاتي.
٢٦ - ﴿وَلَمْ أَدْرِ﴾ مضارع مبني للمتكلم المعلوم من الدراية بمعنى العلم، أي: ولم أعلم ﴿مَا حِسَابِيَهْ﴾؛ أي: أيّ شيء حسابي من ذكر العمل وذكر الجزاء عليه، لأن كله عليه. فـ ﴿ما﴾ استفهامية علق بها الفعل عن العمل، ويجوز أن تكون موصولة بتقدير المبتدأ في الصلة.
٢٧ - ﴿يَا لَيْتَهَا﴾ تكرير للتمني وتجديد للتحسر، أي: يا هؤلاء ليت الموتة التي متّها وذقتها ﴿كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾؛ أي: القاطعة لحياتي وأمري، ولم أبعث بعدها، ولم ألق ما ألقى. والمعنى: أنه تمنّى دوام الموت وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله وما يصير إليه من العذاب، فالضمير في ﴿ليتها﴾ يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها، وإن لم تكن مذكورة؛ لأنها لظهورها كانت كالمذكورة.
وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِيْ إنْ لَقِيْتَهُ | تَمَنَّيْتَ مِنْهُ الْمَوْتَ وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ |
والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت عليّ، يتمنى أن يكون بدل تلك الحالة الموتة القاطعة للحياة، لما أنه وجد تلك الحالة أمر من الموت، فتمناه عندها، وكان في الدنيا أشد كراهية للموت.
٢٨ - ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي﴾؛ أي: لم يدفع عنّي شيئًا من عذاب الآخرة على أنّ ﴿مَا﴾ نافية، والمفعول محذوف. ﴿مَالِيَهْ﴾؛ أي: الشيء الذي كان لي في الدنيا من المال والأتباع، على أنّ ﴿ما﴾ موصولة، واللام جارة داخلة على ياء المتكلم ليعم مثل الأتباع، فإنه إذا كان اسمًا مضافًا إلى ياء المتكلم لم يعم. وفي "الكشاف": ﴿مَا أَغْنَى﴾ نفي واستفهام على وجه الإنكار؛ أي: أيّ شيء أغنى عنّي ما كان لي من اليسار انتهى. حتى ضيعت عمري فيه؛ أي: لم ينفعني ولم يدفع عنّي شيئًا من العذاب. فـ ﴿مَا﴾ استفهامية منصوبة المحل على أنها مفعول ﴿أَغْنَى﴾.
يقول الفقير: الظاهر أنَّ ﴿مَالِيَهْ﴾ هو المال المضاف إلى ياء المتكلم؛ أي: لم يغن عنّي المال الذي جمعته في الدنيا شيئًا من العذاب، بل ألهاني عن الآخرة وضرّني، فضلًا عن أن ينفعني. وذلك ليوافق قوله تعالى: ﴿وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا﴾، وقوله: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١)﴾، وقوله: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢)﴾ وأنظار ذلك. فما ذهب إليه أكثر أهل التفسير من التعميم عدول عمّا ورد به ظاهر القرآن.
٢٩ - ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩)﴾ والسلطان يطلق على الملك والتسلّط على الناس، ويطلق على الحجة. والمعنى على الأول: ذهب ملكي وتسلّطي على الناس، وبقيت فقيرًا ذليلًا. وعلى الثاني: ضلّت عني حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا عليهم. ورجح هذا المعنى بأن من أوتي كتابه بشماله لا اختصاص له بالملوك بل هو عام لجميع أهل الشقاوة. يقول الفقير قوله تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨)﴾ يدل على الأول على أنّ فيه تعريضًا بنحو الوليد من رؤساء قريش وأهل ثروتهم. ويجوز أن
٣٠ - وقوله: ﴿خُذُوهُ﴾ حكاية لما يقول الله سبحانه يومئذٍ لخزنة النار، وهم الزبانية الموكّلون على عذابه. والهاء راجع إلى ﴿من﴾ الثاني؛ أي: يقول سبحانه لخزنة جهنم: خذوا هذا العاصي الذي أعطي كتابه بشماله ﴿فَغُلُّوهُ﴾ بلا مهلة؛ أي: أجمعوا يديه إلى عنقه بالقيد والحديد وشدّوه بالأغلال، جمع غلّ، وهو بالضمّ: الطوق من حديد الجامع لليد إلى العنق المانع من تحرك الرأس.
٣١ - ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١)﴾؛ أي: أدخلوه الجحيم لا غيرها، وهي النار العظيمة. دل التقديم على التخصيص، والمعنى: لا تصلّوه؛ أي: لا تدخلوه إلا الجحيم، ولا تحرقوه إلا فيها، وهي النار العظمى، ليكون الجزاء على وفق المعصية حيث كان يتعظم على الناس. قال سعدي المفتي: فيكون مخصوصًا بالمتعظمين، وفيه بحث انتهى. وقد مر جوابه عند قولنا: بأن من أوتي كتابه بشماله لا اختصاص له بالملوك بل هو عام لجميع أهل الشقاوة.
٣٢ - ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ﴾ من نار، وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة، والجار والمجرور متعلق بقوله: ﴿فَاسْلُكُوهُ﴾، والفاء ليست بمانعة من التعلق. ﴿ذَرْعُهَا﴾؛ أي: ذرع تلك السلسلة؛ أي: قياسها وقدر طولها. والذراع ككتاب: ما يذرع به حديدًا أو قضيبًا. وفي "المفردات": والذراع: العضو المعروف، ويعبر عن المذروع والممسوح، ويقال: ذراع من الثوب والأرض. وقوله: ﴿ذَرْعُهَا﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿سَبْعُونَ﴾ والجملة في محل الجر على أنها صفة لـ ﴿سِلْسِلَةٍ﴾، وقوله: ﴿ذَرْعُهَا﴾ تمييز لاسم العدد، منصوب به. ﴿فَاسْلُكُوهُ﴾؛ أي: فأدخلوه. فالسلك: هو الإدخال في الطريق والخيط والقيد وغيرها.
ومعنى ﴿ثُمَّ﴾ الدلالة على تفاوت ما بين العذابين الغل وتصلية الجحيم وما بينهما، وبين السلك في السلسلة في الشدّة، لا على تراخي المدة. يعني: أن ﴿ثُمَّ﴾ أخرج عن معنى المهلة لاقتضاء مقام التهويل ذلك؛ إذ لا يناسب التوعد بتفرق العذاب. قال ابن الشيخ (١): إن كلمتي: ثم والفاء، إن كانتا لعطف جملة ﴿فَاسْلُكُوهُ﴾
والمعنى: فأدخلوه فيها بأن تلقوها على جسده، وتجعلوه محاطًا بها، فهو فيما بينها مرهق مضيق عليه، لا يستطيع حراكًا مّا، كما روِي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أهل النار يكونون في السلسلة كما يكون الثعلب في الجلبة. والثعلب: طرف خشبة الرمح الداخل في الجلبة. والجلبة: السنان. والسلسلة: الدرع. وذلك أنّما يكون رهقا؛ أي: غشية.
قال أبو حيان (١): وأما ﴿ثُمَّ﴾ فيمكن بقاؤها جملى موضوعها من المهلة الزمانية، وأنه أولًا يؤخذ فيغل، ولما لم يعذب بالعجلة صارت له استراحة، ثم جاء تصلية الجحيم فكان ذلك أبلغ في عذابه، إذ جاءه ذلك وقد سكنت نفسه قليلًا، ثم جاء سلكه بعد ذلك بعد كونه مغلولًا معذّبًا في النار، لكنه كان انتقال من مكان إلى مكان فيجد بذلك بعض تنفس، فلما سلك في السلسلة كان ذلك أشد ما عليه من العذاب حيث صار لا حراك له ولا انتقال وأنه يضيق عليه غاية التضييق، فهذا يصح فيه أن تكون ﴿ثُمَّ﴾ على موضوعها من المهلة الزمانية انتهى.
وتقديم (٢) السلسلة على السلك كتقديم الجحيم على التصلية في الدلالة على الاختصاص والاهتمام بذكر ألوان ما يعذب به، أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة؛ لأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم. ووصفها بسبعين ذراعًا لإرادة المبالغة في طولها، وإن لم تبلغ هذا العدد، كما قال: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ يريد مرات كثيرة لا خصوص العدد المذكور؛ لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد، فهو كناية عن زيادة الطول لشيوع استعمال السبعة والسبعين والسبع مئة في
(٢) روح البيان.
يقول الفقير: هذا يقتضي أن يكون ذلك عذاب الكافر؛ لأن جسده يكون في العظم مسيرة ثلاثة أيام، وضرسه مثل جبل أحد كما ورد في الحديث.
والمعنى (١): أي فيقال لخزنة جهنم: خذوه فضعوا الغل في عنقه، ثم أدخلوه في النار الموقدة كفاء كفره بالله واجتراحه عظيم الآثام، ثم أدخلوه في سلسلة طولها سبعون ذراعًا تلف على جميع جسمه حتى لا يستطيع تحركًا ولا انفلاتًا، والعرب إذا أرادت الكثرة عبرت بالسبعة والسبعين والسبع مئة والمقصود إثبات أنها طويلة المدى.
٣٣ - ثم بين سبب استحقاق هذا العذاب، فقال: ﴿إنَّهُ﴾؛ أي: إن هذا الكافر ﴿كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ وصفه تعالى بالعظيم للإيذان بأنه المستحق للعظمة فحسب، فمن نسبها إلى نفسه استحق أعظم العقوبات. والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما له يعذب بهذا العذاب الشديد؟ فأجيب: بأنه كان لا يؤمن بالله العظيم. والمعنى: افعلوا ذلك به جزاء له على كفره بالله في الدنيا وإشراكه به سواه وعدم القيام بحق عبادته وأداء فرائضه.
٣٤ - ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)﴾؛ أي: ولا يحثّ الناس على إطعام المسكنة والحاجة فضلًا عن بذل المال لهم. والحضّ: الحث على الفعل بالحرص على وقوعه. والمراد من الطعام (٢) العين، ولا بد من تقدير مضاف مثل: إعطاء أو بذل؛ لأن الحث والتحريض لا يتعلق بالأعيان بل بالأحداث، وأضيف الطعام إلى المسكين من حيث أن له إليه نسبة. والمعنى: ولا يحث أهله وغيرهم على إعطاء طعام يطعم به الفقير فضلًا عن
(٢) روح البيان.
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّيْ | وَبَعْدَ عَطَائِكَ المِئَةَ الرّتَاعَا |
وقال ابن الشيخ (١): فيه دليل على تكليف الكفار بالفروع على معنى أنهم يعاقبون على ترك الامتثال بها كعدم إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والانتهاء عن الفواحش والمنكرات، لا على معنى أنّهم يطالبون بها حال كفرهم، فإنهم غير مكلفين بالفروع بهذا المعنى لانعدام أهلية الأداء فيهم. لأن مدار أهلية الأداء هو استحقاق الثواب بالأداء، ولا ثواب لأعمال الكفّار، وأهلية الوجوب لا تستلزم أهلية الأداء، كما تقرر في الأصول انتهى.
والحاصل: أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة لا غير.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الآخر بالإطعام والحضّ عليه؟
والمعنى (٢): أنّه لا يحث نفسه أو غيره على بذل نفس طعام المسكين، وفي جعل هذا قرينًا لترك الإيمان بالله من الترغيب في الصدقة على المساكين، وسدّ
(٢) الشوكاني.
٣٥ - ﴿فَلَيْسَ لَهُ﴾؛ أي: لذلك الكافر ﴿الْيَوْمَ﴾؛ أي: في هذا اليوم، وهو يوم القيامة ﴿هَاهُنَا﴾؛ أي: في هذا المكان، وهو مكان الأخذ والغلّ. ﴿حَمِيمٌ﴾؛ أي: قريب نسبًا أو ودًّا يحيمه ويدفع عنه العذاب ويحزن عليه؛ لأن أولياءه يتحامونه ويفرون منه كقوله: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠)﴾. وقال في "عين المعاني": قريب يحترق له قلبه من حميم الماء. وقال الفاشانيّ: لاستيحاشه من نفسه فكيف لا يستوحش منه غيره وهو من تتمة ما يقال للزبانية في حقه إعلامًا بأنه محروم من الرحمة وحثًّا لهم على بطشه.
٣٦ - ﴿وَلَا طَعَامٌ﴾ له ﴿إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ والغسلين فعلين من الغسل، وفي "القاموس": الغسلين بالكسر: ما يغسل من الثوب ونحوه كالغسالة، وما يسيل من جلود أهل النار، والشديد الحرّ، وشجر في النار انتهى. والمعنى: وليس له طعام يأكله إلا من غسالة أهل النار وما يسل من أبدإنهم من الصديد والدم بعصر قوة الحرارة الناريّة منهم.
روي: "أنه لو وقعت قطرة منه على الأرض.. لأفسدت على الناس معايشهم".
٣٧ - وقوله: ﴿لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧)﴾ صفة لـ ﴿غِسْلِينٍ﴾. والتعبير (١) بالأكل باعتبار ذكر الطعام؛ أي: لا يأكل ذلك الغسلين إلَّا الآثمون أصحاب الخطايا، وهم المشركون، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. ويحتمل أن يراد بهم الذين يتخطون الحق إلى الباطل، ويتعدون حدود الله تعالى من خطىء الرجل من باب علم إذا تعمد الخطأ؛ أي: الذنب، فالخاطىء هو الذي يفعل ضدّ الصواب متعمدًا لذلك، والمخطىء هو الذي يفعله غير متعمد؛ أي: يريد الصواب فيصير إلى غيره من غير قصد، كما يقال: المجتهد يخطىء وقد يصيب. وفي "عين المعاني": الخاطئون طريق التوحيد. وقرأ الجمهور (٢) ﴿الْخَاطِئُونَ﴾ بالهمز اسم فاعل من خطىء، وهو الذي يفعل ضدّ الصواب متعمدًا لذلك ما ذكرنا آنفًا. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وطلحة، ونافع بخلاف عنه ﴿الخاطون﴾ بضمّ الطاء دون همز، فالظاهر اسم فاعل
(٢) البحر المحيط.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد الذين يتخطّون الحق إلى الباطل، ويتعدون حدود الله انتهى. فيكون اسم فعل من خطأ يخطو كقوله تعالى: ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ من خطا إلى المعاصي يخطو.
فإن قلت: كيف التوفيق بين (١) قوله: ﴿إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ وبين قوله: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦)﴾، وفي أخرى ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)﴾، وفي أخرى ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّار﴾؟
قلت: لا منافاة إذ يجوز أن يكون طعامهم جميع ذلك، أو أن العذاب أنواع والمعذبون طبقات. فمنهم أكلة غسلين، ومنهم أكلة الضريع، ومنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة النار. لكل منهم جزء مقسوم.
٣٨ - وقوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨)﴾؛ أي: بما تشاهدونه من المبصرات
٣٩ - ﴿و﴾ بـ ﴿مَا لَا تُبْصِرُونَ﴾؛ أي: بما لا تشاهدونه من المغيبات. ردّ لكلام (٢) المشركين، كأنّه قال: ليس الأمر كما تقولونه من كون القرآن شعرًا أو كهانة، فأقسم إنه لقول رسول كريم... إلخ. ﴿فَلَا﴾ زائدة. قال قتادة: أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر، فيدخل في هذا جميع المخلوقات. وقيل: إنّ ﴿لا﴾ ليست زائدة بل هي لنفي القسم؛ أي: لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق في ذلك. والأول أولى. وقال بعضهم: الكلام (٣) جملتان، و ﴿لا﴾ نافية لمحذوت والتقدير: وما قاله المكذبون فلا يصح إذ هو قول باطل ثمّ قال: أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون. يعني (٤): بما ترون وتشاهدون وبما لا ترون وما لا تشاهدون أقسم بالأشياء كلها، فيدخل فيه جميع المكوّنات والموجودات. وقيك: أقسم بالدنيا والآخرة، وقيل: بما تبصرون يعني: على ظهر الأرض وما لا تبصرون؛ أي: ما في بطنها. وقيل: بما تبصرون يعني: الأجسام وما لا تبصرون يعني: الأرواح. وقيل: بما تبصرون يعني: الإنس وما لا تبصرون يعني: الملائكة والجنّ. وقيل: بما تبصرون من النعم
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) الخازن.
٤٠ - ثم ذكر المقسم عليه، فقال: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ هذا القرآن الذي أنزل على محمد - ﷺ - ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ﴾؛ أي: لتلاوة نبيّ مرسل منّا إليكم ﴿كَرِيمٍ﴾ على الله تعالى، وهو محمد - ﷺ -. فهو في غاية الكرم الذي هو البعد عن مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الإباء. وكرم الشيء اجتماع الكمالات اللائقة به فيه. يدل على هذا المعنى مقابلة رسول بشاعر وكاهن؛ لأنَّ المعنى على إثبات أنه رسول لا شاعر ولا كاهن، ولم يقولوا لجبريل: شاعر ولا كاهن. وقيل: المعنى: أنّه لتبليغ ملك مرسل منّا إلى محمد - ﷺ - كريم عظيم عند الله تعالى، هو جبريل عليه السلام، وما هو من تلقاء محمد كما تزعمون وتدعون أنه شاعر أو كاهن. ويدل على هذا المعنى قوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠)﴾. وعلى كلا التقديرين فالقرآن ليس من قول محمد - ﷺ -، ولا من قول جبريل عليه السلام بل هو قول الله فلا بدّ من تقدير التلاوة أو التبليغ كما قدرنا.
فإن قلت (١): قد توجه هاهنا سؤال، وهو أن جمهور الأمّة، وهم أهل السنة مجمعون على أن القرآن كلام الله، فكيف يصح إضافته إلى الرسول؟.
قلت: أما إضافته إلى الله تعالى فلأنه هو المتكلم به، وأما إضافته إلى الرسول؛ فلأنّه هو المبلغ عن الله تعالى ما أوحي إليه، ولهذا أكّده بقوله: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠)﴾ ليزول هذا الإشكال. قال ابن قتيبة: لم يرد أنّه قول الرسول وإنّما أراد أنّه قول الرسول المبلّغ عن الله تعالى، وفي ﴿الرسول﴾ ما يدل على ذلك، فاكتفى به عن أن يقول: عن الله تعالى.
٤١ - ﴿وَمَا هُوَ﴾؛ أي: وما هذا القرآن ﴿بِقوَلِ﴾ رجل ﴿شَاعِرٍ﴾ ولا هو من ضروب الشعر ولا تركيبه كما تزعمون ذلك تارةً. والشاعر: هو الذي يأتي بكلام مقفى
والحاصل: أن القرآن كلام الله حقيقة أظهره في اللوح المحفوظ وكلام جبريل أيضًا من حيث إنه أنزله من السماوات إلى الأرض، وتلاه على خاتم النبين، وكلام سيد المرسلين أيضًا من حيث إنه أظهره للخلق، ودعا الناس إلى الإيمان به وجعله حجة لنبوته.
٤٢ - ﴿وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ﴾ كما تدعون ذلك تارةً أخرى ﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: تتفكرون؛ أي: تذكرًا قليلًا أو زمانًا قليلًا تتذكرون، و ﴿ما﴾ زائدة؛ أي: لا تتذكرون أصلًا، فالقلة بمعنى النفي كسابقه. وقرأ الجمهور بالتاء في الفعلين لمناسبة ﴿تُبْصِرُونَ﴾. وقرأ ابن كثير (٢) وابن عامر، ويعقوب بالياء فيهما التفاتًا من الخطاب إلى الغيبة. قال مقاتل: سبب نزول هذه الآية أنّ الوليد بن المغيرة قال: إنّ محمدًا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن. فردّ الله عليهم بذلك كما مر.
والكاهن (٣): هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويدّعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب. وفي "كشف الأسرار": الكاهن هو الذي يزعم أنَّ له خدمًا من الجن يأتونه بضرب من الوحي، وقد انقطعت الكهانة بعد نبيّنا محمد - ﷺ -؛ لأنّ الجنَّ حبسوا ومنعوا من الاستماع انتهى.
وقال الراغب في "المفردات": الكاهن هو الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية
(٢) البيضاوي.
(٣) روح البيان.
فإن قلت: لِمَ خص ذكر الإيمان مع نفي الشاعرّية والتذكر مع نفي الكاهنيّة؟
قلت: إن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بين لكونه نثرًا لا ينكره إلا معاند فلا مجال فيه لتوهم عذر لترك الإيمان، فلذلك وبخوا عليه وعجب منه بخلاف مباينته للكهانة، فإنها تتوقف على تذكر أحواله - ﷺ - ومعاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة ومعاني أقوالهم، فالكاهن ينصب نفسه للدلالة على الضوائع والإخبار بالمغيبات يصدق فيها تارة ويكذب كثيرًا، ويأخذ جعلًا على ذلك ويقتصر على من يسأله، وليس واحد منها من دأبه - ﷺ -.
والحاصل: أنَّ (١) الكاهن من يأتيه الشياطين، ويلقون إليه من أخبار السماء، فيخبر الناس بما سمعه منهم، وما يلقيه - ﷺ - من الكلام مشتمل على ذم الشياطين وسبهم، فكيف يمكن أن يكون ذلك بإلقاء الشياطين، فإنهم لا ينزلون شيئًا فيه ذمهم وسبهم لا سيما على من يلعنهم ويطعن فيهم، وكذا معاني ما يلقيه - ﷺ - منافية لمعاني أقوال الكهنة، فإنهم لا يدعون إلى تهذيب الأخلاق وتصحيح العقائد والأعمال المتعلقة بالمبدأ والمعاد، بخلاف معاني قوله - ﷺ -. فلو تذكر أهل مكة معاني القرآن ومعاني أقوال الكهنة.. لما قالوا بأنّه - ﷺ - كاهن. وفي "برهان القرآن": خص ذكر الشعر بقوله: ﴿مَا تُؤْمِنُونَ﴾ لأن من قال: القرآن شعر ومحمد شاعر بعدما علم اختلاف آيات القرآن في الطول والقصر واختلاف حروف مقاطعه، فلكفره وقلة إيمانه، فإن الشعر كلام موزون مقفى. وخص ذكر الكهانة بقول: ﴿مَا تَذَكَّرُونَ﴾؛ لأن من ذهب إلى أن القرآن كهانة، وأن محمدًا - ﷺ - كاهن فهو ذاهل عن ذكر كلام الكهان، فإنه أسجاع لا معاني تحتها، وأوضاع تنبو الطباع عنها، ولا يكون في
وحاصل معنى الآيات: فأقسم لكم بالأشياء كلها ما يبصر منها، وما لا يبصر إن هذا القرآن كلام الله سبحانه ووحيه أنزله على عبده ورسوله محمد - ﷺ -، وما هو بقول شاعر؛ لأنَّ محمدًا لا يحسن قول الشعر. تؤمنون بذلك القرآن إيمانًا قليلًا، والمراد أنهم لا يؤمنون أصلًا، أو يؤمنون بقلوبهم قليلًا، ثم يرجعون عنه سريعًا، ولا بقول كاهن كما تزعمون؛ لأنه سب الشياطين وشتمهم فلا يمكن أن يكون بلهامهم، ولكنكم لما لم تستطيعوا فهم أسرار نظمه قلتم من كلام الكهّان.
٤٣ - ثم أكد ما تقدم بقوله: ﴿تَنْزِيلٌ﴾؛ أي: بل كتاب منزل ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وإله الأولين والآخرين، أنزله على لسان جبريل تربية للسعداء وتبشيرًا لهم وإنذارًا للأشقياء، كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)﴾، وقال تعالى: ﴿وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾. فعبر عن اسم المفعول بالمصدر مبالغة.
وقرأ (١) ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بخلاف عنهما، والجحدريّ، والحسن ﴿يؤمنون﴾، ﴿يذكرون﴾ بالياء فيهما، وباقي السبعة بتاء الخطاب. وقرأ أبيّ ﴿تتذكرون﴾ بتاءين كما مرّ بعضه قريبًا نقلًا عن "البيضاوي". وقرأ الجمهور ﴿تَنْزِيلٌ﴾ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو تنزيل. وأبو السّمال ﴿تنزيلا﴾ بالنصب على المصدرية بضمار فعل؛ أي: نزل تنزيلًا. والمعنى: أنه لقول رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين على لسانه.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ﴾ بوزن تفعل مبنيًا للفاعل. والتقول: أن يقول الإنسان عن آخر، إنه قال شيئًا لم يقله. وقرأ ذكران وابن محمد ﴿يقول﴾ مضارع قال، وهذه القراءة معترضة بما صرحت به قراءة الجمهور، وقرىء ﴿ولو تُقُول﴾ مبنيًا للمفعول، وحذف الفاعل، وقام المفعول مقامه، وهو ﴿بعض﴾ إن كان قرىء مرفوعًا، وإن كان قرىء منصوبًا فـ ﴿علينا﴾ قام مقام الفاعل.
والمعنى: ولو تقول علينا متقول ولا يكون الضمير في ﴿تقول﴾ عائدًا على الرسول محمد - ﷺ - لاستحالة وقوع ذلك منه، فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه - ﷺ -، ذكره في "البحر".
٤٥ - ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ﴾ حال من قوله: ﴿بِالْيَمِينِ﴾؛ أي (٤): لأخذنا بيده اليمين منه. قال ابن جرير: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب. وقال الفراء والمبرد والزجاج وابن قتيبة: ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)﴾؛ أي:
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الشوكاني.
إِذَا مَارَايَةٌ نُصِبَتْ لِمَجْدٍ | تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِيْنِ |
وَلَمَّا رَأَيْتُ الشَّمْسَ أَشْرَقَ نُوْرُهَا | تَنَاوَلْتُ مِنْهَا حَاجَتِي بِالْيَمِيْنِ |
٤٦ - ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)﴾؛ أي: نياط قلبه بضرب عنقه. والنياط: عرق أبيض غليظ كالقصبة، علق به القلب تصادفه شفرة الناحر، إذا انقطع مات صاحبه. ولم يقل: لأهلكناه أو لضربنا عنقه؛ لأنه تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه أي: يواجهه بالسيف، ويضرب عنقه. فإنه إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده؛ أي عنقه وأن يكفحه؛ أي: يواجهه بالسيف، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه، فلذا خص اليمين دون اليسار.
قال الزمخشري: والمعنى: ولو ادعى مدعٍ علينا شيئًا لم نقله.. لقتلناه صبرًا كما تفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معالجة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته.
ومعنى الآية (١): أي ولو افترى محمد علينا بعض الأقوال الباطلة، ونسبها
٤٧ - ﴿فَمَا مِنْكُمْ﴾ أيها الناس ﴿مِّنْ أَحَدٍ عنهُ﴾؛ أي: عن القتل أو عن المقتول، وهو متعلق بقوله: ﴿حَاجِزِينَ﴾؛ أي: دافعين. فهو وصف لأحد، فإنه عام لوقوعه في سياق النفي، إذ هو في معنى الجماعة، فيقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كما جاء في قوله: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾، وقوله: ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾. فـ ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ (١) في محل الرفع بالابتداء، و ﴿مِنْ﴾ زائدة لتأكيد النفي، و ﴿مِنْكُمْ﴾ خبره، و ﴿حَاجِزِينَ﴾ صفة لـ ﴿أَحَدٍ﴾.
والمعنى: فما منكم قوم يحجزون؛ أي: يمنعون ويدفعون عن المقتول أو عن قتله وإهلاكه المدلول عليه بقوله: ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)﴾؛ أي: لا يقدر أحد على الحجز والدفع عنه، فكيف يتكلف الكذب على الله لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك.. لعاقبناه ولا تقدرون على الدفع عنه. وهذا مبنيّ على أصل لغة بني تميم، فإنهم لا يعملون ﴿ما﴾ لدخولها على القبيلتين الاسم والفعل، وقد يجعل ﴿حَاجِزِينَ﴾ خبرًا لـ ﴿ما﴾ على اللغة الحجازية، ولعله أولى. فتكون كلمة ﴿ما﴾ هي المشبهة بليس، فـ ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ اسم ﴿ما﴾، و ﴿حَاجِزِينَ﴾ خبرها، منصوب، و ﴿مِنْكُمْ﴾ حال مقدم وكان في الأصل صفة لـ ﴿أَحَدٍ﴾. وفي الآية تنبيه على أنَّ النبي - ﷺ - لو قال من عند نفسه شيئًا أو زاد أو نقص حرفًا واحدًا على ما أوحي إليه.. لعاقبه الله، وهو أكرم الناس عليه، فما ظنك بغيره ممن قصد تغيير شيء من كتاب الله بتأويله أو قال شيئًا من قبل نفسه؟ كما ضل بذلك بعض الفرق الضالة.
٤٨ - ﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: وإن هذا القرآن ﴿لَتَذْكِرَةٌ﴾؛ أي: لموعظة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: للذين اتقوا الشرك والمعاصي وحب الدنيا، فإنه يتذكر بهذا القرآن وينتفع به بخلاف المشركين، ومن مال إلى الدنيا وغلبه حبها، فإنه يكذّب به ولا ينتفع به.
٤٩ - {وَإنَا
والمعنى: أي وإنّ هذا القرآن.. لعظة وذكرى لمن يخشى عقاب الله فيطيع أوامره وينتهي عما نهى عنه. وخص المتقين بالتذكرة والعظة؛ لأنّهم هم الذين ينتفعون بها. ﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩)﴾ له بسبب حبكم للدنيا وحسدكم للداعي، وإنا لنجازيكم على ذلك بما تستحقون إظهارًا للعدل.
والخلاصة: أنّ منكم من اتقى الله فتذكر بهذا القرآن وانتفع به، ومنكم من مال إلى الدنيا فكذب به وأعرض عنه.
٥٠ - ﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: وإن هذا القرآن ﴿لَحَسْرَةٌ﴾ وندامة ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ المكذبين له يوم القيامة عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين المصدقين به، أو حسرة عليهم في الدنيا حين رأوا دولة المؤمنين أو حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم بأن يأتوا بأقصر سورة من مثله. ويجوز (٢) أن يعود الضمير إلى التكذيب المدلول عليه بقوله ﴿مُكَذِّبِينَ﴾.
٥١ - ﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: وإن هذا القرآن ككونه من عند الله ﴿لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾؛ أي: للحق اليقين الذي لا يحول حوله ريب، ولا يتطرق إليه شك في أنه من عند الله، لم يتقوله محمد - ﷺ -. فالحق واليقين صفتان بمعنى واحد، أضيف أحدهما إلى الآخر إضافة الشيء إلى نفسه كحب الحصيد للتأكيد، فإن الحق هو الثابت الذي لا يتطرق إليه الريب، وكذا اليقين.
٥٢ - ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)﴾؛ أي: فسبح الله سبحانه وتعالى يا محمد ونزهه عما لا يليق به بذكر اسمه العظيم بأن تقول سبحان الله تنزيهًا له عن الرضى بالتقول عليه وشكرًا له على ما أوحى به إليك من هذا القرآن الجليل الشأن. فمفعول سبح محذوف، والباء في ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ للاستعانة (٣) كما في ضربته
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
الإعراب
﴿الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣)﴾.
﴿الْحَاقَّةُ (١)﴾ مبتدأ أوّل أو صفة لمحذوف؛ أي: القيامة الحاقة أو الساعة الحاقة. ﴿مَا﴾ اسم استفهام تعظيمي في محل الرفع مبتدأ ثان، ﴿الْحَاقَّةُ (٢)﴾ خبر لـ ﴿ما﴾ الاستفهامية، والجملة خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة استئنافًا نحويًا لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾ اسم استفهام للتعظيم أيضًا في محل الرفع مبتدأ، ﴿أَدْرَاكَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، والكاف مفعول أول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ ﴿مَا﴾ الاستفهامية، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مستأنفة. ﴿وَمَا﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿الْحَاقَّةُ﴾ خبر لـ ﴿مَا﴾، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني والثالث لـ ﴿أَدْرَاكَ﴾؛ لأن أدرى بمعنى أعلم، ينصب ثلاثة مفاعيل، وقد علّقت ﴿أَدْرَاكَ﴾ عن العمل بالاستفهام.
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦)﴾.
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ فعل وفاعل، ﴿وَعَادٌ﴾ معطوف على ثمود، ﴿بِالْقَارِعَةِ﴾ متعلق بـ ﴿كَذَّبَتْ﴾ والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحوال الحاقة. ﴿فَأَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن ثمود وعادًا كذبتا، وأردت بيان عاقبة تكذيبهما فأقول لك. ﴿أما﴾ حرف شرط وتفصيل، ﴿ثَمُوُد﴾ مبتدأ، ﴿فَأُهْلِكُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أمّا﴾، واقعة في
﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (٨)﴾.
﴿سَخَّرَهَا﴾ فعل وفاعل مستتر يعود على الله تعالى، ومفعول به، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿سَخَّرَهَا﴾، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثالثة لـ ﴿ريح﴾، ولكنها سببية، ﴿سَبْعَ لَيَالٍ﴾ منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ ﴿سَخَّرَهَا﴾، ﴿وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ﴾ معطوف عليه، ﴿حُسُومًا﴾ صفة لـ ﴿سَبْعَ لَيَالٍ﴾. ﴿وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ﴾؛ أي: متتابعات أو منصوب على المصدرية بفعل محذوف من لفظه؛ أي: تحسمهم حسومًا أو حال من مفعول ﴿سَخَّرَهَا﴾؛ أي: ذات حسوم. ﴿فَتَرَى﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ترى﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمّد - ﷺ -، أو على من يصلح للخطاب، ﴿الْقَوْمَ﴾ مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿سَخَّرَهَا﴾، ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿ترى﴾، والضمير على الليالي والأيّام أو على الريح، ﴿صَرْعَى﴾ حال من القوم؛ لأن الرؤية هنا بصرية ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ﴾ خبره ومضاف إليه، ﴿خَاوِيَةٍ﴾ صفة ﴿نَخلٍ﴾، وجملة ﴿كأن﴾ في محل النصب حال ثانية من القوم. ﴿فَهَلْ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿هل﴾ حرف استفهام للاستفهام الإنكاري، ﴿تَرَى﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد أو على؛ أي مخاطب، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿تَرَى﴾، ﴿مِنْ﴾ زائدة، ﴿بَاقِيَةٍ﴾ مفعول ﴿ترى﴾، أي: من نفس باقية، والجملة مستأنفة.
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (١٠)
﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على سابقها، ﴿وَمَن﴾ معطوف على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، ﴿قَبْلَهُ﴾ ظرف متعلق بمحذوف صلة من الموصولة، ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ معطوف أيضًا على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ متعلق بـ ﴿جاء﴾، ﴿فَعَصَوْا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿عصوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿جاء﴾، ﴿رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ مفعول به، ﴿فَأَخَذَهُمْ﴾ فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، معطوف على ﴿عصوا﴾. ﴿أَخْذَةً﴾ مفعول مطلق، ﴿رَابِيَةً﴾ صفة لـ ﴿أَخْذَةً﴾؛ لأنّها مصدر مّرة، وليست مصدر هيئة، وإنما يستفاد معنى الهيئة من الصفة. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿لَمَّا﴾ اسم شرط غير جازم، أو ظرفية بمعنى حين، ﴿طَغَى الْمَاءُ﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾، ﴿حَمَلْنَاكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، أو في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾ وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة. ﴿فِي الْجَارِيَةِ﴾ متعلق بـ ﴿حَمَلْنَاكُمْ﴾، ﴿لِنَجْعَلَهَا﴾ اللام حرف جرّ وتعليل، ﴿نجعلها﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة، ﴿لَكُمْ﴾ حال من ﴿تَذْكِرَةً﴾ لأنها صفة نكرة قدمت عليها، ﴿تَذْكِرَةً﴾ مفعول ثان لـ ﴿نجعل﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المضمرة، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لجعلنا إيّاها تذكرة لكم، والضمير في ﴿نجعلها﴾ عائد على الفعلة، وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿حَمَلْنَاكُمْ﴾، ﴿وَتَعِيَهَا﴾ فعل ومفعول به، معطوف على ﴿نجعلها﴾ ﴿أُذُنٌ﴾ فاعل ﴿وَاعِيَةٌ﴾ صفة ﴿أُذُنٌ﴾، ﴿فَإذَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿نُفِخَ﴾ فعل ماض مجهول، ﴿فِي الصُّورِ﴾ متعلق بـ ﴿نُفِخَ﴾ ﴿نَفْخَةٌ﴾ نائب فاعل، ﴿وَاحِدَةٌ﴾ صفة ﴿نُفِخَ﴾، والجملة الفعلية في محل، الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، والظرف متعلق بـ ﴿وَقَعَتِ﴾ الآتي. ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ﴾ فعل ونائب فاعل في محل الجر، معطوف على ﴿نُفِخَ﴾، ﴿وَالْجِبَالُ﴾ معطوف على الأرض، ﴿فَدُكَّتَا﴾ الفاء عاطفة، ﴿دك﴾ فعل ماض مغير الصيغة، والتاء: علامة تأنيث نائب الفاعل، والألف نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿حملت﴾، ﴿دَكَّةً﴾ مفعول مطلق، ﴿وَاحِدَةً﴾ صفة ﴿دَكَّةً﴾.
﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾، ﴿يوم﴾ منصوب على الظرفية الزمانية، وهو مضاف، ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾، والتنوين عوض عن جملة مكونة من جملتي ﴿نُفِخَ﴾ و ﴿حملت﴾، والظرف متعلق بـ ﴿وَقَعَتِ﴾ على كونه بدلًا من ﴿إذا﴾. ﴿وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. ﴿وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿وَقَعَتِ﴾، ﴿فَهِيَ﴾ مبتدأ، والفاء: عاطفة ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف مضاف إلى مثله متعلق بـ ﴿وَاهِيَةٌ﴾، و ﴿وَاهِيَةٌ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿انشقت﴾. ﴿وَالْمَلَكُ﴾ مبتدأ، ﴿عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة ﴿انشقت﴾ أو حال من ﴿السَّمَاءُ﴾، ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ﴾ فعل مضارع ومفعول به، ﴿فَوْقَهُمْ﴾ ظرف، متعلق بمحذوف حال من العرش؛ أي: حال كونه فوق الملائكة، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف أضيف إلى مثله، متعلق بـ ﴿يحمل﴾، ﴿ثَمَانِيَةٌ﴾ فاعل يحمل، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَقَعَتِ﴾، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿تُعْرَضُونَ﴾، و ﴿تُعْرَضُونَ﴾ فعل ونائب فاعل مرفوع بالنون، والجملة مستأنفة. ﴿لَا﴾ نافية، ﴿تَخْفَى﴾ فعل مضارع، ﴿مِنْكُمْ﴾ حال من ﴿خَافِيَةٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها، ﴿خَافِيَةٌ﴾ فاعل، والجملة في محل النصب حال من واو ﴿تُعْرَضُونَ﴾.
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩)﴾.
﴿فَأَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنكم تعرضون على الله وأردتم بيان حالكم بعد العرض.. فأقول لكم: ﴿أمّا﴾. ﴿أما﴾ حرف شرط وتفصيل، ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل رفع مبتدأ، ﴿أُوتِيَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿كِتَابَهُ﴾ مفعول ثان لـ ﴿أُوتِيَ﴾؛ لأنّه بمعنى أعطي. ﴿بِيَمِينِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أُوتِيَ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَيَقُولُ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿أمّا﴾، واقعة في غير موضعها، ﴿يقول﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿من﴾، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ، والخبر
﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)﴾.
﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿ظَنَنْتُ﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول القول، ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، ﴿مُلَاقٍ﴾ خبره، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل، وجملة ﴿أنَّ﴾ المفتوحة في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي ﴿ظَنَنْتُ﴾، ﴿حِسَابِيَهْ﴾ مفعول به لـ ﴿مُلَاقٍ﴾؛ لأنّه اسم فاعل، والياء: مضاف إليه، والهاء: حرف زائد للسكت، ﴿فَهُوَ﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم مقالته وأردتم بيان عاقبته.. فأقول لكم: فهو في عيشة راضية، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿هو﴾ مبتدأ، ﴿فِي عِيشَةٍ﴾ خبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، و ﴿رَاضِيَةٍ﴾ صفة لـ ﴿عِيشَةٍ﴾، ﴿فِي جَنَّةً﴾ جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: ﴿فِي عِيشَةٍ﴾، ﴿عَالِيَةٍ﴾ صفة لـ ﴿جَنَّةً﴾، ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣)﴾ مبتدأ وخبر، والجملة صفة ثانية لـ ﴿جَنَّةٍ﴾، ﴿كُلُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، ﴿والواو﴾: فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف أي: يقال
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧)﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أمّا﴾ حرف شرط، ﴿مَنْ﴾ مبتدأ، ﴿أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾ فعل مغير ونائب فاعل ومفعول به ثان، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿بِشِمَالِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أُوتِيَ﴾، ﴿فَيَقُولُ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿أمّا﴾، وجملة ﴿يقول﴾ خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر جواب ﴿أمّا﴾، وجملة ﴿أمّا﴾ معطوفة على جملة ﴿أمّا﴾ الأولى، ﴿يَا لَيْتَنِي﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء، والمنادى محذوف؛ أي: يا أهل المحشر ليتني... إلخ. وجملة النداء في محل النصب مقول القول أو ﴿يا﴾ حرف تنبيه، ﴿ليت﴾ حرف تمنّ ونصب، تعمل عمل ﴿إن﴾، والنون للوقاية، والياء اسمها، وجملة ﴿لَمْ أُوتَ﴾ خبرها، و ﴿ليت﴾ في محل النصب مقول القول، ﴿كِتَابِيَهْ﴾ مفعول به ثان، والأول نائب فاعل مستتر، ﴿وَلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لم﴾ حرف نفي وجزم، ﴿أَدْرِ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير مستتر، ﴿مَا﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿حِسَابِيَهْ﴾ خبرها، ﴿والها﴾: للسكت، والجملة الاسمية سدّت مسدَّ مفعولي ﴿أَدْرِ﴾، علقت عنها باسم الاستفهام، والاستفهام للتعظيم والتهويل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿لم أُوتَ﴾. ﴿يَا لَيْتَهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء أو حرف تنبيه كما تقدم آنفًا، ﴿ليت﴾ حرف تمنّ ونصب، والهاء اسمها، والضمير يعود على الموتة في الدنيا، وجملة ﴿كَانَتِ﴾ خبر ﴿ليت﴾، وجملة ﴿ليت﴾ في محل النصب مقول القول، واسم كان ضمير مستتر يعود على الموتة في الدنيا، ﴿الْقَاضِيَةَ﴾ خبر ﴿كان﴾.
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ
﴿مَا﴾: نافية، ﴿أَغْنَى﴾ فعل ماض، ﴿عَنِّي﴾ متعلق بـ ﴿أَغْنَى﴾، ﴿مَالِيَهْ﴾ فاعل ﴿أَغْنَى﴾، ومفعول ﴿أَغْنَى﴾ محذوف؛ أي: ما دفع عنّي العذاب، والجملة في محل النصب مقول القول، وإن شئت قلت: ﴿مَا﴾ اسم استفهام للتوبيخ وبَّخ نفسه في محل النصب على المفعولية المطلقة لـ ﴿أَغْنَى﴾، أي: أيّ إغناء أغنى عنّي ما كان في الدنيا من المال والأتباع، ويجوز في ﴿مَالِيَهْ﴾ أن تكون ﴿مَا﴾ اسم موصول، هي فاعل أغنى، ﴿ليه﴾ جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة؛ أي؛ الذي ثبت واستقر لي في الدنيا، والأوّل أرجح. ﴿هَلَكَ﴾ فعل ماض، ﴿عَنِّي﴾ متعلق بـ ﴿هَلَكَ﴾، ﴿سُلْطَانِيَهْ﴾ فاعل ﴿هَلَكَ﴾، والجملة الفعلية مقول القول، ﴿سُلْطَانِيَهْ﴾ مضاف والياء: ضمير المتكلم مضاف إليه، والهاء: للسكت. ﴿خُذُوُه﴾ فعل أمر، والواو: فاعل، والهاء مفعول به، والجملة مقول لقول مقدر تقديره: ويقال للزبانية: خذوه، وجملة القول المقدر مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر كأنّه قيل: وما يفعل به بعد هذا التحسر الصادر منه؟ فقيل: يقال: خذوه. ﴿فَغُلُّوهُ﴾ فعل أمر وفاعل ومفعول به، معطوف على خذوه، ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع التراخي كما مرّ البحث عنه، ﴿الْجَحِيمَ﴾ منصوب على الظرفية المكانية أو على أنه مفعول به على السعة، ﴿صَلُّوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَغُلُّوهُ﴾، ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع التراخي، والمعطوف بها قول مقدر معطوف على قول مقدر فيما قبلها، تقديره: قيل لخزنة جهنم: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم قيل لهم: ﴿فِي سِلْسِلَةٍ...﴾ إلخ. فتكون الفاء لعطف المقول على المقول، و ﴿ثم﴾ لعطف القول على القول، ﴿فِي سِلْسِلَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿اسلكوه﴾، ﴿ذَرْعُهَا﴾ مبتدأ، ﴿سَبْعُونَ﴾ خبره، ﴿ذَرْعُهَا﴾ تمييز، والجملة الاسمية في محل الجرّ صفة لـ ﴿سِلْسِلَةٍ﴾. ﴿فَاسْلُكُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿اسلكوه﴾ فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿صَلُّوهُ﴾.
﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧)﴾.
﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة إنّ
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)﴾.
﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿لا﴾ زائدة، ﴿أُقْسِمُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله والجملة مستأنفة. ﴿بمَا﴾ متعلق بأقسم، وجملة ﴿تُبْصِرُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما تبصرونه. ﴿وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩)﴾ معطوف على ﴿مَا تُبْصِرُونَ﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَقَوْلُ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿قول﴾ خبر ﴿إنّ﴾ ﴿رَسُولٍ﴾ مضاف إليه، ﴿كَرِيمٍ﴾ صفة ﴿رَسُولٍ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾، عاطفة، ﴿مَا﴾ حجازية، ﴿هُوَ﴾ اسمها، ﴿بِقَوْلِ﴾ خبر ﴿مَا﴾ الحجازية، والباء زائدة، ﴿شَاعِرٍ﴾ مضاف إليه، وجملة ﴿مَا﴾ معطوفة على جملة ﴿إنّ﴾، ﴿قَلِيلًا﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: إيمانًا قليلًا، أو صفة لزمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا، ﴿مَا﴾ زائدة لتأكيد القلّة، ﴿تُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معترضة. ﴿وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ﴾ معطوف على ﴿بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾، ﴿قَلِيلًا﴾ صفة لمصدر محذوف، ﴿مَا﴾ زائدة، وجملة ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ مستأنفة. ﴿تَنْزِيلٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو تنزيل، ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ متعلق بـ
﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)﴾.
﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿مَا﴾ نافية حجازية، ﴿مِنْكُمْ﴾ حال ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾، لأنّه كان في الأصل صفة لـ ﴿أَحَدٍ﴾، فلما تقدم عليه صار حالًا منه، ﴿مِنْ﴾ زائدة، ﴿أَحَدٍ﴾ اسم ﴿مَا﴾ الحجازية، ﴿عَنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿حَاجِزِينَ﴾، و ﴿حَاجِزِينَ﴾ خبر ﴿مَا﴾ الحجازية؛ لأنّه هو محط الفائدة، والجملة معطوفة على جملة ﴿قطعنا﴾. ﴿وَإِنَّهُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إنه﴾ ناصب واسمه، ﴿لَتَذْكِرَةٌ﴾ خبره، واللام: حرف ابتداء، ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ متعلق بـ ﴿تذكرة﴾ والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)﴾ لأنّه من جملة المقسم عليه، وما بينهما اعتراض. ﴿وَإِنَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿لَنَعْلَمُ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، وجملة ﴿نعلم﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾؛ وجملة ﴿إنّ﴾ معطوفة أيضًا على جواب القسم أوّل السورة، ﴿أَنَّ﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿مِنْكُمْ﴾ خبرها مقدم، ﴿مُكَذِّبِينَ﴾ اسمها مؤخر، وجملة ﴿أنّ﴾ في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي ﴿نعلم﴾. ﴿وَإِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَحَسْرَةٌ﴾ خبره. والجملة معطوفة على جواب القسم ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ صفة لـ ﴿حسرة﴾ أو متعلق به، ﴿وَإِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾ خبره، واللام حرف ابتداء، والجملة معطوفة على جواب القسم أيضًا. ﴿فَسَبِّحْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: ﴿سبح﴾. ﴿سبّح﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ متعلق بـ ﴿سبح﴾ أو الباء: زائدة، و ﴿الْعَظِيمِ﴾ صفة لـ ﴿رَبِّكَ﴾، وجملة التسبيح في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿الْحَاقَّةُ (١)﴾ من أسماء القيامة، اسم فاعل من حقّ الشيء يحقّ بالكسر إذا وجب وثبت؛ أي: الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء. وأصله: الحاققة أدغمت القاف الأولى في الثانية. ﴿مَا الْحَاقَّةُ (٢)﴾؛ أي: أيّ شيء هي تفخيمًا لشأنها وتعظيمًا لهولها. ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣)﴾؛ أي: أيّ شيء أعلمك ما هي، فلا عِلْمَ لك بحقيقتها، إذ بلغت من الشدة والهول إلى ما لا يبلغها علم المخلوقين. و ﴿أدراك﴾ من الدراية بمعنى العلم، يقال: دراه، ودرى به دراية من باب رمى، وأدراه: أعلمه. وأصله: أدريك بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤)﴾ والقارعة هي الحاقّة؛ أي: الساعة. والقيامة سمّيت بالقارعة؛ لأنّها تقرع قلوب الناس وتفزعها بفنون الأفزاع والأهوال. والقرع في اللغة: نوع من الضرب، وهو إمساس جسم لجسم بعنف. وفي "المصباح": وقرعت الباب من باب نفع: طرقته ونقرت عليه. ﴿بِالطَّاغِيَةِ﴾؛ أي: بالصيحة التي جاوزت حدَّ سائر الصيحات في الشدّة، فرجفت منها الأرض، والمراد بها الصاعقة. ﴿بِرِيحٍ﴾ والياء فيه منقلبة عن واو، وأصله: روح لجمعه على أرواح، فلمّا سكنت الواو في المفرد بعد الكسرة قلبت ياء، كما قلبت ياء في الجمع فقيل: الرياح لوقوعها بعد كسرة، وقبل ألف كصيام. ﴿صَرْصَرٍ﴾ أي: شديدة الصوت التي لها صرصرة، أو شديدة البرد من الصرّ، وهو البرد. ﴿عَاتِيَةٍ﴾؛ أي: بالغة نهاية القوّة والشدّة، أو التي عتت عن الطاعة، فكأنّها عتت على خزّانها، فلم تطعهم، ولم يقدروا على ردّها لشدّة هبوبها، أو عتت على عادٍ، فلم يقدروا على دفعها بل أهلكتهم.
وفي قوله: ﴿عَاتِيَةٍ﴾ إعلال بالقلب، أصله: عاتوة من عتا يعتو، فلما تطرفت الواو بعد كسرة قلبت ياء. ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: سلّطها عليهم، من التسخير، وهو سوق الشيء إلى الغرض المختصّ به قهرًا. ﴿سَبْعَ لَيَالٍ﴾ ذكر العدد؛ لأنَّ المعدود وهو ليلة مؤنّث؛ لأنّ الآحاد من أسماء العدد تجري على خلاف القياس لكون الليالي جمع ليلة، وهي مؤنثّة، وتجمع الليلة على الليالي بزيادة الياء على غير
﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ﴾ جمع عجز، وهو الأصل. وفي "القاموس": العجز مثلثة وكندس والندس بوزن عضد: الفرح وككتف مؤخر الشي، وأعجاز النخل: أصولها انتهى. والنخل اسم جنس مفرد لفظًا وجمع معنى، واحدتها نخلة. ﴿خَاوِيَةٍ﴾؛ أي: خالية الأجواف لا شيء فيها، وأصل الخوى: الخلاء، يقال: خوى بطنه من الطعام؛ أي: خلا. ﴿مِنْ بَاقِيَةٍ﴾ والباقية اسم كالبقيّة، لا وصف، والتاء للنقل إلى الاسميّة، أو مصدر بمعنى البقاء كالكاذبة والعاقبة.
﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾؛ أي: المنقلبات، وهي قرى قوم لوط، جعل الله عاليها سافلها بالزلزلة، يقال: أفكه عن الشيء؛ أي: قلبه، وائتفكت البلدة بأهلها؛ أي: انقلبت. ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ مصدر بمعنى الخطأ كالعاقبة. ﴿رَابِيَةً﴾؛ أي: زائدة في الشدّة على عقوبات سائر الكفّار. يقال: ربا الشي يربو إذا زاد، ومنه: الربا الشرعيّ، وهو الفضل الذي يأخذه آكل الربا.
﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ أصله: عصيوا بوزن فعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. وقوله: ﴿رَابِيَةً﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: رابوه من ربا يربو قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة. ﴿لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ تجاوز حدّه وارتفع، وفيه إعلال بالقلب، أصله: طغي بوزن فعل قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿حَمَلْنَاكُمْ﴾؛ أي: حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. ﴿فِي الْجَارِيَةِ﴾ وهي السفينة التي تجري في الماء. ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾؛ أي: تحفظها وتقول لكل ما حفظته في
وفي "الصحاح": الدكّ: الدقّ، وقد دكه إذا ضربه وكسره حتى سواه بالأرض، وبابه: ردّ. وفي "المفردات": الدك: الأرض اللينة السهلة، ودكّت الجبال دكّا؛ أي: جعلت بمنزلة الأرض اللينة، ومنه: الدكّان. ﴿فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ أي: مسترخية ضعيفة القوّة، من قولهم: وهي السقاء إذا انخرق، ومن أمثالهم قول الراجز:
خَلِّ سَبِيْلَ مَنْ وَهَى سِقَاؤُهُ | وَمَنْ هُرِيْقَ بالْفَلَاةِ مَاؤُهُ |
﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: راضوة من الرضوان، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة، أي: عيشة مرضية لصاحبها، وهو مما جاء فيه فاعل بمعنى مفعول نحو قوله تعالى: ﴿مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ بمعنى مدفوق بمعنى: أنَّ صاحبها يرضى بها، ولا يسخطها كما جاء مفعول بمعنى فاعل كقوله تعالى: ﴿حِجَابًا مَسْتُورًا﴾؛ أي: ساترًا. ﴿عَالِيَةٍ﴾ فيه إعلال أيضًا بالقلب، أصله: عالوة من العلوّ، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة. ﴿قُطُوفُهَا﴾ جمع قطف بالكسر، وهو ما يُقطف ويُجنى بسرعة، والقطف بالفتح مصدر. ﴿دَانِيَةٌ﴾ أصله أيضًا: دانوة، من الدنوّ قلبت الواو ياء
﴿فَغُلُّوهُ﴾ يقال: غل فلان إذا وضع في عنقه أو يده الغلّ، وهو بالضمّ: الطوق من حديد الجامع لليد إلى العنق المانع عن تحرك الرأس. ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١)﴾ أصله: صليوه، استثقلت الضمة على الياء فحذفت تخفيفًا فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت اللام لمناسبة الواو. ﴿ذَرْعُهَا﴾ أي: طولها. ﴿سَبْعُونَ ذِرَاعًا﴾، والذراع ككتاب: ما يذرع به حديدًا كان أو قضيبًا. وفي "المفردات": الذراع: العضو المعروف ويعبّر به عن المذروع والممسوح، يقال: ذراع من الثوب أو الأرض.
﴿فَاسْلُكُوهُ﴾ السلك: هو الإدخال في الطريق أو الخيط أو القيد أو في غيرها. ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)﴾ أصله: يحضض بوزن يفعل، نقلت حركة الضاد الأولى إلى الحاء فسكنت فأدغمت في الضاد الثانية، من الحضّ هو البعث والحثّ على الفعل والحرص على وقوعه، ومنه: حروف التحضيض المبوّب له في النحو؛ لأنه يطلب به وقوع الفعل وإيجاده اهـ "سمين". ﴿إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ هو فعلين، من الغسل، فنونه وياؤه زائدتان. قال أهل اللغة: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت، وفي كتب التفسير: هو صديد أهل النار، وقيل: هو شجر يأكلونه. وفي "الكواشي": أو نونه غير زائدة، وهو شجر في النار، وهو من أخبث طعامهم.
﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ فيه حذف إحدى التاءين، أصله: تتذكرون، وقرىء بتشديد الذال على أنّ التاء الثانية أدغمت في الذال. ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا﴾ التقول افتعال القول واختلاقه؛ لأن فيه تكلّفا من المفتعل. قال أبو حيان: التقوّل: أن يقول الإنسان عن آخر: إنّه قال شيئًا لم يقله. ﴿بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ﴾ الأقاويل جمع الجمع؛ لأنّه جمع أقوال وأقوال جمع قول كبيت وأبيات وأباييت. قال الزمخشري: وسمّيت الأقوال المتقولة
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإطناب بتكرار لفظ ﴿الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢)﴾ للتهويل والتعظيم.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿الْحَاقَّةُ (١)﴾. لأنَّ المراد بها الزمان الذي يحقّ أن يتحقق فيه ما أنكر في الدنيا من البعث، فيصير فيها محسوسًا مشاهدًا بالعيان على حدّ قولهم: نهاره صائم وليله قائم.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿مَا الْحَاقَّةُ (٢)﴾ تأكيدًا لهولها، الأصل: ما هي؛ أي: أيّ شيء هي في حالها وصفتها؟.
ومنها: وضع القارعة موضع ضمير الحاقة في قوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤)﴾ للدلالة على معنى القرع فيها زيادة في وصف شدتها فإن في القارعة ما ليس في الحاقة من الوصف؛ لأنَّ الأصل أن يقال: كذّبت ثمود وعاد بها.
ومنها: الإجمال في قوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤)﴾ ثم التفصيل بقوله: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦)...﴾ إلخ. لزيادة البيان والإيضاح، وفيه أيضًا من المحسنات البديعية اللفّ والنشر المرتب.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿حُسُومًا﴾، لأنّه من استعمال المقيّد، وهو الحسم الذي هو تتابع الكيّ في مطلق التتابع، وقيل: فيه استعارة تصريحية تبعية، فقد شبه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكيّ القاطع للداء، فاستعار له الاسم الدالّ على المشبه به على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ لذكر الأداة فيه مع حذف وجه السببه، فقد شبهم بالجذوع لطول قاماتهم، وكان الريح تقطع رؤوسهم كما تقطع رؤوس النخل المتطاولة خلال تلك الإيّام الثمانية والليالي
ومنها: التعبير عن الريح الصرصر، وهو مفرد بلفظ الجمع، وهو ﴿حسومًا﴾ نظرًا إلى تكثّرها باعتبار وقوعها في تلك الليالي والأيّام.
ومنها: التخصيص في قوله: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ بعد التعميم في قوله: ﴿وَمَنْ قَبْلَهُ﴾ لغرض التتميم؛ لأنَّ قوم لوط أتوا بفاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين.
ومنها: مقابلة الجمع بالجمع المستدعية لانقسام الآحاد على الآحاد في قوله: ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾.
ومنها: المجاز العقليّ في قوله: ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾؛ أي: بالفعلة الخاطئة كقولهم: شعر شاعر.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾، وهي من باب استعارة المعقول للمحسوس للاشتراك في أمر معقول، وهي الاستعارة المركّبة من الكثيف واللطيف، فالمستعار الطغيان، وهو الاستعلاء المنكر، والمستعار منه كلّ مستعل متكبّر متجبّر مضرّ، والمستعار له الماء، والطغيان معقول، والماء محسوس، والمستعار منه محسوس. وقيل: فيه استعارة تصريحية تبعيّة؛ لأنَّ الطغيان من صفات الإنسان، فشبّه ارتفاع الماء وكثرته بطغيان الإنسان بجامع العلّو في كلّ على طريق الاستعارة التصريحية التبعيّة.
ومنها: التنكير والتوحيد في قوله: ﴿أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾، حيث لم يقل الآذان الواعية للدلالة على قلتها، وأن من هذا شأنه مع قلته يتسبب لنجاة الجم الغفير، وإدامة نسلهم.
ومنها: التأكيد بذكر الواحدة في قوله: ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ وفي قوله: ﴿دَكَّةً وَاحِدَةً﴾، لأنّ النفخة والدكّة لا تكون إلّا واحدة.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿نُفِخَ﴾ ﴿نَفْخَةٌ﴾ وقوله ﴿فَدُكَّتَا دَكَّةً﴾ وقوله: ﴿لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ﴾؛ أي: تسألون وتحاسبون، شبه المحاسبة عند الله بعرض العسكر على الملك لتعرف أحوالهم،
ومنها: تقديم ﴿مِنْكُمْ﴾ على ﴿خَافِيَةٌ﴾ مع كونه صفة لها لرعاية الفاصلة.
ومنها: المقابلة البديعة في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ...﴾ إلخ، حيث قابلها بقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ إلخ.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾؛ لأنّ العيشة إنّما تكون مرضية لا راضية، فهو من إسناد ما للفاعل إلى المفعول.
ومنها: إسناد الهناءة إلى الأكل والشرب في قوله: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا﴾ مجازًا للمبالغة؛ لأنّ الهناءة إنّما تكون للمأكول والمشروب.
ومنها: تقديم الجحيم على ﴿صَلُّوهُ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١)﴾، وتقديم ﴿سِلْسِلَةٍ﴾ على ﴿فَاسْلُكُوهُ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢)﴾ لغرض التخصيص والحصر والاهتمام بذكر ألوان ما يعذب به.
ومنها: تخصيص الطول بسبعين ذراعًا مبالغة في إرادة الوصف بالطول، كما قال: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ يريد مرّات كثيرة؛ لأنّها إذا طالت كان الإرهاق أشدُّ، فهو كناية عن زيادة الطول.
ومنها: ذكر الحض في قوله: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)﴾ دون الفعل، حيث لم يقل: ولا يطعم المسكين للإشعار بأنّه إذا كان تارك الحضّ بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل؟.
ومنها: عطف حرمان المسكين على ترك الإيمان في قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)﴾ للدلالة على أنَّ حرمان المسكين صفة للكفرة، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٧)﴾.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩)﴾.
ومنها: زيادة ﴿ما﴾ في قوله: ﴿قَلِيلًا مَا﴾ لتأكيد القلّة، أو لنفيها كما مر.
ومنها: إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول في قوله: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣)﴾ لإفادة المبالغة.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)﴾ لأن اليمين مجاز عن القوة؛ لأنَّ قوة كل شيء في ميامنه، فيكون من قبيل ذكر المحل، وإرادة الحال أو ذكر الملزوم، وارادة اللازم، لأنّ المعنى: سلبنا منه القوة والقدرة على التكلم بذلك.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)﴾، لأنّه كناية عن إهلاكه وإماتته.
ومنها: الحذف والزيادة في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
* * *
تضمنت هذه السورة الكريمة خمسة مقاصد:
١ - هلاك الأمم المكذّبة لرسلها في الدنيا من أوّل السورة إلى قوله: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾.
٢ - عذاب الآخرة جزاء على التكذيب في الدنيا.
٣ - إثبات أن القرآن العظيم وحي من عند الله تعالى، وليس بقول شاعر ولا بقول كاهن.
٤ - إهلاكه - ﷺ - لو تقول عليه شيئًا ما من الأقاويل الباطلة الكاذبة على سبيل الفرض والتقدير.
٥ - أمره - ﷺ - بتنزيه ربه عما يقول المشركون، شكرًا له على ما أوحي إليه من الوحي الكريم والقرآن العظيم (١).
والله أعلم
* * *
سورة المعارج ويقال لها: سورة سأل سائل، مكيّة. قال القرطبي باتفاق نزلت بعد الحاقّة. وأخرج ابن الضريس والنحاس، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت سورة سأل بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآياتها: أربع وأربعون، وكلماتها (١): مئتان وأربع وعشرون. وحروفها: تسع مئة وتسعة وعشرون حرفًا.
مناسبتها لما قبلها (٢): أنّها كالتتمة لما قبلها في وصف القيامة وعذاب النار. وقال أبو حيان: مناسبة أولها لآخر ما قبلها أنَّه لما ذكر فيما قبلها ﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ﴾ أخبر عما صدر عن بعض المكذبين بنقم الله، وإن كان السائل نوحًا عليه السلام، أو الرسول - ﷺ -، فناسب تكذيب المكذبين أن دعا عليهم رسولهم حتى يصابوا فيعرفوا صدق ما جاءهم، ذكره في "البحر".
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم: سورة المعارج كلها مكيّة، وجميعها محكم إلّا آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا﴾ الآية (٤٢) نسخت بآية السيف.
والله أعلم
* * *
(٢) المراغي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (١٦) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (١٨) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٣٤) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (٤٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)﴾.المناسبة
تقدم قريبًا بيان مناسبة هذه السورة لما قبلها، وقد بدأ سبحانه وتعالى بأنّه كان أهل مكة يقول بعضهم لبعض: إنَّ محمدًا يخوفنا بالعذاب فما هذا العذاب ولمن هو؟ فنزلت هذه الآيات إلى قوله: ﴿وَجَمَعَ فَأَوْعَى (١٨)﴾ كما سيأتي.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩)...﴾ إلى قوله: {فِي جَنَّاتٍ
وهذه الخصال هي:
(١) الصلاة.
(٢) المداومة عليها في أوقاتها المعلومة.
(٣) إقامتها على الوجه الأكمل بحضور القلب والخشوع للربّ ومراعاة سننها وآدابها.
(٤) التصديق بيوم الجزاء بظهور أثر ذلك في نفسه اعتقادًا وعملًا.
(٥) إعطاء صدقات من أموالهم للفقراء والمحرومين.
(٦) مراعاة العهود والمواثيق.
(٧) أداء الأمانات إلى أهلها.
(٨) حفظ فروجهم عن الحرام.
(٩) أداء الشهادة على وجهها.
(١٠) الخوف من عذاب الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وعد المؤمنين بجنات النعيم مع الكرامة والإجلال.. أردف ذلك بذكر أحوال الكافرين مع الرسول - ﷺ -، وأبان لهم خطأهم فيما يرجون من جنّات النعيم على ما هم عليه من كفر وجحود. ثم توعدهم بالهلاك، ولن يستطيع أحد دفعه عنهم. ثم أمر رسوله أن يدعهم وشأنهم حتى يوم البعث يوم يخرجون من قبورهم مسرعين، كأنّهم ذاهبون إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان وقد كان من دأبهم أن يسرعوا حين الذهاب إليها. وهم في هذا اليوم تكون أبصارهم ذليلة، وترهق وجوههم قترةً لما تحقّقوا من عذاب لا منجاة لهم منه، وقد أوعدوه في الدنيا، فكذَّبوا به.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه (٢) النسائي، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾
(٢) لباب النقول والمراح.