تفسير سورة الحاقة

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الحاقة مكية وآياتها ثنتان وخمسون، نزلت بعد سورة الملك. وقد بدأت بعرض اسم القيامة باسم الحاقة، الذي به سميت السورة ﴿ الحاقة ﴾. والحاقة الساعة والقيامة، سميت كذلك لأنها تحق كل إنسان من خير أو شر، وفيها حواقّ الأمور والثواب.
ثم عرضت السورة عرضا سريعا لما أصاب بعض الأمم السابقة من الهلاك والأخذ الشديد حين كذّبوا، كقوم ثمود وعاد وفرعون ونوح ومن قبله، والمؤتفكات...
ثم تحدثت عن يوم القيامة إذا نفخ في الصور، وما يصيب الأرض والجبال والسماء من التغيير والزوال. وفي ذلك اليوم تقف الملائكة تنتظر أوامر الله والعرش ممدود، ويُعرض الناس أمام الله، لا تخفى منهم خافيه.
في ذلك اليوم يظهر السعيد فيؤخذ كتابه بيمينه ويذهب إلى الجنة، والشقي يتلقى كتابه بشماله، ويصيح ويندب حظه ﴿ يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه ﴾ ويذهب مغلولا مذموما إلى الجحيم، ﴿ فليس له اليوم ها هنا حميم ﴾ ولا ناصر ولا معين.
ثم يأتي القسم العظيم ﴿ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون، إنه لقول رسول كريم ﴾ بأن القرآن الكريم من عند الله، على لسان رسول كريم رفيع القدر والمكانة، ﴿ وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ﴾.. إنه كلام الله العظيم، ﴿ تنزيل من رب العالمين ﴾ ولا يمكن لهذا الرسول الكريم أن يختلق من عنده شيئا وهو الأمين كما تعلمون.
ثم تختم السورة الكريمة بالقول الفصل عن هذا الأمر الخطير، وبتمجيد القرآن الكريم :﴿ وإنه لتذكرة للمتقين. وإنا لنعلم أن منكم مكذبين، وإنه لحسرة على العالمين، وإنه لحق اليقين. فسبح باسم ربك العظيم ﴾.

الحاقة : القيامة، قال في لسان العرب : سُميت حاقة لأنها تحُق ( بضم الحاء ) كل إنسان من خير أو شر.
الحاقة هي القيامة كما بينا..
وهذا الأسلوب من الكلام يفيد التفخيم وتهويل الأمر وهو مع التكرار يقصد منه التخويف من شدائد ذلك اليوم وأهواله.
وما أدراك : أي شيء أعلمك ما هي ؟.
أي شيء أعلَمَكَ بها أيّها الإنسان ! ؟ إنها فوق ما تسمعه وتراه، وتتصوّره العقول، فهي خارجة عن دائرةِ علومِ المخلوقات، لعِظَم شأنها، ومدى هولها وشدتها.
ومثلها القارعة : فهي من أسماء يوم القيامة، سميت قارعة لشدة هولها.
ثم ذكر اللهُ تعالى بعضَ الأمم التي كذّبت، فنزل بها ما نزل من العذاب، مثل ثمود وعادٍ الّذين كذبوا بالقيامة.
الطاغية : هي صيحة العذاب والصاعقة التي تأخذ الظالمين.
فأهلكَ اللهُ ثمودَ بالصاعقة كما جَاءَ في سورة فصّلت ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ فصلت : ١٧ ]، وهذا معنى الطاغية، والرجفة كما جاء في سورة الأعراف..
بريحٍ صرصر : ريح باردة مهلكة لها صوت شديد.
عاتية : بالغة العنف.
وأما عادٌ فأهلكهم الله بريحٍ باردة عنيفة.
سخّرها عليهم : سلطها عليهم.
حسوما : تتابعت تلك الأيام والليالي واستمرت حتى استأصلتهم. الحسم : القطع. أعجاز نخل خاوية : أصول النخل المقطوعة منذ زمن، فهي جوفاء فارغة.
سلّطها عليهم سبعَ ليالي وثمانيَة أيام متتابعةٌ بلا انقطاع حتى أفناهم، ﴿ فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ كأنّهم أصولُ نخلٍ متآكلة الأجواف فارغة.
فهل ترى لهم من باقية : فهل ترى لهم أثرا باقيا ؟
وأُبيدوا ولم يبقَ منهم أحد.
والمؤتفكات : المنقلبات، وهي قرى قوم لوط.
بالخاطئة : بالأعمال الخاطئة الفاحشة.
كذلك فرعون وقومه أخذهم الله بكفرهم. والمؤتفكاتُ أيضاً، قرى قوم لوط، لأن الله قَلَبَ تلك القرى فجعل عاليَها سافلَها بسبب خطيئتهم ومعصيتهم. وقد ذكر فرعونَ وقومَ لوطٍ وعاداً وثمود أكثر من مرة.
قراءات :
قرأ الجمهور قَبله بفتح القاف وسكون الباء : أي من تقدمه من القرون الماضية. وقرأ أبو عمرو والكسائي : ومن قِبله بكسر القاف وفتح الباء أي ومن عنده من أتباعه.
فأخذَهم أخذةً رابية : فأخذهم الله بذنوبهم أخذةً زائدة في الشدة.
طغى الماء : زادَ وتجاوز حده وارتفع. حملناكم : حملنا آباءَكم. في الجارية : في السفينة التي تجري على الماء.
ثم ذكر حادثة الطوفان زمن نوح باختصار.
لما حصل الطوفان وارتفع الماء وجاوز حدَّه حتى علا فوق الجبال، حَمَلْنا آباءكم من مؤمني قومِ نوحٍ في السفينة، وأنجيناهم من الغرق.
تذكرة : موعظة.
تعيَها : تفهمها وتحفظها.
واعية : فاهمة حافظة.
وذلك لنجعلَ نجاةَ المؤمنين وإغراقَ الكافرين عبرةً لكم وعظة، وتفهَمَها كل أُذُنٍ حافظةٍ سامعةٍ عن الله فتنتفع بما سمعت.
وبعد أن قصّ الله علينا أخبارَ السابقين، شَرَعَ يفصّل لنا أحوال يوم الحاقّة والقيامة والقارعة والواقعة وما يكون فيه من أهوال :
فإذا نَفخ الملَكُ النفخة الأولى.
حُملت الأرض والجبال : رفعت من أماكنها وأزيلت.
فدُكتا دَكة واحدة : دُقَّت كلّ منهما وهُدمت.
يكون عندها خرابُ العالم، فتُزال الأرضُ والجبال عن أماكنها.
وقعت الواقعة : قامت القيامة.
في ذلك اليوم تقوم القيامة.
واهية : متداعية. وتتصدّع السماءُ وتتشقّق، لأنها تكون ضعيفة واهية.
والمَلَك على أرجائها : والملائكة واقفة على نواحيها.
وترى الملائكة واقفةً على جوانبها.
﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ من الملائكة الشِداد الأقوياء.
في ذلك اليوم تُعرضون أمام الله وتحاسَبون على كل صغيرة وكبيرة لا يخفى على الله من أموركم شيء.. وهذا كله يجري بأمر الله، لا ندري كيف ومتى يكون، وكل أمور الآخرة مخالفة لأوضاعنا وعقولنا لا ندركها، فندعُ تفصيلَ ذلك.
قراءات :
قرأ الجمهور : لا تخفى منكم خافية بالتاء. وقرأ حمزة والكسائي : لا يخفى بالياء.
هاؤم : خذوا.
بعد أن قدّم وصفاً رهيباً ليوم القيامة، وكيف تزول الأرضُ والجبال عن مواقعها وتُدكّ وتنشقّ السماء، وتقفُ الملائكة على جوانبها، ويوضع العرشُ، ويُفتح حسابُ البشر وفي ذلك اليوم لا يخفى على الله شيء، بعد هذا كله أتى بذِكر صورتين متقابلتين من أحوالِ البشَر، وهم : السعداءُ أصحاب اليمين، والأشقياءُ أصحاب الشمال. فأما السعداء فإنهم يتلقَّون كتابَهم بأيمانهم، ويغدُون مسرورين فرحين، يعرِضون كُتبَهم على الناس ليقرأوها.
ظننتُ : علمت، أيقنت.
وكل واحدٍ منهم يقول : إني علمت أن ربّي سيحاسبني حسابا يسيرا.
راضية : يرضى بها صاحبها.
﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ مرضيّة خاليةٍ مما يكدِّر.
عالية : في القدر والمكان.
وهي جنة الخلد ذاتُ المكان الرفيع.
قطوفها : جمع قِطف بكسر القاف، ما يقطف من الثمر.
دانية : قريبة سهلة التناول.
والثمارِ المختلفة التي يسهُل تناولها.
هنيئا : يعني كلوا واشربوا سائغا بلا تنغيص ولا كدر.
أسلفتم : قدمتم.
الأيام الخالية : الأيام الماضية في الدنيا.
وكلهم في نعيمٍ وحبور ويقول لهم ربهم :﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية ﴾.. كُلوا من ثمار جنةِ الخلد هنيئاً، واشربوا من شرابها مريئا، وذلك كلّه جزاءَ ما قدّمتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا الماضية.
وأما الأشقياء، وهم الذين كذّبوا الرسلَ، ولم يؤمنوا بالله ولا البعث والحساب - فإن الواحدَ منهم حين ينظر في صحيفة أعماله بعد أن تلقّاها بشماله - ينفر منها ويقول :
﴿ يا ليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ﴾.
يا ليتني لم أتلقّ كتابي.
ولم أعلم أي شيء عن حسابي.
يا ليتها كانت القاضية : على حياته فيرتاح ولم يُبعث.
ويا ليتَ الموتةَ التي مِتُّها كانت نهايةَ الحياة، لم أُبعث بعدَها ولم ألقَ ما أنا فيه من عذابٍ وسوء منقلَب.
ما أغنَى عني ماليه : لم يغن عني مالي الذي جمعته في الدنيا شيئا.
لم ينفعني مالي وما جمعتُ في الدنيا.
هلكَ عني سُلْطَانِيَهْ : ذهب عني كل ما أملك من قوة ومال وصحة.
وذهَب عنّي كلُّ عزٍّ وجاهٍ وصحة وقوة.. ذهبَ ذلك كلُّه وبقيَ العذابُ والوبال.
غُلّوه : شدوه بالقيود، والغلّ هو القيد الذي يجمع بين اليدين والعنق.
وعندها يقال لزبانية جهنم :
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴾.
خذوه وأدخِلوه في النار مقيَّدا.
صَلّوه : ألقوه في النار حتى يصلاها.
ذرعُها : طولها.
فاسلكوه : فاجعلوه في هذه السلسلة الطويلة.
في سلسلة طولها سبعون ذراعا لُفُّوها على جسمه حتى لا يستطيعَ حَراكا. وليس المرادُ أن طولَها كذلك، ولكن القصدَ إهانته وبيانُ هول العذاب.
فقد كان لا يؤمن بالله العظيم.
وكان بخيلاً ممسِكاً لا يُطعِم الفقراء والمساكين ولا يحثّ الناسَ على إطعامهم.
حميم : قريب أو صديق.
لذلك :
﴿ فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ ﴾
ليس له صديقٌ ولا قريب يدفع عنه في هذا اليوم.
غِسلين : صديد أهل النار.
وطعامُه من صديدِ أهل النار.
الذي لا يأكله إلا الخاطئون المذنبون أمثاله ممن أصرّوا على الكفر والجحود وماتوا عليه.
فلا أقسِم : معناها، فأُقسِم.
بما تبصرون : بما تشاهدون من المخلوقات وما في هذا الكون العجيب.
بعد هذه الجولةِ مع الجاحدين وما ينتظرُهم من عذاب في ذلك اليوم الشديد الهول، يعود الكتابُ ليؤكّد أن ما يتلوه الرسولُ الكريم هو القرآنُ الكريم من عندِ ربّ العالمين، وأن الأمر لا يحتاج إلى قَسَم أنه حقٌ، صادرٌ عن الحق، وأنه ليس شعرَ شاعرٍ، ولا كهانةَ كاهنٍ، ولا افتراءَ مفترٍ، فما هو بحاجة إلى توكيدِ يمين.
﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ﴾.
تكرر هذا التعبيرُ ﴿ لاَ أُقْسِمُ ﴾ في القرآن الكريم، وهو يمين عظيم. وهو كما يقول المتأكد من أمرٍ من الأمور : لا حاجة إلى اليمين عليه.....
لقد حارتْ قريش في أمرِ الرسولِ الكريم، وتبلبلت آراء زعمائها في ما يتلوه عليهم، فقال بعضُهم إنه كاهن، وقال بعضُهم إنه مجنون، وقال بعضهم إنه شاعر، وقال بعضهم إنه ساحر.. ولم يستقرّ رأيهم على شيء، حتى إن أكبرَ أعدائه - وهو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، صاحبُ لواء قريش يوم بدر - قال مسفّهاً هذه الآراء كلها بقوله :« يا معشرَ قريش، إنه واللهِ قد نزل بكم أمر ما أتيتم به بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صِدغيه الشَّيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحرٌّ لا واللهِ، ما هو بساحر. لقد رأينا السحرةَ ونَفَثْهم وعقدهم. وقلتم كاهن ! لا واللهِ ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنةَ وتخالُجَهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر ! لا واللهِ ما هو بشاعر. قد رأينا الشِعر، وسمعنا أصنافه كلَّها : هَزَجَه وَرجَزه. وقلتم مجنون ! لقد رأينا الجنون فما هو كذلك. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه واللهِ قد نزل بكم أمر عظيم..... ».
أُقسِم بما تشاهدون من هذا الكون العجيب وما فيه حولَكم من مخلوقات.
وما لا تبصرون : كل ما غاب عنكم وما أكثره.
وبما غابَ عنكم مما لا تشاهدونه، وما أكثره...
إنّ هذا القرآن هو قولُ رسولٍ كريم أنزلَه اللهُ عليه.
حيث كان بعض زعماء قريش يقول عنه إنه شاعر.
ولا بقول كاهن : الكاهنُ مَنْ يتنبأ بالغيب كذباً وزورا، وكان هذا النوع من الناس شائعا عند العرب في الجاهلية.
وليس هو بقولِ كاهن من كهنةِ العرب كما تزعمون.
بل هو :﴿ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين ﴾ أنزله على عبده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ولو تقوّل : لو افترى علينا.
الأقاويل : الأكاذيب، الأقوال المفتراة.
وبعد أن أثبت اللهُ تعالى أن القرآن الكريم تنزيلٌ من رب العالمين، ليس بشعرٍ ولا كهانة، أكّد هنا أن الرسولَ الأمين لا يمكن أن يتقوَّلَه.
لأخذْنا منه : لأمسكناه.
باليمين : بيمينه.
إذ لو فعلَ ذلك لأخذْنا منه بيمينه.
الوتين : الشريان الرئيسي الذي يغذي الجسمَ بالدم النقي الخارج من القلب، فإذا قطع هذا العِرقُ مات الإنسان حالا.
وقطَعْنا منه نِياطَ قلبه فيموتُ حالا.
حاجزين : مانعين.
فلا يستطيعً أحدٌ منكم مهما بلغتْ قوَّتُه أن يحجِزَ عقابنا عنه. وهذا معنى :﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾.
ثم بين الله تعالى أنّ هذا القرآن تذكِرةٌ وعِظةٌ لمن يتقي الله ويخشاه.
ولو أن منكم مكذِّبين.
وإنه حسرةً على الكافرين حينما يَرَوْنَ ثوابَ المؤمنين.
وإنَّه لحقُّ اليقين : وإن القرآن الكريم لحقٌّ ثابت من عند الله.
فهو حقٌّ ثابت لا ريبَ فيه.
ثم أمر رسوله الكريم أن يسبِّح ربه العظيم وينزّهَه، ويشكره على ما آتاه من النِعم، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم.
Icon