تفسير سورة الحاقة

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها ثنتان وخمسون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الحاقة ﴾ أي الساعة التي تحق وتثبت فيها الأمور الحقة التي كانا ينكرونها من البعث والحساب والجزاء ؛ من حق الشيء يحق – من بابي ضرب وقتل – ثبت. أو التي تحق فيها الأمور، أي تعرف على الحقيقة ؛ من حققته أحقه : إذا عرفت حقيقته. وإسناد الفعل إليها من الإسناد إلى الزمان ؛ على حد : نهاره صائم. وقال الأزهري : الحاقة القيامة ؛ من حاققته أحاقه فحققته : أي غالبته فغلبته ؛ فهي حاقة لأنها كل محاق – أي مخاصم – في دين الله بالباطل فتغلبه. و " الحاقة " مبتدأ، خبره جملة " ما الحاقة ".
﴿ وما أدراك ما الحاقة ﴾ أي أيّ شيء أعلمك ما الحاقة. أي لا علم لك بكنهها ومدى عظمها ؛ إذ هي من الهول والشدة بحيث لا تبلغه دراية أحد ولا وهمه. وكيفما قدرت حالها فهي وراء ذلك وأعظم !. وجملة " ما الحاقة " في محل نصب سادة مسدّ المفعول الثاني ل " أدراك ".
﴿ كذبت ثمود وعاد بالقارعة ﴾ أي القيامة التي تقرع القلوب بشدة أهوالها وأفزاعها، والسموات والأرض والجبال بالانحلال ؛ من القرع، وهو صك جسم صلب بآخر صلب بعنف. يقال : قرع الباب – كمنع – طرقه ونقر عليه ؛ ومنه قوارع الدهر : أي شدائده وأهواله.
﴿ فأهلكوا بالطاغية ﴾ بالواقعة التي تجاوزت الحد في الهول، وهي الصيحة ؛ لقوله تعالى :
" وأخذ الذين ظلموا الصيحة " ١. وبها فسرت الصاعقة في حم السجدة. وأما قوله تعالى في شأنهم : " فأخذتهم الرجفة " ٢ – وهي الزلزلة – فلكونها مسببة عن الصيحة.
١ آية ٦٧ هود..
٢ آية ٧٨ الأعراف..
﴿ بريح صرصر ﴾ [ آية ١٦ فصلت ص ٢٧٧ ]. ﴿ عاتية ﴾ متجاوزة الحد في شدتها ؛ فلم يقدروا عليها مع شدتهم وقوتهم.
﴿ حسوما ﴾ أي متتابعة الهبوب حتى استأصلتهم ؛ من حسمت الدابة : إذا تابعت ديها على الداء مرة بعد أخرى حتى ينحسم. أو نحسات مشئومات. ﴿ كأنهم أعجاز نخل ﴾ كأنهم أصول نخل بلا رءوس، وهي جذوع﴿ خاوية ﴾ ساقطة ؛ من خوى النجم : إذا سقط للغروب. أو فارغة الأجواف بلى وفسادا ؛ من خوت الدار تخوى خواء : خلت من أهلها، فهي خاوية.
﴿ والمؤتفكات ﴾ قرى قوم لوط التي اقتلعها جبريل عليه السلام، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها ؛ من ائتفك : أي انقلب. والمراد أهلها. ﴿ بالخاطئة ﴾ أي جاءوا بالفعلات الخاطئة. وإسناد الخطأ إليها مجاز ؛ وإنما هو من أصحابها.
﴿ أخذة رابية ﴾ زائدة في الشدة على الأخذات للأمم المهلكة ؛ من ربا الشيء يربو : إذا زاد وتضاعف. ومنه الربا.
﴿ الجارية ﴾ سفينة نوح عليه السلام.
﴿ وتعيها أذن واعية ﴾ تحفظها أذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه ؛ من الوعي بمعنى الحفظ في النفس. يقال : وعى الشيء يعيه، حفظه.
﴿ نفخة واحدة ﴾ هي نفخة الصعق.
﴿ فدكتا دكة واحدة ﴾ كسرتا وفتتا حتى صارتا غبارا بضرب بعضهما ببعض ضربة واحدة إثر رفعهما.
﴿ فيومئذ وقعت الواقعة ﴾ وجدت القيامة وحصلت.
﴿ فهي يومئذ واهية ﴾ أي فالسماء ضعيفة مسترخية، ساقطة القوة. يقال : وهي البناء يهي وهيا فهو واه، إذا ضعف جدا. أو متشققة متصدعة.
﴿ والملك على أرجائها ﴾ أي الملائكة واقفون على جوانب السموات وحافاتها حين تشقق ؛ لينظروا أمر الله لهم لينزلوا فيحيطوا بالأرض. جمع رجا، بالقصر. ﴿ ثمانية ﴾ من الملائكة. أو من صفوفهم.
﴿ هاؤم ﴾ أي خذوا ؛ اسم فعل أمر. والهاء في كتابيه و " حسابيه " وما ماثلهما للسكت ؛ لتظهر فتحة الياء.
﴿ ظننت أني ملاق حسابيه ﴾ علمت أني سيحاسبني ربي حسابا يسيرا، وقد حاسبني كذلك ؛ فأنا اليوم فرح مسرور.
﴿ فهو في عيشة راضية ﴾ أي في حياة ذات رضا ؛ أي ثابت لها الرضا ودائهم لها. فهي صيغة نسب ؛ كلا بن وتامر لصاحب اللبن والتمر أو مرضية يرضى بها صاحبها ولا يسخطها ؛ فهي فاعل بمعنى مفعول. على حد : ماء دافق، بمعنى مدفوق.
﴿ قطوفها دانية ﴾ ثمارها قريبة من المتناول، يقطفها كلما أراد. جمع قطف بمعنى مقطوف ؛ وهو ما يجتنيه الجاني من الثمار. و " دانية " اسم فاعل، من الدنو معنى القرب.
﴿ يا ليتها كانت القاضية ﴾ يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاطعة لأمري ؛ فلم أبعث بعدها ! ولم ألق ما ألقى !
﴿ خذوه فغلوه ﴾ فاجمعوا يديه إلى عنقه في الغل. والخطاب للزبانية.
﴿ ثم الجحيم صلّوه ﴾ أي ثم لا تدخلوه إلى الجحيم، وهي النار العظيمة الشديدة التأجج ؛ لعظم ما ارتكب
من الذنب، وهو الكفر بالله العظيم.
﴿ ذرعها سبعون ذراعا ﴾ كناية عن عظم طولها. وليس المراد بالعدد التحديد ؛ كما قيل في قوله تعالى : " إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " ١ وقوله " ليلة القدر خير من ألف شهر " ٢. ﴿ فاسلكوه ﴾ أدخلوه فيها ؛ كأنه السلك الذي يدخل في ثقب الخرزات بعسر لضيق الثقب.
١ آية ٨٠ التوبة..
٢ آية ٣ القدر..
﴿ ولا يحض على طعام المسكين ﴾ ولا يحث على إطعام المسكين فضلا عن أن يطعمه.
﴿ فليس له اليوم هاهنا جحيم ﴾ صديق، أو قريب مشفق يحميه ويدفع عنه.
﴿ ولا طعام إلا من غسلين ﴾ هو شجر يأكله أهل النار ؛ فيغسل بطونهم ؛ أي يخرج أحشاءهم. أو ما يسيل من أجسام أهل النار. أو شر الطعام وأخبثه وأبشعه.
﴿ لا يأكله إلا الخائنون ﴾ الكافرون ؛ من خطئ الرجل : إذا تعمد الذنب.
﴿ فلا أقسم ﴾ أي فلا أقسم لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق والتأكيد بالقسم. أو فأقسم و " لا " مزيدة. أو فلا راد لكلام سبق من المشركين ؛ أي ليس الأمر كما تقولون.
ثم استأنف فقال أقسم :﴿ بما تبصرون ومالا تبصرون ﴾ أي بالمشاهدات والمغيبات ؛ فهو عام في جميع مخلوقاته تعالى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:﴿ فلا أقسم ﴾ أي فلا أقسم لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق والتأكيد بالقسم. أو فأقسم و " لا " مزيدة. أو فلا راد لكلام سبق من المشركين ؛ أي ليس الأمر كما تقولون.
ثم استأنف فقال أقسم :﴿ بما تبصرون ومالا تبصرون ﴾ أي بالمشاهدات والمغيبات ؛ فهو عام في جميع مخلوقاته تعالى.

﴿ إنه لقول رسول كريم ﴾ تبليغا عن ربه.
﴿ قليلا ما تؤمرون ﴾ أي لا تؤمنون البتة.
﴿ ولو تقول... ﴾ افترى القول. والأقاويل : الأقوال، أي لو نسب إلينا قولا لم نقله. أو لم نأذن له في قوله.
﴿ لأخذنا منه باليمين ﴾ أي لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه. وهو كناية عن إذلاله وإهانته. أو لأخذنا بالقوة والقدرة ؛ وعبر عنهما باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه.
﴿ ثم لقطعنا منه الوتين ﴾ ثم لقطعنا بضرب عنقه وتينه، وهو النخاع المعروف. أو نياط القلب الذي إذا انقطع مات صاحبه. وهو كناية عن الإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يعاقبونه.
﴿ وإنه لحسرة على الكافرين ﴾ أي وإن القرآن لحسرة وندامة عظيمة على الكافرين عند مشاهدتهم ثواب المؤمنين به.
﴿ وإنه لحق اليقين ﴾ لليقين الحق الذي لا شك في أنه من عند الله ؛ لم يتقوله محمد صلى الله عليه وسلم. فهو من إضافة الصفة للموصوف. وحق اليقين : فوق علم اليقين : مراتب العلم ثلاثة : حق اليقين، ودونه عين اليقين ؛ ودونه علم اليقين. فالأول – كعلم العاقل بالموت إذا أذاقه والثاني-كعمله به عند معاينة ملائكته. والثالث- كعلمه به في سائر أوقاته.
﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ نزه اسم ربك العظيم عما لا يليق به. أو نزه ربك العظيم عن السوء والنقائص.
والله أعلم.
Icon