تفسير سورة النّور

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة النور من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
سورة النور مدنية حروفها خمسة آلاف وثلاثمائة وثلاثون كلامها آلف وثلاثمائة وستة عشر وآياتها أربعة وستون.

(سورة النور)
(مدنية حروفها ٥٣٣٠ كلامها ١٣١٦ آياتها ٦٤)
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤)
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
القراآت:
فرضناها بالتشديد: ابن كثير وأبو عمرو ورأفة بفتح الهمزة: ابن كثير عن ابن فليح ورفعه الباقون بالإسكان وكلاهما مصدر. وكذلك روى الخزاعي عن أصحابه، وروى ابن شنبوذ عن البزي هاهنا وفي الحديد متحركة الهمزة، وعن قنبل هاهنا بالفتح وفي الحديد بالسكون. وقرأ أبو عمر وغير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف بغير همز أربع شهادات بالرفع: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون بالنصب على إعمال المصدر فيما في حكم المصدر والتقدير فواجب شهادة أحدهم شهادات أربعا أن مخففة لعنة الله بالرفع: نافع وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون بالتشديد والنصب والخامسة الثانية بالنصب: حفص على معنى وتشهد الشهادة الخامسة. أن مخففا غضب فعلا ماضيا اللَّهِ بالرفع: نافع
140
والمفضل أن بالتخفيف غضب الله بالرفع: سهل ويعقوب. الباقون أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ بالتشديد والنصب.
الوقوف:
تَذَكَّرُونَ هـ جَلْدَةٍ ص الْآخِرِ هـ للعدول واعتراض الشرط مع اتفاق الجملتين الْمُؤْمِنِينَ هـ مُشْرِكَةً هـ للتفصيل بين الحالتين مع اتفاق الجملتين مُشْرِكٌ ج لاختلاف الجملتين الْمُؤْمِنِينَ هـ أَبَداً هـ الْفاسِقُونَ هـ وَأَصْلَحُوا ج للفاء وإن رَحِيمٌ هـ بِاللَّهِ ط في الموضعين لأن ما بعده جواب لما في حكم القسم الصَّادِقِينَ هـ الْكاذِبِينَ هـ الصَّادِقِينَ هـ حَكِيمٌ هـ.
التفسير:
لما أمر رسول الله ﷺ في خاتمة السورة المتقدمة بطلب المغفرة والرحمة وطلبه يستلزم مطلوبه لا محالة بدليل سل تعط، أردفه بذكر ما هو أصل كل رحمة ومنشأ كل خير فقال سُورَةٌ أي هذه سورة أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها.
وقرىء بالنصب على «دونك سورة» أو «اتل سورة» أو على شريطة التفسير. وعلى هذا لا يكون لقوله أَنْزَلْناها محل من الإعراب لأنها ليست بصفة وإنما هي مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. ومعنى إنزال الوحي قد سلف في أول البقرة. والفرض القطع والتقدير:
ولا بد من تقدير مضاف لأن السورة قد دخلت في الوجود فلا معنى لفرضها فالمراد: فرضنا أحكامها التي فيها. ومن شدد فللمبالغة أو للتكثير ففي أحكام هذه السورة كثرة. ويجوز أن يرجع معنى الكثرة إلى المفروض عليهم فإنهم كل المكلفين من السلف والخلف. وأما الآيات البينات فإنها دلائل التوحيد التي يذكرها الله تعالى بعد الأحكام والحدود ويؤيده قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكرها بخلاف دلائل التوحيد فإنها كالمعلومة لظهورها فيكفي فيها التذكر. وقال أبو مسلم: هي الحدود والأحكام أيضا ولا بعد في تسميتها آيات كقول زكريا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [مريم: ١٠] سأل ربه أن يفرض عليه عملا. وقال القاضي: أراد بها الأشياء المباحة المذكورة في السورة بينها الله تعالى لأجل التذكر. فمن جملة الأحكام حكم الزنا. قال الخليل وسيبويه: رفعهما على الابتداء والخبر محذوف ولا بد من تقدير مضاف أي فيما فرض عليكم جلد الزانية والزاني، أو فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني وقال آخرون: الخبر فَاجْلِدُوا والفاء لتضمن معنى الشرط فإن الألف واللام بمعنى الموصول تقديره: التي زنت والذي زنى فاجلدوا. وقرىء بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب سُورَةٌ أَنْزَلْناها لأجل الأمر فإن الطلب من مظان الفعل والجلد ضرب الجلد كما يقال «رأسه» أي
141
ضرب رأسه وكذلك في سائر الأعضاء بعد ثبوت السماع، وفيه إشارة إلى أن إقامة هذا الحد ينبغي أن يكون على الاعتدال بحيث لا يتجاوز الألم من الجلد إلى اللحم. فعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلا عالما بصيرا يعقل كيف يضرب. فالرجل يجلد قائما على تجرده ليس عليه إزاره ضربا وسطا لا مبرحا ولا هينا على الأعضاء كلها إلا الوجه والفرج، والمرأة تجلد قاعدة ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو. والصحيح أن الزنا من الكبائر ولهذا قرنه الله تعالى بالشرك وقتل النفس في قوله وَلا يَزْنُونَ [الفرقان: ٦٨] وقد وفى فيه عقد المائة بكماله بخلاف حدّ القذف وشرب الخمر وشرع فيه الرجم الذي هو أشنع أنواع القتل، ونهى المؤمنين عن الرأفة بهما وأمر بشهود طائفة للتشهير.
وعن النبي ﷺ «اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار».
واعلم أن البحث في هذه الآية يقع عن أمور أحدها عن ماهية الزنا، وثانيها عن أحكام الزنا، وثالثها في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجبا لتلك الأحكام، ورابعها في الطريق الذي به يعرف حصول الزنا، وخامسها عن كيفية إقامة هذا الحد الأول. قد حده علماء الشافعية بأنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا. قالوا: فيدخل فيه اللواطة لأنها مثل الزنا صورة وذلك ظاهر لحصول معنى الانفراج في الدبر أيضا، ومعنى لأنهما يشتركان في المعاني المتعلقة بالشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل، ولذلك لا يفرق أهل الطبائع بين المحلين. والأكثرون على أن اللواط لا يدخل تحت الزنا للعرف ولهذا، لو حلف لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط مع كونهم عالمين باللغة. وما
روى عن أبي موسى الأشعري أنه ﷺ قال «أذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان»
محمول على اشتراكهما في الإثم بدليل
قوله أيضا «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان»
وقوله «اليدان تزنيان والعينان تزنيان» «١»
والقياس المذكور بعيد لأنه لا يلزم من تسمية القبل فرجا لانفراجه أن يسمى كل منفرج كالفم والعين فرجا.
واعلم أن للشافعي في اللائط قولين أصحهما أن عليه حد الزنا إن كان محصنا فيرجم، وإن لم يكن محصنا فيجلد ويغرب. والثاني قتل الفاعل والمفعول. والقتل إما بجز الرقبة كالمرتد، أو بالرجم وهو قول مالك وأحمد وإسحق، أو بالهدم عليه. ويروى عن أبيّ: أو بالرمي من شاهق.
ويروى عن علي رضي الله عنه وذلك أن قوم لوط عذبوا كل هذه الوجوه
(١) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٣٤٢، ٣٤٤).
142
قال عز من قائل فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: ٨٢] وأما المفعول فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكروها فلا حد عليه ولا مهر لأن بضع الرجل لا يتقوّم، وإن كان مكلفا طائعا فهو كالفاعل في الأقوال وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط وحكمه ما مر، وقيل زنا لأنه وطء أنثى فأشبه الوطء في القبل، وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح. ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه وبالجملة جميع ذلك مما ذهب إليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن اللائط لا يحدّ بل يعزر. حجة الشافعي خبر أبي موسى الأشعري فإنه يدل على اشتراك اللواط والزنا في الاسم والحقيقة لا أقل من اشتراكهما في اللوازم. وأيضا
إنه ﷺ قال: «من عمل عمل قوم لوط فأقتلوا الفاعل منهما والمفعول به» «١»
وقال ﷺ «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير حق» «٢»
وليس اللواط من قبيل الثاني والثالث فهو من الأول. وأيضا قاس اللواط على الزنا بجامع كون الطبع داعيا إليه فيناسب الزاجر. وفرق بأن الزنا أكثر وقوعا وكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد، وبأن الزنا يقتضي فساد الأنساب دون اللواط، وألغى الفرق بوطء العجوز الشوهاء. حجة أبي حنيفة أنه وطء لا يتعلق به المهر فلا يتعلق به الحد وضعف بفقد الجامع قال: إنه لا يساوي الزنا في الحاجة إلى شرع الحد لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول طبعا، ولأنه ليس فيه إضاعة النسب. وأجيب بأن الإنسان حريص على ما منع، فلو لم يشرع الحد شاع اللواط وأدى إلى إضاعة النسب بل إلى إفناء الأشخاص وانقطاع طريق التوالد والتناسل. وللشافعي في إتيان البهيمة أقوال: أحدها أنه كالزنا في أحكامه، وثانيها القتل مطلقا لما
روي عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» «٣»
فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ قال: لأنه كره أن يؤكل لحمها. وأصحها وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد والثوري أن عليه التعزير لأنه غير مشتهي طبعا. والحديث ضعيف
(١) رواه أبو داود في كتاب الحدود باب ٢٨. الترمذي في كتاب الحدود باب ٢٤. ابن ماجة في كتاب الحدود باب ١٢. أحمد في مسنده (١/ ٢٦٩).
(٢) رواه البخاري في كتاب الديات باب ٦. مسلم في كتاب القسامة حديث ٢٥، ٢٦ أبو داود في كتاب الحدود باب ١. الترمذي في كتاب الحدود باب ١٥. النسائي في كتاب التحريم باب ٥، ١١.
الدارمي في كتاب السير باب ١١. أحمد في مسنده ١/ ٦١، ٦٣).
(٣) رواه الترمذي في كتاب الحدود باب ٢٣، ٢٤. أبو داود في كتاب الحدود باب ١٠٨. ابن ماجة في كتاب الحدود باب ١٣. أحمد في مسنده (١/ ٢١٧، ٢٦٩).
143
الإسناد وبتقدير صحته معارض بما
روي أنه ﷺ نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله.
ولا خلاف في أن السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها الا التعزير. البحث الثاني قد مر في أول سورة النساء أن حكم الزاني في أوائل الإسلام كان الحبس في البيوت في حق الثيب، والإيذاء بالقول في حق البكر، ثم نسخ بآية الزنا
وبقوله ﷺ «الثيب بالثيب جلد مائه ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام» «١»
والخوارج أنكروا الرجم لأنه لا يتنصف وقد قال تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: ٢٥] ولأنه تعالى أطنب في أحكام الزنا بما لم يطنب في غيره، فلو كان الرجم مشروعا لكان أولى بالذكر، ولأن قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة وإيجاب الرجم على البعض يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وجمهور المجتهدين خالفوهم في ذلك فأجابوا عن الأول بأن الرجم حيث لم يتنصف لم يشرع في حق العبد فخصص العذاب بغير الرجم للدليل العقلي. وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات. وعن الثالث بأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا لأن القرآن وإن كان قاطعا في متنه إلا أن العام غير قاطع الدلالة فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون. سلمنا إلا أن الرجم ثبت بالتواتر رواه أبوبكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجابر والخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة.
وما نقل عن علي أنه جمع بين الجلد والرجم
وهو اختيار أحمد وإسحق وداود محمول على مثل ما
روي عن النبي ﷺ أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي ﷺ فجلد، ثم أخبر النبي ﷺ أنه كان محصنا فأمر به فرجم.
وقوله ﷺ «الثيب بالثيب جلد مائة» «٢»
ورجم بالحجارة متروك العمل بما روي في قصة العسيف أنه قال: يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره. وأن قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم وكذا قصة الغامدية. وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال: قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى وقد قرأنا «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فرجم النبي ﷺ ورجمنا بعده.
(١) رواه مسلم في كتاب الحدود حديث ١٢- ١٤. أبو داود في كتاب الحدود باب ٢٣. الترمذي في كتاب الحدود باب ٨. ابن ماجة في كتاب الحدود باب ٧. الدارمي في كتاب الحدود باب ١٩.
أحمد في مسنده (٣/ ٤٧٦) (٥/ ٣١٣).
(٢) المصدر السابق.
144
فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هذا الرجم ولو كان الجلد واجبا مع الرجم لذكره. قال الشافعي: يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر. وقال أبو حنيفة: يجلد.
وأما التغريب فمفوّض إلى رأي الإمام.
وقوله ﷺ «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» «١»
وكذا ما يروى عن الصحابة أنهم جلدوا ونفوا منسوخ أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقال مالك: يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة بلا تغريب.
حجة الشافعي
حديث عبادة «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» «٢»
وقد ورد مثله في قصة العسيف. حجة أبي حنيفة أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد. بيانه أن إيجاب الجلد مرتب على الزنا بالفاء التي هي للجزاء، ومعنى الجزاء كونه كافيا في ذلك الباب منه
قوله ﷺ «يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك» «٣»
وإيجاب شيء آخر غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافيا ولو كان النفي مشروعا لوجب على النبي ﷺ توقيف الصحابة عليه عند تلاوة هذه الآية ولو فعل لاشتهر.
وقد روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال في الأمة «إذا زنت فاجلدها فإن زنت فاجلدها فإن زنت فبعها» «٤»
والاستدلال به أنه لم يذكر النفي مع الجلد ونظيره ما
روي أن شيخا وجد على بطن جارية، فأتي به إلى النبي ﷺ فقال: اجلدوه مائة.
فقالوا: إنه أضعف من ذلك. فقال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها وخلوا سبيله.
لا يقال: إنه إنما لم ينفه لأنه كان عاجزا عن الحركة لأنا نقول: كان ينبغي أن يأمر له بدابة يركبها. ولا يقال: لعله كان ضعيفا عن الركوب أيضا لأنا نقول: القادر على الجماع كيف لا يقدر على الاستمساك. وأيضا الأمر بالنفي لو كان مشروعا لزم في حق العبد الإضرار بسيده في مدة غيبته، وفي حق المرأة الإضرار بزوجها، وكذا لمن يؤمر أن يكون معها من محارمها أو من النسوة الثقات مع انفتاح باب الزنا عليها في الغربة، لهذا
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في البكرين: إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان فإن نفيهما من الفتنة.
وعن ابن عمر أن امرأة زنت فجلدها ولم ينفها. وأيضا النفي نظير القتل لقوله تعالى اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ [النساء: ٦٦] فإذا لم يشرع القتل في حد البكر وجب أن لا
(١، ٢) المصدر السابق.
(٣) رواه البخاري في كتاب العيدين باب ٥، ٨، ١٠. مسلم في كتاب الأضاحي حديث ٥، ٧، ٩ أبو داود في كتاب الأضاحي باب ٥.
(٤) رواه البخاري في كتاب العتق باب ١٧. مسلم في كتاب الحدود حديث ٣١، ٣٢. أبو داود في كتاب الحدود باب ٣٢. الترمذي في كتاب الحدود باب ٨. ابن ماجة في كتاب الحدود باب ١٤. الموطأ في كتاب الحدود حديث ١٤. أحمد في مسنده (٤/ ٣٤٣).
145
يشرع نظيره وهو التغريب. وأجيب بأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب الجلد مع إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب فلا إشعار في الآية بأحد القسمين إلا أن عدم التغريب موافق للبراءة الأصلية. فإيجابه بخبر الواحد لا يزيل إلا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به وهو قول الأدباء إن الجزاء سمي جزاء لأنه كاف في الشرط لا يصلح حجة في الأحكام. ولا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصصات والأخبار الواردة في نفي التغريب معارضة بما
روى أبو علي في جامعه أنه ﷺ جلد وغرّب.
ولا بعد في أن يكون القادر على الزنا عاجزا عن الاستمساك على الدابة والإضرار بالسيد قد يجوز للضرورة كالعبد المرتد يقتل، وعلى هذا يغرّب نصف سنة على الأصح لأنه يقبل التنصيف. وقيل:
سنة كاملة لأن التغريب للإيحاش وهذا معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء والعنة. وأما المرأة فلا تغرّب وحدها
لقوله ﷺ «لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم» «١»
فإن تبرع المحرم أو نسوة ثقاة فذاك وإلا أعطي أجرتهم من مالها أو من بيت المال فيه قولان، وتنتفي التهمة حينئذ مع أن أكثر الزنا إنما يقع بالألف والمؤانسة وفراغ القلب، وفي التغريب الأغلب هو الوحشة والتعب. وأما أن النفي يشبه القتل فمسلم من بعض الوجوه لا من كلها. واعلم أن قولنا الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إما مطلق دال على الجنسين المنافيين لجنس العفيفة والعفيف أو عام يشمل كل من اتصف بهذه الفعلة الشنعاء فلا بد من تقييد أو تخصيص وهو البحث الثالث فنقول: أجمعت الأمة على أنه لا بد فيه من العقل والبلوغ فلا حد على مجنون ولا على صبي لأنهما ليسا من أهل التكليف. هذا في غير الرجم وأما في الرجم فلا بد من شروط أخر منها: الحرية بالإجماع. ولا فرق بين القن والمدبر والمكاتب والمستولدة وحر البعض، والسبب أن الحرية توسع طريق الحلال لأن الرقيق يحتاج في النكاح إلى إذن السيد. ولا يجوز له أن ينكح إلا امرأتين، وجناية من ارتكب الحرام مع اتساع طريق الحلال أغلظ. ومنها الإصابة في نكاح صحيح وقد يعبر عن هذا الشرط بشرطين: أحدهما التزويج بنكاح صحيح، والآخر الدخول. وكيفما كان فوجه الاعتبار أنه قضى الشهوة واستوفى اللذة فحقه أن يمتنع من الحرام. ويكفي في الإصابة تغيب الحشفة بلا إنزال، ولا يقدح وقوعها في حالة الحيض والإحرام وعدة الوطء بالشبهة، ولا يحصل الإحصان بالإصابة في ملك اليمين كما لا يحصل التحليل. وفي الإصابة بالشبهة وفي النكاح
(١) رواه مسلم في كتاب الحج حديث ٤١٣- ٤٢٤. البخاري في كتاب التقصير باب ٤. أبو داود في كتاب المناسك باب ٢. الترمذي في كتاب الرضاع باب ١٠. ابن ماجة في كتاب المناسك باب ٧.
الموطأ في كتاب الاستئذان حديث ٢٧. أحمد في مسنده (١/ ٢٢٢) (٢/ ١٣، ١٩). [.....]
146
الفاسد قولان: أحدهما أنه يفيد الإحصان لأن الفاسد كالصحيح في العدة والنسب، وأصحهما المنع لأن الفاسد لا أثر له في إكمال طريق الحلال.
وهل يشترط أن تكون الإصابة في النكاح بعد التكليف والحرية؟ الأصح عند إمام الحرمين لا، فإنه وطء يحصل به التحليل فكذا الإحصان. والأرجح عند معظم الأصحاب نعم، لأن شرط الإصابة أن تحصل بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح فيعتبر حصولها من كامل، وعلى هذا فهل يشترط كمال الواطئين جميعا؟ قال أبو حنيفة: نعم وهو أحد قولي الشافعي فلو كان أحدهما كاملا دون الآخر لم يصر الكامل محصنا أيضا. وقال الشافعي في أصح قوليه: لا بل لكل منهما حكم نفسه. ومنها الإسلام عند أبي حنيفة
لقوله ﷺ «من أشرك بالله فليس بمحصن»
دون الشافعي
لقوله ﷺ «إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»
ولحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي ﷺ رجم يهوديين زنيا.
فلو حكم بشرعه فظاهر، ولو حكم بشريعة من قبله فقد صار شرعا له، ولأن زنا الكافر مثل زنا المسلم في الحاجة إلى الزاجر ولهذا قلنا: إذا أقر الذمي بالزنا أقيم عليه الحد جبرا بخلاف الشرب فإنه لا يعتقد تحريمه. ومما احتج به لأبي حنيفة أن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ كقوله يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: ٣٠] وعورض بأن الإسلام من كسب العبد. وزيادة الخدمة إن لم تكن سببا للعذر فلا أقل من أن لا تكون سببا لزيادة العقوبة. قالوا: إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع فكذا إحصان الرجم والجامع كمال النعمة. وأجيب بأن حد القذف لرفع العار كرامة للمقذوف والكافر لا يكون محلا للكرامة وصيانة للعرض. والجواب عن الحديث بأنا لا نسلم أن الذمي مشرك، سلمنا لكن الإحصان قد يراد به التزويج كقوله فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: ٢٥] والذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه
لقوله ﷺ «وزنا بعد إحصان» «١»
وبقوله «عليهم ما على المسلمين»
قال بعض أهل الظاهر: عموم قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس. ومنهم من قال: الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: ٢٥] أي تزوّجن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ [النساء: ٢٥] فإذا لم تتزوّج فعليها المائة لعموم قوله
(١) رواه البخاري في كتاب الديات باب ٦. مسلم في كتاب القسامة حديث ٢٥، ٢٦. أبو داود في كتاب الحدود باب ١. الترمذي في كتاب الحدود باب ١٥.
147
الزَّانِيَةُ واتفاق الجمهور على حذف هذين. وقال الشافعي وأبو حنيفة: الذمي يجلد للعموم ولأنه ﷺ رجم يهوديين فالجلد أولى. وقال مالك: لا يجلد بناء على أن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع.
البحث الرابع في طريق معرفة الزنا وأنه ثلاثة: الأول أن يراه الإمام بنفسه فيجيء الخلاف في أن القاضي هل له أن يقضي بعلمه أم لا؟ رجح كلا مرجحون. وجه القضاء أنه يقضي بالظن وذلك عند شهادة شاهدين فلأن يقضي بالعلم أولى. ووجه عدم القضاء أن فيه تهمة والتهمة تمنع القضاء ولهذا لا يقضي القاضي لولده ووالده. وهذا الوجه في حدود الله تعالى أرجح لأن الحاكم فيه مأمور بالستر ولهذا
قال النبي في قضية اللعان «لو كنت راجما بغير بينة لرجمتها»
ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في زمان ولايته ومكانها أو في غيرهما. وعن أبي حنيفة أنه إن حصل له العلم فيهما قضى بعلمه وإلا فلا. الطريق الثاني الإقرار ويكفي عند الشافعي مرة واحدة. وقال أبو حنيفة: لا بد من أربع مرات في أربع مجالس. وجوّز أحمد أن يكون المجلس واحدا. حجة الشافعي قصة العسيف
«فإن اعترفت فارجمها»
والقياس على الإقرار بالقتل والردة مع أن الصارف عن الإقرار بالزنا قويّ وهو العار في الحال والقتل أو الألم الشديد في المآل، فالإقدام على الإقرار مع هذا الصارف لا يكون إلا عن صدق ويقين. حجة أبي حنيفة قصة ما عز وإعراضه ﷺ عنه مرات حتى قال أبو بكر له بعد ما أقر ثلاث مرات: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله ﷺ والقياس على الشهادة. وأجيب بأنه لا منافاة بين القضيتين فإن الأولى محمولة على أقل المراتب، والثانية على كمالها. والفرق أن المقذوف لو أقر بالزنا مرة سقط الحد عن القاذف، ولو شهد اثنان بزناه لم يسقط. الطريق الثالث الشهادة وأجمعوا على أنه لا بد من شهود أربعة من الرجال لقوله تعالى فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: ١٥] ولقوله ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ والشهادة على الإقرار بالزنا كالشهادة على الزنا في أنه لا بد من شهود أربعة. وفي قول يكفي فيه اثنان لأن الفعل مما يعسر الاطلاع عليه فلزم الاحتياط فيه باشتراط الأربعة والإقرار أمر ظاهر فيكفي فيه رجلان.
البحث الخامس: أجمعت الأمة على أن المخاطب بقوله فَاجْلِدُوا هو الإمام حتى احتجوا به على وجوب نصب الإمام فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقال الشافعي: السيد يملك إقامة الحد على مملوكه وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يملك. حجة الشافعي
أنه ﷺ قال «أقيموا الحدود
148
على ما ملكت أيمانكم» «١»
وعن أبي هريرة أنه ﷺ قال «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» «٢»
وحمل الأول على رفع القضية إلى الإمام حتى يقيموا عليهم الحدود، وحمل الثاني على التعزير خلاف الظاهر. وأيضا إن ولاية السيد على العبد فوق الولاية بالبيعة فكان أولى.
وأيضا الإجماع على أن السيد يملك التعزير مع أنه في محل الاجتهاد فلأن يملك الحد مع التنصيص عليه أولى. حجة أبي حنيفة في قوله فَاجْلِدُوا الخطاب للأمة بالاتفاق ولم يذكر فرق بين الأحرار المحدودين وبين العبيد. وأيضا لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه، فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود وليس له ذلك بالاتفاق لأنه ليس لأحد أن يحكم لنفسه. وأيضا المالك في محل التهمة لأنه قد يشفق على ملكه فلا يستوفي الحد. أجابت الشافعية بأن عدم ذكر الفرق لا يدل على عدم الفرق مع أن الكلام في جواز إقامة السيد الحد لا في وجوبه. فالإمام يملك حد العبد في الجملة وذلك كاف في بقاء الآية على عمومها. وعن الثاني بأن للشافعي في القطع والقتل قولين: أحدهما يجوز لما روي أن ابن عمر قطع عبدا له سرق. وثانيهما لا، وهو قول مالك أن القطع للإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير. وفي سماع المولى الشهادة أيضا وجهان: فإذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود بل ينبغي أن يعينوا واحدا من الصلحاء ليقوم بها، وفي الخارجي المتغلب خلاف.
البحث السادس في كيفية إقامة الحد: إنه سبحانه قد أشار إلى أن هذا الحد يجب أن لا يكون في غاية العنف بلفظ الجلد كما مر، وإلى أنه يجب أن لا يكون في غاية الرفق بقوله وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ وذلك إما بأن يترك الحد رأسا، أو ينقص شيء منه، أو يخفف بحيث لا يحس الزاني بالألم. وفي معناه أن يفرق على الأيام كأن يضرب كل يوم سوطا أو سوطين، وإن ضرب كل يوم عشرين مثلا كان محسوبا لحصول التكليف. والأولى أن لا يفرق وأكد هذا المعنى بقوله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قال الجبائي: فيه دلالة على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان لأن التقدير: إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود. وأجيب بأن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه وأن ذلك يوجب ترك
(١) رواه أبو داود في كتاب الحدود باب ٣٣ أحمد في مسنده (١/ ١٤٥).
(٢) رواه البخاري في كتاب العتق باب ١٧. مسلم في كتاب الحدود حديث ٣١- ٣٢. أبو داود في كتاب الحدود باب ٣٢. الترمذي في كتاب الحدود باب ٨. ابن ماجه في كتاب الحدود باب ١٤. الموطأ في كتاب الحدود حديث ١٤.
149
إقامة الحد، وحينئذ يكون منكرا للدين فلهذا يخرج من الإيمان.
وفي الحديث «يؤتي بوال نقص من الحد سوط فيقال له: لم فعلت ذاك؟ فيقول: رحمة لعبادك. فيقول له: أنت أرحم بهم مني فيؤمر به إلى النار»
روى أبو عثمان النهدي قال: أتي عمر برجل في حد، ثم جيء بسوط فيه شدة فقال: أريد ألين من هذا. فأتي بسوط فيه لين فقال: أريد أشد من هذا. فأتي بسوط بين السوطين. وروي أن أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال: ما ينبغي لجسد هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص. فقال أبو عبيدة: لا تدعوه ينزع قميصه وضربه عليه. ولا خلاف في أن المرأة لا يجوز تجريدها بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ويلي ذلك منها امرأة. وجوّز الشافعي الضرب على الرأس لما روي أن أبا بكر قال: اضرب على الرأس فإن الشيطان فيه. وقال أبو حنيفة: حكم الرأس حكم الوجه لأن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس وفي الوجه واحد، وأما في سائر البدن فلا يجب إلا الحكومة. وأيضا إن ضرب الرأس يوجب في الأغلب ظلمة البصر ونزول الماء واختلاط العقل كالوجه فإنه أيضا عرضة للآفات وفيه الأعضاء الشريفة اللطيفة.
وللشافعي أن يقول: إنما يحترم الوجه لما جاء
في الحديث «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» «١»
وهذا المعنى مفقود في الرأس. ولتكن إقامة الحد في وقت اعتدال الهواء إلا إذا كان رجما فإن المقصود- وهو قتله- لا يتفاوت بذلك. ولهذا يرجم المريض أيضا في مرضه. وقيل: إن كان مرضا يرجى برؤه يؤخر كما في الجلد لأنه ربما يرجع عن إقراره في حال الرجم وقد أثر الرجم في بدنه فتعين شدة الحر والبرد مع المرض على إهلاكه، وهذا بخلاف ما ثبت بالبينة فإنه لا يسقط. وفي الجلد إن كان المرض مما لا يرجى زواله كالسل والزمانة فلا يؤخر سواء زنى في حال الصحة أو في حال المرض ولكن لا يضرب بالسياط عند الشافعي، لأن المقصود ليس موته بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ كما
روي أن مقعدا أصاب امرأة فأمر النبي ﷺ فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة.
والأثكال والعثكال الغصن الذي عليه فروع خفيفة من النخل أو من غيره. وعند أبي حنيفة يضرب بالسياط. ثم إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك وقع به بعض الحد أو لم يقع وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وإسحق، لأن ماعزا لما مسته الحجارة هرب
فقال صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه.
وعن الحسن وابن أبي ليلى وداود أنه لا يقبل رجوعه. ويحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها، ولا يحفر للرجل كما في حق ما عز إذ لو كان في
(١) رواه البخاري في كتاب الاستئذان باب ١. مسلم في كتاب البر حديث ١١٥. أحمد في مسنده (٢/ ٢٤٤، ٢٥١).
150
الحفرة لم يمكنه الهرب. ولما روى أبو سعيد الخدري في قصته «فما أوثقناه ولا حفرنا له».
وإذا مات الزاني في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. ومن تغليظات حد الزنا قوله سبحانه وَلْيَشْهَدْ ظاهره أمر للوجوب إلا أن الفقهاء أجمعوا على أن حضور الجمع مستحب والمقصود إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع، ولما فيه من دفع التهمة عمن يجلد. وفي لفظ العذاب دليل على أنه عقوبة لا استصلاح إلا أن يراد بالعذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال وقد مر في أول البقرة في قوله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الآية: ٧] ومعنى الطائفة قد مر في التوبة. فقال النخعي ومجاهد: هي في الآية واحد.
وعن عطاء وعكرمة اثنان. وعن الزهري وقتادة ثلاثة. وقال ابن عباس والشافعي: أربعة بعدد شهود الزنا. وعن الحسن عشرة لأنها أول عقد. وجوّز ابن عباس إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله. وحضور الإمام والشهود ليس بلازم عند الشافعي ومالك لأنه ﷺ لم يحضر رجم ما عز والغامدية. وقال أبو حنيفة: إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس وإن ثبت بإقراره بدأ الإمام ثم الناس.
ثم ذكر شيئا من خواص الزناة فقال: الزَّانِي لا يَنْكِحُ وهو خبر في معنى النهي كقراءة عمرو بن عبد لا يَنْكِحُ بالجزم. ويجوز أن يكون خبرا محضا على معنى أن عادتهم جارية بذلك. وفي الآية أسئلة: الأول: كيف قدمت الزانية على الزاني في الآية المتقدمة وعكس الترتيب في هذه؟ والجواب أن تلك الآية مسوقة لبيان عقوبتهما على جنايتهما وكانت المرأة أصلا فيها لأنها هي التي أطمعت الرجل في ذلك. وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل هو الأصل في الرغبة والخطبة. والثاني: ما الفرق بين الجملتين في الآية؟ والجواب معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر، ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان لأنه لا يلزم عقلا من كون الزاني كذلك أن يكون حال الزانية منحصرة في ذلك فأخبره الله تعالى بالجملة الثانية عن هذا الانحصار. الثالث أنا نرى الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف، وأيضا المؤمن قد يحل له التزوج بالمرأة الزانية. الجواب للمفسرين فيه وجوه: أحدها وهو الأحسن قول القفال: إن اللفظ وإن كان عاما إلا أن المراد منه الأعم الأغلب، وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب غالبا في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة المسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء في الأغلب وإنما يرغب فيها أشكالها من الفسقة أو المشركين نظير هذا الكلام قول القائل «لا يفعل الخير إلا
151
الرجل التقي». وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي. وأما المحرم على المؤمنين فصرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات لانخراطهم بسبب هذا الحصر في سلك الفسقة المتسمين بالزنا. الوجه الثاني أن الألف واللام في قوله الزَّانِي وفي قوله الْمُؤْمِنِينَ للعهد.
روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة أنه قدم المهاجرون المدينة وليست لهم أموال ولا عشائر وبها نساء يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ولكل واحدة منهن علامة على بابها لتعرف بها وكان لا يدخل عليها إلا زان أو مشرك، فرغب فيهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا: نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن. فاستأذنوا رسول الله ﷺ فنزلت الآية.
والتقدير: أولئك الزواني لا ينكحون إلا تلك الزانيات، وتلك الزانيات لا ينكحها إلا أولئك الزواني، وحرم نكاحهن بأعيانهن على المؤمنين. الوجه الثالث أن هذا خبر في معنى النهي كما مر. وهكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام. ثم قيل:
إن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزوج بالعفيفة والعفيف وبالعكس. ويقال: هذا مذهب أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة. ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول: كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك إذا زنت تحته لا يحل له أن يقيم عليها. ومنهم من يفصل لأن في جملة ما منع من التزوج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة. وقيل: إنه صار منسوخا إما بالإجماع- وهو قول سعيد بن المسيب- وزيف بأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وإما بعموم قوله وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النور: ٣٢] فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ [النساء: ٣] وهو قول الجبائي. وضعف بأن ذلك العام مشروط بعدم الموانع السببية والنسبية وليكن هذا المانع أيضا من جملتها. وسئل ابن عباس عن ذلك فأجازه وشبه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه.
وعن النبي ﷺ أنه سئل عن ذلك فقال: أوّله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال.
الوجه الرابع قول أبي مسلم:
إن النكاح محمول على الوطء وذلك إشارة إلى الزنا أي وحرم الزنا على المؤمنين. قال الزجاج: هذا التأويل فاسد من جهة أن النكاح في كتاب الله لم يرد إلا بمعنى التزويج، ومن جهة أنه يخرج الكلام عن الفائدة إذ لا معنى لقول القائل «الزاني لا يطأ إلا الزانية» حتى يكون وطؤه زنا، ولو أريد حين التزوج فالإشكال عائد لأن الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها. الحكم الثاني من أحكام السورة حد القذف والرمي قد يكون بالزنا وبغيره كالكفر والسرقة وشرب الخمر، إلا أن العلماء أجمعوا على أن المراد به في الآية هو الرمي بالزنا بالقرائن: منها تقدم ذكر الزنا، ومنها ذكر المحصنات وهن العفائف، ومنها قوله لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي على صحة ما رموها به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط
152
إلا في الزنا، والقذف بغير الزنا يكفي فيه شاهدان. وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض، فالصريح أن يقول: يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك. والأصح أن قوله «زنى بدنك» صريح لأن الفعل لكل البدن والفرج آلة. والكناية أن يقول «يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة يا بنت الحرام أو امرأته لا تردّ يد لامس» فهذا لا يكون قذفا إلا أن يريده. وكذا لو قال لعربي «يا نبطي الدار واللسان» وادعت أم المقول له أنه أراد القذف فالقول قوله مع يمينه. والتعريض ليس بقذف كقوله «يا ابن الحلال» و «أما أنا فليست أمي بزانية» وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك: يجب الحد فيه. وقال أحمد وإسحق: هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا لنا أن الأصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك ولهذا
قال ﷺ «ادرؤا الحدود بالشبهات» «١»
والإيذاء الحاصل بالتصريح فوق الإيذاء الحاصل بالتعريض.
حجة المخالف ما روي أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر: والله ما أرى أبي بزان ولا أمي بزانية. فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل: مدح أباه وأمه. وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا. فجلده عمر ثمانين. وإذا قذف شخصا واحدا مرارا فإن أراد بالكل زنية واحدة كما لو قال مرارا «زنيت بعمرو» لم يجب إلا حد واحد. ولو أنشأ الثاني بعد ما حد للأول عزر للثاني. وإن أراد زنيات مختلفة كأن قال «زنيت بزيد وزنيت بعمرو» فالأصح تداخل الحدود لأنهما حدان من جنس واحد فصار كما لو قذف زوجته مرارا يكتفي بلعان واحد. وإذا قذف جماعة بكلمات أو بكلمة واحدة كأن قال «يا ابن الزانيين» فعليه حدان لأنه قذف لكل واحد من أبويه، هذا هو الجديد من قولي الشافعي. وعند أبي حنيفة لا يجب إلا حد واحد لأن قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ معناه كل من رمى جماعة من المحصنات فاجلدوه ثمانين،
ولأنه ﷺ قال لهلال بن أمية «أو حدّ في ظهرك»
فلم يوجب عليه الا حدا واحدا مع قذفه لامرأته. ولشريك بن سحماء للقياس على من زنى مرارا أو شرب أو سرق مرارا والجامع رفع مزيد الضرر. وأجيب بأن قوله وَالَّذِينَ صيغة جمع وقوله الْمُحْصَناتِ كذلك. وإذا قوبل الجمع بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى: كل من رمى محصنة فاجلدوه. وفيه أن رمي المحصنة علة الجلد فحيث وجدت وجد. ولا شك أن هذه العلة موجودة عند رمي كل واحدة من المحصنات فيترتب عليها الجلد لا محالة. وأما السنة فالإنصاف أن دلالتها على المطلوب
(١)
رواه الترمذي في كتاب الحدود باب ٢. بلفظ «ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم».
153
قوية، وأما القياس فالفرق أن هذا حق الآدمي وتلك حدود الله تعالى. هذا كله هو البحث عن الرمي. وأما البحث عن الرامي فنقول: لا عبرة بقذف الصبي والمجنون إلا في باب التعزير للتأديب إن كان لهما تمييز ولو لم يتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ. قال القفال: يسقط التعزير لأنه كان للزجر. والعقل زاجر قوي وإشارة الأخرس وكتابته قذف ولعان عند الشافعي قياسا على سائر الأحكام، ولأنه كاف في لحوق العار. وعند أبي حنيفة لا يصح قذفه ولعانه لضعف تأثيرهما. وإذا قذف العبد حرا فعليه أربعون جلدة قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه على قانون قوله فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: ٢٥] وعند الشيعة
ويروى عن علي رضي الله عنه أنه يجلد ثمانين أخذا بعموم الآية،
ولهذا اتفقوا على دخول الكافر فيه حتى لو قذف اليهودي مسلما جلد ثمانين.
ويستثنى من الرماة الأب أو الجد إذا قذف أولاده أو أحفاده فإنه لا يجب عليه الحد كما لا يجب عليه القصاص. وأما البحث عن المرمي فالمحصنات العفائف لأنهن منعن فرجهن إلا من زوجهن وهي عامة إلا أن الفقهاء اعتبروا لكونها محصنة شرائط خمسا: الإسلام
لقوله ﷺ «من أشرك بالله فليس بمحصن»
والعقل والبلوغ لأن المجنون والصبي لا اهتمام لهما بدفع العار عن أنفسهما، والحرية لمثل ما قلنا، والعفة لأن الحد شرع لتكذيب القاذف فإذا كان صادقا فلا معنى للحد حتى لو زنى مرة في عنفوان شبابه ثم تاب وحسنت حاله لم يحد قاذفه بخلاف ما لو زنى في حال صغره أو جنونه ثم بلغ أو أفاق فقذفه قاذف فإنه يحد لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زنا. ولو زنى بعد القذف وقبل إقامة الحد على القاذف سقط الحد عن قاذفه. قاله أبو حنيفة والشافعي لأن ظهور الزنا منه خدش ظن الإحصان به وقت القذف، ودل على أنه كان متصفا به قبله كما روي أن رجلا زنى في عهد عمر فقال:
والله ما زنيت إلا هذه. فقال عمر: كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة. وقال أحمد والمزني وأبو ثور: الزنا الطارئ لا يسقط الحد عن القاذف. ولفظ المحصنات لا يتناول الرجال عند جمهور العلماء إلا أنهم أجمعوا على أنه لا فرق في هذا الباب بين المحصنين والمحصنات والقذف بغير الزنا كأن يقول «يا آكل الربا» يا «شارب الخمر» يا «يهودي» يا «مجوسي» يا «فاسق» وكذا قذف غير المحصنين بالزنا لا يوجب الا التعزير، ولو كان المقذوف معروفا بما ذكره فلا تعزير أيضا. واعلم أنه سبحانه حكم على القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء بثلاثة أحكام: جلد ثمانين وبطلان الشهادة والحكم بفسقه إلى أن يتوب.
فذهب جمع من الأئمة كالشافعي والليث بن سعد إلى أنه رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة أمورا ثلاثة معطوفة بعضها على بعض بالواو وهو لا يفيد الترتيب، فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتبا على إقامة الحد، بل يجب أن يثبت رد الشهادة بالقذف مع عدم
154
البينة سواء أقيم عليه الحد أم لا. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: شهادته مقبولة ما لم يحد فإذا استوفى لم تقبل شهادته. وإنما ذهب إلى هذا نظرا إلى ظاهر الترتيب مع موافقته للأصل وهو كونه مقبول الشهادة ما لم يطرأ مانع
ولقوله ﷺ «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» «١»
أخبر ببقاء عدالته ما لم يحدّ.
أما الاستثناء في قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فإنه لا يرجع إلى الجملة الأولى اتفاقا لأنه إذا عجز عن البينة وهو الإتيان بأربعة شهداء وجب عليه الجلد ولم يكن للإمام ولا للمقذوف أن يعفو عن القاذف لأنه خالص حق الله عز وجل، ولهذا لا يصح أن يصالح عنه بمال. هذا قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: إذا عجز عن البينة وجب على الإمام وهو المخاطب بقوله فَاجْلِدُوهُمْ أن يأمر بجلده وإن تاب لأن القذف وحده حق الآدمي والمغلب فيه حقه، فليس للإمام أن يعفو عنه. ولا خلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة وأن المراد أنهم محكوم عليهم بالفسق. الا أن تابوا. بقي الخلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة المتوسطة، ومنشأ الخلاف مسألة أصولية هي أن الاستثناء بعد جمل معطوف بعضها على بعض للجميع وهو مذهب الشافعية، أو للأخيرة وهو مذهب الحنفية، ويتفرع على مذهب الشافعي أن القاذف إذا تاب وحسنت حاله قبلت شهادته فيكون الأبد مصروفا إلى مدة كونه قاذفا وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف. ويتفرغ على مذهب أبي حنيفة أنه لم تقبل شهادته وإن تاب والأبد عنده مدة حياته. وقوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة عنده لا معطوفة لأنها خبرية وما قبلها طلبية، ولو سلم أنها معطوفة فالاستثناء يرجع إليها فقط. قال صاحب الكشاف: حق المستثنى عند الشافعي أن يكون مجرورا بدلا من هم في لهم، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوبا لأنه عن موجب. قلت: حقه عند الإمامين أن يكون منصوبا لأن الاستثناء يعود عند الشافعي إلى الجملتين، ولا يمكن أن يكون الاسم الواحد معربا بإعرابين مختلفين في حالة واحدة، لكنه يجب نصبه نظرا إلى الأخيرة فتعين نصبه نظرا إلى ما قبلها أيضا، وإن جاز البدل في غير هذه المادة. هذا وقد احتجت الشافعية أيضا في قبول شهادة القاذف بعد التوبة
بقوله ﷺ «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» «٢»
وإذا كانت التوبة من الكفر والزنا والقتل مع غلظها مقبولة فلأن تقبل من القذف أولى. وأيضا إن أبا حنيفة يقبل شهادته قبل الحد فبعده وقد تاب وحسن حاله أولى. وأيضا الكافر يقذف
(١) رواه ابن ماجة في الأحكام باب ٣٠. أحمد في مسنده (٢/ ٢٠٨) ولم يذكر القذف.
(٢) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد باب ٣٠.
155
فيتوب من الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، فالقاذف المسلم إذا تاب من القذف كان أولى بأن تقبل شهادته لأن القذف مع الإسلام أهون حالا من القذف مع الكفر. لا يقال: المسلمون لا يعبؤون بسب الكفار لاشتهارهم بعداوتهم والطعن فيهم فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر عار حادث بخلاف ما لو قذفه مسلم. وأيضا الإيمان يجب ما قبله وبهذا لا يلزم الحد بعد التوبة من الكفر ويلزم بعد التوبة من القذف لأنا نقول: هذا الفرق ملغى في أهل الذمة
لقوله ﷺ «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»
واحتجت الحنفية في عدم قبول شهادته بما روى ابن عباس في قصة هلال بن أمية يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ولم يشترط التوبة، ومثله
قوله ﷺ «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف» «١»
ولم يذكر التوبة.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال «لا تجوز شهادة محدود في الإسلام» «٢»
والشافعية عارضوا هذه الحجج بوجوه: منها
قوله ﷺ «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» «٣»
فإذا علم المحدود وجبت عليه الشهادة ولو لم يقبل كان عبثا. ومنها قوله نحن نحكم بالظاهر، وهاهنا قد ظهرت العفة والصلاح. ومنها أن عمر بن الخطاب ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة ونافع ونفيع ثم قال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته. فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وتابا فكان يقبل شهادتهما.
وقد بقي في الآية مسائل.
الأولى: قال الشافعي: لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين. وقال أبو حنيفة: إذا جاؤا متفرقين لم يثبت وعليهم حد القذف كما لو شهد على الزنا أقل من أربعة. حجة الشافعي أن الآتي بالشهداء متفرقين آت بمقتضى النص واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية. وأيضا القياس على سائر الأحكام بل تفريقهم أولى لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ. وكذلك يفعل القاضي في كل حكم سواه عند الريبة. وأيضا لا يجب أن يشهدوا معا في حالة واحدة بل إذا اجتمعوا عند القاضي ويقوم واحد بعد آخر ويشهد جاز فكذا إذا اجتمعوا على بابه ويدخل واحد بعد آخر. حجة أبي حنيفة الشاهد الواحد لما شهد قذفه ولم يأت بأربعة شهداء فوجب عليه الحد فخرج عن كونه شاهدا، ولا عبرة بتسميته شاهد إذا فقد المسمى فلا خلاص عن هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع، ونظيره ما روي أن المغيرة بن
(١، ٢) رواه ابن ماجة في كتاب الأحكام باب ٣٠. أحمد في مسنده (٢/ ٢٠٨) ولم يذكر القذف.
(٣)
رواه البخاري في كتاب الأحكام باب ١٥ بلفظ «إن عرفتها فاشهد وإلا فلا تشهد».
156
شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب أربعة: أبو بكرة ونافع ونفيع. وقال زياد: وكان رابعهم: رأيت رجليها على عاتقه كأذني حمار ولا أدري ما وراء ذلك. فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر. فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف في الحد للاحتياط.
الثانية: جوّز أبو حنيفة أن يكون زوج المقذوفة واحدا من الشهداء الأربعة وأباه الشافعي.
الثالثة: قال الشافعي: في أحد قوليه: إذا أتي بأربعة فساق فهم قذفة يجب عليهم الحد كما يجب على القاذف الأول. وقال أبو حنيفة: لا حد عليهم ولا على القاذف لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة إلا أن الشرع لم يعتبر شهادتهم، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه فكذلك يجب اعتبارها في نفي الحد عنهم.
الرابعة: لا يكفي في الشهادة إطلاق الزنا لا بد أن يذكروا التي زنى بها وأن يذكروا الزنا مفصلا مفسرا فيقولوا: رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة أو كالرشا في البئر، ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم. ولو أقر على نفسه بالزنا فهل يشترط التفسير والبيان؟ فيه وجهان: نعم كالشهود لا كالقذف.
الخامسة: قالوا: أشد الحدود ضرب الزنا ثم ضرب الخمر ثم القذف لأن سبب عقوبته يحتمل الصدق والكذب. إلا أنه عوقب صيانة للأعراض.
السادسة: حد القذف يورث عند مالك والشافعي بناء على أنه حق الآدمي.
وقد قال ﷺ «من ترك حقا فلورثته» «١»
والأصح أنه يرثه جميع الورثة. وفي قول سوى الزوج والزوجة لأن الزوجية ترفع بالموت، ولأن لحوق العار بها أقل. وعلى هذا القول اعترض أبو حنيفة بأنه لو كان موروثا لكان للزوج والزوجة فيه نصيب.
السابعة: إذا قذف إنسان إنسانا بين يدي الحاكم أو قذف امرأته برجل والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلانا قد قذفك وثبت لك حد القذف عليه كما لو ثبت له حق على آخر وهو لا يعلمه يلزمه إعلامه، وبهذا المعنى بعث النبي ﷺ أنيسا ليخبرها بأن فلانا قذفها بابنه ولم يبعثه ليتفحص عن زناها.
(١) رواه البخاري في كتاب الكفالة باب ٥. مسلم في كتاب الفرائض حديث ١٤، ١٧. أبو داود في كتاب الفرائض باب ٨. الترمذي في كتاب الجنائز باب ٦٩. النسائي في كتاب الجنائز باب ٦٧.
أحمد في مسنده (٢/ ٢٩٠).
157
قال الشافعي: وليس للإمام إذا رمى رجل بالزنا أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك لأن الله تعالى قال وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات: ٢٢] وأراد به إذا لم يكن القاذف معينا كأن قال رجل بين يدي الحاكم: الناس يقولون إن فلانا زنى. فلا يبعث الحاكم إليه فيسأله. الثامنة:
قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه. وفسره الأصطخري بأن يقول: كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحق: لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقا فيكون قوله كذبت كذبا والكذب معصية والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى بل يقول: القذف باطل وندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه. ولا بد من مضيّ مدة عليه في حسن الحال وهو المراد بقوله وَأَصْلَحُوا وقدّروا تلك المدة بسنة لأن مرور الفصول الأربعة كلها له تأثير في الطباع. وأن الشارع جعل السنة معتبرة في الزكاة والجزية وغيرهما. أما قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ففيه دليل على أن القذف من جملة الكبائر، وأن الفاسق اسم من يستحق العقاب لأنه لو كان مشتقا من فعله لكانت التوبة لا تمنع من دوامه كما لا تمنع من وصفه بأنه ضارب، اللهم إلا أن يقال: إنما لا يطلق عليه هذا الاسم بعد التوبة للتعظيم كما لا يقال لأكابر الصحابة كافر لكفر سبق. قالت الأشاعرة: في قوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دلالة على أن قبول التوبة لا يجب عليه وإلا لم يفد المدح. الحكم الثالث: اللعان وسببه قذف الزوجات خاصة. القذف أمر محظور في نفسه إلا إذا عرض ما يباح أو يجب به.
وتفضيل ذلك أنه إن رآها الزوج بعينه تزني، أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها، أو سمع ممن يثق بقوله، أو استفاض بين الناس أن فلانا يزني بفلانة وقد رآه الزوج يخرج من بيتها، أو رآه معها في بيت، أبيح له القذف لتأكد التهمة. ويجوز أن يمسكها أو يستر عليها لما
روي أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي امرأة لا تردّ يد لامس. قال: طلقها. قال:
إني أحبها. قال: فأمسكها
أما إذا سمعه ممن لا يوثق بقوله، أو استفاض ولكن لم يره الزوج معها أو بالعكس لم يحل له قذفها لأنه ربما دخل لخوف أو سرقة أو لطلب فجور وأبت المرأة هذا كله إذا لم يكن ثمة ولد يريد نفيه، فإن كان ثمة ولد فإن تيقن أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه نفيه باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه.
قال رسول الله ﷺ «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأشهاد من الأولين والآخرين» «١»
وإن احتمل أن يكون الولد منه بأن
(١) رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب ٢٩. الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٢.
158
أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء ولأقل من أربع سنين، فإن لم يكن استبرأها بحيضة أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء لم يحل له القذف والنفي، وإن اتهمها بالزنا وإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء يباح له القذف والنفي، والأولى أن لا يفعل لأنها قد ترى الدم على الحبل. وإن أتت امرأته بولد لا يشبهه كأن كانا أبيضين وأتت به أسود فإن لم يتهمها بالزنا فليس له نفيه لما
روى أبو هريرة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم.
قال: ما لونها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم قال: فكيف ذاك؟ قال: نزعه عرق. قال: فلعل هذا نزعه عرق.
وإن كان يتهمها بزنا أو برجل فأتت بولد يشبهه فهل يباح نفيه؟ فيه وجهان: أما سبب نزول الآية
فقد قال ابن عباس: لما نزلت الآية المتقدمة قال عاصم بن عدي الأنصاري: إذا دخل منا رجل بيته ووجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال:
وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت على غيظ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر، وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما وقال:
رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ﷺ في الجمعة الأخرى فقال: يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي. أخبرني عويمر أنه رأى شريكا على بطن امرأته، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم أبناء عم عاصم. فدعاهم رسول الله ﷺ جميعا وقال لعويمر: اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها. فقال: يا رسول الله أقسم بالله أني رأيت شريكا على بطنها وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وأنها حبلى من غيري. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت. فقالت: يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل التردد ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال فأنزل الله سبحانه هذه الآيات. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ إلى آخرها. فأمر رسول الله ﷺ حتى نودي بالصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر: قم وقل أشهد بالله أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثانية قل أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثالثة: قل أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين.
ثم قال في الرابعة: قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين. ثم قال في الخامسة: قل لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قاله. ثم قال: اقعد. وقال لخولة: قومي فقامت. وقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي عويمرا لمن الكاذبين. وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه
159
لمن الكاذبين. وقالت في الثالثة: أشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين. وفي الرابعة:
أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين. وفي الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله. ففرق رسول الله ﷺ بينهما.
وعن ابن عباس أيضا في رواية الكلبي أن عاصما رجع إلى أهله فوجد شريكا على بطن امرأته فأتى رسول الله ﷺ والحديث كما تقدم.
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: لما نزلت آية القذف قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: ولو وجدت رجلا على بطنها فإني إن جئت بأربعة شهداء يكون قد قضى حاجته وذهب. فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟
قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور. فقال سعد: يا رسول الله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت منه. فقال صلى الله عليه وسلم: فإن الله أبى لي ذلك فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فقال: يا رسول الله إني وجدت مع امرأتي رجلا رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله ﷺ ما جاء به فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أخبرتك به، والله يعلم أني لصادق وما قلت إلا حقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما البينة وإما إقامة الحد عليك. فاجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد. فبيناهم كذلك إذ نزل الوحي فقال: يا هلال أبشر فقد جعل الله لك فرجا وأمر بالملاعنة وفرق بينهما وقال: أبصروها فإن جاءت به أصهب أحمش الساقين أي دقيقهما فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا خدلج الساقين. أي ضخمهما فهو لصاحبه. فجاءت به خدلج الساقين فقال صلى الله عليه وسلم: لولا الإيمان لكان لي ولها شأن.
قال عكرمة: لقد رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار لا يدري من أبوه.
واعلم أن الفرق بين قذف غير الزوجة وبين قذف الزوجة هو أن المخلص من الحد في الأول إقرار المقذوف بالزنا أو بينة تقوم على زناه، وفي الثانية المخلص أحد الأمرين أو اللعان. وسبب شرع اللعان هو أنه لا مضرة على الزوج في زنا الأجنبي والأولى له ستره، وأما في زنا الزوجة فيلحقه العار والشنار والنسب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمتعذر. وأيضا الغالب أن الرجل لا يقصد رمي زوجته إلا عن حقيقة، فنفس الرمي دليل على صدقه إلا أن الشرع أراد كمال شهادة الحال بقرينة الإيمان كما أن شهادة المرأة حين ضعفت أكدت بزيادة العدد فمن هنا قال كثير من العلماء: إن حد قاذف الزوجة كان هو الجلد وإن الله نسخه باللعان.
ولنذكر هاهنا مسائل:
الأولى: قال الشافعي: إذا نكل الزوج عن اللعان لزمه الحد للقذف، فإذا لاعن
160
ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا. وقال أبو حنيفة: إذا نكل الزوج يحبس حتى يلاعن وكذا المرأة. حجة الشافعي إذا لم يأت بالمخلص وهو الملاعنة وجب الرجوع إلى مقتضى آية القذف وهو الحد. وأيضا قوله وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ليست اللام فيه للجنس لأنه لا يجب عليها جميع أنواع العذاب، ولأن الآية تصير إذ ذاك مجملة فهو للعهد ولا معهود في الآية إلا حد القذف،
ولقوله ﷺ لخولة الرجم أهون عليك من غضب الله.
وللمرأة أن تقول: إن كان الرجل صادقا فحدّوني وإن كان كاذبا فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله ولا سنة رسوله. حجة أبي حنيفة أن النكول ليس بصريح في الإقرار فلا يجوز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره.
الثانية: الجمهور على أنه إذا قال «يا زانية» وجب اللعان لعموم قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ وقال مالك: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني وينفي حملا بها أو ولدا منها.
الثالثة: قال الشافعي: من صح رميه صح لعانه فلا يشترط إلا التكليف، ويجري اللعان بين الذميين والمحدودين والرقيقين. وذهب أبو حنيفة إلى أن الزوج ينبغي أن يكون مسلما حرا عاقلا بالغا غير محدود في القذف، والمرأة ينبغي أن تكون بهذه الصفة مع العفة. فإذا كان الزوج عبدا أو محدودا في قذف والمرأة محصنة حدّ كما في قذف الأجنبيات. دليل الشافعي عموم قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ والإجماع. على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة، فكذا القول في غيرهما، والجامع هو الحاجة إلى دفع العار. دليل أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي: من النساء من ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحرّة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر. وأيضا اللعان بين الزوجات قائم مقام الحد في الأجنبيات فلا يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي. وأيضا اللعان شهادة لقوله تعالى فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ وقد جاء مثله في أحاديث اللعان. وإذا كان شهادة وجب أن لا يقبل من المحدود في القذف ولا من العبد والكافر. أجاب الشافعي بأن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة أو يمين فيها شائبة الشهادات فلا يشترط في الملاعن إلا أهلية لليمين، ومما يدل على أنه يمين
قوله ﷺ لهلال بن أمية: احلف بالله الذي لا إله إلا هو إنك صادق.
وقوله: لولا الإيمان لكان لي ولها شأن.
وأيضا لو كان شهادة لكان حظ المرأة ثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل، ولم يجز لعان الفاسق والأعمى لأنهما ليسا من أهل الشهادة. لا يقال: الفاسق والفاسقة قد يتوبان لأنا نقول: العبد أيضا قد يعتق، بل العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال، والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته إلا بعد الاختبار. ثم ألزم
161
الشافعي أبا حنيفة بأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية. ثم قال الشافعي بعد ذلك: وتختلف الحدود لمن وقعت له، ومعناه أن الزوج إن لم يلاعن ينصف الحد عليه برقه، وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وحريتها ورقها.
الرابعة: اختلف المجتهدون في نتائج اللعان، فعن عثمان البتي أنه لا يحصل به الفرقة أصلا لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه وهذا لا يوجب تحريما كما لو قامت البينة عليها. وأيضا إن تلاعنهما في بيتهما لا يوجب الافتراق فكذا عند الحاكم. وأيضا إنه قائم مقام الشهود في الأجنبيات فلا يكون له تأثير إلا في إسقاط الحد. وأيضا إذا أكذب الزوج نفسه ثم حدّ لا يوجب الفرقة فكذا اللعان. وأما تفريق النبي ﷺ بين المتلاعنين في قصة العجلاني فذلك لأن الزوج كان طلقها ثلاثا قبل اللعان. وعن أبي حنيفة وأصحابه إلّا زفر، أن الحاكم يفرق بينهما لما روى سهل بن سعد: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم يجتمعان أبدا، ولما في قصة عويمر كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا، فلو وقعت الفرقة باللعان لم يمكن إمساكها. وقال مالك والليث وزفر: إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة بينهما وإن لم يفرق الحاكم، لأنهما لو تراضيا على دوام النكاح لم يخليا فدل ذلك على وقوع الفرقة بينهما. وقال الشافعي: إذا فرغ الزوج وحده من اللعان حصل بذلك خمس نتائج: درء الحد عنه، ونفي الولد، والفرقة، والتحريم المؤبد، ووجوب الحد عليها. ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها، وما
روي أنه ﷺ فرق بينهما
محمول على أنه أخبر عن وقوع الفرقة بينهما. وزعم أبوبكر الرازي أن قول الشافعي خلاف الآية، لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لاعنت المرأة وهي أجنبية، ولكنه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين، وأيضا اللعان شهادة فلا يثبت حكمها إلا عند الحاكم كسائر الشهادات. وأيضا اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ما ادعاه بالبينة فيتوقف على حكم الحاكم. وأيضا اللعان لا إشعار فيه بالتحريم فهو كما لو قامت البينة على زناها فلا بد من إحداث التفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم. ولقائل أن يقول: سميا زوجين باعتبار ما كان كالعبد على من عتق، ولا نسلم أن اللعان شهادة محضة. ومما يؤكد قول الشافعي تنصيص الله سبحانه على ذلك بقوله وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ ففيه دلالة على أن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب. وأيضا أن لعان الزوج مستقل بنفي الولد لأن الاعتبار في الإلحاق بقوله لا بقولها، ألا ترى أنها في
162
لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه، وإذا انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أن يكون الفراش زائلا لقوله «الولد للفراش».
الخامسة: مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف والثوري وإسحق، أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدا وهو قول علي وابن مسعود. ولما روي الزهري من حديث سهل بن سعد، ولما
روي أنه ﷺ قال للمتلاعنين بعد اللعان لا سبيل لك عليها.
ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان إلا كذاب غاية لهذه الحرمة، وأنه إذا أكذب نفسه وحدّ زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد لذكرها رسول الله ﷺ كما قال تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣] وقد يحتج لأبي حنيفة بعموم قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣] وقوله وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤].
السادسة: اتفق أهل العلم على أن الولد ينتفي من الزوج باللعان. وخالف بعضهم مستدلا
بقوله ﷺ «الولد للفراش»
وزيف بأن الأخبار الدالة على أن الولد ينتفي باللعان كالمتواترة فلا يعارضها الواحد بل يجب تخصيصه بها.
السابعة: لو أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق بها الحكم عند الشافعي وهو ظاهر وعن أبي حنيفة أن للأكثر حكم الكل إذا حكم به الحاكم.
الثامنة: كيفية اللعان كالصريحة في الآية وأن الحديث قد زادها بيانا كما مر. وقد عد الشافعي ومن سننها أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة ويقول له القاضي أو صاحب المجلس: اتق الله فإنها موجبة. وهكذا يقال للمرأة إذا انتهت إلى الغضب. ومما يستحب في اللعان ولا يجب على الأصح، التغليظ بالزمان. وهو ما بعد صلاة العصر ولا سيما عصر يوم الجمعة، وبالمكان وذلك بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة بين المنبر والمدفن، وفي سائر البلاد عند المنبر في المسجد الجامع أيضا وهو المقصورة، وفي بيت المقدس في المسجد الأقصى عند الصخرة، ولليهود في الكنيسة، وللنصارى في البيعة، وللمجوس في بيت نارهم، وإذا لم يكون له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام. ولا بد من حضور الحاكم سواء كان مدار اللعان على اليمين أو على الشهادة، ولا بد من حضور جمع من الأعيان أقلهم أربعة.
التاسعة: قال جار الله: إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظا عليها لأنها أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ولذلك كانت متقدمة في آية الجلد.
163
العاشرة: في فوائد متعلقة بالآية منها: إبطال الجمهور وقول الخوارج إن الزنا والقذف كفر، وذلك أن الرامي إن صدق فهي زانية وإن كذب فهو قاذف، فلا بد من كفر أحدهما والردة توجب الفرقة من غير لعان. ومنها إبطال قول من زعم أن الزنا يوجب فساد النكاح لأن رمي الزوج إياها اعتراف منه بزناها بل بفساد النكاح على قول هذا القائل فتحصل الفرقة بلا لعان. ومنها أن المعتزلة قالوا: المتلاعنان يستحقان اللعن أو الغضب الموجبين للعقاب الأبدي المضاد للثواب وذلك يدل على خلود الفساق في النار. أجابت الأشاعرة بأن كونه مغضوبا عليه بفسقه لا ينافي كونه مرضيا عنه بجهة إيمانه فلا بد أن يحصل له بعد العقاب ثواب. ثم أخبر عن كمال رأفته بقوله وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي فيما بين من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة. وجواب «لولا» محذوف أي لهلكتم أو فضحتم أو لكان ما كان من أنواع المفاسد. وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم كل مذهب فيكون أبلغ في البيان فرب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به.
التأويل:
النفس الزانية المستسلمة لتصرفات الشيطان والدنيا فيها، والروح الزاني بتصرفه في الدنيا وشهواتها المنهية عنها فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ من الجوع وترك الشهوات والمرادات، ومن حملهما على المخالفات. ولعل السر في تخصيص هذا العدد هو أن ساعات اليوم بليلته أربع وعشرون منها: أربع ساعات لأجل النوم إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: ٢٠] والباقية يجب فيها مراقبة الحواس الخمس وتأديبهن بآداب الشرع والعقل، فيكون المجموع مائة تأديبة يحصل نتائجها وكمالها للنفس والروح والله تعالى أعلم. وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما ولتكن هذه التزكية والتأديبات بمحضر شيخ واصل كامل يحفظه من طرفي الإفراط والتفريط الزَّانِي لا يَنْكِحُ فيه أن الطبع يسرق والجنس إلى الجنس يميل، فأهل الفساد لا ترغب إلا في صحبة أمثالهم من أهل الفساد كما أن أرباب السداد لا تطمح إلا إلى صحبة أمثالهم من أرباب السداد. وَحُرِّمَ ذلِكَ الذي قلنا من اختلاط الأشرار عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي الأرواح الذين ينسبون إلى نقصان النفوس المستعدات للكمالات ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي لم يكن خواص العناصر الأربعة ظاهرة على صفحات أحوالهن كما مر تقريره في أول النساء في قوله فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: ١٥] ولم تبلغ الملكات الذميمة منهن مرتبتها.
الرابعة كالكاتب يكتب بالفعل فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً مر وهم بالخلوة أربعين يوما وأربعين ليلة حتى يظهر لهم كمال حال النفوس في الموافقة لهم ولا تقبلوا لهم بعد ذلك شهادة عليهن، وأولئك هم الذين يريدون أن يخرجوا عن طاعة الله بقدر نسبة النقصان إلى
164
النفوس المستعدة. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وهن القوالب المزدوجة بالأرواح وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ لأنه لا يطلع على أحوال القالب إلا الروح فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ هي الأسنان الأربعة التي فيها تحصل التربية والاستكمال. وَالْخامِسَةُ وهي حالة حلول الأجل اللعنة والغضب والعذاب الأبدي وما تولد منهما من الصفات الذميمة ينسبها الروح إلى ثالث هو الشيطان، وينسبها القالب إلى الروح الذي يدبره ويتصرف فيه.
والافتراق الذي يحصل بينهما ليس بالصورة بل بالمعنى لأن الروح يميل إلى العالم العلوي والقالب إلى العالم السفلي لعدم الموافقة بينهما وهو سبحانه أعلم.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ٢٦]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
القراآت:
كبره بضم الكاف: يعقوب. إِذْ سَمِعْتُمُوهُ وبابه مدغما: أبو عمرو
165
وعلي وهشام وحمزة غير خلف ورجاء والعجلي إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بالإظهار وتشديد التاء: البزي وابن فليح ولا يتأل من التألي: يزيد ما زَكى بالتشديد والإمالة: روح وقرأ قتيبة ممالة مخففة. يوم يشهد على التذكير: حمزة وعلي وخلف. والباقون بتاء التأنيث.
الوقوف:
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ط شَرًّا لَكُمْ ط خَيْرٌ لَكُمْ ط مِنَ الْإِثْمِ ج لنوع عدول من إجمال حكم الكل إلى بيان حكم البعض مع اتفاق الجملتين عَظِيمٌ هـ خَيْراً لا للعطف مُبِينٌ هـ شُهَداءَ ج للشرط معنى مع الفاء الْكاذِبُونَ هـ عَظِيمٌ ج لاحتمال أن يكون «إذ» ظرف قوله لَمَسَّكُمْ أو أَفَضْتُمْ واحتمال كونه منصوبا باذكر وبهذا قد قيل: الوصل ألزم لأن قوله سُبْحانَكَ من جملة مفعول قُلْتُمْ عَظِيمٌ هـ مُؤْمِنِينَ هـ ج لاتفاق الجملتين مع تكرار اسم الله دون الاكتفاء بالضمير وأنها آية الْآياتِ ط حَكِيمٌ هـ أَلِيمٌ هـ لا لتعلق الظرف وَالْآخِرَةِ ط لا تَعْلَمُونَ هـ رَحِيمٌ هـ خُطُواتِ الشَّيْطانِ ط وَالْمُنْكَرِ ط أَبَداً لا لتعلق لكن مَنْ يَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط والوصل أولى للعطف وَلْيَصْفَحُوا ط لَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ وَالْآخِرَةِ ص عَظِيمٌ هـ لا لتعلق الظرف يَعْمَلُونَ هـ الْمُبِينُ هـ لِلْخَبِيثاتِ ج للعطف مع التضاد لِلطَّيِّباتِ هـ ج لاتحاد المعنى مع فقدان العاطف يَقُولُونَ ط كَرِيمٌ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما ذكر من أحكام القذف ما ذكر أتبعها حديث إفك عائشة الصدّيقة وما قذفها به أهل النفاق.
روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وكلهم رووا عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة. قال الزهري: هي غزوة المريسيع. وذكره البخاري في غزوة بني المصطلق من خزاعة. قال: وهي غزوة المريسيع أيضا. فخرج اسمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف وقرب من المدينة نزل منزلا ثم أذن بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني وأقبلت إلى رحلي لمست صدري فإذا عقد لي من حزع أظفار قد انقطع، فرجعت والتمست عقدي وحبسني طلبه. وأقبل الرهط الذين كانوا يحملون فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه لخفتي فإني كنت جارية حديثة السن وذهبوا بالبعير، فلما رجعت إلى مكاني وليس به أحد جلست وقلت: يعودون في طلبي فنمت. وقد كان صفوان بن المعطل يمكث في المعسكر يتتبع أمتعة الناس فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء، فلما رآني عرفني وقال: ما خلفك عن الناس؟ فأخبرته الخبر فنزل وتنحى حتى ركبت، ثم قاد البعير
166
وافتقدني الناس حين نزلوا وخاض الناس في ذكري. فبيناهم في ذلك هجمت عليهم فتكلم القوم فيّ وقدم رسول الله ﷺ المدينة ومكثت شهرا أشتكي ولا يرقأ لي دمع أقول كما يقول العبد الصالح أبو يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: ١٨] إلى أن نزل فيّ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ إلى آخر الآيات.
وفي الحديث طول هذا حاصل سبب النزول. وأما التفسير فالإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان.
والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه العصابة.
قال المفسرون: هم عبد الله بن أبي رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. ومعنى مِنْكُمْ أنهم كانوا من جملة من حكم لهم بالإيمان ظاهرا. أما الخطاب في قوله لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ فالصحيح أنه لمن ساءه ذلك من المؤمنين وخاصة رسول الله ﷺ وأبا بكر وعائشة وصفوان. ومعنى كونه خيرا لهم أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم على قدر عظم البلاء، وأنه نزلت فيه بضع عشرة آية فيها تعظيم شأن الرسول ﷺ وتسلية له وتنزيه لأم المؤمنين وتطهير لأهل البيت وتهويل للطاعنين فيهم إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية والآداب العقلية. وقيل: الخطاب لعائشة وحدها والجمع لتعظيمها. وقيل: الخطاب للقاذفين وبيان الخيرية صرفهم عن الاستمرار على حديث الإفك إلى التوبة عن ذلك، ولعل في هذا الذكر عقوبة معجلة لهم فيكون في هذا القول الكفارة. وضعف هذا القول بأنه لا يناسب تسلية الرسول والمؤمنين ولا يطابق قوله لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي يصيب كل خائض في حديث الإفك ما يصيبه من عقاب ما اكتسب من إثم الخوض. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ أي معظم الإفك وهو في قول الضحاك حسان ومسطح ولهذا جلدهما رسول الله ﷺ مع امرأة من قريش، والأشهر أنه عبد الله رأس النفاق.
ويحكى أن صفوان مر بهودجها وهو في ملأ من قومه فقال: من هذه؟
فقالوا: عائشة. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها. ويروى أن عائشة ذكرت حسانا وقالت: أرجو له الجنة. فقيل:
أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت: إذا سمعت شعره في مدح الرسول ﷺ رجوت له الجنة.
وفي رواية أخرى قالت: وأي عذاب أشد من العمى.
ثم علم أدبا حسنا في مثل هذه الواقعة فقال لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ فصل بين «لولا» التحضيضية وبين فعلها بالظرف لأنه يتسع في الظرف ما لا يتسع في غيره تنزيلا للظرف منزلة المظروف نفسه، ولأن الممكنات لا تنفك عن الظروف. والفائدة فيه أن يعلم أن ظن الخير كان يجب عليهم أول ما سمعوه بالإفك، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم
167
ومثله وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ [النور: ١٦] ثم لا يخفى أن أصل المعنى أن يقال: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم هذا إفك. ومعنى بأنفسكم بالذين منكم من المؤمنين والمؤمنات، فعدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، ولينبه لفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا عاتب بل يقول بملء فيه بناء على ظن الخير مصرحا ببراءة ساحته هذا إِفْكٌ مُبِينٌ وذلك أن المؤمن معه من العقل والذين ما يهديه إلى الأصلح ويؤخره عن الأقبح، ولم يوجد هذا الداعي والصارف معارض بتساويهما كما قيل:
كلام العدى ضرب من الهذيان. فوجب أن لا يلتفت المؤمن إلى قول الطاعن في حق أخيه ويبقى على حسن ظنه به وهذا أدب حسن قل العامل به، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يزيد فيه.
روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: أما ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءا؟ قال: لا. قلت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله ﷺ فعائشة خير مني وصفوان خير منك.
وفي الآية دلالة على قول أبي حنيفة أن المسلمين عدول بعضهم على بعض ما لم يظهر منهم ريبة لأنا مأمورون بحسن الظن وذلك يوجب قبول الشهادة. ومن هنا قال أيضا: إذا باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين إنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بظن الخير فوجب حمله على ما يجوز. ومثله إذا باع سيفا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف. وإذا وجدنا امرأة أجنبية مع رجل فاعترفا بالتزويج تصدقهما حملا لعقود المسلمين وتصرفاتهم على الجواز والصحة. وزعم مالك أنهما يحدان إن لم يقيما بينة على النكاح. وقيل: إن الآية مختصة بعائشة لأن كونها زوجة النبي كالدليل القاطع على أن الذي قيل فيها إفك صريح. قال العلماء: يجوز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط، ولا يجوز أن تكون فاجرة لأن الأنبياء معصومون عن المنفرات البتة فإن حصول المنفر معه ينافي بعثته لكن الكفر غير منفر للكفرة. قال: وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات. قيل: في تفسيره الكشخان الذي تحبب امرأته الرجال إلى نفسها. ويقال: كشخنته أي قلت له يا كشخان. ثم بالغ في زجرهم عن حديث الإفك بقوله لَوْلا جاؤُ وهي أيضا تحضيضية والمراد التفصيل بين الرمي الصادق والكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها ولكن هذا العدد وكل فرد منه منتف في حق عائشة فهم في حكم الله وشريعته كاذبون. وهذا القدر كاف في إلزام أولئك الطاعنين وإلا فهم في نفس الأمر بالنسبة إلى هذه الواقعة كاذبون كما مر تقريره آنفا. ثم زاد في التهديد والزجر بقوله وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ هي «لولا» الامتناعية. قال جمهور المفسرين: لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في هذه الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن
168
أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وعن مقاتل أن في الآية تقديما وتأخيرا والمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بالحلم عنكم والحكم عليكم بالتوبة لَمَسَّكُمْ فِيما اندفعتم فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة معا. وتلقي الإفك أخذه من أفواه القالة وقوله، والأصل تتلقونه بتاءين وقد قرىء به. كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى طار وانتشر.
وفي زيادة قوله بِأَفْواهِكُمْ إشارة إلى أنه قول لا وجود له إلا في العبارة ولا حقيقة لمؤداه في الواقع. والقذف كبيرة من الكبائر كما سبق لا سيما قذف زوجة النبي وخاصة نبينا ﷺ فلهذا قال وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ عن بعضهم أنه جزع عند الموت فقيل له فقال: أخاف ذنبا لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم. وفي النصائح الكبار لا تقولن لشيء من سيئاتك حقير فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم في الآية بارتكاب ثلاثة آثام: تلقي الإفك والتكلم بما لا حقيقة له ولا علم به واستهانة عظيمة من العظائم، وفيه أن عظم المعصية لا يتعلق بظن فاعله بل جهله بعظمه ربما يصير مؤكدا لعظمه. وفيه أن الواجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرم إذ لا يأمن أن يكون عند الله من الكبائر.
ثم علمهم أدبا آخر ومعنى ما يَكُونُ لَنا لا ينبغي ولا يصح لنا. ومعنى سُبْحانَكَ تنزيه الله من أن تكون زوجة نبينا الذي هو أحب خلقه إليه فاجرة، أو تنزيهه من أن يرضى بقذف هؤلاء المقربين ولا يعاقبهم، أو هو للتعجب من عظم الأمر وذلك أنه يسبح الله عند رؤية كل أمر عجيب من صنائعه فكثر حتى استعمل في كل متعجب منه. والفرق بين هذه الآية وبين قوله لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ هو أن تلك تميل إلى العموم وهذه إلى الخصوص فكأنه بين أن هذا القذف خاصة مما ليس لهم أن يتفوهوا به لما فيه من إيذاء نبيه وإيذاء زوجته التي هي حبيبته يَعِظُكُمُ اللَّهُ بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب كراهة أَنْ تَعُودُوا أو في شأن أن تعودوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي مدة حياتكم. ولا دلالة للمعتزلة في قوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ على أن ترك القذف من الإيمان لاحتمال أنه للتهيج والانزجار وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أي لانتفاعكم الْآياتِ الدالات على علمه وحكمته وما ينبغي أن يتمسك المكلف به في أبواب صلاح معاشه ومعاده وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ هما صفتان مختلفتان عند المعتزلة ثانيتهما أخص من الأولى، وعند الأشاعرة الثانية للتأكيد المحض.
والمراد أنه يجب قبول تكاليفه وبياناته لأنه عالم بما أمر وبما يستحقه كل مأمور، وليس في تكليفه عيب ولا عبث. ومن كان هذه صفته وجب طاعته ليثيب ولا يعاقب. استدلت المعتزلة بالآية في أنه يريد الإيمان من الكل وإلا لم يكن واعظا ولا مبينا آياته لانتفاعهم ولا
169
حكيما لا يفعل القبائح. ولا جواب للأشاعرة إلا أنه يشاء ما يشاء ولا اعتراض عليه. ثم بين بقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أن أهل الإفك يشاركهم في عذاب الدارين من رضي بقولهم، وأنهم كما هم مؤاخذون بما أظهروه فهم معاقبون على ما أضمروه من محبة إشاعة الفاحشة والفحشاء في المؤمنين، لأنها تدل على الدغل والنفاق وعدم سلامة القلب. والفاحشة والفحشاء ما أفرط قبحه، وشيوعها انتشارها وظهورها بحيث يطلع عليها كل أحد وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم، فهذا الوعيد شامل لكل من أراد بواحد من المؤمنين أو المؤمنات شيئا من المضار والأذيات. وبعضهم حمل الفاحشة على الزنا وخصص من يحب شيوع الفاحشة بعبد الله بن أبي. وخصص الذين آمنوا بعائشة وصفوان، ولا يخفى ما فيه من ضيق العطن إلا أن يساعده نقل صحيح. وعذاب الدنيا الحد واللعن والذم وما على أهل النفاق من صنوف البلاء، ولقد ضرب رسول الله ﷺ عبد الله بن أبي وحسانا ومسطحا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره. وعذاب الآخرة في القبر وفي القيامة هو النار.
عن رسول الله ﷺ «إني لأعرف قوما يضربون صدورهم ضربا يسمعه أهل النار وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون عليهم من الفواحش ما ليس فيهم»
وعن أنس أن النبي ﷺ قال «لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «١»
من الخير وأما قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ففي نهاية حسن الموقع لأن الأعمال القلبية محبة الشر أو الخير لا يطلع عليها أحد كما هي إلا الله سبحانه. وإنما نعرف نحن شيئا منها بالقرائن والإمارات وفيه زجر عظيم لمن لا يجتهد في أن يكون قلبه سليما من النفاق والغل، وحصول هذا الغل في القلب غير العزم على الذنب فإن الأول ملكة والثاني حال، ولا يلزم من ترتب العقاب على الملكات ترتبه على الأحوال فافهم. قال أبو حنيفة:
المغتابة بالفجور لا تستنطق لأن استنطاقها إشاعة للفاحشة وإنها ممنوع عنها. وقالت المعتزلة: في الآية دليل على أنه تعالى غير خالق للكفر ولا مريد وإلا كان ممن يحب أن تشيع الفاحشة. ولقائل أن يقول: قياس الغائب على الشاهد فاسد. ثم كرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب والتمكين من التلافي وبالغ فيها بذكر الرؤوف والرحيم. وجواب «لولا» محذوف على نسق ما مر. وقيل: جوابه ما يدل على ذلك في قوله ما زَكى مِنْكُمْ وهو بعيد. عن ابن عباس أن الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والأقرب العموم. ثم نهى عن اتباع
(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٧١، ٧٢. البخاري في كتاب الإيمان باب ٧. الترمذي في كتاب القيامة باب ٥٩. النسائي في كتاب الإيمان باب ١٩.
170
آثار الشيطان وسلوك مسالكه والاقتداء به في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفحشاء وارتكاب ما تنكره العقول وتأباه. وقوله فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ من وضع السبب مقام المسبب والمراد ضل. قالت الأشاعرة: في قوله ما زَكى بالتشديد والضمير لله وكذا في قوله وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي دلالة على أن الزكاء وهو الطهارة من دنس الآثام لا يحصل إلا بالله، وهو دليل على أنه خالق الأفعال والآثار. وحمله المعتزلة على منح الألطاف أو على الحكم بالطهارة، وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأنه يجب انتهاء الكل إليه، وبأن قوله مَنْ يَشاءُ ينافي قولكم إن خلق الألطاف واجب عليه.
ثم علم أدبا آخر جميلا بقوله وَلا يَأْتَلِ وهو افتعل من الألية أي لا يحلف على عدم الإحسان، وحرف النفي يحذف من جواب القسم كثيرا فهي كقراءة من قرأ ولا يتأل وقيل: هو من قولهم «ما ألوت جهدا» إذا لم يدخر من الاجتهاد شيئا أي لا يقصر في الإحسان إلى المستحقين.
قالوا: نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر الصديق فقيرا من فقراء المهاجرين، وكان أبوبكر ينفق عليه. فلما فرط منه ما فرط آلى أن لا ينفق عليه فنزلت فقرأها رسول الله ﷺ على أبي بكر، فلما وصل إلى قوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي فعفا عن مسطح ورجع إلى الإنفاق عليه وقال: والله لا أنزعها أبدا.
قال الإمام فخر الدين الرازي: هذه الآية تدل على أفضلية أبي بكر الصديق من وجوه، وذلك أن الفضل المذكور في الآية لا يراد به السعة في المال والإلزام التكرار فهو الفضل في الدين ولكنه مطلق غير مقيد فثبت له الفضل على الإطلاق. تركنا العمل به في حق النبي ﷺ بالاتفاق فيبقى في الغير معمولا به. وأيضا ذكره الله تعالى في الآية بلفظ الجمع وإنه مشعر بالتعظيم. وأيضا قد قيل:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
فهذا الظلم من مسطح كان في غاية العظم وقد أمره الله تعالى بالصفح عنه، وامتثل هو فكان فيه نهاية جهاد النفس فيكون ثوابه على حسب ذلك. وأيضا في تسميته أولى الفضل والسعة شرف تام فكأنه قيل له: أنت أفضل من أن تقابل إنسانا بسوء وأنت أوسع قلبا من أن تقيم للدنيا وزنا فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن يقطع برك عمن أساء إليك. وأيضا أمره الله تعالى بالعفو والصفح وقال لنبيه فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة: ١٣] فهو من هذه الجهة ثاني اثنين له في الأخلاق. وأيضا علق المغفرة بالعفو وقد حصل العفو فتحصل المغفرة البتة في الحال وفي الاستقبال لقوله أَنْ يَغْفِرَ فهو للاستقبال فيكون كما قال لنبيه لِيَغْفِرَ لَكَ
171
اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ
[الفتح: ٢] وفيه دليل على حقية خلافته وإلا كان عاصيا والعاصي في النار. وليس النهي في قوله وَلا يَأْتَلِ نهي زجر عن المعصية ولكنه ندب إلى الأولى والأفضل وهو العفو.
عن النبي ﷺ أفضل أخلاق المسلمين العفو
وعنه ﷺ «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه»
واعلم أن العلماء أجمعوا على أن مسطحا كان مذنبا لأنه أتى بالقذف أو رضي به على الروايتين عن ابن عباس، ولهذا حده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأجمعوا أيضا على أنه من البدريين
وقد ورد فيهم الخبر الصحيح «لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «١»
فكيف الجمع بين الأمرين؟ أجابوا أنه ليس المراد من قوله «اعملوا ما شئتم» أنهم خارجون عن حد التكليف وإنما المراد اعملوا من النوافل ما شئتم قليلا أو كثيرا فقد أعطيتكم الدرجات العاليات في الجنة، أو أراد حسن حالهم في العاقبة أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال: قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة. قالت الأشاعرة: في وصف مسطح ومدحه بكونه من المهاجرين دليل على أن ثواب كونه مهاجرا لم ينحبط بإقدامه على القذف فيكون القول بالمحابطة باطلا. استدل جمهور الفقهاء بالآية في قول من فسر الائتلاء بالحلف على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة وإنما يجوز إذا جعلت داعية للخير لا صارفة عنه. ثم قالوا: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فينبغي له أن يأتي بالذي هو خير ثم يكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ولقوله تعالى وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: ٨٩] وهو عام في جانب الخير وفي غيره. ومثله ما ورد في قصة أيوب وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ [ص: ٤٤] ولو كان الحنث كفارة لم يؤمر بضرب الضغث عليها. وقال بعض العلماء: إنه يأتي بالذي هو خير وذلك كفارته
لقوله ﷺ في حديث آخر «من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير وذلك كفارته» «٢»
ولأنه تعالى أمر أبا بكر في هذه الآية بالحنث ولم يوجب عليه كفارة. وأجيب بأن معنى الكفارة في الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي إحدى الخصال، وإنما ذهبنا إلى هذا ليكون مطابقا
للحديث الآخر «من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو
(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٦٠ باب ١. أبو داود في كتاب السنة باب ٨. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٦٠ باب ١.
(٢) رواه البخاري في كتاب الخمس باب ١٥. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٧، ٩. النسائي في كتاب الأيمان باب ١٥، ١٦. ابن ماجة في كتاب الكفارات باب ٧، ٨. الدارمي في كتاب النذور باب ٩.
أحمد في مسنده (٢/ ١٨٥) (٣/ ٧٦) (٤/ ٢٥٦). [.....]
172
خير وليكفر عن يمينه»
وأما هذه الآية فإنما لم يذكر فيها الكفارة لأنها معلومة من آية المائدة. قوله إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قد مر تفسير المحصنة. وأما الغافلات فهن السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر بحسب الغريزة أو لقلة التجارب، وقد يعين على ذلك صغر السن وغير ذلك من الأحوال. قال الأصوليون:
خصوص السبب لا يمنع العموم فيدخل في الآية قذفة عائشة وقذفة غيرها، وخصصه بعض المفسرين فمنهم من قال: المراد عائشة وحدها والجمع للتعظيم. ومنهم من قال: عائشة مع سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: هي أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة المشاكلة لها في الإحصان والغفلة والإيمان. وذكروا في سبب التخصيص أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وأما القذف المذكور في هذه الآية فوعيده مطلق من غير استثناء. وأجيب بأنه طوى ذكر التوبة في هذه الآية لكونها معلومة.
وقد يحتج للمخصص بما روي عن ابن عباس أنه كان بالبصرة يوم عرفة فسئل عن تفسير هذه الآية فقال: من أذنب ذنبا ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة. ومنهم من قال: نزلت الآية في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد، وكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: إنما خرجت لتفجر. أما شهادة الجوارح فلا إشكال فيها عند الأشاعرة لأنهم يقولون: البنية ليست شرطا في الحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما وقدرة وكلاما. وقالت المعتزلة: المتكلم هو فاعل الكلام فيكون الكلام المضاف إلى الجوارح هو في الحقيقة من الله تعالى. ويجوز أن يبني الله هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها إلى أن تشهد على الإنسان وتخبر عن أعماله. ومعنى دِينَهُمُ الْحَقَّ الجزاء المستحق. وقال في الكشاف: معنى قوله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ العادل الظاهر العدل. وقال غيره: سمي حقا لأنه تحق عبادته أو لأنه الموجود بالحقيقة وما سواه فوجوده مستعار زائل. والمبين ذو البيان الصحيح أو المظهر للموجودات. فالحاصل أنه واجب الوجود لذاته مفيد الوجود لغيره. ثم ختم الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة وهي قوله الْخَبِيثاتُ يعني الكلمات التي تخبث مواردها ويستقذرها من يخاطب بها ويمجها سمعه ككلمات أهل الإفك، ويجوز أن يراد بالخبيثات مضمون الآيات الواردة في وعيد القذفة لأن مضمونها ذم ولعن وهو يستكره طبعا وإن كان نفس الكلمة التي هي من قبل الله سبحانه طيبا. وعلى الوجهين يراد بالخبيثين الرجال والنساء جميعا إلا أنه غلب الرجال. والحاصل أن الخبيثات من القول تقال أو تعد للخبيثين من الرجال والنساء، والخبيثون من الصنفين معرضون للخبيثات من القول وكذلك الطيبات
173
والطيبون أُولئِكَ الطيبون مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يقول الخبيثون من خبيثات الكلم. قال جار الله:
هو كلام جار مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب، وجوز بقرينة الحال أن يكون أُولئِكَ إشارة إلى أهل البيت عليهم السلام وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك. وفي الآية قول آخر وهو أن يراد بالخبيثات النساء الخبائث، وبالخبيثين الرجال الذين هم أشكال لهن فيكون أول الآية نظير قوله الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وكذلك الكلام في أهل الطيب ولا أطيب من رسول الله ﷺ فيكون أزواجه مثله فلذلك أخبر عن حالهن بقوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وقد مر تفسير الرزق الكريم في «الحج» نظيره قوله في الأحزاب وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الآية: ٣١] وفي الآية دلالة على أن عائشة من أهله الجنة. وقال بعض الشيعة: هذا الوعد مشروط باجتناب الكبائر وقد فعلت عائشة من البغي يوم الجمل ما فعلت، والصحيح عند العلماء إنها رجعت عن ذلك الاجتهاد وتابت. عن عائشة: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر النبي أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفته الملائكة في بيتي، وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصدّيقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما.
وعن بعضهم: برأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [يوسف: ٢٦] وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها إلى عبد الله، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة سيد الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين.
التأويل:
إذا حصل لأهل الله مسألة إلى غيره قيض الله له ما يرده إليه،
وأن النبي عليه السلام لما قيل له: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة فساكنها وقال: يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة. وقالت عائشة: إني أحبك وأحب قربك
فالله تعالى حل عقدة الحب عن قلبه لحديث الإفك ورد قلب عائشة إلى حضرته حتى قالت حين ظهرت براءة ساحتها «بحمد الله لا بحمدك». وقيل: الملامة مفتاح باب حبس الوجود بها يذوب الوجود ذوبان الثلج بالشمس يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة وبالحقيقة هي في الدنيا معجلة كقوله تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ [البقرة: ٢٧٣] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وقال الشاعر:
عيناك قد حكتا مبيتك... كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرتك... مبيت صاحبها عيانا
174
وإذا كانت الإمارة في الدنيا ظاهرة فهي في القيامة أولى فاللسان يشهد بالإقرار بقراءة القرآن، واليد تشهد بأخذ المصحف، والرجل تشهد بالمشي إلى المسجد، والعين تشهد بالبكاء، والأذن تشهد باستماع كلام الله. وعند الحكماء تظهر أنوار الملكات الحميدة على النفس من البدن وبالعكس كما تتعاكس أنوار المرايا المتقابلة، ويعلمون أهل الوصول والوصال أن الله هو الحق المبين لا شيء في الوجود غيره لا في الدنيا ولا في الآخرة، وحينئذ يحق أن يقال: الْخَبِيثاتُ وهن الملوثات بلوث الوجود المجازي لِلْخَبِيثِينَ وهم أمثالهن وَالطَّيِّباتُ من لوث الحدوث لِلطَّيِّبِينَ وهم أشكالهن ولا طيب إلا الله وحده
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٣٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
القراآت:
وليضربن بكسر اللام على الأصل: عياش جُيُوبِهِنَّ بضم الجيم:
أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وهشام وعاصم غير الأعشى والبزي
175
والعواس من طريق الهاشمي. وفي رواية خلف عن حمزة بإشمام الجيم الضم ثم يشير إلى الكسر وبضم الياء. الآخرون: بالكسر الخالص. غير بالنصب على الاستثناء أو الحال:
ابن عامر ويزيد وأبوبكر وحماد. الباقون: بالكسر على الوصف أيه المؤمنون بضم الهاء في الحالين: ابن عامر. وقرأ أبو عمرو وعلي وابن كثير بألف في الوقف. الباقون بفتح الهاء بغير ألف في الوقف وبألف في الوصل.
الوقوف:
أَهْلِها ط تَذَكَّرُونَ هـ يُؤْذَنَ لَكُمْ ج للشرط مع العطف أَزْكى لَكُمْ ط عَلِيمٌ هـ مَتاعٌ لَكُمْ ط تَكْتُمُونَ هـ فُرُوجَهُمْ ط لَهُمْ ط بِما يَصْنَعُونَ هـ جُيُوبِهِنَّ صل عَوْراتِ النِّساءِ ص زِينَتَهُنَّ ط تُفْلِحُونَ هـ وَإِمائِكُمْ ط فَضْلِهِ ط عَلِيمٌ هـ فَضْلِهِ ط خَيْراً ق قد قيل: والوصل أوجه للعطف. آتاكُمْ ط للعدول إلى حكم آخر الدنيا ط رَحِيمٌ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ.
التفسير:
الحكم الرابع الاستئذان: لما كانت الخلوة طريقا إلى التهمة ولذلك وجد أهل الإفك سبيلا إلى إفكهم شرع أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان. وفي الآية أسئلة: الأول الاستئناس هو الأنس الحاصل بعد المجانسة قال الله تعالى وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب: ٥٣] ولا يكون ذلك في الأغلب إلا بعد الدخول والسلام، فلم عكس هذا الترتيب في الآية؟ جوابه بعد تسليم أن الواو للترتيب، هو أن الاستئناس طلب الأنس وأنه مقدم على السلام. وقال جار الله: هو من باب الكفاية والإرداف لأن الأنس الذي هو خلاف الوحشة يردف الإذن فوضع موضع الإذن كأنه قيل: حتى يؤذن لكم. أو هو استفعال من آنس إذا أبصر، فالمراد حتى تستكشفوا الحال ويبين هل يراد دخولكم أم لا. أو هو من الإنس بالكسر وهو أن يتعرف هل ثمّ إنسان لأنه لا معنى للسلام ما لم يعلم أفي البيت إنسان أم لا. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير: إنما هو «حتى تستأذنوا» فأخطأ الكاتب ولا يخفى ضعف هذه الرواية لأنها توجب الطعن في المتواتر وتفتح باب القدح في القرآن كله نعوذ بالله منه. الثاني: ما الحكمة في شرع الاستئذان؟ الجواب: كيلا يطلع الداخل على عورات، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه، ولئلا يوقف على الأحوال التي تخفيها الناس في العادة، ولأنه تصرف في ملك الغير فلا بد أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب ولذلك قال سبحانه ذلِكُمْ يعني الاستئذان والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية والدمور أي الدخول من غير إذن.
قال ﷺ «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر»
واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي أنزل عليكم. أو قيل لكم: هذا إرادة أن تتعظوا أو تعملوا به. الثالث: كيف يكون الاستئذان؟ جوابه:
استأذن رجل على رسول الله فقال: ألج. فقال: لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلميه فإنه
176
لا يحسن أن يستأذن قولي له يقول «السلام عليكم أدخل» فسمع الرجل فقالها فقال: ادخل.
ويؤيده قراءة عبد الله حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فمنع الله تعالى عن ذلك وعلم الأدب الأحسن. وعن مجاهد حتى تستأنسوا هو التنحنح ونحوه. وقال عكرمة: هو التسبيح والتكبير وقرع الباب بعنف والتصبيح بصاحب الدار منهي عنه وكذا كل ما يؤدي إلى الكراهية وينبىء عن الثقل. الرابع: كم عدد الاستئذان؟ الجواب
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال «الاستئذان ثلاث بالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون»
ومثله عن أبي موسى الأشعري وقصته مع عمر مشهورة في ذلك. وعن قتادة الاستئذان ثلاثة: الأول يسمع الحي. الثاني ليتهيأ. والثالث إن شاؤا أذنوا وإن شاؤا ردوا. وينبغي أن يكون بين المرات فاصلة وإلا كان الكل في حكم واحد. الخامس: كيف يقف على الباب؟ جوابه أنه ﷺ كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكنه يقف من ركنه الأيمن أو الأيسر، فإن كان للباب ستر كانت الكراهية أخف. السادس: قوله حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا يدل على أنه يجوز الدخول بعد الاستئذان والتسليم وإن لم يكن ثمة إذن أو من يأذن، لأن «حتى» للغاية والحكم بعد الغاية يكون خلاف ما قبلها جوابه.
سلمنا المخالفة لكن لا نسلم المناقضة، وذلك أنه قبل الاستئذان لا يجوز الدخول مطلقا وبعده فيه تفصيل، وهو أنه إن لم يجد فيها أحدا من الآذنين مطلقا أو من يعتبر إذنه شرعا فليس له الدخول وذلك قوله فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً أي على الإطلاق أو ممن له الإذن فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي حتى تجدوا من يأذن لكم أو من يعتبر إذنه، وإن وجد فيها من له الإذن فإن أذن دخل وإن لم يأذن وقال ارجع رجع وهو قوله وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى أي الرجوع أطيب لكم وأطهر لما فيه من سلامة الصدر والبعد من الريبة. وفي قوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ نوع زجر للمكلف فعليه أن يحتاط كيف يدخل ولأي غرض يدخل وكيف يخرج. وهل يقوم غير الإذن مقام الإذن؟
عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال «رسول الرجل إلى الرجل إذنه»
وفي رواية أخرى «إذا دعى أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن»
وقيل: إن من قد جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان. والجمهور على أن إذن الصبي والعبد والمرأة معتبر وكذلك في الهدايا لأجل الضرورة. وهل يعتبر الاستئذان على المحارم؟
روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
أستأذن على أمي؟ قال: نعم. قال: إنها ليس لها خادم غيري أستأذن عليها كلما دخلت
177
عليها. قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا. قال: فأستأذن.
قال العلماء: إن كان المنع من الهجوم على الغير لأجل أنه لا يراه منكشف الأعضاء فتستثنى منه الزوجة وملك اليمين، وإن كان لأجل أنه لا يراه مشغولا بما يكره الاطلاع عليه فالمنع عام إلا إذا عرض ما يبيح هتك الستر كحريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره. التاسع: ما حكم من اطلع على دار غيره بغير إذنه؟ الجواب: قال الشافعي: لو فقأ عينه فهي هدر وتمسك بما
روى سهل بن سعد أنه اطلع رجل في حجرة من حجر النبي ﷺ ومع النبي مدرى يحك بها رأسه فقال: لو علمت أنك تنظر إلي لطعنت بها في عينك، إنما الاستئذان من النظر.
وعن أبي هريرة أنه ﷺ قال: «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه» «١»
قال أبو بكر الرازي: هذا الخبر مردود لوروده على خلاف الأصول، فلا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه ضامنا وعليه القصاص إن كان عامدا، ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع. فمعنى الحديث لو صح أنه من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم ونسائهم ثم منع فلم يمتنع فذهبت عينه في حال الممانعة فهي هدر، وأجيب بالفرق فإنه إذا علم القوم دخوله عليهم احترزوا عنه وتستروا فأما إذا نظر على حين غفلة منهم اطلع على ما لا يراد الاطلاع عليه فلا يبعد في حكمة الشرع أن يبالغ هاهنا في الزجر حسما لمادة هذه المفسدة. جميع هذه الأحكام فيما إذا كانت الدار مسكونة فإن لم تكن مسكونة فذلك قوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية.
وللمفسرين فيه أقوال: الأول: قول محمد بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرجال والسلع والبيع والشراء.
يروى أن أبا بكر قال: يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن فنزلت.
وقيل: هي الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز. وقيل: الأسواق. والأولى العموم. وإنما لم يحتج إلى الإذن دفعا للحرج، ولأنها مأذون في دخولها من جهة العرف. ثم ختم الآية بوعيد مثل ما تقدم الحكم الخامس، غض البصر وحفظ الفرج عما لا يحل. وتخصيص المؤمنين بهذا التكليف عند من لا يجعل الكفار مكلفين بفروع الإسلام ظاهر، وأما عند من يجعلهم مكلفين بالفروع أيضا فالتخصيص للتشريف، أو نزل فقدان مقدمة التكليف منزلة فقدان التكليف وإن كان حالهم في الحقيقة كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها. قال أكثر النحويين:
(١) رواه مسلم في كتاب الآداب حديث ٤٣- ٤٤. أبو داود في كتاب الآداب باب ١٢٧. النسائي في كتاب القسامة باب ٤٨. الدارمي في كتاب الديات باب ٢٣. أحمد في مسنده (٢/ ٢٤٣).
178
«من» للتبعيض والمراد غض شيء من البصر لأن غض كله كالمعتذر بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق. وجوز الأخفش أن تكون «من» مزيدة. وقيل: صلة للغض أي ينقصوا من نظرهم. يقال: غضضت من فلان إذا انقضت من قدره. فالنظر إذا لم يكن من عمله فهو معفو موضوع عنه. وإعراب قوله يَغُضُّوا كما مر في سورة إبراهيم في قوله قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا [الآية: ٣١] قال الفقهاء: العورات على أربعة أقسام:
عورة الرجل مع الرجل، وعورة المرأة مع المرأة، وعورة المرأة مع الرجل، وبالعكس. أما الرجل مع الرجل فيجوز أن ينظر إلى جميع بدنه إلا إلى عورته، وعورته ما بين السرة والركبة، والسرة والركبة ليستا بعورة. وعند أبي حنيفة: الركبة عورة. قال مالك: الفخذ ليست بعورة وهو خلاف ما
روي أنه ﷺ قال لعلي: لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي وميت.
فإن كان في نظره إلى وجه الرجل أو سائر بدنه شهوة أو خوف فتنة بأن كان أمرد لا يحل النظر إليه. ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان واحد منهما في جانب الفراش
لرواية أبي سعيد الخدري أنه ﷺ قال: «لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد» «١»
ويكره المعانقة وتقبيل الوجه. إلا لولده شفقة. وتستحب المصافحة والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل فلها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، ولا يجوز عند خوف الفتنة، ولا تجوز المضاجعة أيضا لما مر في الحديث. والأصح أن الذمية لا يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة لأنها أجنبية في الدين والله تعالى يقول أَوْ نِسائِهِنَّ أما عورة المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبية حرة فجميع بدنها عورة لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والإعطاء. ويعني بالكف ظهرها وبطنها إلى الكوعين.
وقيل: ظهر الكف عورة. وفي هذا المقام تفصيل: قال العلماء: لا يجوز أن يعمد النظر إلى وجه الأجنبية بغير غرض فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
ولقوله ﷺ «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» «٢»
فإن كان هناك غرض ولا شهوة ولا فتنة فذاك والغرض أمور منها: أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفها.
روى أبو هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا.
ومنها إذا أراد شراء جارية فله
(١) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث ٧٤. الترمذي في الكتاب الأدب باب ٣٨.
(٢) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب ٤٣. الترمذي في كتاب الأدب باب ٢٨. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٣. أحمد في مسنده (٥/ ٣٥١، ٣٥٣).
179
أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها. ومنها أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملا حتى يعرفها عند الحاجة. ومنها أنه ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى الوجه لأن المعرفة تحصل به. ومنها يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إلى بدن الأجنبية للمعالجة كما يجوز للخاتن أن ينظر إلى فرج المختون لأنه محل ضرورة. وكما يجوز أن ينظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة، وإلى فرجها لتحمل شهادة الولادة إذا لم تكن نسوة، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع. فإن كان هناك شهوة وفتنة فالنظر محظور
قال ﷺ «العينان تزنيان» «١»
وقيل: مكتوب في التوراة: النظر يزرع الشهوة في القلب ورب شهوة أورثت حزنا طويلا. ويستثنى منه ما لو وقعت في حرق أو غرق فله أن ينظر إلى بدنها ليخلصها. وإن كانت الأجنبية أمة فالأصح أن عورتها ما بين السرة والركبة لما
روي أنه ﷺ قال في الرجل يشتري الأمة «لا بأس أن ينظر إليها إلا إلى العورة وعورتها ما بين معقد إزارها إلى ركبتها»
وقيل: إلا ما تبدي المهنة فيخرج منه أن رأسها وعنقها وساعديها وساقيها ونحرها وصدرها ليس بعورة، وفي ظهرها وبطنها وما فوق ساعديها الخلاف. وحكم المكاتبة والمدبرة والمستولدة ومن بعضها رقيق حكم الأمة ولا يجوز لمسها ولا لها مسه لأن اللمس أقوى من النظر بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطر.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليه، وأما إن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها ما بين السرة والركبة كعورة الرجل. وعند أبي حنيفة: عورتها ما لا يبدو عند المهنة، فإن كانت مستمتعا له كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها جاز له أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج، وكذا إلى فرج نفسه لما روي أنه يورث الطمس. وقيل: لا يجوز النظر إلى فرجها، فإن كانت الأمة مجوسية أو مرتدة أو وثنية أو مشتركة بينه وبين غيره أو مزوجة أو مكاتبة فهي كالأجنبية.
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال «إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة» «٢» وأما عورة الرجل مع المرأة فإن كان أجنبيا منها فعورته معها ما بين السرة والركبة. وقيل: جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه.
والأصح هو الأول لأن بدن المرأة في نفسه عورة بدليل أنه لا يصح صلاتها مكشوفة البدن، وبدن الرجل بخلافه. ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ولا تكرير النظر إلى وجهه لما
روي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله ﷺ وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل
(١) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٣٤٢، ٣٤٤).
(٢) رواه أبو داود في كتاب اللباس باب ٣٤.
180
فقال صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه. فقالت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟
وإن كان محرما لها فعورته معها ما بين السرة والركبة، وإن كان زوجها أو سيدها الذي يحل له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها. ولا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال وله ما يستر عورته لأنه ﷺ سئل عن ذلك
فقال: الله أحق أن يستحي منه. وعنه «إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله» «١»
ولما كان النظر بريد الزنا ورائد الفجور أمر بغض الأبصار أولا ثم بحفظ الفروج عن الزنا والفجور ثانيا. وعن أبي العالية أن كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلّا هذا فإنه أراد الاستثناء وأن لا ينظر إلى الفروج أحد، وعلى هذا ففائدة التخصيص بعد التعميم أن يعلم أن أمر الفرج أضيق. وحين خص الخطاب في أول الآية بالمؤمنين ذكر أن ذلك الذي أمر به من غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم لأنهم يتطهرون بذلك من دنس الآثام، ويستحقون الثناء والمدح، وهذا لا يليق بالكافر. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ولا ثاني له في القرآن إشارة إلى وجوب الحذر في كل حركة وسكون. وتفسير قوله وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ يعلم من التفصيل المتقدم. أما قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فمن الأحكام التي تختص بالنساء في الأغلب. وقد يحرم على الرجل إبداء زينته للنساء الأجنبيات إذا كان هناك فتنة. قال أكثر المفسرين: الزينة هاهنا أريد بها أمور ثلاثة: أحدها الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها والحمرة في خديها والحناء في كفيها وقدميها. وثانيها الحلي كالخاتم والسوار والخلخال والدملج والقلائد والإكليل والوشاح والقرط. وثالثها الثياب.
وقال: آخرون: الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلي وغير ذلك. يدل على ذلك أن كثيرا من النساء يتفردن بخلقهن عن سائر ما يعدّ زينة. وفي قوله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ إشارة إلى ذلك وكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن فأوجب سترها بالخمار. قال القفال:
بناء على هذا القول معنى قوله إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها إلا ما يظهره الإنسان على العادة الجارية وذلك في النساء الحرائر الوجه والكفان، وفي الإماء كل ما يبدو عند المهنة. وفي صوتها خلاف، الأصح أنه ليس بعورة لأن نساء النبي ﷺ كن يروين الأخبار للرجال. وأما الذين
(١) رواه الترمذي في كتاب الأدب باب ٤٢.
181
حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فذهبوا إلى أنه تعالى إنما حرم النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة لأجل المبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة إلا ما ظهر من هذه الزينة كالثياب مطلقا إذا لم تصف البدن لرقتها، وكالحمرة والوسمة في الوجه، وكالخضاب والخواتيم في اليدين، وما سوى ذلك يحرم النظر إليه. ولهذا قال وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ والخمر جمع الخمار وهي كالمقنعة. قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام واسعة فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن، فأمر أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتستتر بذلك أعناقهن ونحورهن وما حواليها من شعر وزينة.
وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء شبيه الإلصاق. وعن عائشة: ما رأيت نساء خيرا من نساء الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرن فأصبحن كأن على رؤوسهن الغربان.
ثم بين أن الزينة الخفية يحل إبداؤها لاثنتي عشرة فرقة: الأولى بعولتهن أي أزواجهن والتاء لتأكيد الجمع كصقورة. الثانية: آباؤهن وإن علوا من جهة الأب والأم. الثالثة: آباء بعولتهن وإن علوا. الرابعة: أبناؤهن وإن سفلوا الخامسة: أبناء بعولتهن وإن سفلوا أيضا.
السادسة: إخوانهن سواء كانوا من الأب أو من الأم أو منهما. السابعة: بنو إخوانهن.
الثامنة: بنو أخواتهن وحكم أولاد الأولاد حكم الأولاد فيهما. وهؤلاء كلهم محارم وترك من المحارم العم والخال، فعن الحسن البصري أنهما كسائر المحارم في جواز النظر. وقد يذكر البعض لينبه على الجملة ولهذا لم يذكر المحارم من الرضاع في هذه الآية، وكذا في سورة الأحزاب قال لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الآية: ٥٥] إلى آخر الآية. ولم يذكر البعولة ولا أبناءهم. وقال الشعبي: إنما لم يذكرهما الله تعالى لئلا يصفها العم عند ابنه والخال عند ابنه، وذلك أن العم والخال يفارقان سائر المحارم في أوان أبناءهما ليسوا من المحارم، فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم ومعرفة الوصف قريب من النظر، وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط في التستر. وإنما أبيح إبداء الزينة الخفية لهؤلاء المذكورين لاحتياجهن إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولا سيما في الأسفار للنزول والركوب. وأيضا لقلة وقوع الفتنة من جهاتهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب الأقارب. التاسعة: قوله أَوْ نِسائِهِنَّ فذهب أكثر السلف إلى أن المراد أهل أديانهن ومن هنا قال ابن عباس: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها. وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات. وقال آخرون: والعمل عليه إن المراد جميع النساء وقول
182
السلف محمول على الأولى والأحب. العاشرة: قوله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء ويؤيده ما
روى أنس أنه ﷺ أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله ﷺ ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك،
وعن عائشة أنها قالت لذكوان:
إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر. وعنها أنها كانت تمشط والعبد ينظر إليها.
وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب: إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة إذ ليس ملكها للعبد كملكه للأمة فلا خلاف أنها لا تستبيح بملك العبد شيئا من التمتع منه كما يملك الرجل من الأمة. وتحريم تزوج العبد لمولاته عارض غير مؤبد كمن عنده أربع نسوة لا يجوز له التزوج بغيرهن، فلما لم تكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب خصيا كان العبد أو فحلا. وأورد على هذا القول لزوم التكرار ضرورة أن الإماء من حملة نسائهن. وأجيب بأنه أراد بالنساء الحرائر كما أراد بالرجال الأحرار في قوله شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [البقرة: ٢٨٢] الحادية عشرة قوله أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وهي الحاجة وهم البله. وأهل العنة الذين لا يعرفون شيئا من أمور النساء إنما يتبعون الناس ليصيبوا من فضل طعامهم أو شيوخ صلحاء لا حاجة بهم إلى النساء لعفة أو عنانة.
عن زينب بنت أم سلمة أن النبي ﷺ دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة وقال: يا عبد الله إن فتح الله لكم الطائف أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان عنى عكن بطنها. فقال صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن عليكم هذا.
فأباح النبي ﷺ دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه.
الثانية عشر قوله أَوِ الطِّفْلِ وهو جنس يقع على الواحد والجمع وهو المراد هاهنا.
قال ابن قتيبة معنى لَمْ يَظْهَرُوا لم يطلعوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ والعورة سوأة الإنسان وكل ما يستحيا منه. وقال الفراء والزجاج: هو من قولهم «ظهر على كذا» إذا قوي عليه أي لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء. فعلى الأول يجب الاحتجاب ممن ظهر فيه داعية الحكاية، وعلى الثاني إنما يجب الاحتجاب من المراهق الذي ظهرت فيه مبادي الشهوة، قال الحسن: هؤلاء الفرق وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الظاهرة فهم على أقسام ثلاثة:
فأولهم الزوج وله حرمة ليست لغيره يحل له كل شيء منها، والثاني الأب والابن والأخ والجد وأبو الزوج وكل محرم من الرضاع أو النسب كل يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك. والثالث التابعون غير أولي الإربة، وكذا المملوك لا
183
بأس أن تقوم المرأة الشابة بين يدي هؤلاء في درع وخمار صفيق بغير ملحفة، ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعرا ولا بشرا ولا يصح للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب. فهذا ضبط هذه المراتب ثم علمهن أدبا آخر جميلا بقوله وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ قال ابن عباس: كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين. وفي النهي عن إظهار صوت الحلي بعد نهيهن عن إظهار الحلي مبالغة فوق مبالغة ليعلم أن كل ما يجر إلى الفتنة يجب الاحتراز عنه، فإن الرجل الذي تغلب عليه الشهوة إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعيا له إلى مشاهدتهن، ومنه يعلم وجوب إخفاء صوتهن إذا لم يؤمن الفتنة ولهذا كرهوا أذان النساء. ثم ختم الآية بالأمر بالدوام على التوبة والاستغفار لأن الإنسان خلق ضعيفا لا يكاد يقدر على رعاية الأوامر والنواهي كما يجب. قال العلماء: إن من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكر أن يجدد عنه التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه عز وجل. وعن ابن عباس: أراد توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. قال جار الله: من قرأ أيه المؤمنون بضم الهاء فوجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها.
الحكم السادس: النكاح وذلك أنه حين أمر بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى طريق الحل فيما تدعو إليه الشهوة. وأصل الأيامى أيايم فقلب الواحد أيم بتشديد الياء، ويشمل الرجل والمرأة. قال النضر بن شميل: الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك يقول: زوّجوا أياماكم بعضهم من بعض. وقد آم وآمت وتأيما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال: فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم. وظاهر الأمر الوجوب إلا أن الجمهور حملوه على الندب لأنه لو كان واجبا لشاع في عصر الرسول ﷺ وانتشر، ولو انتشر لنقل لعموم الحاجة إليه. وقد ورد في الأخبار التصريح بكونه سنة
كقوله ﷺ «النكاح سنتي» «١»
وكقوله ﷺ «من أحب فطرتي فليستسن بسنتي وهي النكاح»
وقد أجمعوا على أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه. واتفقوا على أن السيد لا يجبر على تزويج عبده أو أمته. نعم قد يجب في بعض الصور كما إذا التمست التزويج من الولي فعليه الإجابة إذا كان الخاطب كفؤا. استدل الشافعي بعموم الآية على جواز تزويج البكر البالغة
(١) رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب ١.
184
بدون رضاها واعترض أبوبكر الرازي بأن الأيامى شامل للرجال والنساء وحين لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم فكذا في النساء ويؤيده ما
روي أنه ﷺ قال «البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها» «١»
وأجيب بأن تخصيص النص لا يقدح في كونه حجة في الباقي. والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده بخلاف المرأة فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها أظهر، على أنا لا نسلم أن لفظ الأيامى عند الإطلاق يتناول الرجال، وفي تخصيص الآية بخبر الواحد أيضا نزاع. واستدل أبو حنيفة بعموم الآية أيضا على أن العم والأخ يليان تزويج الثيب الصغيرة ونوقش فيه. قال الشافعي: من تاقت نفسه إلى النكاح استحب له أن ينكح إذا وجد أهبة النكاح وإلا فليكسر شهوته بالصوم لما
روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله ﷺ قال «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فإن الصوم له وجاء» «٢»
والذي لا تتوق نفسه إلى النكاح لكبر أو مرض أو عجز أو كان غير قادر على النفقة يكره له أن ينكح لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام بحقه، وإن لم يكن به عجز وكان قادرا على القيام بحقه لم يكره له أن ينكح لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى. وقال أبو حنيفة: النكاح أفضل. حجة الشافعي أنه تعالى مدح يحيى بقوله وَسَيِّداً وَحَصُوراً [آل عمران: ٣٩] والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن.
وقال النبي ﷺ «أفضل أعمالكم الصلاة» «٣»
وقال «أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن»
وقال «أحب المباحات إلى الله تعالى النكاح»
والمباح ما استوى طرفاه، والمندوب ما ترجح فعله ولو كان النكاح عبادة لم يصح من الكافر. والنكاح فيه شهوة النفس والعبادة فيها مشقة النفس والإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر! ولو كان النكاح مساويا للنوافل في الثواب لم تكن النوافل مشروعة لأن الطريق المؤدي إلى المطلوب مع بقاء اللذة وعدم التعب أولى بالسلوك، وإن كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لأنه سبب لبقاء الأشخاص ونظام العالم. فالاشتغال بالزراعة أيضا أولى من النافلة للعلة المذكورة. وقد وقع
(١) رواه البخاري في كتاب الحيل باب ١١. أبو داود في كتاب النكاح باب ٢٣- ٢٥. الترمذي في كتاب النكاح باب ١٨. ابن ماجة في كتاب النكاح باب ١١. الدارمي في كتاب النكاح باب ١٣. أحمد في مسنده (١/ ٢١٩، ٢٦١) (٢/ ٢٢٩، ٢٥٠).
(٢) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ١٠. مسلم في كتاب النكاح حديث ١. النسائي في كتاب الصيام باب ٤٣. ابن ماجة في كتاب النكاح باب ١. الدارمي في كتاب النكاح باب ٢. أحمد في مسنده (١/ ٥٧).
(٣) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة باب ٤. الدارمي في كتاب الوضوء باب ٢. الموطأ في كتاب الطهارة حديث ٣٦. أحمد في مسنده (٥/ ٢٧٧، ٢٨٠).
185
الإجماع على أن واجب العبادة مقدم على واجب النكاح، فكذا مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب.
وعن النبي ﷺ «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال»
وعنه ﷺ «يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة»
حجة أبي حنيفة أن النكاح يتضمن صون النفس من ضرر الزنا ودفع الضرر أهم من جلب النفع. وأيضا النكاح يتضمن العدل.
وقد ورد في الحديث «لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة» وقال ﷺ «النكاح سنتي» «١»
وقال في الصلاة «إنها خير موضوع فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل»
ثم إن الأيامى جمع مستغرق لكنهم أجمعوا على أنه لا بد من شروط ذكرنا بعضها في سورة النساء في قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤] ومعنى مِنْكُمْ أي من حرائركم قاله كثير من المفسرين لأن حكم العبيد والإماء يعقب ذلك. ومنهم من قال: أراد من يكون تحت ولاية المأمور من الولد والقريب. ومنهم من قال: الإضافة لا تفيد الحرية والإسلام.
ثم أمر السادة أن يزوجوا أرقاءهم الصالحين. واتفقوا على أنه للإباحة والترغيب لأن في تزويج العبد التزام مؤنة زوجته وتعطل خدمته واستفادة المهر وسقوط النفقة في تزويج الأمة ليس قبوله بلازم على السيد أيضا، وتخصيص الصالحين بالذكر عناية من الله بحالهم ليتحصن دينهم ويتحفظ عليهم صلاحهم. وأيضا الصالحون من الأرقاء هم الذين يشفق عليهم مواليهم ويهتمون بشأنهم حتى ينزلوهم منزلة الأولاد. ويجوز أن يراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح، ومن جملة ذلك أن لا يكون في غاية الصغر بحيث لا يحتاج إلى النكاح.
وإذن السيد لهم أن يزوجوا أنفسهم ينوب عن تزويج السيد. أما قوله إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ فالأصح أن هذا ليس وعدا من الله تعالى بإغناء من يتزوج حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف، فرب غني يفقره النكاح ولكن المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ففي فضل الله ما يغنيهم والمال غاد ورائح. على أن مثل هذا الوعد قد جاء مشروطا بالمشيئة في قوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة: ٢٨] فالمطلق محمول على المقيد.
وقيل: أراد بالغنى نفس العفاف بتملك البضع الذي يغنيه عن الوقوع في الزنا. وعن طائفة من الصحابة أن هذا وعد. وعن أبي بكر قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى. وعن ابن عباس: التمسوا الرزق بالنكاح.
وشكا رجل إلى رسول الله ﷺ الحاجة فقال: عليك بالباءة.
وقد يستدل بالآية على أن العبد والأمة يملكان وإلا لم
(١) رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب ١.
186
يتصور فقرهما وغناهما. والمفسرون قالوا: الضمير عائد إلى الأحرار خاصة وهم الأيامى، وإن فسر الغني بالعفاف فلا بد في رجوعه إلى الكل وَاللَّهُ واسِعٌ إفضاله ولكنه عَلِيمٌ يبسط الرزق كما يريد وعلى ما ينبغي. وفيه إشارة إلى قيد المشيئة في الوعد المذكور. ثم ذكر حال العاجزين عن القيام بمؤن النكاح بقوله وَلْيَسْتَعْفِفِ أي ليطلب العفة من نفسه والمضاف محذوف أي لا يجدون استطاعة نكاح ولا يقدرون عليه، أو النكاح يراد به ما ينكح بوساطته وهو المال ولا محذوف. وفي قوله حَتَّى يُغْنِيَهُمُ نوع تأميل للمستعففين.
وفيه أن فضله من أهل الصلاح والعفاف قريب.
الحكم السابع: المكاتبة: وحين رغب السادة في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشدهم إلى الطريق الذي به ينخرط العبيد في سلك الأحرار مع عدم الإضرار بالسادة فقال وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ ومحله إما رفع والخبر فَكاتِبُوهُمْ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وإما نصب بفعل مضمر تفسيره فَكاتِبُوهُمْ والفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها كقوله وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: ٣] والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة، والتركيب يدل على الضم والجمع لما فيه من ضم النجوم بعضها إلى بعض. وقال الأزهري: هو من الكتابة ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت المال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق، وقيل: سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل واجبا عند الشافعي وندبا عند أبي حنيفة كما يجيء. والأجل يستدعي الكتابة لقوله إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: ٢٨٢] قال محي السنة: الكتابة أن تقول لمملوكك كاتبتك على كذا ويسمى ما لا يؤديه في نجمين أو أكثر ويعين عدد النجوم، وما يؤدى في كل نجم ويقول: إذا أديت ذلك المال فأنت حر وينوي ذلك بقلبه. ويقول العبد: قبلت وفي هذا الضبط أبحاث: الأول قال الشافعي: إن لم يقل بلسانه إذا أديت ذلك المال فأنت حر ولم ينور بقلبه ذلك لم يعتق لأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة، فإن ما في يد العبد فهو ملك السيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بعين ملكه. فقوله «كاتبتك» كناية في العتق فلا بد فيه من لفظ العتق ونيته. وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر:
لا حاجة إلى ذلك لإطلاق قوله فَكاتِبُوهُمْ وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع. الثاني: لا تجوز الكتابة عند الشافعي إلا مؤجلة لأن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال. وجوز أبو حنيفة الحلول لإطلاق الآية، ولأنه يجوز العتق على مال في الحال بالاتفاق، فالكتابة أيضا مثله. الثالث:
قال الشافعي: لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين.
روي ذلك عن علي عليه السلام وعمر وعثمان وابن عمر.
وذلك أنه عقد إرفاق ومن تمام
187
الإرفاق التنجيم. وجوز أبو حنيفة على نجم واحد لإطلاق الآية وللقياس على سائر العقود.
الرابع: جوز أبو حنيفة كتابة الصبي قال: ويقبل عنه المولى. وذهب الشافعي إلى أنه يجب أن يكون عاقلا بالغا لأنه تعالى قال وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ والصبي لا يتصور منه الطلب.
الخامس: جوز أبو حنيفة أن يكاتب الصبي بإذن الولي وشرط الشافعي كونه مكلفا مطلقا، لأن قوله فَكاتِبُوهُمْ خطاب فلا يتناول إلا العاقل هذا وللمفسرين خلاف في أن قوله فَكاتِبُوهُمْ أمر إيجاب أو استحباب، فقال قائلون ومنهم عمرو بن دينار وعطاء وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى وجوب الكتابة إذا طلبها المملوك بقيمته أو بأكثر وعلم السيد فيه خيرا، ولو كان بدون قيمته لم يلزمه وأكدوه بما روي في سبب النزول أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت. ويروى أن عمر أمر إنسانا بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين، فأبى فضربه بالدرة ولم ينكر أحد من الصحابة عليه. وذهب أكثر العلماء منهم ابن عباس والحسن والشعبي ومالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري إلى أنه ندب
لقوله ﷺ «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب من قلبه»
ولأن طلب الكتابة كطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة فلا تجب الإجابة، وهذه طريقة المعاوضات أجمع. قال العلماء: إذا أدى مال الكتابة عتق وكان ولاؤه لمولاه لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له، ومن هنا يكسب مولاه الثواب.
أما قوله إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال عطاء: الخير هو المال كقوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: ١٨٠] قال: بلغني ذلك عن ابن عباس. وضعف بأنه لا يقال في فلان مال وإنما يقال له أو عنده مال، وبأن العبد لا مال له بل المال لسيده، وعن ابن سيرين: أراد إذا صلى.
وعن النخعي: وفاء وصدقا. وقال الحسن: صلاحا في الدين. والأقرب أنه شيء يتعلق بالكتابة هكذا فسره الشافعي بالأمانة والقوة على الكسب. ويروى مثله مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن مقصود الكتابة لا يحصل إلا بالكسب ثم بالأمانة كيلا يضيع ما يكسبه.
واختلفوا أيضا في المخاطب بقوله وَآتُوهُمْ فعن الحسن والنخعي وابن عباس في رواية عطاء وهو مذهب أبي حنيفة، أنهم المسلمون والمراد أعطوهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال، ولا بعد في كون المخاطب في أحد المعطوفين غير الآخر ولا في كون أحد الأمرين للاستحباب والآخر للإيجاب. والسهم الذي يأخذه المكاتب له صدقة ولسيده عوض كما
قاله ﷺ في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية» «١»
وعن كثير من الصحابة
(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٦١، ٦٢. مسلم في كتاب الزكاة حديث ١٧٠- ١٧٢. أبو داود
188
وهو مذهب الشافعي أن المخاطب هو الموالي والأمر أمر إيجاب فيجب عليهم أن يبذلوا للمكاتبين شيئا من أموالهم، أو يحطوا عنهم جزءا من مال الكتابة. ثم اختلفوا في قدره
فعن علي عليه السلام أنه كان يحط الربع
ومثله ما روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاما له فترك ربع مكاتبته وعن ابن عمر أنه كاتب عبدا له بخمسة وثلاثين ألفا ووضع عنه خمسة آلاف وهو السبع. والأكثرون على أنه غير مقدر ويحصل الامتثال بأقل متمول. عن ابن عباس: يضع له من كتابته شيئا. وعن عمر أنه كاتب عبدا له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام، فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمرو وقال: استعن به على مكاتبتك. فقال: لو أخرته إلى آخر نجم، فقال: أخاف أن لا أدرك ذلك، وهذا الحط عند الأولين على وجه الندب فلا يجبر المولى عليه وأكدوه بما
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه ﷺ قال «أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلّا عشر أواق فهو عبد» «١»
فلو كان الحط واجبا لأسقط عنه بقدره، ومثله المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأيضا لو كان الحط واجبا فإن كان معلوما لزم عتقه إذا بقي ذلك القدر وليس ذلك بالاتفاق، ولو كان مجهولا لكان ما بقي وهو مال الكتابة مجهولا فلا تصح الكتابة. وأيضا أمر بالإيتاء من مال الله الذي أتاهم ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه يصدر العجز عنه فلا يستحق ذلك المال هذا الوصف فصح أن هذا أمر من الله تعالى بذلك للناس، أولهم وللسادة أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم.
قال ﷺ «من أعان مكاتبا في فك رقبته أظله الله في ظل عرشه».
الحكم الثامن: المنع من إكراه الإماء على الزنا: كان لعبد الله بن أبيّ رأس النفاق ست جوار: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، يكرههن على البغاء- أي الزنا- فشكت ثنتان منهن معاذة ومسيكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحد الإكراه قد مر في سورة النحل في قوله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: ١٠٦] والنص وإن كان مختصا بالإماء إلا أنهم أجمعوا على أن حال الحرائر أيضا كذلك.
والسؤال المشهور في الآية هو أن المعلق بكلمة أن على الشيء يفهم منه عدمه عند عدم ذلك الشيء فتدل الآية على جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن. والجواب
في كتاب الزكاة باب ٣٠. النسائي في كتاب الزكاة باب ٩٩. ابن ماجة في كتاب الطلاق باب ٢٩.
الدارمي في كتاب الطلاق باب ١٥. الموطأ في كتاب الطلاق حديث ٢٥. أحمد في مسنده (١/ ٢٨١، ٣٦١).
(١) رواه أبو داود في كتاب العتاق باب ١. ابن ماجة في كتاب العتق باب ٣. أحمد في مسنده (٢/ ١٧٨، ١٨٤). [.....]
189
بعد تسليم أن مفهوم الخطاب حجة هو أن الإكراه مع عدم إرادة التحصن والتعفف مما لا يجتمعان، فهذا المفهوم قد خرج عن كونه دليلا لامتناعه في ذاته. وقد يقال: إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب كما مر في قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: ١٠١] وقيل: «إن» بمعنى «إذ» لأن سبب النزول وارد على ذلك. قال جار الله:
أوثرت كلمة «أن» على «إذ» إيذانا بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من قبيل الشاذ والنادر. وللآية مفهوم آخر وهو أن للسادة إكراههن على النكاح وليس لها أن تمتنع على السيد إذا زوجها. وعَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا كسبهن وأولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم على الإطلاق أو بشرط التوبة على أصل الأشاعرة والمعتزلة، أو غفور لهن لأن الإكراه قد لا يكون على حد المعتبر في الشرع من التخويف الشديد فتكون آثمة حينئذ. وحين فرغ من الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث: الأولى الآيات المبينات أي الموضحات أو الواضحات في معاني الحدود والأحكام وغيرها ولا سيما الآيات التي ثبتت في هذه السورة. الثانية كونه مثلا من الذين خلوا أي قصة عجيبة من قصصهم فإن العجب في قصة عائشة ليس بأقل من العجب في قصة يوسف ومريم وما اتهما به. وعن الضحاك أنه أراد بالمثل شبه ما ذكر في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود. وعن مقاتل: أراد شبيه ما حل بهم من العقاب إذا عصوا. الثالثة كونه موعظة ينتفع بها المتقون خاصة.
التأويل:
لا تدخلوا بيوت عالم القرار التي هي غير بيوتكم من دار القرار حتى تتعرفوا أحوالها وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها سلام توديع ومتاركة فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فإن صرتم بحيث فتنتم عن حظوظ الدنيا وشهواتها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بالتصرف فيها بالحق للحق وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] فَارْجِعُوا ثم أشار إلى أن التصرف في الدنيا لأجل البلاغ وبحسب الضرورة جائز إذا لم تكن النفس تطمئن إليها فقال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية. ثم أمر بغض بصر النفس عن مشتهيات الدنيا، وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة، بصر السر عن الدرجات والقربات، وبصر الروح عن الالتفات إلى ما سوى الله، وبصر الهمة عن العلل بأن لا يرى نفسه أهلا لشهود الحق تنزيها له وإجلالا، ولهذا أمر بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه. ثم أمر النساء بمثل ما أمر به الرجال تنبيها على أن النساء بالصورة قد يكن رجالا في المعنى.
ثم نهى عن إظهار ما زين الله به سرائرهم وأحوالهم إلا ما ظهر على صفحات أحوالهم من
190
غير تكلف منهم. ثم أباح لهم إظهار بعض الأسرار إلى شيوخهن أو إخوانهن في الدين والحال، أو المريدين الذين هم تحت تربيتهم وتصرفهم بمنزلة النساء والمماليك ومن لا خبر عندهم من عالم المعنى كالبله والأطفال، ففيه نفثة مصدور من غير ضرب. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فتوبة المبتدئ من الحرام وتوبة المتوسط من الحلال وتوبة المنتهي مما سوى الله وَأَنْكِحُوا الْأَيامى فيه أمر بطلب شيخ كامل يودع في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الأعلى وهو الولادة الثانية المستدعية للولوج في ملكوت السماء والأرض، وقد أشار إلى إفاضة هذا الاستعداد بقوله إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَلْيَسْتَعْفِفِ ليحفظ الذين لا يجدون شيخا في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان حتى يدلهم الله على شيخ كامل كما دل موسى على الخضر عليه السلام، أو يخصهم بجذبة اللَّهُ يَجْتَبِي [الشورى: ١٣] وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ فيه أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الصلاح ووجب أن يؤتى بعض ما خص الله الشيخ به من المواهب وَلا تُكْرِهُوا فيه أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا وإن كان بالحق لم تكره عليه فإن أصحاب الخلوة غير أرباب الجلوة.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٥ الى ٥٠]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
191
القراآت:
نور السماوات على الفعل: يزيد من طريق ابن أبي عبلة وابن مشيا كَمِشْكاةٍ ممالة: أبو عمرو عن الكسائي درئ بكسرتين وبالهمز: أبو عمرو وعلي والمفضل مثله بضم الدال: حمزة وأبوبكر وحماد والخزاز. الباقون بضم الدال وتشديد الياء توقد بضم التاء وفتح القاف: حمزة وعلي وخلف وأبو بكر وحماد مثله ولكن بياء الغيبة على أن الضمير للمصباح: ابن عامر ونافع وحفص وأبو زيد عن المفضل. الباقون وجبلة توقد بالفتحات وتشديد القاف يسبح بفتح الباء: ابن عامر وأبوبكر وحماد:
سحاب ظلمات على الإضافة: البزي سَحابٌ بالتنوين ظلمات بالكسر على أنه نصب على الحال: القواس وابن فليح. الباقون بالرفع والتنوين فيهما. ينزل من الإنزال:
ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب يذهب من الإذهاب يزيد على أن الباء زائدة خالق كل شىء على الإضافة: حمزة وعلي وخلف. الآخرون خَلَقَ على لفظ الماضي كُلَّ منصوبا.
الوقوف:
وَالْأَرْضِ ط مِصْباحٌ ط زُجاجَةٍ ط غَرْبِيَّةٍ ط لأن ما بعدها صفة شجرة نارٌ ط نُورُ ط يَشاءُ ط لِلنَّاسِ ط عَلِيمٌ هـ لا بناء على أن الظرف يتعلق بما قبله وهو كَمِشْكاةٍ أي مثل مشكاة في بعض بيوت الله عز وجل والأولى تعلقه ب يُسَبِّحُ وفيها تكرار كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف وهو سبحوا اسمه لا لأن ما بعده صفة بيوت أو لأن الظرف يتعلق ب يُسَبِّحُ وَالْآصالِ ط لمن قرأ يُسَبِّحُ بفتح الباء كأنه قيل: من يسبح؟ فقيل: رِجالٌ أي يسبحه رجال. ومن قرأ بالكسر لم يقف لأنه فاعل الفعل الظاهر رِجالٌ لا لأن ما بعده صفة الزَّكاةِ لا لأن ما بعده أيضا صفة وَالْأَبْصارُ هـ لا لتعلق اللام. أبو حاتم يقف ويجعل اللام لام القسم على تقدير ليجزين قال: فلما سقطت النون انكسرت اللام. مِنْ فَضْلِهِ ط حِسابٍ هـ ماءً ط حِسابَهُ
192
ط الْحِسابِ هـ لا للعطف سَحابٌ ط لمن قرأ ظُلُماتٌ بالرفع ولم يجعلها بدلا فَوْقَ بَعْضٍ ط يَراها ط مِنْ نُورٍ هـ صَافَّاتٍ ط وَتَسْبِيحَهُ ط يَفْعَلُونَ هـ وَالْأَرْضِ ج فصلا بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين الْمَصِيرُ هـ مِنْ خِلالِهِ ج لما قلنا عَنْ مَنْ يَشاءُ ط بِالْأَبْصارِ هـ ط وَالنَّهارَ ط الْأَبْصارِ ج مِنْ ماءٍ ج للفاء مع التفصيل بَطْنِهِ ج رِجْلَيْنِ ج لمثل ما قلنا أَرْبَعٍ ط ما يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ مُبَيِّناتٍ ط مُسْتَقِيمٍ هـ ذلِكَ ط بِالْمُؤْمِنِينَ هـ مُعْرِضُونَ هـ مُذْعِنِينَ هـ ط وَرَسُولُهُ ط الظَّالِمُونَ هـ.
التفسير:
أنه سبحانه لما بين من الأحكام ما بين أردفها على عادة القرآن بالإلهيات وقدم لذلك مثلين أحدهما في أن دلائل الإيمان في غاية الظهور، والثاني أن أديان الكفر في نهاية الظلمة. أما الأول فهو قوله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واعلم أن النور في اللغة موضوع لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ما يحاذيها من الأجرام، لا شك أنه لا يمكن أن يكون إلها لأنه إن كان عرضا فظاهر، وإن كان جسما فكذلك للدليل الدال على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني ولا زائل ولا منتقل إلى غير ذلك من أمارات الحدوث والافتقار، وعند ذلك ذكر العلماء في تأويل الآية وجوها: الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين، أن المضاف محذوف أي هو ذو نور السموات والأرض لأنه قال مَثَلُ نُورِهِ ويَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ والمضاف مغاير للمضاف إليه. فنظير الآية قولك «زيد كرم وجود» للمبالغة. الثاني أن معناه منور السموات كقراءة من قرأ نُورُ بالتشديد وعلى القولين ما المراد بالنور؟ فالأكثرون على أنه الهداية والحق كما قال في آخر الآية يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ شبهه بالنور في ظهوره وبيانه. وأضافه إلى السموات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض، أو على حذف المضاف أي نور أهل السموات والأرض وقيل: نور السماء بالملائكة وبالأجرام النيرة والأرض بها وبالأنبياء والعلماء وهو مروي عن أبيّ بن كعب والحسن وأبي العالية. وقيل: هو تدبيره إياهما بحكمة كاملة كما يوصف الرئيس المدبر بأنه نور البلد إذا كان يدبر أمورهم تدبيرا حسنا، فهو لهم كالنور الذي يهتدى به في المضايق والمزالق. وهذا القول اختيار الأصم والزجاج. وقيل:
هو نظمه إياهما على النهج الأحسن والوجه الأصلح. وقد يعبر بالنور عن النظام. يقال: ما أرى لهذه الأمور نورا. الثالث: ما ذهب إليه الحكماء الأولون الإشراقيون وإليه ميل الشيخ الإمام حجة الإسلام محمد الغزالي على ما قرره في رسالته المسماة بمشكاة الأنوار: أن الله تعالى نور في الحقيقة بل لا نور، إلا هو بيانه أن للإنسان بصرا يدرك به النور المحسوس
193
الواقع من الأجرام النيرة على ظواهر الأجسام الكثيفة، وبصيرة هي القوة العاقلة. ولا شك أن البصيرة أقوى من البصر لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها وهي العين، وأما القوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب أو الدماغ، والإدراك الحسي غير منتج لأنه لا يصير سببا لإحساس آخر، والإدراك العقلي يصير سببا لإدراكات أخر حتى تجتمع علوم جمة، والحس يضطرب بكثرة ورود المحسوسات عليه حتى إنه لا يسمع الصوت الضعيف مثلا بعد سماع الصوت الشديد، والعقل يزداد بهاؤه ونورانيته بكثرة توارد العلوم وتعاونها، والقوة الحسية تضعف بضعف البدن، والقوة العقلية تقوى بعد الأربعين حتى استدل بذلك على بقائها بعد خراب البدن، والقوة الحسية لا تدرك من القرب القريب ولا من البعد البعيد، والعقلية لا يختلف حالها في القرب والبعد فيدرك ما فوق العرش إلى ما تحت الثرى في لحظة واحدة، بل يدرك ذات الله وصفاته مع أنه منزه عن القرب والبعد والجهة، والحس لا يدرك من الأشياء إلا ظواهرها، والعقل يغوص في حقائق الأشياء وفي أجزائها وجزئياتها وفي ذاتياتها وعرضياتها، فيوحد الكثير تارة بانتزاع صورة كلية من الجزئيات، ويكثر الواحد أخرى بالتجنيس والتنويع والتصنيف وغير ذلك من التقسيمات التي لا تكاد تتناهى. وإدراك العقل قد يكون مقدما على وجود الشيء ويسمى العلم العقلي، وإدراك الحس تابع لوجود الشيء وإذا كان الروح الباصر نورا فالبصيرة التي هي أشرف منها أولى بأن تكون نورا، وكما أن نور المبصر يحتاج في إدراكه إلى معين من الخارج هو الشمس أو السراج مثلا، فنور البصيرة أيضا يحتاج في إدراكه إلى مرشد هو النبي أو القرآن فلذلك سمي القرآن نورا وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [التغابن: ٨] والنبي نورا وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: ٤٦] فروح النبي في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام. ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من أنوار أخرى فوقها لقوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: ٥] قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [النحل:
١٠٢] فكل الأنوار تنتهي إلى ما لا نور أنور منه ولا أجل وأشرف وهو الله سبحانه. والكلام المجمل في هذا المقام هو الذي قد سلف تحقيقه مرارا وهو أن الكمالات أنوار والملكات الذميمة ظلمات. وأيضا الوجود نور والعدم ظلمة، فإن نظرنا إلى الكمال فكل كمال ينتهي إلى الله سبحانه ولا كمال فوق كماله، فهو نور الأنوار. وإن نظرنا إلى الوجود نفسه فلا ريب أن الممكن وجوده مستفاد من غيره إلى أن ينتهي إلى واجب الوجود لذاته وهو نور الأنوار، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم بإشراق نوره، ومن هنا
قال ﷺ «إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره»
194
وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون ألفا. قال العلماء: الحجب ثلاثة أقسام:
حجب ظلمانية محضة، وحجب ممزوجة من نور وظلمة، وحجب نورانية صرفة، أما المحجوبون بالأول فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لا يلتفت خاطرهم إلى الاستدلال بالمصنوعات على الصانع. وأما المحجوبون بالثاني فهم الذين اعتقدوا في الممكنات أنها غنية عن المؤثر، فنفس تصور الاستغناء عن الغير نور لأنه من صفات الله تعالى، ولكن اعتقاد حصوله لمن لا يليق به ظلمة فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة، وأما المحجوبون بالثالث فهم الذين استغرقوا في بحار صفات الله وأفعاله فاحتجبوا بالصفات عن الذات، فعرف من هذا التقرير أن الحجب لا تكاد تتناهى حيث لا نهاية للمكنات ولا انحصار للسلوب والإضافات، ولكن الحديث ورد على ما هو المتعارف في باب التكثير.
ولنرجع إلى التفسير قال الفراء: المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة وهذا القول أصح عند أئمة اللغة وهي من لغة العرب ومنه المشكاة للزق الصغير. وقيل: هي بلغة الحبشة، وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري أن المشكاة هي القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة وهو قول مجاهد والقرطبي، ومثله قول الزجاج هي قصبة القنديل من الزجاجة التي يوضع فيها الفتيلة. وقال الضحاك: هي الحلقة التي يتعلق بها القنديل والمصباح السراج الضخم الثاقب وأصله من الضوء ومنه الصبح والدريّ فمن قرأ بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر أي أبيض متلألىء، ومن قرأ بالهمز مضموم الدال كمرّيق أو مكسورها كسكيت، فمعناه أنه يدرأ الظلام بضوئه. وقال أبو عبيد: إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز لأنه ليس في كلام العرب «فعيل». ومن همزه من القراء فإنما أراد «فعول» على سبوح فاستثقل فرد بعضه إلى الكسر. والدراري من الكواكب هي المشاهير كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت التي هي في العظم الأول. ومعنى مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ أن ابتداء ثقوبه من شجرة مباركة كثيرة المنافع وهي الزيتون.
عن النبي ﷺ «عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به فإنها مصحة من الباسور» «١»
وقيل:
سميت مباركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، أو بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه السلام فقوله زَيْتُونَةٍ بدل من شَجَرَةٍ ومعنى لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أن منبتها في أكثر الشام وزيتونها أجود الزيتون والشام قريب من وسط العمارة ليس على
(١)
195
الطرف الشرقي من الربع المسكون ولا على الطرف الغربي منه، وعن الحسن أراد شجرة الزيتون في الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية. وضعف بأن المثل إنما يضرب بما يشاهد وإنهم ما شاهدوا شجرة الجنة، وقيل: أراد أنها شجرة ملفوفة بالأشجار أو بأوراقها فلا تصيبها الشمس في مشرق ولا مغرب. وزيف بأن الغرض هو صفاء الزيت ولا يحصل إلا بكمال النضج وذلك يتوقف عادة على وصول أثر الشمس إلى الشجرة، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وهو اختيار الفراء والزجاج: المراد أنها ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعا لأنها في موضع مكشوف، فيكون فيه دليل على كمال النضج الموجب لصفاء الزيت.
ومنهم من قال: لا في مضحى ولا في مقنأة وهي المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ولكن الظل والشمس يتعاقبان عليها وذلك أجود لكمال الثمرة،
قال ﷺ «لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير في مضحى.»
ثم وصف الزيت بالصفاء والبريق وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء.
فهذا ما يتعلق بحل الألفاظ على ظاهر التفسير، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول: إن جمهور المتكلمين ذهبوا إلى أنه تعالى شبه الهداية وهي الآيات البينات في الظهور والجلاء، بالمشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء. وإنما اختار هذا التشبيه دون أن يقول إنها كالشمس في الظهور والوضوح لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل، وهذا المقصود لا يحصل من ضرب المثل بالشمس لأنها إذا طلعت لم تبق ظلمة أصلا. والأمور التي اعتبرها الله سبحانه في هذا المثال منها كون المصباح في المشكاة وذلك ليكون أجمع للنور وأعون لتكاثف الأشعة وأصون له عن تعرض الرياح. زعم بعضهم أن في الكلام قلبا والمراد كمصباح في مشكاة والصحيح أنه لا حاجة إليه لأن هذا تشبيه مركب، ولهذا قال جار الله: أراد صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة كصفة مشكاة، ومنها كون المصباح في زجاجة صافية، فإن تعاكس الأنوار من جوانب الزجاجة يزيد المصباح نورا. ومنها كون المصباح متقدا بدهن الزيت فليس في الأدهان ما يدانيه في اللمعان والتطويس. ومنها كون الزيت من شجرة بارزة للشمس فإن ذلك يدل على كمال نضج الثمرة ونهاية صفاء ذهنها. وأما الإمام الغزالي رضي الله عنه فإنه يقول: المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت عبارة عن المراتب الخمس الإنسانية. فأولها القوة الحساسة التي هي أصل الروح الحيواني وتوجد للصبي بل لكل حيوان، وأوفق مثال لها من
196
عالم الأجسام المشكاة لأن تلك القوى تخرج من عدة ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين والفم. وثانيها القوة الخيالية التي تحفظ ما يورده الحواس مخزونا عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه، وأنت لا تجد شيئا في عالم الأجسام يشبه الخيال سوى الزجاجة فإنها في الأصل جوهر كثيف ولكن صفي ورقق حتى صار بحيث لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة. كذلك الخيال من طينة العالم السفلي الكثيف بدليل أن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحدّ، ولكنه إذا صفي وهذب صار موازيا للمعاني العقلية ومؤديا لأنوارها، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني كما يستدل بالشمس على الملك، وبالقمر على الوزير، وبمن يختم فروج الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن في رمضان قبل الصبح. وثالثها القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف اليقينية ولا يخفى وجه تمثيله بالمصباح كما مر في تسمية النبي سراجا. وحين كان الحس كالمقدمة للخيال وهي كالمقدمة للعقل قيل: إن المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح. ورابعها القوة الفكرية القوية على التقسيمات والاستنتاجات فمثالها مثال الشجرة المثمرة، وإذا كانت ثمرتها مادة ازدياد أنوار المعارف فبالحري أن لا تشبه إلا بشجرة الزيتون، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصباح وله من سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان. وإذا كانت الماشية تسمى مباركة لكثرة درها ونسلها فالذي لا تتناهي ثمرته إلى حد محدود أولى أن يسمى مباركا. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ناسب أن يقال لها لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ وخامسها القوة القدسية النبوية التي يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ.
وأما الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا فإنه نزل الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية المشهورة. فالمشكاة هي العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض، والزجاجة هي العقل بالملكة وهي قوة النفس حين حصل لها البديهيات وأمكن لها بواسطتها الترقي إلى النظريات والانتقال إلى الكسبيات. ثم إن كان الانتقال ضعيفا فهي الشجرة وتسمى فكرا وإن كان قويا فهي الزيت ويسمى حدسا، وإن كان في النهاية القصوى سميت قوة قدسية وهي التي يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ ثم إذا حصل لها المعارف والعلوم المكتسبة بالفعل بحيث تقدر على ملاحظتها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد فهو المصباح ويسمى عقلا بالفعل، وغايته أن تكون المعقولات حاضرة عندها متمثلة لها كأنها تشاهدها وهي نور على نور ويسمى عقلا مستفادا. أما الأول فلأن الملكة
197
نور ومشاهدة تلك الملكة نور آخر، وأما الثاني فلأن ذلك غاية الاستفادة ونهاية التحصيل.
وزعم الشيخ أبو علي أن المخرج من العقل الهيولاني إلى الملكة ثم منها إلى العقل التام هو العقل الفعال مدبر ما تحت كرة القمر عند الحكماء، وعبر عنه في الآية بالنار. وعن مقاتل أنه قال مَثَلُ نُورِهِ أي مثل نور الإيمان في قلب محمد كمشكاة فيها مصباح فالمشكاة نظير صلب عبد الله، والزجاجة نظير جسد محمد، والشجرة النبوة والرسالة. وقيل: المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام، والزجاجة نظير إسماعيل والمصباح نظير جسد محمد وعن أبي بن كعب أنه قرأ مثل نور من آمن به
ورأيت في كتب الشيعة عن علي رضي الله عنه مرفوعا للقمر وجهان يضيء بهما أهل السموات والأرضين وعلى الوجهين مكتوب أتدرون ما كتابته؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: على وجه السموات اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعلى وجه الأرض محمد وعلي نور الأرضين.
وقيل: المشكاة صدر محمد ﷺ والزجاجة قلبه، والمصباح ما في قلبه من الدين، والشجرة إبراهيم عليه السلام، ويُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ كقوله وفَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [آل عمران: ٩٥] ومعنى لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أن إبراهيم لم يكن يصلي قبل المشرق كالنصارى ولا قبل المغرب كاليهود بل كان يصلي قبل الكعبة وهي ما بين المشرق والمغرب ومعنى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ أن نور محمد يكاد يتبين للناس قبل أن يتكلم قاله كعب. وقال الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي ومن هنا قال عبد الله بن رواحة:
رواه أحمد في مسنده (٤/ ٣٦٩، ٣٧٢) بلفظ «أن يتداووا بالعود الهندي والزيت».
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تنبيك بالخبر
وقال يحيى بن سلام: قلب المؤمن نوريّ يعرف الحق قبل أن يتبين لموافقته له وهو المراد من
قوله ﷺ «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»
وقيل: يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم به ولهذا يزداد نورا على نور. قال أبي بن كعب: المؤمن بين أربع خلال: إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل. فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي بين أموات يتقلب في خمس من النور: كلامه نور، وعلمه نور ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة. قال الربيع: سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال: سره وعلانيته.
قالت الأشاعرة في قوله يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ إشارة إلى أن هذه الدلائل مع وضوحها لا تكفي ولا تنفع ما لم يخلق الله الإيمان فيه، وقالت المعتزلة: أراد يهدي الله لطريق الجنة، أو أراد بقوله مَنْ يَشاءُ الذين بلغهم حد التكليف والهدى محمول على
198
زيادات الألطاف التي هي ضد الخذلان ولهذا قال في الكشاف: معناه يوفق. لإصابة الحق من نظر وتدبر معنى الإنصاف، وجانب جانب المراء والاعتساف، ولم يكن كالأعمى الذي يستوي عنده جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس وأكدوا ذلك بقوله وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يعني النبي والمكلفين من أمته قالوا: إنما ذكره في معرض الإنعام ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع بالمثل فلا يكون نعمة.
ثم زاد التأكيد بقوله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ففيه تحذير لمن لا يتفكر ولا يعتبر ولا يستدل ولا ينظر. قوله فِي بُيُوتٍ اعترض أبو مسلم على قول من قال إنه يتعلق ب كَمِشْكاةٍ وب توقد لأن كون المشكاة في بعض بيوت الله لا تزيد المصباح إنارة وإضاءة. وأيضا الموصوف واحد فلا يكون إلا في مكان واحد وقوله فِي بُيُوتٍ أمكنة متعددة ولا يصح أن يكون شيء واحد في أمكنة متعددة في حالة واحدة، وكذا لو جعل فِي بُيُوتٍ صفة مِصْباحٌ وزُجاجَةٍ أو كَوْكَبٌ وأجيب بأن هذه صفة موضحة لا مميزة وذلك أن المشكاة تكون غالبا في بيوت العبادة أو المشكاة التي فيها مصباح إذا كانت في مثل هذه البيوت الرفيعة كانت أعظم وأكثر ضخامة فيكون في باب التمثيل أدخل. وعن الثاني أنه أريد بالمشكاة النوع لا الواحد كما لو قيل: «الذي يصلح لخدمتي رجل» يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته فإنه يراد به النوع لا الواحد. وذهب أبو مسلم إلى أنه راجع إلى قوله وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا أي الأنبياء والمؤمنين الذين مضوا وكانوا ملازمين لبيوت العبادة. واعترض عليه بتفكك النظم إذ ذاك وبأن الذين خلوا هم المكذبون. والأكثرون على أن البيوت هي المساجد، والإذن الأمر، والرفع التعظيم أو البناء. وعن عكرمة هي البيوت كلها، ومعنى الرفع البناء وذكر اسم الله عام في كل ذكر. وعن ابن عباس أن يتلي فيها كتابه. وقيل: لا يتكلم فيها بما لا ينبغي. والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به. وقيل:
الصلوات الخمس وقيل: صلاتا الصبح والعصر وكانتا واجبتين فقط في أول الإسلام فزيد فيهما. وعن ابن عباس: إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وتلا هذه الآية. والأولى العموم.
قيل: خص الرجال بالذكر لأنهم من أهل الجماعات دون النساء. ويحتمل أن يقال: لأنهم أصل والنساء تبع. واختلفوا في لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ فقيل: نفي الإلهاء لأنه تجارة ولا بيع كقوله:
ولا ترى الضب فيها ينجحر وقيل: أثبت التجارة والبيع وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم شيء عن ذكر الله وهذا قول الأكثرين. وعن الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون ولكن إذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها
199
شيء. وما الفرق بين التجارة والبيع؟ قيل: الأول عام لأن صناعة التاجر قد يقع فيها البيع وقد يقع فيها الشراء، وخص البيع لأن الربح فيه يقين وفي الشراء مظنون، فالبيع أدخل في الإلهاء. وقيل: أراد بالتجارة الشراء، إطلاقا لاسم الجنس على النوع. وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب يقال: تجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده. وذكر الله دعاؤه والثناء عليه بما هو أهله وقيل: هو الصلاة. ومن هنا قال ابن عباس: أراد بإقام الصلاة إتمامها لمواقيتها، وبإيتاء الزكاة طاعة الله والإخلاص له. والتاء في فَأَقامَهُ عوض من العين الساقطة للإعلال، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت. ثم حكى أن هؤلاء الرجال مع ما ذكر من الطاعة والإخلاص موصوفون بالوجل والخوف من أهوال يوم القيامة.
وتقلب القلوب اضطرابها من الهول والفزع، وتقلب الأبصار شخوصها، أو المراد تقلب أحوالهما فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها، وتدرك الأبصار بعد أن كانت عمياء عن النظر والاعتبار وكأنهم انقلبوا من الشك والغفلة إلى اليقين والمعاينة. وقال الضحاك: إن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر والأبصار تصير زرقا. وقال الجبائي: يحتمل أن يراد تقلبها على جمر جهنم أو تغير ماهياتها بسبب ما ينالها من العذاب فتكون مرة بهيئة ما أنضج بالنار، ومرة بهيئة ما أحرق، وقيل: إن القلوب تتقلب في ذلك اليوم من طمع النجاة إلى الخوف من الهلاك، والأبصار تتقلب من أيّ ناحية يؤخذ بهم أم من ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ومن أي جهة يعطون كتابهم أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل.
قوله لِيَجْزِيَهُمُ متعلق بما قبله لفظا أو معنى أي يسبحون ويخافون أو يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم وهو الواحد يعشر إلى سبعمائة وأكثر. وقيل:
أراد بالأحسن الحسنات أجمع وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل: إنما ذكر الأحسن تنبيها على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم وقال القاضي: أراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم فيصح أن الله تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال.
وهذا مبني على مذهبه في الإحباط والموازنة. ومعنى وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ كقوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: ٢٦] وقوله وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قد مر تفسيره في «البقرة». وحين بين حال المؤمن أنه يكون في الدنيا في النور بسببه يكون متمسكا بالعمل الصالح وفي الآخرة يفوز بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبعه بيان أن الكافر يكون في الدنيا في أنواع الظلمات وفي الآخرة في أصناف الحسرات، وضرب لكل من حاليه مثلا، أما المثل الدال على خيبته في الآخرة فذلك قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ قال الأزهري: هو ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبها
200
بالماء الجاري كأنه يسرب على وجه الأرض أي يذهب. وأما الآل فهو ما يتراءى في أول النهار. وظاهر كلام الخليل أنه لم يفرق بينهما. والقيعة بمعنى القاع وهو المستوي من الأرض. وقال الفراء: هي جمع قاع كجيرة في جار. والظمآن الشديد العطش، ووجه التشبيه أن الكافر يأتي ببعض أعمال البر ويعتقد ثوابا عليه فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب بل وجد العقاب عظمت حسرته وتناهى غمه وحيرته فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى ما يحييه ويبقيه، فإذا شاهد السراب تعلق قلبه به رجاء للحياة، فإذا جاءه ولم يجد شيئا عظم غمه وطال حزنه، قال مجاهد: السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته وفراقه الدنيا. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف قال جاءَهُ فأثبت أنه شيء لأن العدم لا يتصور المجيء إليه ثم قال لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً فنفى كونه شيئا؟ والجواب أراد شيئا نافعا كما يقال «فلان ما عمل شيئا» وإن كان قد اجتهد. أو المراد جاء موضع السراب فلم يجد هناك شيئا وأراد أنه تخيل أولا ضبابا وهباء شبه الماء وذلك بإعانة من شعاع الشمس فإذا قرب منه رق وانتثر وصار هواء وهذا قول الحكماء. قوله وَوَجَدَ اللَّهَ أي وجد عقاب الله أو زبانية الله يأخذونه فيصلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق خلاف ما يتصور من الراحة والنعيم، قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام. وأما المثل الآخر فهو قوله أَوْ كَظُلُماتٍ وقد يقال معنى أو أنه شبه أعمالهم الحسنة بالسراب والقبيحة بالظلمات، أو الأول لأعمالهم الظاهرة والثاني لعقائدهم الفاسدة واللجيّ العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر، والظلمات ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب. وكذا الكافر له ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل قاله الحسن. وعن ابن عباس قلبه وبصره وسمعه. وقيل: قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم. والظاهر أن الجمع للتكثير، وأن أنواع الضلالات والأباطيل اجتمعت فيه. والضمير في أَخْرَجَ للواقع في الظلمات يدل عليه قرينة الحال.
ومعنى لَمْ يَكَدْ يَراها لم يقرب أن يراها، ونفي القرب من الرؤية أبلغ من نفي الرؤية نفسها وقد مر هذا البحث في البقرة في قوله وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: ٧١] قالت الأشاعرة في قوله وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً دلالة على أن الهداية بتخليق الله تعالى وبجعله. وحمله المعتزلة على منح الألطاف وقد مر أمثال ذلك مرارا.
ولما وصف أنوار المؤمنين وظلمات الكافرين صرح بدلائل التوحيد فقال مستفهما على سبيل التقرير أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ وقد مر مثله في سورة «سبحان». والخطاب لكل من له أهلية النظر أو للرسول وقد علمه من جهة الاستدلال. ومعنى صَافَّاتٍ أنهن
201
يصففن أجنحتهن في الهواء والضمير في علم لكل أو لله عز وجل. وعلى الأول فالضمير في صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ إما لكل أو لله. والمعنى كل مسبح قد علم صلاته التي تليق بحاله أو صلاة الله التي كلفه إياها، وعلى الثاني فالضمير فيهما لكل والصلاة بمعنى الدعاء ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها، والاستقصاء في حكاياتهن مذكور في خواص الحيوانات ولا سيما في كتاب عجائب المخلوقات. ثم بين أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ الآية. ثم ذكر دليلا آخر من الآثار العلوية قائلا أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أي يسوقه بالرياح ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي بين أجزائه أي يجمع قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا متراكما سادا للأفق فَتَرَى الْوَدْقَ المطر أو القطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل قوله مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض على أن قوله مِنْ جِبالٍ مفعول يُنَزِّلُ والثالثة للبيان أو الأوليان للبيان والثالثة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل بعض البرد من السماء من جبال فيها وقد مر في أول البقرة في قوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: ١٩] معنى البرد وأنه بخار يجمد بعد ما استحال قطرات ماء. قال عامة المفسرين: إن في السماء جبالا من برد خلقها الله فيها كما خلق في الأرض جبالا من حجر.
وقال أهل المعنى: السماء هاهنا هو الغيم المرتفع على رؤوس الناس، والمراد بالجبال الكثرة كما يقال «فلان يملك جبالا من ذهب» ثم بين بقوله فَيُصِيبُ بِهِ إلى آخر الآية. أنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها كيف يشاء، أو يهلك بالبرد من يشاء أن يعذبه به ويعصم منه من يشاء أن يعصمه، ويريهم ضياء البرق في السحاب بحيث يكاد يخطف أبصارهم ليعتبروا ويحذروا، أو يعاقب بين الليل والنهار ويخالف بينهما في الطول والقصر وفي كل ذلك معتبر لذوي الأبصار، والذين يترقون من المصنوع إلى الصانع ويستدلون بالمحسوس على الغائب منتقلين من ظلمة التقليد إلى نور البرهان. ثم ذكر دليلا ثالثا من عجائب خلق الحيوان فقال وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ قال علماء المعاني: التنكير في ماءٍ للتنويع أي خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، أو خلق الكل من ماء مخصوص وهو النطفة. وعلى التقديرين الوحدة نوعية إلا أن شموله على التقدير الثاني أكثر. وإنما عرّف في قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: ٣٠] لأنه قصد هناك معنى آخر وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. وعن القفال أن قوله مِنْ ماءٍ صفة دَابَّةٍ لا صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من ماء فهي مخلوقة لله تعالى واحترز بها عن الاعتراض الذي ذكرناه في سورة الأنبياء وهو أن بعض الأحياء لم يخلقهم الله من الماء وقيل: نزل الغالب منزلة الكل أو أراد بالدابة من يدب على
202
وجه الأرض ومسكنهم هناك وكل منها إما متولد من النطفة وإما بحيث لا يعيش إلا بالماء.
ثم بين أن أصلهم وإن كان واحدا إلا أن خلقتهم مختلفة فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وقدم هذا القسم لغرابته ومنهم كذا ومنهم كذا، وفي ضمير العقلاء وإطلاق لفظة من تغليب للعقلاء. وسمى الزحف على البطن مشيا على سبيل المشاكلة أو الاستعارة نظيره قوله «فلان لا يتمشى له أمر» وقد يوجد من الدواب ذوات أرجل أزيد من أربع كالعناكب والعقارب والرتيلاوات بل مثل الحيوان الذي له أربع وأربعون رجلا المسمى «دخال الأذن». وإنما لم يذكرها سبحانه لأنها نادرة بالنسبة إلى سائرهن. ومن العقلاء من زعم أن أمثال هذه الدواب إنما يعتمد وقت المشي على أربع فقط.
وقيل: إن في قوله تعالى يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ تنبيها على سائر الأقسام، ولا ريب أن اختلاف الحيوانات لا يكاد ينحصر، إلا أنا نذكر طرفا من ذلك تذكيرا لعجائب قدرة الله في خلقه فنقول: الاختلاف بين الحيوانات إما في جوهر العضو كالفرس له ذنب دون الإنسان وإن كانت أجزاء الذنب من العظم والعصب واللحم والجلد والشعر حاصلة في غير هذا العضو كالسلحفاة فله صدف يحيط به ليس للإنسان، وكذا السمك فله فلوس والقنفذ له شوك، وإما في كيفية العضو كاختلاف الألوان والأشكال والصلابة واللين، وإما في الوضع كما أن يدي الفيل أقرب إلى الصدر من يدي الفرس، وإما في الانفعال كما أن عين الخطاف لا تتحير في الضوء وعين الخفاش تتحير، وإما في سائر الأحوال وذلك أن من الحيوانات بريا وبحريا أو بريا فقط أو بحريا فقط، ومن البحري ما يعتمد في السباحة على جناحه كالسمك، ومنها ما يعتمد فيها على أرجله كالضفادع، وكل من البري والبحري له أماكن مختلفة من البر والبحر. فمنها ما له مأوى معلوم كالروابي أو الحفر أو الشقوق أو الحجرة في البر أو كالقعر أو الشط أو الصخر أو الطين في البحر، ومنها ما مأواه كيف اتفق إلا أن يلد فيقيم للحضانة. ومن الحيوانات طيارة فمنها ما يسبح في الهواء فقط، ومنها ما يسبح على وجه الماء أيضا، وكل طائر فإنه يمشي على رجلين وقد يصعب عليه المشي كالخطاف الكبير الأسود وكالخفاش، ومنها ما جناحه جلد أو غشاء. وقد يكون عديم الرجل كضرب من الحيات بالحبشة يطير، ومنها ما يختار الاجتماع كالكراكي ومنها ما يؤثر التفرد كالعقاب. وكثير من الجوارح التي تنازع على الطعم، ومنها ما يتعايش زوجا كالقطا والإنسان من الحيوان الذي لا يمكنه أن يعيش وحده، ويضاهيه النحل والنمل إلا أن النمل لا رئيس لها. ومنها آكل لحم، ومنها لاقط حب، ومنها آكل عشب وزهر، ومنه النحل، ومن الحيوان ما هو إنسيّ كالإنسان، وما هو إنسيّ بالمولد كالهرة والغرانيق، أو بالقهر
203
كالفهد. ومنه ما لا يأنس كالنمر أو يبطىء استئناسه كالأسد. ومن الحيوان ما لا صوت له ومنه ما له صوت، وكل مصوت فإنه يصير عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتا حتى الإنسان. ومنه ما له شبق يسفد كل وقت كالديك، ومنه عفيف له وقت معين، ومنه ولود ومنه بيوض، وكل ولود أذون، وكل صموخ بيوض سوى الخفاش. ومنه هادىء الطبع قليل الغضب كالبقر، ومنه شديد الجهل حال الغضب كالخنزير البري ومنه حليم حمول كالإبل، ومنه محتال مكار كالثعلب، ومنه غضوب سفيه إلا أنه قلق متردد كالكلب، ومنه شديد الكيس مستأنس كالقرد والفيل، ومنه حسود تياه كالطاوس، ومنه شديد الحفظ كالجمل والحمار لا ينسى الطريق الذي رآه. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إشارة إلى أن اختصاص كل حيوان بهذه الخواص وبأمثالها لا يكون إلا عن فاعل مختار قدير قهار.
وحين فرغ من إثبات هذه الدلائل أراد أن يبين أحوال المكلفين وأن فيهم منافقين فقدم لذلك مقدمة وهي قوله لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وإنما فقد العاطف هاهنا بخلاف قوله وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا [النور: ٣٤] لأن المقصود هناك هو ما سبق من التكاليف والمواعظ، والغرض هاهنا توطئة مقدمة لما يجيء عقيبه من حال أهل النفاق والوفاق. وقوله وَما أُولئِكَ إشارة إلى الفريق المتولي. وإنما قال بِالْمُؤْمِنِينَ معرّفا لأنه أراد أنهم ليسوا بالذين عرفت صحة إيمانهم لثباتهم واستقامتهم. ويحتمل أن يكون أُولئِكَ إشارة إلى جميع القائلين آمنا وأطعنا وحينئذ يكون قوله ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ حكما على بعض دفعا للإلزام والنقض، فإن الحكم الكلي قلما يخلو عن منع ولمثل هذا قال في الآية الثانية إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ والحاصل أنه حكم أولا على بعضهم بالتولي ثم صرح آخرا بأن الإيمان منتف عن جميعهم. ويجوز أن يراد بالفريق المتولي رؤساء النفاق.
وقيل: أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين. قال جار الله: معنى إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى رسول الله ﷺ كقولك «أعجبني زيد وكرمه». أما سبب نزول الآية. فعن مقاتل أنها في بشر من المنافقين كما سبق في سورة النساء في قوله يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء: ٦٠]
وعن الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض فتقاسما فدفع إلى علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة. فقال المغيرة: بعني أرضك فباعها منه وتقابضا. فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء. فقال لعلي: اقبض أرضك فأبى ودعا المغيرة إلى محاكمة رسول الله ﷺ فقال المغيرة: أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ.
قوله يَأْتُوا إِلَيْهِ الجار صلة اتى فإنه قد يعدّى
204
بإلى. قال جار الله: والأحسن أن يتصل بمذعنين ليفيد الاختصاص أي لا يتحاكمون إذا عرفوا أن الحق لهم إلا إلى الرسول مسرعين في طاعته. ثم قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين الحيف في قضائه، وهذه الأمور وإن كانت متلازمة إلا أنها متغايرة في الاعتبار فصحت القسمة. ثم بين بقوله بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أنهم لا يخافون حيفه لأنهم عارفون أمانته ولكن الظلم مركوز في جبلتهم وأنهم لا يستطيعون الظلم في مجلس رسول الله ﷺ فلذلك يأبون المحاكمة إليه إذا كان الحق عليهم.
التأويل:
للآية تأويلان: أحدهما من عالم الآفاق والآخر من عالم الأنفس. أما الأول فالمشكاة عالم الأجسام، والزجاجة العرش، والمصباح الكرسي، والشجرة شجرة الملكوت وهي باطن عالم الأجسام، وهي غير راقية إلى شرق الأزل والقدم ولا إلى غرب الفناء والعدم، بل هي مخلوقة للأبد لا يعتريها الفناء يَكادُ زَيْتُها وهو عالم الأرواح يُضِيءُ أي يظهر من العدم إلى عالم الصورة المتولدة بالازدواج عالم الغيب والشهادة وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ونور القدرة الالهية وذلك لقرب طبيعتها من الوجود نُورٌ عَلى نُورٍ فالأول نور الصفة الرحمانية والثاني نور العرش فهو كقوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه:
٥] وفي قوله يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ إشارة إلى أن فيض نور الرحمانية ينقسم على كل من يريد الله تعالى إيجاده من العرش إلى ما تحت الثرى. وأما التأويل الثاني: فالمشكاة الجسد، والزجاجة القلب، والمصباح السر، والشجرة شجرة الروحانية التي خلقت للبقاء كما مر، والزيت الروح الإنساني القابل لنور العرفان قبولا في غاية القرب، والنار نار التجلي والهداية في الأزل فإذا انضم إلى نور العقل صار نورا على نور، وإذا تنور مصباح سر من يشاء بنور القدم تنور زجاجة القلب ومشكاة الجسد، وتخرج أشعتها من روزنة الحواس فتستضيء أرض البشرية كما قال وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: ٦٩] وهو مقام
«كنت له سمعا وبصرا»
الحديث: فِي بُيُوتٍ هي القلوب أَذِنَ اللَّهُ أمر وأراد أَنْ تُرْفَعَ درجاتها من بين سائر الأرواح والنفوس إلى أن تسع الله كما قال
«وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن»
يروى أنه أوحى إلى داود عليه السلام «فرغ لي بيتا أسكن فيه» فقال: رب أنت منزه عن البيوت. فقال: فرغ لي قلبك.
ولن يتأتى هذا الرفع إلا بوساطة ذكر الله فلهذا قال وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ هي الفوز بدرجات الجنات كما قال هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ [الصف: ١٠] وَلا بَيْعٌ هو بيع الدنيا بالجنة كقوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى إلى قوله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ [التوبة: ١١١] وفيه أن الرجولية لا تتحقق إلا إذا لم يلتفت إلى الدنيا
205
ولا إلى الآخرة فيكون بحيث لا يتصرف فيه ما سوى الله، وحينئذ يصلي صلاة الوصال ويفيض على المستعدين زكاة حصول نصاب الكمال يَخافُونَ يَوْماً هو يوم الفراق تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ والبصائر لأنها بيد الله يقلبها كيف يشاء أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ هو حب الدنيا يَغْشاهُ مَوْجٌ الرياء مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ هو حب الجاه وطلب الرياسة مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ الشرك الخفي إِذا أَخْرَجَ يد سعيه واجتهاده لَمْ يَكَدْ يَراها يرى طريق خلاصة وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أي لم يصبه رشاش النور الالهي في الأزل يُزْجِي سحب المعاصي المتفرقة إلى أن تتراكم فترى. والودق هو مطر التوبة يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ كما خرج من سحاب وعصى آدم مطر ثم اجتباه ربه. ينزل من سماء القلب مِنْ جِبالٍ من قساوة فِيها مِنْ بَرَدٍ هو برد القهر يُقَلِّبُ اللَّهُ ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس لأولي الأبصار أصحاب البصائر الذين يشاهدون آثار لطفه وقهره في مرآة التقليب وَاللَّهُ خَلَقَ كل ذي روح مِنْ ماءٍ هو روح محمد ﷺ كما
قال «أول ما خلق الله روحي»
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي أن تكون سيرته تحصيل مشتهيات بطنه وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ أي يضيع عمره في مشتهيات الفرج لأن الحيوان إذا قصد الوقاع يعتمد على رجلين وإن كان من ذوات الأربع وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ هم أصحاب المناصب يركبون الدواب البتة أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ انحراف في الفطرة أَمِ ارْتابُوا بتشكيك أهل البدع والأهواء أَمْ يَخافُونَ الحيف حين أمروا بترك اللذات العاجلة لأجل الخيرات الباقية وَإِلَيْهِ مَآبِ.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥١ الى ٦٤]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
206
القراآت:
ويتقه بكسر القاف واختلاس الهاء: يزيد وقالون ويعقوب غير زيد.
وأبو عمرو طريق الهاشمي. بكسر القاف وسكون الهاء على أنها للسكت: أبو عمرو غير عباس وخلاد ورجاء ويحيى وحماد وهبيرة من طريق الخراز وابن مجاهد عن ابن ذكوان.
بإسكان القاف وكسر الهاء: حفص غير الخراز ووجهه أنه شبه «تقه» بكتف فخفف، وعلى هذا فالهاء ضمير فإن تحريك هاء السكت ضعيف. الباقون ويتقهى بالإشباع فَإِنْ تَوَلَّوْا بإظهار النون وتشديد التاء: البزي وابن فليح كما استخلف مجهولا: أبو بكر وعمار وليبدلنهم خفيفا: ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد لا يحسبن على الغيبة: ابن عامر وحمزة ثلاث عورات بالنصب: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص
207
والمفضل. الآخرون بالرفع لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ بإسكان الضاد وتشديد الشين: شجاع وأبو شعيب وحمله على الإخفاء أولى منه على الإدغام. يرجعون مبنيا للفاعل: عباس ويعقوب.
الوقوف:
وَأَطَعْنا ط الْمُفْلِحُونَ هـ الْفائِزُونَ هـ لَيَخْرُجُنَ
ط لا تُقْسِمُوا
ج لحق المحذوف مع اتحاد المقول مَعْرُوفَةٌ
ط تَعْمَلُونَ
هـ الرَّسُولَ ج للشرط مع الفاء ما حُمِّلْتُمْ ط تَهْتَدُوا ط الْمُبِينُ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ص أَمْناً ط بناء على أن ما بعده مستأنف شَيْئاً ط الْفاسِقُونَ هـ تُرْحَمُونَ ط فِي الْأَرْضِ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول النَّارُ ط الْمَصِيرُ هـ مَرَّاتٍ ط أي متى كذا وكذا الْعِشاءِ قف عند من قرأ ثَلاثُ عَوْراتٍ بالرفع أي هو ثلاث لَكُمْ ط بَعْدَهُنَّ ط أي هو طوافون عَلى بَعْضٍ ص الْآياتِ ط حَكِيمٌ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط آياتِهِ ط حَكِيمٌ هـ ط بِزِينَةٍ ط لَهُنَّ ط عَلِيمٌ هـ صَدِيقِكُمْ ط أَشْتاتاً ط بناء على أن ما بعده استئناف حكم طَيِّبَةً ط للعدول من المخاطبة إلى الغيبة تَعْقِلُونَ هـ يَسْتَأْذِنُوهُ هـ وَرَسُولِهِ ط للشرط مع الفاء لَهُمُ اللَّهَ ط رَحِيمٌ هـ بَعْضاً ط لو إذا ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب أَلِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط عَلَيْهِ ط فصلا بين حال وحال مع العدول من المخاطبة إلى الغيبة بِما عَمِلُوا هـ عَلِيمٌ هـ.
التفسير:
لما حكى سيرة المنافقين وما قالوه وفعلوه، أتبعه ذكر ما كان يجب أن يفعلوه وما يجب أن يسلكه المؤمنون من طريق الأخلاق. وعن الحسن أنه قرأ قول المؤمنين بالرفع والقراءة المشهورة وهي النصب أقوى. قال جار الله: لأن أولى الاسمين بكونه اسما أوغلهما في التعريف وأَنْ يَقُولُوا أوغل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين.
قلت: وذلك لاحتمال كون الإضافة فيه لفظية وأَنْ يَقُولُوا يشبه المضمر كما بينا في الأنعام في قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الآية: ٢٣] فلا سبيل إلى تنكيره. ومعنى كانَ صح واستقام أي لا ينبغي أن يكون قولهم إلا السمع والطاعة. عن ابن عباس وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في فرائضه وَرَسُولَهُ في سننه وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل من عمره فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ وهذه آية جامعة لأسباب الفوز وفقنا الله تعالى للعمل بها. ثم حكى عن المنافقين أنهم يريدون أن يؤكدوا أساس الإيمان بالأيمان الكاذبة.
قال مقاتل: من حلف بالله فقد اجتهد في اليمين وكانوا يقولون: والله إن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فنهوا عن هذه الأقسام لما علم
208
من نفاقهم وشقاقهم وإضمارهم الغدر والخديعة وإلا فمن حلف على فعل البر لا يجوز أن ينهى عنه. وقوله طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
مبتدأ محذوف الخبر أي طاعة معلومة لا شك فيها ولا نفاق أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة، أو خبر محذوف المبتدأ أي أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة لا ارتياب فيها كطاعة الخلص من المؤمنين، أو طاعتكم طاعة معروفة بأنها بالقول دون الفعل. ثم صرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب لمزيد التبكيت والعتاب. ومعنى فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين. وما حمل الرسول هو أداء الرسالة، وما حمل على الأمة هو الطاعة والانقياد، والبلاغ المبين كون التبليغ مقرونا بالآيات والمعجزات أو كونه واقعا على سبيل المجاهرة لا المداهنة. وهاهنا شبه إضمار والتقدير: بلغ أيها الرسول وأطيعوه أيها المؤمنون فقد وعد الله الذين آمنوا منكم أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح. وفي الوعد معنى القسم لأن وعد الله محقق الوقوع ولذلك قال في جوابه لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أو القسم محذوف أي أقسم ليجعلنكم خلفاء في الأرض كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة. وَلَيُمَكِّنَنَّ لأجلهم الدين المرتضى وهو دين الإسلام. وتمكين الدين تثبيته وإشادة قواعده،
كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه فسئموا وشكوا إلى رسول الله ﷺ فقال: لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة،
فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وورثوا ملك الأكاسرة وخزائنهم، وهذا إخبار بالغيب فيكون معجزا. ومحل يَعْبُدُونَنِي نصب على الحال أي وعدهم ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم أو هو استئناف كأن قائلا قال: ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال: يَعْبُدُونَنِي وعلى الوجهين فقوله لا يُشْرِكُونَ بدل من يَعْبُدُونَنِي أو بيان لها. وفيه دليل على أن المقصود من الكل هو عبادة الله تعالى والإخلاص له. وَمَنْ كَفَرَ بهذه النعم الجسام وهي الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف بعد حصول ذلك أو بعد ما ذكر فَأُولئِكَ هُمُ الكاملون في الفسق. قال أهل السنة: في الآية دلالة على إمامة الخلفاء الراشدين لأن قوله مِنْكُمْ للتبعيض وذلك البعض يجب أن يكون من الحاضرين في وقت الخطاب، ومعلوم أن الأئمة الأربعة كانوا من أهل الإيمان والعمل الصالح، وكانوا حاضرين وقتئذ وقد حصل لهم الاستخلاف والفتوح، فوجب أن يكونوا مرادين من الآية. واعترض بأن قوله مِنْكُمْ لم لا يجوز أن يكون للبيان، ولم لا يجوز أن يراد بالاستخلاف في الأرض هو إمكان التصرف والتوطن فيها كما في حق بني إسرائيل؟ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يراد به خلافة علي عليه السلام؟ والجمع للتعظيم أو يراد هو وأولاده الأحد عشر بعده؟ وقيل: إن في قوله وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ إشارة إلى الخلفاء المتغلبين بعد الراشدين يؤيده قوله ﷺ «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم
209
تصير ملكا عضوضا» وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ معطوف على أَطِيعُوا وليس ببدع أن يقع بين المعطوفين فاصلة وإن طالت، وكررت طاعة الرسول للتأكيد.
من قرأ لا يحسبن على الغيبة فمفعولاه مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا يحسبن الكفرة أحدا يعجز الله في الأرض حتى يطيعوهم في مثل ذلك، وفاعله ضمير النبي، أو المفعول الأول محذوف لأنه هو الفاعل بعينه أي لا يحسبن الكفار أنفسهم معجزين والمراد بهم الذين أقسموا أو عام قوله وَمَأْواهُمُ قال جار الله: هو معطوف على ما تقدم معنى كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله عز وجل ومأواهم النار. وحين ذكر من دلائل التوحيد وأحوال المكلفين ما ذكر تنشيطا للأذهان وترغيبا فيما هو الغرض الأصلي من التكاليف وهو العرفان، عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو الحكم العام في باب الاستئذان فذكره هاهنا على وجه أخصر فقال لِيَسْتَأْذِنْكُمُ قال القاضي: هذا الخطاب للرجال ظاهرا ولكنه من باب التغليب فيدخل فيه النساء. وقال الإمام فخر الدين الرازي: يثبت للنساء بقياس جلي لأنهن في باب حفظ العورة أشد حالا من الرجال. وظاهر قوله الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يشمل البالغين والصغار، فالأمر للبالغين على الحقيقة وللصغار على وجه البيان والتأديب كما يؤمرون بالصلاة لسبع، أو هو تكليف لنا لما فيه من المصلحة لنا ولهم بعد البلوغ كقولك للرجل «ليخفك أهلك وولدك» فظاهره الأمر لهم وحقيقة الأمر له بفعل ما يخافون عنده.
وعن ابن عباس أن المراد الصغار وليس للكبار أن ينظروا إلى مالكيهم إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه. ثم إنه هل يشمل الإماء؟ فعن ابن عمر ومجاهد لا، وعن غيرهما نعم، لأن الإنسان كما يكره إطلاع الذكور على أحواله فقد يكره أيضا إطلاع الإناث عليها. عن ابن عباس: آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليّ أراد امرأته، وكان ابن عباس ينام بين جاريتين. ومن العلماء من قال: هذا الأمر للاستحباب. ومنهم من قال للوجوب. ومن هؤلاء من قال: إنه ناسخ لقوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا لأن ذلك يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال، وهذا يدل على وجوبه في الأوقات الثلاثة فقط، ومنع لزوم النسخ بأن الأولى في المكلفين وهذه في غير المكلفين قالوا: الذين ملكت أيمانكم يشمل البالغين. قلنا: لو سلم فلا نسخ أيضا لأن قوله غَيْرَ بُيُوتِكُمْ لا يشمل العبيد لأن الإضافة توجب الاختصاص والملكية، والعبد لا يملك شيئا فلا يملك البيت أمر المماليك والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار وهذا معنى قوله مِنْكُمْ أن يستأذنوا ثلاث مرات في اليوم والليلة. إحداها قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع ووقت استبدال ثياب اليقظة بثياب النوم، وثانيتها عند الظهيرة وهو نصف النهار عند اشتداد
210
الحر وظهوره فحينئذ يضع الناس ثيابهم غالبا، وثالثها بعد صلاة العشاء يعني الآخرة لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم. ثم بين حكمة الاستئذان في هذه الأوقات فقال ثَلاثُ عَوْراتٍ فمن قرأ ثَلاثَ بالرفع فظاهر كما مر في الوقوف، ومن قرأ بالنصب فقد قال في الكشاف: إنه بدل من ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي أوقات ثلاث عورات قلت: هذا بناء على أن قوله ثَلاثَ مَرَّاتٍ ظرف ويجوز أن يكون ثَلاثَ مَرَّاتٍ مصدرا بمعنى ثلاثة استئذانات، ويكون ثَلاثُ عَوْراتٍ تفسيرا وبيانا للأوقات الثلاثة لأنها منصوبة تقديرا. وأصل العورة الخلل ومنه الأعور المختل العين، وأعور الفارس إذا بدا منه موضع خلل للضرب، وأعور المكان إذا خيف فيه القطع. قال جار الله: إذا رفعت ثَلاثُ عَوْراتٍ فمحل هذه الجملة الرفع على الوصف أي هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاما مقررا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.
ثم بين وجع العذر بقوله طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ وهم الذين يكثرون الدخول والخروج والتردد يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المداخلة والمخالطة للاستخدام ونحوه. وارتفع بَعْضُكُمْ بالإبتداء وخبره عَلى بَعْضٍ أو بالفاعلية أي بعضكم طائف، أو يطوف بعضكم على بعض يدل على المحذوف طوّافون. وفي الآية دلالة على وجوب اعتبار العلل في الأحكام ما أمكن.
يروى أن مدلج بن عمرو وكان غلاما أنصاريا أرسله رسول الله ﷺ وقت الظهيرة إلى عمر ليدعوه، فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر:
لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن. ثم انطلق معه إلى النبي ﷺ فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية.
ثم بين حكم الأطفال والأحرار بعد البلوغ وهو أن لا يكون لهم الدخول إلا بإذن في جميع الأوقات. ومعنى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الذين بلغوا الحلم من قبلهم وهم الرجال الذين ذكروا من قبلهم في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً الآية. ومتى يحكم ببلوغ الطفل؟ اتفقوا على أنه إذا احتلم كان بالغا وأما إذا لم يحتلم فعند عامة العلماء وعليه الشافعي أنه إذا بلغ خمس عشرة سنة فهو بالغ حكما لما
روي أن ابن عمر عرض على النبي ﷺ يوم أحد فلم يجزه وكان له أقل من خمس عشرة سنة، وعرض عليه يوم الخندق وكان ابن خمس عشرة سنة فأجازه.
وعن بعض السلف ويروى عن علي عليه السلام أيضا أنه كان يعتبر القامة ويقدر بخمسة الأشبار
وعليه يحمل قول الفرزدق:
211
وإنبات العانة غير معتبر إلا في حق الأطفال الكفار وقد مر في أول سورة النساء.
وإنما ختم هذه الآية بقوله كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وقبلها وبعدها لَكُمْ آياتِهِ لأنهما يشتملان على علامات يمكن الوقوف عليها وهي في الأولى الأوقات الثلاثة، وفي الآخرة مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ إلى آخرها ومثلهما في قوله يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [النور: ١٧] يعني حد الزانيين وحد القاذف. وأما بلوغ الأطفال فلم يذكر لها علامات يمكن الوقوف عليها بل تفرد سبحانه بعلم ذلك فخصها بالإضافة إلى نفسه. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد حَكِيمٌ في أوامره ونواهيه. ثم بين حكم النساء اللواتي خرجن عن محل الفتنة والتهمة فقال والْقَواعِدُ وهي جمع «قاعد» بغير هاء كالحائض والطالق، وقد زعم صاحب الكشاف أنها جمع قاعدة بالهاء وفيه نظر لأنه من أوصاف النساء الخاصة بهن، سميت بذلك لقعودها عن الحيض والولد لكبرها ولذلك أكد بقوله اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لا يطمعن فيه لعدم من يرغب فيهن وليست من القعود بمعنى الجلوس حتى يحتاج إلى الفرق بين المذكر والمؤنث، ولا شبهة أنه لا يحل لهن وضع كل ثيابهن لما فيه من كشف كل عورة فلذلك قال المفسرون: المراد بالثياب هاهنا الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار. وعن ابن عباس أنه قرأ أن يضعن جلابيبهن وعن السدي عن شيوخه يضعن خمرهن عن رؤوسهن، خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن وقد بلغن هذا المبلغ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع شيء من الثياب الظاهرة. وإنما أبيح وضع الثياب حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي غير مظهرات شيئا من الزين الخفية المذكورة في قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو غير قاصدات بالوضع التبرج ولكن التخفف إذا احتجن إليه. وحقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم «سفينة بارج لا غطاء عليها». والبرج سعة العين يرى بياضها محيطا بسوادها لا يغيب منه شيء. واختص التبرج في الاستعمال بتكشف المرأة للرجال.
وحين ذكر الجائز عقبه بالمستحب تنبيها على اختيار الأفضل في كل باب فقال وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وذلك أنهن في الجملة مظنة شهوة وفتنة وإن عرض عارض الكبر والنحول فلكل ساقطة لاقطة. وسئل بعض الظرفاء المذكورين عن حكمة تستر النساء فقال:
لأنهن محل فتنة وشهوة فقيل: فعلى هذا كان ينبغي أن لا يحسن تكليف العجائز بالتستر فأجاب بأنه كان يلزم إذ ذاك مصيبتان: أحداهما عدم رؤية الحسان، والثانية لزوم رؤية القباح. ثم ختم السورة بسائر الصور التي يعتبر فيها الإذن فقال لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ نفى الحرج عن الأصناف الثلاثة ذوي العاهات ثم قال وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا فذهب
212
ابن زيد إلى أن المراد نفي الحرج عنهم في القعود عن الجهاد، ثم عطف على ذلك أنه لا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة. ووجه صحة العطف التقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنها الحرج. قال جار الله: مثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فقلت: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر. وقال آخرون: كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي الآفات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب الكل ريبة خوفا من أن يكون أكلا بغير حق لقوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨] فقيل: لهم ليس على هؤلاء الضعفاء ولا على أنفسكم يعني عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك. قال قتادة:
كانت الأنصار في أنفسها قزازة وكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا. والقزازة احتراز مع القزة وهي مدح، والكزازة ذم. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب وغيره أن المسلمين كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم، فكانوا يتحرجون كما يحكى عن الحرث بن عمرو أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في ماله وبيته، فلما رجع رآه مجهودا فقال: ما أصابك؟ قال: لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من مالك. فقيل: ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت. قال الأكثرون: كان هؤلاء الضعفاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم فيقول الأعمى: إني لا أرى شيئا فربما آخذ الأجود وأترك الرديء، والأعرج يفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه، والمريض لا يخلو من رائحة أو غيرها من أسباب الكراهة. وأيضا كان المؤمنون يقولون الأعمى لا يبصر الطعام الجيد ولا يأكله، والأعرج لا يتمكن من الجلوس فلا يقدر على الأكل مما ينبغي، والمريض لا يتأتى له أن يأكل كما يأكل الأصحاء فقيل: ليس على هؤلاء ولا عليكم في المؤاكلة حرج.
ثم إنه تعالى عدد من مواضع الأكل أحد عشر موضعا: الأول قوله مِنْ بُيُوتِكُمْ وفيه سؤال: وهو أنه أيّ فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه من بيته؟ والجواب أراد من بيوت أزواجكم وعيالكم لأن بيت المرأة بيت الزوج قاله الفراء. وقال ابن قتيبة: أراد بيوت أولادهم ولهذا لم يذكر الأولاد في جملة الأقارب وإن الولد أقرب الأقربين لأنه بعض الرجل وحكمه حكم نفسه،
وفي الحديث «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه» «١»
(١) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب ٧٧.
213
وباقي البيوت لا إشكال فيها إلى البيت العاشر وهو قوله أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وفيه وجوه: أحدها قال ابن عباس وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته وملك المفاتيح كونها في يده وحفظه. وثانيها قال الضحاك: يريد الزمنى الذين يخلفون الغزاة. وثالثها قيل: أراد بيوت المماليك لأن مال العبد لمولاه. الحادي عشر قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ ومعناه أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحدا وجمعا كالعدو. وعن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال: هكذا وجدناهم يريد أكابر الصحابة.
وعن جعفر الصادق بن محمد عليه السلام: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الإنس والثقة والانبساط بمنزلة النفس والأب والأخ والابن.
قال العلماء: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه. احتج أبو يوسف بالآية على أنه لا قطع على من سرق من ذي رحم محرم وذلك أنه تعالى أباح الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذن فلا يكون ماله محرزا منهم، وأورد عليه أن لا يقطع إذا سرق من صديقه. فأجاب بأن السارق لا يكون صديقا للمسروق منه. واعلم أن ظاهر الآية دل على أن إباحة الأكل من هذه المواضع لا تتوقف على الاستئذان. فعن قتادة أن الأكل مباح ولكن لا يجمل. وجمهور العلماء أنكروا ذلك فقيل: كان ذلك مباحا في صدر الإسلام ثم نسخ ذلك
بقوله ﷺ «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»
ومما يدل على هذا النسخ قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: ٥٣] وقال أبو مسلم: هذا في الأقارب الكفرة. وفي هذه الآية إباحة ما حظر وفي قوله لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: ٢٢] وقيل: إن هؤلاء القوم كانت تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك فلا جرم خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق. وإذا علمنا أن الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا، فلا حاجة إلى القول بالنسخ.
وحين نفى الحرج عنهم في نفس الأكل أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل فقال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا وانتصب قوله جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً على الحال أي مجتمعين أو متفرقين. والأشتات جمع شت وهو نعت وقيل مصدر وصف به. ثم أجمع أكثر المفسرين ومنهم ابن عباس على أنها نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرّجون
214
عن الانفراد في الطعام، فربما قعد الرجل منتظرا نهاره إلى الليل فإن لم يجد من يؤاكله أكل. وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار لا يأكلون إلا مع ضيفهم. وقال الكلبي: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى طعاما على حدة، وكذلك الزمن والمريض فبين الله لهم أن ذلك غير واجب. وقال آخرون: كانوا يأكلون فرادى خوفا من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذى فرفع الله الحرج. ثم علمهم أدبا جميلا قائلا فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أي من البيوت المذكورة لتأكلوا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ابدءوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة وانتصب تَحِيَّةً ب فَسَلِّمُوا نحو «قعدت جلوسا». ومعنى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أنها ثابتة من عنده مشروعة من لدنه، أو أراد أن التحية طلب حياة للمخاطب من عند الله وكذا التسليم طلب السلامة له من عنده. ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق وتضعيف الثواب.
عن أنس قال: كنت واقفا على رأس النبي ﷺ أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال: ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ قلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله. قال: متى لقيت من أمتي أحدا فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوّابين.
قال العلماء: إن لم يكن في البيت أحد فليقل «السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» ومن صور الإذن قوله سبحانه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية. والمقصود أن يبين عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله ﷺ بغير إذنه إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ وهو الذي يجمع له الناس.
فلما كان الأمر سبب الجمع وصف به مجازا. قال مجاهد: هو أمر الحرب ونحوه من الأمور التي يعم ضررها ونفعها. وقال الضحاك: هو الجمعة والأعياد وكل شيء تكون فيه الخطبة.
وذلك أنه لا بد في الخطوب الجليلة من ذوي رأي وقوة يستعان بهم وبآرائهم وتجاربهم في كفايتها، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلب الرسول ﷺ ويشعب عليه رأيه. قال الجبائي: في الآية دلالة على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ولولا ذلك لحاز أن يكونوا كاملي الإيمان وإن تركوا الاستئذان. وأجيب بأن ترك الاستئذان من أهل النفاق لا نزاع أنه كفر لأنهم تركوه استخفافا. قال جار الله: ومما يدل على عظم هذه الجناية أنه جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه فيأذن لهم ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، ومع ذلك صدر الجملة بإنما وأوقع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين. ثم عقبه بمزيد توكيد وتشديد حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فجعل الاستئذان كالمصدق الصحة الإيمان بالله والرسول وفيه تعريض بحال المنافقين وتسللهم لواذا. وفي قوله لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ دليل على
215
أن أمر الاستئذان مضيق لا يجوز ارتكابه في كل شأن. وفي قوله فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ دلالة على أنه تعالى فوّض بعض أمر الدين إلى اجتهاد الرسول ورأيه. وزعم قتادة أنها منسوخة بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] وفي قوله وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ وجهان:
أحدهما أن هذا الاستغفار لأجل أنهم تركوا الأولى والأفضل وهو أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه، والآخر أنه جبرا لهم على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان.
ثم حثهم على طاعة رسوله بقوله لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ أي لا تقيسوا دعاءه إياكم لخطب جليل على دعاء بعضكم بعضا ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي، وذلك أن أمره فرض لازم وأمر غيره ليس بفرض، وإنما هو أدب مستحن رعايته مع الأئمة والمتقدمين. هذا ما عليه الأكثرون منهم المبرد والقفال، وعن سعيد بن جبير: لا تنادوه باسمه ولا تقولوا «يا محمد» ولكن «يا نبي الله ويا رسول الله» مع التوقير والتعظيم والصوت المنخفض. وقيل: أراد احذروا دعاء الرسول ربه عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره. والتسلل الانسلال والذهاب على سبيل التدرج، واللواذ الملاوذة وهو أن يكون هذا بذاك وذاك بهذا. وانتصابه على الحال والحاصل أنهم يتسللون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة وهو استتار بعضهم ببعض. وقيل: كان يلوذ من لم يؤذن له بالذي أذن له فينطلق معه. قال مقاتل: هذا في الخطبة. وقال مجاهد: في صف القتال.
وقال ابن قتيبة: نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن. ومعنى قَدْ يَعْلَمُ يكثر العلم والمبالغة فيه كما مر في «البقرة» في قوله قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [البقرة:
١٤٤] يقال: خالفته عن القتال أي جبنت عنه وأقدم هو وخالفته إلى القتال أي أقدمت، وجبن هو الفتنة المحنة في الدنيا كالقتل أو الزلازل، وسائر الأهوال والعذاب الأليم هو عذاب النار. وعن جعفر بن محمد عليه السلام: الفتنة أن يسلط عليهم سلطان جائر. وقال الأصوليون: في الآية دلالة على أن ظاهر الأمر للوجوب لأن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر فإن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والموافقة ضد المخالفة، فإذا أخل بمقتضاه كان مخالفا والمخالف مستحق للعقاب بالآية، ولا نعني بالوجوب إلا هذا. واعترض عليه بأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه على الوجه الذي يقتضيه الأمر، فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة الأمر. ومنع من أن المندوب مأمور به فإن هذا أول المسألة، والظاهر أن الضمير في أمره للرسول ولو كان لله لم يضر لأنه لا فرق بين أمر الله وأمر رسوله، وأمر الرسول متناول عند بعضهم للقول والفعل والطريقة كما يقال «أمر فلان مستقيم» وعلى هذا فكل ما فعله الرسول فإنه يكون
216
واجبا علينا. ثم بين كمال قدرته وعمله بقوله أَلا إِنَّ لِلَّهِ إلخ. تأكيد الوجوب الحذر. قال جار الله: الخطاب والغيبة في قوله ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ كلاهما للمنافقين على طريقة الالتفات إذ الأول عام والثاني لأهل النفاق. وأقول: يحتمل أن يكون كلاهما عاما للمنافقين. والفاء في قوله فَيُنَبِّئُهُمْ لتلازم ما قبلها وما بعدها كقولك وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: ٣].
التأويل:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يدعوانه إلى الحضرة بترك ما سوى الله ويخشى الانقطاع عن الله ويثق به عما سواه فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بالوصول والوصال وصالا بلا انفصال وزوال لئن أمرتهم بالخروج عن غير الله طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
بالفعل دون القول لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ليخرجن ما في استعدادهم من خلافة الله في أرض البشرية من القوة إلى الفعل. وَلَيُمَكِّنَنَّ كل صنف حمل الأمانة المودعة فيه على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم، فمنهم حفاظ لأخبار النبي ﷺ وللقرآن، ومنهم علماء الأصول، ومنهم علماء الفروع، ومنهم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وأرباب السلوك الكاملون المكملون، وإنهم خلفاء الله على الحقيقة وأقطاب العالم وأوتاد الأرض وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الشرك الخفي أَمْناً يَعْبُدُونَنِي بالإخلاص لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً من مطالب الدنيا والآخرة لِيَسْتَأْذِنْكُمُ المريدون الذين هم تحت تصرفكم وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا أوان الشيخوخة ثَلاثَ مَرَّاتٍ في المبادي وفي أوساط السلوك وفي نهاية أمرهم، فإذا صلحت أحوالهم في هذه الأوقات صلح سائرها في الأغلب والله المستعان. وَالْقَواعِدُ فيه إشارة إلى أن المريد إذا صار بحيث أمن منه إفشاء الأسرار وما استودع فيه من متولدات الأحوال، فلا ضير عليه أن لا يبالغ في التستر والإخفاء من الأغيار والكتمان خير له لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ قال الشيخ المحقق نجم الدين المعروف بداية رضى الله عنه: فيه إشارة إلى أن من لا يبصر إلا بالله ولا يمشي إلا بالله ولا يعلم إلا بالله فإنهم مخصوصون بالتكون بكينونة الله كما قال «كنت له سمعا» الحديث. فإنهم مستعدون لقبول الفيض الإلهي وهم السابقون المقربون فلا حرج في الشرع على من يكون مستعدا لهذا الكمال، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وفي قوله وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ إلخ إشارة إلى أنه لا حرج على أرباب النفوس على أن يكون مأكلهم من بيوتهم أو بيوت أبناء جنسهم وهي الجنات ومراتبها كما قال فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ [الزخرف: ٧١] وفي قوله أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ إشارة إلى أن درجات الجنة مساكن أهل المكاسب كما أن مقامات أهل القرب عند مليك مقتدر منازل أهل المواهب.
قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ فيه أن درج الجنان ينالها المرء ببركة جليسه الصالح، وقد ينعكس نور
217
ولاية الشيخ على مرآة قلب المريد الصادق فينال به مرتبة لم يكن يصل إليها بمجرد أعماله:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فيه أنه لا حرج على أهل الجنة أن تكون مآكلهم من درجة واحدة أو من درجات شتى. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أي بلغتم منزلا من المنازل فَسَلِّمُوا أي استسلموا لأحكام الربوبية بمزيد العبودية حتى ترتقوا منها إلى منازل أعلى وأطيب إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فيه أن المريد الصادق ينبغي أن لا يتنفس إلا بإذن شيخه فإن الشيخ في قومه كالنبي في أمته أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ من المال أو الجاه أو قبول الخلق أو التزويج أو السفر بإذن الشيخ أو التردد على أبواب الملوك ونحو ذلك، وما العصمة إلا من واهبها وهو المستعان.
218
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما وأدرك خمسة الأشبار