تفسير سورة النّور

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة النور من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ النُّورِ
قوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا... (١)﴾
قال ابن عطية: سورة خبر مبتدأ، أي هذه سورة، أو هو مبتدأ و (أَنْزَلْنَاهَا) صفة، وخبره الجملة من (الزانِيَةُ وَالزانِي) ابن عرفة: وكان بعضهم يرجح كونه مبتدأ خبره أنزلنا؛ لأن سيبويه لم يشترط في الابتداء بالنكرة إلا [حصول*] الفائدة، ولا شك أن الفائدة أكثر من الفائدة في قولك: رجل من بني تميم قائم، وقرئ [بنصب (سُورَةً) فأعربه الفراء حالا*] من ضمير المفعول في (أنزلنا)، قيل لابن عرفة: وأين مفسر الضمير؟ فقال: لما أنزلنا الأحكام أو الشرائع حالة كونها سورة.
قال ابن عرفة: و (أَنْزَلْنَاهَا)، إن أريد إنزالها إلى سماء الدنيا، فيكون ماضيا حقيقة.
ابن عطية: فرضناها بتخفيف الراء ومعناه الإثبات والإيجاب بأبلغ وقوعه.
ابن عرفة: ولذلك جعل أبو زيد الدبوسي الفرض ما نشأ عن دليل قطعي، إذ هو مأخوذ من الفرض في الخشية، والوجوب ما نشأ عن دليل قلبي إذ هو بمعنى السقوط، قال تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، وقرئ بالتضعيف لتكرر الأحكام فيها ما لم تتكرر في غيرها.
قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
أي يفصل لكم على شبيه بما تحصل لمن تذكر شيئا نسيه أو تذكرون ما علمتم يوم [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ*]، والحكماء القائلون بأن العلوم كلها تذكيرية يحملونها على ظاهرها.
وفال الفخر: هذا إشارة إلى اشتمالها على الأحكام وعلى أدلتها، فقال ابن عرفة: ليس فيها أدلة، قال: فيها أدلة. قال: وفيها من علم البيان [... ]. السرقة من الرجل أكثر، [ووقوع*] الزنا من النساء أكثر، فإن قلت: هذا يتم في السرقة ولا يتم في الزنا، لأنها نسبة إضافية، فكذا المرأة يكثر منها الزنا مرات مع رجال كثيرين، والرجل في الأكثرين مرة واحدة، قلت: أو لكثرة النساء وقلة الرجال، قال ابن عطية: وهذه الآية عامة عند الجميع، وحكم المحصنين منسوخ، واختلفوا في النَّاسخ، فقالت فرقة: النَّاسخ: السنة المتواترة.
220
قال ابن عرفة: هذا عند الأصوليين تخصيص لَا ناسخ، لكن قالوا المخصص إذا ورد على العام بعد العمل به فهو ناسخ، وإن كان قبل العمل به فهو تخصيص، في قوله: السنة المتواترة.
قال ابن عرفة: هذا عند الأصوليين مخالفا لما قال ابن الصلاح: لم يتواتر من الأحاديث غير حديثين:
حديث "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
وحديث "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ".
والباقي أخبار آحاد.
221
ابن عطية: وقالت فرقة: بل النَّاسخ القرآن الذي ارتفع لفظه وبقي حكمه.
ابن عرفة: وهو الشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما ألبتَّة.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ... (٢)﴾
ابن عرفة: هل هذا من باب وروده على النفي [عن*] غير المخاطب، مثل [لا أرينك هاهنا*] للرأفة، فالأصل أن يقال: [لَا ترأفوا بههما*]، أو يكون من باب النهي عما هو أمر جلي، فيرجع إلى ترك أسبابه.
قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
[جمعت الآية العذاب الحسي، والعذاب المعنوي*]، والطائفة اختلفوا في أقل ما يجزئ منها.
ابن عطية: عن الحسن البصري عشرة، وعن ابن زيد أربعة، وعن الزهري ثلاثة، وعن عطاء، وعكرمة اثنان، وهو مشهور قول [مالك.*]؛ وعن مجاهد رجل واحد.
ابن عرفة: وقيل: ستة لأنها أول العدد التام الأجزاء.
قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً... (٣)﴾
فسره ابن عطية بأربعة أوجه: إما أن النكاح الوطء، فالزاني لَا يطأ إلا زانية، قال: ورده الزجاج بأن النكاح بمعنى الوطء، لم يرد في القرآن، وأجاب ابن عطية بوروده (حَتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)، ورده ابن عرفة بأن الصحابة إنما فهموه على العقد، ولذلك لما أرادت المرأة غير المدخول بها الرجوع لزوجها الأول منعها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بقوله: "حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"، فلو كان قضى في الوطء لما احتاجت إلى تفسير الآية، فإن قلت:
222
معلوم أن الزنا لَا يكون إلا بزانية، وأن الزانية لَا يطأها إلا زان، قلنا: قد يزني الزاني بامرأة مكرهة على الزنا، فهو عام مخصوص ولا يلزم من عطف الزانية عليه تخصيصها؛ لأن الإكراه في الرجل غير مفهوم، لكن يقال: قد تكون المرأة عالمة بالزنا ويزني بها الرجل غالطا ظانا أنها زوجة، فإن قلت: لم بدأ أولا بالزانية في الجلد وبالزاني بالنكاح؟ قلنا: بدأ هنالك بالزانية لأنها هي المادة التي جاءت منها الجناية، لأنها لو لم تطع الرجل لم يطمع، والآية سيقت لعقوبة الجاني، والثانية سيقت لهذا النكاح، والرجل أصل فيه؛ لأنه هو الخاطب، وأيضا فلأن الرجل في الوطء فاعل، والمرأة منفعلة، فلذلك بدأ به.
قوله تعالى: (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
وكان بعضهم يفسره بأمرين: إما أنه [حكم بالتحريم*]، وإمَّا إخبار عن الواقع، أي المؤمنون الكاملون الذين منعوا أنفسهم منه فلا يقعون فيه، ولا يفعله إلا مشرك أو ضعيف الإيمان، كما قاله: "لَا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".
223
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ... (٤)﴾
قال ابن عرفة: إنما ذكر قذف المحصنات دون قذف المحصنين؛ لأن لحوق المعرة للنساء أشد، بدليل قول الإمام مالك رحمه الله: قاذف الصبي الذي يطيق الوطء [إنه لَا يحد*]، بخلاف قاذف الصبية المطيقة للوطء، وما ذلك إلا للحوق المعرة لها.
قوله تعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
مع أن مالكا رحمه الله، قال في الضد: إذا قذف إنه يجلد نصف الثمانين [وعقاب القاذف*] بثلاثة أمور: حسي: وهو الجلد وعدم قبول الشهادة، ومعنوي: وهو الحكم عليه بالفسق.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ... (٦)﴾
قال ابن عرفة: يؤخذ منها أنه إذا شهد أربعة على الزنا أحدهم الزوج أن الثلاثة يحدون؛ لأنه ألغى شهادة الزوج، بقوله تعالى: (وَلَم يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أنْفُسُهُمْ)، فإذا ثبت إلغاؤها مع انفرادها ثبت مطلقا، وهي مسألة المدونة في [أجزاء اللعان*].
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ... (١٠)﴾
يؤخذ منه في مسألة الغيبة فيمن حلف على طائر أنه غراب، وحلف الآخر أنها حدأة، فغاب عنهما أنهما يَدِينَانِ ولا يحنث واحد منهما، وكذلك هذان المتلاعنان؛ لأن أحدهما على الباطل مع أن الله تفضل بأن يستر عليهما، وقد جاء في حديث ماعز بن مالك والغامدية، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لهما بعد تمام اللعان: "أحدكما كاذب"، وتركهما ولم يتعرض لهما، ولم يقل لهما ذلك قبل اللعان؛ لأن لعانهما أوجب لهما [حرمة*] يبقيا مهملين من العقوبة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ... (١١)﴾
ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إن دل الدليل على الاعتناء بالمخاطب، فإنه يقال: لا تحسب زيدا قائما، وإن لم يقصد الاعتناء به، فيقال: ليس زيد قائما.
قوله تعالى: ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢)﴾
وكان بعضهم يقول: إطلاق الألفاظ على مسمياتها تابع للتركيب الوجودي، ولا شك أن ظن الخير سبب في قوله: والسبب سابق على المسبب، هلا عطف بالفاء، فكان يقال: فقالوا هذا إفك، قال: لكن يجاب بأنه إذا كانت السببية ظاهرة جلية، لم يحتج إلى عطفها بالفاء، وإنما يحتاج ذلك في السببية الحقيقية.
قوله تعالى: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منه أن من قذفه رجل بالزنا، وعلم من نفسه صدق قاذفه، وأنه زان فلا ينبغي له السكوت عنه، بل يرفع أمره إلى الحاكم، ويقوم بحقه في ذلك حتى يجد قاذفه حد القذف بدليل قوله تعالى: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، فكل من لم يأت بالشهادة على صحة قوله فهو عند الله كاذب، وإن كان في نفس الأمر صادقا، يؤخذ من الآية أن من رمى عائشة رضي الله عنها، وكرم وجه أبيها بذلك، فهو كافر؛ لأنه كذب بالقرآن، ومن رمى غيرها من نسائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنهن فهو فاسق؛ لأن الكل مبرءات [طاهرات*] غير أن تبرئة عائشة رضي الله عنها، وكرم وجه أبيها، وردت في القرآن بخلاف غيرها، ولم يكن هذا في زوجة نبي قط؛ لأنه مما يعيب الرجل أن تكون زوجته زانية.
قوله تعالى: في امرأة نوح وامرأة لوط: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا)، بأن كفرتا فقط لولا ذلك ما احتيج إلى قوله تعالى: (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا).
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ... (١٤)﴾
قال ابن عرفة: إنعام الله تعالى على العبد له اعتباران: تارة يعتبر من حيث كونه واقعا فهذا يسمى تفضلا، وتارة يعتبر من حيث كونه مراداً فهذا يسمى رحمة، كذا كان بعضهم يقول: قال ابن الخطيب: الفضل باعتبار الإمهال في الدنيا، والرحمة باعتبار تخفيف العذاب في الآخرة.
قوله تعالى: (لَمَسَّكُمْ).
قال ابن عرفة: هذا أبلغ من أن يقول: لأصابكم، أو لأنالكم، أو لوقع بكم، لأن المس يقتضي تحقيق الإصابة.
قوله تعالى: (فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ)، الإفاضة: هي استماع الحديث لإسماعه مع الإجابة ومنه المفاوضة.
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ... (١٥)﴾
قال ابن عرفة: الباء للسبب، ومعناه قلتموه، والسبب مجرد سماعه من ألسنة بعضكم من غير طلب دليل على صحته والإسناد [... ].
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا... (١٦)﴾
فعبر بالكلام والقول أعم من الكلام، والقاعدة استعمال الأعم في النفي والأخص في الثبوت، قال: فالجواب: أن الأول في معرض الذم لهم، فذموا على إشاعة مطلق القول الذي يتناول القيد الخاص، وما دونه فأحرى أن يذموا على إشاعة القول المتناول للغيب الأخص، ثم قال تعالى (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ)، فنفى، ولولا إذ سمعتم هذا القول الخاص سماعا مستكملا لشرائط السماع، قلتم: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا فأحرى إذ سمعتموه مطلق سماع، وإن لم يستكمل بعضه أن ترجعوا وتقولوا: لا نتكلم به، قيل له: إنما هذا لو قيل: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) كلاما فيكون في موضع الثبوت، وإنما أتى هنا بالكلام في سياق النفي، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم،
فأجاب باسم الإشارة في قوله، بهذا يفيد مع قوله: تكلم أنه سماع كلام لَا سماع قول، فلما أثبت الأخص نفاه بقوله: ما (نَتَكَلمَ بِهَذَا).
قوله تعالى: (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ).
قال ابن عرفة: البهتان أن تقول في الشخص ما ليس فيه، وهو هاهنا كذلك بزيادة مخالفته للضرورة، كقولك: الواحد نصف الاثنين لوصف البهتان بالعظم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ... (١٩)﴾
قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون قوله تعالى: (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) كل أركانه.
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (٢٠)﴾
الرحمة أخص من الرأفة، فإذا أطعمت فقيرين أحدهما مشرف للهلاك، والآخر معه بعض زمن يصدق عليك، أنك رحمت الأول ورأفت على الثاني.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ... (٢١)﴾
قال ابن عرفة: المنكر كل ما قبحه الشرع مما اشتَّد قبحه كالزنا، وشرب الخمر فهو منكر، وما كان دون ذلك، كالغيبة ونحوها فهو فحشاء.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ... (٢٢)﴾
قالوا: يأتل إما من الإيلاء، أو بمعنى التقصير.
ابن عرفة: وهو الصواب؛ لأنه إذا كان من الإيلاء لزم عليه تكليف ما لَا يطاق، ولأن إيلاء أبي بكر كرم الله وجهه وقد وقع وما وقع لَا يرتفع، ولا بد أن يرجح النهي لدوام الإيلاء وتقريره؛ لأنه إن قاله في قسمته، فكأنه حدده وهو مجاز وإلا فسد.
قوله تعالى: (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ).
والسعة من عطف الخاص على العام؛ لأن الفضل هو الزيادة في المال أعم من أن يكون فيه اتساع أم لا.
قوله تعالى: (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
قيل لابن عرفة: هذا دليل على إبطال القول بالإحباط؛ لأن مِسْطَحًا كان ممن خاض في حديث الإفك، وتولى كبره فلو كان إثمه يحبط لحصل له من ثواب الهجرة لها (والمهاجرين في سبيل الله)؛ لأنه من عطف الصفات.
قوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا).
قال ابن عرفة: العفو عمن قصد الجناية عمدا كان أو خطأ، والصفح بالمتعمد، بدليل قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)، فإذا شككت في تعدي رجل عليك ثم تركته فهذا عفو، وإذا تحققت ذلك ثم تركته فهذا صفح.
قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ... (٢٦)﴾
والمراد الكلمات الخبيثات للرجال الخبيثين، والفعلات الخبيثات للرجال الخبيثين.
قوله تعالى: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ).
قال: عادتهم يوردون: سؤالا، وهو أن تبرئتهم من هذا يقتضي عدم [احتياجهم للمغفرة*]، فيناقض قوله تعالى: (لَهُم مَغفِرَةٌ)، فأجيب بأنه يغفر لهم لثبوت ما يثبت بسبب رميهم مما هم برآء منه، وإما بأن قوله لهم يقتضي الحصر وخصوص هذه المغفرة الخاصة المعنى لهم بها وحدها، ولذلك قدم المجرور.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ... (٣٥)﴾
قال ابن عرفة: ذكر القاضي ابن عبد السلام أنهم اجتمعوا للشهادة في ميدان في حقيقة هذه الآية، فامتنع الفقيه أبو إسحاق بن عبد الرفيع من الشهادة عنه حتى يذكر الآية كلها قال [باقي الآيةِ صفةٌ لـ (مصباح) *].
قال ابن عرفة: وهذا عندي مستحسن لَا واجب.
قوله تعالى: ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ... (٣٦)﴾
ولم يقل: أمر الله أن ترفع، فالجواب: إن كان المطلق محبوبا للنفس، فيقال فيه: (أَذِنَ) لأنها بنعتها تطلبه وتفعله، والإذن خاص مما ترغب النفس في فعله، والأمر عام فيه وفيما تكرهه النفس وتعظيم هذه البيوت مما تفعله النفوس وتحرص عليه.
قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا... (٣٨)﴾
إن قيل: ظاهره أنهم يثابون على الأحسن لَا على الحسن، فالجواب هنا: إن قلنا: إن المباح حسن فظاهر؛ لأن ما فوقه مندوب، وإن قلنا: إنه ليس بحسن، فيكون تهييجا على الاتصاف بأعلى الطاعة، فوعدهم بالثواب على أعلاها دون أدناها.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ... (٣٩)﴾
هذه اتباعهم المقلدين، لأنهم يظنون أن كبارهم على شيء كما يظن الناظر إلى السراب أنه ماء فلا يجده شيئا.
قوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ... (٤٠)﴾
هذه في آلهتهم ورؤسائهم المتنوعين، لأنهم في الظلمات لأنهم يعتقدون أن ما هم عليه حق، فإذا هم يمشون في الظلمات لَا دليل لهم بوجه.
قوله تعالى: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ... (٥٠)﴾
نقل ابن عرفة هنا كلام المفسرين، ثم قال: والظلم من معنى الآية أن الشيء بما يثبت بعد نفي الجرم بثبوت نقيضه، أو نفي الشك في ثبوت نقيضه، أو نفي لازم نقيضه، فقوله تعالى: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، راجع لنفي ثبوت الإيمان، وقوله تعالى: (بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، هذا ظلم الكفر لَا ظلم المعصية المذكور، في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ).
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ... (٥٩)﴾
يحتمل أن يكون [نفس الْحُلُم*]، أو بلغوا أن يحتلموا في النوم، والظاهر الأول، لأن البلوغ [يقتضي*] قطع المسافة، وهذا يستدعى الزمان، فإِن قلت: لمَ لم يقيد استئذان المماليك بالعتق، كما قيد استئذان الأطفال بالبلوغ؟ فالجواب: أن الأطفال إن بلغوا فلا يزالون أولادا وقرابة، والمماليك إذا أعتقوا صاروا أجانب.
قوله تعالى: (كَمَا اسْتَأذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم)، المراد من قبلهم في الزمان؛ لأن الذين قبلهم في الزمان الأطفال، ولم يكونوا يستأذنون، وإنما المراد [القبلية*] في ذكر بيان الحكم، أي استأذن الذين تقدم بيان حكمهم قبل هؤلاء، والكاف للسبب أو للتعليل، مثل: وأحسن كما أحسن الله إليك.
قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ).
وقال: بعدها وقبلها (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ)، وأجيب بوجهين:
الأول: قال ابن عرفة: هذه خاصة بالأطفال، والتي قبلها عامة في العبيد والأطفال، فأتى منها بالآيات مطلقا غير مقيد بالإضافة وهذه خاصة، فعبر فيها بلفظ خاص، ومنهم من أجاب بأن الخطاب للبالغين فأسند الحكم فيه لله تعالى تخويفا لهم وتشديدا عليهم.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ... (٦١)﴾
يحتمل أن يراد في التخلف عن الجهاد، ويحتمل أن يراد في الأكل من كل جهة، ويحتمل أن يراد نفي الحرج عمن يأكل مع الأعمى، وله أن يجعل يده في الإناء، فيكون إما على حذف مضاف، أي ليس على مُجالس الأعمى حرج، أو تكون على التعليل كما قال ابن مالك، أي ليس لأجله حرج.
قوله تعالى: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ).
نفي الحرج عن الإنسان في الأكل من البيوت معلوم، فما فائدته إلا التساوي بينه وبين نفي الحرج عن الأكل من بيت الآباء مع أن طاعة الأم آكد لتكرار [دخولَ الأبناءِ إياها*]؛ لأن النفقة واجبة على الآباء، وقدم العمة؛ لأن الحضانة لها عند الإمام مالك رحمه الله دون الخالة، فإن قلت: أفرد الصديق وجمع غيره، قلت: إنما أفرده لقلته أو أراد به الجنس.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... (٦٢)﴾
يحتمل أن يراد مطلق الإيمان، والكاملون الإيمان، وهو [الأعم*]؛ لأن الخبر عندهم أعم من المبتدأ؛ لأن في المحصور؛ لأنه أخص بقول: إنما العالم زيد، والخبر هنا مقيد بتوقيفهم على استئذانه، إذا كانوا معه على أمر جامع، فدل على أن المراد الكاملون في الإيمان، ولا يلزم منه أن يكون أويس القرني منهم، لأنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يكن معه حتى يستأذنه.
قوله تعالى: (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ).
لا يؤخذ منه أنه مجتهد؛ لأن هذا اجتهاد في محل الحكم لَا اجتهاد في إثبات حكم شرعي، كما استأذنه بعضهم في التخلف عن الجهاد، [فإن بدا له عذر يمنعه ويبيح له التخلف فيأذن له*].
قوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ... (٦٣)﴾
والنهي للتحريم والمصدر مضاف إما للمفعول، أي دعاؤكم للرسول، وهو أن الداعي إذا دعا يقول: السلام عليك يا رسول الله، ولا يقول: السلام عليك يا محمد، فأمروا بالتأدب معه أو مضاف للفاعل، أي لَا تجعلوا دعاء الرسول لكم إلى أمر من الأمور كدعاء بعضكم لبعض بحيث تمتثلوا أمره تارة، وتخالفوه أخرى، فإن قلت: ما فائدة قوله (بَينَكُم)، [والأصل عدمه*]؛ لأن النهي على المطلق [أولى*] من النهي المقيد؟ فالجواب: أنهم إذا نهوا عن مخالفة أمره فيما بينهم، أي في حال غيبته عنهم، فأحرى أن ينهوا عن مخالفة أمره فيما بينهم وبينه، أي بحضرته معهم، فيعلق النهي بالأخص؛ ليدل على ما عداه من باب أحرى.
* * *
Icon