تفسير سورة النّور

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة النور من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ النُّورِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ تَعَالَى: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سُورَةٌ) : بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ: هَذِهِ سُورَةٌ، أَوْ مِمَّا يُتْلَى عَلَيْكَ سُورَةٌ.
وَلَا يَكُونُ سُورَةٌ مُبْتَدَأً ; لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْزَلْنَا سُورَةً، وَلَا مَوْضِعَ لِـ «أَنْزَلْنَاهَا» عَلَى هَذَا ; لِأَنَّهُ مُفَسِّرٌ لِمَا لَا مَوْضِعَ لَهُ، فَلَا مَوْضِعَ لَهُ.
وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ اذْكُرْ سُورَةً، فَيَكُونُ مَوْضِعُ «أَنْزَلْنَاهَا» نَصْبًا، وَمَوْضِعُهَا عَلَى الرَّفْعِ رَفْعٌ.
(وَفَرَضْنَاهَا) بِالتَّشْدِيدِ بِأَنَّهُ تَكْثِيرُ مَا فِيهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، أَوْ عَلَى تَأْكِيدِ إِيجَابِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا، وَبِالتَّخْفِيفِ عَلَى مَعْنَى فَرَضْنَا الْعَمَلَ بِمَا فِيهَا.
قَالَ تَعَالَى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ (١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) : فِي رَفْعِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ; فَعَلَى هَذَا: (فَاجْلِدُوا) : مُسْتَأْنَفٌ. وَالثَّانِي: الْخَبَرُ (فَاجْلِدُوا).
وَقَدْ قُرِئَ بِالنَّصْبِ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ (فَاجْلِدُوا) وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) [النِّسَاءِ: ١٦].
وُ (مِائَةَ)، (وَثَمَانِينَ) يَنْتَصِبَانِ انْتِصَابَ الْمَصَادِرِ..
(وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا) : لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ بِـ (رَأْفَةً) لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ مَعْمُولُهُ ; وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِتَأْخُذْ ; أَيْ: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِسَبَبِهِمَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى الْبَيَانِ أَيْ أَعْنِي بِهِمَا ; أَيْ لَا تَرْأَفُوا بِهِمَا، وَيُفَسِّرُهُ الْمَصْدَرُ.
وَالرَّأْفَةُ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: إِسْكَانُ الْهَمْزَةِ وَفَتْحُهَا، وَإِبْدَالُهَا أَلِفًا، وَزِيَادَةُ أَلِفٍ بَعْدَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لُغَاتٌ قَدْ قُرِئَ بِهِ.
وَ (فِي) : يَتَعَلَّقُ بِتَأْخُذْكُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) : فِي مَوْضِعِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الرَّفْعُ، وَالْآخَرُ النَّصْبُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)
(فَاجْلِدُوهُمْ) أَيْ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ.
(وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا.
قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ، وَمِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا عِنْدَ آخَرِينَ، وَمَوْضِعُ الْمُسْتَثْنَى نَصْبٌ عَلَى أَصْلِ الْبَابِ. وَقِيلَ: مَوْضِعُهُ جَرٌّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «لَهُمْ».
وَقِيلَ: مَوْضِعُهُ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ «فَإِنَّ اللَّهَ» وَفِي الْخَبَرِ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ ; أَيْ غَفُورٌ لَهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) : هُوَ نَعْتٌ لِشُهَدَاءُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ.
وَلَوْ قُرِئَ بِالنَّصْبِ لَجَازَ عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرَ كَانَ، أَوْ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَإِنَّمَا كَانَ الرَّفْعُ أَقْوَى ; لِأَنَّ «إِلَّا» هُنَا صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢].
(فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) : الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ. وَفِي رَفْعِهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ فَالْوَاجِبُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ. وَالثَّانِي: هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ فَعَلَيْهِمْ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ.
وَ (أَرْبَعَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ ; أَيْ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ.
وَ (بِاللَّهِ) : يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَاتٍ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ ; وَبِـ «شَهَادَةُ» عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْعَامِلَيْنِ.
وَ (إِنَّهُ) وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ: مَعْمُولُ شَهَادَاتٍ، أَوْ شَهَادَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ; أَيْ يَشْهَدُ عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ ; وَلَكِنَّ الْعَامِلَ عُلِّقَ مِنْ أَجْلِ اللَّامِ فِي الْخَبَرِ ; وَلِذَلِكَ كُسِرَتْ إِنَّ.
وَمَوْضِعُهُ إِمَّا نَصْبٌ، أَوْ جَرٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي «أَنَّ» إِذَا حُذِفَ مِنْهُ الْجَارُّ.
وَيُقْرَأُ «أَرْبَعُ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْقَى لِلْمُبْتَدَأِ عَمَلٌ فِيمَا بَعْدَ الْخَبَرِ، لِئَلَّا يُفْصَلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ ; فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَعْمَلَ شَهَادَاتٍ فِيمَا بَعْدَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْخَامِسَةُ) أَيْ وَالشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ «أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ».
وَيُقْرَأُ بِتَخْفِيفِ «أَنَّ» وَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ.
وَ (مِنَ الْكَاذِبِينَ) : خَبَرُ «أَنَّ» عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ، وَخَبَرُ «لَعْنَةُ» عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ.
وَيُقْرَأُ «وَالْخَامِسَةَ» - بِالنَّصْبِ - عَلَى تَقْدِيرِ: وَيَشْهَدُ الْخَامِسَةَ ; وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْخَامِسَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ تَشْهَدَ) : هُوَ فَاعِلُ يَدْرَأُ.
وَ (بِاللَّهِ) : يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَاتٍ، أَوْ بِأَنْ تَشْهَدَ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأُولَى.
قَالَ تَعَالَى: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا) : هُوَ مِثْلَ الْخَامِسَةِ الْأُولَى، وَيُقْرَأُ «أَنَّ» بِالتَّشْدِيدِ، وَ «أَنْ» بِالتَّخْفِيفِ، وَ «غَضَبُ» بِالرَّفْعِ ; وَيُقْرَأُ غَضِبَ، عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ) : جَوَابُ «لَوْلَا» مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَهَلَكْتُمْ، أَوْ لَخَرَجْتُمْ، وَمِثْلُهُ رَأْسُ الْعِشْرِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) : هِيَ خَبَرُ «إِنَّ» وَمِنْكُمْ نَعْتٌ لَهَا، وَبِهِ أَفَادَ الْخَبَرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَحْسَبُوهُ) : مُسْتَأْنَفٌ، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الْإِفْكِ، أَوِ الْقَذْفِ.
وَ (كِبْرَهُ) بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى مُعْظَمِهِ، وَبِالضَّمِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْوَلَاءُ لِلْكُبْرِ، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ الرَّجُلِ ; أَيْ تَوَلَّى أَكْبَرَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) : الْعَامِلُ فِي «إِذْ» مَسَّكُمْ، أَوْ أَفَضْتُمْ.
وَيُقْرَأُ: تُلْقُونَهُ بِضَمِّ التَّاءِ، مِنْ أَلْقَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا طَرَحْتُهُ. وَتَلِقُونَهُ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِهَا ; أَيْ تُسْرِعُونَ فِيهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَلَقِ ; وَهُوَ الْجُنُونُ.
وَيُقْرَأُ: تَقَفَّوْنَهُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ وَفَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا، وَأَصْلُهُ تَتَقَفَّوْنَ ; أَيْ تَتْبَعُونَ.
قَالَ تَعَالَى: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ تَعُودُوا) : أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَعُودُوا، فَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ.
وَقِيلَ: حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى يَعِظُكُمْ ; أَيْ يَزْجُرُكُمْ عَنِ الْعَوْدِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ) : الْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّيْطَانِ، أَوْ ضَمِيرُ مَنْ.
وَ (زَكَا) : يُمَالُ حَمْلًا عَلَى تَصَرُّفِ الْفِعْلِ، وَمَنْ لَمْ يُمِلْ قَالَ: الْأَلِفُ مِنَ الْوَاوِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يَأْتَلِ) : هُوَ يَفْتَعِلُ، مِنْ أَلَيْتُ، أَيْ حَلَفْتُ.
وَيَقْرَأُ: يَتَأَلَّ عَلَى يَتَفَعَّلُ، وَهُوَ مِنَ الْأَلِيَّةِ أَيْضًا.
قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ تَشْهَدُ) : الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَهُمْ عَذَابٌ) [النُّورِ: ٢٣] وَلَا يَعْمَلُ عَذَابٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: اذْكُرْ.
وَتَشْهَدُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَئِذٍ) الْعَامِلُ فِيهِ «يُوَفِّيهِمُ»
وَ (الْحَقَّ) بِالنَّصْبِ: صِفَةٌ لِلدِّينِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِلَّهِ، وَلَمْ يُحْتَفَلْ بِالْفَصْلِ. وَقَدْ ذُكِرَ نَظِيرُهُ فِي الْكَهْفِ.
قَالَ تَعَالَى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ.
قَالَ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ تَدْخُلُوا) أَيْ فِي أَنْ تَدْخُلُوا. وَقَدْ ذُكِرَ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٣٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ أَبْصَارِهِمْ) :«مِنْ» هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ ; أَيْ لَا يَلْزَمُهُ غَضُّ الْبَصَرِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: هِيَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ أَوِ الْبَدَلِ ; وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْفَاتِحَةِ.
وَ (مِنَ الرِّجَالِ) : نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَإِفْرَادُ «الطِّفْلِ» قَدْ ذُكِرَ فِي الْحَجِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ زِينَتِهِنَّ) : حَالٌ.
(أَيُّهَا) : الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ ; لِأَنَّ بَعْدَهَا أَلِفًا فِي التَّقْدِيرِ.
وَقُرِئَ بِضَمِّ الْهَاءِ إِتْبَاعًا لِلضَّمَّةِ قَبْلَهَا فِي اللَّفْظِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ) : رَفْعٌ، أَوْ نَصْبٌ، كَمَا ذُكِرَ فِي (الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) [النُّورِ: ٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : أَيْ غَفُورٌ ; أَيْ لَهُنَّ.
قَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ) : تَقْدِيرُهُ: صَاحِبُ نُورِ السَّمَاوَاتِ. وَقِيلَ: الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ ; أَيْ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ.
(فِيهَا مِصْبَاحٌ) : صِفَةٌ لِمِشْكَاةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (دُرِّيٌّ) : يُقْرَأُ بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّرِّ ; شُبِّهَ بِهِ لِصَفَائِهِ وَإِضَاءَتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْهَمْزُ، وَلَكِنْ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُدْغِمَتْ ; وَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ الدَّرْءِ، وَهُوَ دَفْعُ الظُّلْمَةِ بِضَوْئِهِ.
وَيُقْرَأُ بِالْكَسْرِ عَلَى مَعْنَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَيَكُونُ عَلَى فِعِّيلٍ، كَسِكِّيتٍ وَصِدِّيقٍ.
وَيُقْرَأُ بِالْفَتْحِ عَلَى فَعِّيلٍ ; وَهُوَ بَعِيدٌ. (تَوَقَّدَ) : بِالتَّاءِ وَالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ مَاضٍ، وَتُوقَدُ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ، وَالتَّاءُ لِتَأْنِيثِ الزُّجَاجَةِ، وَالْيَاءُ عَلَى مَعْنَى الْمِصْبَاحِ. وَ (زَيْتُونَةٍ) : بَدَلٌ مِنْ شَجَرَةٍ. وَ (لَا شَرْقِيَّةٍ) : نَعْتٌ. (يَكَادُ زَيْتُهَا) : الْجُمْلَةُ نَعْتٌ لِزَيْتُونَةٍ. (نُورٌ عَلَى نُورٍ) : أَيْ ذَلِكَ نُورٌ.
قَالَ تَعَالَى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي بُيُوتٍ) : فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا صِفَةٌ لِزُجَاجَةٍ فِي قَوْلِهِ: (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) فِي بُيُوتٍ. وَالثَّانِي: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِتُوقَدُ ; أَيْ تُوجَدُ فِي الْمَسَاجِدِ.
وَالثَّالِثُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُسَبِّحُ، وَ «فِيهَا» الَّتِي بَعْدَ «يُسَبِّحُ» مُكَرَّرٌ، مِثْلَ قَوْلِهِ: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا) [هُودٍ: ١٠٨] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيُذْكَرَ ; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى «تُرْفَعَ» وَهُوَ فِي صِلَةِ «أَنْ» فَلَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ.
وَ (يُسَبِّحُ) بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَالْفَاعِلُ (رِجَالٌ) وَبِالْفَتْحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ لَهُ أَوْ فِيهَا. وَرِجَالٌ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يُسَبِّحُهُ؟ فَقَالَ رِجَالٌ ; أَيْ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيِ الْمُسَبِّحُ رِجَالٌ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فِيهَا رِجَالٌ.
(وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْأَنْبِيَاءِ ; أَيْ: وَعَنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ.
(يَخَافُونَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «تُلْهِيهِمْ» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لِرِجَالٍ.
قَالَ تَعَالَى: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَجْزِيَهُمْ) : يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِيُسَبِّحُ، وَبِـ «لَا تُلْهِيهِمْ»، وَبِيَخَافُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الصَّيْرُورَةِ، كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) [الْقَصَصِ: ٨] وَمَوْضِعُهَا حَالٌ ; وَالتَّقْدِيرُ: يَخَافُونَ مُلْهِينَ لِيَجْزِيَهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِقِيعَةٍ) : فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِسَرَابٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَافُ الَّتِي هِيَ الْخَبَرُ.
وَالْيَاءُ فِي «قِيعَةٍ» بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَاعٍ: أَقْوَاعٌ.
وَيُقْرَأُ قِيعَاتٍ، وَهُوَ جَمْعُ قِيعَةٍ؛ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ زَائِدَةً كَأَلِفِ سِعْلَاةٍ، فَيَكُونُ مُفْرَدًا وَ (يَحْسَبُهُ) : صِفَةٌ لِسَرَابٍ أَيْضًا. وَ (شَيْئًا) : فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ؛ أَيْ لَمْ يَجِدْهُ وُجْدَانًا، وَقِيلَ: «شَيْئًا» هُنَا بِمَعْنَى مَاءٍ عَلَى مَا ظَنَّ. (وَوَجَدَ اللَّهَ) : أَيْ قَدَرَ اللَّهِ، أَوْ إِمَاتَةَ اللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «كَسَرَابٍ»، وَفِي التَّقْدِيرِ: وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْدِيرُهُ: أَوْ كَأَعْمَالِ ذِي ظُلُمَاتٍ؛ فَيُقَدَّرُ «ذِي» لِيَعُودَ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: «إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ» إِلَيْهِ، وَتُقَدَّرُ أَعْمَالٌ لِيَصِحَّ تَشْبِيهُ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِأَعْمَالِ صَاحِبِ الظُّلْمَةِ؛ إِذْ لَا مَعْنَى لِتَشْبِيهِ الْعَمَلِ بِصَاحِبِ الظُّلُمَاتِ. وَالثَّانِي: لَا حَذْفَ فِيهِ؛ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ شَبَّهَ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ بِالظُّلْمَةِ فِي حَيْلُولَتِهَا بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ مَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ. فَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ) فَيَعُودُ إِلَى مَذْكُورٍ حُذِفَ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَعْنَى؛ تَقْدِيرُهُ: إِذَا أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا يَدَهُ.
972
(فِي بَحْرٍ) : صِفَةٌ لِظُلُمَاتٍ.
وَ (لُجِّيٍّ) : نِسْبَةٌ إِلَى اللُّجِّ، وَهُوَ فِي مَعْنَى ذِي لُجَّةٍ. وَ (يَغْشَاهُ) : صِفَةٌ أُخْرَى.
وَ (مِنْ فَوْقِهِ) : صِفَةٌ لِمَوْجٍ. وَمَوْجٌ الثَّانِي مَرْفُوعٌ بِالظَّرْفِ لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالظَّرْفُ خَبَرُهُ. وَ (مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ) : نَعْتٌ لِمَوْجٍ الثَّانِي. وَ (ظُلُمَاتٌ) بِالرَّفْعِ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ هَذِهِ ظُلُمَاتٌ.
وَيُقْرَأُ سَحَابُ ظُلُمَاتٍ بِالْإِضَافَةِ وَالْجَرِّ على جعل الموج المتراكم بِمَنْزِلَة السَّحَاب
وَيقْرَأ سَحَاب بِالرَّفْع والتنوين، وَظُلُمَاتٍ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ ظُلُمَاتٍ الْأُولَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْكَلَامِ؛ وَمَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ أَنَّ مَوْضِعَ «كَادَ» إِذَا نَفَيْتَ وُقُوعَ الْفِعْلِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَرَى يَدَهُ؛ فَعَلَى هَذَا فِي التَّقْدِيرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ: لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ، ذَكَرَهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ؛ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَرَهَا، جَزْمٌ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: «لَمْ يَكَدْ» إِذَا أَخْرَجَهَا عَنْ مُقْتَضَى الْبَابِ كَانَ التَّقْدِيرُ: وَلَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ؛ فَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْقَائِلُ: «لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا» وَأَنَّهُ رَآهَا بَعْدَ جُهْدٍ، تَنَاقَضَ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الرُّؤْيَةَ ثُمَّ أَثْبَتَهَا.
وَإِنْ كَانَ مَعْنَى: «لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا» لَمْ يَرَهَا أَلْبَتَّةَ عَلَى خِلَافِ الْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدِّرَ: لَمْ يَرَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «كَادَ» زَائِدَةٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
973
وَالثَّالِثُ: أَنَّ كَادَ أُخْرِجَتْ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَى قَارَبَ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يُقَارِبْ رُؤْيَتَهَا، وَإِذَا لَمْ يُقَارِبْهَا بَاعَدَهَا، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ رَسِيسُ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
أَيْ لَمْ يُقَارِبِ الْبَرَاحَ، وَمِنْ هَاهُنَا حُكِيَ عَنْ ذِي الرُّمَّةِ أَنَّهُ رُوجِعَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ بَدَلًا مِنْ لَمْ يَكَدْ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: جَهَدَ أَنَّهُ رَآهَا بَعْدُ؛ وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ إِذَا أَحَدَّ نَظَرَهُ إِلَى يَدِهِ وَقَرَّبَهَا مِنْ عَيْنِهِ رَآهَا.
قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالطَّيْرُ) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «مَنْ» وَ «صَافَّاتٍ» : حَالٌ مِنَ الطَّيْرِ.
(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ) : ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي عَلِمَ: اسْمُ اللَّهِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَعِنْدَ آخَرِينَ: هُوَ ضَمِيرُ كُلٍّ؛ وَهُوَ الْأَقْوَى؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِرَفْعِ كُلٍّ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَيَرْجِعُ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ لَكَانَ الْأَوْلَى نَصْبَ كُلٍّ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي بَعْدَهَا قَدْ نَصَبَ مَا هُوَ مِنْ سَبَبِهَا؛ فَيَصِيرُ كَقَوْلِكَ: زَيْدًا ضَرَبَ عَمْرٌو غُلَامَهُ، فَتَنْصِبُ زَيْدًا بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ؛ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الرَّفْعِ، وَالْآخَرُ جَائِزٌ.
قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) : إِنَّمَا جَازَ دُخُولُ بَيْنَ عَلَى الْمُفْرَدِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى بَيْنَ كُلِّ قِطْعَةٍ وَقِطْعَةٍ سَحَابَةٌ، وَالسَّحَابُ جِنْسٌ لَهَا.
(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ) :(مِنَ) هَاهُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ؛ فَأَمَّا (مِنْ جِبَالٍ) فَفِي (مِنْ) وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هِيَ زَائِدَةٌ، هَذَا عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ. وَالثَّانِي: لَيْسَتْ زَائِدَةً. ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى عَلَى إِعَادَةِ الْجَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُنَزِّلُ مِنْ جِبَالِ السَّمَاءِ؛ أَيْ مِنْ جِبَالٍ فِي السَّمَاءِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ «مِنْ بَرَدٍ» زَائِدَةً عِنْدَ قَوْمٍ، وَغَيْرَ زَائِدَةٍ عِنْدَ آخَرِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ: شَيْئًا مِنْ جِبَالٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَاكْتَفَى بِالصِّفَةِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: «فِيهَا مِنْ بَرَدٍ» يُحْوِجُكَ إِلَى مَفْعُولٍ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ؛ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَيُنَزِّلُ مِنْ جِبَالِ السَّمَاءِ جِبَالًا فِيهَا بَرَدٌ، وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ حَذْفٍ وَتَقْدِيرُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ.
وَأَمَّا «مِنْ» الثَّانِيَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ زَائِدَةٌ. وَالثَّانِي: لِلتَّبْعِيضِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) وَ (مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) :«مَنْ» فِيهِمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهَا صَحِبَتْ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ؛ فَكَانَ الْأَحْسَنُ اتِّفَاقَ لَفْظِهِمَا. وَقِيلَ: لَمَّا وَصَفَ هَذَيْنِ بِالْمَشْيِ وَالِاخْتِيَارِ حَمَلَهُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذَا فَرِيقٌ) : هِيَ لِلْمُفَاجَأَةِ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي مَوَاضِعَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) : يُقْرَأُ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَقَدْ ذُكِرَ نَظِيرُهُ فِي مَوَاضِعَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَتَّقْهِ) : قَدْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آلِ عِمْرَانَ: ٧٥].
قَالَ تَعَالَى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٥٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (طَاعَةٌ) : مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ أَمْثَلُ مِنْ غَيْرِهَا؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَالْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ أَمْرُنَا طَاعَةٌ.
وَلَوْ قُرِئَ بِالنَّصْبِ لَكَانَ جَائِزًا فِي الْعَرَبِيَّةِ؛ وَذَلِكَ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ أَيْ أَطِيعُوا طَاعَةً، وَقُولُوا قَوْلًا، أَوِ اتَّخِذُوا طَاعَةً وَقَوْلًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ».
قَالَ تَعَالَى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَمَا اسْتَخْلَفَ) : نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيِ اسْتِخْلَافًا كَمَا اسْتَخْلَفَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَعْبُدُونَنِي) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «لَيُبَدِّلَنَّهُمْ».
(لَا يُشْرِكُونَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا بَدَلًا مِنَ الْحَالِ الْأُولَى، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ فِي «يَعْبُدُونَنِي» أَيْ يَعْبُدُونَنِي مُوَحِّدِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ) : يُقْرَأُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، وَقَدْ ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَنْفَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : مَرَّةٌ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ ظَرْفًا؛ فَعَلَى هَذَا يَنْتَصِبُ «ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ لِيَسْتَأْذِنْ؛ وَعَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِ «مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ» ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: نَصْبٌ بَدَلًا مِنْ ثَلَاثٍ. وَالثَّانِي: جَرٌّ بَدَلًا مِنْ مَرَّاتٍ. وَالثَّالِثُ: رَفْعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ هِيَ مِنْ قَبْلِ، وَتَمَامُ الثَّلَاثِ مَعْطُوفٌ عَلَى هَذَا.
(مِنَ الظَّهِيرَةِ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ من لبَيَان الْجِنْس أَي حِين ذَلِك من وَقت الظهيرة وَأَن تَكُونَ بِمَعْنَى فِي. وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ حَرِّ الظَّهِيرَةِ.
وَ (حِينَ) : مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ «مِنْ قَبْلِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) : يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ؛ أَيْ هِيَ أَوْقَاتُ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ، فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ وَالْمُضَافُ.
وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْ مِنْ «ثَلَاثَ» الْأُولَى، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَعْدَهُنَّ) : التَّقْدِيرُ: بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِنَّ فِيهِنَّ، ثُمَّ حَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَالْفَاعِلَ، فَيَبْقَى بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، ثُمَّ حَذَفَ الْمَصْدَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) : أَيْ هُمْ طَوَّافُونَ.
977
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) : أَيْ بَعْضُكُمْ يَطُوفُ عَلَى بَعْضٍ؛ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَأَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً مُؤَكِّدَةً.
قَالَ تَعَالَى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْقَوَاعِدُ) : وَاحِدَتُهُنَّ قَاعِدٌ، هَذَا إِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً؛ أَيْ قَاعِدَةً عَنِ النِّكَاحِ. وَمِنَ الْقُعُودِ: قَاعِدَةٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ.
وَ (مِنَ النِّسَاءِ) : حَالٌ، وَ «اللَّاتِي» صِفَةٌ. وَالْخَبَرُ: «فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ» وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْمُبْتَدَأِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ بِمَعْنَى الَّذِي.
(غَيْرَ) : حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ) : الْجُمْهُورُ عَلَى التَّخْفِيفِ. وَيُقْرَأُ «مُلِّكْتُمْ» بِالتَّشْدِيدِ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
وَالْمَفَاتِحُ: جَمْعُ مِفْتَحٍ، قِيلَ: هُوَ نَفْسُ الشَّيْءِ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ مَفْتَحٍ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ كَالْفَتْحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَحِيَّةً) : مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى سَلِّمُوا، لِأَنَّ سَلَّمَ وَحَيَّا بِمَعْنًى.
قَالَ تَعَالَى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)).
978
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) : أَيْ بَعْضُكُمْ يَطُوفُ عَلَى بَعْضٍ؛ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَأَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً مُؤَكِّدَةً.
قَالَ تَعَالَى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْقَوَاعِدُ) : وَاحِدَتُهُنَّ قَاعِدٌ، هَذَا إِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً؛ أَيْ قَاعِدَةً عَنِ النِّكَاحِ. وَمِنَ الْقُعُودِ: قَاعِدَةٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ.
وَ (مِنَ النِّسَاءِ) : حَالٌ، وَ «اللَّاتِي» صِفَةٌ. وَالْخَبَرُ: «فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ» وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْمُبْتَدَأِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ بِمَعْنَى الَّذِي.
(غَيْرَ) : حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ) : الْجُمْهُورُ عَلَى التَّخْفِيفِ. وَيُقْرَأُ «مُلِّكْتُمْ» بِالتَّشْدِيدِ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
وَالْمَفَاتِحُ: جَمْعُ مِفْتَحٍ، قِيلَ: هُوَ نَفْسُ الشَّيْءِ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ مَفْتَحٍ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ كَالْفَتْحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَحِيَّةً) : مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى سَلِّمُوا، لِأَنَّ سَلَّمَ وَحَيَّا بِمَعْنًى.
قَالَ تَعَالَى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)).
Icon