تفسير سورة النّور

الدر المصون
تفسير سورة سورة النور من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾ : يجوزُ في رَفْعِها وجهان. أحدهما: أن يكونَ مبتدأً. والجملةُ بعدَها صفةٌ لها، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداءِ بالنكرةِ. وفي الخبرِ وجهان، أحدُهما: أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه: ﴿الزانية والزاني﴾ وإلى هذا نحا ابنُ عطية، فإنه قال: «ويجوز أن يكونَ مبتدأً. والخبرُ ﴿الزانية والزاني﴾ وما بَعد ذلك. والمعنى: السورةٌ المُنَزَّلَةُ المَفْرُوْضَةُ كذا وكذا؛ إذ السورةُ عبارةٌ عن آياتٍ مسرودةٍ لها بَدْءٌ وخَتْم». والثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ أي: فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ، أو فيما أَنْزَلْنا سورةٌ.
والوجهُ الثانِ مِنَ الوجَهين الأَوَلَيْن: أَنْ يكونَ خبرُ المبتدأ مضمراً أي: هذه سورةٌ. وقال أبو البقاء: «سورةٌ بالرفع على تقديرِ: هذه سورةٌ، أو مِمَّا يُتْلى عليك سورةٌ فلا تكونُ» سورةٌ «مبتدأَةً لأنها نكرةٌ». وهذه عبارةٌ مُشكلة على ظاهِرها. كيف يقول: لا تكونُ مبتدأً مع تقديرِه: فيما يُتْلى عليك سورةٌ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرةٌ مع تقديرِه لخبرِها جارَّاً مُقَدَّماً عليها، وهو مُسَوِّغٌ للابتداء بالنكرة.
377
وقرأه العامَّةُ بالرفعِ على ما تقدَّم. وقرأ الحسن بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهدٌ وأبو حيوة في آخرين «سورةً» بالنصبِ. وفيها أوجهٌ، أحدها: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ غير مفسَّرٍ بما بعدَه. تقديره: اتْلُ سورةً أو اقرأ سورةً. والثاني: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده. والمسألةُ من الاشتغال. تقديرُه: أَنْزَلْنا سورةً أنزلناها. والفرقُ بين الوجهين: أنَّ الجملةَ بعد «سورةً» في محلِّ نصبٍ على الأول، ولا محلَّ لها على الثاني. الثالث: أنها منصوبةٌ على الإِغراء، أي: دونَكَ سورةً. قال الزمخشري، ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يجوزُ حَذْفُ أداة الإِغْراءِ، واستشكل الشيخُ أيضاً على وجهِ الاشتغالِ جوازَ الابتداءِ بالنكرةِ من غيرِ مُسَوِّغٍ. ومعنى ذلك: أنه ما مِنْ مَوْضع يجوز [فيه] النصبُ على الاشتغالُ إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداءِ، وهنا لو رُفِعَتْ «سورة» بالابتداءِ لم يَجُزْ؛ إذ لا مُسَوِّغٍ. فلا يُقال: رجلاً ضربتُه لامتناعهِ: رجلٌ ضربتُه. ثم أجاب: بأنه إنْ اعتُقد حَذْفُ وصفٍ جاز، أي: سورة مُعَظَّمة أو مُوَضَّحة أَنْزَلْناها، فيجوزُ ذلك.
الرابع: أنَّها منصوبةٌ على الحال مِنْ «ها» في «أَنْزِلْناها». والحالُ من المكنى يجوز أن تتقدَم عليه. قاله الفراء. وعلى هذا فالضميرُ في «أَنْزَلْناها» ليس عائداً على سورة بل على الأحكام. كأنه قيل: أَنْزلنا الأحكامَ سورةً مِنْ سُوَرِ القرِآن، فهذه الأحكامُ ثابتةٌ بالقرآنِ، بخلافِ غيرِها فإنَّه قد ثَبَتَتْ بالسُّنة.
378
قوله: ﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديدِ. والباقون بالتخفيف. فالتشديد: إمَّا للمبالغةِ في الإِيجاب وتوكيداً، وإمَّا لتكثير المفروض عليهم، وإمَّا لتكثيرِ الشيءِ المفروض. والتخفيفُ بمعنى: أَوْجَبْناها وجعلناها مقطوعاً بها.
379
قوله: ﴿الزانية والزاني﴾ : في رفعهما وجهان: مذهب سيبويه أنَّه مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ أي: فيما يُتْلَى عليكم حكمُ الزانية. ثم بَيَّن ذلك بقوله: ﴿فاجلدوا﴾ إلى آخره. والثاني وهو مذهبُ الأخفش وغيرِه: أنه مبتدأٌ. والخبرُ جملة الأمر. ودخلت الفاءُ لشِبْه المبتدأ بالشرط. وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المسألةِ مستوفىً عند قولِه ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ [النساء: ١٦] وعند قولِه ﴿والسارق والسارقة﴾ [المائدة: ٣٨] فأغنى عن إعادتِه.
وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وشيبة ورُوَيْس بالنصبِ على الاشتغال. قال الزمخشري: «وهو أحسنُ
379
مِنْ» سورةً أنزلناها «لأجلِ الأمر. وقُرِىء» واللذَّانِ «بلا ياءٍ.
قوله: ﴿رَأْفَةٌ﴾ قرأ العامَّةُ هنا، وفي الحديد، بسكون الهمزة، وابنُ كثير بفتحها. وقرأ ابن جُرَيْج وتُروى أيضاً عن ابن كثير وعاصم»
رَآفة «بألفٍ بعد الهمزة بزنةِ سَحابة، وكلُها مصادِرُ ل رَأَفَ به يَرْؤُف. وقد تقدَّم معناه. وأشهرُ المصادرِ الأولُ. ونقل أبو البقاء فيها لغةً رابعةً: وهي إبدالُ الهمزةِ ألفاً. ومثلُ هذا ظاهرٌ غيرُ محتاجٍ للتنبيهِ عليه فإنها لغةٌ مستقلةٌ وقراءةٌ متواترة.
وقرأ العامَّةُ»
تَأْخُذْكم «بالتأنيثِ مراعاةً للَّفظِ. وعلي بن أبي طالب والسُّلمي ومجاهد بالياء مِنْ تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ وللفصلِ بالمفعولِ والجارِّ. و» بهما «متعلقٌ ب» تَأْخُذْكم «أو بمحذوفٍ على سبيل البيانِ. ولا يتعلَّقُ ب» رَأْفة «لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه، وفي» دين الله «متعلقٌ بالفعلِ قبله أيضاً. وهذه الجملةُ دالَّةٌ على جوابِ الشرطِ بعدَها، أو هي الجوابُ عند بعضِهم.
380
قوله: ﴿وَحُرِّمَ ذلك﴾ : قرأ أبو البرهسم «وحرَّم» مبنياً للفاعل مشدِّداً. زيد بن علي «وحَرُمَ» بزنة كَرُم.
قوله: ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾ : كقولِه: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا﴾ [النور: ٢]، فيعودُ فيه ما تقدَّم بحاله. وقوله: ﴿المحصنات﴾ فيه وجهان أحدُهما: أنَّ المرادَ به النساءُ فقط، وإنَّما خَصَّهُنَّ بالذِّكْر؛ لأنَّ قَذْفَهُنَّ أشنعُ. والثاني: أنَّ المرادَ بهنَّ النساءُ والرجال، وعلى هذا فيقالُ: كيف غَلَّبَ المؤنَّثَ على المذكر؟ والجوابُ: أنه صفةٌ لشيء محذوفٍ يَعُمُّ الرجالَ والنساءَ، أي: الأنفسَ المحصناتِ وهو بعيدٌ. أو تقولُ: ثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ لفهمِ المعنى، والإِجماعُ على أنَّ حكمَهم حكمُهن أي: والمُحْصَنين.
قوله: ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾ العامَّة على إضافة اسمِ العددِ للمعدود. وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بالتنوينِ في العدد، واستفصحَ الناسُ هذه القراءةَ حتى جاوزَ بعضُهم الحدَّ، كابنِ جني، ففضَّلها على قراءة العامَّةِ قال: «لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجودُ الإِتباعُ دونَ الإِضافةِ. تقول: عندي ثلاثةُ ضاربون، ويَضْعُفُ ثلاثةُ ضاربين» وهذا غلطٌ، لأن الصفةَ التي جَرَتْ مجرى الأسماءِ تُعْطى حكمَها فيُضاف إليها العددُ، و «شهداء» مِنْ ذلك؛ فإنه كَثُرَ حَذْفُ موصوفِه. قال تعالى: ﴿مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وتقول: عندي ثلاثةُ أَعْبُدٍ، وكلُّ ذلك صفةٌ في الأصل.
ونَقَل ابنُ عطية عن سيبويهِ أنه لا يُجيزَ تنوينَ العددِ إلاَّ في شعرٍ، وليس
381
كما نقله عنه، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماءِ نحو: ثلاثةُ رجالٍ، وأمَّا الصفاتُ ففيها التفصيلُ المتقدمُ.
وفي ﴿شُهَدَآءَ﴾ على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه تمييزٌ. وهذا فاسد؛ لأنَّ مِنْ ثلاثة إلى عشرة يُضافُ لمميِّزه ليس إلاَّ، وغيرُ ذلك ضرورةٌ. الثاني: أنه حالٌ وهو ضعيفٌ أيضاً لمجيئها من النكرةِ من غيرِ مخصِّص. الثالث: أنها مجرورةٌ نعتاً لأربعة، ولم ينصَرِفْ لألف التأنيث.
قوله: ﴿وأولئك هُمُ الفاسقون﴾ يجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً. وهو الأظهرُ، وجَوَّزَ أبو البقاء فيها أن تكونَ حالاً.
382
قوله: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ : في هذا الاستثناءِ خلافٌ: هل يعودُ لِما تقدَّمه من الجملِ أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟ وتكلم عليها من النحاةِ ابنُ مالك والمهاباذي. فاختار ابنُ مالك عَوْدَه إلى الجملةِ المتقدمةِ، والمهاباذي إلى الأخيرة. وقال الزمخشري: «ردُّ شهادةِ القاذفِ مُعَلَّقٌ عند أبي حنيفة رحمه الله باستيفاءِ الحدِّ. فإذا شهد [به] قبل الحَدَّ أو قبلَ تمام استيفائِه قُبِلَتْ شهادتُه. فإذا اسْتُوفي لم تُقْبَلْ شهادتُه أبداً، وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء. وعند الشافعيِّ رحمه الله يتعلَّقُ رَدُّ شهادِته بنفسِ القَذْفِ. فإذا تاب عن القَذْفِ بأَنْ يرجعَ عنه عاد مقبولَ الشهادة. وكلاهما متمسِّكٌ بالآية: فأبو حنيفةَ رحمه الله جَعَلَ جزاءَ الشرطِ الذي هو الرميُ الجَلْدَ ورَدَّ
382
الشهادةِ عقيبَ الجَلْدِ على التأبيد، وكانوا مردودي الشهادة عندَه في أَبَدِهم وهومدةُ حياتِهم، وجعل قولَه ﴿وأولئك هُمُ الفاسقون﴾ كلاماً مستأنفاً غيرَ داخلٍ في حَيِّزِ جزاءِ الشرط، كأنه حكايةُ حالِ الرامين عند الله بعد انقضاءِ الجملةِ الشرطيةِ، و ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ استثناءٌ من» الفاسقين «. ويَدُلُّ عليه قولُه: ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. والشافعيُّ رحمه الله جَعَل جزاءَ الشرطِ الجملتين أيضاً، غيرَ أنه صَرَفَ الأبدَ إلى مدةِ كونهِ قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة [والرجوع] عن القذف، وجعل الاستثناء بالجملةِ الثانية متعلقاً». انتهى، وإنما ذكرتُ الحكمَ؛ لأنَّ الإِعرابَ متوقفٌ عليه.
ومَحَلُّ المستثنى فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. الثاني: أنه مجرورٌ بدلاً من الضمير في «لهم» وقد أوضح الزمخشري ذلك بقولِه «وحَقُّ المستثنى عنده أي الشافعي أن يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ» هم «في» لهم «، وحقُّه عند أبي حنيفة أن يكونَ منصوباً؛ لأنه عن مُوْجَبٍ. والذي يقتضيه ظاهرُ الآيةِ ونظمُها أن تكونَ الجملُ الثلاثُ بمجموعِهِنَّ جزاءَ الشرط كأنه قيل: ومَنْ قَذَفَ المُحْصناتِ فاجْلِدوهم، ورُدُّوا شهادتَهم وفَسِّقوهم أي: فاجْمَعُوا لهم الجَلْدَ والردَّ والتفسيقَ، إلاَّ الذين تابوا عن القَذْفِ وأصلحوا فإنَّ اللهَ يغفرُ لهم فينقلبون غيرَ مجلودِين ولا مَرْدودين ولا مُفَسَّقين». قال الشيخ: «وليس ظاهرُ الآية يقتضي عَوْدَ الاستثناءِ إلى الجملِ الثلاثِ، بل الظاهرُ/ هو ما يَعْضُده كلامُ العرب وهو الرجوعُ إلى الجملةِ التي تَليها».
383
والوجه الثالث: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ من قولِه ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. واعتُرِض بخُلُوِّها مِنْ رابطٍ. وأُجيب بأنه محذوفٌ أي: غفورٌ لهم، واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناءِ: هل هو متصلٌ أو منقطع؟ والثاني ضعيفٌ جداً.
384
قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ﴾ : في رفع «أنفسهم» وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ مِنْ «شهداء»، ولم يذكر الزمخشري في غضونِ كلامِه غيرَه. والثاني: أنه نعتٌ له، على أنَّ «إلاَّ» بمعنى «غير». قال أبو البقاء: «ولو قُرىء بالنصبِ لجاز على أن يكونَ خبرَ كان، أو منصوباً على الاستثناء. وإنما كان الرفعُ هنا أقوى؛ لأنَّ» إلاَّ «هنا صفةٌ للنكرةِ كما ذَكْرنا في سورة الأنبياء». قلت: وعلى قراءةِ الرفعِ يُحتمل أَنْ تكونَ «كان» ناقصةً، وخبرُها الجارُّ، وأَنْ تكونَ تامةً أي: ولم يُوجَدْ لهم شهداءُ.
وقرأ العامَّةُ «يكن» بالياءِ من تحتُ، وهو الفصيحُ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ لِما بعدَ «إلاَّ» على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو: «ما قام إلاَّ هندٌ» ولا يجوز: ما قامَتْ، إلاَّ في ضرورة كقوله:
٣٤٣٣ -.........................
384
وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجَراشعُ
أو في شذوذٍ كقراءةِ الحسنِ: «لا ترى إلاَّ مَساكنُهم» وقرىء «ولم تَكُنْ» بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه.
قوله: ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ﴾ في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مبتدأ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي: فعليهم شهادة، أو مُؤَخَّرهُ أي: فشهادة أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ. الثاني: أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: فالجوابُ شهادةُ أحدِهم. الثالث: أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي: فيكفي. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعلِ.
وقرأ العامَّةُ «أربعَ شهاداتٍ» بالنصبِ على المصدر. والعاملُ فيه «شهادة» فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه، كما تقدَّم في قولِه ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً﴾ [الإسراء: ٦٣]. وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع «أربع» على أنها خبرُ المبتدأ، وهو قوله: «فشهادة».
ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله: «بالله»، فعلى قراءةِ النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ بشهادات؛ لأنه أقربُ إليه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بقوله: «فشهادةُ» أي: فشهادةُ أحدِهم بالله. ولا يَضُرُّ الفصلُ ب «أربع» لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً. والثالث: أن المسألةَ
385
من باب التنازعِ؛ فإنَّ كلاً مِنْ شهادة وشهادات تَطْلُبه من حيث المَعنى، وتكون المسألةُ من إعْمال الثاني للحَذْفِ من الأول، وهو مختار البصريين. وعلى قراءةِ الرفعِ يتعيَّن تَعَلُّقُه بشهادات؛ إذ لو عَلَّقْتَه بشهادة لَزِمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالجرِّ، ولا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ. ولم يُختلفْ في «أربع» الثانية وهي قولُه «أَنْ تَشْهد أربعَ شهاداتٍ أنها منصوبةٌ للتصريح بالعاملِ فيها. وهو الفعلُ.
386
قوله: ﴿والخامسة﴾ : اتفق السبعةُ على رفع الخامسة الأولى، واختلفوا في الثانية: فنصبها حفصٌ، ونَصَبهما معاً الحسنُ والسلمي وطلحة والأعمش. فالرفعُ على الابتداءِ، وما بعده مِنْ «أنَّ» وما في حَيِّزها الخبرُ. وأمَّا نصبُ الأولى فعلى قراءةِ مَنْ نصبٍ «أربعَ شهادات» يكون النصبُ للعطفِ على المنصوبِ قبلها. وعلى قراءةِ مَنْ رَفَعَ يكونُ النصبُ بفعلٍ مقدرٍ أي: ويَشْهَدُ الخامسةَ. وأمَّا نصبُ الثانيةِ فعطفٌ على ما قبلَها من المنصوبِ وهو «أربع شهادات». والنصبُ هنا أقوى منه في الأولى لقوةِ النصبِ فيما قبلَها كما تقدَّم تقريرُه: ولذلك لم يُخْتَلَفْ فيه. وأمَّا «أنَّ» وما في حَيِّزها: فعلى قراءةِ الرفعِ تكونُ في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ كما تقدَّم، وعلى قراءةِ النصبِ تكونُ على إسقاطِ الخافضِ، ويتعلَّقُ الخافضُ بذلك الناصبِ للخامسةِ أي: ويشهد الخامسةَ بأنَّ لعنةَ الله وبأنَّ غضبَ اللهِ. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ بدلاً من الخامسة.
قوله: ﴿أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ﴾ قرأ العامَّةُ بتشديد «أنَّ» في الموضعين. وقرأ
386
نافعٌ بتخفيفها في الموضعين، إلاَّ أنه يقرأ «غَضِبَ اللهُ» بجَعْلِ «غَضِبَ» فعلاً ماضياً، والجلالة فاعلَه. كذا نقل الشيخ عنه التخفيفَ في الأولى أيضاً، ولم ينقُلْه غيره. فعلى قراءتِه يكون اسمُ «أنْ» ضميرَ الشأنِ في الموضعين، و «لعنةُ الله» مبتدأ و «عليه» خبرُها. والجملةُ خبرُ «أنْ». وفي الثانية يكون «غضِبَ الله» جملةً فعليةً في محل خبر «أنْ» أيضاً، ولكنه يقال: يلزمُكم أحدُ أَمْرَيْن، وهو إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المخففةِ والفعلِ الواقعِ خبراً، وإمَّا وقوعُ الطلبِ خبراً في هذا البابِ وهو ممتنعٌ. تقريرُ ذلك: أنَّ خبرَ المخففةِ متى كان فعلاً متصرفاً/ غير مقرونٍ ب «قد» وَجَبَ الفصلُ بينهما. بما تقدَّم في سورة المائدة. فإنْ أُجيب بأنه دعاءٌ اعتُرِض بأنَّ الدعاءَ طلبٌ، وقد نَصُّوا على أنَّ الجملَ الطلبيةَ لا تقع خبراً ل «إنَّ». حتى تأوَّلوا قولَه:
٣٤٣٤ -........................ إنَّ الرِّياضةَ لا تُنْصِبْك للشَّيْبِ
وقوله:
٣٤٣٥ - إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ لا تَحْسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
على إضمارِ القول. ومثلُه ﴿أَن بُورِكَ مَن فِي النار﴾ [النمل: ٨]. وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلميُّ وعيسى بتخفيف «أنْ و» غَضَبُ الله «بالرفع على الابتداء، والجارُّ بعدَه خبرُه. والجملةُ خبرُ» أنْ «.
387
وقال ابنُ عطية:» وأنْ الخفيفةُ على قراءة الرفعِ في قوله: «أَنْ غَضِبَ» وقد وليها الفعلُ. قال أبو علي: «وأهلُ العربيةِ يَسْتَقْبِحون أَنْ يليَها الفعلُ إلاَّ بأَنْ يُفْصل بينها وبينه بشيء نحو قولِه ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ﴾ [المزمل: ٢٠] ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ﴾ [طه: ٨٩] فأمَّا قولُه: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ﴾ [النجم: ٣٩] فذلك لقلةِ تمكُّنِ» ليس «في الأفعال. وأمَّا قولُه: ﴿أَن بُورِكَ مَن فِي النار﴾ ف» بُوْرِكَ «في معنى الدعاء فلم يَجىءْ دخولُ الفاصلِ لئلا يَفْسُدَ المعنى». قلت: فظاهرُ هذا أنَّ «غَضِبَ» ليس دعاءً، بل هو خبرٌ عن «غَضَِبَ الله عليها» والظاهرُ أنه دعاءٌ، كما أنَّ «بُورك» كذلك. وليس المعنى على الإِخبارِ فيهما فاعتراضُ أبي علي ومتابعةُ أبي محمد له ليسا بمَرْضِيَّيْنِ.
388
قوله: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله﴾ : جوابُ «لولا» محذوفٌ أي: لَهَلَكْتُمْ.
قوله: ﴿إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك﴾ : في خبر «إنَّ» وجهان، أحدهما: أنه «عُصْبةٌ» و «منكم» صفتُه. قال أبو البقاء: «وبه أفادَ الخبر». والثاني: أنَّ الخبرَ الجملةُ مِنْ قولِه ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ﴾ ويكونُ «عُصْبَةٌ» بدلاً من فاعلِ «جاؤوا». قال ابن عطية: «التقديرُ: إنَّ فِعْلَ الذين. وهذا أنْسَقُ
388
في المعنى وأكثرُ فائدةً من أَنْ يكونَ» عُصبةٌ «خبرَ إنَّ. كذا أورده عنه الشيخ غيرَ معترِضٍ عليه. والاعتراضُ عليه واضحٌ: من حيث إنه أوقع خبرَ» إنَّ «جملةً طلبيةً، وقد تقدم أنه لا يجوزُ. وإن وَرَدَ منه شيءٌ في الشعر أُوِّل كالبيتين المتقدمين، وتقديرُ ابنِ عطيةَ ذلك المضافَ قبل الموصولِ ليَصِحَّ به التركيبُ الكلاميُّ؛ إذ لو لم يُقَدِّرْ لكان التركيبُ: لا تَحْسَبوهم. ولا يعودُ الضمير في» لا تَحْسَبوه «على قولِ ابنِ عطيةَ على الإِفكِ لئلا تَخْلُوَ الجملةُ من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ. وفي قولِ غيرِه يجوزُ أَنْ يعودَ على الإِفك أو على القَذِف، أو على المصدرِ المفهومِ من» جاؤوا «أو على ما نال المسلمين من الغَمِّ.
قوله: ﴿كِبْرَهُ﴾ العامَّةُ على كسرِ الكافِ، وضَمَّها في قراءته الحسنُ والزهريُّ وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعمرة بنت عبد الرحمن، ورُوِيَتْ أيضاً عن أبي عمروٍ والكسائيّ فقيل: هما لغتان في مصدرِ كَبُرَ الشيءُ أي: عَظُم، لكن غَلَبَ في الاستعمالِ أنَّ المضمومَ في السِّنِّ والمكانةِ يُقال: هو كُبْرُ القومِ بالضمِّ أي: أكبرُهم سِنَّاً أو مكانةً. وفي الحديث في قصة مُحَيِّصَة وحُوَيِّصَة»
الكُبْرَ الكُبْرَ «وقيل: الضم معظمُ الإِفْكِ، وبالكسرِ البُداءَةُ به. وقيل: بالكسر الإِثمُ.
389
قوله: ﴿لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون﴾ : هذه تحضيضيةٌ، و «إذ» منصوبٌ ب ظَنَّ. والتقدير: لولا ظَنَّ المؤمنين بأنفسِهم إذ سَمِعْتُموه. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ. قال الزمخشري: «فإنْ قُلْتَ: هلاَّ قيل: لولا إذ سَمِعْتُموه ظَنَنْتُمْ بأنفسِكم خيراً وقُلْتم. ولِمَ عَدَلَ عن الخطابِ إلى الغَيْبة، وعن الضميرِ إلى الظاهرِ؟ قلت: ليُبالِغَ في التوبيخِ بطريقةِ الالتفاتِ، وليُصَرِّحَ بلفظِ الإِيمانِ دلالةً على أنَّ الاشتراكَ فيه مُقْتَضٍ أَنْ لا يُصَدِّقَ أحدٌ قالةً في أخيه». وقوله «لِمَ عَدَلَ الخطابِ» ؟ يعني في قولِه «وقالوا» فإنَّه كان الأصلُ: وقلتم فعدل عن هذا الخطاب إلى الغَيْبة في: «وقالوا». وقوله: «وعن الضميرِ» يعني أنَّ الأصلَ كان: ظَنَنْتُمْ فَعَدَلَ عن ضميرِ الخطابِ إلى لفظِ المؤمنين.
قوله: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ﴾ :«إذْ» منصوبٌ ب «الكاذبون» في قوله: ﴿فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون﴾. وهذا الكلامُ في قوةِ شرطٍ وجزاء.
قوله: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ :«إذْ» منصوبٌ ب «مَسَّكُمْ» أو ب «أَفَضْتُمْ». وقرأ العامَّةُ «تَلَقَّوْنه». والأصلُ: تَتَلَقَّوْنه فحُذِفَتْ إحدى التاءَيْن ك ﴿تَنَزَّلُ﴾ [القدر: ٤] ونحوه. ومعناه: يتلقَّاه بعضُكم من بعض. والبزيُّ على أصله: في أنه يُشَدِّد التاءَ وصلاً. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة نحو ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ﴾ [البقرة: ٢٦٧] وهو هناك سَهَّلَ لأنَّ ما قبله حرفُ لِيْنٍ بخلافِه هنا. وأبو عمرو والكسائي وحمزةُ على
390
أصولِهم في إدغامِ الذالِ في التاء. وقرأ أُبَيّ «تَتَلَقَّوْنَه» بتاءين، وتقدَّم أنها الأصلُ. وقرأ ابن السميفع في روايةٍ عنه «تُلْقُوْنَه» بضمِّ التاءِ وسكونِ اللام وضمِّ القافِ مضارِعَ «ألقى» إلقاءً. وقرأ هو في روايةٍ أخرى «تَلْقَوْنه» بفتح التاءٍ وسكونِ/ اللامِ وفتحِ القاف مضارع لَقِيَ.
وقرأ ابنُ عباس وعائشةُ وعيسى وابنُ يعمر وزيد بن علي بفتحِ التاءِ وكسرِ اللامِ وضَمِّ القافِ مِنْ وَلَقَ الرجلُ إذا كَذِبَ. قال ابن سيده: «جاؤوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي. وعندي أنه أراد تَلِقُوْن فيه فحذف الحرف ووصل الفعلُ للضمير». يعني أنهم جاؤوا ب «تَلِقُوْنه» وهو متعدٍ مُفَسَّراً ب «تُكذِّبون» وهو غيرُ متعد ثم حَمَّله ما ذكر. وقال الطبري وغيره: «إن هذه اللفظةَ مأخوذةٌ من الوَلْقِ وهو الإِسراعُ بالشيءِ بعد الشيءِ كعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ وكلامٍ في إثرِ كلامٍ يُقال: وَلَقَ في سَيْرِه أي: أسرع وأنشد:
٣٤٣٦ - جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّأْمِ تَلِقْ... وقال أبو البقاء: أي: تُسْرعون فيه. وأصله من الوَلْقِ وهو الجنون»
.
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر «تَأْلِقُوْنه» بفتح التاء وهمزةٍ ساكنةٍ ولامٍ مكسورةٍ وقافٍ مضمومةٍ من الأَلْقِ وهو الكذبُ. وقرأ يعقوب «تِيْلَقُوْنه» بكسر التاءِ من فوقُ، بعدها ياءٌ ساكنةٌ ولامٌ مفتوحةٌ وقافٌ مضمومةٌ، وهو مضارع وَلِق بكسر اللامِ كما قالوا يِْيجَلُ مضارعَ وجِل.
391
وقوله: ﴿بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ كقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾ [آل عمران: ١٦٧] وقد تقدَّم.
392
قوله: ﴿ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ﴾ : كقوله: ﴿لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ﴾ [الآية: ١٢] ولكن لا التفاتَ فيه. وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف جاز الفصلُ بين» لولا «و» قُلْتم «. قلت: للظروفِ شأنٌ ليس لغيرِها لأنها لا يَنْفَكُّ عنها ما يقعُ فيها فلذلك اتُّسِع فيها». قال الشيخ: «وهذا يُوْهِمُ اختصاص ذلك بالظروف، وهو جارٍ في المفعول به تقول، لولا زيداً ضَرَبْتَ، ولولا عمراً قَتَلْتَ».
وقال الزمخشري أيضاً: «فإِنْ قلتَ: أيُّ فائدةٍ في تقديمِ الظرف حتى أَوْقَعَ فاصلاً؟ قلت: الفائدة فيه بيانُ أنَّه كان الواجبُ عليهم أن يتفادَوْا أولَ ما سمعوا بالإِفْك عن التكلُّم به، فلمَّا كان ذِكْر الوقتِ أهَّم وَجَبَ تقديمُه. فإنْ قلتَ: ما معنى» يكون «والكلامُ بدونه مُتْلَئِبٌّ لو قيل: ما لنا أن نتكلَّم بهذا؟ قلت: معناه ينبغي ويَصِحُّ، أي: ما ينبغي وما يصِحُّ كقولِه: ﴿مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ﴾ [المائدة: ١١٦].
قوله: ﴿أَن تَعُودُواْ﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مفعولٌ من أجلهِ أي: يَعِظُكم كراهةَ أَنْ تعودوا. الثاني: أنه على حَذْفِ «في» أي: في أَنْ تعودوا نحو: وَعَظْتُ فلاناً في كذا فتركه. الثالث: أنَّه ضُمِّن معنى فِعْلٍ يتعدى ب عَنْ، ثم حُذِفَتْ أي: يَزْجُرُكم بالوَعْظِ عن العَوْدِ. وعلى هذين القولين يجْيءُ القولان في محلِّ «أنْ» بعد نَزْعِ الخافضِ.
قوله: ﴿فَإِنَّهُ يَأْمُرُ﴾ : في هذه الهاءِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنها ضميرُ الشَّأْن. وبه بدأ أبو البقاء. والثاني: أنها ضميرُ الشيطان. وهذان الوجهان إنما يجوزان على رَأْيِ مَنْ لا يَشْترط عَوْدَ ضميرٍ على اسمِ الشرط مِنْ جملة الجزاء. والثالث: أنه عائدٌ على «مَنْ» الشرطيَةِ.
قوله: ﴿مَا زَكَا﴾ العامَّةُ على تخفيفِ الكاف يقال: زكا يَزْكُو. وفي ألفه الإِمالةُ وعدمُها. وقرأ الأعمش وأبو جعفر بتشديدها. وكُتبت ألفُه ياءً وهو شاذٌّ لأنه من ذواتِ الواو كغزا. وإنما حُمِل على لغةِ مَنْ أمال أو على كتابةِ المُشَدَّدِ. فعلى قراءة التخفيفِ يكون «مِنْ أحد» فاعلاً. وعلى قراءةِ التشديدِ يكونُ مفعولاً. و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن. والفاعلُ هو اللهُ تعالى.
قوله: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِن الأَلِيَّة وهي الحَلْف كقوله:
٣٤٣٧ -.............................
393
وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
ونَصَرَ الزمخشري هذا بقراءة الحسن «ولا يَتَأَلَّ» من الأَلِيَّة كقوله: «مَنْ تألَّ على اللهِ يُكَذِّبْه». ويجوزَ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَوْتُ أي قَصَّرْتُ كقوله تعالى: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ [آل عمران: ١١٨] قال:
٣٤٣٨ - وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نَفْسِه بمُدْرِكِ أَطْراف الخُطوب ولا آلِ
وقال أبو البقاء: وقُرِىء «ولا يَتَأَلَّ» على يَتَفَعَّل وهو من الأَلِيَّة أيضاً «.
قلت: ومنه:
٣٤٣٩ - تَأَلَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّني إلى نِسْوةٍ كأنَّهنَّ مَفائِدُ
قوله: ﴿أَن يؤتوا﴾ هو على إسقاطِ الجارِّ، وتقديرُه على القول الأولِ، ولا يَأْتَلِ أُولوو الفَضْلِ على أَنْ لا يُحِسنوا. وعلى الثاني: ولا يُقَصِّر أُولو
394
الفَضْل في أَنْ يُحِسنوا. وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن قطيب» تُؤْتُوا «بتاء الخطاب. وهو التفاتُ موافِقٌ لقولِه:» ألا تُحِبون «. وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين: وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا، بالخطاب، وهو موافِقٌ لِما بعده.
395
قوله: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ﴾ : ناصبُه الاستقرارُ الذي تَعَلَّق به «لهم». وقيل: بل ناصبُه «عذابُ». ورُدَّ بأنه مصدرٌ موصوفٌ وأجيب: بأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه/ ما لا يُتَّسَعُ في غيرِه. وقرأ الأخَوان «يَشْهَدُ» بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ، وقد وقعَ الفَصْلُ. والباقون بالتاءِ مراعاةً للَّفظِ.
والتنوينُ في «إذ» عوضٌ من الجملة، تقديرُه: يوم إذ تشهد. وقد تقدَّمَ خلافُ الأخفش فيه، وقرأ زيد بن علي «يُوْفِيْهِمْ» مخففاً مِنْ أوفى. وقرأ العامَّةُ بنصب «الحق» نعتاً ل «دينَهم»، وأبو حيوة وأبو رَوْق ومجاهدٌ وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ برفعِه نعتاً لله تعالى.
قوله: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً، وأن تكونَ في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً، ويجوزُ أَنْ يكونَ «لهم» خبرَ «أولئك» و «مغفرةٌ» فاعلُه.
قوله: ﴿تَسْتَأْنِسُواْ﴾ : يجوزُ أن يكونَ من الاستئناس؛ لأنَّ الطارِقَ يَسْتَوْحِشُ من أنه: هل يُؤْذن له أو لا؟ فيُزالُ استيحاشُه، وهو رَدِيْفُ الاستئذانِ فَوُضِع موضعَه. وقيل: من الإِيناس وهو الإِبْصار أي: حتى تَسْتَكْشفوا الحالَ. وفسَّره ابن عباس «حتى تَسْتَأْذِنُوا» وليست قراءةً. وما يُنقل عنه أنه قال: «تستأنسوا خطأٌ من الكاتب، إنما هون تستأذنوا»..... منحولٌ عليه. وهو نظيرُ ما تقدَّم في الرعد ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا﴾ [الرعد: ٣١] وقد تقدَّم القول فيه.
والاستِئْناسُ: الاسْتِعْلام، قال:
٣٤٤٠ - كأنَّ رَحْلِيْ وقد زال النهارُ بنا يومَ الجليلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَِدِ
وقيل: هو من الإِنْس بكسرِ الهمزةِ أي: يتعرَّفُ: هل فيها إنسِيُّ أم لا؟ وحكى الطبريُّ أنه بمعنى: وتُؤْنِسُوا أنفسَكم «.
قال ابنُ عطية:»
وتصريفُ الفعل يَأْبى أَنْ يكونَ مِنْ آنسَ «.
قوله: ﴿أَن تَدْخُلُواْ﴾ : أي: في أن تدخلوا. والجارُّ متعلِّقٌ بجُناح.
قوله: ﴿مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ : في «مِنْ» أوجهٌ، أحدُها: أنها للتبعيضِ لأنَّه يعفى عن الناظِر أولُ نظرةٍ تقعُ مِنْ غيرِ قَصْدٍ. والثاني: لبيانٍ الجنسِ. قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّه لم يتقدَّمْ مُبْهَمٌ يكونُ مفسَّراً ب «مِنْ». والثالث: أنها لابتداءِ الغاية. وقاله ابنُ عطية. والرابعُ: أنها مزيدةٌ. وهو قولُ الأخفشِ.
قوله: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ﴾ : ضَمَّن «يَضْرِبْنَ» معنى يُلْقِيْنَ فلذلك عدَّاه ب «على». وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بكسرِ لامِ الأمرِ.
وقرأ طلحة «بخُمْرِهنَّ» بسكونِ الميمِ، وتسكين فُعُل في الجمع أَوْلَى مِنْ تسكينِ المفردِ. وكَسَر الجيمَ مِنْ «جُيُوْبِهِنَّ» ابنُ كثير والأخَوان وابن ذَكْوان.
والغَضُّ: إطباقُ الجَفْنِ بحيث يمنعُ الرؤية. قال:
٣٤٤١ - فَغُضِّ الطَرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ فلا كعباً بَلَغْتَ ولا كِلابا
والخُمُر: جمع خِمار. وفي القلَّة يُجْمَعُ على «أَخْمِرَة»، قال امرؤُ القيس:
397
٣٤٤٢ - وَتَرى الشَّجْراءَ في رَيِّقِهِ كَرُؤوسِ قُطِعَتْ فيها الخُمُرْ
والجَيْبُ: ما في طَوْقِ القميصِ، يبدو منه بعضُ الجَسَدِ.
قوله: ﴿غَيْرِ أُوْلِي﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر «غيرَ» نصباً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه استثناءٌ، والثاني: أنَّه حالٌ، والباقون «غيرِ» بالجرِّ نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً، والإِرْبَةُ: الحاجةُ. وتقدَّم اشتقاقُها في طه.
قوله: ﴿مِنَ الرجال﴾ حالٌ من «أُولي» وأمَّا قولُه: «أو الطفلِ الذين» فقد تقدَّم في الحج أن «الطفلَ» يُطْلَقُ عل المثنى والمجموعِ فلذلك وُصِفَ بالجمع. وقيل: لَمَّا قُصِد به الجنسُ رُوْعي فيه الجمعُ فهو كقولِهم: «أهلكَ الناسَ الدينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ».
و «عَوْرات» جمعُ عَوْرَة وهو: ما يريدُ الإِنسانُ سَتْره من بَدَنِه، وغَلَبَ في السَّوْءَتين. والعامَّةُ على «عَوْرات» بسكون الواوِ، وهي لغةُ عامَّةِ العربِ، سَكَّنوها تخفيفاً، لحرفِ العلة. وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ «عَوَرات» بفتح العين. ونقل ابن خالويه أنها قراءةُ ابن أبي إسحاق والأعمش. وهي لغةُ هُذَيْلِ بن مُدْرِكَة. قال الفراء: «وأنشدَني بعضُهم:
398
٣٤٤٣ - أخُو بَيَضاتٍ رائِحٌ متأوِّبُ رفيقٌ بمَسحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وجعلها ابن مجاهد لحناً وخطأ، يعني من طريق الرواية، وإلاَّ فهي لغة ثابتة.
قوله: ﴿أَيُّهَا المؤمنون﴾ العامَّةُ على فتح الهاء وإثباتِ ألفٍ بعد الهاء، وهي» ها «التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف ﴿ياأيها الساحر﴾ [الآية: ٤٩]، في الرحمن ﴿أَيُّهَا الثقلان﴾ [الآية: ٣١] بضم الهاء وصلاً، فإذا وَقَفَ سَكَّن. ووجْهُها: أنه لَمَّا حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنين اسْتُخِفَّتْ الفتحةُ على حرفٍ خَفِيّ فَضُمَّتْ الهاءُ إتباعاً. وقد رُسِمَتْ هذه المواضعُ الثلاثةُ دونَ ألفٍ. فوقَفَ أبو عمروٍ والكسائيُّ بألفٍ، والباقون بدونِها، إتْباعاً للرَّسْمِ ولموافقةِ الخَطِّ للفظِ، وثَبَتَتْ في غير هذه المواضعِ حَمْلاً لها على الأصل، نحو: ﴿يَاأَيُّهَا الناس﴾ [البقرة: ٢١]، ﴿يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ [البقرة: ١٥٣] وبالجملةِ فالرسمُ سُنَّةُ مُتَّبَعَةٌ.
399
قوله: ﴿الأيامى﴾ : هو جمعُ «أيِّم» بزنةِ فَيْعِل. يُقال منه: آمَ يَئِيْم كباع يبيع قال الشاعر:
399
٣٤٤٤ - كلُّ امرىءٍ سَتَئِيْمُ مِنْهُ العِرْسُ أو منها يَئِيْمُ
وقياسُ جمعِه «أيائم» كسَيِّد وسِيائِد. و «أيامى» فيه وجهان، أظهرُهما: من كلام سيبويه أنه جمعٌ على فعالى غيرَ مقلوبٍ وكذلك «يتامى»، وقيل: إن الأصل أيايِم ويتايِم في: أيِّم ويتيم فقُلبا. والأَيِّم: مَنْ لا زوجَ له ذكراً كان أو أنثى. وخَصَّه أبو بكر الخَفَّافُ بمَنْ فَقَدَتْ زوجَها فإطلاقُه على البِكْر مجازٌ. و «منكم» حالٌ، وكذا «مِنْ عبادِكم».
400
قوله: ﴿والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ﴾ : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء. والخبرُ الجملةُ المقترنةُ بالفاء، لِما تضمَّنَه المبتدأ من معنى الشرط. ويجوز نصبه بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال. وهذا أرجحُ لمكان الأمر.
وقال الزمخشري: «وقد آم وآمَتْ وتَأَيَّما: إذا لم يتزوَّجا، بِكْرين كانا
400
أو ثِّيَبْن. قال:
٣٤٤٥ - فإن تنكِحي أنكِحْ وإن تتأيَّمي وإن كنتُ أفتى منكمُ أتَأَيَّمُ
وعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم:» اللهم إنَّا نعوذ بك من العَيْمة والغيمة والأيمة والكَزَم والقَرَم «قلت: أما العَيْمَة بالمهملة فشدةُ شهوةِ اللبن، وبالمعجمةِ شدةُ العطشِ. والأَيْمة: طول العُزْبَة، والكَزَم: شدةُ شهوةِ الأكل. والقَرَمُ: شدةُ شهوةِ اللحم.
قوله: ﴿عَلَى البغآء﴾ »
البغاء «مصدرُ بَغَت المرأةُ تَبْغي بِغاءً، أي: زَنَتْ. وهو مختصٌّ بزِنى النساء. ولا مفهومَ لهذا الشرطِ؛ لأن الإِكراهَ لا يكونُ مع الإِرداة.
قوله: ﴿فِإِنَّ الله﴾ جملةٌ وقعَتْ جواباً للشرط. والعائدُ على اسمِ الشرط محذوفٌ تقديرُه: غفور لهم. وقدَّره الزمخشري في أحدِ تقديراتِه، وابن عطية، وأبو البقاء: فإنَّ اللهَ غفورٌ لهنَّ أي: للمُكْرَهات، فَعَرِيَتْ جملةُ الجزاءِ عن رابطٍ يَرْبِطُها باسمِ الشرطِ. لا يُقال: إن الرابطَ هو الضميرُ المقدَّرُ الذي هو فاعلُ المصدرِ؛ إذ التقديرُ: مِنْ بعد إكراهِهم لهنَّ فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابطِ المقدَّرِ؛ لأنهم لم يَعُدُّوا ذلك من الروابطِ، تقول:»
هندٌ عجبْتُ مِنْ
401
ضَرْبِها زيداً «فهذا جائزٌ، ولو قلت: هندٌ عجبتُ مِنْ ضَرْبِ زيدٍ أي: من ضَرْبِها، لخلوِّها من الرابطِ وإنْ كان مقدَّراً.
وقد ضَعَّفَ الإِمامُ الرازي تقديرَ»
بهم «ورَجِّح تقديرَ» بهنَّ «فقال:» فيه وجهان، أحدُهما: غفورٌ لهنَّ؛ لأن الإِكراهَ يُزيل الإِثمَ والعقوبةَ عن المُكْرَهِ فيما فَعَلَ. والثاني: فإنَّ اللهَ غفورٌ للمكرِه بشرطِ التوبةِ. وهذا ضعيفٌ لأنه على التفسيرِ الأولِ لا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ «. وفيه نظرٌ لِما عَرَفْتَ من أنَّه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ عند الجمهورِ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرةِ. ولَمَّا قَدَّر الزمخشريُّ» لهنَّ «أورد سؤالاً فقال:» فإن قلتَ: لا حاجةَ إلى تعليقِ المغفرةِ بِهنَّ، لأنَّ المُكْرَهَةَ على الزنى بخلاف المكرِه [عليه في أنها] غيرُ آثمةٍ. قلت: لعل الإِكراهَ غيرُ ما اعتبَرَتْه الشريعةُ من إكراهٍ بقَتْلٍ أو ممَّا يُخافُ منه التَّلَفُ أو فواتُ عضوٍ حتى تَسْلَمَ من الإِثمِ. وربما قَصَّرَتْ عن الحدِّ الذي تُعْذَرُ فيه فتكونُ آثمةً «.
402
وتقدَّمَ الخلافُ في «مُبَيّنات» كسراً وفتحاً.
قوله: ﴿وَمَثَلاً﴾ عطفٌ على «آيات» أي: وأَنْزَلْنا مثلاً مِنْ أمثال الذين قبلكم.
قوله: ﴿الله نُورُ السماوات﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذو نورٍ السماوات. والمرادُ بالنور عَدْلُه. ويؤْيِّد هذا قولُه {
402
مَثَلُ نُورِهِ}. وأضاف النورَ لهذين الظرفين: إمَّا دَلالةً على سَعَةِ إشراقِه وفُشُوِّ إضاءته، حتى تضيءَ له السماواتُ والأرضُ، وإمَّا لإِرادةِ أهلِ السماوات والأرضِ، وأنَّهم يَسْتضيئون به. ويجوز أَنْ يبالَغَ في العبارةِ على سبيلِ المَدْحِ كقولهم: فلانٌ شمسُ البلاد وقمرُها، قال النابغة:
٣٤٤٦ - فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ إذا ظهرَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبُ
وقال:
٣٤٤٧ - قَمَر القبائلِ خالدُ بن يزيد ............................
ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ واقِعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: مُنَّوِّرُ السماواتِ. ويؤيِّد هذا الوجهَ قراءةُ أميرِ المؤمنين وزيدِ بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي «نَوَّرَ» فعلاً ماضياً. وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى، و «السماواتِ» مفعولُه فكَسْرُه نصبٌ. و «الأرضَ» بالنصبِ نَسَقٌ عليه. وفَسَّره الحسنُ فقال: الله مُنَوِّرُ السماوات.
قوله: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ أيضاً. وهذه الجملةُ إيضاحٌ لِما قبلَها وتفسيرٌ فلا محلَّ لها. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: كَمَثَلِ نورِ مشْكاة. قال
403
الزمخشري: «أي: صفةُ نورِه العجيبِ الشأنِ في الإِضاءةِ كَمِشْكاةٍ أي: كصفةِ مِشْكاة».
واختلفوا في الضمير في «نُوره» فقيل: هو للهِ تعالى، وهو الأولى، والمرادُ بالنورِ على هذا: الآياتُ المبيناتُ المتقدمةُ، أو الإِيمان، وقيل: إنه عائدٌ على المؤمنين أو المُؤْمنِ أو مَنْ آمن به. وقد قرأ أُبَيّ بهذه الألفاظِ كلِّها. وأعاد الضميرَ على ما قرأ به. وقيل: يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يتقدَّمْ لهذه الأشياءِ ذِكْرٌ. وأمَّا عَوْدُه على المؤمنين في قراءةِ أُبَيّ، ففيه إشكالٌ من حيث الإِفراد. / قال مكي: «يُوْقَفَ على» الأرض «في هذه الأقوالِ الثلاثةِ».
واختلفوا أيضاً في هذا التشبيهِ: أهو تشبيهٌ مركَّبٌ أي: قُصِدَ فيه تشبيهُ جملةٍ بجملةٍ، من غير نَظَرٍ إلى مقابلة جزءٍ بجزءٍ، بل قَصَدَ تشبيهَ هُداه وإتقانَ صنعتِه في كلِّ مخلوقٍ على الجُملة بهذه الجملةِ من النور الذي يَتَّخذونه. وهو أبلغُ صفاتِ النورِ عندكم؟ أو تشبيهٌ غيرُ مركبٍ أي: قُصِدَ مقابلةُ جزءٍ بجزءٍ؟ ويترتَّبُ الكلامُ فيه بحسَبِ الأقوال في الضمير في «نوره».
والمِشْكاةُ: الكُوَّةُ غيرُ النافِذَةِ. وهل هي عربية أم حبشية مُعَرَّبة؟ خلافٌ. وقيل: هي الحديدةُ أو الرَّصاصة التي يوضع فيه الذُّبال وهو الفتيل، وتكون في جَوْفُ الزجاجة، وقيل: هي العمودُ الذي يوْضَعُ على رأسِه
404
المصباحُ، وقيل: ما يُعَلَّقُ فيه القنديلُ من الحديدِ، وأمال «المِشْكاة» الدُّوري عن الكسائي لتقدُّمِ الكسرِ، وإنْ وُجِدَ فاصلٌ. ورُسِمَتْ بالواو كالزكاة والصلاة.
والمِصْباح: السِّراجُ الضخمُ. والزجاجةُ: واحدةٌ الزجاج، وهو جوهرٌ معروفٌ. وفيه ثلاثُ لغاتٍ: فالضم لغةُ الحجاز، وهو قراءةُ العامَّة، والكسرُ والفتحُ لغةُ قيس.
وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابنِ مجاهد. وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في روايةٍ عنه، وأبو رجاء. وكذلك الخلافُ في قوله «الزجاجةُ».
والجملةُ مِنْ قوله: ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ صفةُ ل «مِشْكاة». ويجوزُ أن يكونَ الجارُّ وحدَه هو الوصفَ، و «مصباحٌ» مرتفعٌ به فاعلاً.
قوله: ﴿دُرِّيٌّ﴾، قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. والباقون بضمِّ الدال وتشديد الياءِ من غيرِ همزةٍ، وهذه الثلاثةُ في السبع، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء. وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء. وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيَّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً «دَرِّيْء» بفتح الدال وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ.
فأما الأولى فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو «سِكِّين» وفي الصفاتِ نحوِ «سِكِّير».
405
وأمَّا القراءةُ الثانية فهي مِنْ الدِّرْءِ بمعنى الدَّفْع أي: يدفع بعضُها بعضاً أو يَدْفعُ ضوءُها خَفاءَها، قيل: ولم يوجد شيءٌ وزنُه فُعِّيل إلاَّ مُرِّيْقاً للعُصْفُر وسُرِّيَّة على قولنا: إنها من السرور، وإنه أُبْدل مِن إحدى المضعَّفاتِ ياءٌ، وأُدْغِمَتْ فيها ياءُ فُعِّيل، ومُرِّيخاً للذي في داخلِ القَرْنِ اليابس، ويقال بكسرِ الميمِ أيضاً، وعُلِّيَّة ودُرِّيْء في هذه القراءة، وذُرِّيَّة أيضاً في قولٍ. وقال بعضهم: «وزن دُرِّيْء في هذه القراءةِ فُعُّول كسُبُّوح قُدُّوْس، فاستُثْقِل توالي الضمِّ فنُقِل إلى الكسرِ، وهذا منقولٌ أيضاً في سُرِّية وذُرِّيَّة.
وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ كقراءةِ حمزةَ، إلاَّ أنه أَبْدَلَ مِنَ الهمزةِ ياءً، وأَدْغم، فَيَتَّحدُ معنى القراءتين، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها.
وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى الدُّر. والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ.
406
وأمَّا فتحُ الدالِ مع المدِّ والهمز ففيها إشكالٌ. قال أبو الفتح:» وهو بناءٌ عزيزٌ لم يُحْفَظْ منه إلاَّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين «. قلت: وقد حكى الأخفشُ:» فَعَلَيْه السَّكِّينة والوَقار «و» كوكَبٌ دَرِّيْءٌ «مِنْ» دَرَاْتُه «.
قولِه: ﴿يُوقَدُ﴾ قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو»
تَوَقَّدَ «بزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح، ولا يعودُ على» كوكب «لفسادِ المعنى. والأخوان وأبو بكر» تُوْقَدُ «بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ، مضارعَ أَوْقَدَ. وهو مبنيٌّ للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على» زجاجة «فاسْتَتَرَ في الفعل. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ.
والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح.
وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك، إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال، جعله مضارع «تَوَقَّدَ»
، والأصلُ: تَتَوَقَّد بتاءَيْن، فحُذِفَ إحداهما ك «تَذَكَّرُ». والضميرُ أيضاً للزُّجاجة.
وقرأ عبد الله «وَقَّدَ» فعلاً ماضياً بزنةِ قَتَّلَ مشدداً، أي: المصباح. وقرأ الحسنُ وسَلاَّم أيضاً «يَوَقَّدُ» بالياء مِنْ تحتُ، وضَمِّ الدال، مضارعَ تَوَقَّدَ. والأصلُ يَتَوَقَّدُ بياءٍ من تحتُ، وتاءٍ مِنْ فوقُ، فَحُذِفَتْ التاءُ مِنْ فوقُ. هذا شاذٌ
407
إذ لم يتوالَ مِثْلان، ولم يَبْقَ في اللفظِ ما يَدُلُّ على المحذوف، بخلافِ «تَنَزَّلُ» و «تَذَكَّرُ» وبابِه؛ فإنَّ فيه تاءَيْن، والباقي يَدُلُّ على ما فُقِد. / وقد يُتَمَحَّلُ لصحتِه وجهٌ من القياس وهو: أنهم قد حَمَلوا أَعِدُ وتَعِدُ ونَعِدُ على يَعِدُ في حَذْفٍ الواوِ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ فكذلك حَمَلوا يَتَوَقَّد بالياء والتاء على تَتَوَقَّد بتاءين، وإنْ لم يكنْ الاستثقالُ موجوداً في الياء والتاء.
قوله: ﴿مِن شَجَرَةٍ﴾ «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: مِنْ زيتِ شجرةٍ. وزَيْتونة فيها قولان أشهرُهما: أنَّها بدلٌ مِنْ «شجرةٍ». الثاني: أنها عطفٌ بيان، وهذا مذهبُ الكوفيين وتَبِعهم أبو عليّ. وقد تقدَّم هذا في قوله ﴿مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٦].
قوله: ﴿لاَّ شَرْقِيَّةٍ﴾ صفةٌ ل «شَجَرة» ودَخَلَتْ لتفيدَ النفيَ. وقرأ الضحَّاك بالرفعِ على إضمارِ مبتدأ أي: لا هي شرقيةٌ. والجملةُ أيضاً في محل جَرٍّ نعتاً ل «شَجَرة».
قوله: ﴿يَكَادُ﴾ هذه الجملةُ أيضاً نعتُ ل «شجرةٍ».
قوله: ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ جوابُها محذوفٌ أي: لأضاءَتْ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه، والجملةُ حاليةٌ. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في قولِه «رُدُّوا السَّائلَ ولو جاءَ على فَرَس» وأنها لاستقصاءِ الأحوالِ: حتى في هذه الحال. وقرأ
408
ابن عباس والحسن «يَمْسَسْه» بالياءِ لأنَّ المؤنَّثَ مجازيٌّ، ولأنه قد فُصِلَ بالمفعولِ أيضاً.
قوله: ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: ذلك نورٌ. و «على نورٍ» صفةٌ ل «نور».
409
قوله: ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ : فيها ستةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها صفةٌ ل «مِشْكاةٍ» أي: كمِشْكاةٍ في بيوتٍ أي: في بيتٍ من بيوتِ الله. الثاني: أنه صفةٌ لمصباح. الثالث: أنه صفةٌ ل «زجاجة». الرابع: أنه متعلقٌّ ب «تُوْقَدُ». وعلى هذه الأقوالِ لا يُوقف على «عليم». الخامس: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ كقولِه ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ﴾ [النمل: ١٢] أي: يُسَبِّحونه في بيوت. السادس: أَنْ يتعلَّقَ ب «يُسَبِّحُ» أي: يُسَبِّحُ رجالٌ في بيوت. وفيها تكريرٌ للتوكيدِ كقولِه: ﴿فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [هود: ١٠٨]. وعلى هذه القولَيْن فيُوْقَفُ على «عليم». وقال الشيخ: «وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ» ولم يُذْكر سوى قولين.
قوله: ﴿أَذِنَ الله﴾ في محلِّ جرٍّ صفةً ل «بيوتٍ»، و «أن تُرفع» على حَذْفِ الجارِّ أي: في أَنْ تُرْفَعَ. ولا يجوزُ تَعَلُّقُ «في بيوت» بقوله: «ويُذْكَرُ» لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز «أَنْ»، وما بعد «أَنْ» لا يتقدَّم عليها.
قوله: ﴿يُسَبِّحُ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ.
409
والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة. والأولى منها بذلك الأولُ لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه، والذي يليه أولى. و «رجالٌ» على هذه القراءةِ مرفوعٌ على أحدِ وجهين: إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه، وكأنه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحه؟ فقيل: يُسَبِّحُه رجالٌ. وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر:
٣٤٤٨ - لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ
كأنه قيل: مَنْ يبكيه؟ فقيل: يَبْكيه ضارعٌ. إلاَّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً، منهم مَنْ جَوَّزَه، ومنهم مَنْ مَنعه. والوجهُ الثاني في البيت: أنَّ «يَزيدُ» منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي: يا يزيد، وهو ضعيف جداً.
والثاني: أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: المُسَبِّحه رجالٌ. وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال.
وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل. والفاعلُ «رجال» فلا يُوْقَفُ على الآصال.
وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة «تُسَبِّح» بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها. وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ. وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء، كقولهم: «صِيْد عليه يومان» أي: وَحْشُها.
410
وخَرَّّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي: تُسَبَّح التسبيحةُ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين، كما خَرَّجوا قراءةَ أَبي جعفرٍ أيضاً ﴿ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الجاثية: ١٤] أي: ليجزى الجزاءُ قوماً، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية؛ إذ ليس هنا مفعولٌ صريح.
411
قوله: ﴿لاَّ تُلْهِيهِمْ﴾ : في محلِّ رفعٍ صفةً ل «رجالٌ».
قوله: ﴿يَخَافُونَ﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ نعتاً ثانياً لرجال، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ مفعول «تُلْهِيْهم»، و «يوماً» مفعولٌ به لا ظرفٌ على الأظهر. و «يتقلَّبُ» صفةٌ ل يوماً.
قوله: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ﴾ : يجوز تعلُّقُه ب «يُسَبِّح» أي: يُسَبِّحون لأجل الجزاء. ويجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ أي: فعلوا ذلك ليَجْزيهم. وظاهرُ كلامِ الزمخشري أنه من بابِ الإِعمال فإنه قال: «والمعنى: يُسَبِّحونَ، ويَخافون ليجزِيَهم، ويكونُ على إعمالِ الثاني للحذف من الأول.
قوله: ﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾ أي ثوابَ أحسنِ، أو أحسنَ جزاءِ ما عملوا. و»
ما «مصدريةٌ أو بمعنى الذي أنكرة.
قوله: ﴿بِقِيعَةٍ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لسراب. والثاني: أنَّه ظرفٌ. والعاملُ فيه الاستقرارُ العاملُ في كاف التشبيه. والسَّرابُ: ما يتراءى للإِنسانِ في القَفْرِ في شِدةِ الحرِّ مِمَّا يُشْبِه الماءَ. وقيل: ما يتكاثَفُ في قُعُوْر القِيْعان. قال الشاعر:
411
٣٤٤٩ - فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا مُتَأَلِّقِ
يُضرب به المَثَلُ لِمَنْ يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيَخْلُفُ. / وقيل: هو الشُّعاع الذي يَرْمي به نصفُ النهار في شدَّةِ الحَرِّ، يُخَيَّل للناظرِ أنه الماءُ السارِبُ أي الجاري. والقِيْعَةُ: بمعنى القاعِ. وهو المُنبَسِطُ من الأرضِ. وقد تقدَّم في طه. وقيل: بل هي جمعُه كجارٍ وجِيْزَة.
وَقرأ مسلمة بن محارب بتاء ممطوطة. وروي عنه بتاءٍ شَكْلِ الهاء، ويَقف عليها بالهاء. وفيها أوجهٌ، أحدها: أَنْ تكونَ بمعنى قِيْعَة كالعامَّةِ، وإنما أَشْبع الفتحةَ فتولَّد منها ألِفٌ كقولِه: «مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ» قاله صاحب «اللوامح». والثاني: أنه جمع قِيْعَة، وإنما وَقَف عليها بالهاء ذهاباً به مَذْهَبَ لغةِ طيِّىء في قولهم: «الإِخْوةُ والأخواهْ، ودَفْنُ البناهُ مِنْ المَكْرُماهُ» أي: والأخوات، والبنات، والمَكْرُمات. وهذه القراءةُ تؤيِّدُ أنَّ قِيْعَة جمع قاع. الثالث قال الزمخشري: «وقولُ بعضِهم: بقيعاة بتاء مُدَوَّرَة كرجلٍ عِزْهاة» فظاهرُ هذا أنه جعل هذا بناءً مستقلاً ليس جمعاً ولا اتِّساعاً.
412
وقوله: ﴿يَحْسَبُهُ الظمآن﴾ جملةٌ في محل الجرِّ صفةً لسَراب أيضاً. وحَسُن ذلك لتقدُّمِ الجارِّ على الجملةِ. هذا إنْ جَعَلْنا الجارَّ صفةً. والضمائرُ المرفوعةُ في «جاءَه» وفي «لم يَجِدْه» وفي «وَجَد»، والضمائرُ في «عنده» وفي «وَفَّاه» وفي «حسابه» كلُّها تَرْجِع إلى الظمآن؛ لأنَّ المرادَ به الكافرُ المذكورُ أولاً. وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ. وقيل: بل الضميران في «جاءه» و «وجد» عائدان على الظمآن، والباقيةُ عائدةٌ على الكافر، وإنما أُفْرِدَ الضميرُ على هذا وإنْ تَقَدَّمه جمعُ وهو قولُه: ﴿والذين كفروا﴾ حَمْلاً على المعنى، إذِ المعنى: كلُّ واحدٍ من الكفار. والأولُ أَوْلى لاتساقِ الضمائرِ.
وقرأ أَبو جعفر ورُوِيَتْ عن نافع «الظَّمان» بإلقاءِ حركةِ الهمزةِ على الميمِ.
413
قوله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾ : فيه: أوجهٌ، أحدها: أنه نَسَقٌ على «كسَراب»، على حَذْفِ مضافٍ واحدٍ تقديرُه: أو كذي ظُلُمات. ودَلَّ على هذا المضافِ قولُه: ﴿إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ فالكنايةُ تعودُ إلى المضافِ المحذوفِ وهو قولُ أبي عليّ. الثاني: أنه على حَذْفِ مضافين تقديرُهما: أو كأعمال ذي ظلمات، فتُقَدِّر «ذي» ليصِحَّ عَوْدُ الضميرِ إليه في قوله: ﴿إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ﴾، وتُقَدِّر «أعمال» ليَصِحَّ تشبيهُ أعمالِ الكفارِ بأعمالِ صاحبِ الظُلْمَةِ، إذ لا معنى لتشبيهِ العملِ بصاحبِ الظُّلْمةِ. الثالث: أنه لا حاجةَ
413
إلى حَذْفٍ البتة. والمعنى: أنه شَبَّه أعمالَ الكفارَ في حَيْلولَتِها بين القلبِ وما يَهْتدي به بالظُّلْمة. وأمَّا الضميران في «أَخْرج يَده» فيعودان على محذوفٍ دَلَّ عليه المعنى أي: إذا أخرج يَدَه مَنْ فيها.
و «أو» هنا للتنويعِ لا للشَّكِّ. وقيل: بل هي للتخييرِ أي: شَبَّهوا أعمالَهم بهذا أو بهذا.
وقرأ سفيان بن حسين «أوَ كظٌلُمات» بفتح الواو، جَعَلها عاطفةً دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام الذي معناه التقريرُ. وقد تَقدَّم ذلك في قولِه: ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ [الأعراف: ٩٨].
قوله: ﴿فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ :«في بحرٍ» صفةٌ لظلمات فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. واللُّجِّيُّ منسوبٌ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ البحرِ. كذا قال الزمخشري. وقال غيرُه: منسوبٌ إلى اللُجَّة بالتاء وهي أيضاً مُعْظمه، فاللجِّيُّ هو العميقُ الكثيرُ الماءِ.
قوله: ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾ صفةٌ أخرى ل «بَحْرٍ» هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في «يَغْشاه» على «بحرٍ» وهو الظاهر. وإنْ قدَّرنا مضافاً محذوفاً أي: أو كذي ظُلُمات كما فَعَل بعضُهم كان الضمير في «يَغْشاه» عائداً عليه، وكانت الجملةُ حالاً منه لتخصُّصِه بالإِضافة، أو صفةً له.
قوله: ﴿مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مِنْ مبتدأ وخبر، صفةً ل «موجٌ» الأول. ويجوزُ أن يُجْعَلَ الوصفُ الجارَّ والمجرورَ فقط و «مَوْجٌ» فاعلٌ به لاعتمادهِ على الموصوفِ.
414
قوله: ﴿مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ فيه الوجهان المذكوران قبلَه: من كونِ الجملةِ صفةً ل «موج» الثاني، أو الجارِّ فقط.
قوله: ﴿ظُلُمَاتٌ﴾ قرأ العامَّةُ بالرفع وفيه وجهان، أجودُهما: أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هذه، أو تلك ظلمات. الثاني: أَنْ يكونَ «ظُلُمات» مبتدأً. والجملةُ من قولِه «بعضُها فوقَ بعض» خبرُه. ذكره الحوفي. وفيه نظرٌ لأنَّه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرةِ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يُقالَ: إنها موصوفةً تقديراً، أي: ظلماتٌ كثيرةٌ متكاثفةٌ كقولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بدرهم».
وقرأ ابن كثير «ظلماتٍ» بالجرِّ إلاَّ أنَّ البزيَّ روى عنه حينئذٍ حَذْفَ التنوينِ من «سَحاب»، فقرأ البزي عنه «سحابُ ظلماتٍ» بإضافة «سَحابُ» ل «ظلمات».
وروى قنبل عنه التنوينَ في «سَحابٌ» كالجماعة مع جرِّه ل «ظُلُماتٍ». فأمَّا روايةُ البزي فقال أبو البقاء: / «جَعَلَ الموجَ المتراكمَ بمنزلةِ السحابِ»، وأمَّا روايةُ قنبل فإنه جَعَلَ «ظلماتٍ» بدلاً مِنْ «ظلماتٍ» الأولى.
قوله: ﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ في موضعِ رفعٍ أو خبرٍ على حَسَبِ القراءتين في «ظلمات» قبلَها لأنها صفةٌ لها. وجَوَّز الحوفيُّ على قراءةِ رفع «ظلماتٌ» في «بعضُها» أن يكونَ بدلاً من «ظلمات». ورُدَّ عليه من حيث المعنى؛ إذ المعنى على الإِخبارِ بأنها ظلماتٌ، وأنَّ بعضَ تلك الظلماتِ
415
فوق بعضٍ وصفاً لها بالتراكم، لا أنَّ المعنى: أن بعضَ تلك الظلماتِ فوقَ بعضٍ، من غيرِ إخبارٍ بأن تلك الظلماتِ السابقةَ ظلماتٌ متراكمةٌ. وفيه نظرٌ؛ إذ لا فرقَ بين قولِك «بعضُ الظلماتِ فوقَ بعض»، وبين قولك «الظلماتُ بعضُها فوقَ بعضٍ» وإنْ تُخُيِّل ذلك في بادِىءِ الرَّأْيِ.
وقد تقدَّم الكلامُ في «كاد»، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها نفيٌ. وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري هنا: «لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي: لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلاً أنْ يَراها. ومنه قولُ ذي الرمة:
٣٤٥٠ - إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
أي: لم يَقْرُبْ مِنْ البَراح فما بالُه يَبْرَحُ»
. وقال أبوة البقاء: «أختلف الناسُ في تأويلِ هذا الكلامِ. ومَنْشَأُ الاختلافِ فيه: أنَّ موضوعَ» كاد «إذا نُفِيَتْ: وقوعُ الفعلِ. وأكثرُ المفسِّرين على أن المعنى: أنَّه لا يرى يدَه، فعلى هذا: في التقديرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ التقديرَ: لم يَرَها ولم يَكَدْ، ذَكرَه جماعةٌ من النحويين. وهذا خطأٌ؛ لأنَّ قولَه» لم يَرَها «جزمٌ بنفيِ الرؤيةِ وقوله:» لم يَكَدْ «إذا أخرجها على مقتضى البابِ كان التقديرُ: ولم يكَدْ يَراها كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية. فإنْ أراد هذا القائلُ أنَّه لم يَكَدْ يراها، وأنه رآها بعد جُهْدٍ، تناقَضَ؛ لأنه نفى الرؤية ثم أَثْبَتها، وإنْ كان معنى» لم يكَدْ يَراها «: لم يَرَها البتةَ
416
على خلافِ الأكثرِ في هذا الباب، فينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه مِنْ غير أَنْ يُقَدِّرَ لم يَرَها. والوجه الثاني: أنَّ» كاد «زائدةٌ وهو بعيدٌ. والثالث: أنَّ» كاد «أُخْرِجَتْ ههنا على معنى» قارب «والمعنى: لم يقارِبْ رؤيتَها، وإذا لم يقارِبْها باعَدَها.
وعليه جاء قولُ ذي الرمة:
إذا غَيَّر النَّأْيُ.............. ..........................
البيت. أي: لم يقارِبِ البَراحَ. ومِنْ هنا حُكي عن ذي الرمة أنه لَمَّا رُوْجِع في هذا البيت قال: لم أجِدْ بدل «لم يَكَدْ»
. والمعنى الثاني: أنَّه رآها بعد جُهْدٍ. والتشبيهُ على هذا صحيحٌ لأنَّه مع شدَّة الظُّلْمة إذا أَحَدَّ نظرَه إلى يدِه وقرَّبها مِنْ عَيْنِه رآها «انتهى.
أمَّا الوجهُ الأولُ وهو ما ذكره أنه قولُ الأكثرِ: مِنْ أنَّه يكونَ إثباتاً، فقد تقدَّم أنه غيرُ صحيحٍ وليس هو قولَ الأكثرِ، وإنما غَرَّهم في ذلك آيةُ البقرة. وما أَنْشَدْناه عن بعضِهم لُغْزاً وهو:
٣٤٥١ - أَنْحْوِيَّ هذا العصرِ ماهي لفظَةٌ ..........................
البيتين. وأمَّا [ما] ذكره مِنْ زيادةِ»
كاد «فهو قولُ أبي بكرٍ وغيرِه، ولكنه مردودٌ عندَهم. وأمَّا ما ذكره من المعنى الثاني: وهو أنه رآها بعد جُهْدٍ فهو
417
مذهبُ الفراء والمبرد. والعجبُ كيف يَعْدِلُ عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشريُّ وهو المبالغةُ في نفي الرؤية؟
وقال ابنُ عطية ما معناه:» إذا كان الفعلُ بعد «كاد» منفياً دَلَّ على ثبوتِه نحو: كاد زيدٌ لا يقوم، أو مُثْبَتاً دَلَّ على نفيه نحو: «كاد زيد يقوم» وإذا تقدَّم النفيُ على «كاد» احتمل أن يكونَ مُوْجَباً، وأَنْ يكونَ منفياً. تقول: «المفلوج لا يَكاد يَسْكُن» فهذا يتضمَّن نَفْيَ السكونِ. وتقول: رجل منصرف لا يكاد يَسْكُن، فهذا تضمَّن إيجابَ السكونِ بعد جُهْد «.
418
قوله: ﴿والطير﴾ : قرأ العامَّةُ «والطيرُ» رفعاً. «صافاتٍ» نصباً: فالرفعُ عطفٌ على «مَنْ» والنصبُ على الحال. وقرأ الأعرج «والطيرَ» نصباً على المفعولِ معه و «صافَّاتٍ» حالٌ أيضاً. وقرأ الحسن وخارجة عن نافع «والطيرُ صافَّاتٌ» برفعِهما على الابتداءِ والخبر. ومفعولُ «صافَّاتٌ» محذوفٌ أي: أجنحَتَها.
قوله: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ﴾ في هذه الضمائرِ أقوالٌ، أحدُها: أنَّها كلَّها
418
عائدةٌ على «كل» أي: كلٌّ قد عَلِمَ هو صلاةَ نفسِه وتسبيحَها. وهذا/ أولى لتوافُقِ الضمائر. والثاني: أنَّ الضميرَ في «عَلِمَ» عائدٌ على اللهِ تعالى، وفي «صلاتَه وتسبيحَه» عائدٌ على «كل». الثالث: بالعكس أي: عَلِمَ كلٌ صلاةَ الله وتسبيحَه أي: أَمَرَ بهما، وبأن يُفْعَلا كإضافةِ الخَلْقِ إلى الخالق.
ورَجَّحَ أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ «كل» قال: «لأنَّ القراءة برفع» كلٌّ «على الابتداء، فَيَرْجِعُ ضميرُ الفاعلِ إليه، ولو كان فيه ضميرُ اسمِ اللهِ لكان الأوْلى نَصْبَ» كل «لأنَّ الفعلَ الذي بعدها قد نَصَبَ ما هو مِنْ سببِها، فيَصيرُ كقولك:» زيداً ضربَ عمروٌ غلامَه «فتنصِبُ» زيداً «بفعلٍ دَلَّ عليه ما بعده، وهو أقوى من الرفع، والآخر جائز». قلت: وليس كما ذكر مِنْ ترجيحِ النصب على الرفعِ في هذه الصورةِ، ولا في هذه السورة، بل نصَّ النحويون على أن مثلَ هذه الصورةِ يُرَجَّحُ رفعُها بالابتداء على نصبها على الاشتغال؛ لأنه لم يكُنْ ثَمَّ قَرينةٌ من القرائنِ التي جعلوها مُرَجِّحةً للنصب، والنصب يُحْوِجُ إلى إضمارٍ، والرفعُ لا يُحْوج إليه، فكانَ أرجحَ.
419
قوله: ﴿بَيْنَهُ﴾ : إنما دخلَتْ «بينَ» على مفردٍ وهي إنما تَدْخُلُ على المثَّنى فما فوقَه لأنه: إمَّا أَنْ يُرادَ بالسحاب الجنسُ فعاد الضميرُ عليه على حكمِه، وإمَّا أَنْ يُرادَ حَذْفُ مضافٍ أي: بين قِطَعِه، فإنَّ كلَّ قطعةٍ سَحابةٌ.
قوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ تقدَّم الخلافُ في «خِلال» هل هو مفرد
419
كحِجاب أم جمعٌ كجِبال جمع جَبَل؟ ويؤيِّد الأولَ قراءةُ ابنِ مسعودٍ والضحاكِ، ويروى عن أبي عمروٍ أيضاً «مِنْ خَلَلِه» بالإِفرادِ.
والوَدْقُ قيلأ: هو المطرُ ضعيفاً كان أوشديداً. قال:
٣٤٥٢ - فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وقيل: هو البَرْقُ. وأَنْشد:
٣٤٥٣ - أَثَرْنَ عَجاجةً وخَرَجْنَ منها خُروج الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحابِ
والوَدْقُ في الأصل: مصدرٌ يقال: وَدَقَ السحابُ يَدِقُ وَدْقاً و «يَخْرجُ» حالٌ لأنها بَصَرية.
قوله: ﴿مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ «مِن» الأولى لابتداء الغايةِ اتفاقاً. وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لابتداءِ الغايةِ أيضاً فهي ومجرورُها بدلٌ من الأولى بإعادة العامِل. والتقدير: ويُنَزِّلُ من جبالِ السماءِ أي: من جبالٍ فيها، فهو بدل اشتمالٍ. الثاني: أنها للتبعيض، قاله الزمخشري وابنُ عطية. فعلى هذا هي ومجرُورها في موضعِ مفعولِ
420
الإِنزالِ كأنه قال: ويُنَزِّل بعضَ جبالٍ. الثالثَ: أنها زائدة أي: يُنَزِّل من السماءِ جبالاً. وقال الحوفيُّ: «مِنْ جبال بدلٌ مِن الأُولى». ثم قال: «وهي للتبعيضِ».
ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا تَسْتَقيم البدليَّةُ إلا بترافقهما معنىً. لو قلت: «خَرَجْتُ من بغدادَ من الكَرْخِ» لم تكنِ الأولى والثانية إلاَّ لابتداءِ الغاية.
وأمَّا الثالثة ففيها أربعةُ أوجهٍ: الثلاثةُ المتقدمةُ. والرابع: أنها لبيانِ الجنسِ. قاله الحوفي والزمخشري، فيكون التقديرُ على قولِهما: ويُنَزِّل من السماء بعضَ جبالٍ التي هي البَرَدُ، فالمُنَزَّل بَرَدٌ لأنَّ بعضَ البَرَدِ بَرَدٌ. ومفعولُ «يُنَزِّلُ» هو «مِنْ جبال» كما تقدَّمَ تقريرُه. وقال الزمخشري: «أو الأَوْلَيان للابتداء، والثالثةُ للتبعيض» قلت: يعني أن الثانيةَ بدلٌ من الأولى كما تقدَّم تقريرُه، وحنيئذ يكون مفعول «يُنَزِّل» هو الثالثةَ مع مجرورها تقديرُه: ويُنَزِّلُ بعضَ بردٍ من السماء مِنْ جبالِها. وإذا قيل: بأنَّ الثانيةَ والثالثةَ زائدتان فهل مجرورُهما في محلِّ نصبٍ، والثاني بدلٌ من الأول، والتقدير: ويُنَزِّلُ من السماء جبالاً بَرَداً، وهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، أو بعضٍ مِنْ كلٍ، أو الثاني في محلِّ نصبٍ مفعولاً ل «يُنَزِّل»، والثالثُ في محل رفعٍ على الابتداء، وخبرُه
421
الجارُّ قبلَه؟ خلافٌ. الأولُ قولُ الأخفشِ، والثاني قولُ الفراءِ. وتكون الجملةُ على قولِ الفراءِ صفةً ل «جبال»، فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً باللفظِ، أو بالنصبِ اعتباراً بالمَحَلِّ.
ويجوزُ أن يكونَ «فيها» وحدَه هو الوصفَ، ويكون «مِنْ بَرَدٍ» فاعلاً به؛ لاعتمادِه أي: استقرَّ فيها.
وقال الزَّجاج: «معناه: ويُنَزِّلُ مِن السماءِ مِنْ جبالِ بَرَدٍ فيها كما تقولُ:» هذا خاتمٌ في يدي من حديدٍ «أي: خاتم حديدٍ في يدي. وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب» مِنْ «لمَّا فرَّقْتَ، ولأنَّك إذا قلت: هذا خاتمٌ مِنْ حديدٍ وخاتمٌ حديدٍ كان المعنى واحداً» انتهى. فيكونُ «مِنْ بَرَدٍ» في موضعِ جَرٍّ صفةً/ ل «جبال»، كما كان «من حديد» صفةً ل «خاتم»، ويكونُ مفعولُ «يُنَزِّل» «من جبال». ويَلْزَمُ مِنْ كونِ الجبال برداً أَنْ يكونَ المُنَزَّلُ بَرَداً.
وقال أبو البقاء: «والوجه الثاني: أنَّ التقدير: شيئاً من جبالٍ، فحُذِفَ الموصوفُ واكتُفِي بالصفةِ. وهذا الوجهُ هو الصحيحُ؛ لأنَّ قولَه ﴿فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ يُحْوِجُك إلى مفعولٍ يعودُ الضميرُ إليه، فيكونُ تقديرُه: ويُنَزِّلُ مِنْ جبالِ السماء جبالاً فيها بَرَدٌ. وفي ذلك زيادَةُ حَذْفٍ، وتقديرٌ مُسْتغنى عنه». وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ الضميرَ له شيءٌ يعودُ عليه وهو السماء، فلا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه مُسْتغنى عنه، وليسَ ثَمَّ مانعٌ يمنعُ مِنْ عَوْدِه على السماء. وقوله آخراً: «
422
وتَقْديرٌ مستغنى عنه»، وينافي قولَه: «وهذا الوجه هو الصحيح». والضميرُ في «به» يجوزُ أن يعودَ على البَرد وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الوَدْق والبَرَد معاً، جرياً بالضمير مَجْرى اسمِ الإِشارةِ. كأنه قيل: فَيُصيب بذلك، وقد تقدَّم نظيرُه في مواضعَ.
قوله: ﴿سَنَا بَرْقِهِ﴾ العامَّةُ على قَصْر «سَنا» وهو الضَّوْءُ، وهو مِنْ ذواتِ الواوِ، يُقال: سَنا يَسْنُو سَناً. أي: أضاءَ يُضيْءُ. قال امرؤُ القيس:
٣٤٥٤ - يضيءُ سَناه، أو مصابيحُ راهِبٍ ..........................
والسَّنا بالمدِّ: الرِفْعَةُ. قال:
٣٤٥٥ - وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَناءً وسُنَّماً ..........................
وقرأ ابنُ وثَّاب «سَناءُ بُرَقِه» بالمدِّ، وبضمِّ الباء مِنْ «بُرَقِه» وفتح الراء. ورُوي عنه ضَمُّ الراءِ أيضاً. فأمَّا قراءةُ المدِّ فإنه شَبَّه المحسوسََ من البرقِ
423
لارتفاعِه في الهواءِ بغير المحسوسِ من الإنسانِ. وأمَّا «بُرَقِه» فجمعُ بُرْقَة، وهي المقدارُ من البرقِ كقُرَب. وأمَّا ضمُّ الراءِ فإتباعٌ كظُلُمات بضمِّ اللام إتباعاً لضم الظاء. وإنْ كان أصلُها السكونَ.
وقرأ العامَّة أيضاً «يَذْهَبُ» بفتح الياء والهاء. وأبو جعفر بضمِّ الياءِ وكسرِ الهاءِ مِنْ أَذْهَبَ. وقد خَطَّأ هذه القراءةَ الأخفشُ وأبو حاتم قالا: «لأنَّ الباءَ تُعاقِبُ الهمزة».
وليس رَدُّهما بصوابٍ؛ لأنها تَتَخَرَّج على ما خُرِّج ما قُرِىء به في المتواتر ﴿تُنْبِتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] من أنَّ الباء مزيدةٌ، أو أنَّ المفعولَ محذوفٌ، والباءُ بمعنى «مِنْ» تقديرُه: يُذْهِبُ النُّورَ من الأَبْصارِ كقولِه:
424
قوله: ﴿مِّن مَّآءٍ﴾ : فيها وجهان. أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ ب «خَلَق» أي: خَلَقَ مِنْ ماءٍ كلَّ دابة. و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. وعلى هذا فيُقال: وُجِدَ من الدوابِّ ما لم يُخْلَقْ مِنْ ماءٍ كآدمَ فإنه مِنْ تراب، وعيسى فإنَّه مِنْ رُوحٍ، والملائكةِ فإنَّهم مِنْ نُور، والجِنِّ فإنهم مِنْ نارٍ. وأُجيب بأنَّ الأمرَ الغالِبَ ذلك. وفيه نظرٌ فإنَّ الملائكةَ أَضعافُ الحيوان، والجنَّ أيضاً أضعافُهم. وقيل:
424
لأنَّ الحيوانَ لا يَعيش [إلاَّ] به، فجُعِل منه لذلك، وإن كان لنا من الحيوانِ ما لا يَحْتاج إلى الماءِ البتة، ومنه الضبُّ.
وقيل: جاء في التفسير: أنه كان خَلَق في الأولِ جوهرة فنظرَ إليها فذابَتْ ماء، فمنها خَلَق ذلك. والثاني: أنَّ «مِنْ» متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «دابَّة» والمعنى: الإِخبارُ بأنه خَلَق كلَّ دابةٍ كائنةٍ من الماء، أي: كلُّ دابة من ماءٍ هي مخلوقةٌ للهِ تعالى. قاله القفَّال.
ونكَّر «ماء» وعَرَّفه في قوله: ﴿مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠] لأنَّ المقصودَ هنا التنويعُ.
قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي﴾ إلى آخره. إنما أَطْلَقَ «مَنْ» على غيرِ العاقلِ لاختلاطِه بالعاقلِ في المفصَّل ب «مَنْ» وهو «كلَّ دابة»، وكان التعبيرُ ب «مَنْ» أولى لِتَوافُقِ اللفظِ. وقيل: لمَّا وصفَهم بما يُوصف به العقلاء وهو المَشْيُ أَطْلق عليها «مَنْ». وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذه الصفةَ ليسَتْ خاصةً بالعقلاء، بخلافِ قولِه تعالى: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧]. [وقوله:]
٣٤٥٦ -.......................... شُرْبَ النَّزِيف بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ
425
البيت. وقد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في ﴿خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ﴾ في سورة إبراهيم. واستعير المَشْيُ للزَحْفِ على البطنِ، كما استُعير المِشْفَرُ للشَّّفَةِ وبالعكسِ.
426
قوله: ﴿لِيَحْكُمَ﴾ : أفردَ الضميرَ وقد تقدَّمه اسمان وهما: اللهُ ورسوله، فهو كقولِه تعالى: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] [لأنَّ] حكمَ رسولِه هو حكمُه. قال الزمخشري: «كقولك:» أعجبني زيدٌ وكَرَمَهُ «أي: كرمُ زيدٍ/ ومنه:
٣٤٥٧ -.............. هل مَنْ يُعِيْرُ جناحَه لَعَلِّي..........................
٣٤٥٨ - ومَنْهَلٍ من الفَلا في أوسَطِهْ غَلَسْتُه قبل القَطا وفُرَّطِهْ
أي: قبل فُرَّط القَطا، يعني قبل تقدُّمِ القطا.
وقرأ أبو جعفرٍ»
ليُحْكَمَ بينَهم «هنا والتي بعدَها مبنياً للمفعولِ، والظرفُ قائمٌ مقامَ الفاعل.
قوله: ﴿إِذَا فَرِيقٌ﴾ »
إذا «هي الفجائيةُ. وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها. وهي جوابُ» إذا «الشرطيةِ أولاً. وهذا أحدُ الأدلةِ على مَنْعِ أن يَعْمَلَ في» إذا «
426
الشرطيةِ جوابُها؛ فإنَّ ما بعدَ الفجائيةِ لا يَعْمَلُ فيما قبلها، كذا ذكره الشيخ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا، وجوابُ الجمهور عنه.
427
قوله: ﴿إِلَيْهِ﴾ : يجوزُ تعلُّقُه ب «يَأْتُوا» لأنَّ أتى وجاء قد جاءا مُعَدَّيَيْنِ ب «إلى». ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ب «مُذْعِنين» ؛ لأنه بمعنى مُسرِعين في الطاعة. وصَحَّحَه الزمخشري قال: «لِتقدُّم صلتِه ودلالتِه على الاختصاص». و «مُذعِنين» حالٌ. والإِذْعان: الانقيادُ يُقال: أَذْعَنَ فلانٌ لفِلان أي: انقادَ له. وقال الزجاج: «الإِذعانُ الإِسْراعُ مع الطاعةِ».
قوله: ﴿أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ﴾ :«أَمْ» فيهما منقطعٌ، تتقدَّرُ عند الجمهورِ بحرفِ الإِضراب وهمزةِ الاستفهامِ. تقديرُه: بل ارْتابوا، بل أيخافون. ومعنى الاستفهام هنام التقريرُ والتوقيفُ، ويُبالَغُ به تارةً في الذمِّ كقوله:
٣٤٥٩ - ألَسْتَ من القومِ الذينَ تعاهَدُوْا على اللُّؤْمِ والفَحْشاءِ في سالفِ الدهر
وتارةً في المدح كقولِ جرير:
427
و [قوله] :﴿أَن يَحِيفَ﴾ مفعول الخوف. والحَيْفُ: المَيْلُ والجَوْرُ في القضاءِ.
يقال: حاف في قضائِه أي: مال.
428
قوله: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين﴾ : العامَّةُ على نصبِه خبراً ل كان، والاسمُ «أنْ» المصدريةُ وما بعدَها. وقرأ أمير المؤمنين والحسنُ وابن أبي إسحاق برفعِه على أنه الاسمُ و «أَنْ» وما في حيِّزها الخبرُ. وهي عندهم مَرْجوحةٌ؛ لأنه متى اجتمع معرفتان فالأَوْلى جَعْلُ الأعرفِ الاسمَ، وإنْ كان سيبويه خَيَّر في ذلك بين كلِّ معرفتين، ولم يُفَرِّق هذه التفرقةَ. وقد تَقَدَّم تحقيقُ هذا في آل عمران.
قوله: ﴿وَيَتَّقْهِ﴾ : القُرَّاءُ فيه بالنسبةِ إلى القافِ على مرتبتين: الأُولى تسكينُ القافِ، ولم يَقْرأ بها إلاَّ حفصٌ، والباقون بكسرِها وأمَّا بالنسبةِ إلى هاءِ الكنايةِ فهي على خمسِ مراتبَ: الأولى تحريكُها مفصولة قولاً واحداً، وبها قرأ ورشٌ وابن ذكوان وخلف وابن كثير والكسائي. الثانيةُ: تسكينُها قولاً واحداً. وبها قرأ أبو عمروٍ وأبو بكر عن عاصم. الثالثةُ: إسكانُ الهاءِ أو وَصْلُها بياءٍ وبها قرأ خَلاَّدُ. الرابعةُ: تحريكها من غير صلةٍ. وبها قرأ قالون وحفص. الخامسةُ: تحريكُها موصولةً أو مقصورةً. وبها قرأ هشامٌ.
فأمَّا إسكانُ الهاءِ وقَصْرُها وإشباعُها فقد مَرَّ تحقيقُها مستوفىً في مواضعَ
428
من هذا التصنيفِ. وأمَّا تسكينُ القافِ فإنهم حَمَلوا المنفصِلَ على المتصلِ: وذلك أنهم يُسَكِّنون عين فَعِل فيقولون: كَبْد وكَتْف وصَبْر في: كَبِد وكَتِف وصَبِر، لأنها كلمةٌ واحدة، ثم أُجْريَ ما أشبَه ذلك من المنفصل مجرى المتصل؛ فإنَّ «يَتَّقْهِ» صار منه «تَقِهِ» بمنزلة «كَتِف» فَسُكِّن كما تُسَكَّن. ومنه:
٣٤٦١ - قالَتْ سليمى اشْتَرْ لنا سَوِيقا... بسكونِ الراءِ، كما سَكَّن الآخرُ:
٣٤٦٢ - فبات مُنْتَصْباً وما تَكَرْدَسا... والآخر:
٣٤٦٠ - أَلَسْتُمْ خيرَ مَنْ ركبَ المَطايا وأندى العالمينَ بُطونَ راحِ
٣٤٦٣ - عَجِبْتَ لمَوْلُودٍ وليسَ له أَبُ وذي وَلَدٍ لم يَلْدَهُ أبوان
يريد: مُنْتَصِباً، ولم يَلِدْه. وقد تَقَدَّم في أولِ البقرةِ تحريرُ هذا الضابطِ في قوله: ﴿فَهِيَ كالحجارة﴾ [الآية: ٧٤]، وهي وهو ونحوها.
429
وقال مكي: «كان يجبُ على مَنْ أسكن القاف أَنْ يَضُمَّ الهاءَ؛ لأنَّ هاءَ الكنايةِ إذا سَكَن ما قبلها، ولم يكنْ الساكنُ ياءً ضُمَّتْ نحو: مِنْهُ وعَنْهُ. ولكن لمَّا كان سكونُ القافِ عارضاً لم يُعْتَدَّ به، وأبقى الهاءَ على كسرتِها التي كانت عليها مع كسرِ القافِ، ولم يَصِلْها بياءٍ، لأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاءِ مقدرةٌ مَنْويَّةٌ، فبقي الحذفُ الذي في الياءِ قبل الهاءِ على أصلِه». وقال الفارسي: «الكسرةُ في الهاءِ لالتقاءِ الساكنين، وليسَتْ/ الكسرةَ التي قبل الصلةِ؛ وذلك أنَّ هاءَ الكنايةِ ساكنةٌ في قراءتِه، ولمَّا أُجْرِيَ» تَقْهِ «مجرى» كَتْف «وسكَّن القافَ التقى ساكنان، ولَمَّا التَقَيا اضْطُرَّ إلى تحريكِ أحدِهما: فإمَّا أَنْ يُحَرِّكَ الأولَ أو الثاني. لا سبيلَ إلى تحريكِ الأولِ لأنه يعودُ إلى ما فَرَّ منه وهو ثِقَلُ فَعِل فحرَّك ثانيهما. وأصلُ التقاءِ الساكنين [الكسر] فلذلك كسرَ الهاءَ ويؤيِّدهُ قولُه:
........................ ................. لم يَلْدَه أَبَوانِ
وذلك أنَّ أصلَه»
لَمْ يلِده «بكسرِ اللام وسكونِ الدال للجزمِ، ثم لَمَّا سَكَّن اللامَ التقى ساكنان، فلو حَرَّك الأولَ لعادَ إلى ما فَرَّ منه، فحَرَّك ثانيهما وهو الدالُ وحَرَّكَها بالفتحِ، وإنْ كان على خلافِ أصلِ التقاءِ الساكنين مراعاةً لفتحةِ الياءِ.
وقد رَدَّ القاسم بن فيره قولَ الفارسي ويقول:»
لا يَصِحُّ قولُه: إنه
430
كسر الهاءَ لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ حفصاً يُسَكِّن الهاءَ في قراءتِه قط «.
وقد رَدَّ أبو عبد الله شارحُ قصيدتِه هذا الردَّ وقال: «وعجبتُ مِنْ نَفْيِه الإِسكانَ عنه مع ثبوتِه عنه في»
أَرْجِهْ «و» فَأَلْقِهْ «وإذا قرأه في» أَرْجِهْ «و» فَأَلْقِهْ «احتمل أن يَكونَ» يَتَّقْهِ «عنده قبل سكون القاف كذلك، وربما تَرَجَّح ذلك بما ثَبَتَ عن عاصم مِنْ قراءته إياه بسكونِ الهاء مع كسرِ القاف».
قلت: لم يَعْنِ الشاطبي بأنه لم يُسَكِّنِ الهاءَ قط، الهاء من حيث هي هي، وإنما عَنَى هاءَ «يَتَّقْهِ» بخصوصِها. وكان الشاطبيُّ أيضاً يعترض التوجيهَ الذي قدَّمْتُه عن مكيّ ويقولُ: «تعليلُه حَذْفَ الصلةِ: بأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاء مقدرةٌ مَنْوِيَّةٌ فبقي في حَذْفِ الصلةِ بعد الهاءِ على أصلِه، غيرُ مستقيم مِنْ قِبَلِ أنه قرأ» يُؤَدِّهي «وشبهِه بالصلة، ولو كان يَعْتَبِرُ ما قاله من تقدير الياءِ قبل الهاءِ لم يَصِلْها. قال أبو عبد الله:» وهو وإنْ قَرَأ «يؤدِّهي» وشِبْهَه بالصلةِ فإنه قرأ «يَرْضَهُ» بغيرِ صلةٍ فألحقَ مكي «يَتَّقْهِ» ب «يَرْضَهُ» وجعله ممَّا خَرَجَ فيه عن نظائرِه لاتِّباع الأثَرِ والجمعِ بين اللغتين. وترجَّح ذلك عنده لأنَّ اللفظَ عليه. وَلَمَّا كانت القافُ في حكمِ المكسورةِ بدليلِ كسرِ القافِ بعدَها صار كأنه «يَتَّقِهِ» بكسرِ القافِ والهاء من غيرِ صلةٍ كقراءةِ قالون وهشام في أحدِ وجهَيْه، فَعَلَّله بما يُعَلِّلُ به قراءتَهما. والشاطبيُّ ترجَّح عنده حَمْلُه على الأكثرِ ممَّا قَرَأَ به، لا على ما قَلَّ ونَدَر، فاقتضى تعليلَه بما ذكَرَ.
431
قوله: ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ بدلاً من اللفظِ بفعلِه إذ أَصْلُ «أُقْسِمُ باللهِ جَهْدَ اليمين» : أُقْسِمُ بجَهْدِ اليمينِ جَهْداً، فَحُذِفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ موضوعاً مَوْضِعَه مضافاً إلى المفعولِ ك ﴿َضَرْبَ الرقاب﴾ [محمد: ٤]، قاله الزمخشري. والثاني أنه حالٌ تقديرُه: مجتهدين في أَيْمانِهم كقولِهم: أفعَلْ ذلك جَهْدَك وطاقَتَك. وقد خلَطَ الزمخشري الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعدَ ما قَدَّمْتُه عنه: «وحكمُ هذا المنصوبِ حكمُ الحالِ كأنه قيل: جاهدين أَيْمانَهم». وقد تقدَّم الكلامُ على ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الآية: ٥٣] في المائدة.
قوله: ﴿طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ﴾ في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: أمرُنا طاعةٌ أو المطلوبُ طاعةٌ. الثاني: أنها مبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ أي: أَمْثَلُ، أو أولى. وقد تقدَّمَ أنَّ الخبرَ متى كان في الأصلِ مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه وَجَبَ حَذْفُ مبتدئِه كقولِه: ﴿صَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: ١٨] ولا يَبْرز إلاَّ اضطراراً كقوله:
٣٤٦٤ - فقالَتْ على اسمِ اللهِ أَمرُك طاعةٌ وإنْ كُنْتُ قد كُلِّفتُ ما لم أُعَوَّدِ
على خلافٍ في ذلك. والثالث: أَنْ تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي: ولْتَكُنْ طاعةٌ ولْتُوْجَدْ طاعةٌ. واستُضْعِفَ ذلك: بأنَّ الفعلَ لا يُحْذَفُ إلاَّ إذا تَقَدَّم
432
مُشْعِرٌ به كقوله: ﴿يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦]. / في قراءةِ مَنْ بناه للمفعولِ أي: يُسَبِّحه رجالٌ أو يُجاب به نَفْيٌ كقولِكَ: «بلى زيدٌ» لمَنْ قال: لم يقم أحدٌ، أو استفهامٌ كقوله:
٣٤٦٥ - ألا هَلْ أتى أمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ بلى خالد إنْ لم تُعِقْه العَوائقُ
والعامَّةُ على رفعِ «طاعةٌ» على ما تقدَّم. وزيد بن علي واليزيديُّ على نَصبِها بفعلٍ مضمرٍ، وهو الأصلُ. قال أبو البقاء «ولو قُرِىء بالنصبِ لكانَ جائزاً في العربية، وذلك على المصدرِ أي: أَطِيْعوا طاعةً وقولوا قولاً. وقد دَلَّ عليه قولُه تعالى بعدَها ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله﴾. قلت ما وَدَّ أن يُقرأَ به قد قُرِىء به كما تقدَّم نَقْلُه. وأمَّا قولُه: و ﴿قُولُواْ قَوْلاً﴾ فكأنه سَبَق لِسانُه إلى آية القتال وهي: ﴿فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾ [محمد: ٢١] ولكن النصبَ هناك ممتنعٌ أو بعيدٌ.
433
قوله: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ ماضياً، وتكون الواوُ ضميرَ الغائبين. ويكونُ في الكلام التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة. وحَسَّن الالتفاتَ هنا كونُه لم يواجِهْهم بالتَّوَلِّي والإِعراضِ، وأن يكونَ مضارعاً حُذِفَتْ إحدى تاءَيْه. والأصل: تَتَوَلَّوْا. ويُرَجَّحُ هذا قراءةُ البزيِّ بتشديدِ التاء: «فإنْ تَّوَلَّوْا» وإن كان بعضُهم يَسْتَضْعِفُها للجمعِ بينَ ساكنين على غيرِ حَدِّهما.
433
ويُرَجِّحه أيضاً الخطابُ في قولِه: ﴿وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ﴾. ودعوى الالتفاتِ من الغيبةِ إلى الخطابِ ثانياً بعيدٌ.
434
قوله: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: هو جوابُ قسمِ مضمرٍ أي: أُقْسِم لَيَسْتَخْلِفَنَّهم ويكونُ مفعولُ الوعدِ محذوفاً تقديرُه: وَعَدَهم الاستخلافَ لدلالةِ قوله: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ عليه. والثاني: أَنْ يجريَ «وعد» مَجْرى القسمِ لتحقُّقِه، فلذلك أُجيب بما يُجاب به القَسَمُ.
قوله: ﴿كَمَا استخلف﴾ أي: استخلافاً كاستخلافهم. والعامَّةُ على بناء «اسْتَخْلَفَ» للفاعل. وأبو بكر بناه للمفعول. فالموصولُ منصوبٌ على الأول، ومرفوعٌ على الثاني.
قوله: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾ قرأ ابن كثير وأبو بكرٍ «ولَيُبْدِلَنَّهم» بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدال مِنْ «أَبْدَلَ». وقد تقدَّم توجيهُها في الكهف في قولِه: ﴿أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا﴾ [الكهف: ٨١].
قوله: ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ فيه سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مستأنفٌ أي: جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر كأنه قيل: ما بالُهم يُسْتَخْلَفون ويُؤَمَّنون؟ فقيل: يَعْبُدونني. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم يعبدونني. والجملةُ أيضاً استئنافيةٌ تقتضي المدحَ. الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ «وَعَدَ اللهُ». الرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعولُ «
434
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ». الخامس: أن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِه. السادس: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ مفعولِ «لَيُبَدِّلَنَّهُمْ». السابع: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلِه.
قوله: ﴿لاَ يُشْرِكُونَ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «يَعْبُدُونَنِي» أي: يَعْبُدونني مُوَحِّدين، وأن يكونَ بدلاً من الجملةِ التي قبلَه الواقعةِ حالاً وقد تَقَدَّم ما فيها.
435
قوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ : فيه وجهان. أحدُهما: أنه معطوفٌ على ﴿أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾ [الآية: ٥٤]. وليس ببعيدٍ أن يقعَ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه فاصلٌ وإنْ طال؛ لأنَّ حَقَّ المعطوفِ أن يكونَ غيرَ المعطوفِ عليه. قاله الزمخشري. قلت: وقولُه: «لأنَّ حَقَّ المعطوفِ» إلى أخره لا يَظْهَرُ علةً للحكمِ الذي ادَّعاه. والثاني: أنَّ قولَه ﴿وَأَقِيمُواْ﴾ من بابِ الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ. وحَسَّنَهُ الخطابُ في قولِه قبل ذلك «منكم».
قوله: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ﴾ : قرأ العامَّة «لا تَحْسَبنَّ» بتاءِ الخطابِ. والفاعلُ ضميرُ المخاطبِ أي: لا تَحْسَبَنَّ أيها المخاطبُ. ويمتنعُ أو يَبْعُدُ جَعْلُه للرسولِ عليه السلام؛ لأنَّ/ مِثْلَ هذا الحُسْبانِ لا يُتَصوَّر منه حتى ينهى عنه. وقرأ حمزةُ وابن عامرٍ «لا يَحْسَبَنَّ» بياء الغَيْبة وهي قراءةُ حسنةٌ واضحة. فإنَّ الفاعلَ فيها مضمرٌ يعودُ على ما دَلَّ السِّياقُ عليه أي: لا يَحْسَبَنَّ حاسِبٌ أو أحدٌ وإمَّا على الرسولِ لتقدُّم ذِكْرِه. ولكنه ضعيفٌ للمعنى المتقدِّم خلافاً لِمَنْ لَحَّن قارىءَ هذه القراءةِ كأبي حاتم وأبي جعفر
435
والفراء. قال النحاس: «ما عَلِمْتُ أحداً مِنْ أهلِ العربية بَصْرياً ولا كوفياً إلاَّ وهو يُلَحِّنُ قراءةَ حمزةَ، فمنهم مَنْ يقولُ: هي لحنٌ لأنه لم يأتِ إلاَّ بمفعولٍ واحدٍ ل» يَحْسَبَنَّ «.
وقال الفراء:»
هو ضعيفٌ «وأجازه على حَذْفِ المفعولِ الثاني. التقديرُ:» لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجِزين «قلت: وسببُ تَلْحينِهم هذه القراءةَ أنهم اعتقدوا أنَّ» الذين «فاعلٌ، ولم يكُنْ في اللفظِ إلاَّ مفعولٌ واحدٌ وهو» معجزين «، فلذلك قالوا ما قالوا. والجوابُ عن ذلك مِنْ وجوهٍ أحدُها: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعودُ على ما تقدَّم، أو على ما يُفْهَمُ من السياق، كما سَبَقَ تحريرُه. الثاني: أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ تقديرُه: لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجزين. إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحدِ المفعولَيْنِ ضعيفٌ عند البصريين. ومنه قولُ عنترةَ:
٣٤٦٦ - ولَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه مني بمَنزِلَة المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي: لا تظني غيرَه واقعاً. ولمَّا نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال:»
وأن يكونَ الأصلُ: لا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا مُعْجِزين، ثم حُذِف الضميرُ الذي هو المفعولُ الأول. وكأنَّ الذي سَوَّغ ذلك أنَّ الفاعلَ والمفعولَيْن
436
لَمَّا كانَتْ لشيءٍ واحدٍ اقْتَنَعَ بذكرِ اثنين عن ذِكْر الثالث «فقَدَّرَ المفعولَ الأول ضميراً متصلاً. قال الشيخ:» وقد رَدَدْنا هذا التخريجَ في أواخرِ آلِ عمران في قولِه: ﴿لاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ﴾ في قراءةِ مَنْ قرأه بالغَيْبة، وجَعَل الفاعلَ «الذين يَفْرحون». وملخَّصُه: أن هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدَها فلا يتقدَّر «لا يَحْسَبَنَّهم» إذ لا يجوزُ: «ظَنَّه زيدٌ قائماً» على رَفْعِ «زيدٌ» ب «ظنَّه» قلت: وقد تقدَّم في الموضعِ المذكورِ رَدُّ هذا الردِّ فعليك بالالتفاتِ إليه.
الثالث: أنَّ المفعولَيْنِ هما قولُه: ﴿مُعْجِزِينَ فِي الأرض﴾ قاله الكوفيون. ولمَّا نحا إليه الزمخشريُّ قال: «والمعنى: لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ اللهَ في الأرض حتى يَطْمَعوا هم في مثلِ ذلك. وهذا معنىً قويٌّ جيد».
قلت: قيل: هو خطأٌ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ في «الأرض» ب «مُعْجِزين» فجعله مفعولاً ثانياً كالتهيئةِ للعملِ والقطعِ عنه، وهو نظيرُ: «ظَنَنْتُ قائماً في الدار».
قوله: ﴿وَمَأْوَاهُمُ النار﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّ هذه الجملةَ عطفٌ على جملةِ النهيِ قبلَها مِنْ غيرِ تأويلٍ ولا إضمارٍ، وهو مذهبُ سيبويهِ أعني عَطْفَ الجملِ بعضِها على بعض، وإن اختلفَتْ أنواعُها خبراً وطَلَباً وإنشاءً. وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ هذا الموضوعِ والدليلُ عليه. الثاني: أنَّها معطوفةٌ عليها، ولكن بتأويلِ جملةِ النهي بجملةٍ خبريةٍ. والتقدير: الذين كفروا لاَ يُفوتون اللهَ ومَأْواهم النار. قاله الزمخشري. كأنه يرى تناسُبَ الجملِ شرطاً في العطفِ. هذا ظاهرُ حالِه. الثالث: أنها معطوفةٌ على جملةٍ مقدرةٍ.
437
قال الجرجاني: «لا يُحتمل أَنْ يكونَ» ومَأْواهم «متصلاً بقولهِ:» لا تَحْسَبَنَّ ذاك «أي: وهذا إيجابٌ فهو إذن معطوفٌ بالواو على مضمرٍ قبلَه تقديرُه: لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا مُعْجِزين في الأرضِ بل هم مقهورون، ومَأْواهم النار».
438
قوله: ﴿ثَلاَثَ مَرَّاتٍ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني أي: ثلاثةَ أوقاتٍ، ثم فَسَّر تلك الأوقاتَ بقوله: ﴿مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ﴾ ﴿وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء﴾. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدريةِ أي ثلاثةَ استئذاناتٍ. ورجَّحَ الشيخُ هذا فقال/: «والظاهرُ مِنْ قوله» ثلاثَ مرات «. ثلاثةَ استئذاناتٍ لأنَّك إذا قلتَ: ضربْتُ ثلاثَ مراتٍ لا تفْهَمُ منه إلاَّ ثلاثَ ضَرَبات. ويؤيِّده قولُه عليه السلام:» الاستئذانُ ثلاث «قلت: مُسَلَّمٌ أنَّ الظاهرَ كذا، ولكنَّ الظاهرَ هذا متروكٌ للقرينةِ المذكورةِ وهي التفسيرُ بثلاثةِ الأوقاتِ المذكورةِ. وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في رواية» الحُلْمَ «بسكونِ العينِ وهي تميميةٌ.
قوله: ﴿مِّن قَبْلِ صلاوة﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ قوله»
ثلاث «فتكونُ في محلِّ نصبٍ. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ» عورات «فيكونُ في محلِّ جر. الثالث: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي من قبلِ أي: تلك المراتُ فيكونُ في محلِّ رفعٍ.
قوله: ﴿مِّنَ الظهيرة﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما: أنَّ»
مِنْ «لبيانِ الجنس أي:
438
حين ذلك الذي هو الظهيرةُ. الثاني: أنها بمعنى» في «أي تَضَعُونها في الظهيرةِ. الثالث: أنَّها بمعنى اللام أي مِنْ أَجْلِ حَرِّ الظهيرةِ. وأمَّا قولُه: ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ﴾ فعطفٌ على محلِّ ﴿مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر﴾، وقوله: ﴿وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء﴾ عطفٌ على ما قبلَه، والظَّهيرةُ: شِدَّةُ الحَرِّ، وهو انتصافُ النهارِ.
قوله: ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ﴾ قرأ الأخَوان وأبو بكر»
ثلاثَ «نصباً. والباقون رفعاً. فالأولى تَحْتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: وهو الظاهر أنَّها بدلٌ مِنْ قوله: ﴿ثَلاَثَ مَرَّاتٍ﴾. قال ابن عطية:» إنما يَصِحُّ البدلُ بتقديرِ: أوقات ثلاثِ عَوْراتٍ، فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه «، وكذا قَدَّره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء. ويحتمل أَنَّه جَعَل نفسَ ثلاثِ المراتِ نفسَ ثلاثِ العوراتِ مبالغةً، فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضافٍ. وعلى هذا الوجهِ أعني وجهَ البدل لا يجوزُ الوقفُ على ما قبل ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ﴾ لأنه بدلٌ منه وتابعٌ له، ولا يُوْقَفُ على المتبوعِ دونَ تابعِه.
الثاني: أنَّ ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ﴾ بدلٌ مِنَ الأوقاتِ المذكورةِِ قاله أبو البقاء. يعني قولَه: ﴿مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر﴾ وما عُطِفَ عليه، ويكونُ بدلاً على المحلِّ؛ فلذلك نُصِبَ.
439
الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ. فقَدَّره أبو البقاء أعني. وأَحْسَنُ من هذا التقديرِ» اتَّقوا «أو» احْذروا «ثلاثَ.
وأمَّا الثانية ف»
ثلاثُ «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ. وقدَّره أبو البقاء مع حَذْفِ مضافٍ فقال:» أي: هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ، فحُذِف المبتدأُ والمضافُ «. قلت: وقد لا يُحتاج إليه على جَعْلِ العوراتِ نفسَ الأوقاتِ مبالغةً وهو المفهومُ من كلامِ الزمخشريِّ، وإن كان قد قَدَّره مضافاً كما قدَّمْتُه عنه.
قال الزمخشري: «وسمى كلَّ واحدٍ من هذه الأحوالِ عورةً؛ لأنَّ الناسَ يَخْتَلُّ تَسَتُّرُهم وتَحَفُّظُهم فيها. والعَوْرَةُ: الخَلَلُ ومنه أَعْوَرَ الفارِسُ، وأَعْوَرَ المكانُ. والأَعْوَرُ: المختلُّ العينِ»
فهذا منه يُؤْذِنُ بعدمِ تقديرِ أوقاتِ، مضافةً ل «عَوْراتٍ» بخلافِ كلامِه أولاً. فيُؤْخَذُ من مجموعِ كلامِه وجهان، وعلى قراءةِ الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريجِ قراءةِ النصبِ يُوقف على ما قبلَ ﴿ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ﴾ لأنَّها ليسَتْ تابعةً لما قبلها.
وقرأ الأعمش «عَوَرات» وهي لغةُ هُذَيْلٍ وبني تميم: يفتحون عينَ فَعَلات واواً أو ياءً وأُنشِدَ:
440
قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ وهو الرفعُ نعتاً لثلاث عَوْرات في قراءةِ مَنْ رفعها كأنه قيل: هُنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ مخصوصةً بعدمِ الاستئذانِ، وأنْ لا يكونَ لها محلٌّ، بل هي كلامٌ مقرِّر للأمرِ بالاستئذانِ في تلك الأحوالِ خاصةً، وذلك في قراءةِ مَنْ نصب «ثلاثَ عَوْراتٍ».
قوله: ﴿بَعْدَهُنَّ﴾ قال أبو البقاء: «التقديرُ: بعد استئذانِهم فيهنَّ، ثم حَذَفَ حرفَ الجرِّ والفاعلَ، فبقي: بعد استئذانِهم، ثم حَذَفَ المصدرَ» يعني بالفاعل الضميرَ المضافَ إليه الاستئذانُ فإنه فاعلٌ معنويٌّ بالمصدر. وهذا غيرُ ظاهرٍ، بل الذي/ يَظْهَرُ أنَّ المعنى: ليس عليكم جناحٌ. ولا عليهم أي: العبيدِ والإِماءِ والصبيانِ، في عَدَمِ الاستئذانِ بعد هذه الأوقاتِ المذكورةِ، ولا حاجةَ إلى التقديرِ الذي ذكره.
قوله: ﴿طوافون﴾ خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هم طَوَّافون، و «عليكم» متعلِّقٌ به.
قوله: ﴿بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ﴾ في «بعضُكم» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، و «على بعض» الخبرُ، فقدَّره أبو البقاء «يَطُوْفُ على بعض». وتكونُ هذه الجملةُ بدلاً مِمَّا قبلها. ويجوز أن تكونَ مؤكدةً مُبَيِّنة. يعني: أنها أفادَتْ إفادَةَ الجملةِ التي قبلها فكانَتْ بدلاً، أو مؤكِّدةَ. ورَدَّ الشيخ هذا: بأنه كونٌ مخصوصٌ فلا يجوزُ حَذْفُه. والجوابُ عنه: أن الممتنعَ الحذفِ إذا لم يَدُلَّ عليه دليلٌ وقُصِد إقامةُ الجارِّ والمجرورِ مُقامَه، وهنا عليه دليلٌ ولم يُقْصَدْ إقامةُ
441
الجارِّ مُقامَه، ولذلك قال الزمخشري: «خبرُه» على بعض «، على معنى: طائف على بعض، وحُذِفَ لدلالةِ» طَوَّافون «عليه».
الثاني: أن يَرْتَفِعَ بدلاً مِنْ «طوَّافون» قاله ابن عطية. قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ إنْ قُدِّر الضميرُ ضميرَ غَيْبةٍ لتقدير المبتدأ» هم «لأنَّه يصيرُ التقديرُ: هم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ، وهو لا يَصِحُّ. فإنْ جَعَلْتَ التقدير: أنتم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ، فيدفَعُه أنَّ قولَه» عليكم «يَدُلُّ على أنهم هم المَطُوفُ عليهم، و» أنتم طَوَّافون «يَدُلُّ على أنَّهم طائِفون فتعارضا».
قلت: نختار أنَّ التقديرَ: أنتم، ولا يلزَمُ محذورٌ. قوله: «فيدفعه إلى آخره» لا تعارُضَ فيه لأنَّ المعنى: كلٌّ منكم ومِنْ عبيدِكم طائفٌ على صاحبِه، وإن كان طوافُ أحدِ النوعين غيرَ طوافِ الآخَرِ؛ لأنَّ المرادَ الظهورُ على أحوالِ الشخصِ، ويكونُ «بعضُكم» بدلاً من «طَوَّافون» وقيل: «بعضُ» بدلٌ مِنْ «عليكم» بإعادة العاملِ فَأَبْدَلْتَ مرفوعاً مِنْ مرفوعٍ، ومجروراً من مجرور. ونظيرُه قولُ الشاعرِ:
٣٤٦٧ - أخو بَيَضاتٍ رائحٌ متأوِّبٌ رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبينِ سَبُوْحُ
442
ف «بعضُه» بدلُ من «النبعَ» المنصوب، و «ببعض» بدلٌ من المجرورِ بالباء.
الثالث: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّر أي: يطوفُ بعضُكم على بعضٍ، حُذِفَ لدلالةِ «طَوَّافون» عليه. قاله الزمخشري.
وقرأ ابن أبي عبلة «طوَّافين» بالنصبِ على الحال من ضميرِ «عليهم».
443
قوله: ﴿والقواعد﴾ : جمع «قاعِد» من غيرِ تاءِ تأنيثٍ. ومعناه: القواعدُ عن النكاحِ، أو عن الحيضِ، أو عن الاستمتاعِ، أو عن الحَبَل، أو عن الجميع. ولولا تَخَصُّصُهُنَّ بذلك لوَجَبَتِ التاءُ نَحو: ضارِبة وقاعِدة من القعود المعروف. وقوله: ﴿مِنَ النسآء﴾ وما بعدَه بيانٌ لهن و «القواعدُ» مبتدأٌ. و «من النساء» حالٌ و «اللاتي» صفةٌ للقواعد لا للنساء. وقوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ﴾ الجملةُ خبرُ المبتدأ، وإنما دَخَلَتْ لأَنْ المبتدأَ موصوفٌ بموصول، لو كان ذلك الموصولُ مبتدأً لجاز دخولُها في خبرِه، ولذلك مَنَعْتُ أَنْ تكونَ «اللاتي» صفةً للنساء؛ إذ لا يبقى مسوِّغٌ لدخولِ الفاءِ في خبر المبتدأ. وقال أبو البقاء: «ودَخَلَتْ الفاءُ لِما في المبتدأ من معنى الشرطِ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ بمعنى الذي». وهذا مذهب الأخفش، وتقدم تحقيقُه في المائدة. ولكن هنا ما يُغْني عن ذلك: وهو ما ذَكَرْتُه من وصفِ المبتدأ بالموصولِ المذكورِ.
و ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ﴾ حالٌ مِنْ «عليهنَّ». والتبرُّجُ: الظهورُ، مِن البُرْج: وهو البناءُ الظاهرُ. و «بزينةٍ» متعلقٌ به.
443
قوله: ﴿وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ﴾ مبتدأٌ بتأويل: استعفافُهن، و «خيرٌ» خبرُه.
444
قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ﴾ : العامةُ على فتح/ الميمِ، واللامُ مخففةٌ. وابن جبير «مُلِّكْتُم» بضمِ الميمِ وكسرِ اللامِ مشددةً أي: مَلَّككم غيرُكم. والعامَّةُ علكى «مفاتحَه» دونَ ياءٍ جمع مِفْتَح. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون جمع «مِفْتَح» بالكسرِ وهو الآلةُ، وأن يكون جمعَ «مَفْتح» بالفتح وهو المصدر. بمعنى الفتح. وابن جبير «مفاتيحَه» بالياء بعد التاء جمع مِفْتاح. والأولُ أقيسُ. وقرأ أبو عمرو في روايةِ هارونَ عنه «مِفتْاحَه» بالإِفراد وهي قراءةُ قتادة.
قوله: ﴿أوْ صَدِيقِكُمْ﴾ العامَّةُ على فتحِ الصادِ. وحميد الخزاز روى كسرَها إتْباعاً لكسرةِ الدال. والصَّدِيْق يقع للواحِد والجمع كالخَليط والقَطِين وشِبْهِهما.
قوله: ﴿جَمِيعاً﴾ حالٌ من «تَأْكُلوا»، و «أَشْتاتاً» عطفٌ عليه وهو جمعُ شَتّ.
قوله: ﴿تَحِيَّةً﴾ منصوبٌ على المصدرِ مِنْ معنى «فسَلِّموا» فهو من بابِ قَعَدْتُ جُلوساً. وقد تقدَّم وزن التحيَّة. و ﴿مِّنْ عِندِ الله﴾ يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «تحيةً»، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ «تحيِّة» أي: التحية صادرةً من
444
جهةِ الله. و «مِنْ» لابتداء الغايةِ مجازاً، إلاَّ أنه يُعَكِّر على الوصفِ تأخُّرُ الصفةِ الصريحةِ عن المُؤَولةِ. وقد تقدَّم ما فيه.
445
قوله: ﴿على أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ :«جامع» مِن الإِسنادِ المجازيِّ؛ لأنَّه لَمَّا كان سبباً في جَمْعِهم نُسِبَ الفعلُ إليه مجازاً. وقرأ اليمانيُّ «على أَمْرٍ جميعٍ» فيُحتمل أَنْ تكونَ صيغةَ مبالغةٍ بمعنى مُجَمِّع، وأَنْ لا تكونَ. والجملةُ الشرطيةُ مِنْ قولِه: ﴿وَإِذَا كَانُواْ﴾ وجوابِها عطفٌ على الصلةِ مِنْ قوله: «آمَنوا».
قوله: ﴿لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾ تعليلٌ أي: لأجلِ بعضِ حاجتِهم. وأظهر العامَّةُ الضادَ عند الشينِ، وأدغَمها أبو عمرٍو فيها لِما بينهما من التقارُبِ؛ لأنَّ الضادَ من أقصى حافةِ اللسانِ، والشينَ مِنْ وسَطِه. وقد اسْتَضْعَفَ جماعةٌ من النَّحَويين هذه الروايةَ واسْتَبْعدوها عن أبي عمرٍو رأسِ الصناعةِ من حيث إن الضادَ أقوى من الشين، ولا يُدْغم الأقوى في الأضعف. وأساء الزمخشري على راويها السوسي.
وقد أجاب الناس فقال: «وجهُ الإِدغامِ أن الشينَ أشدُّ استطالةً من الضادِ، وفيها نَفَسٌ ليس في الضادِ، فقد صارَتِ الضادُ أنقصَ منها، وإدغامُ الأنقصِ في الأَزْيد جائزٌ». قال: «ويؤيِّد هذا أن سيبويه حكى عن بعضِ
445
العرب» اطَّجَعَ «في» اضْطجع «، وإذا جاز إدغامُها في الطاءِ فإدغامُها في الشين أَوْلى». والخَصْمُ لا يُسَلِّمُ جميعَ ما ذُكِرَ، وسَنَدُ المَنْعِ واضحٌ.
446
قوله: ﴿دُعَآءَ الرسول﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ هذا المصدرُ مضافاً لمفعولِه أي: دعاءَكم الرسولَ بمعنى: أنَّكم لا تنادُوه باسمِه فتقولون: يا محمدُ، ولابكُنيته فتقولون: يا أبا القاسمِ، بل نادُوه وخاطِبوه بالتوقير: يا رسولَ الله يا نبيَّ الله. وعلى هذا جماعةٌ كثيرةٌ، وأَنْ يكونَ مضافاً للفاعل. واختلفت عباراتُ الناسِ في هذا المعنى فقيل: لا تَجْعَلوا دعاءَه إيَّاكم كدعاءِ بعضٍ لبعضٍ فتتباطَؤُون عنه، كما يتباطَأُ بعضُكم عن بعضٍ إذا دعاه لأمرٍ، بل يجبُ عليكم المبادرةُ لأمرِه. واختاره أبو العباس، ويؤيِّدُه قوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾. وقيل: معناه لا تَجْعَلوا دعاءَ الرسولِ ربَّه مثلَ ما يَدْعو صغيرُكم كبيرَكم، وفقيرُكم غنيَّكم يَسْأله حاجةً، فرُبمَّا تُجابُ دعوتُه، ورُبَّما لا تُجاب. وإنْ دَعَواتِ الرسولِ عليه السلام مسموعةٌ مستجابةٌ... في التخريجةِ الأخرى.
وقرأ الحسنُ «نَبِيِّكم» بتقديم النونِ على الباء المكسورةِ [بعدَها] ياءٌ مشدَّدةٌ مخفوضةٌ مكانَ «بينَكم» الظرفِ في قراءة العامَّة. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه بدلٌ من الرسول. الثاني: أنه عطفُ بيانٍ له لأنَّ النبيَّ [رسولٌ]، بإضافتِه إلى المخاطبين صار أشهرَ من الرسول. الثالث: أنَّه نعتٌ. لا يُقال: إنَّه
446
لا يجوزُ لأنَّ هذا كما قَرَّرْتُمْ أعرفُ، والنعتُ لا يكونُ أعرفَ مِنَ المنعوتِ. بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ؛ لأنَّ الرسولَ صار عَلَماً بالغَلَبةِ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فقد تَسَاويا تعريفاً.
قوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ الله﴾ قد تَدُلُّ على التقليلِ مع المضارع إلاَّ في أفعالِ اللهِ تعالى، فتدُلُّ على التحقيقِ كهذه الآيةِ. وقد رَدَّها بعضُهم إلى التقليلِ لكنْ إلى متعلِّقٍ العلمِ، يعني أنَّ الفاعِلين لذلك قليلٌ، فالتقليلُ ليس في العِلْمِ بل في متعلَّقِه.
قوله: ﴿لِوَاذاً﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ من معنى الفعلِ الأولِ؛ إذ التقديرُ: يَتَسَلَّلُون منكم تَسَلُّلاً، أو يُلاوِذُون لِواذاً. والثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ أي مُلاوِذين. واللِّواذُ: مصدرُ لاوَذَ. وإنَّما صَحَّتِ الواوُ وإنْ انكسَرَ ما قبلها، ولم تُقْلَبْ ياءً كما قُلِبَتْ في قيام وصِيام؛ لأنها صَحَّتْ في الفعلِ نحو: لاوَذَ فلو أُعِلَّتْ في الفعلِ أُعِلَّتْ في المصدرِ نحو: القيام والصِّيام لقَلْبها ألفاً في قام وصام. فأمَّا مصدرُ لاذَ بكذا يَلُوْذُ بهِ/ فمعتلٌّ نحو: لاذَ لِياذاً، مثل: صام صِياماً وقام قِياماً. واللِّواذُ والمُلاوَذَةُ: التَّسَتُّرُ يُُقال: لاَوَذَ فلانٌ بكذا أي: اسْتَتَر به. واللَّوْذُ: ما يَطِيْفُ بالجبل. وقيل: اللِّواذُ: الرَّوَغانُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ في خُفْيَةٍ. وفي التفسير: أنَّ المنافقين كانوا يَخْرُجون مُتَسَترين بالناسِ من غيرِ استئذانٍ حتى لا يُرَوا. والمفاعَلَةُ: لأنَّ كلاً منهم يَلُوْذُ بصاحبهِ فالمشاركةُ موجودةٌ.
وقرأ يزيد بن قطيب «لَواذاً» بفتحِ اللامِ، وهي محتملةٌ لوجهين
447
أحدُهما: أَنْ تكونَ مصدرَ «لاذ» ثلاثياً فتكون مثلَ: طافَ طَوافاً.
وصَلَحَتْ أَنْ تكونَ مصدرَ لاوَذَ، إلاَّ أنَّه فُتِحَتْ الفاءُ إتباعاً لفتحةِ العينِ وهو تعليلٌ ضعيفٌ يَصْلُحُ لمثلِ هذه القراءةِ.
قوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين﴾ فيه وجهان، أشهرُهما: وهو الذي لا يَعْرِف النحاةُ غيرَه أنَّ الموصولَ هو الفاعلُ و «أن تصيبَهم» مفعولُه أي: فَلْيَحْذَرِ المخالفون عن أمرِه إصابتَهم فتنةٌ. والثاني: أنَّ فاعل «فَلْيَحْذَرْ» ضميرٌ مستترٌ، والموصولُ مفعولٌ به. وقد رُدَّ على هذا بوجوهٍ منها: أنَّ الإِضمارَ على خلافِ الأصلِ. وفيه نظرٌ؛ لأن هذا الإِضمارَ في قوةِ المنطوقِ به، فلا يُقال: هو خلافُ الأصلِ. ألا ترى أنَّ نحوَ: قُمْ ولْتقم فاعلُه مضمرٌ، ولا يُقال في شيءٍ منه: هو خلافُ الأصلِ، وإنما الإِضمارُ خلافُ الأصلِ فيما كان حَذْفاً نحو: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
ومنها أنَّ هذا الضميرَ لا مَرْجعَ له أي: ليس له شيءٌ يعودُ عليه فَبَطَلَ أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً، وأُجيب: بأنَّ الذي يعودُ عليه الضميرُ هو الموصولُ الأولُ أي: فَلْيَحْذَرِ المُتَسَلِّلون المخالِفينَ عن أمرِه فيكونون قد أُمِرُوا بالحَذَرِ منهم أي: أُمِروا باجتنابهم كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ. وقد رَدُّوا هذا بوجهين، أحدُهما: أنَّ الضميرَ مفردٌ، والذي يعودُ عليه جمعٌ، فقاتَتِ المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسيرِ الضمائر. الثاني: أنَّ المُتَسَللين هم المخالِفُون، فلو أُمِروا بالحَذَرِ عن الذين يُخالِفُون لكانوا قد أُمِروا بالحَذَرِ من أنفسهم، وهو لا يجوز؛ لأنَّه لا يمكِنُ أَنْ يُؤْمَروا بالحَذَرِ من أنفسهم.
ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن الأولِ: بأنَّ الضميرَ وإن كان مفرداً فإنما عاد على
448
جمعٍ باعتبارِ أنَّ المعنى: فليحذَرْ هو. أي: مِنْ ذِكْرِ مثلِ ذلك. وحكى سيبويه «ضرَبني وضربْتُ قومَك» أي: ضربني مَنْ ثَمَّ ومَنْ ذُكِر، وهي مسألةٌ معروفةٌ في النحوِ، أو يكونُ التقديرُ: فليحذَرْ كلُّ واحدٍ من المُتَسَلِّلين. وعن الثاني: بأنه يجوزُ أَنْ يُؤْمَرَ الإِنسانُ بالحَذَرِ عن نفسِه مجازاً. يعني أنَّه لا يطاوعُها على شهواتِها وما تُسَوِّلُه له من السوءِ. كأنه قيل: فَلْيحذرِ المخالفونَ أنفسَهم، فلا يُطِيْعوها في ما تَأْمُرُهُمْ به، ولهذا يُقال: أَمَر نفسَه ونهاها، وأَمَرَتْه نفسُه باعتبار المجازِ.
ومنها: أنَّه يَصيرُ قولُه: ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مُفْلَتاً ضائِعاً؛ لأنَّ «يَحْذَرُ» يتعدَّى لواحدٍ، قد أَخَذَه على زَعْمِكم وهو «الذين يُخالفون»، ولا يتعدى إلى اثنين حتى يَقُولوا: إنَّ «أنْ تصيبَهم فتنةٌ» في محلِّ مفعولِه الثاني فبقي ضائعاً. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يُسَلَّم ضَياعُه؛ لأنه مفعولٌ من أجله. واعتُرِضَ على هذا: بأنه لم يَسْتكمل شروطَ النصبِ لاختلافِ الفاعلِ؛ لأنَّ فاعلَ الحَذَرِ غيرُ فاعلِ الإِصابةِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ يَطَّرِدُ مع أَنْ وأنَّ. فنقول: مُسَلَّمٌ شروطُ النصبِ غيرُ موجودة، وهو مجرورٌ باللامِ تقديراً، وإنما حُذِفَتْ مع «أَنْ» لطولِها بالصلة.
و «يُخالِفُون» يتعدى بنفسِه نحو: خالَفْتُ أَمْرَ زيدٍ، و «إلى» نحو: خالَفْتُ إلى كذا، فكيف تعدى هذا بحرفِ المجاوزِة؟ وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه ضُمِّن معنى صَدَّ وأَعْرَضَ أي: صدَّ عن أمرِه وأَعْرَضَ عنه مخالِفاً له. والثاني: قال ابن عطية: «معناه يَقَعُ خلافُهم بعدَ/ أَمْرِه، كما تقول: كان المطر عن ريحِ
449
كذا، وعَنْ لما عدا الشيءَ». الثالث: أنها مزيدةٌ أي: يخالفون أمرَه، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة، والزيادةُ خلافُ الأصلِ.
وقُرِىء «يُخَلِّفون» بالتشديد، ومَفْعولُه محذوفٌ أي: يُخَلِّفون أنفسَهم.
450
قوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ : قال: الزمخشري: «أَدْخَلَ» قد «ليؤكِّد عِلْمَه بما هم عليه من المخالفةِ عن الدينِ والنفاق، ويرجع توكيدُ العلمِ إلى توكيدِ الوعيدِ: وذلك أنَّ» قد «إذا دَخَلَتْ على المضارعِ كانت بمعنى» رُبَّما «فوافَقَتْ» رُبَّما «في خروجِها إلى معنى التكثير في نحو قوله:
٣٤٦٨ - فلمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بعضَه ببعضٍ أبَتْ عِيدانُه أَنْ تكَسَّرا
٣٤٦٩ - فإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناءِ فرُبَّما أقامَ به بعدَ الوُفودِ وُفودُ
ونحوٌ من ذلك قولُ زهير:
٣٤٧٠ - أَخي ثقةٍ لا تُهْلِكُ الخمرُ مالَه ولكنَّه قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
قال الشيخ:»
وكونُ «قد» إذا دَخَلَت على المضارعِ أفادَتِ التكثير قولٌ
450
لبعضِ النحاةِ. وليس بصحيحٍ، وإنما التكثيرُ مفهومٌ من السِّياق. والصحيحُ: أنَّ «رُبَّ» للتقليلِ للشيءِ، أو لتقليلِ نظيرِه. وإنْ فُهِم تكثيرٌ فمِنْ السِّياقِ لا منها «.
﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ﴾ في»
يوم «وجهان أحدُهما: أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ لعطفِه على قولِه: ﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ أي: يعلمُ الذي أنتم عليه مِنْ جميعِ أحوالِكم، ويَعْلَمُ يومَ يُرْجَعُون كقولِه: ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ ﴿لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ﴾. والثاني: أنه ظرفٌ لشيءٍ محذوف. قال ابن عطية:» ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: والعلمُ الظاهرُ لكم أو نحو هذا يومَ، فيكونُ النصبُ على الظرفِ «انتهى.
وقرأ العامَّةُ»
يُرْجَعون «مبنياً للمفعول. وأبو عمرو في آخرين مبنياً للفاعلِ. وعلى كلتا القراءتين فيجوزُ وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ في الكلامِ التفاتٌ من الخطابِ في قولِه: ﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ إلى الغَيْبة في قوله:» يُرْجَعون «. والثاني: أنَّ» ما أنتم عليه «خطابٌ عامٌّ لكلِّ أحدٍ. والضميرُ في» يُرْجَعُون «للمنافقين خاصةً، فلا التفاتَ حينئذٍ.
451
Icon