تفسير سورة النحل

الدر المصون
تفسير سورة سورة النحل من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله تعالى: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ : في «أتى» وجهان، أحدُهما: - وهو المشهورُ- أنه ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ إذ المرادُ به يومُ القيامة، وإنما أُبْرِز في صورةِ ما وَقَع وانقضى تحقيقاً له ولصِدْقِ المخبِرِ به. والثاني: أنه على بابه، والمرادُ به مقدِّماتُه وأوائلُه، وهو نَصْرُ رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ في الضميرِ المنصوبِ وجهان، أظهرُهما: أنَّه للأمرِ، فإنَّه هو المُحَدَّثُ عنه. والثاني: أنه لله، أي: فلا تستعجلوا عذابَه.
قوله: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يجوز أن تكونَ «ما» مصدريةً فلا عائدَ عند الجمهور، أي: عن إشراكِهم به غيرَه، وأن تكونَ موصولةً اسميةً.
وقرأ العامَّةُ: ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين. وابنُ جبير بالياء من تحتُ عائداً على الكفار أو المؤمنين.
187
وقرأ الأَخَوان: «تُشْرِكُون» بتاءِ الخطابِ جَرْياً على الخطابِ في «تَسْتَعْجِلُوه» والباقون بالياء عَوْداً على الكفار. وقرأ الأعمشُ وطلحةُ والجحدريُّ وجَمٌّ غفيرٌ بالتاء من فوقُ في الفعلين.
188
قوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الملائكة﴾ : قد تقدَّم الخلافُ في «يُنَزِّل» بالنسبة إلى التشديدِ والتخفيفِ في البقرة. وقرأ زيدُ بن علي والأعمشُ وأبو بكر عن عاصم «تَنَزَّلُ» مشدداً مبنياً للمفعول وبالتاءِ مِنْ فوقُ، «الملائكةُ» رفعاً لقيامِه مَقامَ الفاعلِ وقرأ الجحدريُّ كذلك، إلا أنه خَفَّف الزايَ. وقرأ الحسنُ والأعرجُ وأبو العالية والمفضَّل عن عاصم «تَنَزَّلُ» بتاءٍ واحدةٍ مِنْ فوقُ، وتشديدِ الزايِ مبنياً للفاعل، والأصلُ: «تَتَنَزَّل» بتاءَيْن. وقرأ ابنُ أبي عبلة «نُنَزِّلُ» بنونينِ وتشديدِ الزايِ، «الملائكةَ» نصباً، وقتادةُ كذلك إلا انه بالتخفيف. قال/ ابن عطية: «وفيهما شذوذٌ» ولم يُبَيِّن وجهَ ذلك، ووجهُه: أنَّ ما قبله وما بعده مضمرٌ غائبٌ، وتخريجُه على الالتفات.
قوله: «بالرُّوْحِ» يجوز أن يكونَ متعلقاً بنفس الإِنزال، وأن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الملائكة «، أي: ومعهم الروحُ.
قوله: ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾ حالٌ من»
الرُّوحِ «. و» مِنْ «: إمَّا لبيانِ الجنسِ، وإمَّا للتبعيضِ.
188
قوله: ﴿أَنْ أنذروا﴾ في» أَنْ «ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها المُفَسِّرةُ؛ لأنَّ الوحيَ فيه ضَربٌ من القولِ، والإِنزالُ بالروحِ عبارةٌ عن الوحيِ. الثاني: أنها المخففةُ مِنَ الثقيلة، واسمُها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ تقديره: أنَّ الشأنَ أقولُ لكم: إنه لا إله إلا أنا، قاله الزمخشريُّ: الثالث: أنها المصدريةُ التي من شأنِها نصبٌ نصبُ المضارع ووُصِلَتْ بالأمر كقولهم:» كتبت إليه بأنْ قُمْ «، وقد مضى لنا فيه بحثٌ.
فإن قلنا: إنها المفسِّرةُ فلا مَحَلَّ لها، وإنْ قلنا: إنها المخففةُ أو الناصبةُ ففي محلِّها وثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها مجرورةُ المحلِّ بدلاً من»
الرُّوح «؛ لأنَّ التوحيدَ رُوْحٌ تَحْيا به النفوسُ. الثاني: أنها في محلِّ جرٍّ على إسقاطِ الخافضِ كما هو مذهبُ الخليل. والثالث: أنها في محل نصب على إسقاطه وهو مذهبُ سيبويه، والأصلُ: بأَنْ أَنْذِروا، فلمَّا حُذِفَ الجارُّ جَرَى الخلافُ المشهورُ.
قوله: ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ﴾ هو مفعولُ الإِنذار والإِنذار قد يكونُ بمعنى الإِعلامِ. يقال: نَذَرْتُه وأَنْذَرته بكذا، أي: أَعْلِمُوهم التوحيدَ. وقوله»
فاتَّقونِ «التفاتٌ إلى التكلمِ بعد الغَيْبة.
189
قوله تعالى: ﴿مِن نُّطْفَةٍْْ﴾ متعلِّقٌ ب «خَلَق» و «مِنْ»
189
لابتداءِ الغاية. والنُّطْفَةُ: القَطْرَةُ من الماء، نَطَفَ رأسُه ماءً، أي: قَطَر. وقيل: هي الماء الصافي ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرجل، ويُكْنَى بها عن اللؤلؤة، ومنه صبيٌّ مُنَطَّف: إذا كان في أذنه لُؤْلؤة، ويقال: ليلة نَطُوف: إذا جاء فيها مطرٌ. والناطِف: ما سال من المائعاتِ، نَطَفَ يَنْطِفُ، أي: سال فهو ناطِفٌ. وفرنٌ يَنْطِفُ بسوءٍ.
قوله: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ عَطَفَ هذه الجملةَ على ما قبلَها. فإن قيل: الفاءُ تدلُّ على التعقيب، ولا سيما وقد وُجِدَ معها «إذا» التي تقتضي المفاجَأةَ، وكونُه خصيماً مبيناً لم يَعْقُبْ خَلْقَه مِنْ نُطْفة، إنما توسَّطَتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ. فالجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنه من باب التعبير عن حال الشيءِ بما يَؤُول إليه، كقولِه تعالى: ﴿أَعْصِرُ خَمْراً﴾ [يوسف: ٣٦]. والثاني: أنه أشار بذلك إلى سُرْعَةِ نِسْيانهم مَبْدَأَ خَلْقِهم. وقيل: ثَمَّ وسائِطُ محذوفةٌ. والذي يظهر أنَّ قولَه «خَلَقَ» عبارةٌ عن إيجاده وتربيتِه إلى أن يبلغَ حدَّ هاتين الصفتين.
و «خصيم» فَعِيْل، مثالُ مبالغةٍ مِنْ خَصَم بمعنى اختصم، ويجوز أن يكونَ مُخاصِم كالخَلِيط والجَلِيس.
190
قوله تعالى: ﴿والأنعام خَلَقَهَا﴾ : العامَّةُ على النصبِ وفيه وجهان، أحدُهما: نصبٌ على الاشتغالِ، وهو أرجحُ مِن الرفعِ لتقدُّمِ جملةٍ فِعليةٍ. والثاني: أنه نصبٌ على عَطْفِه على «الإِنسان»، قاله
190
الزمخشريُّ وابنُ عطية، فيكون «خَلَقَها» على هذا مؤكِّداً، وعلى الأول مفسِّراً. وقُرئ في الشاذِّ «والأنعامُ» رفعاً وهي مَرْجُوحَةٌ.
قوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ يجوز أن يَتَعَلَّقَ «لكم» ب «خَلَقَها»، أي: لأجلِكم ولمنافعِكم، ويكون «فيها» خبراً مقدماً، «ودِفْءٌ» مبتدأً مؤخراً. ويجوز أن يكونَ «لكم» هو الخبر، و «فيها» متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ، أو يكونَ «فيها» حالاً من «دِفْء» لأنه لو تاخَّر لكان صفةً له، أو يكونَ «فيها» هو الخبرَ، و «لكم» متعلِّقٌ بما تعلَّق به، أو يكونَ حالاً مِنْ «دِفْء» قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ بأنه إذا كان العاملُ في الحال معنوياً فلا يتقدَّم على الجملةِ بأسرها، لا يجوز: «قائماً في الدار زيدٌ» فإنْ تأخَّرَتْ نحو: «زيدٌ في الدار قائماً» جازَ بلا خلافٍ، أو توسَّطَتْ/ فخلافٌ، أجازه الأخفشُ، ومنعه غيرُه.
قلت: ولقائلٍ أن يقولَ: لَمَّا تقدَّمَ العاملُ فيها وهي معه جاز تقديمُها عليه بحالها، إلاَّ أنْ يقولَ: لا يَلْزَمُ مِنْ تقديمِها عليه وهو متأخرٌ تقديمُها عليه وهو متقدمٌ، لزيادةِ القبح.
وقال أبو البقاء أيضاً: «ويجوز أَنْ يرتفعَ» دِفْء «ب» لكم «أو ب» فيها «والجملةُ كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب». قال الشيخ: «
191
ولا تُسَمَّى جملةً؛ لأنَّ التقدير: خلقها كائناً لكم فيها دفءٌ، أو خَلَقها لكم كائناً فيها دِفْءٌ» قلت «قد تقدَّم الخلاف في تقدير متعلِّق الجارِّ إذا وقع حالاً أو صفةً أو خبراً: هل يُقَدَّرُ فِعْلاً أو اسماً؟ ولعلَّ أبا البقاء نحا إلى الأولِ، فتسميتُه له جملةً صحيحٌ على هذا.
والدِّفْء اسمٌ لِما يُدْفَأُ به، أي: يُسْخَنُ، وجمعُه أدْفاء، ودَفِئَ يومُنا فهو دَفِىءٌ، ودَفِئَ الرجلُ يَدْفَأُ دَفاءَةً ودَفَاءً فهو دَفْآنُ، وهي دَفْأَى، كسَكْران وسَكْرى. والمُدْفَأة بالتخفيفِ والتشديد: الإِبلُ الكثيرةُ الوبرِ والشحمِ. قيل: الدِّفْءُ: نِتاجُ الإِبل وألبانُها، وما يُنْتفع به منها.
وقرأ زيدُ بنُ عليّ»
دِفٌ «بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الفاء، والزهريُّ كذلك، إلا أنه شَدَّدَ الفاء، كأنه أجرى الوَصْلَ مُجْرى الوقفِ نحو قولِهم:» هذا فَرُخّْ «بالتشديد وقفاً. وقال صاحب» اللوامح «:» ومنهم مَنْ يُعَوِّضُ من هذه الهمزةَ فَيُشَدِّد الفاءَ، وهو أحدُ وجهَيْ حمزةَ بنِ حبيب وقفاً «. قلت: التشديد وَقْفاً لغةٌ مستقلةٌ، وإن لم يكن ثَمَّ حَذْفٌ من الكلمةِ الموقوفِ عليها.
قوله: ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ »
مِنْ «هنا لابتداء الغاية، والتبعيض هنا ضعيفٌ. قال الزمخشري: فإن قلت: تقديمُ الظرفِ مُؤْذِنٌ بالاختصاصِ، وقد يُؤْكَلُ مِنْ غيرِها. قلت: الأكل منها هو الأصلُ الذي يعتمده الناسُ، وأمَّا غيرُها مِن البَطِّ والدَّجاج ونحوِها من الصَّيْد فكغيرِ المُعْتَدِّ به».
192
قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ : كقوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ [النحل: ٥]. و «حين» منصوبٌ بنفس «جَمال»، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له، أو معمولٌ لِما عَمِل في «فيها» أو في «لكم».
وقرأ عكرمةُ والضحاكُ «حينا» بالتنوين على أنَّ الجملةَ بعدَه صفةٌ له، والعائدُ محذوفٌ، أي: حيناً تُرِيْحون فيه، وحيناً تَسْرحُون فيه، كقولِه تعالى: ﴿واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٨١].
وقُدِّمَتْ الإِراحةُ على السَّرْحِ؛ لأنَّ الأنعامَ فيها أجملُ لِمَلْءِ بطونِها وتَحَفُّلِ ضُروعِها.
والجَمالُ: مصدرُ جَمُلَ بضمِّ الميم يَجْمُل فهو جميل، وهي جميلة. وحكى الكسائيُّ جَمْلاء كَحَمْراء، وأنشد:
٢٩٥ - ٧- فهِيَ جَمْلاءُ كَبَدْرٍ طالعٍ بَذَّتِ الخَلْقَ جميعاً بالجَمالْ
ويقال: أراحَ الماشيةَ وهَرَاحَها بالهاءِ بدلاً من الهمزة. وسَرَحَ الإِبلَ يَسْرَحُها سَرْحاً، أي: أرسلَها، وأصلُه أن يُرْسِلَها لترعى السَّرْحَ، والسَّرْحُ شجرٌ له ثمرٌ، الواحدة سَرْحَة. قال:
193
وقال:
٢٩٥ - ٨- أبى اللهُ إلا أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ على كلِّ افنانِ العِضاهِ تَرُوْقُ
٢٩٥ - ٩- بَطَلٌ كأن ثيابَه في سَرْحةٍ يُحْذَى نِعالَ السَّبْتِ ليس بتوْءَم
ثم أُطْلِق على كل إرسالٍ، واستُعير أيضاً للطَّلاق فقالوا: سَرَّحَ فلانٌ امرأتَه، كما تسعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإِبل من عُلُقِها. واعتُبِر من السَّرْحِ المُضِيُّ فقيل: ناقَةَ سُرُحٌ، أي: سريعة قال:
٢٩٦ - ٠-... سُرُحُ اليَدَيْن........... ..............................
وحَذَفَ مفعولي «تُرِيْحون» و «تَسْرَحُون» مراعاةً للفواصل مع العلم بهما.
194
قوله تعالى: ﴿لَّمْ تَكُونُواْ﴾ : صفةٌ ل «بلد» و «إلا بشِقٍّ» حالٌ من الضمير المرفوع في «بالِغِيْه»، أي: لم تَبْلُغوه إلا ملتبسِيْنَ بالمَشَقَّة.
والعامَّةُ على كسرِ الشين. وقرأ أبو جعفر، ورُوِيَتْ عن نافع وأبي عمرو بفتحها. فقيل: هما مصدران بمعنىً واحدٍ، أي: المَشَقَّة، فمِنَ الكسر قولُه:
194
أي: مِنْ مَشَقَّتها. / وقيل: المفتوحُ المصدرُ، والمكسورُ الاسمُ. وقيل: بالكسرِ نصفُ الشيء. وفي التفسير: إلا بنصفِ أنفسكم، كما تقول: «لم تَنَلْه إلا بقطعةٍ من كَبِدك» على المجاز.
195
قوله تعالى: ﴿والخيل﴾ : العامَّةُ على نصبِها نَسَقاً على «الأنعامَ». وقرأ ابن أبي عبلة برفعِها على الابتداء والخبرُ محذوفٌ، أي: مخلوقَةٌ أو مُعَدَّةٌ لتركبوها، وليس هذا ممَّا نابَ فيه الجارُّ منابَ الخبرِ لكونِه كوناً خاصاً.
قوله: «وزينةً» في نصبها أوجهٌ، أحدُها: أنها مفعولٌ من أجلِه، وإنما وَصَل الفعلُ إلى الأول باللام في قوله: «لتركبوها» وإلى هذا بنفسِه لاختلالِ شرطٍ في الأول، وهو عَدَمُ اتحادِ الفاعلِ، فإن الخالقَ اللهُ، والراكبَ المخاطبون بخلافِ الثاني.
الثاني: أنها منصوبةٌ على الحال، وصاحبُ الحال: إمَّا مفعول «خَلَقَها»، وإمَّا مفعولُ «لتركبوها»، فهو مصدرٌ أقيم مُقامَ الحال.
الثالث: أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ، فقدَّره الزمخشري «وخَلَقها زينة». وقدَّره ابن عطية وغيرُه «وجَعَلها زينةً».
الرابع: أنه مصدرٌ لفعلٍ محذوف، أي: وَيَتَزَيَّنُوْن بها زينةً.
وقرأ قتادةُ عن ابن عباس «لتَرْكَبوها زينةً» بغير واوٍ، وفيها الأوجهُ
195
المتقدمةُ، ويزيد أن تكونَ حالاً من فاعل «لتركبوها»، أي: تركبونها مُتَزَيِّنين بها.
196
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾ :﴿﴾ الضميرُ يعود على السبيل لأنها تُؤَنَّثُ: ﴿قُلْ هذه سبيلي﴾ [يوسف: ١٠٨]، أو لأنها في معنى سُبُل، فَأَنَّثَ على معنى الجمع.
والقَصْدُ مصدرٌ يُوصَفُ به فهو بمعنى قاصِد، يُقال: سبيلٌ قَصْدٌ وقاصِدٌ، أي: مستقيم كأنه يَقْصِد الوجهَ الذي يَؤُمُّه السَّالكُ لا يَعْدِل عنه. وقيل: الضمير يعود على الخلائق ويؤيِّده قراءةُ عيسى وما في مصحف عبد الله: «ومنكم جائِزٌ»، وقراءةُ عليٍّ: «فمنكم جائر» بالفاء.
وقيل: أل في السبيل للعَهْدِ، فعلى هذا يعود الضميرُ على «السبيل» التي يتضمَّنها معنى الآية كأنه قيل: ومِن السبيل، فأعاد عليها وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ؛ لأنَّ مقابلَها يَدُلُّ عليها. وأمَّا إذا كانت أل للجنس فتعودُ على لفظها.
والجَوْرُ: العُدولُ عن الاستقامةِ. قال النابغة:
٢٩٦ - ١- رأى إبِلاً تَسْعى، ويَحْسِبُها له أخي نَصَبٍ مِنْ شِقِّها ودُؤْوْبِ
196
وقال آخر:
٢٩٦ - ٢-....................... يَجُور بها الملاَّحُ طَوْراً ويَهْتدي
٢٩٦ - ٣- ومن الطريقةِ جائرٌ وهُدىً قَصْدُ السبيلِ ومنه ذُو دَخْلِ
وقال أبو البقاء: «وقَصْدُ مصدرٌ بمعنى إقامةِ السبيل وتَعِديلِ السبيلِ، وليس مصدرَ قصَدْتُه بمعنى أتَيْتُه».
197
قوله تعالى: ﴿مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ﴾ : يجوزُ في «لكم» أن يتعلَّقَ ب «أنْزَلَ»، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل «ماءً»، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، فعلى الأولِ يكون «شرابٌ» مبتدأً و «منه» خبرُه مقدَّمٌ عليه، والجملةُ أيضاً صفةٌ ل «ماءً» وعلى الثاني يكون «شرابٌ» فاعلاً بالظرف، و «منه» حالٌ من «شراب». و «مِنْ» الأولى للتبعيض، وكذا الثانيةُ عند بعضِهم، لكنه مجاز لأنه لمَّا كان سَقْيُه بالماء جُعِل كأنه من الماء كقوله:
٢٩٤ - ٦- أسنِمَة الآبالِ في رَبابَهْ... أي: في سَحابة، يعني به المطرَ الذي يَنْبُتُ به الكلأُ الذي تأكلُه الإِبِلُ فَتَسْمَنُ اَسْنِمَتُها.
وقال أبو بكر بن الأنباري: «هو على حذف مضاف إمَّا من الأول، يعني
197
قبل الضمير، أي: مِنْ سَقْيِه وجِهتِه شجرٌ، وإمَّا من الثاني، يعني قبل شجر، أي: شُرْب شجر أو حياة شجر». وجعل أبو البقاء الأولى للتبعيض والثانية للسبيية، أي: بسببه، ودَلَّ عليه قولُه: ﴿يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع﴾.
والشَّجَرُ هنا: كلُّ نباتٍ من الأرض حتى الكَلأُ، وفي الحديث: «لا تأكُلوا الشجرَ فإنه سُحْتٌ» يعني الكلأ، ينهى عن تحجُّر المباحاتِ المحتاجِ إليها بشدة. وقال:
٢٩٦ - ٥- نُطْعِمُها اللحمَ إذا عَزَّ الشجَرْ وهو مجازٌ؛ لأنَّ الشجرَ ما كان له ساقٌ.
قوله: ﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ هذه صفةٌ أخرى ل «ماءً». والعامَّة على «تُسِيمون» بضمِّ الياء مِنْ أسام، أي: أَرْسَلَها لِتَرْعى، وزيد بن علي بفتحِها، فيحتمل أن يكونَ متعدياً، ويكون فَعَل وأَفْعَل بمعنى، ويحتمل أن يكون لازماً على حذفِ مضافٍ، أي: تَسِيْمُ مواشِيَكُمْ.
198
قوله تعالى: ﴿يُنبِتُ﴾ : تحتمل هذه الجملةُ الاستئنافَ والتبعيةَ كما في نظيرتِها. ويقال: «أَنْبت اللهُ الزرعَ» فهو مَنْبُوت، وقياسُه
198
مُنْبَتٌ. وقيل: «أَنْبت» قد يجيْءُ لازماً ك «نَبَت» أنشد الفراء:
٢٩٦ - ٦- رأيتَ ذوي الحاجاتِ حولَ بيوتِهمْ قَطِيناً لهم حتى إذا أَنْبَتَ البَقْلُ
وأباه الأصمعي، والبيتُ حجةٌ عليه، وتأويلُه ب «أَنبت البقلُ نفسَه» على المجاز بعيدٌ جداً.
وقرأ أبو بكر «نُنْبِتُ» بنون العظمة، / والزهري «نُنَبِّتُ» بالتشديد. والظاهر أنه تضعيف المتعدي. وقيل: بل للتكرير. وقرأ أُبَي «يَنْبُت» بفتحِ الياءِ وضم الباء، «الزَّرعُ» وما بعده رفعٌ بالفاعلية.
199
وقد تقدَّم خلافُ القراء في رفع «الشمس» وما بعدها ونصبِها، وتوجيهُ ذلك في سورة الأعراف.
قوله تعالى: ﴿وَمَا ذَرَأَ﴾ عطفٌ على «الليل» قاله الزمخشري يعني ما خَلَقَ فيها من حيوانٍ وشَجَر. وقال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوف، أي: وخَلَقَ وأَنْبَتَ». كأنه استبعد تَسلُّطَ «سَخَّر» على ذلك فقدَّر فعلاً لائقاً. و «مختلفاً» حالٌ منه، و «ألوانُه» فاعلٌ به.
199
وخَتَمَ الآيةَ الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأمُّلٍ ونَظَر، والثانيةَ بالعقل؛ لأنَّ مدارَ ما تقدَّم عليه، والثالثةَ بالتذكُّر؛ لأنه نتيجةُ ما تقدَّمَ. وجَمَعَ «آيات» في الثانية دونَ الأولى والثالثةِ؛ لأنَّ ما نِيْطَ بها أكثرُ، ولذلك ذَكَرَ معها العقلَ.
200
قوله تعالى: ﴿مِنْهُ لَحْماً﴾ : يجوز في «منه» تعلُّقُه ب «لتأكلوا»، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرة بعده. و «مِنْ» لابتداء الغاية أو للتبعيضِ، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ، أي: مِنْ حيوانِه.
و «طَرِيّاً» فَعِيْل مِنْ طَرُوَ يَطْرُوْ طَراوةً كسَرُوَ يَسْرُوْ سَراوَةً. وقال الفراء: «بل يقال: طَرِيَ يَطرَى طَراوةً وطَراءً مثل: شَقِيَ يَشْقَى شَقَاوَةً وشَقاءً». والطَّراوةُ ضد اليَبُوسة، أي: غَضاً جديداً. ويُقال: الثيابُ المُطَرَّاة. والإِطراء: مَدْحٌ تَجَدَّد ذِكْرُه، وأمَّا «طَرَأَ» بالهمز فمعناه طَلَع.
قوله: «حِلْيةً» الحِلْيَةُ: اسمٌ لِما يُتَحَلَّى به، وأصلُها الدلالةُ على الهيئة كالعِمَّة والخِمْرَة. و «تَلْبَسُونها» صفةٌ. و «منه» يجوز فيه ما جاز في «منه» قبله. وقوله «تَرَى» جملةٌ معترضةٌ بين التعليلين وهما «لتأكلوا» و «لِتَبْتَغُوا»، وإنما كانَتْ اعتراضاً لأنها خطابٌ لواحد بين خطابين لجمعٍ.
قوله: «فيه» يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «ترى»، وأَنْ يتعلَّقَ ب «مواخِرَ» لأنها
200
بمعنى شَواقَّ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ «مَواخِر»، أو مِنَ الضميرِ المستكنِّ فيه.
و «مَواخِر» جمع ماخِرة، والمَخْرُ: الشَّقُّ، يُقال: مَخَرَتِ السفينةُ البحرَ، أي: شَقَّتْه، تَمْخُره مَخْراً ومُخُوراٌ. ويقال للسُّفُنِ: بناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ بالميم، والباءُ بدل منها. وقال الفراء: «هو صوتُ جَرْيِ الفُلْكِ». وقيل: صوتُ شدَّةِ هُبوبِ الريحِ. وقيل: «بناتُ مَخْرٍ» لسَحابٍ ينشَأُ صَيْفاً، وامْتَخَرْتُ الريحَ واسْتَمْخَرْتُها، أي: استقبلْتَها بأنفك. وفي الحديث: «اسْتَمْخِروا الريحَ، وأَعِدُّوا النُّبَلَ» يعني في الاستنجاء، والماخُور: الموضع الذي يُباع فيه الخمرُ. و «ترى» هنا بَصَريَّةٌ فقط.
قوله: «ولِتَبْتَغُوا» فيه ثلاثةُ أوجهٍ: عطفُه على «لتأكلوا»، وما بينهما اعتراضٌ -كما تقدَّم- وهذا هو الظاهرُ. ثانيها: أنه عطفٌ على علةٍ محذوفةٍ تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتَغُوا، ذكره ابن الأنباري، ثالثُها: أنه متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فَعَل ذلك لتبتغوا، وفيهما تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه.
201
قوله تعالى: ﴿أَن تَمِيدَ﴾ : ، أي: كراهةَ أَنْ تَمِيْدَ، أو: لئلاَّ تَمِيْدَ.
قوله: «وأنهاراً» عطفٌ على «رَواسي» لأنَّ الإِلقاءَ بمعنى الخَلْقَ. وادِّعاءُ ابنِ عطية أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ، أي: وجَعَل فيها أنهاراً، ليس كما ذكره. وقدَّره أبو البقاء: «وشَقَّ فيها أنهاراً» وهو مناسِبٌ، و «سُبُلاً»، أي: وذَلَّل، أو: وجعل فيها طُرُقاً.
و ﴿وَعَلامَاتٍ﴾، أي: ووَضَعَ فيها علاماتٍ.
قوله تعالى: ﴿وبالنجم﴾ متعلِّق ب «يهتدون». والعامَّةُ على فتحِ النونِ وسكونِ الجيمِ بالتوحيدِ فقيل: المرادُ به كوكبٌ بعينه كالجَدْيِ أو الثُّرَيَّا. وقيل: بل هو اسمُ جنسٍ. وقرأ ابن وثاب بضمِّهما، والحسنُ بضمِّ النون فقط، وعَكَسَ بعضُهم النَّقْلَ عنهما.
فأمَّا قراءةُ الضمتين ففيها تخريجان، أظهرُهما: أنها جمعٌ صريحٌ لأنَّ فَعْلاً يُجْمع على فُعُل نحو: سَقْف وسُقُف، ورَهْن ورُهُن. / والثاني: أنَّ أصلَه النجومُ، وفَعْل يُجمع على فُعُول نحو: فَلْس وفُلُوس، ثم خُفِّف بحَذْفِ الواوِ كما قالوا: أَسَد وأُسُود وأُسُد. قال أبو البقاء: «وقالوا في خِيام: خِيَم، يعني أنه نظيرُه، من حيث حَذَفوا منه حرفَ المدِّ. وقال
202
ابنُ عصفور: إن قولهم» النُّجُم مِنْ ضرورة الشعر «وأنشد:
٢٩٦ - ٧- إنَّ الي قَضَى بذا قاضٍ حَكَمْ... أن تَرِدَ الماءَ إذا غابَ النُّجُمْ
يريد: النحوم، كقوله:
٢٩٦ - ٨- حتى إذا ابْتَلَّتْ حَلاقِيْمُ الحُلُقْ... يريد الحُلُوق.
وأمَّا قراءةُ الضمِّ والسكونِ ففيها وجهان، أحدهما: أنها تخفيفٌ من الضم. والثاني: أنها لغةٌ مستقلة.
وتقديمُ كلٍّ من الجار والمبتدأ يفيد الاختصاصَ. قال الزمشخري:»
فإن قلت: قوله: ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ مُخْرَجٌ عن سَنَنِ الخِطاب، مقدَّم فيه النجم، مُقْحَمٌ فيه [هم]، كأنه قيل: وبالنجمِ خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدونَ، فَمَنْ المرادُ بهم؟ قلت: كأنَّه أراد قريشاً، كان لهم اهتداءٌ بالنجوم في مسائرِهم، وكان لهم به عِلْمٌ لم يكنْ لغيرِهم فكان الشكرُ عليهم أوجبَ ولهم أَلْزَمَ «.
203
قوله تعالى: ﴿كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ إنْ أُريد ب «مَنْ لا يَخْلُق» جميعٌ ما عُبِد مِنْ دونِ الله كان ورودُ «مَنْ» واضحاً؛ لأن العاقلَ
203
يُغَلَّبُ على غيرِه، فيُعبَّر عن الجميع ب «مَنْ» ولو جِيْء ب «ما» أيضاً لجازَ، وإنْ أريد به الأصنامُ ففي إيقاعِ «مَنْ» عليهم أوجهٌ، أحدُها: إجراؤهم لها مُجْرى أُولي العلمِ في عبادتهم إياها واعتقادِ أنها تَضُرُّ وتنفع كقوله:
٢٩٦ - ٩- بَكَيْتُ إلى سِرْبِ القَطا إذْ مَرَرْنَ بي فقلتُ ومِثْلي بالبكاءِ جديرُ
أسِرْبَ القَطا هل مَنْ يُعيرُ جناحَه لعلِّي إلى مَن قد هَوَيْتُ أطيرُ
فأوقعَ على السِّرْب «مَنْ» لمَّا عاملها معاملةَ العقلاءِ. الثاني: المشاكلةُ بينه وبين مَنْ يَخْلُق. الثالث: تخصيصُه بمَنْ يَعْلَم، والمعنى: أنه إذا حَصَلَ التبايُنُ بين مَنْ يَخْلُقُ وبين مَنْ لا يَخْلُق مِنْ أولي العلم، وأنَّ غيرَ الخالقِ لا يَسْتحق العبادةَ البتة، فكيف تستقيم عبادةُ الجمادِ المنحطِّ رتبةً، الساقطِ منزلةً عن المخلوقِ من أولي العلم كقوله: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ﴾ [الأعراف: ١٩٥] إلى آخره؟ وأمَّا مَنْ يُجيز إيقاعَ «مَنْ» على غيرِ العقلاء مِنْ شرطٍ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويلٍ.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: هو إلزامٌ للذين عَبَدوا الأوثانَ ونحوَها، تشبيهاً بالله تعالى، وقد جعلوا غيرَ الخالقِ مثلَ الخالق، فكان حَقُّ الإِلزامِ أن يُقال لهم: أَفَمَنْ لا يَخْلُق كَمَنْ يَخْلق؟ قلت: حين جعلوا غيرَ الله مِثْلَ اللهِ لتسميتِهم باسمِه، والعبادةِ له، جعلوا من جنس المخلوقات وشبيهاً
204
بها، فأنكر عليهم ذلك بقولِه ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾.
205
قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ﴾ : قرأ العامَّةُ «تُسِرُّون» و «تُعْلِنون» بتاء الخطاب. وأبو جعفر بالياء مِنْ تحتُ.
وقرأ عاصم وحده «يَدْعُون» بالياء، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ. وقُرِئ «يُدْعَوْن» مبنياً للمفعول. وهنَّ واضحاتٌ.
قوله تعالى: ﴿أَمْواتٌ﴾ : يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، أي: وهم يُخْلَقُون وهم أمواتٌ. ويجوز أن يكونَ «يُخْلَقون» و «أمواتٌ» كلاهما خبراً من بابِ «هذا حُلْوٌ حامِض» ذكره أبو البقاء، ويجوزُ أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم أمواتٌ.
قوله: ﴿غَيْرُ أَحْيَآءٍ﴾ يجوزُ فيه ما تقدم، ويكون تأكيداً. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أَنْ يكونَ قصد بها أنهم في الحال غيرُ أحياءٍ ليَرْفَعَ به توهُّمَ أنَّ قولَه» أمواتٌ «فيما بعد إذ قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠]. قلت: وهذا لا يُخْرِجُه عن التأكيدِ الذي ذكره قبلَ ذلك.
قوله: ﴿أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ »
أيَّان «منصوبٌ بما بعده لا بما قبلَه لأنه استفهامٌ،
205
وهو مُعَلَّقٌ ل» يَشْعُرون «فجملتُه في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ، هذا هو الظاهرُ. وفي الآية قولٌ آخرُ: وهو أن» أيَّان «ظرفٌ لقولِه ﴿إلهكم إله وَاحِدٌ﴾ يعني أن الإِلهَ واحدٌ يومَ القيامة، ولم يَدَّعِ أحدٌ الإِلهيةَ في ذلك اليومِ بخلاف أيَّام الدنيا، فإنه قد وُجد فيها من ادَّعى ذلك، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ على قوله» يَشْعُرون «، إلا أن هذا القول مُخْرِجٌ ل» أيَّان «عن موضوعِها - وهو: إمَّا/ الشرطُ، وإمَّا الاستفهامُ - إلى مَحْضِ الظرفيةِ بمعنى وقت، مضافٌ للجملة بعده كقولِك:» وقتَ تَذْهَبُ عمروٌ منطلق «فوقتَ منصوبٌ بمُنْطَلِق، مضافٌ لتذهب.
206
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ ﴾ يعني أن الإِلهَ واحدٌ يومَ القيامة، ولم يَدَّعِ أحدٌ الإِلهيةَ في ذلك اليومِ بخلاف أيَّام الدنيا، فإنه قد وُجد فيها من ادَّعى ذلك، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ على قوله " يَشْعُرون "، إلا أن هذا القول مُخْرِجٌ لـ " أيَّان " عن موضوعِها - وهو : إمَّا/ الشرطُ، وإمَّا الاستفهامُ - إلى مَحْضِ الظرفيةِ بمعنى وقت، مضافٌ للجملة بعده كقولِك :" وقتَ تَذْهَبُ عمروٌ منطلق " فوقتَ منصوبٌ بمُنْطَلِق، مضافٌ لتذهب.
قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ﴾ : قد تقدَّمَ الكلامُ على هذه اللفظةِ في سورةِ هود. والعامَّةُ على فتحِ الهمزة مِنْ «انَّ اللهَ» وكَسَرَها عيسى الثقفيُّ، وفيها وجهان، أظهرُهما: الاستئنافُ. والثاني: جَرَيانُ «لا جَرَم» مَجْرَى القسمِ فَتُتَلَقَّى بما يُتَلَقَّى به. وقال بعضُ العرب: «لا جَرَم واللهِ لا فارَقْتُك» وهذا عندي يُضْعِفُ كونَها للقسم لتصريحه بالقسمِ بعدها، وإن كان الشيخ أتى بذلك مُقَوِّياً لجريانِها مَجْرى القسَم.
قوله تعالى: ﴿مَّاذَآ أَنْزَلَ﴾ : قد تقدَّم الكلامُ على «ماذا» أولَ البقرة. وقال الزمخشري: «أو مرفوعٌ بالابتداءِ بمعنى: أيُّ شيءٍ أنزلَه ربُّكم؟ قال الشيخ:» وهذا غيرُ جائزٍ عند البصريين «. يعني مِنْ
206
كونِه حَذَفَ عائدَه المنصوب نحو:» زيدٌ ضربتُ «وقد تقدَّم خلافُ الناس في هذا، والصحيحُ جوازه.
والقائمُ مَقامَ فاعلِ»
قيل «الجملةُ مِنْ قولِه ﴿مَّاذَآ أَنْزَلَ﴾ لأنها المَقُولَةُ، والبصريون يَأْبَوْنَ ذلك، ويجعلون القائمَ مقامَه ضميرَ المصدرِ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَ الفاعلِ، والفاعلُ المحذوفُ: إمَّا المؤمنون، وإمَّا بعضُهم، وإمَّا المقتسِمون.
وقرئ:»
أساطيرَ «بالنصب، على تقدير: أَنْزَلَ أساطيرَ على سبيل التهكُّم، أو ذكرتُمْ أساطيرَ، والعامَّةُ، برفعِه على خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: المنزَّلُ أساطيرٌ على سبيل التهكُّم، أو المذكورُ أساطيرُ. وللزمخشريِّ هنا عبارةٌ فظيعةٌ يقف منها الشَّعْرُ.
207
قوله تعالى: ﴿لِيَحْمِلُواْ﴾ : في هذه اللام ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها لامُ الأمرِ الجازمةُ على معنى الحَتْمِ عليهم، والصِّغارِ الموجبِ لهم، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ عند قولِه «الأوَّلين»، ثم اسْتُؤْنِف أَمْرُهم بذلك. الثاني: أنها لامُ العاقبة، أي: كان عاقبةُ قولِهم ذلك، لأنهم لم يقولوا «أساطير» لِيَحْمِلوا، فهو كقولِه تعالى ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨]، وقوله:
207
الثالث: أنَّها للتعليل، وفيه وجهان: أحدهما: أنه تعليلٌ مجازيٌّ. قال الزمخشري: «واللامُ للتعليلِ مِنْ غيرِ أن يكونَ غرضاً نحو قولِك: خرجْتُ من البلد مخافةَ الشرِّ». والثاني: أنه تعليلٌ حقيقةً. قال ابن عطية: - بعد حكاية وجهِ لامِ العاقبة - «ويُحتمل أن تكونَ صريحَ لامِ كي، على معنى: قَدَّر هذا لكذا» انتهى. لكنه لم يُعَلِّقُها ب «قالوا» إنما قَدَّرَ لها علةَ «كيلا»، وهو قَدَّر هذا، وعلى قول الزمخشري يتعلَّقُ ب «قالوا» ؛ لأنها ليست لحقيقةِ العلَّةِ. و «كاملةً» حالٌ.
قوله: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنَّ «مِن» مزيدةٌ، وهو قولُ الأخفش، أي: وأوزار الذين على معنى: ومثل أوزارِ، كقولِه: كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِل بها «. والثاني: أنها غيرُ مَزيدةٍ وهي للتبعيضِ، أي: وبعض أوزارِ الذين. وقدَّر أبو البقاء مفعولاً حُذِف وهذه صفتُه، أي: وأوزاراً مِنْ أوزارِ، ولا بدَّ مِنْ حذف» مثل «أيضاً.
وقد منع الواحديُّ أن تكونَ»
مِنْ «للتبعيض قال:» لأنه يَسْتلزِمُ تخفيفَ الأوزارِ عن الأتباع، وهو غيرُ جائزٍ لقوله عليه السلام «من غير أن ينقصَ من أوزارهم شيءٌ» لكنها للجنس، أي: ليحملوا من جنس أوزارِ
208
الأتباع «. قال الشيخ:» والتي لبيانِ الجنسِ لا تتقدَّر هكذا، إنما تتقدَّر: والأوزار التي هي أوزارُ الذين، فهو من حيث المعنى كقول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير «.
قوله: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حالٌ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ»
يُضِلُّونهم «، أي: يُضِلُّون مَنْ لا يعلم أنهم ضُلاَّلٌ، قاله الزمخشري. والثاني: أنه الفاعل، ورُجِّح هذا بأنه هو المُحدَّث عنه. وقد تقدَّم الكلامُ في إعرابِ نحو» ساءَ ما يَزِرون «، وأنها قد تجري مَجْرى بِئْس.
209
قوله تعالى: ﴿مِّنَ القواعد﴾ :«مِنْ» لابتداءِ الغاية، أي: من ناحيةِ القواعدِ، أي: أتى أمرُ الله وعذابُه.
قوله: ﴿مِن فَوْقِهِمْ﴾ يجوز أن يتعلَّقَ ب «خَرَّ» وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية، ويجوز/ أَنْ يتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «السقف» وهي حالٌ مؤكِّدة؛ إذ السقفُ لا يكون تحتهم. وقال جماعة: ليس قوله «مِنْ تحتِهم» تأكيداً؛ لأنَّ العرب تقول: «خَرَّ علينا سَقْفٌ، ووقع علينا حائط» إذا كان يملكه وإنْ لم يَقعْ عليه، فجاء بقوله «من فوقهم» ليُخْرج هذا الذي في كلام العرب، أي: عليهم وَقَعَ وكانوا تحته فهلكوا. وهذا معنىً غيرُ طائلٍ، والقولُ بالتأكيد أَنْصَعُ منه.
والعامَّةُ على «بُنْيانِهم». وفرقة: «بِنْيَتَهُمْ». وفرقة - منهم أبو جعفر- «
209
بَيْتهم». والضحاك «بُيوتهم».
والعامَّةُ أيضاً: «السَّقْفُ» مفرداً. وفرقةٌ بفتحِ السين وضمِّ القاف بزنةِ عَضُد، وهي لغةٌ في السَّقْف، ولعلها مخففةٌ من المضموم، وكَثُرَ استعمالُ الفرعِ لخفَّتِه كقول تميم: «رَجْل»، ولا يقولون: «رَجُل». وقرأ الأعرج «السُّقُف» بضمتين. وزيدٌ بن علي بضم السين وسكونِ القاف، وقد تقدَّم مثلُ ذلك في قراءةِ ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: ١٦].
210
قوله تعالى: ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ مبتدأٌ وخبر. والعامَّة على «شركائي» ممدوداً. وسَكَّن ياءَ المتكلم فرقةٌ، فَتُحْذَفُ وصلاً لالتقاء الساكنين. وقرأ البزي بخلافٍ عنه بقصره مفتوحَ الياء. وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ، وزعموا أنَّها غيرُ مأخوذٍ بها، لأنَّ قصرَ الممدودِ لا يجوز إلاَّ ضرورةً. وتعجب أبو شامةَ من أبي عمروٍ الداني حيث ذكرها في كتابه مع ضعفها، وترك قراءاتٍ شهيرةً واضحة.
210
قلت: وقد رُوِي عن ابنِ كثير أيضاً قَصْرُ التي في القصص، ورُوِي عنه أيضاً قَصْرُ «ورائي» في مريم، ورَوى عنه قنبل أيضاً قَصْرَ ﴿أَن رَّآهُ استغنى﴾ [الآية: ٧] في العلق، فقد رَوَى عنه قصرَ بعضِ الممدوداتِ، فلا تَبْعُدُ روايةُ ذلك عنه هنا، وبالجملة فَقَصْرُ الممدودِ ضعيفٌ، ذكره غيرُ واحدٍ لكن لا يَصِلُ به إلى حَدِّ الضرورة.
قوله: «تُشَاقُّون» نافع بكسرِ النونِ خفيفةً والأصل: تُشاقُّوني، فَحَذَفَها مجتزِئاً عنها بالكسرة، والباقون بفتحها خفيفةً، ومفعولُه محذوفٌ، أي: تُشَاقُّون المؤمنين أو تشاقُّون اللهَ، بدليلِ القراءةِ الأولى. وقد ضَعَّفَ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ، أعني قراءةَ نافعٍ. وقرأَتْ فرقةٌ بتشديدِها مكسورةً، والأصل: تُشَاقُّونني فأدغم، وقد تقدَّم تفصيلُ ذلك في ﴿أتحاجواني﴾ [الأنعام: ٨٠] ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤] وسيأتي في قولِه تعالى ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني﴾ [الزمر: ٦٤].
قوله: «اليومَ» منصوب بالخِزْي، وعَمِل المصدرُ وفيه أل. وقيل: هو منصوبٌ بالاستقرار في «على الكافرين» إلا أنَّ فيه فَصْلاً بالمعطوفِ بين العاملِ ومعمولِه، واغتُفِر ذلك لأنهم يَتَّسِعُون في الظروفِ.
211
قوله تعالى: ﴿الذين تَتَوَفَّاهُمُ﴾ : يجوز أن يكونَ
211
الموصولُ مجرورَ المحلِّ نعتاً لِما قبله، أو بدلاً منه، أبو بياناً له، وأن يكونَ منصوباً على الذمِّ، أو مرفوعاً عليه، أو مرفوعاً عليه، أو مرفوعاً بالابتداء، والخبرُ قولُه ﴿فَأَلْقَوُاْ السلم﴾ والفاءُ مزيدةٌ في الخبر، قاله ابن عطية، وهذا لا يجيْءُ إلاَّ على رأي الأخفش في إجازته زيادةَ الفاء في الخبر مطلقاً، نحو: «زيد فقام»، أي: قام. ولا يُتَوَهَّم أن هذه الفاءَ هي التي تدخل مع الموصولِ المتضمِّنِ معنى الشرط؛ لأنه لو صُرِّح بهذا الفعلِ مع أداةِ الشرط لم يَجُزْ دخولُ الفاء عليه، فما ضُمِّن معناه أَوْلَى بالمنع، كذا قاله الشيخ، وهو ظاهر. وعلى الأقوالِ المتقدمةِ خلا القول الأخيرِ يكون «الذين» وصلتُه داخلاً في المَقُول، وعلى القولِ الأخيرِ لا يكنُ داخلاً فيه.
وقرأ «يَتَوَفَّاهُمْ» في الموضعين بالياء حمزة، والباقون بالتاء مِنْ فوق، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قوله ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة﴾ [آل عمران: ٣٩] «فناداه». وقرأت فرقةٌ بإدغام إحدى التاءين في الأخرى، في مصحفِ عبد الله «تَوَفَّاهم» بتاءٍ واحدة، وهي مُحْتَمِلةٌ للقراءةِ بالتشديد على الإِدغام، وبالتخفيفِ على حَذْفِ إحدى التاءَيْن.
212
و ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ حالٌ مِنْ مفعولِ «تَتَوَفَّاهم» و «تَتَوَفَّاهم» يجوز أن يكونَ مستقبلاً على بابه إن كان القولُ واقعاً في الدنيا، وأن يكونَ ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامة.
قوله: «فَأَلْقَوا» يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه خبر الموصول وقد تقدَّم فسادُه. الثاني: أنه عطفٌ على ﴿قَالَ الذين﴾. الثالث: أن يكونَ مستأنفاً، والكلامُ قم تَمَّ عند قولِه «أنفسِهم»، ثم عاد بقولِه «فألْقَوا» إلى حكاية كلام المشركين يومَ القيامة، فعلى هذا يكون قولُه ﴿قَالَ الذين أُوتُواْ العلم﴾ إلى قوله «أنفسهم» جملةَ اعتراض. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على «تَتَوفَّاهم» قاله أبو البقاء، وهذا إنما يتمشَّى على أنَّ «تَتَوفَّاهم» بمعنى المُضِيِّ، ولذلك لم يذكرْ أبو البقاء في «تَتَوفَّاهم» سواه.
قوله: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ﴾ فيه أوجه، أحدها: أن يكون تفسيراً للسَّلَم الذي أَلْقَوه؛ لأنه بمعنى القول بدليلِ الآيةِ الأخرى: ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول﴾ [النحل: ٨٦]، قاله أبو البقاء، ولو قال: «يحكي ما هو بمعنى القول» كان أوفقَ لمذهب الكوفيين. الثاني: أن يكونَ «ما كنَّا» منصوباً بقولٍ مضمرٍ، ذلك الفعلُ منصوب على الحال، أي: فألقَوا السَّلَم قائلين ذلك. / و ﴿مِن سواء﴾ مفعول «نعمل»، زِيْدَتْ فيه «مِنْ»، و «بلى» جوابٌ ل «ما كنَّا» فهو إيجابٌ له.
213
قوله تعالى: ﴿فَلَبِئْسَ﴾ هذه لامُ التأكيدِ، وإنما دخَلَتْ على الماضي لجمودِه وقُرْبِه من الأسماء. والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ. أي: جهنم.
قوله تعالى: ﴿خَيْراً﴾ : خيراً: العامَّةُ على نَصْبِه، أي: أَنْزل خيراً. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ قلتَ: لِمَ رَفَعَ الأولَ ونَصَبَ هذا؟ قلت: فصلاً بين جواب المُقِرِّ وجوابِ الجاحد». يعني أن هؤلاء لمَّا سُئِلوا لم يَتَلَعْثموا، وأطبقوا الجوابَ على السؤال بَيِّنا مكشوفاً مفعولاً للإِنزال فقالوا: خيراً، وأولئك عَدَلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطيرُ الأولين، وليس هو من الإِنزال في شيء.
وزيدُ بن علي: «خيرٌ» بالرفع، أي: المُنْزَل خيرٌ، وهي مؤيدةٌ لجَعْلِ «ذا» موصولةً، وهو الأحسنُ لمطابقة الجوابِ لسؤاله، وإن كان العكسُ جائزاً، وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة.
قوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾ هذه الجملةُ يجوز فيها أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ منقطعةً مِمَّا قبلها، إخبارَ استئنافٍ بذلك. الثاني: أنها بدلٌ مِنْ «خيراً». قال الزمخشري: «هو بدل من» خيراً «حكايةً لقول الذين اتَّقَوْا، أي: قالوا هذا القولَ فقدَّم تسميتَه خيراً ثم حكاه». الثالث: أن هذه الجملةَ تفسيرٌ لقوله: «خيراً» ؛ وذلك أن الخيرَ هو الوحيُ الذي أَنْزل الله فيه: مَنْ أَحْسَنَ في الدنيا بالطاعة حسنةٌ في الدنيا وحسنةٌ في الآخرة.
وقوله: ﴿فِي هذه الدنيا﴾ الظاهرُ تعلُّقه ب «أَحْسَنوا»، أي: أَوْقَعوا الحسنةَ في دار الدنيا. ويجوز أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ «
214
حَسَنَة» إذ لو تأخَّر لكان صفةً لها، ويَضْعُفُ تعلُّقه بها نفسِها لتقدُّمِه عليها.
215
قوله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ : يجوز أن يكونَ هو المخصوصَ بالمدح فيجيءُ فيها ثلاثةُ الأوجهِ: رفعُها بالابتداء، والجملةُ المتقدمة خبرُها، أو رفعُها خبرَ المبتدأ المضمر، أو رفعُها بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ، وهو أضعفُها، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. ويجوز أن يكونَ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ خبرَ مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدَّم، بل يكونُ المخصوصُ محذوفاً، تقديرُه: ولَنِعْمَ دارُ المتقين دارُهم هي جنات. وقَدَّره الزمخشريُّ «ولَنِعْمَ دارُ المتقين دارُ الآخرة». ويجوز أن يكونَ مبتدأً. والخبرُ الجملةُ مِنْ قوله: «يَدْخلونها»، ويجوز أن يكونَ الخبرُ مضمراً تقديره: لهم جناتُ عدن، ودلَّ على ذلك قولُه ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾.
والعامَّة على رفع «جناتُ» على ما تقدَّم. وقرأ زيد بن ثابت والسُّلَمي «جناتِ» نصباً على الاشتغال بفعل مضمر تقديره: يَدْخلون جناتِ عدن يَدْخُلونها، وهذه تُقَوِّي أن يكونَ «جنات» مبتدأً، و «يَدْخلونها» الخبرَ في قراءةِ العامَّة.
وقرأ زيد بن علي «ولَنِعْمَةُ دارِ» بتاءِ التأنيثِ مرفوعةٌ بالابتداء، و «دارِ» خفضٌ بالإِضافة، و «جَنَّاتُ عَدْنٍ» الخبر. و «يَدْخُلونها» في جميعِ ذلك نصبٌ على الحال، إلاّ إذا جَعَلْناه خبراً ل ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾.
215
وقرأ نافع في روايةٍ «يُدْخَلُونها» بالياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول، وأبو عبد الرحمن «تَدْخُلونها» بتاء الخطاب مبنياً للفاعل.
قوله: «تَجْري» يجوز أن يكونَ منصوباً على الحالِ مِنْ «جنات» قاله ابن عطية، وأن يكونَ في موضعِ الصفةِ ل «جنات» قاله الحوفي، والوجهان مبنيَّان على القولِ في «عَدْن» : هل هو معرفةٌ لكونِه علماً، أو نكرةً، فقائلُ الحالِ لَحَظ الأولَ، وقائلُ النعتِ لحظَ الثاني.
قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ﴾ الكلامُ في هذه الجملةِ كالكلامِ في الجملة قبلَها، والخبرُ: إمَّا «لهم» وإمَّا «فيها».
قوله: «كذلك» الكافُ في محلِّ نصب على الحال من ضمير المصدرِ، أو نهتٌ لمصدرٍ مقدرٍ، أو في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمر، أي: الأمرُ كذلك. و ﴿يَجْزِي الله المتقين﴾ مستأنَفٌ.
و {
216
١٦٤٩ - ; لَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ} يَحْتمل ما ذكرناه فيما تقدَّم، إذا جَعَلْنا «يقولون» خبراً فلا بُدَّ مِنْ عائدٍ محذوفٍ، أي: يقولون لهم، وإذا لم نَجْعَلْه خبراً كان حالاً من «الملائكة» / فيكون «طيبين» حالاً مِنَ المفعولِ، و «يقولون» حالاً مِن الفاعل. وهي يجوز أن تكونَ حالاً مقارِنَةً إن كان القولُ واقعاً في الدنيا، ومقدَّرةً إنْ كان واقعاً في الآخرة.
و «ما» في «بما» مصدريةً، أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ.
وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة﴾ : وقد تقدَّم في
216
آخرِ الأنعام أن الأَخَوَيْنِ يَقْرآن بالياء مِنْ تحتُ، والباقين يقرؤون بالتاءِ من فوقُ، وهما واضحتان لكونِه تأنيثاً مجازياً.
217
وقوله تعالى: ﴿فَأَصَابَهُمْ﴾ : عطفٌ على ﴿فَعَلَ الذين﴾ وما بينهما اعتراضٌ.
قوله تعالى: ﴿أَنِ اعبدوا الله﴾ : يجوز في «أَنْ» أَنْ تكونَ تفسيريةً؛ لأن البَعْثَ يتضمَّن قولاً، وأن تكونَ مصدريةً، أي: بَعَثْناه بَأَنِ اعْبُدُوا.
قوله: ﴿مَّنْ هَدَى﴾ و ﴿مَّنْ حَقَّتْ﴾ يجوزُ أنْ تكونَ موصولةً، وأن تكون نكرةً موصوفةً، والعائدُ على كلا التقديرينِ محذوفٌ من الأولِ.
وقرأ العامَّةُ ﴿إِن تَحْرِصْ﴾ : بكسرِ الراءِ مضارعَ «حَرَص» بفتحِها، وهي اللغةُ العاليةُ لغةُ الحجاز. والحسن وأبو حَيْوة «تَحْرَصُ» بفتح الراء مضارعَ «حَرِص» بكسرِها، وهي لغةُ لبعضِهم، وكذلك النخعي، إلا أنه زاد واواً قبل «إنْ» فقرأ ﴿وَإنْ تَحْرَصْ﴾.
قوله: ﴿لاَ يَهْدِي﴾ قرأ الكوفيون «يَهْدِي» بفتح الياءِ وكسرِ الدالِ،
217
وهذه القراءةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله، أي: لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّه، ف «مَنْ» مفعولُ «يَهْدِي» ويؤيده قراءةُ أُبَيّ «فإنَّ اللهَ لا هاديَ لِمَنْ يُضِلُّ، ولِمَنْ أضلَّ»، وأنه في معنى قولِه: ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف: ١٨٦].
والثاني: أن يكونَ الموصول هو الفاعلَ، أي: لا يَهْدِيْ المُضِلَّون، و «يَهْدِي» يجيءُ في معنى يهتدي. يقال: هداه فَهَدَى، أي: اهتدى. ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُُ عبدِ الله «يَهْدِي» بتشديدِ الدالِ المكسورةِ، فَأَدْغم. ونقل بعضُهم في هذه القراءةِ كسرَ الهاءِ على الإِتباع، وتحقيقُه تقدَّمَ في يونس. والعائدُ على «مَنْ» محذوفٌ: ﴿مَن يُضِلُّ﴾، أي: الذي يُضِلُّه اللهُ.
والباقون: «لا يُهْدَى» بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ مبنياً للمفعول، و «مَنْ» قائمٌ مَقامَ فاعِله، وعائدُه محذوفٌ أيضاً.
وجَوَّز أبو البقاء في «مَنْ» أن يكونَ مبتدأً و «لا يَهْدِي» خبره، يعني: مقدَّمٌ عليه. وهذا خطأٌ؛ لأنه متى كان الخبرُ فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخُّرُه نحو: «زيدٌ لا يَضْرِبُ»، ولو قَدَّمْتَ لالتبس بالفاعل.
وقُرِئ «لا يُهْدِيْ» بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ. قال ابن عطية: «وهي
218
ضعيفةٌ» قال الشيخ: «وإذا ثَبَتَ أنَّ» هَدَى «لازمٌ بمعنى اهتدى لم تكنْ ضعيفةً؛ لأنه أدخل همزةَ التعديةِ على اللازم، فالمعنى: لا يُجْعَلُ مهتدياً مَنْ أضلَّه اللهُ».
وقوله: «ومالهم» حُمِلَ على معنى «مَنْ»، فلذلك جُمِعَ.
وقُرِئ «مَنْ يَضِلُّ» بفتحِ الياءِ مِنْ «ضَلَّ»، أي: لا يَهْدي مَنْ ضَلَّ بنفسِه.
219
قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُواْ﴾ : ظاهرُه أنه استئنافٌ خبرٍ، وجعله الزمخشريُّ نَسَقاً على «وقال الذين أشركوا» إيذانٌ بانهما كَفْرتان عظيمتان. قوله: ﴿وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً﴾ هذان منصوبان على المصدرِ المؤكَّد، أي: وَعَدَ ذلك، وحَقَّ حقاً. وقيل: «حقاً» نعتٌ ل «وَعْد» والتقدير: بلى يَبْعثهم وَعَدَ بذلك. وقرأ الضحاك: ﴿وَعْدٌ عَلَيْهِ حَقٌّ﴾ برفعِهما على أنَّ وَعْداً خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: بلى بَعْثُهم وَعْدٌ على الله، و «حَقٌّ» : نعتٌ ل «وعدٌ».
قوله تعالى: ﴿لِيُبَيِّنَ﴾ : هذه اللامُ متعلقةٌ بالفعلِ المقدَّرِ بعد حرفِ الإِيجاب، أي: بلى يَبْعثهم لِيُبَيِّنَ.
وقوله تعالى: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ قد تقدَّم ذلك في
219
البقرة. واللامُ في «لِشيءٍ» وفي «له» لامُ التبليغِ كهي في: «قلت له قم». وجعلها الزجاج للسببِ فيهما، أي: لأجل شيءٍ، أَنْ نقولَ لأجلهِ، وليس بواضح. وقال ابن عطية: «وقوله تعالى ﴿أَن نَّقُولَ﴾ يُنَزَّلُ مَنْزِلةَ المصدرِ، كأنه قال: قولُنا، ولكنَّ» أنْ «مع الفعلِ تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلبِ أَمْرِها، وقد تجيءُ في مواضعَ لا يُلْحَظُ فيها الزمنُ كهذه الآيةِ، وكقولِهِ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: ٢٥] إلى غيرِ ذلك.
قال الشيخ:»
وقوله: في أغلبِ أمرِها «ليس بجيدٍ بل تَدُلُّ على المستقبل في جميع أمورِها، وقوله» وقد تجيءُ إلى آخره «لم يُفْهَمْ ذلك مِنْ» أنْ «، إنما فُهِمَ من نسبةِ قيامِ السماءِ والأرض بأمرِ الله لأنه لا يختصُّ بالمستقبلِ دونَ الماضي في حَقِّه تعالى، ونظيرُه: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ و» كان «تدل على اقترانِ مضمونِ الجملةِ بالزمنِ الماضي، وهو تعالى/ متصفٌ بذلك في كلِّ زمن.
220
قوله تعالى: ﴿حَسَنَةً﴾ فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: تَبْوِئَةً حسنةً. والثاني: أنها منصوبةٌ على المصدر الملاقي لعامِله في المعنى؛ لأنَّ معنى «لَنُبَوِّئَنَّهم» : لَنُحْسِنَنَّ إليهم. الثالث: أنها مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الفعلَ قبلها مضمِّنٌ معنى: «لَنُعْطِيَنَّهم. و» حسنة «صفةً
220
لموصوفٍ محذوفٍ، أي: داراً حسنة، وفي تفسيرِ الحسن: داراً حسنة، وهي المدينةُ. وقيل: تقديره: منزلةً حسنةً وهي الغَلَبَةُ على أهلِ المشرقِ والمغربِ وقيل:» حسنة «بنفسها هي المفعولُ من غيرِ حَذْفِ موصوفٍ.
وقرأ أميرُ المؤمنين وابنُ مسعود ونعيم بن ميسرة:»
لَنُثْوِيَنَّهُمْ «بالثاء المثلثة والياء، مضارع أَثْوَى المنقولِ بهمزةِ التعديةِ مِنْ ثَوَى بمعنى أقام، وسيأتي أنه قُرئ بذلك في السبع في العنكبوت، و» حسنةً «على ما تقدَّم. ونزيد أنه يجوز أن يكونَ على نَزْع الخافضِ، أي: في حسنة.
والموصولُ مبتدأٌ، والجملةُ مِنَ القسمِ المحذوفِ وجوابِه خبرُه، وفيه رَدٌّ على ثعلب حيث مَنَعَ وقوعَ جملةِ القسم خبراً. وجَوَّز أبو البقاء في»
الذين «النصبَ على الاشتغال بفعلٍ مضمرٍ، أي: لَنُبَوِّئَنَّ الذين. ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يجوز أن يُفَسِّر عاملاً إلا ما جاز أَنْ يعملَ، وأنت لو قلت:» زيداً لأضْرِبَنَّ «لم يَجُزْ، فكذا لا يجوزُ» زيداً لأضربنَّه «.
وقوله: ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ يجوز أن يعودَ الضميرُ على الكفار، أي: لو كانوا يَعْلمون ذلك لرجَعوا مسلمين، أو على المؤمنين، أي: لاجتهدوا في الهجرةِ والإِحسانِ، كما فعل غيرُهم.
221
قوله تعالى: ﴿الذين صَبَرُواْ﴾ : مَحَلَّه رفعٌ على «هم»
221
أو نصبٌ على «أمدحُ»، ويجوز أن يكونَ تابعاً للموصولِ قبله نعتاً أو بدلاً أو بياناً فمحلُّه محلُّه.
222
قوله تعالى: ﴿نوحي إِلَيْهِمْ﴾ : قد تقدَّم في آخر يوسف. وقرأت فرقةٌ «يُوحي»، أي: الله.
قوله تعالى: ﴿بالبينات﴾ : فيه ثمانيةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «رِجالاً» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: رجالاً ملتبسين بالبينات، أي: مُصاحبين لها. وهو وجهٌ حسنٌ ذكره الزمخشري لا محذورَ فيه. الثاني: أنه متعلقٌ ب «أَرْسَلْنا» ذكره الحوفيِّ والزمخشريُّ وغيرُهما، وبه بدأ الزمخشريُّ قال: يتعلَّق ب «أَرسَلْنا» داخلاً تحت حكمِ الاستثناءِ مع «رجالاً»، أي: وما أرسَلْنا إلا رجالاً بالبينات كقولِك: «وما ضربْتُ إلا زيداً بالسَّوْطِ» ؛ لأنَّ أصلَه: ضربْتُ زيداً بالسَّوْط «. وضعَّفه أبو البقاء بأنَّ ما قبلَ» إلاَّ «لا يعمل فيما بعدهم إذا تَمَّ الكلامُ على» إلا «وما يليها. قال:» وإلا أنه قد جاء في الشِّعر:
٢٩٧ - ٠- لِدُوا للموتِ وابْنُوا للخرابِ ...................................
٢٩٧ - ١- نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبوا بالنارِ جارتَهمْ ولا يُعَذِّبَ إلا الله بالنارِ
قال الشيخ: وما أجازه الحوفيُّ والزمشخريُّ لا يُجيزه البصريون،
222
إذ لا يُجيزون أن يقع بعد «إلا» إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعٌ لذلك، وما ظُنَّ بخلافه قُدِّر له عاملٌ. وأجاز الكسائيُّ أن يليَها معمولُ ما قبلها مرفوعاً ومنصوباً ومخفوضاً، نحو: ما ضَرَب إلا عمراً زيدٌ، وما ضَرَب إلا زيدٌ عمراً وما مرَّ إلا زيدٌ بعمروٍ، ووافقه ابنُ الأنباريِّ في المرفوع، والأخفش في الظرف وعديله، فما لاقاه يتمشَّى على قولِ الكسائي والأخفش «.
الثالث: أنه يتعلَّقَ بأَرْسَلْنا أيضاً، إلا أنه نيةِ التقديمِ قبل أداةِ الاستثناءِ تقديرُه: وما أرسلْنا مِنْ قبلك بالبيناتِ والزبر إلا رجالاً، حتى لا يكونَ ما بعد»
إلا «معمولَيْنِ متأخِّرَيْنِ لفظاً ورتبةً داخلَيْنِ تحت الحصرِ لِما قبل» إلا «، حكاه ابنُ عطية.
الرابع: أنَّه متعلقٌ ب»
نُوحِي «كما تقول:» أُوْحي إليه بحق «، ذكره الزمخشري وأبو البقاء. الخامس: أن الباءَ مزيدةٌ في» «بالبيِّنات» وعلى هذا فيكون «بالبيِّنات» هو القائمَ مَقامَ الفاعل لأنها هي المُوْحاة. السادس: أن الجارِّ متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنَ القائمِ مَقامَ الفاعل، وهو «إليهم»
223
ذكرهما أبو البقاء، وهما ضعيفان جداً معنىً وصناعةً.
السابع: أَنْ يتعلَّق ب «لا تعلمون» على أنَّ الشرطَ/ في معنى التبكيتِ والإِلزام، كقولِ الأجير: «إن كنتُ عَمِلْتُ لك فَأَعْطِني حقي». قال الزمخشري: «وقوله:» فاسْألوا أهلَ «اعتراضٌ على الوجوه المتقدِّمة» ويعني بقوله «فاسألوا» الجزاءَ وشرطَه، وأمَّا على الوجهِ الأخير فعدَمُ الاعتراضِ واضحٌ.
الثامن: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: بم أُرْسِلوا؟ فقيل: أُرْسِلوا بالبينات والزُّبُر. كذا قدَّره الزمخشري، وهو أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء: «بُعِثوا»، لموافقتِه للدالِّ عليه لفظاً ومعنىً.
224
قوله تعالى: ﴿السيئات﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: المَكَرات السيئات، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه. الثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين «مَكَروا» عَمِلُوا وفعلوا، وعلى هذين الوجهين فقولُه: ﴿أَن يَخْسِفَ الله﴾ مفعول ب «أَمِنَ». الثالث: أنه منصوبٌ ب «أَمِنَ»، أي: أَمِنُوا العقوباتِ السيئات، وعلى هذا فقولُه ﴿أَن يَخْسِفَ الله﴾ بدلٌ من «السيئات».
قوله تعالى: ﴿على تَخَوُّفٍ﴾ : متعلقٌ بمحذوفٍ، فإنه حالٌ إمَّا مِنْ فاعلِ «يأخذهم»، وإمَّا مِنْ مفعوله، ذكرهما أبو البقاء.
224
والظَاهِرُ كونُه حالاً من المفعولِ دونَ الفاعل.
والتخوُّفُ: التنقُّص. حكى الزمخشري أن عمر بن الخطاب سألهم على المِنْبر عنها فسكتوا، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا: التخوُّفُ: التنقُّصُ قال: فهل تعرف [العربُ] ذلك في أشعارِها؟ قال: نعم. قال شاعرُنا وأنشد:
٢٩٧ - ٢- تَخَوَّف الرَّحْلُ منها تامِكاً قَرِداً كما تَخَوَّفَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فقال عمر: «أيها الناسُ، عليكم بديوانِكم لا يَضِلُّ». قالوا: وما ديواننا؟ قال: «شعرُ الجاهلية، فإنِّ فيه تفسيرَ كتابكم».
قلت: وكان الزمخشريُّ نَسَبَ البيتَ قبل ذلك لزهيرٍ، وكأنه سهوٌ، فإنَّه لأبي كبير الهذلي، ويؤيد ذلك قول الرجل: «قال شاعرنا»، وكان هُذَلِيَّاً كما حكاه هو. وقيل: التخوُّفُ: الخوفُ.
225
قوله تعالى: ﴿أَوَ لَمَْ﴾ : قرأ الأخَوان «تَرَوْا» بالخطاب جَرْياً على قولِه ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ﴾، والباقون بالياءِ جَرْياً على قوله: {أَفَأَمِنَ
225
الذين مَكَرُواْ}. وأمَّا قولُه: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير﴾ [النحل: ٧٩] فقرأه حمزةُ أيضاً بالخطاب، ووافقه ابنُ عامر فيه، فحصل من مجموعِ الآيتين أنَّ حمزةَ بالخطاب فيهما، والكسائيَّ بالخطابِ في الأول والغَيْبة في الثاني، وابنَ عامر بالعكس، والباقون بالغيبة فيهما.
فأمَّا توجيهُ الأولى فقد تقدَّم، وأمَّا الخطابُ في الثانية فَجَرْياً على قوله ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النحل: ٧٨]. وأمَّا الغيبةُ فَجَرْياً على قوله ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ [النحل: ٧٣]. وأمَّا تفرقَةُ الكسائيِّ وابنِ عامرٍ بين الموضعين فجمعاً بين الاعتبارين وأنَّ كلاً منهما صحيحٌ.
قوله: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ هذا بيانٌ لِما في قوله: ﴿مَا خَلَقَ الله﴾ فإنها موصولةٌ بمعنى الذي. فإن قلتَ: كيف يُبَيِّنُ الموصولُ -وهو مبهمٌ- ب «شيء» وهو مبهمٌ، بل أَبْهَمُ ممَّا قبله؟ فالجواب أنَّ شيئاً قد اتضح وظهر بوصفِه بالجملة بعدَه، وهي ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ﴾.
قال الزمخشري: «وما موصولة ب ﴿خَلَقَ الله﴾ وهو مبهمٌ، بيانُه ﴿مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ﴾. وقال ابن عطية:» وقولُه ﴿مِن شَيْءٍ﴾ لفظٌ عامٌّ في كل ما اقتضَتْه الصفةُ مِنْ قوله ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ﴾ فظاهر هاتين العبارتين أنَّ جملةَ ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ﴾ صفة لشيء، وأمَّا غيرُهما فإنه قد صَرَّح بعدمِ كونِ الجملةِ صفةً فإنه قال: «والمعنى: من شيءٍ له ظِلٌ من
226
جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ وجسمٍ قائمٍ. وقوله: ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ﴾ إخبارٌ عن قوله ﴿مِن شَيْءٍ﴾ ليس بوصفٍ له، وهذا الإِخبارُ يَدُلُّ على ذلك الوصفِ المحذوفِ الذي تقديرُه: هو له ظلٌّ» وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ له، والصفةُ أبينُ. و ﴿مِن شَيْءٍ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصولِ، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على جهةِ البيان، أي: أَعْني مِنْ شيء.
والتفيُّؤُ: تَفَعَّل مِنْ فاء يَفِيْءُ، أي: رَجَع، و «فاء» قاصرٌ، فإذا أُريد تعديتُه عُدِّي بالهمزة كقوله تعالى: ﴿مَّآ أَفَآءَ/ الله على رَسُولِهِ﴾ [الحشر: ٧] أو بالتضعيف نحو: فَيَّأ اللهُ الظلَّ فَتَفَيَّأ. وَتَفَيَّأ مطاوِعٌ فهو لازمٌ. ووقع في شعر أبي تمام متعدياً في قوله:
٢٩٧ - ٣- طَلَبَتْ ربيعَ ربيعةَ المُمْرَى لها وتفيَّأَتْ ظلالَه مَمْدودا
واخْتُلِفَ في الفَيْءِ فقيل: هو مُطْلَقُ الظِّلِّ سواءً كان قبل الزَّوالِ أو بعده، وهو الموافِقُ لمعنى الآيةِ ههنا. وقيل: «ما كان [قبل] الزوال فهو ظلٌّ فقط، وما كان بعده فهو ظِلٌّ وفَيْءٌ»، فالظلُّ أعمُّ، يُرْوَى ذلك عن رؤبَة ابن العجاج. وقيل: بل يختصُّ الظِّلُّ بما قبل الزوالِ والفَيْءُ بما بعده. قال الأزهري: «تَفَيَّؤُ الظلالِ رجوعُها بعد انتصافِ النهارِ، فالتفيُّؤُ لا يكون
227
إلا بالعَشِيّ، وما انصرفَتْ عنه الشمسُ، والظلُّ ما يكون بالغداة، وهو ما لم تَنَلْهُ [الشمس] قال الشاعر:
٢٩٧ - ٥- فلا الظِلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحى تَسْتطيعُه ولا الفيْءُ من بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوْقُ
وقال امرؤُ القيس أيضاً:
٢٩٧ - ٥- تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضارِجٍ يَفِيْءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِ
وقد خطَّأ ابن قتيبة الناسَ في إطلاقهم الفَيْءَ على ما قبلَ الزَّوال، وقال: إنما يُطْلَقُ على ما بعده، واستدلَّ بالاشتقاق، فإن الفيْءَ هو الرجوعُ وهو متحققٌ ما بعد الزوال، فإنَّ الظلَّ يَرْجِعُ إلى جهةِ المشرق بعد الزوال بعدما نَسَخَتْه الشمسُ قبل الزَّوال.
وقرأ أبو عمرو «تَتَفَيَّأ» بالتاءِ مِنْ فوقُ مراعاةٍ لتأنيث الجمع، وبها قرأ يعقوب، والباقون بالياء لأنه تأنيثٌ مجازي.
وقرأ العامَّة «ظلالُه» جمع ظِلّ، وعيسى بن عمر «ظُلَلُهُ» جمع «
228
ظُلَّة» كغُرْفَة وغُرَف. قال صاحب «اللوامح» في قراءة عيسى «ظُلَلُهُ» :«والظُلَّة: الغَيْمُ، وهو جسمٌ، وبالكسرِ الفَيْءُ وهو عَرَضٌ، فرأى عيسى أنَّ التفيُّؤُ الذي هو الرجوعُ بالأجسام أَوْلَى منه بالأَعْرَاضِ، وأمَّا في العامَّة فعلى الاستعارة».
قوله: «عن اليمين» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها تتعلَّقُ ب «يتفيَّأ»، ومعناها المجاوزةُ، أي: تتجاوز الظلالُ عن اليمينِ إلى الشِّمائل. الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «ظلالُه». الثالث: أنها اسمٌ بمعنى جانب، فعلى هذا تَنْتَصِبُ على الظرف.
وقوله: ﴿عَنِ اليمين والشمآئل﴾ فيه سؤالان، أحدهما: ما المراد باليمين والشَّمائل؟ والثاني: كيف أفرد الأولَ وجوع الثاني؟ وأُجيب عن الأول بأجوبةٍ، أحدُها: أنَّ اليمينَ يمينُ الفَلَك وهو المشرقُ، والشَّمائلُ شمالُه وهي المغرب، وخُصَّ هذان الجانبان لأنَّ أقوى الإِنسانِ جانباه وهما يمينُه وشماله، وجعل المشرقَ يميناً؛ لأن منه تظهر حركةُ الفَلَكِ اليومية.
الثاني: البلدةُ التي عَرْضُها أقلُّ مِنْ مَيْل الشمس تكون الشمس صيفاً عن يمينِ البلدِ فيقع الظلُّ عن يمينهم.
الثالث: أنَّ المنصوبَ للعِبْرة: كلُّ جِرْمٍ له ظِلٌّ كالجبل والشجر، والذي يترتَّبُ فيه الأيْمان والشَّمائل إنما هو البشرُ فقط، لكنَّ ذِكْرَ الأَيْمانِ والشَّمائلِ هنا على سبيل الاستعارة.
229
الرابع: قال الزمخشري: «أو لم يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللهُ من الأَجْرامِ التي لها ظلالٌ متفيِّئَةٌ عن أَيْمانِها وشَمائِلها عن جانبي كل واحدٍ منها وشِقَّيْه استعارةً من يمين الإِنسان وشمائله لجانبي الشيءِ، أي: تَرْجِعُ من جانبٍ إلى جانب». وهذا قريبٌ ممَّا قبله.
وأُجِيْب عن الثاني بأجوبةٍ، أحدُها: أن الابتداءَ يقع من اليمين وهو شيءٌ واحدٌ، فلذلك وَحَّد اليمينَ ثم يَنْتَقِصُ شيئاً فشيئاً، حالاً بعد حال/ فهو بمعنى الجمعِ، فَصَدَق على كلِّ حالٍ لفظةُ «الشمال»، فَتَعَدَّدَ بتعدُّدِ الحالات. وإلى قريبٍ منه نحا أبو البقاء.
والثاني: قال الزمخشري: «واليمين بمعنى الأَيْمان» يعني أنه مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع، وحينئذٍ فهما في المعنى جمعان كقوله
﴿وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥]، أي: الأدبار.
الثالث: قال الفراء: «كأنه إذا وَحَّد ذَهَبَ إلى واحدٍ من ذواتِ الظلال، وإذا جَمَع ذَهَب إلى كلِّها، لأنَّ قولَه ﴿مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ﴾ لفظُه واحدٌ ومعناه الجمعُ، فعبَّر عن أحدِهما بلفظِ الواحدِ كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١] وقوله: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧].
230
الرابع: أنَّا إذا فَسَّرْنا اليمينَ بالمشرقِ كانت النقطةُ التي هي مَشْرِقُ الشمسِ واحدةً بعينها، فكانت اليمينُ واحدةً، وأمَّا الشمائلُ فهي عباراتٌ عن الانحرافاتِ الواقعةِ في تلك الظلال بعد وقوعِها على الأرضِ وهي كثيرةٌ، فلذلك عَبَّر عنها بصيغةِ الجمع.
الخامس: قال الكرماني:» يُحتمل أَنْ يُراد بالشمائل الشِمالُ والخَلْفُ والقُدَّامُ؛ لأنَّ الظِّلَّ يفيءُ من الجهاتِ كلِّها، فبُدِئ باليمينِ لأنَّ ابتداءَ التفيُّؤِ منها أو تَيَمُّناً بذِكرها، ثم جَمَع الباقي على لفظ الشِّمال لما بين اليمين واليسار مِنَ التَّضادِّ، ونَزَّلَ القُدَّام والخلفَ منزلةَ الشَّمائل لِما بينهما وبين اليمينِ من الخلافِ «.
السادس: قال ابن عطية:»
وما قال بعضُ الناس: مِنْ أنَّ اليمينَ أولُ وَقْعَةٍ للظلِّ بعد الزوالِ ثم الآخر الغروبُ هي عن الشِّمائل، ولذلك جَمَعَ الشمائل وأَفْرد اليمين، فتخليطٌ من القول، ويَبْطُل مِنْ جهات. وقال ابن عباس: «إذا صَلَّيْتَ الفجرَ كان ما بين مَطْلَعِ الشمس ومَغْرِبِها ظِلاًّ ثم بَعَثَ الله عليه الشمسَ دليلاً، فقبضَ إليه الظلَّ، فعلى هذا فأوَّلُ ذُرُوْرِ الشمس فالظِّلُّ عن يمينِ مستقبِلِ الجنوب، ثم يبدأ الانحرافُ فهو عن الشَّمائل؛ لأنه حركاتٌ كثيرة وظلالٌ متقطعةٌ فهي شمائلُ كثيرةُ، فكان الظلُّ عن اليمينِ متصلاً واحداً عامّاً لكلِّ شيء».
231
السابع: قال ابن الضائع: «أَفْرَدَ وجَمَع بالنظر إلى الغايتين؛ لأنَّ ظِلَّ الغَداةِ يَضْمَحِلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ، فكأنه في جهةٍ واحدة، وهي في العَشِيِّ على العكس لاستيلائِه على جميع الجهات، فلُحِظَت الغايتان في الآية. هذا من جهةِ المعنى، وأمَّا مِِنْ جهةِ اللفظ ففيه مطابقةٌ؛ لأنَّ» سُجَّداً «جمع فطابقه جَمْعُ الشَّمائل لاتصاله به، فَحَصَل في الآية مطابَقَةُ اللفظِ للمعنى ولَحْظُهما معاً، وتلك الغايةُ في الإِعجاز».
قوله: «سُجَّداً» حالاٌ مِنْ «ظلالُه» و «سُجَّداً» جمع ساجِد كشاهِد وشُهَّد، وراكِع ورُكَّع.
قوله: ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ في هذه الجملة ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها حالٌ من الهاءِ في «ظلالُه». قال الزمخشري: «لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق اللهُ مِنْ شيءٍ له ظِلٌّ وجُمِع بالواوِ والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصافِ العقلاء، أو لأن في جملة ذلك مَنْ يَعْقِل فَغُلِّبَ».
وقد رَدَّ الشيخُ هذا: بأن الجمهور لا يُجيزون مجيءَ الحال من المضافِ إليه، وهو نظيرُ: «جاءني غلامُ هندٍ ضاحكةً» قال: «ومَنْ أجاز مجيئَها منه إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزء جوَّز الحاليةَ منه هنا، لأنَّ الظِّلَّ كالجزءِ إذ هو ناشِئٌ عنه».
الثاني: أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في «سُجَّدا» فهي حالٌ متداخلِةٌ.
232
الثالث: أنها حالٌ مِنْ «ظلالُه» فينتصبُ عنه حالان.
ثم لك في هذه الواو اعتباران، أحدُهما: أن تجعلَها عاطفةً حالاً على مثلِها فهي عاطفةٌ، وليست بواوِ حال، وإن كان خُلُوُّ الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأيٍ. وممَّن صَرَّح بأنها عاطفةٌ أبو البقاء. والثاني: أنها واوُ الحال، وعلى هذا فيقال: كيف يقتضي العاملُ حالين؟ فالجوابُ أنه جاز ذلك لأنَّ الثانيةَ بدلٌ مِن الأولى، فإن أُريد بالسجودِ التذلُّلُ والخضوعُ فهو/ بدلُ كلٍ من كل، وإن أُريد به حقيقته فهو بدلُ اشتمالٍ؛ إذ السجودُ مشتملٌ على الدُّخور، ونظير ما نحن فيه: «جاء زيد ضاحكاً وهو شاكٍ» فقولك «وهو شاكٍ» يحتمل الحاليةَ من «زيد» أو من ضمير «ضاحكاً».
والدُّخور: التواضعُ قال:
٢٩٧ - ٦- فلم يَبْقَ إلا داخِرٌ في مُخَيَّسٍ ومُنْجَحِرٌ في غير أرضِكَ في جُحْرِ
وقيل: هو القهرُ والغلبةُ. ومعنى داخِرُون: أَذِلاَّاءُ صاغِرون.
233
قوله تعالى: ﴿مِن دَآبَّةٍ﴾ : يجوز أن يكونَ بياناً لِما في السماوات وما في الأرض، ويكون لله تعالى في سمائِه خَلْقٌ يَدِبُّون كما يَدِبُّ الخَلْقُ الذي في الأرض. ويجوز أن يكون بياناً لِما في الأرض فقط. قال
233
الزمخشري: «فإن قلت: فهلاَّ جيْءَ ب» مَنْ «دونَ» ما «تغليباً للعقلاء مِن الدوابِّ على غيرهم؟ قلت: لأنه لو جِيْءَ ب» مَنْ «لم يكنْ فيه دليلٌ على التغليب فكأن متناولاً للعقلاءِ خاصة فجيء بما هو صالحٌ للعقلاءِ وغيرِهم إرادةَ العمومِ».
قال الشيخ: «وظاهرُ السؤالِ تسليمُ أنَّ» مَنْ «قد تشمل العقلاءَ وغيرَهم على جهةِ التغليبِ، وظاهرُ الجوابِ تخصيصُ» مَنْ «بالعقلاء، وأنَّ الصالحَ للعقلاء [وغيرِهم] » ما «دون» مَنْ «وهذا ليس بجواب؛ لأنه أورد السؤالَ على التسليم، ثم أورد الجوابَ على غير التسليم، فصار المعنى: أنَّ» مَنْ «يُغَلَّبُ بها والجوابَ لا يُغَلَّبُ بها، وهذا في الحقيقةِ ليس بجوابٍ».
قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ يجوز أن تكونَ الجملةُ استئنافاً أخبر عنهم بذلك، وأن تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «يَسْجُدُ».
234
قوله تعالى: ﴿يَخَافُونَ﴾ يجوز فيها أن تكونَ مفسِّرةً لعدم استكبارِهم، كأنه قيل: ما لهم لا يَسْتكبرون؟ فَأُجِيبَ بذلك، ويُحْتمل أن تكونَ حالاً مِنْ فاعل «لا يَسْتكبرون» ومعنى ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ﴾ أي: عقابَه.
قوله: ﴿مِّن فَوْقِهِمْ﴾ يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن تتعلَّقَ ب «يَخافون»، أي: يخافون عذابَ ربهم كائناً مِنْ فوقهم؛ لأنَّ العذابَ إنما ينزل مِنْ فوقُ. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «ربهم» أي يخافون ربَّهم عالياً عليهم، قاهراً لهم، كقولِه تعالى: ﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨].
قوله تعالى: ﴿اثنين﴾ : فيه قولان، أحدُهما: أنه مؤكد ل «إلهَيْن» وعليه أكثرُ الناسِ، و «اتَّخذ» على هذا يحتمل أن تكونَ متعديةً لواحدٍ، وأن تكونَ متعديةً لاثنين، والثاني منها محذوفٌ، أي: لا تَتَّخذوا إلهين اثنين معبوداً.
والثاني: أنَّ «اثنين» مفعولٌ أولُ، وإنما أُخِّر، والأصلُ: لا تَتِّخذوا اثنين إلهين، وفيه بُعْدٌ.
وقال أبو البقاء: «هو مفعولٌ ثانٍ» وهذا كالغلط إذ لا معنى لذلك البتةَ، وكلامُ الزمخشري هنا يُفْهِم أنه ليس بتأكيدٍ فإنه قال: «فإنْ قلتَ: إنما جمعوا بين العددِ والمعدودِ فيما وراء الواحدِ والاثنين، فقالوا: عندي رجالٌ ثلاثةٌ وأفراسٌ أربعةٌ؛ لأنَّ المعدودَ عارٍ عن العدد الخاص، فأمَّا رجل ورجلان وفَرَسٌ وفرسان فمعدودان فيهما دلالةً على العدد، فلا حاجةَ على أَنْ يقال: رجل واحد، ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى ﴿إلهين اثنين﴾ ؟ قلت: الاسمُ الحاملُ لمعنى الإِفرادِ أو التثنيةِ دَلَّ على شيئين: على الجنسيةِ والعددِ المخصوصِ، فإذا أُريدت الدلالةُ على أن المعنيَّ به منهما والذي يُساق إليه الحديثُ هو العددُ شُفِع بما يؤكِّد العددَ، فدلَّ به على القصدِ إليه والعنايةِ به، ألا ترى أنك لو قلْتَ: إله، ولم تؤكِّده بواحدٍ لم يَحْسُنْ، وخُيِّل أنك تُثْبِتُ الإِلهيةَ لا الوَحْدانية».
وقال الشيخ: «لمَّا كان الاسمُ الموضوع للإِفراد والتثنية قد يُتَجَوَّزُ به فَيُراد به الجنسُ نحو: نِعم الرجلُ زيدٌ، ونِعْم الرجلان الزيدان، وقول
235
الشاعر: /
٢٩٧ - ٧- فإنَّ النارَ بالعُوْدَيْنِ تُذْكَى وإنَّ الحربَ أَوَّلُها الكلامُ
أكَّدَ الموضوعَ لهما بالوصفِ فقيل: إلهين اثنين، وقيل: إله واحد».
قوله: «فإيَّايَ» منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ مقدرٍ بعدهن يُفَسِّره هذا الظاهرُ، أي: إياي ارهبوا فارْهَبون. وقدَّر ابنُ عطية «ارهَبوا إيَّاي فارهبون». قال الشيخ: «وهو ذُهولٌ عن القاعدةِ النحوية، وهي أنَّ المفعولَ إذا كان ضميراً منفصلاً والفعلُ متعدٍّ لواحد وَجَبَ تأخيرُ الفعلِ نحو: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] ولا يجوزُ أن يتقدَّمَ إلا في ضرورةٍ كقوله:
٢٩٧ - ٨- إليك حتى بَلَغَتْ إيَّاكا... وهذا قد مَرَّ تقريرُه في أولِ البقرة. وقد يُجاب عن ابنِ عطية: بأنه لا يَقْبُحُ في الأمور التقديرية ما يقبح في [الأمورِ] اللفظيةِ. وفي قوله:»
فإيَّايَ «التفاتٌ من غَيْبة وهي قولُه ﴿وَقَالَ الله﴾ إلى تكلُّمٍ وهو قوله» فإيَّاي «ثم التفت إلى الغِيْبة أيضاً في قوله: ﴿وَلَهُ مَا فِي السماوات﴾.
236
قوله تعالى: ﴿وَاصِباً﴾ : حالٌ من «الدِّين» العاملُ فيها
236
الاستقرارُ المتضمِّنُ الجارُّ الواقعَ خبراً. والواصِبُ: الدائم، قال حسَّان:
٢٩٧ - ٩- غَيَّرَتْهُ الريحُ تَسْفِي بِهِ وهَزِيْمٌ رَعْدُهُ واصِبُ
[وقال] أبو الأسود:
٢٩٨ - ٠- لا أبتغيْ الحَمْدَ القليلَ بقاؤُه يوماً بِذَمِّ الدهرِ أَجْمَعَ واصِبا
والوَصِبُ: العليلُ لمداوَمَةِ السَّقَمِ له. وقيل: مِنَ الوَصَبِ وهو التَّعَبُ، ويكون حينئذٍ على النَّسَب، أي: ذا وَصَبٍ؛ لأن الدينَ فيه تكاليفُ ومَشَاقُّ على العبادِ، فهو كقوله:
٢٩٨ - ١-............................ ...... أضحى فؤادي به فاتِنا
أي: ذا فُتُوْن وقيل: الواصِبُ: الخالِصُ.
وقال ابن عطية: والواوُ في قوله: ﴿وَلَهُ مَا فِي السماوات﴾ عاطفةٌ على قولِه ﴿إله وَاحِدٌ﴾، ويجوزُ أن تكونَ واوَ ابتداء «. قال الشيخ:» ولا يُقال واوُ ابتداءٍ إلا لواوِ الحال، ولا تظهر هنا الحالُ «. قلت: وقد يُطْلِقون واوَ
237
الابتداء، ويريدون واوَ الاستئناف، أي: التي لم يُقْصَدْ بها عطفٌ ولا تَشْريكٌ، وقد نصُّوا على ذلك فقالوا: قد يُؤْتَى بالواو أولَ كلامٍ من غير قَصْدٍ إلى عَطفٍ. واسْتَدَلُّوا على ذلك بإتيانهم بها في أولِ قصائدِهم وأشعارِهم، وهو كثيرٌ جداً. ومعنى قولِه» عاطفة على قوله ﴿إله وَاحِدٌ﴾، أي: أنها عَطَفَتْ جملةً على مفرد، فيجبُ تأويلُها بمفردٍ لأنها عَطَفَتْ على الخبرِ فيكونُ خبراً، ويجوز على كونِها عاطفةً أن تكونَ عاطفةً على الجملة بأسرها، وهي قوله ﴿إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ وكأنَّ ابنَ عطية قَصَدَ بواوِ الابتداءِ هذا، فإنها استئنافيةٌ.
238
قوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُم﴾ : يجوز في «ما» وجهان، أحدهما: أن تكونَ موصولةً، والجارُّ صلتُها، وهي مبتدأٌ، والخبرُ قولُه ﴿فَمِنَ الله﴾ والفاءُ زائدةٌ في الخبر لتضمُّنِ الموصولِ معنى الشرطِ، تقديره: والذي استقرَّ بكم. و ﴿مِّن نِّعْمَةٍ﴾ بيان للموصول. وقدَّر بعضُهم متعلِّق «بكم» خاصَّاً فقال: «وما حَلَّ بكم أو نزل بكم» وليس بجيدٍ؛ إذ لا يُقَدَّرُ إلا كونٌ مطلقٌ.
والثاني: أنها شرطية، وفعلُ الشرطِ بعدها محذوفٌ وإليه نحا الفراء، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء. قال الفراء: «التقدير: وما يكنْ بكم». وقد رُدَّ هذا بأنه لا يُحْذَفُ فعلٌ إلا بعد «إنْ» خاصةً، في موضعين، أحدُهما: أن يكون في باب الاشتغال نحو: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك﴾ [التوبة: ٦] لأنَّ المحذوفَ في حكمِ المذكورِ. والثاني: أن تكونَ «إنْ» متلوَّةً ب «لا»
238
النافية، وأنْ يَدُلَّ على الشرطِ ما تقدَّمه من الكلامِ كقوله:
٢٩٨ - ٢- فطلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَك الحُسامُ
أي: وإن لا تُطَلِّقْها، فَحَذَفَ لدلالةِ قوله «فَطَلِّقْها» عليه فإن لم توجَدْ «لا» النافيةُ، أو كانت الأداةُ غيرَ «إنْ» لم يُحْذَفْ إلا ضرورةً، مثالُ الأول:
٢٩٨ - ٣- قالَتْ بناتُ العمِّ يا سَلْمَى وإنْ... كان غنياً مُعْدِماً قالت: وإنْ
أي: وإن كان غنياً رَضِيْتُه. ومثالُ الثاني:
٢٩٨ - ٤- صَعْدَة نابتةٌ في حائرٍ اَيْنَما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ
وقول الآخر:
٢٩٨ - ٥- فمتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو هـ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي
قوله: ﴿فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ الفاءُ جوابُ «إذا». والجُؤار رَفْعُ الصوتِ، قال رؤبة يصفُ راهباً. /
٢٩٨ - ٦-
239
يُراوِحُ مِنْ صلواتِ المَلِي كِ طَوْراً سُجوداً وطَوْراً جُؤاراً
ومنهم مَنْ قَيَّده بالاستغاثة، وأنشد الزمخشري:
٢٩٨ - ٧- جَآَّرُ ساعاتِ النيامِ لربِّه ..........................
وقيل: الجُؤَار كالخُوار، جَأَر الثورُ وخارَ واحد، إلا أنَّ هذا مهموزُ العين وذلك معتلُّها. وقال الراغب: «جَأَر إذا أفرط في الدعاء والتضرع، تشبيهاً بجُؤَارِ الوَحْشِيَّات».
وقرأ الزهري: «تَجَرون» بحذفِ الهمزةِ وإلقاء حركتها على الساكنِ قبلَها، كما قرأ نافع «رِدَّاً» في «رِدْءاً».
240
قوله تعالى: ﴿إِذَا كَشَفَ﴾ :«إذا» الأولى شرطيةٌ والثانيةُ فجائية جوابُها. وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ «إذا» الشرطية لا تكونُ معمولةً لجوابها؛ لأنَّ ما بعد «إذا» الفجائية لا يعمل فيما قبلَها.
وقرأ قتادة «كاشَفَ» على فاعَلَ. قال الزمخشري: «بمعنى فَعَل، وهو أقوى مِنْ» كَشَفَ «لأنَّ بناءَ المغالبةِ يدلُّ على المبالغة».
قوله: «منكم» يجوز أن يكونَ صفةً ل «فريق» و «مِنْ» للتبعيض، ويجوز أن تكونَ للبيان. قال الزمخشري: «كأنه قال: إذا فريقٌ كافرٌ، وهم أنتم».
قوله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُواْ﴾ : في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها لامُ كي، وهي متعلقةٌ ب «يُشْركون»، أي: إنَّ إشراكهم سببُه كفرُهم به. الثاني: أنها لامُ الصيرورةِ، أي: صار أمرُهم إلى ذلك. الثالث: أنها لامُ الأمرِ، وإليه نحا الزمخشريُّ.
وقرأ أبو العالية - ورواها مكحول عن أبي رافع مولَى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَيُمْتَعُوا» بضمِّ الياء مِنْ تحتُ، ساكنَ الميم مفتوحَ التاء، مضارعَ مُتِع مبنياً للمفعول. ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ بالياءِ مِنْ تحتُ أيضاً. وهذا المضارع في هذه القراءةِ يجوز أن يكونَ حَذْفُ النونِ فيه: إمَّا للنصبِ عطفاً على «ليكفروا» إنْ كانت لامَ كي، أو للصيرورة، وإمَّا للنصبِ أيضاً، ولكنْ على جوابِ الأمر إنْ كانت اللامُ للأمر. ويجوز أن يكونَ حَذْفُها للجزم عَطْفاً على «لِيَكْفُروا» إن كانت للأمر أيضاً.
قوله تعالى: ﴿لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ : الضميرُ في «يَعْلمون» يجوز أن يكونَ للكفار، أي: لِما لا يَعْلم الكفار، ومعنى لا يَعْلمونها: أنهم يُسَمُّونها آلهةً، ويعتقدون أنها تَضُرُّ وتنفع وتسمع، وليس الأمر كذلك. ويجوز أن يكونَ للآلهة وهي الأصنامُ، أي: لأشياءَ غيرِ موصوفةٍ بالعلم.
241
و «نصيباً» هو المفعول الأول، والجارُّ قبلَه هو الثاني، أي: ويُصيِّرون للأصنام نصيباً. و ﴿مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ يجوز أن يكونَ نعتاً ل «نصيباً»، وأن يتعلَّقَ بالجَعْلِ. ف «مِنْ» على الأول للتبعيض، وعلى الثاني للابتداء.
242
قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾ : يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن هذا جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر، أي: يجعلون لله البناتِ، ثم أخبر أنَّ لهم ما يَشْتَهون. وجوَّز الفراء والحوفيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء أن تكونَ «ما» منصوبةَ المحلِّ عطفاً على «البناتِ» و «لهم» عطفٌ على «الله»، أي: ويجعلون لهم ما يشتهون.
قال الشيخ: «وقد ذَهَلُوا عن قاعدةٍ نحوية: وهو أنه لا يتعدَّى فِعْلُ المضمرِ المتصلِ إلى ضميره المتصل إلا في باب ظنَّ وفي عَدَمِ وفَقَد، ولا فرقَ بين أن يتعدَّى الفعلُ بنفسِه أو بحرفِ الجر، فلا يجوز:» زيدٌ ضربه «، أي: ضربَ نفسَه، ولا» زيدٌ مَرَّ به «، أي: مرَّ بنفسه، ويجوز: زيدٌ ظنَّه قائماً»، و «زيدٌ فَقَده» و «عَدِمه»، أي: ظنَّ نفسَه قائماً وفَقَد نفسه وعَدِمها. إذ تقرَّر هذا فَجَعْلُ «ما» منصوبةً عطفاً على «البنات» يؤدِّي إلى تعدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصل وهو واو / «يَجْعَلون» إلى ضميرِه المتصل،
242
وهو «هم» في «لهم». انتهى ملخصاً.
وما ذكره يحتاج إلى إيضاحٍ أكثرَ مِنْ هذا فأقول فيها مختصراً: اعلمْ أنه لا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصلِ ولا فعلِ الظاهرِ إلى ضميرِهما المتصلِ، إلا في بابِ ظَنَّ وأخواتِها من أفعال القلوب، وفي فَقَد وعَدَمِ، فلا يجوز: «زيد ضربه» ولا «ضربه زيد»، أي: ضربَ نفسه. ويجوز: «زيد ظنَّه قائماً»، وظنَّه زيدٌ قائماً، و «زيد فَقَده وعَدِمه»، و «فَقَدَه وعَدِمَه زيد»، ولا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ظاهره في بابٍ من الأبواب، لا يجوز «زيداً ضرب»، أي: ضربَ نفسَه.
وفي قولي: «إلى ضميرِهما المتصلِ» قيدان أحدُهما: كونُه ضميراً فلو كان ظاهراً كالنفس لم يمتنع نحو: «زيدٌ ضَرَبَ نفسَه» و «ضَرَبَ نفسَه زيدٌ». والثاني: كونُه متصلاً، فلو كان منفصلاً جاز نحو: «زيدٌ ما ضربَ إلا إياه»، و «ما ضرب زيدٌ إلا إياه»، وعِلَلُ هذه المسألةِ وأدلتُها موضوعُها غيرُ هذا الموضوعِ، وقد أَتْقَنْتُها في «شرح التسهيل».
وقال مكي: «وهذا لا يجوزُ عند البصريين، كما لا يحوز جعلتُ لي طعاماً، إنما يجوز: جعلتُ لنفسي طعاماً، فلو كان لفظُ القرآن» ولأنفسِهم ما يَشْتَهون «جاز ما قال الفراء عند البصريين. وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليلٍ وبَسْطٍ كثير».
قلت: ما أشارَ إليه من المَنْعِ قد عَرفْتَه ولله الحمدُ مما قدَّمْتُه لك.
243
وقال الشيخ بعد ما حكى أنَّ «ما» في موضعِ نصبٍ عن الفراءِ ومَنْ تبعه: «وقال ابو البقاء - وقد حكاه -: وفيه نظرٌ». قلت: وأبو البقاء لم يجعلِ النظرَ في هذا الوجه، إنما جعله في تضعيفه بكونِه يؤدِّي إلى تَعَدِّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ ما اسْتُثْني فإنه قال: «وضَعَّف قومٌ هذا الوجهَ وقالوا: لو كان كذلك لقال: ولأنفسهم، وفيه نظرٌ» فجعل النظرَ في تضعيفِه لا فيه.
وقد يُقال: وَجْهُ النظرِ الممتنعُ تعدَّي ذلك الفعلِ، أي: وقوعُه على ما جُرَّ بالحرف نحو: «زيدٌ مَرَّ به» فإن المرورَ واقعٌ بزيد، وأمَّا ما نحن فيه فليس الجَعْلُ واقعاً بالجاعِلِين، بل بما يَشْتهون، وكان الشيخُ يَعْترض دائماً على القاعدةِ المتقدمةِ بقوله تعالى: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة﴾ [مريم: ٢٥] ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ [القصص: ٣٢] والجوابُ عنهما ما تقدَّم: وهو أنَّ الهَزَّ والضَّمَّ ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدَّم لنا هذا في مكانٍ آخرَ، وإنما أَعَدْتُه لصعوبتِه وخصوصيةِ هذا بزيادةِ فائدةٍ.
244
قوله تعالى: ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ﴾ : يجوز أن تكونَ على بابِها مِنْ كونِها تدلُّ على الإِقامة نهاراً على الصفةِ المسندةِ إلى اسمها، وأن تكونَ بمعنى صار، وعلى التقديرَيْن فهي ناقصةٌ، و «مُسْوَدّاً» خبرُها. وأمَّا «وجهُه» ففيه وجهان، المشهور - وهو المتبادَرُ إلى الذهن - أنه اسمها. والثاني: أنه
244
بدلٌ من الضميرِ المستتر في «ظل» بدلُ بعضٍ من كل، أي: ظلَّ أحدُهم وجهُه، أي: ظلَّ وجهُ أحدِهم.
قوله: «كَظِيم» يجوز ان يكونَ بمعنى فاعِل، وأن يكونَ بمعنى مَفْعول كقوله ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ [القلم: ٤٨]. والجملة حال من الضمير في «ظَلَّ»، أو مِنْ «وجهه»، أو من الضمير في «ظَلَّ». وقال أبو البقاء هنا: «فلو قُرِئ» مُسْوَدٌّ «يعني بالرفع لكان مستقيماً، على أن تَجْعَلَ اسمَ» ظَلَّ «مضمراً، والجملةُ خبرها». وقال في سورة الزخرف: «ويُقرآن بالرفع على أنه مبتدأٌ وخبر في موضعِ خبرِ» ظلَّ «.
245
قوله تعالى: ﴿يتوارى﴾ : يحتمل أن تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً ممَّا كانت الأُوْلى حالاً منه، إلا [مِنْ] «وجهُه» فإنه لا يليق ذلك به، ويجوز أن تكونَ حالاً من الضمير في «كظيم».
قوله: ﴿مِنَ القوم مِن سواء﴾ يُعَلِّق هنا جارَّان بلفظٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء، والثانية للعلة، أي: من أجلِ سُوْءِ ما بُشِّر به.
قوله ﴿أَيُمْسِكُهُ﴾. قال أبو البقاء: «في موضع الحال تقديرُه: يَتَوارى متردِّداً. هل يُمْسكه أم لا»، وهذا خطأٌ عن النَّحْويين؛ لأنهم نَصُّوا على أن
245
الحالَ لا تقع جملةً طلبيةً. والذي يظهر أنَّ هذه الجملةَ الاستفهاميةَ معمولةٌ لشيء محذوفٍ هو حالٌ مِنْ فاعل «يتوارى» المتممِ للكلام، أي: يتوارى ناظراً أو مفكَّراً: أيُمْسِكُه على هُوْن.
والعامَّةُ على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ «ما» وقرأ / الجحدريُّ ﴿أَيُمْسِكُها﴾، ﴿أَمْ يَدُسُّها﴾ مُراعاةً للأنثى أو لمعنى «ما». وقُرِئ ﴿أَيُمْسِكُهُ أَمْ يَدُسُّهُ﴾.
والجحدريُّ وعيسى قرآ على «هَوان» بزنة «قَذَالٍ»، وفرقةٌ على «هَوْنٍ» بفتح الهاء، وهي قَلِقَةٌ هنا؛ لأن «الهَوْن» بالفتح الرِّفقُ واللين، ولا يناسب معناه هنا، وأمَّا «الهَوان» فبمعنى هُوْن المضمومة.
قوله: ﴿على هُونٍ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ مِنَ الفاعلِ، وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عباس فإنه قال: يُمْسِكه مع رضاه بهوانِ وعلى رغمِ أنفِه.
والثاني: أنه حالٌ من المفعولِ، أي: يُمْسِكها ذليلةً مُهانةً.
والدَّسُّ: إخفاءُ الشيءِ وهو هنا عبارةٌ عن الوَأْد.
246
قوله تعالى: ﴿أَلْسِنَتُهُمُ الكذب﴾ : العامَّةُ على أنَّ «الكذبَ» مفعولٌ به، و ﴿أَنَّ لَهُمُ الحسنى﴾ بدلٌ منه بدلُ كلٍ مِنْ كل، أو على إسقاط الخافض، أي: بأنَّ لهم الحسنى.
246
وقرأ الحسن «أَلْسِنَتْهُمْ» بسكونِ التاءِ تخفيفاً، وهي تُشْبه تسكينَ لامِ ﴿بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: ٨٠]، وهمزة «بارِئْكم» ونحوه.
والأَلْسِنَةُ جمع «لِسان» مراداً به التذكير فجُمِع كما يُجْمَعُ فِعال المذكر نحو: حِمار وأَحْمِرة، وإذا أُريد به التأنيثُ جُمِعَ جمعَ أفْعُل كذِراع وأَذْرُع.
وقرأ معاذ بن جبل «الكُذُبُ» بضمِّ الكاف والذال ورفعِ الباء، على أنه جَمْعُ كَذُوب كصَبُور وصُبُر، وهو مقيسٌ، وقيل: جمع كاذِب نحو: شارِف وشُرُف، كقولها:
٣٩٨ - ٨- ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ ………......................
لكنه غيرُ مقيسٍ، وهو حينئذٍ صفةٌ ل «ألسنتهم»، وحينئذٍ يكون ﴿أَنَّ لَهُمُ الحسنى﴾ مفعولاً به. وقد تقدَّم الكلامُ في «لا جَرَمَ» مستوفى في هود.
قوله: ﴿وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ﴾ قرأ نافع بكسرِ الراءِ اسمَ فاعلٍ مِنْ أَفْرَطَ
247
إذا تجاوَزَ، فالمعنى: أنهم يتجاوزون الحَدَّ في معاصي الله تعالى. فأفْعَلَ هنا قاصرٌ. والباقون بفتحها اسمَ مفعولٍ مِنْ أَفْرَطْتُه، وفيه معنيان، أحدُهما: أنَّه مِنْ أَفْرطته خلفي، أي: تركتُه ونَسِيْتُه، حكى الفراء أنَّ العرب تقول: أَفْرِطْتُ منهم ناساً، أي: خَلَّفْتُهم، والمعنى: أنهم مَنْسِيًّون متروكون في النار. والثاني: أنه مِنْ أَفْرَطْتُه، أي: قَدَّمْتُه إلى كذا، وهو منقولٌ بالهمزة مِنْ فَرَط إلى كذا، أي: تقدَّم إليه، كذا قال الشيخ، وأنشد للقطامي:
٢٩٨ - ٩- واسْتَعْجَلُونْا وكانوا مِنْ صحابَتِنا كما تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
فَجَعَلَ «فَرَط» قاصراً و «أفرط» منقولاً. وقال الزمخشري: «بمعنى يتقدَّمون إلى النار، ويتعجَّلون إليها، مِنْ أَفْرَطْتُ فلاناً وفَرَطْتُه إذا قدَّمته إلى الماء»، فجعل فَعَل وأفْعَل بمعنى، لا أن أَفْعل منقولٌ مِنْ فَعَل، والقولان محتملان، ومنه «الفَرَطُ»، أي: المتقدم. قال عليه السلام: «أنا فَرَطُكم على الحوض»، أي: سابِقُكم. ومنه «واجعله فَرَطاً وذُخْراً»، أي: متقدِّماً بالشفاعةِ وتثقيلِ الموازين.
وقرأ أبو جعفر - في روايةٍ - «مُفَرِّطون» بتشديدِ الراءِ مكسورةً مِنْ
248
فَرَّط في كذا: أي: قَصَّر، وفي روايةٍ، مفتوحةً، مِنْ فَرَّطته مُعَدَّى بالتضعيفِ مِنْ فَرَط بالتخفيف، أي: تَقَدَّم وسَبَقَ.
وقرأ عيسى بن عمر والحسن «لا جَرَمَ إنَّ لهم النارَ وإنهم» بكسرِ «إنَّ فيهما على أنَّها جوابُ قسمٍ أَغْنَتْ عنه» لا جَرَمَ «.
249
قوله تعالى: ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم﴾ : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ حكايةَ حالٍ ماضيةٍ، أي: فهو ناصرُهم، أو آتيةٍ، ويراد باليوم يومُ القيامة، هذا إذا عاد الضمير على «أُمَم» وهو الظاهر.
وجَوَّز الزمخشريُّ أن يعودَ على قريش، فيكونَ حكايةَ حالٍ في الحال لا ماضيةٍ ولا آتيةٍ، وجوَّز أن يكون عائداً على «أمم» ولكنْ على حَذْفِ مضافٍ تقديره: فهو وَلِيٌّ أمثالِهم اليومَ. واستبعده الشيخُ، وكأنَّ الذي حمله على ذلك قولُه «اليومَ» فإنه ظرفٌ حالِيٌّ، وقد تقدَّم أنه على حكايةِ الحالِ الماضية أو الآتية.
قوله تعالى: ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ : فيه وجهان: أحدُهما: أنهما انتصبا على أنهما مفعولان مِنْ أجلهما، والناصبُ «أَنْزَلْنَا»، ولَمَّا اتَّحد الفاعلُ في العِلَّة والمعلول وَصَل الفعلُ إليهما بنفسه، ولَمَّا لم يتحَّدْ في قولِه: «وما أنْزَلْنا إلاَّ لِتُبَيِّن» ؛ لأنَّ فاعلَ الإِنزالِ، اللهُ وفاعلَ التبيينِ الرسولُ / وَصَلَ
249
الفعلُ إلى العلةِ بالحرفِ فقيل: ﴿إِلاَّ لِتُبَيِّنَ﴾، أي: لأَنْ تُبَيِّنَ، على أنَّ هذه اللامَ لا تَلْزَمُ من جهةٍ أخرى: وهي كونُ مجرورِها «أن». وفيه خلافٌ في خصوصيةِ هذه المسألةِ.
وهذا معنى قولِ الزمخشري فإنه قال: «معطوفان على محلِّ» لِتُبَيِّنَ «إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعولٌ لهما، لأنَّهما فِعْلُ الذي أَنْزَلَ الكتابَ، ودخلت اللامُ على» لتبيِّنَ «لأنه فِعْلُ المخاطبِ لا فِعْلُ المُنَزِّلِ، وإنما ينتصبُ مفعولاً له ما كان فعلَ الفاعلِ الفعل المعلل». قال الشيخ: «قوله: معطوفان على محل» لتبيِّنَ «ليس بصحيح؛ لأنَّ مَحَلَّه ليس نصباً فيُعطفَ منصوبٌ [عليه]، ألا ترى أنه لو نصبه لم يَجُزْ لاختلافِ الفاعل».
قلت: الزمخشريُّ لم يجعلِ النصبَ لأجل العطفِ على المحلِّ، إنما جَعَله بوصولِ الفعلِ إليهما لاتحادِ الفاعلِ كما صَرَّح به فيما حكيْتُه عنه آنفاً، وإنما جَعَلَ العطفَ لأجل التشريكِ في العِلِّيَّةِ لا غير، يعني أنهما علتان، كما أنَّ «لتبيِّنَ» علةٌ. ولَئِنْ سَلَّمْنا أنه نُصِب عطفاً على المحلِّ فلا يَضُرُّ ذلك. قوله: «لأنَّ محلَّه ليس نصباً» ممنوعٌ، وهذا ما لا خلافَ فيه: مِنْ أنَّ محلَّ الجارِّ والمجرورِ النصبُ لأنه فَضْلَةٌ، إلا أنْ يقومَ مقامَ مرفوعٍ، ألا ترى إلى تخريجِهم قولَه ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] في قراءة النصبِ على العطف على محلِّ «
250
برؤوسكم»، ويُجيزون «مَرَرْتُ بزيدٍِ وعمراً» على خلافٍ في ذلك، بالنسبة إلى القياسِ وعدمِه لا في أصلِ المسألة. وهذا بحثٌ حسنٌ تركه المَرْدُودُ عليه.
251
قوله تعالى: ﴿نُّسْقِيكُمْ﴾ : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة، كأنه قيل: كيف العِبْرة؟ فقيل: نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً. ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ، أي: هي، أي: العِبْرَةُ نُسْقيكم، ويكون كقولهم: تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه «.
وقرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر»
نَسْقيكم «بفتح النون هنا وفي المؤمنين. والباقون بضمَّها فيهما. واختلف الناس: هل سَقَى وأَسْقى لغتان، بمعنىً واحدٍ أم بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور. فقيل: هما بمعنىً، وأنشد جمعاً بين اللغتين:
٢٢٩ - ٠- سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ
دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب. و»
نُمَيْراً «هو المفعول الثاني: أي: ماءٌ نُمَيْراً. وقال أبو عبيد:» مَنْ سَقَى الشِّفَةِ: سَقَى فقط، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ. أَسْقَى، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرها: أَسْقَى فقط «. وقال
251
الأزهري:» العربُ تقول ما كان من بطونِ الأنعام، ومن السماء، أو نهرٍ يجري، أَسْقَيْتُ، أي: جَعَلْتُ شِرْباً له وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا؟، فإذا كان للشَّفَة قالوا: سَقَى، ولم يقولوا: أسقى «.
وقال الفارسي:»
سَقَيْتُه ختى رَوِيَ، وأَسْقَيْتُه نهراً، أي: جَعَلْتُه له شِرْباً «. وقيل» سَقاه إذا ناوله الإِناءَ ليشربَ منه، ولا يُقال مِنْ هذا: أَسْقاه.
وقرأ أبو رجاء «يُسْقِيْكم» بضمِّ الياء من أسفلَ وفي فاعلِه وجهان، أحدُهما: هو الله تعالى، الثاني: أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولُ عليه بالأنعامِ، أي: نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا. وقُرئ «تًسْقيكم» بفتح التاء من فوق. قال ابن عطية: «وهي ضعيفةٌ». قال الشيخ: «وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ - أنه أنَّثَ في» تِسْقِيْكم «، وذَكَّر في قوله ﴿مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين». قلت «وضَعْفُها عنده من حيث المعنى: وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام.
قوله: ﴿مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ يجوز أن تكونَ»
مِنْ «للتبعيض، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية. وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً. قال
252
الزمخشري:» ذكر سيبويه الأنعامَ في باب «ما لا ينصرف» في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم: ثوبٌ أَكْياش، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً، وأمَّا «في بطونها» في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع. ويجوز أن يُقال في «الأنعام» وجهان، أحدهما: أن يكون تكسير «نَعَم» كأَجْبال في جَبَل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [كَنَعم]، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ «نَعَم» في قوله:
٢٩٩ - ١- في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ
وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان: أنه تكسير «نَعَم»، وأنَّه في معنى الجمع «.
قال الشيخ: أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في:»
هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه: «وأمَّا أَجْمال وفُلُوس فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول: أَقْوال وأقاويل، وأعراب وأعاريب وأَيْدٍ وأيادٍ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعِل
253
ومفاعيل، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع. وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ». ثم قال: «وكذلك الفُعُوْل لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل، كما تقول: جَدُود وجَدائد ورَكوب وركائب، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول: أُتِيَّ فَيَضُمُّ الألفَ. وأمَّا أفْعَال فقد يقع للواحد، مِنَ العرب مَنْ يقول: هو الأنعام: قال الله عز وجل ﴿نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾. وقال أبو الخطاب:» سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول: هذا ثوبٌ أكياش «.
قال:»
والذي ذكر سيبويهِ هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا، ولم يَنصَرِفْ مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ: «أُتِيّ» بضمِّ الهمزة، يعني أنه قد جاءَ نادراً فُعول من غير المصدرِ للمفرد، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوْقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول: «هو الأنعامُ»، وإنما يعني أنَّ ذلك على سبيل المجاز؛ لأن الأنعامَ في
254
معنى النَّعَم، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال:
٢٩٩ - ٢- تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى وقلنا للنساءِ بها أَقيمي
ولذلك قال سيبويه: «وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد» فقوله «قد يقع للواحد» دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ، فقولُ الزمخشري: «أنه ذكره في الأسماء المفردة على أَفْعال» تحريفٌ في اللفظ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه. ويَدُلُّ على ما قلناه أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ نَصَّ على أنَّ أَفْعالاً ليس من أبنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة: «وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعَوْل ولا أُفْعال ولا أَفْعِيْل ولا أَفْعال، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع». قال: «فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة».
قلتُ: الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه وهو كافٍ في تسويغ عَوْد الضمير مفرداً، وإن كان أَفْعال قد يقع موقعَ الواحد مجازاً فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه، ولم يُحَرِّفْ لفظَه، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه.
وقيل: إنما ذَكَّر الضميرَ لأنه يعودُ على البعض وهو الإِناث؛ لأنَّ الذكورَ
255
لا أَلْبانَ لها، فكأنَّ العِبْرَة هي بعض الأنعام. وقال الكسائي: «أي في بطونِ ما ذَكَرَ». قال المبرد: «وهذا شائعٌ في القرآن، قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ [عبس: ١١١٢]، أي: ذَكَر هذا الشيءَ. وقال تعالى: ﴿فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٨]، أي: هذا الشيءُ الطالعُ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ، لا يجوز: جاريتُك ذهب». قلت: وعلى ذلك خُرِّج قوله:
٢٩٩ - ٣- فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ
أي: كأنَّ المذكورَ. وقيل: جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة، ومن الأولِ قولُ الشاعر: /
٢٩٩ - ٤- مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ... وقيل: أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهِم الجمعَ، فإنه يَسُد مَسَدَّه «نَعَم»، و «نَعَم» يُفْهِم الجمعَ ومثلُه قولُه:
٢٩٩ - ٥-
256
وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ... لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن، ومثلُه قولهم «هو أحسنُ الفتيان وأجملُه»، أي: أحسنُ فتىً، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه.
وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ. والسادس: أنه يعود على الفحل؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ، فأصلُ اللبنِ [ماءُ] الفحلِ قال: «وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فقد جَمَعَ البطون، وليس فحلُ الأنعام واحداً ولا للواحد بطونٌ. فإن قال: أراد الجنسَ فقد ذُكِر». يعني أنه قد تقدَّم أن التذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على «فَحْل» المرادِ به الجنسُ. قلت: وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ولم يُعْقِبْه بنكير.
قوله: ﴿مِن بَيْنِ فَرْثٍ﴾ يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلقٌ بالسَّقْي، على أنها لابتداءِ الغاية، فإن جَعَلْنا ما قبلها كذلك تَعَيَّن أن يكونَ مجرورُها بدلاً مِنْ مجرور «مِنْ» الأولى؛ لئلا يتعلَّقَ عاملان متحدان لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحد وهو ممتنعٌ. وهو مِنْ بدلِ الاشتمالِ؛ لأن المكانَ مشتمِلٌ على ما حَلَّ فيه. وإن جعلْتَها للتبعيض هان الأمرُ.
الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «لَبَناً» ؛ إذْ لو تأخَّرَتْ
257
لكانَتْ مع مجرورِها نعتاً له. قال الزمخشري: «وإنما تقدَّم لأنه موضعُ العِبْرة، فهو قَمِنٌ بالتقديم».
الثالث: أنَّها مع مجرورِها حالٌ من الموصولِ قبلها.
والفَرْث: فُضالةُ ما يَبْقى مِنَ العَلَفِ في الكِرْش، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في المَعِيّ. ويقال: فَرَثَ كّبِدَه، أي: فتَّتها، وأَفْرث فلانٌ فلاناً: أوقعه في بَليَّةٍ تجري مجرى الفَرْث.
قوله: «لَبَنا» هو المفعولُ الثاني لنُسْقي. وقرئ «سَيِّغاً» بتشديد الياء بزِنة «سَيِّد»، وتصريفُه كتصريفِه. وخَفَّفه عيسى بن عمر نحو: مَيْت وهَيْن. ولا يجوز أن يكون فَعْلاً؛ إذ كان يجب أن يكونَ «سَوْغاً» كقَوْل.
258
قوله تعالى: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل﴾ : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه متعلقٌ بمحذوف، فقدَّره الزمخشريُّ: «ونُسْقيكم من ثمراتِ النخيل والأعناب، أي: مِنْ عصيرِها، وحُذِف لدلالةِ» نُسْقيكم «قبلَه عليه». قال: «وتَتَّخذون: بيانٌ وكَشْفٌ عن كيفية الإِسقاء». وقدَّره أبو البقاء: «خَلَقَ لكم وجَعَلَ لكم».
258
وما قدَّره الزمخشريُّ أَلْيَقُ، لا يُقال: لا حاجةَ إلى تقدير «نُسْقيكم» بل قولُه ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ﴾ عطفٌ على قولِه ﴿مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ فيكون عَطَفَ بعضَ متعلِّقاتِ الفعلِ الأولِ على بعضٍ، كما تقول: «سَقَيْتُ زيداً من اللبن ومن العسل» فلا يحتاج إلى تقديرِ فعلٍ قبل قولك «من العسل»، لا يُقال ذلك لأنَّ «نُسْقيكم» الملفوظَ به وقع تفسيراً لِعبْرة الأنعام فلا يَليقُ تَعَلُّق هذا به، لأنه ليس من العِبْرة المتعلقةِ بالأنعام. قال الشيخ: «وقيل: متعلِّقٌ ب» نُسْقيكم «. فيكونُ معطوفاً على ﴿مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ أو ب» نُسقيكم «محذوفةً دلَّ عليها» نُسْقِيكم «. انتهى. ولم يُعْقِبْه بنكير، وفيه ما قَدَّمْتُه آنفاً.
الثاني: أنه متعلِّقٌ ب»
تَتَّخذون «و» منه «تكريرٌ للظرف توكيداً نحو:» زيدٌ في الدارِ فيها «قاله الزمخشريٌّ. وعلى هذا فالهاءُ في» منه «فيها ستةُ أوجهٍ. أحدها: أنها تعودُ على المضافِ المحذوفِ الذي هو العصيرُ، كما رَجَعَ في قوله ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] إلى الأهلِ المحذوفِ. الثاني: أنها تعود على معنى الثمراتِ لأنها بمعنى الثَّمَر. الثالث: أنها تعودُ على النخيل. الرابع: أنها تعودُ على الجنس. الخامس: أنها تعودُ على البعض. السادس: أنها تعود على المذكور.
الثالث من الأوجهِ الأُوَلِ: أنه معطوفٌ على قولِه ﴿فِي الأنعام﴾، فيكونُ في المعنى خبراً عن اسمِ»
إنَّ «في قوله: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً﴾، التقدير: وإنّ لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لَعِبْرَةً، ويكونُ قوله» تتخذون «بياناً وتفسيراً للعِبْرة كما وقع» نُسْقِيكم «تفسيراً لها أيضاً.
259
الرابع: أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ فقدَّره الطبريُّ:» ومن ثمراتِ النخيل ما تتَّحذون «/ قال الشيخ:» وهو لا يجوزُ على مذهبِ البصريين «. قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ له أن يقول: ليسَتْ» ما «هذه موصولةً، بل نكرةٌ موصوفةٌ، وجاز حَذْفُ الموصوفِ والصفةُ جملةٌ، لأن في الكلام» مِنْ «، ومتى كان في الكلام» مِنْ «اطَّرد الحذفُ نحو:» منا ظَعَنَ ومنا أقام «ولهذا نظَّره مكيٌّ بقولِه تعالى: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ﴾ [الصافات: ١٦٤]، أي: إلا مَنْ له مقام.
قال: فَحُذِفَتْ «»
مَنْ «لدلالةِ» مِنْ «عليها في قوله» وما مِنَّا «. ولما قدَّر الزمخشري الموصوفَ قدَّره: ثَمَرٌ تتخذون، ونظَّره بقول الشاعر:
٢٩٩ - ٦- يَرْمي بكفِّيْ كان مِنْ أَرْمى البشر... تقديرُه: بكفَّيْ رجل، إلاَّ أنَّ الحذفَ في البيت شاذٌّ لعدم»
مِنْ «: ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال:» وقيل: هو صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: شيئاً تتخذون منه، بالنصب، أي: وإنَّ من ثمراتِ النخيل. وإن شئت «شيء» بالرفعِ بالابتداء، و ﴿مِن ثَمَرَاتِ﴾ خبرُه «.
والسَّكَر: - بفتحتين - فيه أقوال، أحدها: أنه من أسماءِ الخمر، كقول الشاعر:
٢٩٩ - ٧-
260
بئس الصُّحاةُ وبئس الشَّرْبُ شَرْبُهُمُ إذا جَرَى فيهم المُزَّاءُ والسَّكَرُ
الثاني: أنه في الأصل مصدرٌ، ثم سُمِّي به الخمرُ. يقال: سَكِر يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً، نحو: رَشِد يَرْشَدُ رُشْداً ورَشداً.
قال الشاعر:
٢٩٩ - ٨- وجاؤُوْنا بهم سَكَرٌ علينا فَاَجْلَى اليومُ والسَّكْران صاحي
قاله الزمخشري. الثالث: أنه اسمٌ للخَلِّ بلغةِ الحبشة، قاله ابن عباس. الرابع: أنه اسمٌ للعصير ما دام حُلْواً، كأنه سُمِّي بذلك لمآله لذلك لو تُرِكَ. الخامس: أنه اسمٌ للطُعْم قاله أبو عبيدة، وأنشد:
٢٩٩ - ٩- جَعَلْتَ أعراضَ الكرامِ سَكَراً... أي: تتقلَّبُ بأعراضِهم. وقيل في البيت: إنه من الخمر، وإنه إذا انتهك أعراضَ الناسِ كأنه تَخَمَّر بها.
وقوله: ﴿وَرِزْقاً حَسَناً﴾ يجوز أن يكونَ مِنْ عطف المغايِرات،
261
وهو الظاهرُ. وفي التفسير: أنه كالزَّبيب والخَلِّ ونحوِ ذلك، وأن يكونَ من عطفِ الصفاتِ بعضِها على بعضٍ، أي: تتخذون منه ما يُجْمَعُ بين السَّكَرِ والرِّزْقِ الحسن كقوله:
٣٠٠ - ٠- إلى المَلِكِ القَرْمِ وابن الهُمامِ ............................
البيت.
262
قوله تعالى: ﴿أَنِ اتخذي﴾ : يجوز أن تكونَ مفسِّرةً، وأن تكون مصدريةً. واستشكل بعضُهُم كونَها مفسرةً. قال: «لأنَّ الوَحْيَ هنا ليس فيه معنى القول؛ إذ هو إلهامٌ لا قولَ فيه». وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القولَ لكلِّ شيءٍ بحسَبِه.
والنَّحْلُ: يذكَّر ويؤنَّث على قاعدةِ أسماء الأجناس. والتأنيثُ فيه لغةُ الحجاز، وعليها جاء ﴿أَنِ اتخذي﴾. وقرأ ابن وثَّاب «النَحَل» فيُحتمل أن يكون لغةً مستقلةً، وأن يكونَ إتباعاً.
و ﴿مِنَ الجبال﴾ «مِنْ» فيه للتبعيض؛ إذ لا يتهيَّأُ لها ذلك في كلِّ جبلٍ ولا شجرٍ. وتقدَّم القول في «يَعْرِشُونَ»، ومَنْ قرأ بالكسر والفتحِ في الأعراف.
قوله تعالى: ﴿ذُلُلاً﴾ : جمع ذَلُول. ويجوز أن تكونَ حالاً مِن السُّبُل، أي: ذَلَّلها اللهُ تعالى، كقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ
262
الأرض ذَلُولاً} [الملك: ١٥]، وأن تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «اسْلُكي»، أي: مطيعةً منقادةً. وفي التفسير المعنيان منقولان.
وانتصابُ «سُبُل» يجوز أن يكونَ على الظرفية، أي: فاسْلُكي ما أكلْتِ في سُبُلِ ربِّك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النَّوْر ونحوه عَسَلاً، وأن يكونَ مفعولاً به، أي: اسْلكي الطرقَ التي أَفْهَمَكِ وعلَّمَكِ في عَمَلِ العسل. و «مِنْ» في ﴿مِن كُلِّ الثمرات﴾ يجوز ان تكونَ تبعيضيةً، وأن تكونَ للابتداء على معنى: أنها تأكُلُ شيئاً ينزل من السماء شِبْهَ التَّرَنْجَبِيْن على وَرَق الشجر وثمارِها، لا أنها تأكلُ نَفْسَ الثمرات، وهو بعيدٌ جداٌ.
قوله: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا﴾ التفاتٌ وإخبارٌ بذلك، ولو جاءَ على الكلام الأوَّل لقيل: مِنْ بطونِك. والهاء في / «فيه» تعودُ على «شَراب»، وهو الظاهرُ، وقيل: تعودُ على القرآن.
263
قوله تعالى: ﴿لِكَيْ لاَ﴾ : في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أنها لامُ التعليل، و «كي» بعدها مصدريةٌ ليس إلا، وهي ناصبةٌ بنفسِها للفعلِ بعدَها، وهي ومنصوبُها في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ باللام، واللامُ متعلقةٌ ب «يُرَدُّ». وقال الحوفيُّ: «إنها لامُ كي، وكي للتأكيد» وفيه نظرٌ؛ لأنَّ اللامَ للتعليلِ و «كي» مصدريةٌ لا إشعارَ لها بالتعليل والحالةُ هذه، وأيضاً فعلمُها مختلفٌ.
263
الثاني: إنها لامُ الصَّيْرورةِ.
قوله: «شيئاً» يجوز فيه التنازع؛ وذلك أنه تقدمه عامِلان: «يَعْلَمَ» و «عِلْمٍ». فعلى رأيِ البصريين - وهو المختار - يكون منصوباً ب «عِلْم»، وعلى رأيِ الكوفيين يكون منصوباً ب «يَعلم». وهو مردودٌ؛ إذ لو كان كذلك لأَضْمَرَ في الثاني، فكان يُقال: لكيلا يعلمَ بعد عِلْمٍ إياه شيئاً.
264
قوله تعالى: ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ : في هذه الجملةِ أوجهٌ، أحدُها: أنها على حَذْفِ أداةِ الاستفهام تقديرُه: أَفَهُمْ فيه سواءٌ، ومعناه النفيُ، أي: ليسوا مُسْتَوين فيه. الثاني: أنها إخبارٌ بالتساوي، بمعنى: أن ما تُطْعِمونه وتُلْبِسونه لمماليككم إنما هو رِزْقي أَجْرَيْتُه على أيديهم، فهم فيه سواءٌ. الثالث: قال أبو البقاء: «إنها واقعةٌ موقعَ فعلٍ»، ثم جَوَّز في ذلك الفعلِ وَجْهَيْنِ، أحدهما: أنه منصوبٌ في جوابِ النفي تقديرُه: فما الذين فُضِّلوا برادِّي رزقِهم على ما ملكَتْ أيمانُهم فيَسْتَوُوا. والثاني: أنه معطوفٌ على موضع «برادّي» فيكون مرفوعاً تقديرُه: فما الذين فُضِّلوا يَرُدُّون فما يَسْتَوُوْن.
وقرأ أبو بكر «تَجْحَدون» بالخطابِ مراعاةً لقولِه «بعضَكم»، والباقونَ بالغَيْبَةِ مراعاةً لقولِه ﴿فَمَا الذين فُضِّلُواْ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَحَفَدَةً﴾ : في «حَفَدَة» أوجهٌ. أظهرُها: أنه معطوفٌ على «بنين» بقيدِ كونِه من الأزواج، وفُسِّر هنا بأنه
264
أولادُ الأولادِ. الثاني: أنه مِنْ عطفِ الصفاتِ لشيءٍ واحدٍ، أي: جَعَلَ لكم بنينَ خَدَماً، والحَفَدَةُ: الخَدَمُ. الثالث: أنه منصوبٌ ب «جَعَلَ» مقدرةً، وهذا عند مَنْ يُفَسِّر الحَفَدة بالأعوان والأَصْهار، وإنما احتيج إلى تقدير «جَعَلَ» لأنَّ «جَعَلَ» الأولى مقيدةٌ بالأزواج، والأعوانُ والأصهارُ ليسوا من الأزواج.
والحَفَدَةُ: جمع حافِد كخادِم وخَدَم. وفيهم للمفسرين أقوالٌ كثيرةٌ، واشتقاقُهم مِنْ قولِهم: حَفَد يَحْفِد حَفْداً وحُفوداً وحَفَداناً، أي: أسرع في الطاعة. وفي الحديث: «وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ»، أي: نُسْرِعِ في طاعتِك. قال الأعشى:
٣٠٠ - ١- كَلَّفْتُ مجهولَها نُوْقاً يَمانيةً إذا الحُداة على أَكْسائها حَفَدُوا
وقال الآخر:
٣٠٠ - ٢- حَفَدَ الولائدُ حولَهُنَّ وأَسْلَمَتْ بأكفِّهنَّ أَزِمَّةَ الأجْمالِ
ويستعمل «حَفَدَ» أيضاً متعدياً. يقال: حَفَدَني فهو حافِدٌ، وأُنْشِد:
265
وحكى أبو عبيدة أنه يقال: «أَحْفَدَ» رباعياً. وقال بعضهم: «الحَفَدَةُ: الأَصْهار، وأنشد:
٣٠٠ - ٣- يَحْفِدون الضيفَ في أبياتِهمْ كَرَماً ذلك منهم غيرَ ذُلّْ
٣٠٠ - ٤- فلو أنَّ نفسي طاوَعَتْني لأصبحَتْ لها حَفَدٌ ممَّا يُعَدُّ كثيرُ
ولكنها نَفسٌ عليَّ أَبِيَّةٌ عَيُوفٌ لإِصهارِ اللِّئامِ قَذْوْرُ
ويقال: سيفٌ مُحْتَفِدٌ، أي: سريعُ القطع. وقال الأصمعيُّ:» أصلُ الحَفْدِ: مقارَبَةُ الخَطْوِ «.
و»
مِنْ «في ﴿مِّنَ الطيبات﴾ للتبعيض.
266
قوله تعالى: ﴿شَيْئاً﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ، أي: لا يَمْلِكُ لهم مِلْكاً، أي: شيئاً من المِلْك. والثاني: أنه بدلٌ مِنْ «رِزْقاً»، أي: لا يَمْلِكُ لهم شيئاً. وهذا غيرُ مفيدٍ؛ إذ من المعلومِ أنَّ الرزقَ شيءٌ من الأشياء، ويؤيِّد ذلك: أنَّ البدلَ يأتي لأحدِ معنيين: البيانِ أو التأكيد، وهذا ليس فيه بيانٌ؛ لأنه أعمُّ، ولا تأكيدَ. الثالث: أنه منصوبٌ ب «رِزْقاً» على أنه اسمُ مصدرٍ، واسمُ المصدرِ يعمل عملَ المصدرِ على خلافٍ في ذلك.
ونقل مكيٌّ أن اسمَ المصدرِ لا يعملُ عند البصريين إلا في شعرٍ. قلت: وقد اختلفتِ النقلةُ / عند البصريين: فمنهم مَنْ نَقَلَ المَنْعَ، ومنهم مَنْ
266
نَقَلَ الجوازَ. وقد ذكر الفارسيُّ انتصابَه ب «رِزْقاً» كما تقدَّم. ورَدَّ عليه ابنُ الطَّراوة بأن الرزْقَ اسم المرزوق كالرَّعْيِ والطَّحْن. ورُدَّ على ابنِ الطراوة: بأنَّ الرِّزْقَ بالكسرِ أيضاً مصدرٌ، وقد سُمِعَ فيه ذلك. قلت: فظاهرُ هذا أنه مصدرٌ بنفسِه لا اسمُ مصدرٍ.
وقوله: ﴿مِّنَ السماوات﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه متعلقٌ ب «يملك»، وذلك على الإِعرابين الأوَّلَيْنِ في نصبِ «شيئاً». الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «رزقاً». الثالث: أن يتعلَّقَ بنفس «رِزْقاً» إن جعلناه مصدراً. وقال ابن عطية: - بعد أن ذكر إعمالَ المصدرِ منوَّناً - «والمصدرُ يعمل مضافاً باتفاق؛ لأنه في تقديرِ الانفصالِ، ولا يَعْمَل إذ دخله الألفُ واللام؛ لأنه قد تَوَغَّلَ في حالِ الأسماءِ، وبَعُد عن الفعليَّة، وتقدير الانفصالِ في الإِضافةِ حَسَّنَ عملَه، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشَّاعر:
٣٠٠ - ٥- ضعيفُ النكايةِ أعداءَه ...............................
[وقوله] :
267
قال الشيخ:» أمَّا قولُه «باتفاق» : إن عَنَى من البصريين فصحيحُ، وإن عَنَى مِنَ النحويين فليس بصحيح؛ إذ قد ذهب بعضُهم إلى أنه لا يعمل. فإن وُجِد بعده منصوبٌ أو مرفوعٌ قَدَّر له عاملاً. وأمَّا قولُه «في تقدير الانفصال» فليس كذلك؛ لئلا تكون إضافتُه غيرَ محضةٍ، كما قال به ابن الطراوة وابن بَرْهان. ومذهبُهما فاسدٌ؛ لأنَّ هذا المصدرَ قد نُعِتَ وأُكِّد بالمعرفة. وقوله «لا يعمل» إلى آخره ناقَضَه بقولِه «وقد جاء عاملاً» إلى آخرِه.
قلت: فغايةُ ما في هذا أنه نحا إلى أقوالٍ قال بها غيرُه. وأمَّا المناقضةُ فليست صحيحةً؛ لأنه عَنَى أولاً أنه لا يَعْمل في السِّعَة، وثانياً أنه قد جاء عاملاً في الضرورة، ولذلك قيَّده فقال: «في قول الشاعر».
قوله: ﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ يجوز في الجملة وجهان: العطفُ على صلةِ «ما»، والإِخبارُ عنهم بنفيِ الاستطاعةِ على سبيلِ الاستئنافِ، ويكون قد جَمَع الضميرَ العائدَ على «ما» باعتبارِ معناها؛ إذ المرادُ بذلك آلهتُهم، ويجوز أن يكونَ الضميرُ عائداً على العابدين.
268
قوله :﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٧٤ ]، حُذِفَ مفعولُ :" العِلْمِ "، اختصاراً، أو اقتصاراً.
قوله تعالى: ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ﴾ : يجوزُ في «مَنْ» هذه أن
268
تكونَ موصولةً، وأن تكونَ موصوفةً. واختاره الزمخشري قال: «كأنه قيل: وحُرَّاً رَزَقْناه، ليطابِقَ عَبْداً». ومحلُّها النصبُ عطفاً على «عبداً». وقد تقدَّم الكلامُ في المَثَلِ الواقعِ بعد «ضَرَبَ».
قوله: ﴿سِرّاً وَجَهْراً﴾ يجوز أن يكونَ منصوباً على المصدر، أي: إنفاقَ سِرٍّ وجَهْر، ويجوز أن يكونَ حالاً.
قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ إنما جُمِعَ الضميرُ وإن تَقَدَّمَه اثنان؛ لأنَّ المرادَ جنسُ العبيدِ والأحرارِ المدلولِ عليهما بعبد وبمَنْ رَزَقْنَاه. وقيل: على الأغنياءِ والفقراءِ المدلولِ عليهما بهما أيضاً. وقيل: اعتباراً بمعنى «مَنْ» فإنَّ معناها جمعٌ، راعى معناها بعد ان راعَى لفظَها.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٧٤] حُذِفَ مفعولُ العِلْمِ اختصاراً أو اقتصاراً.
269
والكَلُّ: الثقيل، والكَلُّ: العِيال، والجمع: كُلُول. والكَلُّ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والدَ، والكَلُّ أيضاً: اليتيم، سُمِّي بذلك لثِّقْلِه على كافِلِه. قال الشاعر:
٣٠٠ - ٦-......................... فلم أَنْكِلْ عن الضَرْبِ مِسْمَعا
٣٠٠ - ٧- أَكُولٌ لِمالِ الكَلِّ قبل شبابِه إذا كان عَظْمُ الكَلِّ غيرَ شديدِ
قوله: ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ﴾ شرطٌ وجزاؤُه. وقرأ ابنُ مسعودٍ
269
وابن وثاب وعلقمةُ «يُوَجِّهْ» بهاءٍ ساكنة للجزم. وفي فاعلِه وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الباري تعالى، ومفعولُه محذوفٌ، تقديرُه كقراءةِ العامة. والثاني: أنه ضميرُ الأبكم، ويكون «يُوَجِّه» لازماً بمعنى تَوَجَّه، يقال: وَجَّه وتَوَجَّه بمعنى.
وقرأ علقمةُ أيضاً وطلحةُ كذلك، إلا أنه بضم الهاء، وفيها أوجهُ، أحدها: أنَّ «أينما» ليست هنا شرطيةً و «يُوَجِّهُ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: أينما هو يُوَجِّهُ، أي: الله تعالى، والمفعولُ محذوفٌ/ أيضاً، وحُذِفَتْ الياءُ مِنْ ﴿لاَ يَأْتِ﴾ تخفيفاً، كما حُذِفَتْ في قولِه ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ [هود: ١٠٦] و ﴿إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: ٤]. ورُدَّ هذا بأن «أينما» إما شرط أو استفهام فقط، والاستفهام هنا غير لائق. والثاني أنَّ لامَ الكلمةِ حُذِفَتْ تخفيفاً لأجلِ التضعيفِ، وهذه الهاءُ هي هاءُ الضمير فلم يُحِلَّها جزم. ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرازي.
الثالث: أن «أينما» أُهْمِلَتْ حَمْلاً على «إذا» لما بينهما من الأُخُوَّة في الشرط، كما حُمِلَتْ «إذا» عليها في الجزم في نفسِ المواضع، وحُذِفت الياءُ مِنْ «يَأْتِ» تخفيفاً أو جزماً على التوهم، ويكون «يُوَجِّهُ» لازماً بمعنى يَتَوَجَّه كما تقدَّم.
[وقرأ عبدُ الله أيضاً]. وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة - «هذه ضعيفةٌ؛ لأنَّ الجزمَ لازمٌ» وكأنه لم يعرف توجيههَا.
270
وقرأ علقمةُ وطلحةُ «يُوَجَّهْ» بهاءٍ واحدة ساكنةٍ للجزم والفعلُ مبنيٌّ للمفعولِ، وهي واضحةٌ.
وقرأ ابن مسعود أيضاً «تُوَجِّهْه» كالعامَّةِ، إلا أنه بتاء الخطاب وفيه التفاتٌ.
وفي الكلام حَذْفٌ، وهو حَذْفُ المقابلِ لقوله ﴿أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ﴾ كأنه قيل: والآخرُ ناطِقٌ متصرفٌ في مالِه، وهو خفيفٌ على مولاه، أينما يُوَجِّهْهُ يأتِ بخيرٍ. ودَلَّ على ذلك قولُه: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل﴾.
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ «أينما تَوَجَّهَ» فعلاً ماضياً، فاعلُه ضميرُ الأبكم.
وقوله: ﴿وَمَن يَأْمُرُ﴾ الراجحُ أَنْ يكونَ مرفوعاً عطفاً على الضميرِ المرفوعِ في «يَسْتوي»، وسَوَّغَه الفصلُ بالضمير. والنصبُ على المعيَّة مرجوحٌ. ﴿وَهُوَ على صِرَاطٍ﴾ الجملةُ: إمَّا إستئنافٌ أو حالٌ.
271
قوله تعالى: ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ : أي: أو أَمْرٌ، فالضميرُ للأمر، والتقدير: أو أمرُ الساعةِ أقربُ من لَمْحِ البصر.
قوله تعالى: ﴿لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ : الجملةُ حالٌ مِنْ مفعول «أَخْرجكم»، أي: أخرجكم غيرَ عالِمين. و «شيئاً» إمَّا مصدرٌ، أي: شيئاً من العلم، وإمَّا مفعولٌ به. والعِلْمُ هنا العِرْفان. وقد تقدَّم الكلامُ في «أمَّهاتكم» في النساء.
271
قوله: «وَجَعَلَ» يجوز أن يكونَ معطوفاً على «أَخْرجكم» فيكونَ داخلاً فيما أَخْبر به عن المبتدأ، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً.
والأَفْئِدَةُ: جمعُ «فؤاد» وقد تقدَّم. وقال الرازي: «إنما جُمِعَ جَمْعَ قِلَّة؛ لأنَّ أكثرَ الناسِ مشغولون بأفعالٍ بهيمية فكأنهم لا فؤادَ لهم». وقال الزمخشري: «إنه من الجموع التي استُعْمِلت للقلة والكثرة، ولم يُسمع فيها غيرُ القلة، نحو:» شُسُوع «فإنها للكثرة، ويستعمل في القِلة، ولم يُسْمَع غيرُ شُسُوع». كذا قال، وفيه نظر. سُمِع منهم «أَشْسَاع» فكان ينبغي أن يقول: غَلَبَ شُسُوع.
272
قوله تعالى: ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ : يجوز أن تكون الجملةُ حالاً من الضمير المستتر في «مُسَخَّراتٍ»، ويجوز ان تكونَ من «الطير»، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً.
قوله تعالى: ﴿سَكَناً﴾ : يجوز أن يكونَ مفعولاً اولَ، على أنَّ الجَعْلَ تصييرٌ، والمفعولُ الثاني أحدُ الجارَّيْنِ قبله. ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى الخَلْقِ فيتعدَّى لواحدٍ. وإنما وَحَّد السَّكن لأنه بمعنى ما تَسْكُنُون فيه، قاله أبو البقاء: وقد يُقال: إنه في الأصل مصدرٌ، وإليه ذهب ابن عطية فتوحيدُه واضحٌ. إلا أنَّ الشيخ منه كونَه مصدراً، ولم يذكر
272
وَجْهَ المنعِ، وكأنه اعتمد على قولِ أهل اللغة أن «السَّكَن» فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبْضِ والنَّقَض بمعنى المقبوض والمنقوض، وأنشد الفراء:
٣٠٠ - ٨- جاء الشتاءُ ولَمَّا أتخِذْ سَكَناً يا ويحَ نفسي مِنْ حَفْرِ القراميصِ
قوله: ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو بفتح العين؛ والباقون بإسكانها، وهما لغتان بمعنىً كالنَّهْر والنَّهَر. وزعم بعضُهم أن الأصلَ الفتحُ، والسكونُ تخفيفٌ لأجلِ حرفِ الحلق كالشَّعْر في الشعَر.
قوله: ﴿أَثَاثاً﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ عطفاً على «بُيوتاً»، أي «وَجَعَلَ لكم من أصوافِها أثاثاً، وعلى هذا فيكونُ قد عطف مجروراً على مجرور ومنصوباً على منصوبٍ، ولا فَصْلَ هنا بين حرفِ العطفِ والمعطوف حينئذٍ. وقال أبو البقاء:» وقد فُصِلَ بينه وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور وهو قولُه ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا﴾، وهو ليس بفصلٍ مستقبَحٍ كما زعم في «الإِيضاح» ؛ لأنَّ الجارَّ والمجرورَ مفعول، وتقديمُ / مفعولٍ على مفعولٍ قياسٌ «. وفيه نظرٌ؛ لِما عَرَفْتَ من أنه عَطْفُ مجرورٍ على مثلِه ومنصوبٍ على مثله.
والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ، ويكون قد عَطَفَ مجروراً على مثلِه، تقديرُه: وجَعَل لكم مِنْ جلودِ الأنعام ومِنْ أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها بيوتاً
273
حالَ كونِها أثاثاً، فَفَصَل بالمفعول بين المتعاطفين. وليس المعنى على هذا، إنما هو على الأول.
وقوله: ﴿كَلَمْحِ البصر﴾ [النحل: ٧٧] : اللَّمْحُ مصدرُ لَمَحَ يَلْمَح لَمْحاً ولَمَحاناً، أي: أَبْصَرَ بسرعة. وقيل: أصلُه من لَمْحِ البرق، وقولهم» لأُرِيَنَّك لَمْحاً باصراً «، أي: أمراً واضحاً.
وقوله: ﴿فِي جَوِّ السمآء﴾ [النحل: ٧٩] : الجَوُّ: الهواء، وهو ما بين السماءِ والأرض. قال:
٣٠٠ - ٩- فلستَ لإِنْسيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء يَصُوبُ
وقيل: الجَوُّ ما يلي الأرضَ في سَمْتِ العُلُوِّ، واللُّوح والسُّكاك أبعدُ منه.
وقوله:»
ظَعْنِكم «مصدرُ ظَعَن، أي: ارْتَحَلَ، والظَّعِيْنَةُ الهَوْدَجُ فيه المرأةُ، وإلا فهو مَحْمَلٌ، ثم كَثُر حتى قيل للمرأة، ظَعينة.
وقال أهل اللغة: الأصوافُ للضَّأْن، والأَوْبار للإِبِل، والشَّعْر للمَعِز. والأَثاث: مَتاعُ البيت إذا كان كثيراً. وأصلُه مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ إذا كَثُفا وتكاثرا. قال امرؤ القيس:
٣٠١ - ٠-
274
وفَرْعٍ يُغْشَي المَتْنَ أسودَ فاحمٍ أثيثٍِ كقِنْوِ النخلةِ المُتَعَثْكِلِ
ونساء أَثائِثُ، أي: كثيراتُ اللحمِ، كأنَّ عليهن أَثاثاً، وتَأَثَّث فلانٌ: كَثُر أثاثُه. وقال الزمخشري:» الأثاث ما جَدَّ مِنْ فَرْشِ البيت، والخُرْثِيُّ: ما قَدُم منها «، وأنشد:
٣٠١ - ١- تقادَم العهدُ مِنْ أُمِّ الوليد بنا دَهْراً وصار أثاثُ البيتِ خُرْثِيَّا
وهل له واحدٌ من لفظه؟ فقال الفراء: لا. وقال أبو زيد: «واحدة: أَثاثَةٌ، وجمعُه في القلَّة»
أثِثَّة، كبَتات وأَبِتَّة «. قال الشيخ:» وفي الكثير على «أَثَثٍ». وفيه نظر؛ لأنَّ فَعالاً المُضَعَّف يلزمُ جَمْعُه على أَفْعِلَة في القلة والكثرة، ولا يُجْمع على فُعُل إلا في لفظتين شَذَّتا، وهما: عُنُن وحُجُج جمع عِنان وحِجاج، وقد نصَّ النحاة على مَنْع القياس عليهما، فلا يجوز: زِمام وزُمُم بل أَزِمَّة. وقال الخليل: «الأَثَاثُ والمَتاع واحدٌ، وجُمِع بينهما لاختلافِ لَفْظَيْهما كقوله:
٣٠١ - ٢-................................
275
وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا
[وقوله] :
276
قوله تعالى: ﴿أَكْنَاناً﴾ : جمع «كِنّ» وهو ما حَفِظ مِن الريح والمطرِ، وهو في الجبل: الغار.
قوله: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ قيل: حُذِف المعطوفُ لفَهْمِ المعنى، أي: والبردَ كقوله:
٣٠١ - ٣-........................... ..... أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
٣٠١ - ٤- كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأمامِها إذا نَجَلَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسرا
أي: ويدُها، وقيل: لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ بلادَهم حارَّة. وقال الزجاج: «اقتصر على ذِكْر الحرِّ؛ لأنَّ ما يقيه يَقي البردَ». وفيه نظرٌ للاحتياجِ إلى زيادةٍ كثيرةٍ لوقاية البرد.
قوله: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ﴾ أي: مِثْلَ ذلك الإِتمامِ السابقِ يُتِمُّ نعمتَه عليكم في المستقبل. وقرأ ابن عباس: «تَتِمُّ» بفتح التاءِ الأولى، «نِعْمَتُه» بالرفع على الفاعلية. وقرأ أيضاً «نِعَمه» جمع «نعمة» مضافةً لضميرِ الله تعالى. وعنه: ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ بفتح التاءِ واللامِ مضارع «سَلِم» من
276
السَّلامة، وهو مناسبٌ لقولِه ﴿تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾ ؛ فإنَّ المرادَ به الدُّروعُ الملبوسةُ في الحرب.
277
قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ يجوز أن يكونَ ماضياً، ويكون التفاتاً مِن الخطاب المتقدَّم، وأن يكونَ مضارعاً، والأصل: تَتَوَلَّوا بتاءَيْن فحذف نحو: ﴿تَنَزَّلُ﴾ [القدر: ٤] و ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٢]، ولا التفاتَ على هذا بل هو جارٍ على الخطابِ السابق.
قوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾ هو جوابُ الشرط، وفي الحقيقة جوابُ الشرطِ محذوفٌ، أي: فأنتَ معذورٌ، وإنما ذلك على إقامةِ السببِ مُقامَ المسبب؛ وذلك لأنَّ تبليغَه سببٌ في عُذْرِه، فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّب.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ : جِيْءَ ب «ثُمَّ» هنا للدلالةِ على أنَّ إنكارَهم أمرٌ مستبعدٌ بعد حصولِ المعرفة؛ لأنَّ مَنْ عَرَفَ النعمة حَقُّه أن يَعْتَرِفَ لا أَنْ يُنْكِرَ.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بإضمارِ اذكر. الثاني: بإضمارِ «خَوِّفْهم». الثالث: تقديره: ويوم نَبْعَثُُ وقعوا في أمرٍ عظيم. الرابع: أنه معطوفٌ على ظرفٍ محذوف، أي: ينكرونها اليومَ ويوم نَبْعَثُ.
قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ﴾ قال الزمخشري: «فإن قلتَ: ما معنى» ثم «
277
هذه؟ قلت: معناه أنهم يُمَنَّوْن بعد شهادةِ الأنبياء بما هو أَطَمُّ منه، وهو أنهم يُمْنَعُون الكلام، فلا يُؤْذَنُ لهم في إلقاءِ مَعْذرةٍ ولا إدلاءٍ بحجةٍ». انتهى. ومفعولُ الإِذنِ محذوفٌ، أي: لا يُؤْذَنُ لهم في الكلامِ، كما قاله الزمخشري، أو: في الرجوعِ إلى الدنيا.
قوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أي: لا تُزال عُتْباهم، وهي ما يُعْتَبُون عليها ويُلامون. يقال: اسْتَعْتَبْتُ فلاناً بمعنى أَعْتَبْتُه، أي: أزلت عُتْباه، واستفعل بمعنى أَفْعل غيرُ مُسْتَنْكَرٍ. قالوا: اسْتَدْنَيْتُ فلاناً، وأَدْنَيْتُه، بمعنىً واحد. وقيل: السين على بابها من الطلب، ومعناه: أنهم لا يُسْأَلون أن يَرْجِعُوا عَمَّا كانوا عليه في الدنيا، فهذا استعتابٌ معناه طَلَبُ عُتْباهم. وقال الزمخشري: «ولا هم يُسْتَرْضَوْن أي: لا يُقال لهم: أَرْضُوا ربَّكم؛ لأن الآخرةَ ليست بدارِ عملٍ». وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ إن شاء الله في سورة حم السجدة؛ لأنه أَلْيَقُ به لاختلافِ القرَّاء فيه.
278
قوله تعالى: ﴿فَلاَ يُخَفَّفُ﴾ : هذه الفاءُ وما في حيِّزِها جوابُ «إذا» ولا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ قبلَ هذه الفاءِ، أي: فهو لا يُخَفَّفُ، لأنَّ جوابَ «إذا» متى كان مضارعاً لم يَحْتَجْ إلى فاءٍ سواءً كان موجَباً كقولِه تعالى: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ﴾ [الحج: ٧٢] أم منفيَّاً نحو: «إذا جاء زيدٌ لا يكرُمك».
قوله تعالى: ﴿السلم﴾ : العامَّةُ على فتحِ السين واللام وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ اللامِ. ومجاهدٌ بضم السين واللام. وكأنه جمع «سَلام» نحو قَذَال وقُذُل، والسَّلام والسَّلَم واحدٌ، وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء.
قوله تعالى: ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ : يجوز أن يكونَ مبتدأً، والخبرُ «زِدْناهم» وهو واضحٌ. وجوَّز ابنُ عطية أن يكونَ ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ بدلاً مِنْ فاعلِ «يَفْتَرُوْن»، ويكون «زِدْناهم» مستأنفاً. ويجوز أن يكونَ ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ نصباً على الذمِّ أو رفعاً عليه، فَيُضْمَرُ الناصبُ والمبتدأُ وجوباً.
قوله تعالى: ﴿تِبْيَاناً﴾ : يجوز أن يكونَ في موضعِ الحال، ويجوز أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله وهو مصدرٌ، ولم يَجِيءْ من المصادرِ على هذه الزِّنَةِ إلا لفظان: هذا وتِلْقاء، وفي الأسماء كثيرٌ نحو: التِّمْساح والتِّمْثال. وأمَّا المصادرُ فقياسُها فتحُ الأولِ دلالةً على التكثير كالتِّطواف والتِّجْوال. وقال ابن عطية: «إن التِّبْيان اسمٌ وليس بمصدرٍ»، والنَّحْويون على خلافِه.
قوله: «للمُسْلمين» متعلقٌ ب «بُشْرَى» وهو متعلقٌ من حيث المعنى ب ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ أيضا. وفي جوازِ كونِ هذا من التنازعِ نظرٌ من حيث لزومُ الفصلِ بين المصدرِ معمولِه بالمعطوفِ حالَ إعمالِك غيرَ الثالِث فتأمَّله. وقياسُ مَنْ جَوَّز التنازعَ في فعلِ التعحبِ والتزم إعمال الثاني لئلا يَلْزَمَ الفصلُ أن يُجَوِّز هذا على هذه الحالةِ.
قوله تعالى: ﴿وَإِيتَآءِ ذِي القربى﴾ : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ولم يَذْكر متعلِّقاتِ العدلِ والإِحسانِ والبَغْي لِيَعُمَّ جميعَ ما يُعْدَلُ فيه، ويُحْسَنُ به إليه، ويُبغى فيه؛ فلذلك لم يذكُرِ المفعولَ الثاني للإِيتاء، ونَصَّ على الأول حَضَّاً عليه لإِدلائه بالقرابة، فإنَّ إيتاءَه صدقَةٌ وصِلَةٌ.
قوله: «يَعِظُكم» يجوز ان يكونَ مستأنفاً في قوة التعليل للأمرِ بما تقدَّم، أي: إنَّ الوعظَ سببٌ في أمره لكم بذلك. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً من الضمير في «يَنْهَى»، وفي تخصيصِه الحالَ بهذا العاملِ فقط نظرٌ؛ إذ يظهرُ جَعْلُه حالاً مِنْ فاعل «يأمرُ» أيضاً، بل أَوْلى؛ فإن الوعظ يكونُ بالأوامر والنواهي، فلا خصوصيةَ له بالنهي.
قوله تعالى: ﴿بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ : متعلقٌ بفعل النهي. والتوكيدُ مصدرُ وَكَّدُ يُوَكِّدُ بالواو، وفيه لغةٌ أخرى: أَكَّد يُؤَكِّد بالهمز، وهذا كقولِهم: وَرَّخْتُ الكتابَ وأرَّخْتُه، وليست الهمزة بدلاً من واوٍ كما زعم أبو إسحق؛ لأنَّ الاستعمالين في المادتين متساويان، فليس ادِّعاءُ كونِ أحدهما أصلاً أَوْلَى من الآخر.
وتبع مكيٌّ الزجاجَ في ذلك ثم قال: «ولا يَحْسُن أَنْ يقال: الواوُ بدلٌ من الهمزة، كما لا يَحْسُنُ أن يقالَ ذلك في» أَحَد «؛ إذ أصلُه» وَحَد «، فالهمزةُ بدل من الواو». يعني أنه لا قائلَ بالعكس، وكذلك تَبِعه في ذلك الزمخشري أيضاً. و «تَوْكِيدها» مصدرٌ/ مضافٌ لمفعوله.
280
وأدغم أبو عمروٍ الدالَ في التاء، ولا ثانيَ له في القرآنِ، أعني أنه لم تُدْغَمْ دالٌ مفتوحةٌ بعد ساكنٍ إلا في هذا الحرفِ.
قوله: ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ﴾ الجملةُ حالٌ: إمَّا مِنْ فاعلِ «تَنْقُضوا»، وأما من فاعلِ المصدرِ، وإن كان محذوفاً.
281
قوله تعالى: ﴿أَنكَاثاً﴾ : يجوز فيه وجهان، أظهرُهما: أنه حالٌ مِنْ «غَزْلها». والأَنْكاث: جمعُ نِكْث بمعنى مَنْكوث، أي: منقوضٌ. والثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ لتضمين «نَقَضَتْ» معنى «صَيَّرَتْ». وجَوَّز الزجاجُ فيه وجهاً ثالثاً وهو: النصبُ على المصدرية؛ لأنَّ معنى نَقَضَتْ: نَكَثَتْ، فهو مُلاقٍ لعاملِه في المعنى.
قوله: «تَتَّخذون» يجوز أن تكونَ الجملةُ حالاً من واو «تكونوا» أو من الضمير المستتر في الجارِّ، إذ المعنى: لا تكونوا مُشْبهين كذا حالَ كونِكم متَّخذين.
قوله: ﴿دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾ هو المفعولُ الثاني ل «تَتَّخذون». والدَّخَل: الفسادُ والدَّغَلُ. وقيل: «دَخَلاً» : مفعولٌ من أجله. وقيل: الدَّخَل: الداخلُ في الشيءِ ليس منه.
قوله: ﴿أَن تَكُونَ﴾، أي: بسبب أَنْ تكونَ، أو مخافةَ أَنْ تكونَ. و «تكون» يجوزُ أَنْ تكونَ تامةً، فتكون «أمَّةٌ» فاعلَها، وأن تكونَ ناقصةً، فتكون «أمَّةٌ» اسمَها، و «هي» مبتدأ، وأَرْبَى «خبرُه. والجملةُ في محلِّ
281
نصبٍ على الحال، على الوجه الأول، وفي موضعِ الخبرِ على الثاني. وجوَّز الموفيون أن تكونَ» أُمَّةٌ «اسمَها، و» هي «عمادٌ، أي: ضميرُ فَصْلٍ، و» أربَى «خبرُ» تكون «، والبصريون لا يُجيزون ذلك لأجل تنكيرِ الاسمِ، فلو كان الاسمُ معرفةً لجاز ذلك عندهم.
قوله:»
به «يجوز أن يعودَ الضميرُ على المصدر المنسبك مِنْ ﴿أَن تَكُونَ﴾ تقديره: إنما يَبْلُوكم الله بكونِ أُمَّة، أي: يختبركم بذلك. وقيل: يعودُ على» الربا «المدلولِ عليه بقولِه ﴿هِيَ أَرْبَى﴾ وقيل: على الكثرة، لأنها في معنى الكثير. قال ابن الأنباري:» لَمَّا كان تأنيثُها غيرَ حقيقي حُمِلَتْ على معنى التذكير، كما حُمِلت الصيحةُ على الصِّياح «ولم يتقدمْ للكثرةِ لفظٌ، وإنما هي مدلولٌ عليها بالمعنى مِنْ قوله ﴿هِيَ أَرْبَى﴾.
282
قوله تعالى: ﴿فَتَزِلَّ﴾ : منصوبٌ بإضمار «أَنْ» على جوابِ النهي.
قوله: ﴿بِمَا صَدَدتُّمْ﴾ :«ما» مصدريةٌ، و «صَدَدْتُمْ» يجوز أن يكونَ من الصُّدود، وأن يكونَ مِن الصَدِّ، ومفعولُه محذوفٌ. ونُكِّرت «قَدَمٌ» : قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ وُحِّدَتِ القَدَمُ ونُكِّرَتْ؟ قلت: لاستعظامِ أن تَزِلَّ قدمٌ واحدةٌ عن طريقِ الحق بعد أن ثَبَتَتْ عليه فكيف بأقدامٍ كثيرة» ؟.
قال الشيخ: «الجمع تارةً يُلْحَظُ فيه المجموعُ من حيث هو مجموعٌ، وتارةً يُلحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ. فإذا لُوْحظ فيه المجموعُ كان
282
الإِسنادُ معتبراً فيه الجمعيَّةُ، وإذا لُوْحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ كان الإِسناد مطابقاً للفظِ الجمع كثيراً، فيُجْمع ما أُسند إليه، ومطابقاً لكلِّ فردٍ فردٍ فيُفْرد، كقوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ﴾ لمَّا كان لُوْحِظ في قوله» لهنَّ «معنى لكلِّ واحدة، ولو جاء مُراداً به الجمعيةُ أو الكثيرُ في الوجهِ الثاني لجُمِع المتكأ، وعلى هذا المعنى يُحمل قول الشاعر:
٣٠١ - ٥- فإني وَجَدْتُ الضَّامِرينَ متاعُهمْ يَمُوْتُ ويَفْنَى فارْضِخِي مِنْ وعائيا
أي: رأيتُ كلَّ ضامرٍ؛ ولذلك أَفْرَدَ الضميرَ في»
يموتُ ويَفْنى «ولمَّا كان المعنى: لا يَتَّخِذُ كلُّ واحدٍ منكم جاء» فَتَزِلَّ قَدَمٌ «، مراعاةً لهذا المعنى، ثم قال: وتَذُوقْوا، مراعاةً للمجموع [أو] لِلَفْظِ الجمع على الوجهِ الكثيرِ إذا قلنا: إن الإِسنادَ لكل فردٍ فرد، فتكون الآية قد تعرَّضتْ للنهي عن اتخاذ الأَيْمَانِ دَخَلاً باعتبار المجموعِ، وباعتبارِ كل فردٍ فرد، ودَلَّ على ذلك بإفراد» قَدَم «وبجَمْعِ الضمير في» وتَذُوْقوا «.
قلت: وبهذا التقديرِ الذي ذكره الشيخ يفوتُ المعنى الجَزْلُ الذي اقتنصَه أبو القاسم مِنْ تنكير»
قَدَم «وإفرادها. وأمَّا البيتُ المذكورُ فإنَّ النَّحْويين خَرَّجوه على أن المعنى: يموت مَنْ ثُمَّ، ومَنْ ذُكِرَ، فأفرد الضميرَ لذلك لما لا لِما ذكر.
283
قوله تعالى: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ﴾ : مبتدأ وخبر. والنَّفَادُ:
283
الفناءُ والذِّهابُ يقال: نَفِذ بكسر العين يَنْفَذُ بفتحها نَفَاذاً ونُفُوذاً. وأمَّا «نَفَذَ» بالذالِ المعجمة فَفِعْلُه نَفذَ بالفتح يَنْفُذُ بالضم، وسيأتي. ويُقال: أَنْفَد القومُ. فَنِي زادُهم، وخَصْمٌ مُنافِدٌ، لِيَنْفِد حجةَ صاحبِه، يقال: نافَدْتُه فَنَفِدْتُه.
وقوله «باقٍ» قد تقدَّم الكلامُ في الوقف عليه في الرعد.
قوله: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الذين﴾ قرأ ابن كثير وعاصم وابن ذكوان ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ﴾ بنونِ العظمة، التفاتاً من الغَيْبة إلى التكلم. وتقدَّم تقريرُ الالتفاتِ. والباقون بياء الغَيْبة رجوعاً إلى الهِ لتقدُّم ذكرِه العزيز في قولِه تعالى / ﴿وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾.
وقوله: ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ﴾ يجوز أن تكونَ أَفْعَل على بابِها من التفضيل، وإذا جازاهم بالأحسنِ فَلأَنْ يُجازِيَهم بالحَسَن من باب الأَوْلَى. وقيل: ليسَتْ للتفضيلِ، وكأنهم فَرُّوا مِنْ مفهومِ أفْعل؛ إذ لا يلزم من المجازاةِ بالأحسنِ المجازاةُ بالحَسَن. وهو وَهْمٌ لما تقدَّم مِنْ أنه مِنْ مفهوم الموافقة بطريق الأَوْلى.
284
قوله تعالى: ﴿مِّن ذَكَرٍ﴾ :«مِنْ» للبيان فتتعلقُ بمحذوفٍ، أي: أَعْنِي مِنْ ذَكَر. ويجوزُ أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل «عَمِل».
قوله: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ جملةٌ حاليةٌ أيضاً.
284
قوله: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ﴾ راعى معنى «مَنْ» فَجَمع الضميرَ بعد أن راعَى لفظَهَا فَأَفْرَدَ في «فَلَنُحْيِيَنَّهُ» وما قبله، وقرأ العامَّةُ «وَلَجْزِيَنَّهم» بنونِ العظمةِ مراعاةً لِما قبله. وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ بياء الغيبة، وهذا ينبغي أن يكونَ على إضمارِ قَسَمٍ ثانٍ، فيكونَ من عطفِ جملةٍ قَسَميةٍ على قَسَمِيةٍ مثلِها، حُذفتا وبقي جواباها.
ولا جائزٌ أن يكونَ مِنْ عطفِ جوابٍ على جواب لإِفضائِه إلى أخبارِ المتكلم عن نفسِه بإخبار الغائب، وهو لا يجوزُ. لو قلت: «زيد قال: واللهِ لأَضْرِبَنَّ هنداً ولَينفينَّها» تريد: ولَينفينَّها زيدٌ، لم يَجُزْ. فإن أَضْمَرْت قسماً آخرَ جاز، أي: وقال: واللهِ لينفينَّها؛ لأنَّ لك في مثلِ هذا التركيبِ أن تحكيَ لفظه، ومنه ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى﴾ [التوبة: ١٠٧] وأن تحكيَ معناه، ومنه ﴿يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ﴾ [التوبة: ٧٤] ولو جاء على اللفظ لقيل: ما قلنا.
285
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ﴾ أي: فإذا أَرَدْتَ، فأضمرتَ الإِرادةَ. قال الزمخشري: «لأنَّ الفعلَ يوجد عند القصدِ والإِرادةِ من غير فاصلٍ وعلى حسبِه، فكان منه بسببٍ قوي وملابسةٍ ظاهرة». وقال ابن عطية: «ف» إذا «وَصْلةٌ بين الكلامين، والعربُ تستعملها في مثل
285
هذا، وتقدير الآية: فإذا أَخَذْتَ في قراءةِ القرآن فاسْتَعِذْ». قلت: وهذا هو مذهبُ الجمهورِ من القُرَّاء والعلماء، وقد أخذ بظاهرِ الآية، فاستعاذ بعد أن قرأ، من الصحابة أبو هريرة، ومن الأئمة مالك وابن سيرين، ومن القرَّاء حمزة.
286
قوله تعالى: ﴿بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ : يجوز أن يعودَ الضميرُ على الشيطانِ، وهو الظاهرُ؛ لتتحدَ الضمائرُ. والمعنى: والذين هم مشركون بسببه. وقيل: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون باللهِ. ويجوز أن يعودَ على «ربهم».
قوله تعالى: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ : في هذه الجملةِ وجهان، أظهرهما: أنها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابه. والثاني: أنها حاليةٌ، وليس بظاهرٍ. وقوله: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ﴾ نسبوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الافتراءَ بأنواعٍ من المبالغات: الحصرِ والخطابِ واسمِ الفاعل الدالِّ على الثبوتِ والاستقرار. ومفعول «لا يَعْلمون» محذوفٌ للعلمِ به، أي: لا يعلمون أنَّ في نَسْخِ الشرائعِ وبعضِ القرآنِ حِكَماً بالغة.
قوله تعالى: ﴿لِيُثَبِّتَ﴾ : متعلقٌ ب «نَزَّله». و «هدى وبشرى» يجوز أَنْ يكونا عطفاً على محلِّ «ليُثَبِّتَ» فيُنْصبان، أو على لفظِه باعتبارِ المصدرِ المُؤَوَّل فَيُجَرَّان. وقد تقدَّم كلامُ الزمخشريِّ في نظيرِهما، وما رَدَّ به الشيخُ، وما رُدَّ به عليه. وجوَّز أبو البقاء ارتفاعَهما خَبَرَيْ مبتدأ محذوفٍ، أي: وهو هُدَىً، والجملةُ حالٌ.
286
وقرئ «لِيُثْبِتَ» مخففاً مِنْ أَثْبتَ.
287
قوله تعالى: ﴿لِّسَانُ الذي﴾ : العامَّة على إضافة «لسان» إلى ما بعدَه. واللِّسانُ: اللغة. وقرأ الحسن «اللسان» معرَّفاً بأل، و «الذي» نعتٌ له. وفي هذه الجملة وجهان، أحدُهما: لا محلَّ لها لاستئنافِها، قاله الزمخشري. والثاني: أنها حالٌ مِنْ فاعل «يقولون»، أي: يقولون ذلك والحالُ هذه، أي: عِلْمُهم بأعجميةِ هذا البشرِ وإبانةِ عربيَّةِ هذا القرآنِ كان ينبغي أَنْ يمنَعهم من تلك المقالةِ، كقولِك: «تَشْتُمُ فلاناً وهو قد أحسنَ إليك»، أي: وعِلْمُك بإحسانِه إليك كان يمنعُك مِنْ شَتْمِهِ، قاله الشيخ. ثم قال: «وإنما ذهب إلى الاستئنافِ لا إلى الحالِ؛ لأنَّ مِنْ مذهبِه أنَّ مجيءَ الحالِ اسميةً من غيرٍ واوٍ شاذٌ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ تَبِع فيه الفراءَ».
و «أعجميٌّ» خبرٌ على كلتا القراءتين. والأعجميُّ: مَنْ لم يتكلَّمْ بالعربية. وقال الراغب: «العَجَمُ خلافُ العرب، والعجميُّ منسوبٌ إليهم، والأَعْجَم مَنْ في لسانِه عُجْمَةٌ عربياً كان أو غيرَ عربي؛ اعتباراً بقلة فَهْمِه من العُجْمة. والأعجميُّ منسوبٌ إليه، ومنه قيل للبهيمة» عَجْماءُ «من حيث
287
إنها لا تُبِيْنُ، و» صلاةُ النهارِ عَجْماء «، أي: لا يُجْهَرُ فيها. والعَجَمُ: النَّوَى لاختفائِه. وحروف المعجم، قال الخليل:» الحروفُ المقطَّعة لأنها أعجمية «قال بعضهم: معناه أنَّ الحروفَ المجردة لا تَدُلُّ على ما تَدُلُّ عليه الموصولةُ. وأَعْجمتُ الكتاب ضِدُّ أَعْرَبْتُه، وأَعْجَمْتُه: أَزَلْتُ عُجْمَتَه كَأَشْكَيْتُه، أي: أَزَلْتُ شِكايتَه، وسيأتي لهذا أيضاً مزيدُ بيانٍ إنْ شاء الله في الشعراء، وحم السجدة. وتقدَّم خلافُ القرَّاءِ في» يُلْحِدُون «في الأعراف.
288
قوله تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بالله﴾ : يجوز فيه أوجهُ، أحدُها: أن يكونَ بدلاً من ﴿الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، أي: إنما يفترى الكذبَ مَنْ كفر. الثاني: أنه بدلٌ مِنَ «الكاذبون». والثالث: / مِنْ «أولئك» قاله الزمخشريُّ، فعلى الأولِ يكون قولُه ﴿وأولئك هُمُ الكاذبون﴾ جملةً معترضةً بين البدلِ والمُبْدلِ منه.
واستضعف الشيخُ الأوجهَ الثلاثةَ فقال: «لأنَّ الأولَ يقتضي أنه لا يَفْتري الكذبَ إلا مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه، والوجودُ يَقْضي أنَّ المفتريَ مَنْ لا يؤمن، سواءً كفر بالله من بعدِ إيمانِه، أم لا، بل الأكثرُ الثاني وهو المفتري» قال: «وأمَّا الثاني فَيَؤُوْل المعنى إلى ذلك؛ إذ التقديرُ: وأولئك: أي: الذين لا يؤمنون هم مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه، والذين
288
لا يؤمنون هم المُفْترون. وأمَّا الثالثُ فكذلك؛ إذ التقديرُ: إنَّ المشارَ إليهم هم مَنْ كفرَ بالله من بعد إيمانه، مُخْبراً عنهم بأنهم الكاذبون».
الوجه الرابع: أن ينتصبَ على الذمِّ، قاله الزمخشري. الخامس: أن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ على الذمِّ أيضاً. السادس: أن يرتفعَ على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ، تقديره: فعليهم غضبٌ لدلالةِ ما بعد «مَنْ» الثانيةِ عليه.
السابع: أنها مبتدأٌ أيضاً، وخبرُها وخبرُ «مَنْ» الثانيةِ أيضاً قولُه ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾، قاله ابن عطية، قال: «إذ هو واحدٌ بالمعنى؛ لأنَّ الإِخبارَ في قولِه ﴿مَن كَفَرَ بالله﴾ إنما قَصَدَ به الصنفَ الشارحَ بالكفر». قال الشيخ: «وهذا وإنْ كان كما ذكر، إلا أنهما جملتان شرطيتان، وقد فُصِل بينهما بأداةِ الاستدراك، فلا بد لكلِّ واحدةٍ منهما على انفرادِها مِنْ جوابٍ لا يشتركان فيه، فتقديرُ الحَذْفِ أَجْرَى على صناعةِ الإِعرابِ، وقد ضَعَّفوا مذهبَ الأخفشِ في ادِّعائه أنَّ قولَه ﴿فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين﴾ [الواقعة: ٩١]، وقولُه ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ [الواقعة: ٨٩] جوابُ» أمَّا «، و» إنْ «هذا، وهما أداتا شرط وَلِيَتْ إحداهما الأخرى».
289
الثامن: أن تكونَ «مَنْ» شرطيةً وجوابُها مقدرٌ تقديره: فعليهم غضبٌ؛ لدلالةِ ما بعد «مَنْ» الثانيةِ عليه. وقد تقدَّم أن ابنَ عطية جَعَلَ الجزاءَ لهما معاً، وتقدَّم الكلامُ معه فيه.
قولِه: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مستثنى مقدَّمٌ مِنْ قولِه ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله﴾، وهذا يكونُ فيه منقطعاً؛ لأنَّ المُكْرَه لم يَشْرَحْ بالكفرِ صدراً. وقال أبو البقاء: «وقيل: ليس بمقدَّمٍ فهو كقول لبيد:
٣٠١ - ٦- ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ..............................
فظاهرُ كلامِه يَدُلُّ على أنَّ بيتَ لبيدٍ لا تقديمَ فيه، وليس كذلك فإنه ظاهرٌ في التقديمِ جداً.
الثاني: أنه مستثنى مِنْ جوابِ الشرط، أو مِنْ خبر المبتدأ المقدر، تقديرُه: فعليهمْ غضبٌ من الله إلا مَنْ أُكْرِه، ولذلك قَدَّر الزمخشري جزاءَ الشرط قبل الاستثناء، وهو استثناءٌ متصلٌ؛ لأنَّ الكفرَ يكون بالقولِ مِنْ غير اعتقادٍ كالمُكْرَه، وقد يكون - والعياذُ بالله - باعتقادٍ، فاستثنى الصِّنفَ الأول.
قوله: ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ﴾ جملةٌ حاليةٌ، أي: إلا مَنْ أُكْرِهَ في هذه الحالةِ.
قوله: ﴿ولكن مَّن شَرَحَ﴾ الاستدراكُ واضحٌ؛ لأنَّ قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾
290
قد يَسْبق الوهمُ إلى الاستثناء مطلقاً فاستدرك هذا. وقولُه ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ﴾ لا ينفي ذلك الوهم. و «مَنْ» : إمَّا شرطيةٌ أو موصولةٌ، ولكن متى جُعِلَتْ شرطيةً فلا بدُّ من إضمارِ مبتدأ قبلها؛ لأنه لا يليها الجملُ الشرطيةُ، قاله الشيخ ثم قال: «ومثلُه:
٣٠١ - ٧-............................ ولكن متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أَرْفِدِ
أي: ولكن أنا متى يَسْتَرْفد»
وإنما لم تقعِ الشرطيةُ بعد «لكن» لأنَّ الاستدراكَ لا يقع في الشُّروط. هكذا قيل، وهو ممنوع.
291
قوله تعالى: ﴿ذلك بِأَنَّهُمُ﴾ : مبتدأ وخبر، كنظائرَ مَرَّتْ، والإِشارةُ ب «ذلك» إلى ما ذُكِرَ من الغضبِ والعذاب؛ ولذلك وُحِّد كقوله: ﴿بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨] و [قولِه]
٣٠١ - ٨- كأنه في الجِلْدِ........................ وقد مَرَّ ذلك.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ﴾ : في خبر «إنَّ» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، إنه قولُه ﴿لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، و ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ الثانيةُ واسمُها تأكيدٌ للأولى واسمِها، فكأنه قيل: ثم إنَّ ربَّك إنَّ ربَّك لغفورٌ
291
رحيم، وحينئذٍ يجوز في قولِه «للذين» وجهان: أن يتعلَّقَ بالخبرين على سبيل التنازعِ، أو بمحذوفٍ على سبيلِ البيان كأنه قيل: الغُفرانُ والرحمةُ للذين هاجرُوا. الثاني: أن الخبرَ هو نفسُ الجارِّ بعدها كما تقول: إنَّ زيداً لك، أي: هُوَ لك لا عليك بمعنى هو ناصرُهم لا خاذِلُهم، قال معناه الزمخشريُّ [ثم قال «كما يكون المَلِكُ للرجل لا عليه، فيكون مَحْمِيَّاً مَنْفُوْعاً].
الثالث: أن خبرَ الأولى مستغنى عنه بخبر الثانية، / يعني أنه محذوفٌ لفظاً لدلالةِ ما بعده عليه، وهذا معنى قولِ أبي البقاء:»
وقيل: لا خبرَ ل «إنَّ» الأولى في اللفظ؛ لأنَّ خبرَ الثانيةِ أغنى عنه «وحينئذٍ لا يَحْسُنُ رَدُّ الشيخِ عليه بقوله:» وهذا ليس بجيدٍ أنه أَلْغَى حكمَ الأولى، وجَعَلَ الحكمَ للثانيةِ، وهو عكسُ ما تقدَّمَ ولا يجوز «.
قولِه: ﴿مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ﴾ قرأ ابنُ عامر»
فَتَنوا «مبنياً للفاعل، أي: فَتَنُوا أَنْفُسَهم، فإن عاد الضميرُ على المؤمنين فالمعنى: فَتَنُوا انفسَهم بما أَعْطَوا المشركين من القولِ ظاهراً، أو أنهم لَمَّا صبروا على عذابِ المشركين فكأنهم فَتَنُوا أنفسَهم، وإنْ عاد على المشركين فهو واضحٌ، أي: فتنُوا المؤمنين.
والباقون»
فُتِنُوا «مبنياً للمفعول. والضميرُ في» بعدها «للمصادرِ المفهومةِ من الأفعالِ المتقدمةِ، أي: مِنْ بعد الفتنةِ والهجرةِ والجهادِ والصبرِ. وقال
292
ابن عطية:» عائدٌ على الفتنةِ أو الفَعْلة أو الهجرة أو التوبة «.
293
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي﴾ : يجوز أَنْ ينتصبَ ب «رحيم»، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تقييدُ رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رَحِم في هذا اليوم فرحمتُه في غيرِه أَوْلَى وأحْرَى، وأن ينتصِبَ ب «اذكر» مقدرةً، وراعى معنى «كل» فأنَّثَ الضمائر في قوله «تجادل» إلى آخره، ومثلُه:
٣٠١ - ٩- جادَتْ عليه كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فتركْنَ كلَّ.........................
إلا أنَّه زاد في البيت الجمعَ على المعنى، وقد تقدَّم ذلك أولَ هذا الموضوع. وقوله ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ حَمَلَ على المعنى فلذلك جَمَعَ.
قوله تعالى: ﴿والخوف﴾ : العامَّةُ على جَرِّ «الخوف» نسقاً على «الرجوع»، ورُوي عن أبي عمرو نصبُه، وفيه أوجه، أحدها: أن يُعطف على «لباس». الثاني: أن يُعْطَفَ على موضعِ «الجوع» ؛ لأنه مفعولٌ في المعنى للمصدرِ. التقدير: «أَنْ أَلْبَسَهم الجوعَ والخوفَ»، قاله أبو البقاء، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللباسَ اسمُ ما يُلْبَسُ، وهو استعارةٌ بليغةٌ كما سأنبِّهك عليه. الثالث: أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ قاله أبو الفضل الرازي. [الرابع: أن يكونَ حَذْفِ مضافٍ، أي:] ولباس
293
الخوف، ثم حُذِف وأقيم [المضافُ إليه] مُقامَه قاله الزمخشري.
ووجه الاستعارةِ ما قاله الزمخشري، فإنه قال: «فإن قُلْتَ، الإِذاقةُ واللباسُ استعارتان فما وجهُ صحتِهما؟ والإِذاقةُ المستعارةُ مُوَقَّعَةٌ على اللباس المستعار فما وجهُ صحةِ إيقاعِها عليه؟ قلت: الإِذاقَةُ جَرَتْ عندهم مَجْرَى الحقيقةِ لشيوعِها في البلايا والشدائد وما يَمَسُّ الناسَ منها، فيقولون، ذاقَ فلانٌ البؤْسَ والضُّرَّ، وإذاقة العذابُ، شَبَّه ما يُدْرِكُ مِنْ أثرِ الضررِ والألمِ بما يُدْرِكُ مِنْ طَعْمِ المُرِّ والبَشِع، وأمَّا اللباسُ فقد شبَّه به لاشتمالِه على اللابسِ ما غَشِيَ الإِنسانَ والتبس به من بعض الحوادث. وأمَّا إيقاعُ الإِذاقةِ على لباسِ الجوعِ والخوفِ فلأنه لمَّا وقع عبارةً عَمَّا يُغْشَى منهما ويُلابَسُ، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غَشِيهم من الجوعِ والخوفِ. ولهم في هذا طريقان، أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له كما نَظَرَ إليه ههنا، ونحوُه قول كثيِّر:
٣٠٢ - ٠- غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكاً غَلِقَتْ لضَحْكَتِهِ رِقابُ المالِ
استعار الرداءَ للمعروفِ لأنه يَصُون عِرْضَ صاحبِه صَوْتَ الرداءِ لِما يُلْقى عليه، ووصفَه بالغَمْرِ الذي هو وصفُ المعروفِ والنَّوال، لا وصفُ الرداء، نظراً إلى المستعار له. والثاني: أن ينظروا فيه المستعار كقوله:
٣٠٢ - ١-
294
يُنازعني رِدائي عَبْدُ عَمْرٍو رُوَيْدَك يا أخا عمرِو بن بكر
ليَ الشَّطْرُ الذي ملكَتْ يميني ودونَك فاعْتَجِر منه بِشَطْرِ
أراد بردائِه سيفَه ثم قال:» فاعتجِرْ منه بِشَطْر «فنظر إلى المستعارِ في لفظِ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال:» فكساهُمْ لباسَ الجوعِ والخوف «، ولقال كثِّير:» ضافي الرداءِ إذا تبسَّم «. انتهى. وهذا نهايةُ ما يُقال في الاستعارة.
وقال ابن عطية:»
لمَّا باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى:
٣٠٢ - ٢- إذا ما الضَّجِيْعُ ثنى جِيْدَها تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
ومثلُه قولُه تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ/ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧]، ومثلُه قولُ الشاعر:
٣٠٢ - ٢- وقد لَبِسَتْ بعد الزبيرِ مُجاشِعٌ لباسَ التي حاضَتْ ولن تَغْسِل الدَّما
كأنَّ العارَ لمَّا باشرهم ولصِقَ بهم كأنهم لَبِسُوه «.
وقوله:»
فأذاقهم «نظيرُ قولِه تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز
295
الكريم} [الدخان: ٤٩]، ونظيرُ قولِ الشاعر:
٣٠٢ - ٣- دونَكَ ما جَنَيْتَه فاحْسُ وذُقْ... وفي قراءةِ عبد الله «فأذاقها اللهُ الخوفَ والجوعَ»، وفي مصحف أُبَيّ «لباسَ الخوفِ والجوعِ».
وقوله: ﴿بِأَنْعُمِ الله﴾ أتى بجمعِ القلَّةِ، ولم يَقُلْ «بِنِعَمِ الله» جمعَ كثرةٍ تنبيهاً بالأدْنى على الأَعْلى؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى.
و «أنْعُم» فيها قولان، أحدُهما: أنها جمعُ «نِعْمةٍ» نحو: شِدَّة: أَشُدّ. قال الزمخشري: «جمعُ» نِعمة «على تَرْكِ الاعتداد بالتاء كَدِرْع وأَدْرُع». وقال قطرب: «هي جمع نُعْم، والنُّعْمُ: النَّعيم، يقال:» هذه أيامُ طُعْم ونُعْم «. وفي الحديث:» نادى مُنادي رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمَوْسِم بمنى: «إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُوموا».
قوله: ﴿بِمَا كَانُواْ﴾ يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً، أو بمعنى الذي، والعائدُ
296
محذوفٌ، أي: بسبب صُنْعهم أو بسببِ الذي كانوا يصنعونه. والواو في «يَصْنعون» عائدةٌ على أهل المعذَّب. قيل: قرية، وهي نظيرةُ قولِه ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] بعد قولِه ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾.
297
قوله تعالى: ﴿واشكروا نِعْمَةَ الله﴾ : صَرَّح هنا بالنعمة لتقدُّمِ ذِكْرها مع مَنْ كفر بها، ولم يَجِئْ ذلك في البقرة، بل قال: ﴿واشكروا للَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٢] لمَّا لم يتقدمْ ذلك، وتقدَّم نظائرُها هنا.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب﴾ : العامَّةُ على فتحِ الكافِ وكسرِ الذالِ ونصب الباءِ. وفيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه منصوبٌ على المفعولِ به وناصبُه «تَصِفُ» و «ما» مصدريةٌ، ويكونُ معمولُ القولِ الجملةَ مِنْ قوله ﴿هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ﴾ و ﴿لِمَا تَصِفُ﴾ علةٌ للنهي عن القول ذلك، أي: ولا تقولوا: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لأجل وَصْفِ ألسنتِكم الكذبَ، وإلى هذا نحا الزجَّاجُ والكسائيُّ، والمعنى: لا تُحَلِّلوا ولا تُحَرِّمُوا لأجلِ قولٍ تَنْطِقُ به ألسنتُكم من غير حُجَّةٍ.
الثاني: أن ينتصِب مفعولاً به للقولِ، ويكون قوله: ﴿هذا حَلاَلٌ﴾ بدلاً مِنَ «الكذب» لأنه عينُه، أو يكون مفعولاً بمضمرٍ، أي: فيقولوا: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ، و ﴿لِمَا تَصِفُ﴾ علةٌ أيضاً، والتقديرُ: ولا تقولوا الكذب
297
لوصفِ ألسنتِكم. وهل يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازعِ على هذا الوجهِ، وذلك: أن القولَ يَطْلُبُ «الكذب» و «تَصِفُ» أيضاً يطلبه، أي: ولا تَقُولْوا الكذب لما تصفه ألسنتُكم؟ فيه نظرٌ.
الثالث: أن ينتصِبَ على البدلِ من العائدِ المحذوف على «ما» إذا قلنا: إنها بمعنى الذي؛ التقدير: لِما تصفُه، ذكر ذلك الحوفيُّ وأبو البقاء. الرابع: أن ينتصبَ بإضمار أعني، ذكره أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، ولا معنى عليه.
وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحةُ «الكذبِ» بالخفضِ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من الموصولِ، أي: ولا تقولوا لوصفِ ألسنتِكم الكذبِ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذبِ، جعله نفسَ الكذبِ لأنه هو. والثاني: ذكره الزمخشري أن يكون نعتاً ل «ما» المصدرية. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ النحاةَ نصُّوا على أن المصدرَ المنسبكَ مِنْ أنْ والفعلِ لا يُنْعَتُ، لا يُقال «يعجبني أن تخرجَ السريعُ» ولا فرقَ بين هذا وبين باقي الحروفِ المصدرية.
وقرأ ابن أبي عبلة ومعاذ بن جبل بضمِّ الكاف والذال، ورفعِ الباءِ
298
صفةً للألسنة كصَبُور وصُبُر، أو جمع كاذِب كشارِف وشُرُف، أو جمع «كِذاب» نحو: كِتاب وكُتُب.
وقرأ مَسْلَمَةُ بنُ محارِبٍ فيما نقله ابن عطية كذلك، إلا أنَّه نصب الباءَ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، ذكرها الزمخشري. أحدُها: أن تكونَ منصوبةً على الشتم، يعني وهي في الأصل نعتٌ للألسنة كما في القراءة قبلها. الثاني: أن تكون بمعنى الكَلِمِ الكواذب، يعني أنها مفعولٌ بها، والعامل فيها: إمَّا «تَصِفُ»، وإمَّ القولُ / على ما مرَّ، أي: لا تقولوا الكَلِمَ الكواذبَ، أو لِمَا تَصِفُ ألسنتُكم الكلمَ الكواذبَ. الثالث: أن يكونَ جمع الكِذاب مِنْ قولِك «كَذِب كِذاباً» يعني فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه مِنْ معنى وَصْفِ الألسنةِ فيكون نحو: كُتُب في جمع كِتاب، وقد قرأ الكسائيُّ: ﴿وَلاَ كِذَاباً﴾ بالتخفيف كما سيأتي في النبأ.
قوله: «لِتَفْتَرُوا» في اللامِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: قال الواحدي: «إنه بدلٌ مِنْ ﴿لِمَا تَصِفُ﴾ لأنَّ وصفَهم الكذبَ هو افتراءٌ على الله». قال الشيخ: «فهو على تقدير جَعْلِ» ما «مصدريةً، أمَّا إذا كانت بمعنى الذي فاللامُ فيها ليست للتعليل فَيُبْدل منها ما يُفْهِمُ التعليلَ، وإنما اللامُ في» لِما «متعلقةٌ ب» لا تقولوا «على حَدِّ تَعَلُّقِها في قولك: لا تقولوا لِما أَحَلَّ اللهُ: هذا
299
حرامٌ، أي: لا تُسَمُّوا الحَلالَ حراماً وكما تقول: لا تقلْ لزيدٍ عمراً، أي: لا تُطْلِقْ عليه هذا الاسمَ». قلت: وهذا وإن كان ظاهراً، إلاَّ أنه لا يمنع من إرادةِ التعليل، وإنْ كانت بمعنى الذي.
الثاني: أنها للصيرورة إذ لم يَفْعلوه لذلك الغرضِ.
الثالث: أنها للتعليلِ الصريحِ، ولا يَبْعُدُ أن يَصْدُرَ مثلُ ذلك.
300
قوله تعالى: ﴿مَتَاعٌ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مبتدأٌ، و «قليل» خبره، وفيه نظرٌ للابتداءِ بنكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغ. فإن ادُّعِي إضافتُه نحو: متاعُهم قليل، فهو بعيدٌ جداً. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: بَقاؤهم أو عيشُهم أو منفعتُهم فيما هم عليه.
قوله تعالى: ﴿مِن قَبْلُ﴾ : متعلِّقٌ ب «حَرَّمْنَا» أو ب «قَصَصْنَا» والمضافُ إليه «قبلُ» تقديرُه: ومِنْ قبلِ تحريمِنا على أهلِ مِلَّتِك.
قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِهَا﴾ : أي: مِنْ بعدِ عَمَلِ السوءِ والتوبةِ والإِصلاح، وقيل: على الجهالةِ. وقيل: على السوءِ؛ لأنه في معنى المعصيةِ.
و «بجهالة» حالٌ مِنْ فاعل «عَمِلوا».
قوله تعالى: ﴿أُمَّةً﴾ : تُطْلَقُ الأُمَّة على الرجل الجامع لخصالٍ محمودة. وقيل: فًعْلَةُ تدل على المبالغةِ، وإلى المعنى الأولِ نَظَر ابنُ هانئٍ في قوله:
قوله تعالى: ﴿شَاكِراً﴾ : يجوز أن يكونَ خبراً ثالثاً، او حالاً مِنْ أحدِ الضميرين في «قانِتاً» أو «حنيفاً».
قوله: «لأَنْعُمِهِ» يجوز تعلُّقه ب «شاكراً» أو ب «اجتباه»، و «اجتباه» : إمَّا حالٌ، وإمَّا خبرٌ آخرُ ل كان. و ﴿إلى صِرَاطٍ﴾ يجوز تعلُّقُه ب «اجتباه» وب «هداه» على قاعدةِ التنازع.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ﴾ : قال الزمخشري: «في» ثم «هذه ما فيها مِنْ تعظيم منزلتِهِ وأجلالِ مَحَلَّه، والإِيذانُ بأنَّ أَشْرَفَ ما أُوتي خليلُ الرحمنِ من الكرامةِ وأَجَلَّ ما أُولِيَ من النعمة اتِّباعُ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قِبَلِ أنها دَلَّتْ على تباعُدِ هذا النعتِ في الرتبةِ منْ بينِ سائرِ النُّعوت التي أثنى اللهُ عليه بها».
قوله: ﴿أَنِ اتبع﴾ يجوز أن تكونَ المفسِّرةَ، وأن تكونَ المصدريةَ فتكونَ مع منصوبِها مفعولَ الإِيحاء.
301
قوله: «حنيفاً» حالٌ، وتقدَّم تحقيقُه في البقرة. وقال ابن عطية: «قال مكي: ولا يكون - يعني حنيفاً - حالاً من» إبراهيم «لأنه مضافٌ إليه، وليس كما قال؛ لأن الحالَ قد تعمل فيها حروفُ الجرِّ إذا عَمِلَتْ في ذي الحال كقولِك» مررتُ بزيدٍ قائماً «. قلت: ما ذكره مكيٌّ من امتناعِ الحال من المضاف إليه فليس على إطلاقه لِما تقدَّم تفصيلُه في البقرة. وأمَّا قولُ ابن عطية: إن العاملَ الخافضُ فليس كذلك، إنما العاملُ ما تعلَّق به الخافضُ، ولذلك إذا حُذِفَ الخافضُ، نُصِبَ مخفوضُه.
302
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ﴾ : العامَّةُ على بنائِه للمفعول، وأبو حَيْوةَ على بنائِه للفاعلِ، «السَّبْتَ» مفعول به.
قوله تعالى: ﴿ادع﴾ : يجوز أن يكونَ مفعولُه مراداً، أي: ادعُ الناسَ، وأن لا يكونَ، أي: افعلِ الدعاءَ. و «بالحكمة» حالٌ، أي: ملتبساً بها.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ﴾ : العامَّةُ على المُفاعلة، وهي بمعنى فَعَلَ كسافَر، وابنُ سيرين «عَقَّبْتم» بالتشديد بمعنى: قَفَّيْتُمْ فَقَفُّوا بمثلِ ما فُعِلَ بكم. وقيل: تتبَّعْتُم. والباءُ مُعَدِّيَةٌ، وفي قراءةِ ابنِ سيرين: إمَّا
302
للسببيةِ، وإمَّا مزيدةٌ.
قوله: ﴿لِّلصَّابِرينَ﴾ يجوز أن يكونَ عامَّاً، أي: الصبرُ خيرٌ لجنسِ الصابرين، وأن يكونَ مِنْ وقوعِ الظاهر موقعَ المضمر، أي: صَبْرُكم خيرٌ لكم.
303
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ بالله﴾ : أي بمعونتِهِ فهي للاستعانة.
قوله: ﴿فِي ضَيْقٍ﴾ ابن كثير هنا، وفي النمل؛ بكسر الصاد، والباقون بالفتح. فقيل: لغتان بمعنىً في هذا المصدر، كالقَوْل والقِيْل. وقيل: المفتوحُ مخفَّفٌ من «ضَيِّق» كَمَيْت في «مَيِّت»، أي: في أمرٍ ضَيِّق. ورَدَّه الفارسيُّ: بأنَّ الصفةَ غيرُ خاصةٍ بالموصوف فلا يجوز ادِّعاءُ الحذفِ، ولذلك جاز: «مررت بكاتبٍ» وامتنع «بآكلٍ».
قوله: ﴿مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ متعلقٌ ب «ضَيْق». و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ.
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٣٠٢ - ٤- وليس الله بمُسْتَنْكَرٍ أن يَجْمَعَ العالمَ في واحِدِ