تفسير سورة النحل

معاني القرآن للفراء
تفسير سورة سورة النحل من كتاب معاني القرآن للفراء المعروف بـمعاني القرآن للفراء .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

ما تنطلق لأنك تريد: ما أحسن انطلاقك، وما أحسن ما تأمر إذا أَمَرْتَ لأنَّكَ تريدُ مَا أحسنَ أمرك. ومثله قوله «١» (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ) كأنه قيل لَهُ: افعل الأمر الَّذِي تؤمر. ولو أريد بِهِ إنسان أو غيره لَجازَ وإن لَمْ يظهر الباء لأن العرب قد تَقُولُ: إني لآمرك وآمر بك وأكفرك وأكفر بك فِي معنى واحد. ومثله كَثِير، منه قولهم:
إذا قَالَتْ حَذَامِ فأنصتُوها فإنّ القول ما قالت حَذَامِ «٢»
يريدُ: فأنصتوا لَهَا، وقال الله تبارك وتعالى (أَلا إِنَّ «٣» ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) وهي فِي موضع (يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) و (كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) واصدع: أظهر دينك.
ومن سورة النحل
[قوله: سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ].
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي عِمَاد بن الصلت الْعُكْلي عَن سَعِيد بْن مسروق أَبِي سُفْيَان عَن الربيع بن خَيْثَم «٤» أَنَّه قرأ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا تُشْرِكُونَ) الْأُولى والتي بَعْدَها كلتاهما «٥» بالتاء: وتقرأ بالياء. فمن قَالَ بالتاء فكأنه خاطبهم ومن قرأ بالياء فكأنَّ القرآن نَزَلَ عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ (سُبْحانَهُ) يعجِّبه من كفرهم وإشراكهم.
وقوله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ [٢] بالياء، و (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) بالتاء «٦». وقراءة أصحاب عبد الله (ينزّل الملائكة) بالياء.
(١) الآية ١٠٢ سورة الصافات.
(٢) سبق هذا البيت فى ص ٢١٥ من الجزء الأول.
(٣) الآية ٦٨ سورة هود.
(٤) فى ا: «خثيم، بتقدم المثلثة على الياء. والتصويب من الخلاصة. وكانت وفاته سنة ٦٤ هـ
(٥) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.
(٦) هذه قراءة ردح عن يعقوب، ووافته الحسن.
وقوله: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ [٥] نصبت (الأنعامَ) بخلقها لَمَّا كانت فِي الأنعام واو. كذلك كل فعل عاد عَلَى اسم بِذكرِه، قبل الاسم واو أو فاء أو كلام يُحتمل نُقْلة الفعل إلى ذَلِكَ الحرف الَّذِي قبل الاسم ففيه وجهان: الرفعُ والنصب. أَمَّا النصب فأن تَجْعَل الواو ظَرْفًا للفعل. والرفع أن تَجْعَل الواو ظرفًا للاسم الَّذِي هى معه. ومثله (وَالْقَمَرَ «١» قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) (وَالسَّماءَ بَنَيْناها «٢» بِأَيْدٍ) وهو كَثِير.
ومثله: (وَكُلَّ إِنسانٍ «٣» أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) (وَكُلَّ شَيْءٍ «٤» أَحْصَيْناهُ).
والوجه فِي كلام العرب رفع كُلّ «٥» فِي هذين الحرفين، كَانَ فِي آخره راجع من الذكر أو لَمْ يكن لأنه فِي مذهب ما من شيء إِلَّا قد أحصيناهُ فِي إمام مُبين والله أعلم. سمعت العرب تُنشد:
ما كُلُّ مَنْ يظَّنُّنِي أنا مُعْتب ولا كلُّ ما يُرْوَى عَليَّ أقول «٦»
فلم يوقع عَلَى (كلّ) الآخرة (أقول) ولا عَلَى الأولى (مُعْتب). وأنشدني بعضهم:
قد عَلِقت أمُّ الْخِيَار تَدَّعِي عليَّ ذَنْبا كلُّه لَمْ أصْنع
وقرأ علىّ بعض العرب بسورة يس. (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) رفعًا قرأها غير مَرّة.
وأمّا قوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ «٧» فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) فلا يكون إلا رفعًا لأن المعنى- والله أعلم-
(١) الآية ٣٩ سورة يس.
(٢) الآية ٤٧ سورة الذاريات.
(٣) الآية ١٣ سورة الإسراء.
(٤) الآية ١٢ سورة يس والآية ٢٩ سورة النبأ. [.....]
(٥) أي لفظ كل فى الآيتين الأخيرتين.
(٦) انظر ص ١٤٠ من الجزء الأول.
(٧) الآية ٥٢ سورة القمر.
95
كلُّ فعلهم فِي الزبر مكتوب، فهو مرفوع بِفي و (فَعلوه) صلة لشيء. ولو كانت (فِي) صلة لفعلوه فِي مثل هَذَا من الكلام جاز رفع كل ونصبها كما تَقُولُ: وكلّ رجل ضربوه فِي الدار، فإن أردت ضَرَبوا كلّ رجل فِي الدار رفعت ونصبت. وإن أردت: وكلّ من ضربوه هُوَ فِي الدار رفعت.
وقوله: (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) وهو ما ينتفع بِهِ من أوبارها. وكتبت بغير هَمز لأن الهمزة إذا سكن ما قبلها حذفت من الكتاب، وَذَلِكَ لِخفاء الْهَمْزَة إذا سُكت عليها، فلمّا سكن ما قبلها ولم يقدِروا عَلَى همزها فِي السكت كَانَ سكوتهم كأنه عَلَى الفاء. وكذلك قوله: (يُخْرِجُ الْخَبْءَ) و (النَّشْأَةَ) «١» و (مِلْءُ الْأَرْضِ) واعمل فِي الْهَمْز بِمَا وجدت فِي هذين الحرفين.
وإن كتبت الدِّفء فِي الكلام بواو فِي الرفع وياء فِي الخفض وألف فِي النصب كَانَ صَوَابًا.
وَذَلِكَ عَلَى ترك الْهَمْز ونقل إعراب الْهَمْزَةِ إلى الحرف الَّذِي قبلها. من ذَلِكَ قول العرب. هَؤُلَاءِ نَشء صِدْق، فإذا طرحُوا الْهَمْزَةَ قالوا: هَؤُلَاءِ نَشُو صِدْق ورأيت نَشَا صِدْق ومررتُ بِنَشي صدق. وأجود من ذَلِكَ حذف الواو والألف والياء لأن قولهم: يسل أكثر من يسال، ومسلة أكثر من مسالة وكذلك بين الْمَر وزوجه إذا تركت الْهَمْزَةُ.
والمنافع: حملهم عَلَى ظهورها، وأولادُها وألبانها. والدفء: ما يلبسونَ منها، ويبتنونَ من أوبارها.
وقوله: حِينَ تُرِيحُونَ [٦] أي حين تريحونَ إبلكم: تردّونَها بين الرعي ومباركها يُقالُ لها الْمُرَاح. والسروح بالغداة (قَالَ «٢» الفرّاء) إذا سعت للرعى.
(١) كذا وقد يكون النشأ حتى تكون الهزة بسكت عليها.
(٢) سقط ما بين القوسين فى ا.
96
وقوله: بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [٧] أكثر الْقُرَّاء عَلَى كسر الشِّين ومعناها: إِلَّا بجَهْد الأنفس. وكأنه اسم وكأن الشَّقّ فِعْل كما تُوهِّم أن الْكُرْه الاسم وأن الْكَرْه الفعل. وقد قرأ بِهِ بعضهم «١» (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) وقد يجوز فى قوله: (بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أن تذهب إلى أن الْجَهد ينقص من قوة الرجل ونَفْسه حَتَّى يجعله قد ذَهَب بالنصف من قوّته، فتكون الكسرة عَلَى أَنَّهُ كالنصف والعرب تَقُولُ: خذ هَذَا الشِّقّ لشقّة الشاة ويُقال: المالُ بيني وبينك شَقّ الشعرة وشِقّ الشَّعَرة وهما متقاربان، فإذا قالوا شققت عليْكَ شَقًّا نصبوا ولم نسمع غيره.
وقوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ [٨] تنصبها بالردّ عَلَى خَلَق. وإن شئت جعلته منصوبًا عَلَى إضْمَار سَخّر: فيكون فِي جَواز إضماره مثل قوله: (خَتَمَ «٢» اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) من «٣» نصب فِي البقرة نصب الغشاوة بإضمار (وجعل) ولو رفعت (الخيلَ والبغالَ والحميرَ) كَانَ صوابًا من وجهين. أحدهما أن تَقُولَ: لَمّا لَمْ يكن الفعل معها ظاهرًا رفعته عَلَى الاستئناف. والآخر أن يُتوهّم أن الرفع فِي الأنعام قد كَانَ يصلح فتردّها عَلَى ذَلِكَ كأنك قلت:
والأنعامَ خلقها، والخيلُ والبغالُ عَلَى الرفع.
وقوله عزّ وجلّ: (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً)، ننصبها: ونجعلها زينة عَلَى فعل مضمر، مثل وَحِفْظاً «٤» مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ) أي جعلناها. ولو لَمْ يكن فِي الزينة ولا فى (وَحِفْظاً) واو لنصبتها بالفعل الَّذِي قبلها لا بالإضمار. ومثله أعطيتك درهمًا ورغبة فِي الأجر، المعنى أعطيتكه رغبةً.
فلو ألقيت الواو لَمْ تَحتج إلى ضَمير لأنه متصل بالفعل الَّذِي قبله.
وقوله: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [٩] يقال: هداية الطرق. ويقال السبيل، الإسلام
(١) هو أبو جعفر كما فى الإتحاف وقد وافقه اليزيدي راوى أبى عمرو، وخالف فى هذا أبا عمرو.
(٢) الآية ٧ سورة البقرة.
(٣) هو المفضل كما فى البحر المحيط ١/ ٤٩.
(٤) الآية ٩ سورة الصافات.
97
(وَمِنْها جائِرٌ)، يقال: الجائر اليهوديّة والنصرانية. يدلّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ «١» القول قوله (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).
وقوله: تُسِيمُونَ [١٠] ترعون إبلكم.
وقوله: مَواخِرَ فِيهِ [١٤] واحدها «٢» ماخِرة وهو صوت جَرْي الْفُلْك بالرياح، وقد مَخَرت تَمْخَر وتمخُرُ.
وقوله: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [١٦] يُقال: الْجَدْي والفَرْقَدان.
وقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [١٧] جعل (مَنْ) لغير الناس لَمَّا مَيَّزه فجعله مع الخالِق وصَلح، كما قَالَ: (فَمِنْهُمْ «٣» مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) والعرب تَقُولُ: اشتبه عَليّ الراكب وحمله فما أدرى من ذا من «٤» ذا، حيث جمعهما واحدهما إنسان صلحت (مَن) فيهما جَميعًا.
وقوله: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [٢١] رفعته بالاستئناف. وإن شئت رددته إلى أَنَّهُ خبر للذين فكأنه قَالَ: والذين تَدْعونَ من دون الله أَمْوات. الأموات فِي غير هَذَا الموضع أنَّها لا رُوح فيها يعني الأصنام. ولو كانت نصبًا عَلَى قولك يُخلقونَ أمواتًا عَلَى القطع «٥» وَعَلَى وقوع الفعل أي ويخلقونَ «٦» أمواتًا ليسوا بأحياء.
وقوله: (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) يقول: هي أموات فكيف تشعر متى تُبعث، يعنى
(١) هذا بدل من قوله: «هذا».
(٢) الأولى: «واحدتها».
(٣) الآية ٤٥ سورة النور.
(٤) فى تفسير الطبري: «ومن ذا».
(٥) كانه يريد الحال. [.....]
(٦) كأن الأصل: لا يخلقون أمواتا، وهذا بالبناء للفاعل وما قبله بالبناء للمفعول.
الأصنام. ويقال للكفار: وما يشعرون أيّان. وقرأ أَبُو عبد الرحمن السُّلَميّ (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) بكسر ألف (إِيَّان) وهي لغة لسُلَيم وقد سمعت بعض العرب يقول: متى إيوان «١» ذاك والكلام أوان ذَلِكَ.
وقوله: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [٣٠] جَنَّاتُ عَدْنٍ [٣١].
ترفع الجنات لأنه اسم لنعم كما تَقُولُ: نعم الدار دارٌ تنزلها. وإن شئت جَعلت (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) مكتفيًا بِما قبله، ثُمَّ تستأنف الجنات فيكون رفعها على الاستئناف. وإن شئت رفعتها بما عاد من ذكرها فى (يَدْخُلُونَها).
وقوله: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [٣٨] قَرأها أصحابُ «٢» عبد الله (يَهِّدي) يريدون: يهتدي مَن يُضلّ. والعربُ تَقُولُ للرجل: قد هَدَّى الرجلُ يريدون: اهتدى.
ومثله (أَمَّنْ لا يَهِدِّي «٣» إِلَّا أَنْ يُهْدى)، حَدَّثَنَا «٤» مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَن بن عيَّاش أخو أبي بكر بن عَيّاش وقيس بن الربيع وغيرهما عَن الأعمش عَن الشعبي عَن عَلقمة أَنَّهُ قرأ (لا يهدى من يضل) كذلك.
وقرأها أهلُ الحجاز (لا يُهْدَى من يُضلُّ) وهو وجهٌ جيّد لأنّها فِي قراءة أُبَيّ (لا هَادي لِمَن أضلّ الله) ومَنْ فِي الوجهين جَميعًا فِي موضع رفع ومن قَالَ (يُهْدَى) كانت رَفعًا إذ لَمْ يسم فاعلها ومن «٥» قَالَ (لا يَهْدِي) يريد: يَهتدي يكون الفعل لمن.
(١) كذا فى الأصول. وفى اللسان (أون) نقلا عن الكسائي، وفيه (أين) نقلا عن الفراء: «أوان» وكأن ما هنا إن صح نشأ من إشباع كسرة الهمزة.
(٢) هى قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف كما فى الإتحاف.
(٣) الآية ٣٥ سورة يونس وهو يريد قراءة حمزة والكسائي وخلف بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال
(٤) سقط ما بين القوسين فى ا.
(٥) كذا والأولى حذف الواو.
وقوله: بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا [٣٨] بَلى ليبعثنَّهم وعدًا عَلَيْهِ حقًّا. ولو كَانَ رفعًا عَلَى قوله:
بَلى ذَلِكَ وعد عَلَيْهِ حقٌّ كَانَ صوابًا.
وقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٤٠] القول مرفوع بقوله:
(أَنْ نَقُولَ) كما تَقُولُ: إِنَّما قولنا الحق. وأَمَّا قوله (فَيَكُونُ) فهي منصوبة «١» بالردّ عَلَى نقول.
ومثلها التي فِي يس منصوبة، وقد رَفعها أكثرُ القراء. وَكَانَ الْكِسَائي يردّ الرفع فِي النحل ٩٤ ب.
وَفِي يس «٢» وهو جائز عَلَى أن تجعل (أَنْ تَقُولَ لَهُ) كلامًا تامًا ثُمَّ تُخبر بأنه سيكون، كما تَقُولُ للرجل: إِنَّما يكفيه أن آمره ثُمَّ تَقُولُ: فيفعلُ بعد ذَلِكَ ما يُؤمر.
وقوله: (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [٤١] ذُكِرَ أنَّها نزلت فِي عَمَّار وصُهَيْب وبِلال ونظرائِهم الَّذِينَ عُذِّبُوا بمكّة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) : نزول المدينة، ولنحَلِّلَنَّ لَهُم الغنيمة. و (الذين) موضعها رفع.
وقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا [٤٣] ثم قال: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ [٤٤] بعد إلا وَصِلَةُ ما قبل إلا لا تتأخر بعد إِلّا. وَذَلِكَ جائز عَلَى كلامين. فمن ذَلِكَ أن تَقُولُ: ما ضربَ زَيْدًا إِلّا أخوك، وما مر بزيد إِلّا أخوك. (فإن قلت ما ضرب [سقط فى ا] إلا أخوك زيدًا أو ما مرّ إلا أخوك بزيد) فإنه عَلَى كلامين تريدُ مَا مَرّ إِلَّا أخوك ثُمَّ تَقُولُ: مَرّ بزيد. ومثله قولُ الأعشى:
وليس مُجيرًا إن أتى الحيَّ خائِفُ ولا قائلًا إِلَّا هُوَ المتَعَيَّبَا «٣»
(١) النصب قراءة ابن عامر والكسائي.
(٢) فى الآية ٨٢.
(٣) من قصيدة له يهجو فيها عمرو بن المنذر ويعاتب بنى سعد بن قيس. ويذكر هذا فى وصف الغريب عن قومه وما يلاقيه من هوان وعجز، فهو لا يستطيع أن يجير خائفا، وإذا قيل فى المجلس قول معيب نسب إليه. والمتعيب من تعيبه عابه ونقصه، وهو وصف للقول. وانظر ديوانه نشر الدكتور كامل حسين ص ١١٣.
فلو كَانَ عَلَى كلمة واحدة كَانَ خطأ لأن المتعيّب من صلة القائِل فأخّره ونوى كلامين فجازَ ذَلِكَ.
وقال الآخر:
نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبُوا بالنار جارتهُمْ وهل يعذِّب إِلَّا اللهُ بالنّارِ «١»
ورأيتُ الْكِسَائي يجعل (إِلّا) مع الجحد والاستفهام بِمنزلة غير فينصب ما أشبه هَذَا عَلَى كلمة واحدة، واحتجّ بقول الشاعر «٢» :
فلم يَدْرِ إِلَّا اللهُ ما هيَّجت لَنَا أَهِلَّةُ أناءِ الديار وشامُهَا
ولا حجَّة لَهُ فِي ذَلِكَ لأنّ (ما) فِي موضع أي «٣» فلها فعل مضمر عَلَى كلامين. ولكنه حَسُن قوله، يقول الله عَزَّ وَجَلَّ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) «٤» فقال: لا أجد المعنى إِلَّا لو كَانَ فيهما آلهة غير الله لفسدتا، واحتجّ بقول الشاعر «٥» :
أبنِي لُبَيْنَى لستُم بِيَدٍ إِلا يدٍ ليست لَهَا عَضد
فقال لو كَانَ المعنى إِلَّا كَانَ الكلام فاسدًا فِي هَذَا لأنِّي لا أقدر فِي هَذَا البيت عَلَى إعادة خافض بضمير وقد ذهب هاهنا مذهبًا.
وقوله: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [٤٧] جاء التفسير بأنه التنقص. والعربُ تَقُولُ: تَحوَّفته بالحاء:
تنقّصته من حَافَاته. فهذا الَّذِي سَمعت. وقد أتى التفسير بالخاء و (هو «٦» معنى). ومثله ممّا قرىء
(١) «جارتهم» كذا فى ا، ش. والمعروف فى الرواية: «جارهم».
(٢) هو ذو الرمة. والأنآء جمع نؤى، وهو ما يحفر حولى البيت يمنع المطر، والأهلة جمع هلال، وهو هنا ما استقوس واعوج من الأنآء، والشام جمع شامة وهى العلامة. وانظر الديوان ٦٣٦.
(٣) يريد أن (ما) استفهامية كأى الاستفهامية وليست موصولة فهى ليست معمولة للفعل السابق لأن الاستفهام له الصدر.
(٤) الآية ٢٢ سورة الأنبياء.
(٥) هو أوس بن حجر. وانظر الكتاب ١/ ٣٦٢، وشرح المفصل ٢/ ٩٠، واللسان فى (عبد). [.....]
(٦) فى الطبري «هما بمعنى».
101
بوجهين قوله (إِنَّ «١» لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا) و (سبخا) «٢» بالحاء والخاء. والسَّبخ:
السعة. وسمعت العرب تَقُولُ: سَبِّخي صُوفك وهو شبيه بالندف، والسَّبح نحو من ذَلِكَ، وكلّ صَواب بِحمد الله.
وقوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ [٤٨] الظِّلّ يرجع عَلَى كل شيء من جوانبه، فذلك تفيّؤه. ثُمَّ فَسَّر فقال: (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) فوحّد اليمين وجَمَع الشمائل. وكل ذَلِكَ جائز فِي العربية.
قَالَ الشاعر «٣» :
بِفِي الشامتين الصخر إن كَانَ هدّني... رَزِيّة شِبْلَيْ مُخْدر فِي الضراغم
ولم يقل: بأفواهِ الشامتين. وقال الآخر «٤» :
الواردون وثيم فى ذراسبأ... قد عضَّ أعناقَهم جلدُ الجواميس
وقال الآخر/ ٩٥:
فباست بنى عبس وأستاه طيّئ... وباست بني دُودان حَاشَا بني نَصْرِ
فجمع وَوَحَّد. وقال الآخر:
كلوا فِي نصف بطنِكم تعيشوا... فإنَّ زمانكم زَمَنٌ خميصُ «٥»
فجاء التوحيد لأن أكثر الكلام يُواجه بِهِ الواحد، فيقال: خذ عَن يمينك وعن شِمالك لأن المكلم واحد والمتكلّم كذلك، فكأنه إذا وَحّد ذهب إلى واحد من القوم، وإذا جَمَع فهو الَّذِي لا مسألة فِيهِ. وكذلك قوله:
(١) الآية ٧ سورة المزمل.
(٢) هذه قراءة ابن يعمر وعكرمة وابن أبى عبلة كما فى البحر المحيط ٨/ ٣٦٣. وهى قراءة شاذة.
(٣) هو الفرزدق يرثى ابنين له. والمخدر: الأسد، والضراغم جمع ضرغم وهو الأسد أيضا. وانظر الديوان ٧٦٤.
(٤) هو جرير فى هجاء عمر بن لجأ التيمي. والرواية فى الديوان طبعة بيروت ٢٥٢: «تدعوك ثيم وثيم... أراد بعض جلد الجواميس أنهم أسرى وفى أعناقهم أطواق من جلد الجواميس.
(٥) ورد فى أمالى ابن الشجري ١/ ٣١١ و ٢/ ٣٨ و ٣٤٣. وفيه: «تعفوا»
فى مكان «تعيشوا».
102
بنى عقيل ماذه الخنافِقُ المالُ هَدْيٌ والنساءُ طالِقُ
وجبل يأوي إِلَيْهِ السارق «١»
فقال: طالق لأن أكثر ما يجري الاستحلاف بين الخصم والخصم، فجرى فِي الجمع عَلَى كثرة الْمُجرى فِي الأصل. ومثله (بِفِي الشامتين) وأشباهه.
وقوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ [٤٩] فقال: (مِنْ دابَّةٍ) لأن (ما) وإن كانت قد تكون عَلَى مذهب (الَّذِي) فإنها غير مؤقّتة، وإذا أبهمت غير موقّتة أشبهت الجزاء، والجزاء تدخل (من) فيما جاء من اسم بعده من النكرة. فيُقال: من ضربه من رجُل فاضربوه. ولا تسقط من فى هَذَا الموضع. وهو كَثِير فِي كتاب الله عزّ وجلّ. قال الله تبارك وتعالى (مَا أَصابَكَ «٢» مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) وقال (وَمَنْ «٣» يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وقال «٤» (أَوَلَمْ «٥» يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) ولم يقل فِي شيء منه بطرح (مِنْ) كراهية أن تَشبه أن تكون حالًا لِمَن وَمَا، فجعلوهُ بِمَن ليدلّ عَلَى أَنَّهُ تفسير لِمَا ومن لأنهما غير مؤقّتتين، فكان دخول (من) فيما بعدهما تفسيرا لمعناهما، وَكَانَ دخول (مِن) أدلَّ عَلَى ما لَمْ يوقّت مِن مَنْ وما، فلذلك لَمْ تُلْقَيَا «٦». ومثله قول الشاعر:
حاز لك الله ما آتاكَ من حسن وحيثما يقض أمرًا صالِحًا تكُنِ
وقال آخر.
عُمرا حَييت ومَن يشناكَ من أحد يَلْق الهوان ويلق الذلّ والغِيرا «٧»
(١) الخنافق جمع خنفقيق وهى الداهية. وانظر الخصائص ٢/ ٦٢.
(٢) الآية ٧٩ سورة النساء.
(٣) الآية ١٢٤ سورة النساء.
(٤) فى ا، ش، ب: «قوله» والمناسب ما أثبت وهو متصل بما قبله.
(٥) الآية ٤٨ سورة النحل.
(٦) فى الطبري: «تلغيا».
(٧) غير الدهر أحداثه وفى ب: «العبرا» ويظهر أنه تحريف.
103
فدلّ مجيء أحدها هنا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يرد أن يكون ما جاء من النكرات حالًا للأسماء التي قبلها، ودلّ عَلَى أَنَّهُ مترجم «١» عَن «٢» معنى من وما. ومما يدل أيضًا قول الله عَزَّ وَجَلَّ (وَما أَنْفَقْتُمْ «٣» مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) لأن الشيء لا يكون حالًا، ولكنه اسم مترجم.
وإنَّما ذكرت هَذَا لأن العرب تَقُولُ: لله دَرُّه من رجل، ثُمَّ يُلقون (من) فيقولون لله دره رجلًا.
فالرجل مترجم (لِمَا «٤» قبله) وليس بِحال، إنَّما الحال التي تنتقل مثل القيام والقعود، ولم تُرد لله دَرّه فِي حال رجوليته فقط، ولو أردت ذَلِكَ لَمْ تمدحه كل المدح لأنك إذا قلت: لله درّك قائِمًا، فإنَّما تمدحه فِي القيام وحده.
فإن قلت: فكيف جاز سقوط من فِي هَذَا الموضع؟ قلت من قبل أن الَّذِي قبله مؤقت فلم أُبَلْ أن يخرج بطرح من كالحال، وَكَانَ فِي الجزاء غير موقت فكرهُوا أن تفسَّر حال عَن اسم غير موقّت فألزموها من. فإن قلت: ٩٥ ب قد قالت العرب: ما أتاني من أحد وما أتاني أحد فاستجازوا إلقاء من. قلت: جاز ذَلِكَ إذ لَمْ يكن قَبل أحد وما أتى مثله شىء يكون الأحد لَهُ حالًا فلذلك قالوا:
ما جاءني من رجل وما جاءني رجل.
وقوله: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً [٥٢] معناهُ: دائمًا. يُقال: وَصَبَ يَصِب: دام. ويُقال: خالِصًا.
وقوله: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [٥٣] (ما) فِي معنى جزاء وَلَهَا فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن الله لأن الجزاء لا بد لَهُ من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم وإن لَمْ يظهر فهو مضمر كما قَالَ الشاعر:
(١) ضبط فى ابفتح الجيم والظاهر كسرها. [.....]
(٢) ا: «على».
(٣) الآية ٣٩ سورة سبأ.
(٤) سقط فى ا.
إنِ الْعَقْلُ فِي أموالنا لا نضق بِهِ ذراعًا وإن صبرًا فَنعرفُ للصبر «١»
أراد: إن يكن فأضمرها. ولو جعلت (ما بِكُمْ) فِي معنى (الَّذِي) جاز وجعلت صلته (بِكم) و (ما) حينئذ فِي موضع رفع بقوله (فَمِنَ اللَّهِ) وأدخل الفاء كما قَالَ تبارك وتعالى (قُلْ إِنَّ «٢» الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) وكل اسم وصل، مثل من وما والذي فقد يَجوز «٣» دخول الفاء فِي خبره لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يُجاب بالفاء. ولا يَجوز أخوك فهو قائم لأنه اسم غير موصول وكذلك مالك لي. فإن قلت: مالك جاز أن تَقُولَ: فهو لي. وإن ألقيت الفاء فصواب.
وما ورد عليك فقسه عَلَى هَذَا. وكذلك النكرة الموصولة. تَقُولُ: رجل يقول الحق فهو أحب إليّ من قائل الباطل. وإلقاء الفاء أجود فِي كله من دخولها.
والجُؤار «٤» : الصوت الشديد. والثور يُقال لَهُ: قد جأرَ يَجْأَرُ جُؤارًا إذا ارتفعَ صوته من جوع أو غيره بالجيم. وكذلك (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ)
وقوله: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ [٥٧] نصب «٥» لأنها مصدر، وفيها معنى من التعوّذ والتنزيه لله عَزَّ وَجَلَّ. فكأنّها بِمنزلة قوله (مَعاذَ «٦» اللَّهِ) وبمنزلة (غُفْرانَكَ «٧» رَبَّنا).
وقوله: (لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (ما) فِي موضع رفع ولو كانت نصبًا عَلَى: ويَجعلونَ لأنفسهم ما يشتهونَ لكان ذَلِكَ صوابًا. وإنمَّا اخترت الرفع لأن مثل ذا من الكلام يجعل مكان لهم لأنفسهم
(١) ورد البيت فى أمالى ابن الشجري ٢/ ٢٣٦، وقال: «أراد» إن يكن العقل أي إن تكن الدية، وقوله:
(وإن صبرا) أي وإن نصبر صبرا بمعنى نحبس حبسا» وقوله: «نحبس» بالبناء للمفعول، وكانه يريد الحبس للقصاص، وقوله: فنعرف للصبر أي نخضع له ونقر.
(٢) الآية ٨ سورة الجمعة.
(٣) ش: «يجاز».
(٤) أي فى قوله تعالى فى الآية (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ).
(٥) الحديث عن (سبحانه).
(٦) فى الآيتين ٢٣، ٧٩ سورة يوسف.
(٧) فى الآية ٢٨٥ سورة البقرة.
105
ألا ترى أنك تَقُولُ: قد جعلت لنفسك كذا وكذا، ولا تَقُولُ: قد جعلت لك. وكل فعل أو خافض ذكرته من مكني عائد عَلَيْهِ مكنيًّا فاجعل مخفوضه الثاني بالنفس فنقول أنت لنفسك لا لغيرك، ثُمَّ تَقُولُ فِي المنصوب أنت قتلت نفسك وَفِي المرفوع أهلكتْكَ نفسك ولا تَقُولُ أهْلَكتك.
وإنَّما أراد بإدخال النفس تفرقة ما بين نفس المتكلم وغيره. فإذا كَانَ الفعل واقعًا من مكنيّ عَلَى مكنيّ سواه لَمْ تُدخل النفس. تَقُولُ غلامك أهلك مالك ثُمَّ تكني عَن الغلام والمال فتقول: هُوَ أهلكه، ولا تَقُولُ: هُوَ أهلك نفسه وأنت تريدُ المال، وقد تقوله العرب فِي ظننت وأخواتها من رأيت وعلمت وحسبت فيقولون: أظنُّني قائِمًا، ووجدتُني صالِحًا لنقصانِهما وحاجتهما إلى خبر سوى الاسم. وربما اضطر الشاعر فقال: عدمتُني وفقدتُني فهو جائز، وإن كَانَ قليلًا قَالَ الشاعر- وهو جِرَان الْعَوْد-:
لقد كَانَ بي عَن ضَرَّتين عدِمتُني وعمَا ألاقي منهما متَزحَزَح
هي الْغُول والسعلاة حَلْقي منهما مُخَدَّشُ ما فوق التراقي مكدَّح
وقوله: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [٥٨] ولو كَانَ (ظل وجهه مسودٌّ) لكان صوابًا تجعل الظّلول للرجل ويكون «١» الوجه ومسود فِي موضع نصب كما قَالَ (وَيَوْمَ «٢» الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) والظلول إذا قلت [٩٦ ا] (مُسْوَدًّا) للوجه.
وقوله: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ [٥٩] الْهُون فِي لغة قريش: الهوان وبعض بني تَميم يجعل الهون مصدرًا للشيء الهين. قَالَ الْكِسَائي: سمعتُ العرب تَقُولُ: إن كنت لقليل هون المئونة مذ اليوم. وقال: سمعت
(١) فى ش، ر «قد يكون».
(٢) الآية ٦٠ سورة الزمر.
106
الهوان فِي مثل هَذَا المعنى من بني «١» إنسان قَالَ قَالَ «٢» لبعير لَهُ ما بِهِ بأس غير هوانه، يقول:
إنه هين خفيف الثمن. فإذا قالت العرب: أقبل فلان يَمْشِي على هَوْنه لَمْ يقولوه إلا بفتح الْهَاء، كقوله (يَمْشُونَ «٣» عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) وهي السكينة والوقار. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي شُرَيك عَن جابر عَن عِكْرمة ومجاهد في قوله (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) قالا: بالسكينة والوقار، وقوله:
(أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ) يقول: لا يدرى أيّهما يفعل: أيمسكه أم يدسه فِي التراب، يقول:
بدفنها أم يصبر عليها وعلى مكروهها وهى الموؤدة، وهو مثل ضربه الله تبارك وتعالى:
ثم فسر المثل في قوله: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ [٦٠] ولو كَانَ (مَثَلُ السَّوْءِ) نصبًا لجازَ، فيكون فِي المعنى عَلَى قولك: ضَرَب للذين لا يؤمنون مثل السوء، كما كَانَ فِي قراءة أُبَيّ (وضربَ «٤» مَثَلًا كَلِمَةً خَبِيثَةً) وقراءة العوام هاهنا وَفِي إِبْرَاهِيم بالرفع لَمْ نسمع أحدًا نَصَب.
وقوله: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى [٦٢] أنّ فِي موضع نصب لأنه عبارة عَن الكذب. ولو قيل «٥» :(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) تجعل الكذب من صفة الألسنة واحدها كذُوبٌ وكُذُب، مثل رسولُ ورُسُل. ومثله قوله (وَلا تَقُولُوا «٦» لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ)، وبعضهم يخفض (الكذب) يجعله مخفوضًا باللام التي فِي قوله (لِمَا) لأنه عبارة عَن (ما) والنصب فِيهِ وجه الكلام، وبه قرأت العوام. ومعناهُ: ولا تقولوا لوصفها الكذب.
وقوله (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) يقول: مَنسيّون فِي النار. والعربُ تَقُولُ: أفرطت منهم ناسا أي
(١) كذا و (إنسان) على هذا أبو قبيلة ولم أقف عليه. وقد يكون «فى» أي فم.
(٢) كذا بتكرر (قال) وكأن (قال) الأولى فاعلها الفراء و (قال) الثانية فاعلها العربي. [.....]
(٣) الآية ٦٣ سورة الفرقان.
(٤) الآية فى قراءة الناس غير أبى: «ومثل كلمة خبيثة» فى الآية ٢٦.
(٥) جواب لو محذوف أي لجاز. وهى قراءة معاذ بن جبل وبعض أهل الشام كما فى البحر ٥/ ٥٠٦
(٦) الآية ١١٦ سورة النحل. وجاءت قراءة الكذب جمع الكذوب عن معاذ وابن أبى عبلة وبعض أهل الشام كما فى البحر ٥/ ٥٤٥
خلفتهم ونسيتهم. وتقرأ «١» (وأَنَّهُمْ مُفْرِطُونَ) بكسر الرَّاء، كانوا مُفرطين فِي سوء العمل لأنفسهم فِي الذنوب. وتقرأ «٢» (مفرِّطُونَ) كقوله (يَا حَسْرَتى «٣» عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) يقول:
فيما تركت وضيّعت.
وقوله: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [٦٦] العرب تَقُولُ لكل ما كَانَ من بطون الأنعام ومن السماء أو نَهر يَجري لقوم: أسْقَيت. فإذا سَقَاكَ الرَّجُلُ ماء لِشَفَتِكَ قالوا: سَقَاه. ولم يقولوا: أسْقَاهُ كما قَالَ الله عزّ وجل (وَسَقاهُمْ «٤» رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) وقال (وَالَّذِي «٥» هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) وربما قالوا لِمَا فِي بطون الأنعام ولماء السماء سَقى وأسقى، كما قَالَ لبيد:
سَقَى قومي بني مَجْد وأسقى نُميرا والقبائل من هلال «٦»
رعوه مربعا وتصيّفوه بلا وبإ سُمَيّ ولا وَبَالِ
وقد اختلف الْقُراء فقرأ بعضهم «٧» (نُسْقِيكُمْ) وبعضهم (نُسْقِيكم).
وَأمَّا قوله (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ولم يقل بطونها فإنه قيل- والله أعلم- إنَّ النَّعَمَ والأنعام شيء واحد، وهما جَمعان، فرجع التذكير إلى معنى النَّعم إذ كَانَ يؤدي عَن الأنعام أنشدني بعضهم:
إذا رَأَيْت أنجمًا من الأسد جَبْهته أو الخرَاة والكَتَدْ
بال سُهَيْل فِي الفضيح. ففسد وطاب أَلْبَانُ اللقاح وبرد «٨»
(١) هى قراءة نافع.
(٢) هى قراءة أبى جعفر.
(٣) الآية ٥٦ سورة الزمر.
(٤) الآية ٢١ سورة الإنسان.
(٥) الآية ٧٩ سورة الشعراء.
(٦) مجد: أم كلب وكلاب ابني ربيعة بن عامر بن صعصعة. وانظر الخصائص ١/ ٣٧٠.
(٧) هى قراءة نافع وابن عامر وأبى بكر عن عاصم ويعقوب. وقراءة الباقين بضم النون.
(٨) انظر ص ١٢٩ من الجزء الأول.
108
فرجع إلى اللبن لأن اللبن والألبان يكون فِي معنى واحد. وقال الْكِسَائي (نُسْقِيكُمْ مِمَّا بطونه) : بطون ما ذكرناهُ، وهو صواب، أنشدني بعضهم:
مثل الفراخ نَتَقَتْ حَواصلهْ»
وقال الآخر:
كذاك ابنة الأعيار خافى بسالة الرجال وأصلال الرجال أقاصِرُهْ «٢» ولم يقل أقاصرهم. أصلال «٣» الرجال: الأقوياء منهم.
وقوله (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) يقول: لا يَشرَق باللبن ولا يُغَصّ بِهِ.
وقوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً [٦٧] هي الخمر قبل أن تُحَرَّم. والرزق الْحَسَن الزبيب والتمر وما أشبههما.
وقوله: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [٦٨] ألهمَها ولم يأتها رسول.
وقوله: (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) وهي سقوف البيوت.
وقوله: (ذُلُلًا) [٦٩] نعت للسبل. يُقال: سبيل ذَلُول وذُلُل للجمع ويقال: إن الذلل نعت للنحل أي ذللت لأن يخرج الشراب من بطونها.
وقوله (شِفاءٌ لِلنَّاسِ) يعني العسل دواء ويقال (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) يرادُ بالهاء القرآن، فِيهِ بيان الحلال والحرام:
(١) انظر ص ١٣٠ من الجزء الأول.
(٢) الأعيار جمع العير ومن معانيه السيد والملك، وكأن هذا هو المراد هنا. وقوله: «كذاك» فى اللسان (قصر) :
«إليك» وأقاصره جمع الأقصر. يقول لها: لا تعيبينى بالقصر فإن أصلال الرجال ودهاتهم أقاصرهم. وانظر ص ١٢٩ من الجزء الأول. [.....]
(٣) هو جمع صل، وهو فى الأصل الحية.
109
وقوله: لِكَيْلا يَعْلَمَ [٧٠].
يقول: لكيلا يعقل من بعد عقله الأول (شَيْئاً) وقوله: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [٧١] فهذا مثل ضرب الله للذين قالوا: إن عيسى ابنه تعالى الله عَمَّا يقول الظالِمونَ عُلُوًّا كبيرًا، فقال: أنتم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونون «١» سواء فِيهِ، فكيف جعلتم عبده شريكًا لَهُ تبارك وتعالى.
وقوله: وَحَفَدَةً [٧٢] : والحفدة الأختان «٢»، وقالوا الأعوان. ولو قيل: الْحَفَد: كَانَ صوابًا لأن واحدهم حافد فيكون بِمنزلة الغائب والغَيْب والقاعد والقَعَد.
وقوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً [٧٣] نصبت (شَيْئاً) بوقوع الرزق عَلَيْهِ، كما قَالَ تبارك وتعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ «٣» الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) أي تكفت «٤» الأحياء والأموات. ومثله (أَوْ إِطْعامٌ «٥» فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) ولو كَانَ الرزق مع الشيء لَجازَ خفضه: لا يملك لَهم رزق شيء من السموات.
ومثله قراءة من قرأ (فجزاءُ «٦» مِثلِ ما قتلَ من النَّعَمِ).
وقوله: (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) وقال فِي أول الكلام (يَمْلِكُ) وَذَلِكَ أنَّ (ما) فى مذهب جمع لآلهتم التي يَعبدون، فوُحِّد (يَمْلِكُ) عَلَى لفظ (ما) وتوحيدها، وجُمع فِي (يَسْتَطِيعُونَ) عَلَى المعنى.
ومثله قوله (وَمِنْهُمْ «٧» مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وَفِي موضع آخر (وَمِنْهُمْ «٨» مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)
(١) فى الطبري: «فتكونوا» بالنصب فى جواب النفي، وقد جاء الرفع هنا على الاستئناف.
(٢) فى الطبري عن بعضهم: «هم الأختان أختان الرجل على بنانه» وفيه عن بعضهم: «هم الأصهار» فالأختان على هذا: أزواج البنات. وفى القاموس أن الختن الصهر أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ.
(٣) الآيتان ٢٥، ٢٦ سورة المراسلات.
(٤) أي تضم وتجمع.
(٥) الآيتان ١٤، ١٥ سورة البلد.
(٦) الآية ٩٥ سورة المائدة، وهو يريد القراءة بإضافة (جزاء) إلى (مثل) وهى قراءة غير عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف كما فى الإتحاف.
(٧) الآية ٢٥ سورة الأنعام، والآية ١٦ سورة محمد.
(٨) الآية ٤٢ سورة يونس.
110
ومثله (وَمَنْ «١» يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) و (يَعْمَلْ صالِحاً) فمن ذكره رَدّ آخره عَلَى أوّله «٢»، ومن أنَّثَ ذهب إلى أن (مَن) فِي موضع تأنيث، فذهبَ إلى تأنيثها. وأنشدنا بعضُ العرب:
هَيَا أُمَّ عَمْرو مَنْ يكن عُقْرَ دارِهِ جواءُ عدِيّ يأكلِ الحشرات «٣»
ويسودَّ من لفح السّموم جبينُهُ ويَعْرَ وإن كانوا ذوي نَكرات «٤»
فرجع فِي (كانوا) إلى معنى الجمع وَفِي قراءة عبد الله- فيما أعلم- (ومنكم «٥» من يكون شيوخًا) ولم يقل (شَيْخًا) وقد قَالَ الفرزدق:
تَعَشَّ فإن واثقتني لا تَخونُني نكن مثل مَن يا ذئبُ يصطحبان
وأنت امرؤ يا ذئب والغدرُ كنتما أُخَيَّيْنِ كانا أُرضِعَا بِلِبانِ «٦»
فثنى (يصطحبان) وهو فعل لمن لأنه نواه ونفسه.
وقوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً [٧٥] ضرب مثلًا للصنم الَّذِي يعبدون أَنَّهُ لا يقدر عَلَى شيء، (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي يحمله، فقال: هَلْ يستوي هَذَا الصنم (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) فقال: لا تُسوُّوا بين الصنم وبين الله تبارك وتعالى.
وقوله: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ [٨٠] يعنى الفساطيط «٧» للسفر، وبيوت العرب التي
(١) الآية ٣١ سورة الأحزاب. وقراءة الياء لحمزة والكسائي وخلف، وقراءة التاء لغيرهم
(٢) هو التذكير فى (يقنت).
(٣) عقر الدار أصلها، ويفسر بمحلة القوم. وقوله: «جواء عدى» ففى ش: «حوى» والجواء الواسع من الأودية، وهو أيضا موضع بالصمان فى نجد كما فى معجم البلدان، والحوى من معانيه الحوض الصغير.
(٤) «نكرات» جمع نكرة- بالتحريك- وهو اسم من الإنكار، يراد به استنكار ما لا يوافقهم وذلك من سمات القدرة والحفيظة.
(٥) كأن ذلك بدل قوله تعالى: «ومنكم من يرد إلى أرذل العمر» في الآيتين ٧٠ سورة النحل، ٥ سورة الحج. [.....]
(٦) كان الفرزدق طرقه فى سفره ذئب فألقى إليه كتف شاة مشوية وذكر ذلك فى هذه القصيدة، واللبان الرضاع.
وانظر الديوان ٨٧٠، وأمالى ابن الشجري ٢/ ٣١١
(٧) جمع الفسطاط وهو بيت من الشعر.
من الصوف والشعر. والظعن يثقل فِي القراءة ويخفف «١» لأن ثانيه عين، والعربُ تفعل ذَلِكَ بِما كَانَ ثانيه أحد الستة «٢» الأحرف مثل الشعر والبحر والنهر. أنشدني بعضُ العرب:
لَهُ نَعْل لا تَطَّبي الكلبَ ريحُها وَإِن وُضِعْتَ بين المجالس شمّت «٣»
وقوله (أَثاثاً وَمَتاعاً) المتاع إلى حين يقول يكتفون بأصوافها إلى أن يَموتوا. ويُقال إلى الحين بعد الْحين.
وقوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [٨١].
ولم يقل: البرد، وهي تقي الحر والبرد، فترك لأن معناهُ معلومٌ- والله أعلم- كقول الشاعر:
وما أدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ وجهًا أريدُ الخيرَ أيُّهما يليني
يريد أي الخير والشر يليني لأنه إذا أراد الخير فهو يتقي الشرّ وقوله (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) وبلغنا عَن ابن عباس أَنَّهُ قرأ (لعلكم تَسْلمون) من الجراحات.
وقوله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ [٨٣] يعني الكفارَ إذا قيل لَهُم، من رزقكم؟ قالوا: الله، ثُمَّ يقولون:
بشفاعة آلهتنا فيُشركونَ فذلك إنكارهم (نِعْمَتَ «٤» اللَّهِ).
[قوله] : فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ [٨٦] آلهتهم ردّت عليهم قولهم (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي لَمْ ندعكم إلى عبادتنا.
وقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ [٩٢] : من بعد إبرام. كانت تغزل
(١) التخفيف أي إسكان العين لابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف. والتثقيل أي فتح العين للباقين.
(٢) يريد أحرف الحلق. وهى الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء.
(٣) من قصيدة لكثير فى رثاء عبد العزيز بن مروان. و «تطبى» : تدعو وتستميل يريد أن نعله من جلد مدبوغ فلا يقبل عليها الكلب. يصفه برقة نعله وطيب ريحها. وانظر الخصائص ٢/ ٩
(٤) ا: «نعمته»
الغزل من الصوف فتُبْرمه ثُمَّ تأمر جارية لَهَا بنقضه. ويُقال: إنها رَيطة (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) يقول: دَغَلا وخديعة.
قوله (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) يقول: هي أكثر، ومعناهُ لا تغدروا بقوم لقلّتهم وكثرتكم أو قلّتكم وكثرتهم، وقد غررتموهم بالأيمان فسكنوا إليها ٩٧ ب. وموضع (أدنى) نصب. وإن شئت رفعت كما تَقُولُ: ما أظن رجلًا يكون هُوَ أفضل منك وأفضل منك، النصب عَلَى الْعِمَاد «١»، والرفع عَلَى أن تجعل (هُوَ) اسمًا. ومثله قول الله عَزَّ وَجَلَّ (تَجِدُوهُ «٢» عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) نَصْب، ولو كَانَ رفعًا كَانَ صَوَابًا.
وقوله: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [١٠١] إذا نسخنا آية فيها تشديد مكان «٣» آية ألين منها قَالَ المشركون: إنما يتقوله من نفسه ويتعلّمه من عائش مملوك كَانَ لِحُوَيطب بن عبد العزى كَانَ قد أسلم فحسن إسلامه وَكَانَ أعجم، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ [١٠٣] يَميلونَ إِلَيْهِ ويهوونه (أَعْجَمِيٌّ) فقال الله: وَهَذَا لِسَانُ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن عربيّ.
وقوله «٤» : فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [٨٦] فكسرت «٥» لأنّها من صلة القول.
ومن فَتَحها لو لَمْ تكن فيها لام فِي قوله لكاذبون جعلها تفسيرا للقول: ألقو إليهم إنكم كاذبون فيكون نصبًا لو لَمْ يكن فيها لام كما تَقُولُ: ألقيت إليك أنك كاذب. ولا يَجوز إلا الكسر عند دخول اللام، فتقول: ألقيت إليك إنك لكاذب.
وقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا [١١٠] يقول: عذّبوا. نزلت فى عمّار
(١) هو ضمير الفصل عند البصريين
(٢) الآية ٢٠ سورة المزمل
(٣) كذا. وكأن الأصل: «بمكان» أي بوجود آية ألين منها، فسقطت الباء فى «بمكان» من الناسخ.
(٤) سبق كلام على هذه الآية
(٥) أي (إنكم)
بن ياسر وأصحابه الَّذِينَ عُذبوا، حَتَّى أشرك بعضهم بلسانه وهو مؤمنٌ بقلبه فغفر الله لَهُم، فذلك قوله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) بعد الفعلة «١».
وقوله: قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [١١٢] يعني مكة أنها كانت لا يُغارُ عليها كما تفعل العرب:
كانوا يتغاورون (مُطْمَئِنَّةً) : لا تنتقل كما تنتجع العرب الخصب بالنُّقْلة.
وقوله (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) : من كلّ ناحية (فَكَفَرَتْ) ثم قال (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) ومثله فِي القرآن كَثِير. منه قوله (فَجاءَها «٢» بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) ولم يقل: قائلة. فإذا قَالَ (قائِلُونَ) ذهب إلى الرجال، وإذا قَالَ (قائلة) فإنّما يعني أهلها، وقوله (فَحاسَبْناها «٣» حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً فَذاقَتْ).
وقوله (لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) ابتُلوا بالجوع سبع سنين حَتَّى أكلوا العظامَ المحرقة والجِيفَ.
والخوفَ بُعُوث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسراياه. ثُمَّ إن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهم فحمل إليهم الطعام وهم مشركون. قال الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُم، كُلُوا (وَاشْكُرُوا «٤» ).
وقوله: لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ [١١٩] كل من عمل سوءًا فهو جاهل إذا عمله.
وقوله: أُمَّةً قانِتاً [١٢٠] : مُعلمًا للخير.
وقوله: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [١٢٤] أتى موسى أصحابه فقال: تفرّغوا لله يوم الجمعة فلا تعلموا فيه شيئا، فقالوا: لا، بَلْ يوم السبت، فرغ الله فِيهِ من خَلْق السموات والأرض، فشُدد عليهم فِيهِ. وأتى عيسى النصارى بالجمعة أيضًا فقالوا: لا يكون عيدهم بعد عيدنا فصاروا إلى الأحد. فذلك اختلافهم وتقرأ «٥» (إنما جَعَل ٩٨ السبتَ نصبًا، أي جعل الله تبارك وتعالى.
(١) يريد تفسير الضمير فى «بعدها»
(٢) الآية ٤ سورة الأعراف.
(٣) الآيتان ٨، ٩ سورة الطلاق. [.....]
(٤) ورد ذلك في الآية ١١٤
(٥) هى قراءة الحسن والمطوعى.
Icon